بحث هذه المدونة الإلكترونية

Translate كيك520000.

السبت، 11 يونيو 2022

صلاة الجماعة - شيخ الإسلام ابن تيمية + مقتطفات من كتاب العبودية / شيخ الإسلام ابن تيمية

 

 باب صلاة الجماعة

سئل رحمه الله:

عن صلاة الجماعة هل هي فرض عين أم فرض كفاية، أم سنة فإن كانت فرض عين وصلى وحده من غير عذر. فهل تصح صلاته أم لا؟ وما أقوال العلماء في ذلك؟ وما حجة كل منهم؟ وما الراجح من أقوالهم؟

فأجاب: الحمد لله رب العالمين. اتفق العلماء على أنها من أوكد العبادات وأجل الطاعات وأعظم شعائر الإسلام وعلى ما ثبت في فضلها عن النبي r حيث قال: «تفضل صلاة الرجل في الجماعة على صلاته وحده بخمس وعشرين درجة» هكذا في حديث أبي هريرة. وأبي سعيد «بخمس وعشرين» ومن حديث ابن عمر «بسبع وعشرين» والثلاثة في الصحيح.

وقد جمع بينهما. بأن حديث الخمس والعشرين ذكر فيه الفضل الذي بين صلاة المنفرد والصلاة في الجماعة والفضل خمس وعشرون وحديث السبعة والعشرين ذكر فيه صلاته منفردا وصلاته في الجماعة والفضل بينهما فصار المجموع سبعا وعشرين ومن ظن من المتنسكة أن صلاته وحده أفضل إما في خلوته وإما في غير خلوته فهو مخطئ ضال وأضل منه من لم ير الجماعة إلا خلف الإمام المعصوم فعطل المساجد عن الجمع والجماعات التي أمر الله بها ورسوله وعمر المساجد بالبدع والضلالات التي نهى الله عنها ورسوله وصار مشابها لمن نهى عن عبادة الرحمن وأمر بعبادة الأوثان. فإن الله سبحانه شرع الصلاة وغيرها في المساجد. كما قال تعالى: ]وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا[ [البقرة: 114]، وقال تعالى: ]وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ[ [البقرة: 187] وقال تعالى: ]قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ[ [العراف: 29]، وقال تعالى: ]مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ[
[التوبة: 17]، إلى قوله:
]إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ[ وقال تعالى: ]فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ[ [النور: 36] الآية. وقال تعالى: ]وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا[ [الجن: 18]، وقال تعالى: ]وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا[ [الحج: 44]. وأما مشاهد القبور ونحوها: فقد اتفق أئمة المسلمين على أنه ليس من دين الإسلام أن تخص بصلاة أو دعاء أو غير ذلك ومن ظن أن الصلاة والدعاء والذكر فيها أفضل منه في المساجد فقد كفر. بل قد تواترت السنن في النهي عن اتخاذها لذلك. كما ثبت في الصحيحين أنه قال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» يحذر ما فعلوا: قالت عائشة: «ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدا» وفي الصحيحين أيضا أنه ذكر له كنيسة بأرض الحبشة وما فيها من الحسن والتصاوير فقال: «أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك التصاوير أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة» وثبت عنه في صحيح مسلم من حديث جندب أنه قال: قبل أن يموت بخمس: «أن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك». وفي المسند عنه أنه قال: «إن من شرار الخلق من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد» وفي موطأ مالك عنه أنه قال: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» وفي السنن عنه أنه قال «لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني». والمقصود هنا: أن أئمة المسلمين متفقون على أن إقامة الصلوات الخمس في المساجد هي من أعظم العبادات وأجل القربات ومن فضل تركها عليها إيثارا للخلوة والانفراد على الصلوات الخمس في الجماعات أو جعل الدعاء والصلاة في المشاهد أفضل من ذلك في المساجد فقد انخلع من ربقة الدين واتبع غير سبيل المؤمنين. ]وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا[ [النساء: 115].

ولكن تنازع العلماء بعد ذلك في كونها واجبة على الأعيان أو على الكفاية أو سنة مؤكدة على ثلاثة أقوال: فقيل: هي سنة مؤكدة فقط وهذا هو المعروف عن أصحاب أبي حنيفة وأكثر أصحاب مالك وكثير من أصحاب الشافعي ويذكر رواية عن أحمد. وقيل: هي واجبة على الكفاية وهذا هو المرجح في مذهب الشافعي وقول بعض أصحاب مالك وقول في مذهب أحمد. وقيل هي واجبة على الأعيان؛ وهذا هو المنصوص عن أحمد وغيره من أئمة السلف وفقهاء الحديث وغيرهم. وهؤلاء تنازعوا فيما إذا صلى منفردا لغير عذر هل تصح صلاته؟ على قولين:

الأول: لا تصح وهو قول طائفة من قدماء أصحاب أحمد ذكره القاضي أبو يعلى في شرح المذهب عنهم وبعض متأخريهم كابن عقيل وهو قول طائفة من السلف واختاره ابن حزم وغيره.

والثاني: تصح مع إثمه بالترك وهذا هو المأثور عن أحمد وقول أكثر أصحابه. والذين نفوا الوجوب احتجوا بتفضيل النبي r صلاة الجماعة على صلاة الرجل وحده. قالوا: ولو كانت واجبة لم تصح صلاة المنفرد ولم يكن هناك تفضيل وحملوا ما جاء من هم النبي r بالتحريق على من ترك الجمعة أو على المنافقين الذين كانوا يتخلفون عن الجماعة مع النفاق وإن تحريقهم كان لأجل النفاق لا لأجل ترك الجماعة مع الصلاة في البيوت. وأما الموجبون: فاحتجوا بالكتاب والسنة والآثار.

أما الكتاب: فقوله تعالى: ]وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ[ [النساء: 102] الآية. وفيها دليلان:

أحدهما: أنه أمرهم بصلاة الجماعة معه في صلاة الخوف ذلك دليل على وجوبها حال الخوف وهو يدل بطريق الأولى على وجوبها حال الأمن.

الثاني: أنه سن صلاة الخوف جماعة وسوغ فيها ما لا يجوز لغير عذر. كاستدبار القبلة والعمل الكثير فإنه لا يجوز لغير عذر بالاتفاق وكذلك مفارقة الإمام قبل السلام عند الجمهور وكذلك التخلف عن متابعة الإمام كما يتأخر الصف المؤخر بعد ركوعه مع الإمام إذا كان العدو أمامهم. قالوا: وهذه الأمور تبطل الصلاة لو فعلت لغير عذر فلو لم تكن الجماعة واجبة بل مستحبة لكان قد التزم فعل محظور مبطل للصلاة وتركت المتابعة الواجبة في الصلاة لأجل فعل مستحب مع أنه قد كان من الممكن أن يصلوا وحدانا صلاة تامة فعلم أنها واجبة. وأيضا فقوله تعالى: ]وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ[ [البقرة: 43] إما أن يراد به المقارنة بالفعل وهي الصلاة جماعة. وإما أن يراد به ما يراد بقوله: ]وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ[ فإن أريد الثاني لم يكن فرق بين قوله: صلوا مع المصلين وصوموا مع الصائمين ]وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ[ والسياق يدل على اختصاص الركوع بذلك. فإن قيل: فالصلاة كلها تفعل مع الجماعة. قيل: خص الركوع بالذكر لأنه تدرك به الصلاة فمن أدرك الركوع فقد أدرك الركعة، فأمر بما يدرك به الركعة كما قال لمريم: ]اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ[ فإنه لو قيل: اقنتي مع القانتين لدل على وجوب إدراك القيام ولو قيل: اسجدي لم يدل على وجوب إدراك الركوع بخلاف قوله: ]وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ[ فإنه يدل على الأمر بإدراك الركوع وما بعده دون ما قبله وهو المطلوب.

وأما السنة: فالأحاديث المستفيضة في الباب: مثل حديث أبي هريرة المتفق عليه عنه r أنه قال: «لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلا فيصلي بالناس ثم أنطلق إلى قوم لا يشهدون الصلاة: فأحرق عليهم بيوتهم بالنار» فهم بتحريق من لم يشهد الصلاة وفي لفظ قال: «أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء والفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام» الحديث. وفي المسند وغيره «لولا ما في البيوت من النساء والذرية لأمرت أن تقام الصلاة» الحديث. فبين r أنه هم بتحريق البيوت على من لم يشهد الصلاة وبين أنه إنما منعه من ذلك من فيها من النساء والذرية فإنهم لا يجب عليهم شهود الصلاة وفي تحريق البيوت قتل من لا يجوز قتله وكان ذلك بمنزلة إقامة الحد على الحبلى. وقد قال سبحانه وتعالى: ]وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا[ [الفتح: 25]. ومن حمل ذلك على ترك شهود الجمعة فسياق الحديث يبين ضعف قوله حيث ذكر صلاة العشاء والفجر ثم أتبع ذلك بهمه بتحريق من لم يشهد الصلاة. وأما من حمل العقوبة على النفاق لا على ترك الصلاة فقوله ضعيف لأوجه:

أحدها: أن النبي r ما كان يقيل المنافقين إلا على الأمور الباطنة وإنما يعاقبهم على ما يظهر منهم من ترك واجب أو فعل محرم فلولا أن في ذلك ترك واجب لما حرقهم.

الثاني: أنه رتب العقوبة على ترك شهود الصلاة فيجب ربط الحكم بالسبب الذي ذكره.

الثالث: أنه سيأتي إن شاء الله حديث ابن أم مكتوم حيث استأذنه أن يصلي في بيته فلم يأذن له وابن أم مكتوم رجل مؤمن من خيار المؤمنين أثنى عليه القرآن وكان النبي r يستخلفه على المدينة وكان يؤذن للنبي r.

الرابع: أن ذلك حجة على وجوبها أيضا: كما قد ثبت في صحيح مسلم وغيره عن عبد الله بن مسعود أنه قال: «من سره أن يلقى الله غدا مسلما فليصل هذه الصلوات الخمس حيث ينادى بهن؛ فإن الله شرع لنبيه سنن الهدى وأن هذه الصلوات الخمس في المساجد التي ينادى بهن من سنن الهدى وأنكم لو صليتم في بيوتكم كما صلى هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف». فقد أخبر عبد الله بن مسعود أنه لم يكن يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق وهذا دليل على استقرار وجوبها عند المؤمنين ولم يعلموا ذلك إلا من جهة النبي r إذ لو كانت عندهم مستحبة كقيام الليل والتطوعات التي مع الفرائض وصلاة الضحى ونحو ذلك. كان منهم من يفعلها ومنهم من لا يفعلها مع إيمانه كما «قال له الأعرابي: والله لا أزيد على ذلك ولا أنقص منه. فقال: أفلح إن صدق» ومعلوم أن كل أمر كان لا يتخلف عنه إلا منافق كان واجبا على الأعيان كخروجهم إلى غزوة تبوك فإن النبي r أمر به المسلمين جميعا لم يأذن لأحد في التخلف إلا من ذكر أن له عذرا فأذن له لأجل عذره. ثم لما رجع كشف الله أسرار المنافقين وهتك أستارهم وبين أنهم تخلفوا لغير عذر. والذين تخلفوا لغير عذر مع الإيمان عوقبوا بالهجر حتى هجران نسائهم لهم حتى تاب الله عليهم.

