بحث هذه المدونة الإلكترونية

Translate كيك520000.

السبت، 11 يونيو 2022

مجلد 3. و4. تفسير القرآن أبو المظفر منصور بن محمد بن عبد الجبار السمعاني سنة الولادة 426هـ/ سنة الوفاة 489هـ

 مجلد 3. و4. تفسير القرآن
أبو المظفر منصور بن محمد بن عبد الجبار السمعاني /سنة الولادة 426هـ/ سنة الوفاة 489هـ

3.   مجلد 3. تفسير القرآن
أبو المظفر منصور بن محمد بن عبد الجبار السمعاني
سنة الولادة 426هـ/ سنة الوفاة 489هـ


الأرض تلك السنة نباتا كثيرا وأخصبت ، فقالوا : هذا كان خيرا لنا ، فلم يؤمنوا وكفروا به ؛ فأرسل الله عليهم الجراد ؛ فأكل زرعهم ونباتهم إلا قليلا ؛ فاستغاثوا بموسى حتى يدعو الله - تعالى - فيدفع عنهم ذلك .
وفي أخبار عمر - رضي الله عنه - : أنه قل الجراد في زمانه سنة ، فبعث راكبا قبل اليمن وراكبا قبل الشام وراكبا قبل العراق ؛ ليطلبوا الجراد ؛ فجاء راكب اليمن بكف من جراد ، فقال عمر - رضي الله عنه - الله أكبر ، إن لله - تعالى - ألف أمة : ستمائة في البر ، وأربعمائة في البحر ، وأول أمة تهلك الجراد ، ثم تتبعهم سائر الأمم الباقيين ' .
وفي الأخبار : أن مريم سألت [ ربها ] ، وقالت : يا رب أطعمني لحما بلا دم ؛ فأطعمها الجراد . وفي الخبر ' مكتوب على صدر كل جرادة جند الله الأعظم ' .
رجعنا إلى القصة ، فلما رفع عنهم الجراد لم يؤمنوا أيضا ؛ فأرسل الله عليهم القمل ، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة : القمل صغار الجراد ، وهي : الدبي التي ليست لها أجنحة ، وعن ابن عباس - في رواية أخرى - أن القمل : سوس الحنطة . وقال أبو عبيدة : هو كبار القراد ، وسمى القراد الكبير : حمنان أيضا ، وقيل : القمل هو القمل ، وقيل : هو الرعاف . فاستغاثوا بموسى ، فدعا الله فرفع عنهم فلم يؤمنوا ؛ فسلط عليهم الضفادع .
وفي القصة : أن موسى جاء إلى شط البحر وأشار بعصاه إلى أدنى البحر وأقصاه ، فخرجت الضفادع حتى امتلأت بيوتهم - وكانت قوافز - وكان الرجل منهم إذا فتح فاه ليتكلم تثب في فيه ، وكل من نام منهم فإذا انتبه من النوم يرى على بدنه منها قدر ذراع ، وكان إذا تكلم الرجل تقفز في فمه ، ثم رفع عنهم فلم يؤمنوا ؛ فجعل الله نيل مصر عليهم دما - وكان كل ذلك للقبط خاصة - وكان القبطي يأخذ من النيل الدم ، وبنو إسرائيل يأخذون الماء ، حتى كان الكوز الواحد يشرب القبطي منه دما عبيطا ،
____________________