فإن قيل: فأنتم اليوم تحكمون بنفاق من تخلف عنها وتجوزون تحريق البيوت عليه إذا لم يكن فيها ذرية. قيل له: من الأفعال ما يكون واجبا ولكن تأويل المتأول يسقط الحد عنه وقد صار اليوم كثير ممن هو مؤمن لا يراها واجبة عليه فيتركها متأولا وفي زمن النبي r لم يكن لأحد تأويل لأن النبي r قد باشرهم بالإيجاب. وأيضا كما ثبت في الصحيح والسنن: «أن أعمى استأذن النبي r أن يصلي في بيته فأذن له فلما ولى دعاه فقال: هل تسمع النداء؟ قال: نعم قال: فأجب» فأمره بالإجابة إذا سمع النداء؛ ولهذا أوجب أحمد الجماعة على من سمع النداء. وفي لفظ في السنن «أن ابن أم مكتوم قال يا رسول الله: إني رجل شاسع الدار وإن المدينة كثيرة الهوام ولي قائد لا يلائمني فهل تجد لي رخصة أن أصلي في بيتي؟ فقال: هل تسمع النداء؟ قال: نعم قال: لا أجد لك رخصة». وهذا نص في الإيجاب للجماعة مع كون الرجل مؤمنا. وأما احتجاجهم بتفضيل صلاة الرجل في الجماعة على صلاته وحده فعنه جوابان مبنيان على صحة صلاة المنفرد لغير عذر فمن صحح صلاته قال: الجماعة واجبة وليست شرطا في الصحة كالوقت فإنه لو أخر العصر إلى وقت الاصفرار كان آثما مع كون الصلاة صحيحة بل وكذلك لو أخرها إلى أن يبقى مقدار ركعة كما ثبت في الصحيح. «من أدرك ركعة من العصر فقد أدرك العصر» قال: والتفضيل لا يدل على أن المفضول جائز،  فقد قال تعالى: ]قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ[. ومن قال: لا تصح صلاة المنفرد إلا لعذر احتج بأدلة الوجوب قال: وما ثبت وجوبه في الصلاة كان شرطا في الصحة كسائر الواجبات. وأما الوقت فإنه لا يمكن تلافيه فإذا فات لم يمكن فعل الصلاة فيه فنظير ذلك فوت الجمعة وفوت الجماعة التي لا يمكن استدراكها فإذا فوت الجمعة الواجبة كان آثما وعليه الظهر إذ لا يمكن سوى ذلك. وكذلك من فوت الجماعة الواجبة التي يجب عليه شهودها وليس هناك جماعة أخرى فإنه يصلي منفردا وتصح صلاته هنا لعدم إمكان صلاته جماعة كما تصح الظهر ممن تفوته الجمعة. وليس وجوب الجماعة بأعظم من وجوب الجمعة وإنما الكلام فيمن صلى في بيته منفردا لغير عذر ثم أقيمت الجماعة فهذا عندهم عليه أن يشهد الجماعة كمن صلى الظهر قبل الجمعة عليه أن يشهد الجمعة. واستدلوا على ذلك بحديث أبي هريرة الذي في السنن عن النبي r «من سمع النداء. ثم لم يجب من غير عذر فلا صلاة له». ويؤيد ذلك قوله: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد.» فإن هذا معروف من كلام علي وعائشة وأبي هريرة وابن عمر وقد رواه الدارقطني مرفوعا إلى النبي r وقوى ذلك بعض الحفاظ. قالوا: ولا يعرف في كلام الله ورسوله حرف النفي دخل على فعل شرعي إلا لترك واجب فيه كقوله: «لا صلاة إلا بأم القرآن» و «لا إيمان لمن لا أمانة له». ونحو ذلك.

وأجاب هؤلاء عن حديث التفضيل، بأن قالوا: هو محمول على المعذور كالمريض ونحوه فإن هذا بمنزلة قوله r «صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم وصلاة النائم على النصف من صلاة القاعد» وأن تفضيله صلاة الرجل في جماعة على صلاته وحده. كتفضيله صلاة القائم على صلاة القاعد ومعلوم أن القيام واجب في صلاة الفرض دون النفل كما أن الجماعة واجبة في صلاة الفرض دون النفل. وتمام الكلام في ذلك: أن العلماء تنازعوا في هذا الحديث وهو: هل المراد بهما المعذور أو غيره؟ على قولين: فقالت طائفة المراد بهما غير المعذور. قالوا لأن المعذور أجره تام بدليل ما ثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري عن النبي r أنه قال: «إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمله وهو صحيح مقيم» قالوا: فإذا كان المريض والمسافر يكتب لهما ما كانا يعملان في الصحة والإقامة. فكيف تكون صلاة المعذور قاعدا أو منفردا دون صلاته في الجماعة قاعدا؟! وحمل هؤلاء تفضيل صلاة القائم على النفل دون الفرض؛ لأن القيام في الفرض واجب. ومن قال هذا القول لزمه أن يجوز تطوع الصحيح مضطجعا؛ لأنه قد ثبت أنه قال: «ومن صلى قاعدا فله نصف أجر القائم». وقد طرد هذا الدليل طائفة من متأخري أصحاب الشافعي وأحمد وجوزوا أن يتطوع الرجل مضطجعا لغير عذر؛ لأجل هذا الحديث ولتعذر حمله على المريض كما تقدم. ولكن أكثر العلماء أنكروا ذلك وعدوه بدعة وحدثا في الإسلام. وقالوا: لا يعرف أن أحدا قط صلى في الإسلام على جنبه وهو صحيح ولو كان هذا مشروعا لفعله المسلمون على عهد نبيهم r أو بعده ولفعله النبي r ولو مرة لتبيين الجواز فقد كان يتطوع قاعدا ويصلي على راحلته قبل أي وجه توجهت ويوتر عليها غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة فلو كان هذا سائغا لفعله ولو مرة. أو لفعله أصحابه. وهؤلاء الذين أنكروا هذا مع ظهور حجتهم قد تناقض من لم يوجب الجماعة منهم حيث حملوا قوله: «تفضل صلاة الجماعة على صلاة الرجل وحده بخمس وعشرين درجة» على أنه أراد غير المعذور فيقال لهم: لم كان التفضيل هنا في حق غير المعذور والتفضيل هناك في حق المعذور وهل هذا إلا تناقض؟!. وأما من أوجب الجماعة وحمل التفضيل على المعذور فطرد دليله وحينئذ فلا يكون في الحديث حجة على صحة صلاة المنفرد لغير عذر. وأما ما احتج به منازعهم من قوله: «إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمله وهو صحيح مقيم» فجوابهم عنه أن هذا الحديث دليل على أنه يكتب مثل الثواب الذي كان يكتب له في حال الصحة والإقامة؛ لأجل نيته له وعجزه عنه بالعذر. وهذه " قاعدة شرعية " أن من كان عازما على الفعل عزما جازما وفعل ما يقدر عليه منه كان بمنزلة الفاعل فهذا الذي كان له عمل في صحته وإقامته عزمه أنه يفعله وقد فعل في المرض والسفر ما أمكنه فكان بمنزلة الفاعل. كما جاء في السنن: فيمن تطهر في بيته ثم ذهب إلى المسجد يدرك الجماعة فوجدها قد فاتت أنه يكتب له أجر صلاة الجماعة وكما ثبت في الصحيح من قوله r «إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم قالوا: وهم بالمدينة قال: وهم بالمدينة حبسهم العذر» وقد قال تعالى: ]لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ[ [النساء: 95] الآية.

 

فهذا ومثله يبين أن المعذور يكتب له مثل ثواب الصحيح إذا كانت نيته أن يفعل وقد عمل ما يقدر عليه وذلك لا يقتضي أن يكون نفس عمله مثل عمل الصحيح فليس في الحديث أن صلاة المريض نفسها في الأجر مثل صلاة الصحيح ولا أن صلاة المنفرد المعذور في نفسها مثل صلاة الرجل في الجماعة وإنما فيه أن يكتب له من العمل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم كما يكتب له أجر صلاة الجماعة إذا فاتته مع قصده لها. وأيضا فليس كل معذور يكتب له مثل عمل الصحيح وإنما يكتب له إذا كان يقصد عمل الصحيح ولكن عجز عنه. فالحديث يدل على أنه من كان عادته الصلاة في جماعة والصلاة قائما ثم ترك ذلك لمرضه فإنه يكتب له ما كان يعمل، وهو صحيح مقيم وكذلك من تطوع على الراحلة في السفر وقد كان يتطوع في الحضر قائما يكتب له ما كان يعمل في الإقامة. فأما من لم تكن عادته الصلاة في جماعة ولا الصلاة قائما إذا مرض فصلى وحده أو صلى قاعدا فهذا لا يكتب له مثل صلاة المقيم الصحيح. ومن حمل الحديث على غير المعذور يلزمه أن يجعل صلاة هذا قاعدا مثل صلاة القائم وصلاته منفردا مثل الصلاة في جماعة وهذا قول باطل لم يدل عليه نص ولا قياس ولا قاله أحد. وأيضا فيقال: تفضيل النبي r لصلاة الجماعة على صلاة المنفرد ولصلاة القائم على القاعد والقاعد على المضطجع إنما دل على فضل هذه الصلاة على هذه الصلاة حيث يكون كل من الصلاتين صحيحة. أما كون هذه الصلاة المفضولة تصح حيث تصح تلك أو لا تصح فالحديث لم يدل عليه بنفي ولا إثبات ولا سيق الحديث لأجل بيان صحة الصلاة وفسادها؛ بل وجوب القيام والقعود وسقوط ذلك ووجوب الجماعة وسقوطها: يتلقى من أدلة أخرى. وكذلك أيضا: كون هذا المعذور يكتب له تمام عمله أو لا يكتب له لم يتعرض له هذا الحديث بل يتلقى من أحاديث أخر وقد بينت سائر النصوص أن تكميل الثواب هو لمن كان يعمل العمل الفاضل وهو صحيح مقيم لا لكل أحد. وتثبت نصوص أخر وجوب القيام في الفرض كقوله r لعمران بن حصين: «صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب». وبين جواز التطوع قاعدا لما رآهم وهم يصلون قعودا فأقرهم على ذلك وكان يصلي قاعدا مع كونه كان يتطوع على الراحلة في السفر. كذلك تثبت نصوص أخر وجوب الجماعة فيعطي كل حديث حقه فليس بينها تعارض ولا تناف وإنما يظن التعارض والتنافي من حملها ما لا تدل عليه ولم يعطها حقها بسوء نظره وتأويله. والله أعلم.

وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن مسائل يكثر وقوعها ويحصل الابتلاء بها والضيق والحرج على رأي إمام بعينه: منها «مسألة الجماعة للصلاة» هل هي واجبة؟ أم سنة؟ وإذا قلنا: واجبة هل تصح الصلاة. بدونها مع القدرة عليها؟

فأجاب: وأما الجماعة فقد قيل: إنها سنة وقيل: إنها واجبة على الكفاية وقيل: إنها واجبة على الأعيان. وهذا هو الذي دل عليه الكتاب والسنة فإن الله أمر بها في حال الخوف ففي حال الأمن أولى وآكد. وأيضا فقد قال تعالى: ]وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ[ وهذا أمر بها. وأيضا فقد ثبت في الصحيح «أن ابن أم مكتوم سأل النبي r أن يرخص له أن يصلي في بيته فقال: هل تسمع النداء؟ قال: نعم قال: فأجب» وفي رواية «ما أجد لك رخصة» وابن أم مكتوم كان رجلا صالحا وفيه نزل قوله تعالى: ]عَبَسَ وَتَوَلَّى[ ]أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى[ وكان من المهاجرين ولم يكن من المهاجرين من يتخلف عنها إلا منافق فعلم أنه لا رخصة لمؤمن في تركها. وأيضا فقد ثبت عنه في الصحاح أنه قال: «لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلا يصلي بالناس ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار.» وفي رواية «لولا ما في البيوت من النساء والذرية» فبين أنه إنما يمنعه من تحريق المتخلفين عن الجماعة من في البيوت من النساء والأطفال فإن تعذيب أولئك لا يجوز؛ لأنه لا جماعة عليهم. ومن قال: إن هذا كان في الجمعة أو كان لأجل نفاقهم. فقوله ضعيف فإن المنافقين لم يكن النبي r يقتلهم لأجل النفاق بل لا يعاقبهم إلا بذنب ظاهر فلولا أن التخلف عن الجماعة ذنب يستحق صاحبه العقاب لما عاقبهم. والحديث قد بين فيه التخلف عن صلاة العشاء والفجر. وقد تقدم حديث ابن أم مكتوم وأنه لم يرخص له في التخلف عن الجماعة. وأيضا فإن الجماعة يترك لها أكثر واجبات الصلاة في صلاة الخوف وغيرها فلولا وجوبها لم يؤمر بترك بعض الواجبات لها؛ لأنه لا يؤمر بترك الواجبات لما ليس بواجب.


فصل

وإذا ترك الجماعة من غير عذر: ففيه قولان في مذهب أحمد وغيره: أحدهما: تصح صلاته؛ لقول النبي r «تفضل صلاة الرجل في الجماعة على صلاته وحده بخمس وعشرين درجة» والثاني: لا تصح لما في السنن عن النبي r أنه قال: «من سمع النداء ثم لم يجب من غير عذر فلا صلاة له» ولقوله: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» وقد قواه عبد الحق الإشبيلي. وأيضا فإذا كانت واجبة فمن ترك واجبا في الصلاة لم تصح صلاته. وحديث التفضيل محمول على حال العذر. كما في قوله: «صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم وصلاة القائم على النصف من صلاة القاعد». وهذا عام في الفرض والنفل. والإنسان ليس له أن يصلي الفرض قاعدا أو نائما إلا في حال العذر وليس له أن يتطوع نائما عند جماهير السلف والخلف؛ إلا وجها في مذهب الشافعي وأحمد. ومعلوم أن التطوع بالصلاة مضطجعا بدعة لم يفعلها أحد من السلف وقوله r «إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم» يدل على أنه يكتب له لأجل نيته وإن كان لا يعمل عادته قبل المرض والسفر فهذا يقتضي أن من ترك الجماعة لمرض أو سفر وكان يعتادها كتب له أجر الجماعة وإن لم يكن يعتادها لم يكن يكتب له وإن كان في الحالين أن ما له بنفس الفعل صلاة منفرد. وكذلك المريض إذا صلى قاعدا أو مضطجعا. وعلى هذا القول فإذا صلى الرجل وحده. وأمكنه أن يصلي بعد ذلك في جماعة فعل ذلك وإن لم يمكنه فعل الجماعة استغفر الله كمن فاتته الجمعة وصلى ظهرا وإن قصد الرجل الجماعة ووجدهم قد صلوا كان له أجر من صلى في الجماعة كما وردت به السنة عن النبي r. وإذا أدرك مع الإمام ركعة فقد أدرك الجماعة وإن أدرك أقل من ركعة فله بنيته أجر الجماعة ولكن هل يكون مدركا للجماعة أو يكون بمنزلة من صلى وحده. فيه قولان للعلماء في مذهب الشافعي وأحمد. أحدهما: أنه يكون كمن صلى في جماعة كقول أبي حنيفة. والثاني: يكون كمن صلى منفردا كقول مالك وهذا أصح لما ثبت في الصحيح عن النبي r أنه قال: «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة» ولهذا قال الشافعي وأحمد ومالك وجمهور العلماء: إنه لا يكون مدركا للجمعة إلا بإدراك ركعة من الصلاة ولكن أبو حنيفة ومن وافقه يقولون: إنه يكون مدركا لها إذا أدركهم في التشهد. ومن فوائد النزاع في ذلك: أن المسافر إذا صلى خلف المقيم أتم الصلاة إذا أدرك ركعة فإن أدرك أقل من ركعة فعلى القولين المتقدمين. والصحيح أنه لا يكون مدركا للجمعة ولا للجماعة إلا بإدراك ركعة وما دون ذلك لا يعتد له به وإنما يفعله متابعة للإمام. ولو بعد السلام كالمنفرد باتفاق الأئمة.


وقال شيخ الإسلام قدس الله روحه:

فصل

فأما صلاة الجماعة: فاتبع ما دل عليه الكتاب والسنة وأقوال الصحابة من وجوبها مع عدم العذر وسقوطها بالعذر. وتقديم الأئمة بما قدم به النبي r حيث قال: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة» فيفرق بين العلم بالكتاب أو العلم بالسنة كما دل عليه الحديث. وإنما يكون ترجيح بعض الأئمة على بعض إذ استووا في المعرفة بإقام الصلاة على الوجه المشروع وفعلها على السنة وفي دين الإمام الذي يخرج به المأموم عن نقص الصلاة خلفه. فإذا استويا في كمال الصلاة منهما وخلفهما قدم الأقرأ ثم الأعلم بالسنة وإلا ففضل الصلاة في نفسها مقدم على صفة إمامها وما يحتاج إليه من العلم والدين فيها مقدم على ما يستحب من ذلك. وغيره. قد يقول هي سنة مؤكدة. وقد يقول هي فرض على الكفاية. ولهم في تقديم الأئمة خلاف ويأمرهم بإقامة الصفوف فيها كما أمر به النبي r من سننها الخمس: وهي تقويم الصفوف ورصها وتقاربها وسد الأول فالأول وتوسيط الإمام حتى ينهى عما نهى عنه النبي r من صلاة المنفرد خلف الصف ويأمره بالإعادة كما أمر به النبي r في حديثين ثابتين عنه فإنه أمر المنفرد خلف الصف بالإعادة كما أمر المسيء في صلاته بالإعادة وكما أمر المسيء في وضوئه الذي ترك موضع ظفر من قدمه لم يمسه الماء بالإعادة فهذه. المواضع دلت على اشتراط الطهارة والاصطفاف في الصلاة والإتيان بأركانها. والذين خالفوا حديث المنفرد خلف الصف كأبي حنيفة ومالك والشافعي منهم من لم يبلغه أو لم يثبت عنده والشافعي رآه معارضا بكون الإمام يصلي وحده وبكون مليكة جدة أنس صلت خلفهم وبحديث أبي بكرة لما ركع دون الصف. وأما أحمد فأصله في الأحاديث إذا تعارضت في قضيتين متشابهتين غير متماثلتين فإنه يستعمل كل حديث على وجهه ولا يرد أحدهما بالآخر. فيقول في مثل هذه: المرأة إذا كانت مع النساء. صلت بينهن وأما إذا كانت مع الرجال لم تصل إلا خلفهم وإن كانت وحدها؛ لأنها منهية عن مصافة الرجال فانفرادها عن الرجال أولى بها من مصافتهم كما أنها إذا صلت بالنساء صلت بينهن؛ لأنه أستر لها كما يصلي إمام العراة بينهم وإن كانت سنة الرجل الكاسي إذا أم أن يتقدم بين يدي الصف. ونقول: إن الإمام لا يشبه المأموم فإن سنته التقدم لا المصافة وسنة المؤتمين الاصطفاف. نعم يدل انفراد الإمام والمرأة على جواز انفراد الرجل المأموم لحاجة وهو ما إذا لم يحصل له مكان يصلي فيه إلا منفردا فهذا قياس قول أحمد وغيره ولأن واجبات الصلاة وغيرها تسقط بالأعذار فليس الاصطفاف إلا بعض واجباتها فسقط بالعجز في الجماعة كما يسقط غيره فيها وفي متن الصلاة. ولهذا كان تحصيل الجماعة في صلاة الخوف والمرض ونحوهما مع استدبار القبلة والعمل الكثير ومفارقة الإمام ومع ترك المريض القيام: أولى من أن يصلوا وحدانا ولهذا ذهب بعض أصحاب أحمد إلى أنه يجوز تقديم المؤتم على الإمام عند الحاجة كحال الزحام ونحوه وإن كان لا يجوز لغير حاجة وقد روي في بعض صفات صلاة الخوف. ولهذا سقط عنده. وعند غيره. من أئمة السنة ما يعتبر للجماعة: من عدل الإمام وحل البقعة ونحو ذلك للحاجة فجوزوا بل أوجبوا فعل صلوات الجمعة والعيدين والخوف والمناسك ونحو ذلك خلف الأئمة الفاجرين وفي الأمكنة المغصوبة إذا أفضى ترك ذلك إلى ترك الجمعة والجماعة أو إلى فتنة في الأمة ونحو ذلك. كما جاء في حديث جابر «لا يؤمن فاجر مؤمنا إلا أن يقهره سلطان يخاف سيفه أو سوطه» لأن غاية ذلك أن يكون عدل الإمام واجبا فيسقط بالعذر كما سقط كثير من الواجبات في جماعة الخوف بالعذر. ومن اهتدى لهذا الأصل، وهو أن نفس واجبات الصلاة تسقط بالعذر فكذلك الواجبات في الجماعات ونحوها فقد هدي لما جاءت به السنة من التوسط بين إهمال بعض واجبات الشريعة رأسا كما قد يبتلى به بعضهم وبين الإسراف في ذلك الواجب حتى يفضي إلى ترك غيره من الواجبات التي هي أوكد منه عند العجز عنه وإن كان ذلك الأوكد مقدورا عليه كما قد يبتلى به آخرون. فإن فعل المقدور عليه من ذلك دون المعجوز عنه هو الوسط بين الأمرين. وعلى هذا الأصل تنبني مسائل الهجرة والعزم التي هي أصل " مسألة الإمامة " بحيث لا يفعل ولا تسع القدرة ولهذا كان أحمد في المنصوص عنه وطائفة من أصحابه يقول: يجوز اقتداء المفترض بالمتنفل للحاجة كما في صلاة الخوف. وكما لو كان المفترض غير قارئ كما في حديث عمرو بن سلمة ومعاذ ونحو ذلك. وإن كان لا يجوزه لغير حاجة على إحدى الروايتين عنه فأما إذا جوزه مطلقا فلا كلام وإن كان من أصحابه من لا يجوزه بحال فصارت الأقوال في مذهبه وغير مذهبه ثلاثة. والمنع مطلقا هو المشهور عن أبي حنيفة ومالك كما أن الجواز مطلقا هو قول الشافعي. ويشبه هذا مفارقة المأموم إمامه قبل السلام فعنه ثلاث روايات: أوسطها جواز ذلك للحاجة كما تفعل الطائفة الأولى في صلاة الخوف وكما فعل الذي طول عليه معاذ صلاة العشاء الآخرة لما شق عليه طول الصلاة. والثانية المنع مطلقا كقول أبي حنيفة. والثالثة: الجواز مطلقا كقول الشافعي ولهذا جوز أحمد على المشهور عنه أن تؤم المرأة الرجال لحاجة مثل أن تكون قارئة وهم غير قارئين فتصلي بهم التراويح كما أذن النبي r لأم ورقة أن تؤم أهل دارها وجعل لها مؤذنا وتتأخر خلفهم وإن كانوا مأمومين بها للحاجة وهو حجة لمن يجوز تقدم المأموم لحاجة هذا مع ما روي عنه r من قوله: «لا تؤمن امرأة رجلا» وإن المنع من إمامة المرأة بالرجال قول عامة العلماء. ولهذا الأصل استعمل أحمد ما استفاض عن النبي r من قوله في الإمام: «إذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون» وأنه علل ذلك بأنه يشبه قيام الأعاجم بعضهم لبعض فسقط عن المأمومين القيام لما في القيام من المفسدة التي أشار إليها النبي r من مخالفة الإمام والتشبه بالأعاجم في القيام له. وكذلك عمل أئمة الصحابة بعده لما اعتلوا فصلوا قعودا والناس خلفهم قعود كأسيد بن الحضير ولكن كره هذا لغير الإمام الراتب إذ لا حاجة إلى نقص الصلاة في الائتمام به، ولهذا كرهه أيضا إذا مرض الإمام الراتب مرضا مزمنا؛ لأنه يتعين حينئذ انصرافه عن الإمامة ولم ير هذا منسوخا بكونه في مرضه صلى في أثناء الصلاة قاعدا وهم قيام لعدم المنافاة بين ما أمر به وبين ما فعله ولأن الصحابة فعلوا ما أمر به بعد موته مع شهودهم لفعله. فيفرق بين القعود من أول الصلاة والقعود في أثنائها إذ يجوز الأمران جميعا إذ ليس في الفعل تحريم للمأمور به بحال مع ما في هذه المسائل من الكلام الدقيق الذي ليس هذا موضعه. وإنما الغرض التنبيه على قواعد الشريعة التي تعرفها القلوب الصحيحة التي دل عليها قوله تعالى: ]فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ[ وقوله r «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» وأنه إذا تعذر جمع الواجبين قدم أرجحهما وسقط الآخر بالوجه الشرعي والتنبيه على ضوابط من مآخذ العلماء رضي الله عنهم.

وسئل عن أقوام يسمعون الداعي ولم يجيبوا؟ وفيهم من يصلي في بيته وفيهم من لا تراه يصلي ويراه جماعة من الناس ولا يرونه بالصلاة وحاله لم ترض الله ولا رسوله من جهة الصلاة وغيرها. فهل يجوز لمن يراه في هذه الحالة أن يولي عنه أو يسلم عليه؟ أفتونا مأجورين. وأيضا: هل يجوز لرجل إذا كان إماما في المسجد الذي هو فيه لم يصل فيه إلا نفران أو ثلاثة في بعض الأيام هو يصلي فيه احتسابا؟ وأيضا إن كان يصلي فيه بأجرة لا ما يطلب الصلاة في غيره إلا لأجل فضل الجماعة وهل يجوز ذلك؟ أفتونا يرحمكم الله.