( ^ الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين ( 133 ) ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل ( 134 ) فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون ( 135 ) فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين ( 136 ) وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمت ربك الحسنى على بني إسرائيل بما ) * * * * والإسرائيلي ماء ؛ فذلك معنى قوله : ( ^ فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ، آيات مفصلات ) وتفصيلها أن كل عذاب منها يمتد أسبوعا ، وكان بين كل عذابين شهر ( ^ فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين ) . < < الأعراف : ( 134 ) ولما وقع عليهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولما وقع عليهم الرجز ) قيل : أراد به ما سبق من العذاب ، وقيل : هو عذاب الطاعون ، قال سعيد بن جبير : مات منهم بالطاعون سبعون ألفا في يوم واحد ، والرجز الرجس : العذاب .
( ^ قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك ) يعني : من إجابة دعوتك ( ^ لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل ) فإنه أراد أن يخرج بهم إلى الشام < < الأعراف : ( 135 ) فلما كشفنا عنهم . . . . . > > ( ^ فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه ) وذلك الغرق في اليم ( ^ إذا هم ينكثون ) أي : ينقضون العهد < < الأعراف : ( 136 ) فانتقمنا منهم فأغرقناهم . . . . . > > ( ^ فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين ) وللغرق قصة ستأتي في موضعها إن شاء الله تعالى < < الأعراف : ( 137 ) وأورثنا القوم الذين . . . . . > > ( ^ وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها ) قيل أراد بها أرض مصر والشام ، وقيل : أراد بها الشام وحده ، وقيل : أراد به الأردن وفلسطين ، وقوله ( ^ باركنا فيها ) أي : بالخصب والسعة .
( ^ وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ) وتلك الكلمة : وعده الذي وعدهم ، وذلك في قوله : ( ^ ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ) فلما أورثهم تلك الأراضي وانجزهم ذلك
____________________

( ^ صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون ( 137 ) وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون ( 138 ) إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون ( 139 ) قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين ( 140 ) وإذ أنجيناكم من آل ) * * * * الوعد ؛ قال : تمت كلمة ربك ، أي : تم وعده لهم ، وإنما سماها : حسنى لأنها كانت على وفق ما يحبون ( ^ ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه ) أي : أهلكنا ذلك عليهم ( ^ وما كانوا يعرشون ) ( أي يبنون ويسقفون تجبرا وتكبرا . < < الأعراف : ( 138 ) وجاوزنا ببني إسرائيل . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم ) أي : يلازمون عبادة تلك الأصنام ، وهم قوم من العمالقة رآهم بنو إسرائيل عاكفين على أصنام لهم ( ^ قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ) ولم يكن ذلك من بني إسرائيل شكا في وحدانية الله - تعالى - وإنما معناه : اجعل لنا شيئا نعظمه ونتقرب بتعظيمه إلى الله - تعالى - وظنوا أن ذلك لا يضر الديانة ، وكان ذلك من شدة جهلهم .
( ^ قال إنكم قوم تجهلون < < الأعراف : ( 139 ) إن هؤلاء متبر . . . . . > > إن هؤلاء متبر ما هم فيه ) أي : مدمر ما هم فيه ( ! ( وباطل ما كانوا يعملون ) { < الأعراف : ( 140 ) قال أغير الله . . . . . > > قال ) يعني : موسى ( ^ أغير الله أبغيكم إلها ) أي : أطلب لكم إلها تعظمونه غير الله ( ^ وهو فضلكم على العالمين ) وفي الخبر المعروف : ' أن رسول الله لما رجع من حنين مر على شجرة يقال لها : ذات أنواط ، وقد عكف حولها قوم من الأعراب يعظمونها ، وقد علقوا عليها أسلحتهم ، فقال أصحابه : يا رسول الله ، لو جعلت لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال : عليه - الصلاة والسلام - الله أكبر ، هذا مثل ما قال قوم موسى لموسى : ( ^ اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ) .
____________________