فأجاب: الصلاة في الجماعات التي تقام في المساجد من شعائر الإسلام الظاهرة وسنته الهادية. كما في الصحيح عن ابن مسعود أنه قال: «إن هذه الصلوات الخمس في المسجد الذي تقام فيه الصلاة من سنن الهدى وإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى وإنكم لو صليتم في بيوتكم كما صلى هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق ولقد كان الرجل يؤتى به يهادي بين الرجال حتى يقام في الصف».

وفي الصحيح عن النبي r أنه قال: «لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من الحطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار» وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: «أتى النبي r رجل أعمى فقال: يا رسول الله ليس لي قائد يقودني إلى المسجد فسأله أن يرخص له أن يصلي في بيته فرخص له فلما ولى دعاه فقال: أتسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم قال: أجب» وفي رواية في السنن «قال: أتسمع النداء؟ قال: نعم قال: لا أجد لك رخصة». وفي السنن عن ابن عباس قال: قال رسول الله r: « من سمع النداء فلم يمنعه من اتباعه عذر قالوا: ما العذر؟ قال: خوف أو مرض لم تقبل منه الصلاة التي صلى» رواه أبو داود. وصلاة الجماعة من الأمور المؤكدة في الدين باتفاق المسلمين. وهي فرض على الأعيان عند أكثر السلف وأئمة أهل الحديث: كأحمد وإسحاق وغيرهما وطائفة من أصحاب الشافعي وغيرهم وهي فرض على الكفاية عند طوائف من أصحاب الشافعي وغيرهم وهو المرجح عند أصحاب الشافعي. والمصر على ترك الصلاة في الجماعة رجل سوء ينكر عليه ويزجر على ذلك بل يعاقب عليه وترد شهادته وإن قيل. إنها سنة مؤكدة. وأما من كان معروفا بالفسق مضيعا للصلاة فهذا داخل في قوله: ]فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا[ وتجب عقوبته على ذلك بما يدعوه إلى ترك المحرمات وفعل الواجبات. ومن كان إماما راتبا في مسجد فصلاته فيه إذا لم تقم الجماعة إلا به أفضل من صلاته في غيره وإن كان أكثر جماعة. ومن عرف منه التظاهر بترك الواجبات أو فعل المحرمات فإنه يستحق أن يهجر ولا يسلم عليه تعزيرا له على ذلك حتى يتوب. والله سبحانه أعلم.

وسئل عن رجل يقتدى به في ترك صلاة الجماعة؟

فأجاب: من اعتقد أن الصلاة في بيته أفضل من صلاة الجماعة في مساجد المسلمين فهو ضال مبتدع باتفاق المسلمين؛ فإن صلاة الجماعة؛ إما فرض على الأعيان وإما فرض على الكفاية. والأدلة من الكتاب والسنة أنها واجبة على الأعيان ومن قال: إنها سنة مؤكدة ولم يوجبها فإنه يذم من داوم على تركها حتى إن من داوم على ترك السنن التي هي دون الجماعة سقطت عدالته عندهم ولم تقبل شهادته فكيف بمن يداوم على ترك الجماعة؟ فإنه يؤمر بها باتفاق المسلمين ويلام على تركها فلا يمكن من حكم ولا شهادة ولا فتيا مع إصراره على ترك السنن الراتبة التي هي دون الجماعة فكيف بالجماعة التي هي أعظم شعائر الإسلام؟ والله أعلم.

 

 

وسئل عن رجل جار للمسجد ولم يحضر مع الجماعة الصلاة يحتج بدكانه.

فأجاب: الحمد لله. يؤمر بالصلاة مع المسلمين فإن كان لا يصلي فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل. وإذا ظهر منه الإهمال للصلاة لم يقبل قوله: إذا فرغت صليت بل من ظهر كذبه لم يقبل قوله ويلزم بما أمر الله به ورسوله.

وسئل عن رجلين تنازعا في «صلاة الفذ» فقال أحدهما: قال r: «صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بخمس وعشرين» وقال الآخر: «متى كانت الجماعة في غير مسجد فهي كصلاة الفذ»؟.

فأجاب: ليست الجماعة كصلاة الفذ؛ بل الجماعة أفضل ولو كانت في غير المسجد؛ لكن تنازع العلماء فيمن صلى جماعة في بيته هل يسقط عنه حضور الجماعة في المسجد؟ أم لا بد من حضور الجماعة في المسجد؟ والذي ينبغي له أن لا يترك حضور الجماعة في المسجد إلا لعذر كما دلت على ذلك السنن والآثار والله أعلم.

وسئل رحمه الله تعالى عن رجل أدرك آخر جماعة وبعد هذه الجماعة جماعة أخرى فهل يستحب له متابعة هؤلاء في آخر الصلاة؟ أو ينتظر الجماعة الأخرى؟

فأجاب: أما إذا أدرك أقل من ركعة فهذا مبني على أنه هل يكون مدركا للجماعة بأقل من ركعة أم لا بد من إدراك ركعة؟ فمذهب أبي حنيفة: أنه يكون مدركا وطرد قياسه في ذلك حتى قال في الجمعة: يكون مدركا لها بإدراك القعدة فيتمها جمعة. ومذهب مالك: أنه لا يكون مدركا إلا بإدراك ركعة وطرد المسألة في ذلك حتى فيمن أدرك من آخر الوقت، فإن المواضع التي تذكر فيها هذه المسألة أنواع: أحدها: الجمعة. والثاني: فضل الجماعة. والثالث: إدراك المسافر من صلاة المقيم. والرابع: إدراك بعض الصلاة قبل خروج الوقت كإدراك بعض الفجر قبل طلوع الشمس. والخامس: إدراك آخر الوقت كالحائض تطهر والمجنون يفيق والكافر يسلم في آخر الوقت. والسادس: إدراك ذلك من أول الوقت عند من يقول إن الوجوب بذلك فإن في هذا الأصل السادس نزاعا. وأما مذهب الشافعي وأحمد فقالا في الجمعة بقول مالك لاتفاق الصحابة على ذلك فإنهم قالوا فيمن أدرك من الجمعة ركعة يصلي إليها أخرى ومن أدركهم في التشهد صلى أربعا. وأما سائر المسائل ففيها نزاع في مذهب الشافعي وأحمد وهما قولان للشافعي وروايتان عن أحمد وكثير من أصحابهما يرجح قول أبي حنيفة. والأظهر هو مذهب مالك كما ذكره الخرقي في بعض الصور وذلك أنه قد ثبت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي r أنه قال: «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة» فهذا نص عام في جميع صور إدراك ركعة من الصلاة سواء كان إدراك جماعة أو إدراك الوقت. وفي الصحيحين عنه r أنه قال: «من أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الفجر ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر». وهذا نص في ركعة في الوقت. وقد عارض هذا بعضهم بأن في بعض الطرق: «من أدرك سجدة» وظنوا أن هذا يتناول ما إذا أدرك السجدة الأولى وهذا باطل فإن المراد بالسجدة الركعة كما في حديث ابن عمر: «حفظت عن رسول الله r سجدتين قبل الظهر وسجدتين بعدها وسجدتين بعد المغرب» إلى آخره. وفي اللفظ المشهور «ركعتين» وكما روي: «أنه كان يصلي بعد الوتر سجدتين» وهما ركعتان كما جاء ذلك مفسرا في الحديث الصحيح. ومن سجد بعد الوتر سجدتين مجردتين عملا بهذا فهو غالط باتفاق الأئمة. وأيضا فإن الحكم عندهم ليس متعلقا بإدراك سجدة من السجدتين فعلم أنهم لم يقولوا بالحديث. فعلى هذا إذا كان المدرك أقل من ركعة وكان بعدها جماعة أخرى فصلى معهم في جماعة صلاة تامة فهذا أفضل فإن هذا يكون مصليا في جماعة؛ بخلاف الأول وإن كان المدرك ركعة أو كان أقل من ركعة وقلنا إنه يكون به مدركا للجماعة فهنا قد تعارض إدراكه لهذه الجماعة وإدراكه للثانية من أولها فإن إدراك الجماعة من أولها أفضل. كما جاء في إدراكها بحدها فإن كانت الجماعتان سواء فالثانية أفضل وإن تميزت الأولى بكمال الفضيلة أو كثرة الجمع أو فضل الإمام أو كونها الراتبة فهي في هذه الجهة أفضل وتلك من جهة إدراكها بحدها أفضل وقد يترجح هذا تارة وهذا تارة. وأما إن قدر أن الثانية أكمل أفعالا وإماما أو جماعة فهنا قد ترجحت من وجه آخر. ومثل هذه المسألة لم تكن تعرف في السلف إلا إذا كان مدركا لمسجد آخر فإنه لم يكن يصلي في المسجد الواحد إمامان راتبان وكانت الجماعة تتوفر مع الإمام الراتب ولا ريب أن صلاته مع الإمام الراتب في المسجد جماعة ولو ركعة خير من صلاته في بيته ولو كان جماعة والله أعلم.


وسئل عن رجل صلى فرضه ثم أتى مسجد جماعة فوجدهم يصلون فهل له أن يصلي مع الجماعة من الفائت؟

فأجاب: إذا صلى الرجل الفريضة ثم أتى مسجدا تقام فيه تلك الصلاة فليصلها معهم سواء كان عليه فائتة أو لم يكن كما أمر النبي r بذلك حيث قال لرجلين لم يصليا مع الناس: فقال: «ما لكما لم تصليا؟ ألستما مسلمين؟ فقالا: يا رسول الله صلينا في رحالنا فقال: إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة». ومن عليه فائتة فعليه أن يبادر إلى قضائها على الفور سواء فاتته عمدا أو سهوا عند جمهور العلماء. كمالك وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم. وكذلك الراجح في مذهب الشافعي أنها إذا فاتته عمدا كان قضاؤها واجبا على الفور. وإذا صلى مع الجماعة نوى بالثانية معادة وكانت الأولى فرضا والثانية نفلا على الصحيح كما دل عليه هذا الحديث وغيره. وقيل: الفرض أكملهما وقيل: ذلك إلى الله تعالى والله أعلم.

وسئل رحمه الله عن حديث يزيد بن الأسود قال: «شهدت حجة رسول الله r وصليت معه صلاة الصبح في مسجد الخيف فلما قضى الصلاة وانحرف فإذا هو برجلين في أخريات القوم لم يصليا فقال: علي بهما فإذا بهما ترعد فرائصهما فقال: ما منعكما أن تصليا معنا؟ فقالا: يا رسول الله إنا كنا صلينا في رحالنا قال: فلا تفعلا إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة». والثاني: عن سلمان بن سالم قال: «رأيت عبد الله بن عمر جالسا على البلاط والناس يصلون فقلت: يا عبد الله ما لك لا تصلي؟ فقال: إني قد صليت وإني سمعت رسول الله r يقول: لا تعاد صلاة مرتين» فما الجمع بين هذا وهذا؟؟.

فأجاب: الحمد لله، أما حديث ابن عمر فهو في الإعادة مطلقا من غير سبب. ولا ريب أن هذا منهي عنه وأنه يكره للرجل أن يقصد إعادة الصلاة من غير سبب يقتضي الإعادة إذ لو كان مشروعا للصلاة الشرعية عدد معين كان يمكن الإنسان أن يصلي الظهر مرات والعصر مرات ونحو ذلك ومثل هذا لا ريب في كراهته. وأما حديث ابن الأسود: فهو إعادة مقيدة بسبب اقتضى الإعادة وهو قوله: «إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة» فسبب الإعادة هنا حضور الجماعة الراتبة ويستحب لمن صلى ثم حضر جماعة راتبة أن يصلي معهم. لكن من العلماء من يستحب الإعادة مطلقا كالشافعي وأحمد ومنهم من يستحبها إذا كانت الثانية أكمل كمالك. فإذا أعادها فالأولى هي الفريضة عند أحمد وأبي حنيفة والشافعي في أحد القولين؛ لقوله في هذا الحديث: «فإنها لكما نافلة» وكذلك قال في الحديث الصحيح: «إنه سيكون أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها فصلوا الصلاة لوقتها ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلة» وهذا أيضا يتضمن إعادتها لسبب ويتضمن أن الثانية نافلة. وقيل الفريضة أكملهما. وقيل ذلك إلى الله. ومما جاء في الإعادة لسبب الحديث الذي في سنن أبي داود لما قال النبي r «ألا رجل يتصدق على هذا يصلي معه». فهنا هذا المتصدق قد أعاد الصلاة ليحصل لذلك المصلي فضيلة الجماعة ثم الإعادة المأمور بها مشروعة عند الشافعي وأحمد ومالك وقت النهي وعند أبي حنيفة لا تشرع وقت النهي. وأما المغرب: فهل تعاد على صفتها؟ أم تشفع بركعة؟ أم لا تعاد؟ على ثلاثة أقوال مشهورة للفقهاء. ومما جاء فيه الإعادة لسبب ما ثبت «أن النبي r في بعض صلوات الخوف صلى بهم الصلاة مرتين صلى بطائفة ركعتين ثم سلم ثم صلى بطائفة أخرى ركعتين ثم سلم» ومثل هذا حديث معاذ بن جبل لما كان يصلي خلف النبي r فهنا إعادة أيضا وصلاة مرتين. والعلماء متنازعون في مثل هذا: وهي مسألة اقتداء المفترض بالمتنفل " على ثلاثة أقوال. فقيل: لا يجوز كقول أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايات. وقيل: يجوز كقول الشافعي وأحمد في رواية ثانية. وقيل: يجوز للحاجة مثل حال الخوف والحاجة إلى الائتمام بالمتطوع ولا يجوز لغيرها كرواية ثالثة عن أحمد. ويشبه هذا إعادة صلاة الجنازة لمن صلى عليها أولا؛ فإن هذا لا يشرع بغير سبب باتفاق العلماء بل لو صلى عليها مرة ثانية ثم حضر من لم يصل، فهل يصلي عليها؟ على قولين للعلماء. قيل: يصلي عليها وهو مذهب الشافعي وأحمد ويصلي عندهما على القبر لما ثبت عن النبي r وعن غير واحد من الصحابة أنهم صلوا على جنازة بعد ما صلى عليها غيرهم. وعند أبي حنيفة ومالك ينهى عن ذلك كما ينهيان عن إقامة الجماعة في المسجد مرة بعد مرة قالوا؛ لأن الفرض يسقط بالصلاة الأولى فتكون الثانية نافلة والصلاة على الجنازة لا يتطوع بها. وهذا بخلاف من يصلي الفريضة فإنه يصليها باتفاق المسلمين؛ لأنها واجبة عليه وأصحاب الشافعي وأحمد يجيبون بجوابين: أحدهما: أن الثانية تقع فرضا عمن فعلها وكذلك يقولون في سائر فروض الكفايات: أن من فعلها أسقط بها فرض نفسه وإن كان غيره قد فعلها فهو مخير بين أن يكتفي بإسقاط ذلك وبين أن يسقط الفرض بفعل نفسه.

الثاني: وقيل: بل هي نافلة ويمنعون قول القائل: إن صلاة الجنازة لا يتطوع بها بل قد يتطوع بها إذا كان هناك سبب يقتضي ذلك. وينبني على هذين المأخذين أنه إذا حضر الجنازة من لم يصل أولا: فهل لمن صلى عليها أولا أن يصلي معه تبعا؟ كما يفعل مثل هذا في المكتوبة على وجهين. قيل: لا يجوز هنا؛ لأن فعله هنا نفل بلا نزاع، وهي لا يتنفل بها، وقيل: بل له الإعادة؛ فإن النبي r لما صلى على القبر صلى خلفه من كان قد صلى أولا، وهذا أقرب فإن هذه الإعادة بسبب اقتضاه لا إعادة مقصودة وهذا سائغ في المكتوبة والجنازة. والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.=

مقتطفات من كتاب العبودية / شيخ الإسلام ابن تيمية 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على صفوة خلقه وخاتم رسله محمدٍ عبد الله ورسوله، وعلى آله الذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه إلى يوم الدين.

أما بعد.. فقد سئل الشيخ رحمه الله عن قوله عز وجل:}يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ{ فما العبادة؟ وما فروعها؟ وهل مجموع الدين داخل فيها أو لا ؟ وما حقيقة العبودية؟ وهل هي أعلى المقامات في الدنيا والآخرة أو فوقها شيء من المقامات؟

وليبسط لنا القول في ذلك مأجورين رحمة الله وفضله.

الجواب:

فأجاب: الحمد لله رب العالمين. " العبادة ": هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة؛ فالصلاة والزكاة والصيام والحج وصدق الحديث وأداء الأمانة  وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد للكفار والمنافقين والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم والدعاء والذكر والقراءة وأمثال ذلك من العبادة، وكذلك حب الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه، وإخلاص الدين له والصبر لحكمه والشكر لنعمه والرضا بقضائه والتوكل عليه والرجاء لرحمته والخوف من عذابه وأمثال ذلك هي من العبادة لله.

وذلك أن العبادة لله هي الغاية المحبوبة له والمرضية له التي خلق الخلق لها، كما قال تعالى:}وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ{ وبها أرسل جميع الرسل، كما قال نوح لقومه:}اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ{ وكذلك قال هود وصالح وشعيب وغيرهم لقومهم. وقال تعالى:}وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ{ وقال تعالى:}وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ{ وقال تعالى:}وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ{ كما قال في الآية الأخرى:}يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ{. وجعل ذلك لازما لرسوله إلى الموت كما قال:}وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ{ وبذلك وصف ملائكته وأنبياءه فقال تعالى:}وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ{ وقال تعالى:}إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ{ وذم المستكبرين عنها بقوله:}وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ{ ونعت صفوة خلقه بالعبودية له فقال تعالى:}عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا{ وقال:}وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا{ الآيات. ولما قال الشيطان:}قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ{ قال الله تعالى:}إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ{ وقال في وصف الملائكة بذلك:}وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ{ إلى قوله:}وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ{ وقال تعالى:}وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا{ وقال تعالى عن المسيح - الذي ادعيت فيه الإلهية والنبوة - }إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ{ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:«لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد فقولوا:عبد الله ورسوله». وقد نعته الله " بالعبودية " في أكمل أحواله فقال في الإسراء:}سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا{ وقال في الإيحاء:}فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى{ وقال في الدعوة:}وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا{ وقال في التحدي:}وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ{ فالدين كله داخل في العبادة.

وقد ثبت في الصحيح؛ أن جبريل لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة أعرابي وسأله عن الإسلام قال:«أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا». قال:فما الإيمان؟ قال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت، وتؤمن بالقدر خيره وشره». قال: فما الإحسان؟ قال: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك». ثم قال في آخر الحديث: «هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم». فجعل هذا كله من الدين.

و " الدين " يتضمن معنى الخضوع والذل, يقال: دِنْتُه فَدَانَ, أي: أذللته فذل, ويقال: يُدينُ اللهَ, ويَدينُ لله, أي: يعبد الله ويطيعه ويخضع له, فدين الله عبادته وطاعته والخضوع له. و " العبادة " أصل معناها: الذل. أيضا. يقال: طريق معبَّدٌ. إذا كان مذللا قد وطئته الأقدام.

لكنِ العبادةُ المأمورُ بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب؛ فهي تتضمن غاية الذل لله بغاية المحبة له؛ فإن آخر مراتب الحب هو التَّتَيُّم، وأولُه: " العلاقة ": لتعلق القلب بالمحبوب، ثم " الصبابة ": لانصباب القلب إليه، ثم " الغرام ": وهو الحب الملازم للقلب ثم " العشق "، وآخرها: " التَّتَيُّم "؛ يقال: تيم الله: أي: عبد الله؛ فالمتيَّمُ: المعبَّد لمحبوبه.

ومن خضع لإنسان مع بغضه له لا يكون عابدا له، ولو أحب شيئًا ولم يخضع له لم يكن عابدا له، كما قد يحب ولده وصديقه، ولهذا لا يكفي أحدهما في عبادة الله تعالى؛ بل يجب أن يكون الله أحب إلى العبد من كل شيء، وأن يكون الله أعظم عنده من كل شيء، بل لا يستحق المحبة والذل التام إلا الله.

وكل ما أحب لغير الله فمحبته فاسدة، وما عُظِّمَ بغير أمر الله كان تعظيمه باطلا. قال الله تعالى: }قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ{.[سورة التوبة:24]

فجنس المحبة تكون لله ولرسوله، كالطاعة؛ فإن الطاعة لله ولرسوله، والإرضاء لله ولرسوله: }وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ{[سورة التوبة:62]، والإيتاء لله ورسوله: }وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ{.[ سورة التوبة:59]

وأما " العبادة " وما يناسبها من التوكل والخوف ونحو ذلك، فلا يكون إلا لله وحده، كما قال تعالى: }قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا{ إلى قوله:}فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ{ وقال تعالى:}وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ{ فالإيتاء لله والرسول؛ كقوله:}وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا{.

وأما الحسب -وهو الكافي- فهو لله وحده؛ كما قال تعالى: }الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ{، وقال تعالى: }يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ{؛ أي: حسبك وحسب من اتبعك الله. ومن ظن أن المعنى: «حسبك الله والمؤمنون معه» فقد غلط غلطا فاحشا، كما قد بسطناه في غير هذا الموضع، وقال تعالى:}أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ{.

و تحرير ذلك: أن العبد يراد به " المعبد " الذي عبَّده الله؛ فدلَّله ودبره وصرفه، وبهذا الاعتبار: فالمخلوقون كلهم عباد الله؛ الأبرار منهم والفجار والمؤمنين والكفار وأهل الجنة وأهل النار؛ إذ هو ربهم كلهم ومليكهم، لا يخرجون عن مشيئته وقدرته وكلماته التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر؛ فما شاء كان وإن لم يشاؤوا. وما شاؤوا إن لم يشأه لم يكن؛ كما قال تعالى: }أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ{. فهو سبحانه رب العالمين وخالقهم ورازقهم ومحييهم ومميتهم ومقلب قلوبهم ومصرف أمورهم, لا رب لهم غيره, ولا مالك لهم سواه, ولا خالق إلا هو، سواء اعترفوا بذلك أو أنكروه وسواء علموا ذلك أو جهلوه؛ لكن أهل الإيمان منهم عرفوا ذلك وآمنوا به, وشكروه بعبودية إلهية رغبا ورهبا, بخلاف من كان جاهلا بذلك أو جاحدا له مستكبرا على ربه لا يقر ولا يخضع له مع علمه بأن الله ربه وخالقه, فالمعرفة بالحق إذا كانت مع الاستكبار عن قبوله والجحد له كان عذابا على صاحبه كما قال تعالى: }وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ{، وقال تعالى: }الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ{، وقال تعالى: }فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ{. فإن اعترف العبد أن الله ربه وخالقه، وأنه مفتقر إليه محتاج إليه عرف العبودية المتعلقة بربوبية الله، وهذا العبد يسأل ربه ويتضرع إليه ويتوكل عليه، لكن قد يطيع أمره، وقد يعصيه وقد يعبده مع ذلك، وقد يعبد الشيطان والأصنام، ومثل هذه العبودية لا تُفَرِّق بين أهل الجنة وأهل النار، ولا يصير بها الرجل مؤمنا، كما قال تعالى: }وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ{؛ فإن المشركين كانوا يقرون أن الله خالقهم ورازقهم وهم يعبدون غيره، قال تعالى: }وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ{ وقال تعالى:}قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ{ إلى قوله:}قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ{.