( ^ فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ( 141 ) وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ) * * * * < < الأعراف : ( 141 ) وإذ أنجيناكم من . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ) أي : يذيقونكم شر العذاب ، وقد ذكرنا معنى هذا في سورة البقرة .
( ^ يقتلون أبناءكم ) يعني : صغار أبناءكم ( ^ ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ) قيل معناه : في تعذيبهم إياكم بلاء من ربكم عظيم ، وقيل : في إنجائنا إياكم ( ^ بلاء من ربكم عظيم ) أي : نعمة . < < الأعراف : ( 142 ) وواعدنا موسى ثلاثين . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتتمناها بعشر ) قال المفسرون : هي أيام ذي القعدة وعشر من ذي الحجة ( ^ فتم ميقات ربه أربعين ليلة ) فإن قيل : ذكر الثلاثين والعشر يغني عن ذكر الأربعين ، فما معنى هذا التكرار ؟ قيل : كرره تأكيداً ، وقيل : فائدة قوله : ( ^ فتم ميقات ربه أربعين ليلة ) قطع الأوهام عن الزيادة ؛ لأنه لما وقت الثلاثين أولا ، ثم زاد عليه عشرا ، ربما يقع في الأوهام زيادة أخرى ، فذكره لقطع الأوهام عن الزيادة ، وذكر الثلاثين في الابتداء والعشر مفصلا : ليعلم أن الميقات كان كذلك مفصلا ثلاثين ذي القعدة وعشرا من ذي الحجة .
وفي القصة : أن الله تعالى أمر موسى أن يصوم ثلاثين يوما ثم يأتي الطور يكلمه ؛ فصام ثلاثين يوما ليلا ونهارا .
وفي بعض التفاسير : صام ثلاثين يوما فتغيرت رائحة فمه ، فأخذ ورق الخرنوب وتناوله ؛ لتزول رائحة فمه ، فأمره الله تعالى أن يصوم عشرا أخر ؛ لتعود الرائحة ، وتمام القصة في الآية الثانية .
( ^ وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي ) استخلفه على قومه ( ^ وأصلح ) أي : ارفق ( ^ ولا تتبع سبيل المفسدين ) أي : لا تتبع آراءهم وأهواءهم .
____________________

( ( 142 ) ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر ) * * * * < < الأعراف : ( 143 ) ولما جاء موسى . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ ولما جاء موسى لميقاتنا ) يعني الوقت الذي وقت له على ما بينا ( ^ كلمه ربه ) وفي القصة : أن الله - تعالى - لما استحضره بجانب الطور [ و ] أنزل ظلمة على سبعة فراسخ ، وطرد عنه الشيطان ، ونحى عنه الملكين ، وكلمه حتى أسمعه وأفهمه . وفي القصة : كان جبريل معه فلم يسمع ما كلمه ربه .
( ^ قال رب أرني أنظر إليك ) قال الزجاج : فيه حذف ، وتقديره أرني نفسك أنظر إليك . فإن قال قائل : كيف سأل الرؤية وقد علم أن الله عز وجل لا يرى في الدنيا ؟ قال الحسن : هاج به الشوق ؛ فسأل الرؤية . وقيل : سأل الرؤية ظنا منه أنه يجوز أن يرى في الدنيا .
( ^ قال لن تراني ) يستدل من ينفي الرؤية بهذه الكلمة ، وليس لهم فيها مستدل ؛ وذلك لأنه لم يقل : إني لا أرى ؛ متى يكون حجة لهم ؛ ولأنه لم ينسبه إلى الجهل في سؤال الرؤية ، كما نسب إليه قومه بقولهم : ' اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ' لما لم يجز ذلك ، وأما معنى قوله ( ^ لن تراني ) يعني : في الحال أو في الدنيا .
( ^ ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني ) معناه : اجعل الجبل بيني وبينك ؛ فإنه أقوى منك ، فإن استقر مكانه فسوف تراني ؛ وفي هذا دليل على أنه يجوز أن يرى ؛ لأنه لم يعلق الرؤية بما يستحيل وجوده ؛ لأن استقرار الجبل مع تجليه له غير مستحيل ، بأن يجعل له قوة الاستقرار مع التجلي .
( ^ فلما تجلى ربه للجبل ) أن ظهر للجبل : قيل : إنه جعل للجبل بصرا وخلق فيه حياة ، ثم تجلى له فتذكرك على نفسه . وروى حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس عن النبي أنه قال : ' إن الله - تعالى - تجلى للجبل بقدر أنملة الخنصر ، ثم وضع ثابت إبهامه على أنملة خنصره ، فقيل له : أتقول بهذا ؟ فقال : يقول به أنس ورسول الله ، ولا
____________________