وكثير ممن يتكلم في الحقيقة فيشهدها، لا يشهد إلا هذه الحقيقة، وهي " الحقيقة الكونية " التي يشترك فيها وفي شهودها ومعرفتها المؤمن والكافر والبر والفاجر، بل إبليس معترف بهذه الحقيقة وأهل النار؛ قال إبليس: }رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ{، وقال: }رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ{، وقال: }فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ{، وقال: }أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ{، وأمثال هذا من الخطاب الذي يقر فيه بأن الله ربه وخالقه وخالق غيره؛ وكذلك أهل النار قالوا: }رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ{ وقال تعالى:}وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا{ فمن وقف عند هذه الحقيقة وعند شهودها ولم يقم بما أمر الله به من الحقيقة الدينية التي هي عبادته المتعلقة بألوهيته وطاعة أمره وأمر رسوله، كان من جنس إبليس ومن أهل النار ؛ فإن ظن مع ذلك أنه من خواص أولياء الله وأهل المعرفة والتحقيق الذين يسقط عنهم الأمر والنهي الشرعيان كان من شر أهل الكفر والإلحاد.

ومن ظن أن الخضر وغيره سقط عنهم الأمر لمشاهدة الإرادة ونحو ذلك كان قوله هذا من شر أقوال الكافرين بالله ورسوله، حتى يدخل في " النوع الثاني " من معنى العبد وهو العبد بمعنى العابد فيكون عابدا لله لا يعبد إلا إياه؛ فيطيع أمره وأمر رسله ويوالي أولياءه المؤمنين المتقين ؛ ويعادي أعداءه الكافرين والفاسقين.

وهذه العبادة متعلقة بألوهيته، ولهذا كان عنوان التوحيد " لا إله إلا الله " بخلاف من يقر بربوبيته ولا يعبده، أو يعبد معه إلها آخر؛ فالإله هو الذي يألهه القلب بكمال الحب والتعظيم والإجلال والإكرام والخوف والرجاء ونحو ذلك.

وهذه العبادة هي التي يحبها الله ويرضاها، وبها وصف المصطفين من عباده, وبها بعث رسله. وأما " العبد " بمعنى المعبَّد سواء أقر بذلك أو أنكره, فذلك يشترك فيه المؤمن والكافر.

وبالفرق بين هذين النوعين يعرف الفرق بين " الحقائق الدينية " الداخلة في عبادة الله ودينه وأمره الشرعي التي يحبها ويرضاها ويوالي أهلها ويكرمهم بجنته، وبين " الحقائق الكونية " التي يشترك فيها المؤمن والكافر والبر والفاجر التي من اكتفى بها ولم يتبع الحقائق الدينية كان من أتباع إبليس اللعين والكافرين برب العالمين. ومن اكتفى بها في بعض الأمور دون بعض أو في مقام دون مقام أو حال دون حال نقص من إيمانه وولايته لله بحسب ما نقص من الحقائق الدينية.

وهذا مقام عظيم فيه غلط الغالطون وكثر فيه الاشتباه على السالكين حتى زلق فيه من أكابر الشيوخ المدعين للتحقيق والتوحيد والعرفان ما لا يحصيه إلا الله الذي يعلم السر والإعلان

الأصول التي تقوم عليها العبادة

والعبادة والطاعة والاستقامة ولزوم الصراط المستقيم ونحو ذلك من الأسماء مقصودها واحد ولها أصلان:

" أحدهما ": ألا يعبد إلا الله.

و" الثاني ": أن لا يعبده إلا بما أمر وشرع؛ لا يعبده بغير ذلك من الأهواء والظنون والبدع، قال تعالى:} فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا {، وقال تعالى:} بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ { وقال تعالى:} وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا{؛ فالعمل الصالح هو الإحسان وهو فعل الحسنات. و " الحسنات " هي ما أحبه الله ورسوله، وهو ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب. فما كان من البدع في الدين التي ليست في الكتب ولا في صحيح السنة, فإنها وإن قالها من قالها وعمل بها من عمل ليست مشروعة، فإن الله لا يحبها ولا رسوله، فلا تكون من الحسنات ولا من العمل الصالح، كما أن من يعمل ما لا يجوز كالفواحش والظلم ليس من الحسنات ولا من العمل الصالح.

وأما قوله: } وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا {, وقوله:} أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ { فهو إخلاص الدين لله وحده، وكان عمر بن الخطاب يقول:اللهم اجعل عملي كله صالحا واجعله لوجهك خالصا ولا تجعل لأحد فيه شيئا. وقال الفضيل بن عياض في قوله تعالى:
} لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا {، قال:أخلصه وأصوبه. قالوا:يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ قال:إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا، والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة.

 

فصل

إذا تبين ذلك:فمعلوم أن الناس في هذا الباب يتفاضلون تفاضلا عظيما، وهو تفاضلهم في حقيقة الإيمان، وهم ينقسمون فيه إلى عام وخاص، ولهذا كانت إلهية الرب لهم فيها عموم وخصوص، ولهذا كان الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شِيكَ فلا انتقش؛ إنْ أُعْطِيَ رضي وإن مُنِعَ سَخَطَ»([1]). فسمَّاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم عبدَ الدرهم وعبد الدينار وعبد القطيفة وعبد الخميصة، وذكر ما فيه دعاءً وخبرًا؛ وهو قوله:«تعس وانتكس، وإذا شِيكَ فلا انتقش». والنَّقْشُ: إخراج الشوكة من الرِّجل. والمنقاش: ما يخرج به الشوكة.

وهذه حال من إذا أصابه شر لم يخرج منه ولم يفلح؛ لكونه تعس وانتكس؛ فلا نال المطلوب ولا خلص من المكروه، وهذه حال من عبد المال، وقد وصف ذلك بأنه «إذا أعطي رضي وإذا منع سخط»، كما قال تعالى: } وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ {؛ فرضاهم لغير الله وسخطهم لغير الله، وهكذا حال من كان متعلقا برئاسة أو بصورة ونحو ذلك من أهواء نفسه؛ إن حصل له رضي وإن لم يحصل له سخط؛ فهذا عبد ما يهواه من ذلك وهو رقيق له؛ إذ الرق والعبودية في الحقيقة هو رقُّ القلب وعبوديته؛ فما استرق القلب واستعبده فالقلب عبده، ولهذا يقال:

العبد حر ما قنع

 

والحر عبد ما طمع

وقال القائل:

أطعت مطامعي فاستعبدتني

 

ولو أني قنعت لكنت حرا

ويقال:الطمع غلٌّ في العنق وقيد في الرجل؛ فإذا زال الغل من العنق زال القيد من الرجل. ويروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال:«الطمع فقر واليأس غنى، وإن أحدكم إذا يئس من شيء استغنى عنه». وهذا أمر يجده الإنسان من نفسه؛ فإن الأمر الذي ييأس منه لا يطلبه ولا يطمع فيه ولا يبقى قلبه فقيرا إليه ولا إلى من يفعله. وأما إذا طمع في أمر من الأمور ورجاه فإن قلبه يتعلق به فيصير فقيرا إلى حصوله، وإلى من يظن أنه سبب في حصوله، وهذا في المال والجاه والصور وغير ذلك؛ قال الله عز وجل: }فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ {.

فالعبد لا بد له من رزق وهو محتاج إلى ذلك، فإذا طلب رزقه من الله صار عبدا لله فقيرا إليه، وإذا طلبه من مخلوق صار عبدا لذلك المخلوق فقيرا إليه؛ ولهذا كانت " مسألة المخلوق " محرمة في الأصل، وإنما أبيحت للضرورة، وفي النهي عنها أحاديث كثيرة في الصحاح والسنن والمسانيد؛ كقوله r: «لا تزال المسألة بأحدكم حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم» ([2]). وقوله:«من سأل الناس وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة خدوشا -أو خموشا أو كدوشا- في وجهه» ([3]). وقوله: «لا تحل المسألة إلا لذي غرم مفظع أو دم موجع أو فقر مدقع». وهذا المعنى في الصحيح. وفيه أيضا: «لأن يأخذ أحدكم حبله فيذهب فيحتطب خير له من أن يسأل الناس، أعطوه أو منعوه». وقال: «ما أتاك من هذا المال وأنت غير سائل ولا مستشرف فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك»؛ فكره أخذه من سؤال اللسان واستشراف القلب, وقال في الحديث الصحيح:«من يستغن يغنه الله ؛ ومن يستعفف يعفه الله ؛ ومن يتصبر يصبره الله ؛ وما أعطي أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر». وأوصى خواص أصحابه «أن لا يسألوا الناس شيئا». وفي المسند «أن أبا بكر كان يسقط السوط من يده فلا يقول لأحد: ناولني إياه. ويقول:إن خليلي أمرني أن لا أسأل الناس شيئا». وفي صحيح مسلم وغيره عن عوف بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وسلم بايعه في طائفة وأسر إليهم كلمة خفية:«أن لا تسألوا الناس شيئا». فكان بعض أولئك النفر يسقط السوط من يد أحدهم، ولا يقول لأحد: ناولني إياه. وقد دلت النصوص على الأمر بمسألة الخالق والنهي عن مسألة المخلوق في غير موضع؛ كقوله تعالى:} فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ {، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس:«إذا سألت فاسأل الله ؛ وإذا استعنت فاستعن بالله». ومنه قول الخليل:}فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ{ ولم يقل: فابتغوا الرزق عند الله ؛ لأن تقديم الظرف يشعر بالاختصاص والحصر ؛ كأنه قال لا تبتغوا الرزق إلا عند الله. وقد قال تعالى:}وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ{.

والإنسان لا بد له من حصول ما يحتاج إليه من الرزق ونحوه، ودفع ما يضره، وكلا الأمرين شرع له أن يكون دعاؤه لله ؛ فلا يسأل رزقه إلا من الله ولا يشتكي إلا إليه؛ كما قال يعقوب عليه السلام: } إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ {.

والله تعالى ذكر في القرآن " الهجر الجميل " و " الصفح الجميل " و " الصبر الجميل "، وقد قيل:إن " الهجر الجميل " هو هجر بلا أذى، والصفح الجميل صفح بلا معاتبة، والصبر الجميل صبر بغير شكوى إلى المخلوق ؛ ولهذا قرئ على أحمد بن حنبل في مرضه أن طاوسا كان يكره أنين المريض ويقول:إنه شكوى. فما أنَّ أحمد حتى مات.

وأما الشكوى إلى الخالق فلا تنافي الصبر الجميل ؛ فإن يعقوب قال:} فَصَبْرٌ جَمِيلٌ {، وقال:} إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ {، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقرأ في الفجر بسورة ( يونس ) و ( يوسف ) و ( النحل ) فمر بهذه الآية في قراءته, فبكى حتى سُمِعَ نشيجه من آخر الصفوف. ومن دعاء موسى:اللهم لك الحمد وإليك المشتكى، وأنت المستعان وبك المستغاث وعليك التكلان ولا حول ولا قوة إلا بك.

وكلما قوي طمع العبد في فضل الله ورحمته ورجائه لقضاء حاجته ودفع ضرورته قويت عبوديته له وحريته مما سواه ؛ فكما أن طمعه في المخلوق يوجب عبوديته له فيأسه منه يوجب غنى قلبه عنه، كما قيل:استغن عمن شئت تكن نظيره، وأفضل على من شئت تكن أميره؛ واحتج إلى من شئت تكن أسيره، فكذلك طمع العبد في ربه.

ورجاؤه له يوجب عبوديته له، وإعراض قلبه عن الطلب من غير الله والرجاء له يوجب انصراف قلبه عن العبودية لله؛ لا سيما من كان يرجو المخلوق ولا يرجو الخالق؛ بحيث يكون قلبه معتمدا إما على رئاسته وجنوده وأتباعه ومماليكه، وإما على أهله وأصدقائه، وإما على أمواله وذخائره، وإما على ساداته وكبرائه، كمالكه وملكه وشيخه ومخدومه وغيرهم ؛ ممن هو قد مات أو يموت. قال تعالى:} وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا {. وكل من علق قلبه بالمخلوقات أن ينصروه أو يرزقوه أو أن يهدوه خضع قلبه لهم، وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك، وإن كان في الظاهر أميرا لهم مدبرا لأمورهم متصرفا بهم ؛ فالعاقل ينظر إلى الحقائق لا إلى الظواهر.