( ^ موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين ( 143 ) قال يا موسى ) * * * * أقول به أنا ! : وضرب في صدر القائل ' وفي بعض الروايات ' أنه تجلى للجبل بقدر جناح بعوضة أو أقل ' .
( ^ جعله دكا ) قال ابن عباس : صار ترابا . وقال الحسن وسفيان : ساخ في الأرض ، وفي بعض التفاسير : أنه صار ستة أجبل : ثلاثة بمكة : وذلك ثور وثبير وحراء ، وثلاثة بالمدينة : رضوى وأحد وورقان ، وقيل : انقلع الجبل من أصله ، ووقع في البحر ، فهو يذهب فيه إلى يوم القيامة .
وأما من حيث اللغة : قال الزجاج : معنى قوله : ( ^ جعله دكا ) أي : مدكوكا مدقوقا ، وقرأ حمزة والكسائي : ' جعله دكاء ' ممدودا ، يقال : أرض دكاء إذا كان فيها ناتئ ومواضع مرتفعة كالقلال ، والدكاوات : الرواسي من الأرض ، ومعناه : أنه جعله كالأرض المرتفعة ، وخرج من كونه جبلا .
وقوله : ( ^ وخر موسى صعقا ) قال قتادة : أي ميتا ، وكان قد مات تلك الساعة . وقال الحسن وابن عباس : خر مغشيا عليه . وهذا أليق بالنظم ؛ لأنه قال ( ^ فلما أفاق قال سبحانك ) وهذا التنزيه . ( ^ تبت إليك ) يعني : من سؤال الرؤية قبل الإذن ( ^ وأنا أول المؤمنين ) يعني أنا أول المؤمنين بأن من يراك متجليا في الدنيا لا يستقر مكانه ، وقيل معناه : أنا أول المؤمنين بأنك لا ترى في الدنيا .
____________________

( ^ إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين ( 144 ) وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتصفيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك ) * * * * < < الأعراف : ( 144 ) قال يا موسى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي ) فإن قال قائل : قد أعطى غيره الرسالات ، فما معنى قوله : ( ^ اصفيتك على الناس برسالاتي ) ؟ قيل : لما لم يكن إعطاء الرسالة على العموم في حق الناس ، استقام قوله : ( ^ اصطفيتك على الناس برسالاتي ) وإن شاركه فيها غيره ، وهذا مثل قول الرجل : خصصتك بمشورتي ، وإن شاور غيره ، لكن لما تكن المشاورة على العموم ؛ استقام الكلام . ( ^ فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين ) لما أنعمت عليك من إعطاء الرسالة والكلام ، وهذه الآية في تسلية موسى - صلوات الله عليه - حيث سأل الرؤية فلم يحظ بها . < < الأعراف : ( 145 ) وكتبنا له في . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وكتبنا له في الألواح ) وأراد به التوراة ، وفي الخبر : ' أن الله - تعالى - خلق آدم بيده ، وكتب التوراة بيده ، وغرس شجرة طوبى بيده ' .
واختلفوا في تلك الألواح ، قال الحسن : كانت الألواح من خشب ، وقال مجاهد : كانت من زبرجد أخضر ، وقال سعيد بن جبير : كانت من ياقوتة حمراء ، وقال أبو العالية : كانت من برد . وقيل : نزلت الألواح والتوراة مكتوبة عليها كنقش الخاتم .
( ^ من كل شي موعظة ) أي : تذكرة ، وحقيقة الموعظة : هي التذكير والتحذير مما يخاف عاقبته . ( ^ وتفصيلا لكل شيء ) أي : بيانا للحلال والحرام وما أمروا به ، وما نهو عنه ( ^ فخذها بقوة ) أي : بجد واجتهاد ، وقيل معناه : بقوة القلب .
( ^ وأمر قومك يأخذوا بأحسنها ) قال قطرب : أي : بحسنها . واعلم أن الأحسن ما
____________________