فالرجل إذا تعلق قلبه بامرأة- ولو كانت مباحة له- يبقى قلبه أسيرا لها تتحكم فيه وتتصرف بما تريد، وهو في الظاهر سيدها؛ لأنه زوجها أو مالكها، ولكنه في الحقيقة هو أسيرها ومملوكها، لا سيما إذا علمت بفقره إليها وعشقه لها، وأنه لا يعتاض عنها بغيرها ؛ فإنها حينئذ تتحكم فيه تحكم السيد القاهر الظالم في عبده المقهور، الذي لا يستطيع الخلاص منه، بل أعظم؛ فإن أسر القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن؛ فإن من استُعْبِدَ بدنُه واسترِقَّ لا يبالي ما دام قلبه مستريحًا من ذلك مطمئنا، بل يمكنه الاحتيال في الخلاص. وأما إذا كان القلب -الذي هو ملك الجسم- رقيقا مستعبدا متيما لغير الله، فهذا هو الذل والأسر المحض والعبودية لما استعبد القلب.

وعبودية القلب وأسره هي التي يترتب عليها الثواب والعقاب ؛ فإن المسلم لو أسره كافر ؛ أو استرقه فاجر بغير حق لم يضره ذلك إذا كان قائما بما يقدر عليه من الواجبات، ومن استعبد بحق إذا أدى حق الله وحق مواليه فله أجران، ولو أكره على التكلم بالكفر فتكلم به وقلبه مطمئن بالإيمان لم يضره ذلك. وأما من استعبد قلبه فصار عبدا لغير الله فهذا يضره ذلك ولو كان في الظاهر ملك الناس.

فالحرية حرية القلب والعبودية عبودية القلب، كما أن الغنى غنى النفس؛ قال النبي r: « ليس الغنى عن كثرة العرض، وإنما الغنى غنى النفس ». وهذا لعمر الله إذا كان قد استعبد قلبه صورةٌ مباحة، فأما من استعبد قلبه صورة محرمة -امرأة أو صبي- فهذا هو العذاب الذي لا يدانيه عذاب. وهؤلاء عشاق الصور من أعظم الناس عذابا وأقلهم ثوابا؛ فإن العاشق لصورة إذا بقي قلبه متعلقا بها مستعبدا لها اجتمع له من أنواع الشر والفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد ولو سلم من فعل الفاحشة الكبرى؛ فدوام تعلق القلب بها بلا فعل الفاحشة أشد ضررا عليه ممن يفعل ذنبا ثم يتوب منه ويزول أثره من قلبه. وهؤلاء يشبهون بالسكارى والمجانين، كما قيل:

سكران هوى، وسكر مدامة

 

ومتى إفاقة من به سكران

وقيل:

قالوا:جننت بمن تهوى فقلت لهم

 

 

العشق أعظم مما بالمجانين

العشق لا يستفيق الدهر صاحبه|

 

 

وإنما يصرع المجنون في الحين




ومن أعظم أسباب هذا البلاء إعراض القلب عن الله؛ فإن القلب إذا ذاق طعم عبادة الله والإخلاص له لم يكن عنده شيء قط أحلى من ذلك ولا ألذ ولا أمتع ولا أطيب، والإنسان لا يترك محبوبا إلا بمحبوب آخر يكون أحب إليه منه، أو خوفا من مكروه؛ فالحب الفاسد إنما ينصرف القلب عنه بالحب الصالح، أو بالخوف من الضرر. قال تعالى في حق يوسف: }كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ {.

فالله يصرف عن عبده ما يسوؤه من الميل إلى الصور والتعلق بها، ويصرف عنه الفحشاء بإخلاصه لله، ولهذا يكون قبل أن يذوق حلاوة العبودية لله والإخلاص له بحيث تغلبه نفسه على اتباع هواها، فإذا ذاق طعم الإخلاص وقوي في قلبه انقهر له هواه بلا كبير علاج. قال تعالى:} إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ {؛ فإن الصلاة فيها دفع للمكروه وهو الفحشاء والمنكر، وفيها تحصيل المحبوب وهو ذكر الله، وحصول هذا المحبوب أكبر من دفع المكروه؛ فإن ذكر الله عبادة لله وعبادة القلب لله مقصودة لذاتها. وأما اندفاع الشر عنه فهو مقصود لغيره على سبيل التبع، والقلب خلق يحب الحق ويريده ويطلبه، فلما عرضت له إرادة الشر طلب دفع ذلك؛ فإنها تفسد القلب كما يفسد الزرع بما ينبت فيه من الدغل، ولهذا قال تعالى: } قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا { وقال تعالى:} قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى { وقال:} قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ { وقال تعالى: }وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا{؛ فجعل سبحانه غض البصر وحفظ الفرج هو أقوى تزكية للنفس، وبين أن ترك الفواحش من زكاة النفوس، وزكاة النفوس تتضمن زوال جميع الشرور من الفواحش والظلم والشرك والكذب وغير ذلك. وكذلك طالب الرئاسة والعلو في الأرض قلبه رقيق لمن يعينه عليها، ولو كان في الظاهر مقدمهم والمطاع فيهم فهو في الحقيقة يرجوهم ويخافهم، فيبذل لهم الأموال والولايات، ويعفو عما يجترحونه ليطيعوه ويعينوه؛ فهو في الظاهر رئيس مطاع، وفي الحقيقة عبد مطيع لهم.

والتحقيق أن كليهما فيه عبودية للآخر، وكلاهما تارك لحقيقة عبادة الله، وإذا كان تعاونهما على العلو في الأرض بغير الحق كانا بمنزلة المتعاونين على الفاحشة أو قطع الطريق؛ فكل واحد من الشخصين- لهواه الذي استعبده واسترقه- مستعبد للآخر، وهكذا أيضا طالب المال؛ فإن ذلك المال يستعبده ويسترقه.

وهذه الأمور نوعان:

( منها ): ما يحتاج العبد إليه؛ كما يحتاج إليه من طعامه وشرابه ومسكنه ومنكحه ونحو ذلك ؛ فهذا يطلبه من الله ويرغب إليه فيه؛ فيكون المال عنده -يستعمله في حاجته- بمنزلة حماره الذي يركبه وبساطه الذي يجلس عليه ؛ بل بمنزلة الكنيف الذي يقضي فيه حاجته من غير أن يستعبده، فيكون هلوعا إذا مسه الشر جزوعا ؛ وإذا مسه الخير منوعا.

و( منها ): ما لا يحتاج العبد إليه؛ فهذه لا ينبغي له أن يعلق قلبه بها ؛ فإذا تعلق قلبه به صار مستعبدا له ؛ وربما صار معتمدا على غير الله، فلا يبقى معه حقيقة العبادة لله ولا حقيقة التوكل عليه ؛ بل فيه شعبة من العبادة لغير الله وشعبة من التوكل على غير الله، وهذا من أحق الناس بقوله r: «تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة».

وهذا هو عبد هذه الأمور؛ فلو طلبها من الله فإن الله إذا أعطاه إياها رضي، وإذا منعه إياها سخط، وإنما عبد الله من يرضيه ما يرضي الله، ويسخطه ما يسخط الله، ويحب ما أحبه الله ورسوله ويبغض ما أبغضه الله ورسوله، ويوالي أولياء الله ويعادي أعداء الله تعالى، وهذا هو الذي استكمل الإيمان، كما في الحديث: «من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان». وقال:«أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله». وفي الصحيح عنه r: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان:أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار».

فهذا وافق ربه فيما يحبه وما يكرهه، فكان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأحب المخلوق لله لا لغرض آخر، فكان هذا من تمام حبه لله؛ فإن محبة محبوب المحبوب من تمام محبة المحبوب ؛ فإذا أحب أنبياء الله وأولياء الله لأجل قيامهم بمحبوبات الحق لا لشيء آخر فقد أحبهم لله لا لغيره, وقد قال تعالى:} فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ {. ولهذا قال تعالى:}قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ{؛ فإن الرسول لا يأمر إلا بما يحب الله، ولا ينهى إلا عما يبغضه الله، ولا يفعل إلا ما يحبه الله، ولا يخبر إلا بما يحب الله التصديق به، فمن كان محبا لله لزم أن يتبع الرسول فيصدقه فيما أخبر ويطيعه فيما أمر ويتأسى به فيما فعل، ومن فعل هذا فقد فعل ما يحبه الله، فيحبه الله.

وقد جعل الله لأهل محبته علامتين:اتباع الرسول، والجهاد في سبيله ؛ وذلك لأن الجهاد حقيقته الاجتهاد في حصول ما يحبه الله من الإيمان والعمل الصالح، وفي دفع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان، وقد قال تعالى:} قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ { إلى قوله:} حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ {؛ فتوعَّد من كان أهله وماله أحب إليه من الله ورسوله والجهاد في سبيله بهذا الوعيد الشديد. بل قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال:«والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين». وفي الصحيح: أن عمر بن الخطاب قال له:يا رسول الله والله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي. فقال:«لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك». فقال:فوالله لأنت أحب إلي من نفسي. فقال: «الآن يا عمر».

فحقيقة المحبة لا تتم إلا بموالاة المحبوب؛ وهو موافقته في حب ما يحب وبغض ما يبغض، والله يحب الإيمان والتقوى ويبغض الكفر والفسوق والعصيان. ومعلوم أن الحب يحرك إرادة القلب؛ فكلما قويت المحبة في القلب طلب القلب فعل المحبوبات. فإذا كانت المحبة تامة استلزمت إرادة حازمة في حصول المحبوبات؛ فإذا كان العبد قادرا عليها حصلها، وإن كان عاجزا عنها ففعل ما يقدر عليه من ذلك كان له أجر كأجر الفاعل؛ كما قال النبي r: «من دعا إلى هدىً كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من تبعه، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء». وقال:  «إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم. قالوا:وهم بالمدينة؟ قال:وهم بالمدينة حبسهم العذر».

و" الجهاد " هو بذل الوسع. وهو القدرة في حصول محبوب الحق ودفع ما يكرهه الحق؛ فإذا ترك العبد ما يقدر عليه من الجهاد كان تركه دليلا على ضعف محبة الله ورسوله في قلبه.

ومعلوم أن المحبوبات لا تُنال غالبا إلا باحتمال المكروهات؛ سواء كانت محبة صالحة أو فاسدة؛ فالمحبون للمال والرئاسة والصور لا ينالون مطالبهم إلا بضرر يلحقهم في الدنيا، مع ما يصيبهم من الضرر بالمال نفسه في الدنيا والآخرة؛ فالمحب لله ورسوله إذا لم يحتمل ما يرى من تحمل المحبين لغير الله ما يحتملون في سبيل حصول محبوبهم دل ذلك على ضعف محبته لله إذا كان ما يسلكه أولئك هو الطريق الذي يشير به العقل.

ومن المعلوم أن المؤمن أشدُّ حبًّا لله؛ كما قال تعالى:} وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ {.

نعم، قد يسلك المحب لضعف عقله وفساد تصوره طريقا لا يحصل له بها المطلوب، فمثل هذه الطريق لا تحمد إذا كانت المحبة صالحة محمودة، فكيف إذا كانت المحبة فاسدة والطريق غير موصل كما يفعله المتهورون في طلب المال والرئاسة والصور في حب أمور توجب لهم ضررا ولا تحصل لهم مطلوبا؛ وإنما المقصود الطرق التي يسلكها ذو العقل السليم لحصول مطلوبه. وإذا تبين هذا، فكلما ازداد القلب حبا لله ازداد له عبودية، وكلما ازداد له عبودية ازداد له حبا وحرية مما سواه.

والقلب فقير بالذات إلى الله من " جهتين ":من جهة العبادة وهي العلة الغائية، ومن جهة الاستعانة والتوكل، وهي العلة الفاعلية؛ فالقلب لا يصلح ولا يفلح ولا ينعم ولا يسر ولا يطيب ولا يسكن ولا يطمئن إلا بعبادة ربه وحده وحبه والإنابة إليه، ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن ولم يسكن؛ إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه بالفطرة؛ من حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه، وبذلك يحصل له الفرح والسرور واللذة والنعمة والسكون والطمأنينة.