( ^ يأخذوا بأحسنها سأريكم دار الفاسقين ( 145 ) سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين ( 146 ) والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا ) * * * * كان فيه من الفرائض المكتوبة والنوافل المندوب إليها فإنها الأحسن ، وأما الحسن : ما كان مباحا ، وقيل : معنى قوله : ( ^ يأخذوا بأحسنها ) أي : بأحسن الأمرين في كل شيء ، كالعفو أحسن من الاقتصاص ، والصبر أحسن من الانتصار ( ^ سأريكم دار الفاسقين ) وقرأ قسامة بن زهير : ' سأورثكم ' من التوريث ، فعلى هذا معناه : سأورثكم أرض مصر ، وأما القراءة المعروفة ' سأريكم ' قال مجاهد وجماعة : سأريكم جهنم ، وقيل : أراد به مصارع الكفار . قال قتادة : دار الفاسقين أراد بها الشام ؛ على معنى : أريكم فيها ما أهلكت من قرى الكفار قبلكم ؛ لأن موسى خرج بهم إلى الشام . < < الأعراف : ( 146 ) سأصرف عن آياتي . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق ) قال سفيان بن عيينة معناه : سأمنعهم فهم القرآن ، قال الزجاج تقديره : سأصرفهم عن قبول آياتي ، وأما التكبر : هو طلب الفضل من غير استحقاق .
( ^ وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا ) وقرأ أبو عبد الرحمن عبد الله بن يزيد المقرئ : ' سبيل الرشاد ' المعدوف : ' سبيل الرشد ' ويقرأ أيضا : ' سبيل الرشد ' والرشد والرشد واحد ، وهو الصلاح .
( ^ وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ) يعني : سبيل الضلالة ( ^ ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين ) لأنهم لما لم يتدبروا القرآن فكأنهم عنه غافلين < < الأعراف : ( 147 ) والذين كذبوا بآياتنا . . . . . > > ( ^ والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم ) أي : بطلت أعمالهم ( ^ هل يجزون إلا ما كانوا يعملون ) . < < الأعراف : ( 148 ) واتخذ قوم موسى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم ) ويقرأ : ' من حليهم '
____________________

( ^ يعملون ( 147 ) ) واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين ( 148 ) ولما سقط في يديهم ) * * * * ( ^ عجلا جسدا له خوار ) أي : جسد له خوار ، ويقرأ في الشواذ : ' له جؤار ' وهو بمعنى الخوار ، وفي القصة : أن موسى - صلوات الله عليه - لما أراد الخروج إلى الطور قال لقومه : أرجع إليكم بعد ثلاثين يوما ، فلما لم يرجع إليهم بعد الثلاثين ظنوا أنه مات ، كان السامري في بني إسرائيل مطاعا بينهم ، وكان صائغا ، فقال لهم : اجمعوا لي ما أخذتم من الحلي من آل فرعون أصنع لكم شيئا ، فدفعوا إليه ما أخذوا من الحلي فصاغ منه العجل ، قال الحسن : كان السامري قد رأى جبريل يوم غرق فرعون على فرس ، فأخذ قبضة من أثر قدم فرسه .
قال عكرمة : ألقي في روعه أنه في أي شيء ألقى تلك القبضة من التراب يحيا بها ذلك الشيء ، وذلك أنه رأى مواضع قدم الفرس تحضر في الحال وتنبت ، فلما صاغ العجل ألقي في روعه أن يلقي تلك القبضة في فمه فألقاها في فم العجل فحيي ، فصار لحما ودما من ذهب ، وله خوار فإنه خار ، ثم قال السامري : ( ^ هذا إلهكم وإله موسى فنسي ) على ما سيأتي في قصته في سورة طه ، وقيل : إنه ما خار إلا مرة ، وقيل كان يخور كثيرا ، كما تخور البقرة ، وكان كلما خار سجدوا له ، وكلما سكت رفعوا رءوسهم .
وقال بعض المفسرين : لم تنبت فيه حياة أصلا ، ولم يكن له خوار حقيقة ، وإنما الذي سمعوا من الخوار كان بحيلة ، والصحيح هو الأول . ثم اختلفوا في عدد الذين عبدوا العجل ، قال الحسن : كلهم عبدوه إلا هارون وحده ، وقيل : - وهو الأصح - : عبده كلهم إلا هارون واثنا عشر ألف رجل منهم .
( ^ ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا ) وهذا دليل على أن الله متكلم لم يزل ولا يزال ؛ لأنه استدل بعدم الكلام من العجل على نفي الإلهية .
____________________