وهذا لا يحصل له إلا بإعانة الله له؛ فإنه لا يقدر على تحصيل ذلك له إلا الله، فهو دائما مفتقر إلى حقيقة: } إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ {؛ فإنه لو أعين على حصول ما يحبه ويطلبه ويشتهيه ويريده ولم يحصل له عبادته لله؛ فلن يحصل إلا على الألم والحسرة والعذاب ولن يخلص من آلام الدنيا ونكد عيشها إلا بإخلاص الحب لله؛ بحيث يكون هو غاية مراده ونهاية مقصوده، وهو المحبوب له بالقصد الأول، وكل ما سواه إنما يحبه لأجله؛ لا يحب شيئا لذاته إلا الله، ومتى لم يحصل له هذا لم يكن قد حقق حقيقة " لا إله إلا الله "، ولا حقق التوحيد والعبودية والمحبة لله، وكان فيه من النقص والعيب بل من الألم والحسرة والعذاب بحسب ذلك، ولو سعى في هذا المطلوب ولم يكن مستعينا بالله متوكلا عليه مفتقرا إليه في حصوله لم يحصل له؛ فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.

فهو مفتقر إلى الله من حيث هو المطلوب المحبوب المراد المعبود ومن حيث هو المسؤول المستعان به المتوكَّل عليه؛ فهو إلهه الذي لا إله له غيره، وهو ربه الذي لا رب له سواه، ولا تتم عبوديته لله إلا بهذين؛ فمتى كان يحب غير الله لذاته أو يلتفت إلى غير الله أنه يعينه كان عبدا لما أحبه وعبدا لما رجاه بحسب حبه له ورجائه إياه، وإذا لم يحب لذاته إلا الله، وكلما أحب سواه فإنما أحبه له، ولم يرج قط شيئا إلا الله، وإذا فعل ما فعل من الأسباب أو حصل ما حصل منها كان مشاهِدًا أن الله هو الذي خلقها وقدرها وسخرها له، وأن كل ما في السموات والأرض فالله ربه ومليكه وخالقه، وهو مفتقر إليه-كان قد حَصَلَ له من تمام عبوديته لله بحسب ما قسم له من ذلك، والناس في هذا على درجات متفاوتة لا يحصي طرفيها إلا الله.

الكبر ينافي حقيقة العبودية

فأكمل الخلق وأفضلهم وأعلاهم وأقربهم إلى الله وأقواهم وأهداهم: أتمهم عبودية لله من هذا الوجه؛ وهذا هو حقيقة دين الإسلام الذي أرسل به رسله، وأنزل به كتبه؛ وهو أن يستسلم العبد لله لا لغيره؛ فالمستسلم له ولغيره مشرك، والممتنع عن الاستسلام له مستكبر؛ وقد ثبت في الصحيح عن النبي r: «أن الجنة لا يدخلها من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر»، كما أن النار لا يخلد فيها من في قلبه مثقال ذرة من إيمان؛ فجعل الكبر مقابلا للإيمان؛ فإن الكبر ينافي حقيقة العبودية، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«يقول الله: العظمة إزاري والكبرياء ردائي؛ فمن نازعني واحدا منهما عذبته»؛ فالعظمة والكبرياء من خصائص الربوبية، والكبرياء أعلى من العظمة، ولهذا جعلها بمنزلة الرداء، كما جعل العظمة بمنزلة الإزار؛ ولهذا كان شعار الصلوات والأذان والأعياد هو التكبير، وكان مستحبا في الأمكنة العالية؛ كالصفا والمروة، وإذا علا الإنسان شرفا أو ركب دابة ونحو ذلك، وبه يطفأ الحريق وإن عظم، وعند الأذان يهرب الشيطان. قال تعالى:} وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ {. وكل من استكبر عن عبادة الله لا بد أن يعبد غيره؛ ويذل له؛ فإن الإنسان حساس يتحرك بالإرادة. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«أصدق الأسماء حارث وهمام»؛ فالحارث: الكاسب الفاعل، والهمام: فعال من الهم، والهم أول الإرادة؛ فالإنسان له إرادة دائما، وكل إرادة فلا بد لها من مراد تنتهي إليه؛ فلا بد لكل عبد من مراد محبوب هو منتهى حبه وإرادته؛ فمن لم يكن الله معبوده ومنتهى حبه وإرادته بل استكبر عن ذلك، فلا بد أن يكون له مراد محبوب يستعبده غير الله، فيكون عبدا لذلك المراد المحبوب:إما المال وإما الجاه وإما الصور وإما ما يتخذه إلها من دون الله؛ كالشمس والقمر والكواكب والأوثان، وقبور الأنبياء والصالحين، أو من الملائكة والأنبياء الذين يتخذهم أربابا أو غير ذلك مما عبد من دون الله، وإذا كان عبدا لغير الله يكون مشركا، وكل مستكبر فهو مشرك؛ ولهذا كان فرعون من أعظم الخلق استكبارا عن عبادة الله، وكان مشركا؛ قال تعالى: }وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ { إلى قوله: } وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ { إلى قوله:} كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ {، وقال تعالى:} وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ { وقال تعالى:} إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ {، وقال تعالى:  } وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ {، ومثل هذا في القرآن كثير، وقد وصف فرعون بالشرك في قوله:} وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ {؛ بل الاستقراء يدل على أنه كلما كان الرجل أعظم استكبارا عن عبادة الله كان أعظم إشراكا بالله؛ لأنه كلما استكبر عن عبادة الله ازداد فقره وحاجة إلى مراده المحبوب الذي هو المقصود؛ مقصود القلب بالقصد الأول، فيكون مشركا لما استعبده من ذلك، ولن يستغني القلب عن جميع المخلوقات إلا بأن يكون الله هو مولاه الذي لا يعبد إلا إياه، ولا يستعين إلا به ولا يتوكل إلا عليه، ولا يفرح إلا بما يحبه ويرضاه، ولا يكره إلا ما يبغضه الرب ويكرهه، ولا يوالي إلا من والاه الله، ولا يعادي إلا من عاداه الله، ولا يحب إلا لله ولا يبغض شيئا إلا لله، ولا يعطي إلا لله ولا يمنع إلا لله؛ فكلما قوي إخلاص دينه لله كملت عبوديته واستغناؤه عن المخلوقات، وبكمال عبوديته لله تكمل براءته من الكبر والشرك، والشرك غالب على النصارى، والكبر غالب على اليهود ؛ قال تعالى في النصارى:}اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ{، وقال في اليهود:} أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ {، وقال تعالى:}سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا{.

ولما كان الكبر مستلزما للشرك، والشرك ضد الإسلام، وهو الذنب الذي لا يغفره الله - قال تعالى:} إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا { وقال: } إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا { - كان الأنبياء جميعهم مبعوثين بدين الإسلام؛ فهو الدين الذي لا يقبل الله غيره؛ لا من الأولين ولا من الآخرين ؛ قال نوح: } فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ { وقال في حق إبراهيم:} وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ { } إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ { إلى قوله:} فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ { وقال يوسف: } تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ { وقال موسى: } يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ { } فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا { وقال تعالى: } إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا { وقالت بلقيس }رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي

رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ{ وقال:} وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آَمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ { وقال: } إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ { وقال:} وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ {.

وقال تعالى: } أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا {فذكر إسلام الكائنات طوعا وكرها؛ لأن المخلوقات جميعها متعبدة له التعبد العام؛ سواء أقر المقر بذلك أو أنكره، وهم مدينون له مدبرون ؛ فهم مسلمون له طوعا وكرها؛ ليس لأحد من المخلوقات خروج عما شاءه وقدره وقضاه، ولا حول ولا قوة إلا به وهو رب العالمين ومليكهم يصرفهم كيف يشاء، وهو خالقهم كلهم وبارئهم ومصورهم وكل ما سواه فهو مربوب مصنوع مفطور فقير محتاج معبد مقهور، وهو الواحد القهار الخالق البارئ المصور. وهو وإن كان قد خلق ما خلقه بأسباب فهو خالق السبب والمقدر له وهو مفتقر إليه كافتقار هذا، وليس في المخلوقات سبب مستقل بفعل خير ولا دفع ضرر؛ بل كل ما هو سبب فهو محتاج إلى سبب آخر يعاونه وإلى ما يدفع عنه الضد الذي يعارضه ويمانعه، وهو سبحانه وحده الغني عن كل ما سواه؛ ليس له شريك يعاونه ولا ضد يناوئه ويعارضه. قال تعالى: }قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ{ وقال تعالى:} وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ { وقال تعالى عن الخليل:}يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُون{ }إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ{ }وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا{... إلى قوله تعالى: }الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ{، وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه « أن هذه الآية لما نزلت شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله أيُّنا لم يلبس إيمانه بظلم, فقال:«إنما هو الشرك ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح: }إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ{»

فصل

وجماع الدين " أصلان ": ألا نعبد إلا الله، ولا نعبده إلا بما شرع؛ لا نعبده بالبدع، كما قال تعالى:}فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا{. وذلك تحقيق " الشهادتين " ؛ شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا رسول الله.

ففي الأولى: أن لا نعبد إلا إياه، وفي الثانية: أن محمدا هو رسوله المبلغ عنه ؛ فعلينا أن نصدق خبره ونطيع أمره. وقد بين لنا r ما نعبد الله به ونهانا عن محدثات الأمور وأخبر أنها ضلالة، قال تعالى:}بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ{.

كما أنَّا مأمورون ألا نخاف إلا الله ولا نتوكل إلا على الله ولا نرغب إلا إلى الله ولا نستعين إلا بالله، وألا تكون عبادتنا إلا لله، فكذلك نحن مأمورون أن نتبع الرسول ونطيعه ونتأسى به؛ فالحلال ما حلله، والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه، قال تعالى:}وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ{؛ فجعل الإيتاء لله والرسول، كما قال:}وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا{، وجعل التوكل على الله وحده بقوله:}وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ{. ولم يقل: «ورسوله»، كما قال في الآية الأخرى: }الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ{، ومثله قوله:} يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ{؛ أي: حسبك وحسب المؤمنين، كما قال:}أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ{. ثم قال: }وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ{؛ فجعل الإيتاء لله والرسول، وقدم ذكر الفضل ؛ لأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، وله الفضل على رسوله وعلى المؤمنين.

وقال:} إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ{؛ فجعل الرغبة إلى الله وحده، كما في قوله:}فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ{، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس:«إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله». والقرآن يدل على مثل هذا في غير موضع؛ فجعل العبادة والخشية والتقوى لله، وجعل الطاعة والمحبة لله ورسوله، كما في قول نوح عليه السلام: }أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ{، وقوله: }وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ{، وأمثال ذلك.

فالرسل أمروا بعبادته وحده والرغبة إليه والتوكل عليه والطاعة لهم؛ فأضل الشيطان النصارى وأشباههم، فأشركوا بالله وعصوا الرسول فاتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم، فجعلوا يرغبون إليهم ويتوكلون عليهم ويسألونهم مع معصيتهم لأمرهم ومخالفاتهم لسنتهم، وهدى الله المؤمنين المخلصين لله أهل الصراط المستقيم الذين عرفوا الحق واتبعوه فلم يكونوا من المغضوب عليهم ولا الضالين، فأخلصوا دينهم لله وأسلموا وجوههم لله وأنابوا إلى ربهم وأحبوه ورجوه وخافوه وسألوه ورغبوا إليه وفوضوا أمورهم إليه وتوكلوا عليه وأطاعوا رسله وعزروهم ووقروهم وأحبوهم ووالوهم واتبعوهم واقتفوا آثارهم واهتدوا بمنارهم. وذلك هو دين الإسلام الذي بعث الله به الأولين والآخرين من الرسل، وهو الدين الذي لا يقبل الله من أحد دينا إلا إياه، وهو حقيقة العبادة لرب العالمين.

فنسأل الله العظيم أن يثبتنا عليه ويكمله لنا ويميتنا عليه وسائر إخواننا المسلمين، والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 



([1]) هذا معنى الحديث، وليس لفظه، وهو في البخاري كتاب الجهاد برقم (2887).

([2]) المزعة: القطعة الصغيرة.

([3]) الخدوش والخموش والكدوش: كلها بمعنى واحد، وهو آثار التقطع والتمزق.

=

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مجلد11.و12. من كتاب بغية الطلب في تاريخ حلب المؤلف : ابن العديم

  11. مجلد11. من كتاب بغية الطلب في تاريخ حلب المؤلف : ابن العديم ابن عبد العزى بن رباح بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب القرشي العدوي،...