( ^ ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين ( 149 ) ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القوم استضعفوني ) * * * *
( ^ ولا يهديهم سبيلا ) أي : طريقا ( ^ اتخذوه وكانوا ظالمين ) بوضع الإلهية في غير موضعها . < < الأعراف : ( 149 ) ولما سقط في . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا ) قال الفراء : تقول العرب : سقط فلان في يده إذا بقي نادما متحيرا على ما فاته ، كأنه حصل الندم في يده ( ^ قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين ) . < < الأعراف : ( 150 ) ولما رجع موسى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا ) قال أبو الدرداء : الأسف : شديد الغضب ، وقيل : الأسف : أشد الحزن ، وكأن موسى رجع نادما حزينا يقول : ليتني كنت فيهم فلم يقع لهم ما وقع .
( ^ قال بئسما خلفتموني من بعدي ) أي : ( بئسما فعلتم خلفي ) ( ^ أعجلتم أمر ربكم ) معناه : أسبقتم أمرربكم ، يعني : بفعلكم الذي فعلتم من غير أمر ربكم ، وقيل معناه : استعجلتم وعد ربكم .
( ^ وألقى الألواح ) وكان حاملا لها ، فألقاها على الأرض من شدة الغضب ، وفي التفسير : أنه لما ألقاها رجع بعضها إلى السماء وبقي منها لوحان ، فرجع ما كان فيه أخبار الغيب ، وبقي ما كان فيه الموعظة والأحكام من الحلال والحرام ، وقيل : لما ألقى الألواح انكسر بعضها ، فشدها موسى بالذهب ( ^ وأخذ برأس أخيه ) يعني : هارون ، وفيه حذف ، وتقديره : وأخذ بشعر رأس أخيه ( ^ يجره إليه قال ابن أم ) يعني هارون قال لموسى : ابن ام ، ويقرأ بكسر الميم ونصبها ، فأما بكسر الميم معناه يا ابن أمي ، قال الشاعر :
____________________

( ^ وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم لظالمين ( 150 ) قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين ( 151 ) إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين ( 152 ) ) * * * *
( يا ابن امي ويا شقيق نفسي ** أنت خلفتني لأمر كؤود )
واما بنصب الميم ، فوجه النصب فيه أن قوله : ' ابن ام ' كلمتان ، لكنهما ككلمة واحدة ، مثل قولهم : ' حضرموت ' و ' بعلبك ' ركب أحد الاسمين في الآخر ، فبقي على النصب تبيينا .
( ^ إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني ) وفي القصة : أن هارون كان لما مضى ميقات الثلاثين يقوم بينهم خطيبا ، فيخطب كل يوم ويبكي ، ويقول : أنشدكم بالله لا تعبدوا العجل ، فإن موسى راجع غدا - إن شاء الله - فهكذا كان يفعل ثلاثة أيام ، فلما لم يرجع بعد الثلاث قالوا : إنه قد مات ، فخلوه ، وأقبلوا على عبادة العجل ، فهذا معنى قوله : ( ^ إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ) والشماتة فعل ما يسر به العدو ( ^ ولا تجعلني مع القوم الظالمين ) أي : لا تجعلني مع الكافرين ومن جملتهم . < < الأعراف : ( 151 ) قال رب اغفر . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال رب اغفر لي ولأخي ) يعني ما فعلت بأخي من أخذ شعره ، وجره ، وكان بريئا ، قوله : ( ^ ولأخي ) يعين : ما وقع له من تقصيره إن قصر ( ^ وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين ) . < < الأعراف : ( 152 ) إن الذين اتخذوا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن الذين اتخذوا العجل ) فيه حذف ، وتقديره : اتخذوا العجل إلها ( ^ سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا ) قيل : أراد بالذلة الجزية ، وقيل : أراد قيل بعضهم بعضا مع علمهم أنهم قد ضلوا ( ^ وكذلك نجزي المفترين ) أي : كل مفتر على الله ، ومن القول المعروف في الآية عن سفيان بن عيينة أنه قال : هذا في كل مبتدع إلى يوم القيامة .
____________________

( ^ والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ( 153 ) ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون ( 154 ) واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال ) * * * * < < الأعراف : ( 153 ) والذين عملوا السيئات . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك من بعدها ) أي : من بعد التوبة ( ^ لغفور رحيم ) . < < الأعراف : ( 154 ) ولما سكت عن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولما سكت عن موسى الغضب ) وقرأ معاوية بن قرة : ' ولما سكن عن موسى الغضب ' وفي مصحف ابن مسعود وأبي بن كعب : ' ولما سير عن موسى الغضب ' وفي مصحف حفصة : ' وإنما أسكت عن موسى الغضب ' ومعنى الكل واحد أي : سكن عن موسى الغضب . والسكوت والإسكات معروف ، ويقال : رجل سكيت إذا كان كثير السكوت .
( ^ أخذ الألواح ) وذلك أنه كان ألقاها فأخذها ( ^ وفي نسختها ) اختلفوا فيه ، قال بعضهم : أراد بها الألواح ؛ وذلك أن لها أصل نسخت منه ، وهو اللوح المحفوظ ، وقيل : إن موسى لما ألقى الألواح انكسرت ، فنسخ منها نسخة أخرى ، فذلك المراد به من قوله : ( ^ وفي نسختها هدى ورحمة ) أي : هدى من الضلالة ، ورحمة من العذاب ( ^ للذين هم لربهم يرهبون ) . < < الأعراف : ( 155 ) واختار موسى قومه . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ واختار موسى قومه ) فيه حذف ، أي : من قومه ( ^ سبعين رجلا لميقاتنا ) وفي هذا دليل على أن كلهم لم يعبدوا العجل - وهو الأصح - واختلفوا أنه لأي شيء اختارهم ؟ قال بعضهم : إنما اختارهم ليعتذروا إلى الله من عبادة أولئك الذين عبدوا العجل ، وقيل : إنما اختارهم ليسمعوا كلام الله ؛ فإنهم سألوا ذلك موسى ( ^ فلما أخذتهم الرجفة ) قال مجاهد : رجفت بهم الأرض ؛ فماتوا ، وقيل : وقعت رعدة وزلزلة في أعضائهم ، حتى كاد ينفصل بعضها من بعض ، وقيل : إنما أهلكهم عقوبة على ما سألوا من رؤية الله جهرة .
____________________

( ^ رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين ( 155 ) واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من ) * * * *
( قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي ) وذلك أن موسى ظن أن الله - تعالى - إنما أهلكهم بعبادة أولئك القوم العجل ، وخاف أن بني إسرائيل يتهمونه ، ويقولون : إن موسى قتلهم ؛ قال : ( ^ رب لو شئت أهلكتهم من قبل ) يعني : عندعبادة العجل قبل أن آتي بهم ( ^ وإياي ) بقتل القبطي الذي كان موسى قتله ، وقيل : أراد به المشيئة الأزلية ، كأنه فوض إهلاكهم إلى مشيئته ، أي : لو شئت في الأزل أهلكتهم وإياي ومن في العالم ، فلا اعتراض لأحد عليك .
( ^ أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ) اختلفوا فيه أنه كيف قال : أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ، وكان يعلم أن الله - تعالى - لا يهلك أحداً بذنب غيره ؟ فقال بعضهم : هذا استفهام بمعنى الجحد ، وهو قول ابن الأنباري أي : لا تهلكنا بفعل السفهاء ، وهذا مثل قول الرجل لصاحبه : أتجهل علي وأنا أحلم ؟ ! أي : لا أحلم ، ويقال في المثل : أغدة كغدة البعير ؟ وموت في بيت السلولية ؟ أي : لا يكون هذا قط ، وقال الشاعر :
( أتنسى حين تصقل عارضيها ** بعود بشامة سقي البشام )
أي : لا تنسى ، وقيل : هو استفهام بمعنى الإثبات ، والمراد منه السؤال ، كأنه يسأله أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ؟ .
( ^ إن هي إلا فتنتك ) أي : بليتك ( ^ تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين ) . < < الأعراف : ( 156 ) واكتب لنا في . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ واكتب لنا ) أي : أوجب لنا ( ^ في هذه الدنيا حسنة ) وهي
____________________

( ^ أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون ( 156 ) الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في ) * * * * النعمة والعافية ( ^ وفي الآخرة ) أي : وفي الآخرة حسنة ، فحذف .
( ^ إنا هدنا إليك ) أي : تبنا إليك ، وقرأ أبو وجزة السعدي : ' هدنا إليك ' بكسر الهاء ، أي : ملنا إليك ( ^ قال عذابي أصيب به من أشاء ) وهذا على وفق قول أهل السنة ؛ فإن لله - تعالى - أن يصيب بعذابه من يشاء من عباده أذنب أو لم يذنب ، وصحف بعض القدرية ، فقرأ : ' عذابي أصيب به من أساء ' من الإساءة ، وليس بشيء .
( ^ ورحمتي وسعت كل شيء ) قال الحسن وقتادة : وسعت رحمته البر والفاجر في الدنيا ، وهي للمتقين يوم القيامة ، وفي الآثار : الرحمة مسجلة للبر والفاجر في الدنيا .
( ^ فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون < < الأعراف : ( 157 ) الذين يتبعون الرسول . . . . . > > الذين يتبعون الرسول النبي الأمي ) وهذه فضيلة عظيمة لهذه الأمة ، وذلك أن موسى - صلوات الله عليه - سأل أن يكتب الرحمة له ولأمته ، فكتبها لأمة محمد وفي الأخبار : ' أن موسى - صلوات الله عليه - قال : يا رب ، إني أجد في التوراة أمة يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، ويؤمنون بالله ، فاجعلهم من أمتي ، قال الله - تعالى - : تلك أمة أحمد . فقال : يا رب إني أجد في التوراة أمة صدقاتهم في بطونهم - يعني : يأكلها فقراؤهم ، وكانت صدقات قومه ومن قبلهم تأكلها النار - فاجعلهم من أمتي ، فقال - تعالى - : تلك أمة احمد . فقال : يا رب ، إني أجد في التوراة أمة هم آخر الناس خروجا ، وأول الناس في الجنة دخولا ، فاجعلهم من أمتي . فقال : تلك أمة أحمد . فقال : يا رب ، إني أجد في التوراة أمة أناجيلهم في صدورهم ، يراعون الشمس والأوقات لذكرك ، فاجعلهم من أمتي . فقال : تلك أمة أحمد . فقال : يا رب ، إني أجد
____________________

( ^ التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون ( 157 ) قل يا أيها ) * * * * في التوراة أمة إذا هم أحدهم بحسنة كتبتها له حسنة ، وإن عمل بها كتبتها له عشرا إلى سبعمائة ضعف ، وإذا هم بسيئة لم تكتبها ( عليه ) ، فإن عمل بها كتبتها عليه واحدة ، اجعلهم من أمتي ، فقال : تلك أمة أحمد . فألقى الألواح ، وقال : اللهم اجعلني من أمة محمد ' . وهذا قول آخر ، ذكر في سبب إلقائه الألواح ، والأول أظهر .
قوله تعالى : ( ^ الذين يتبعون الرسول النبي الأمي ) هو محمد وقد بينا معنى الأمي فيما سبق .
( ^ الذي يجدونه مكتوبا ) أي : موصوفا ( ^ عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ) يعني : ما حرمه الكفار من السوائب والوصائل والبحائر والحوامي ، ونحو ذلك ( ^ ويحرم عليهم الخبائث ) وذلك مثل : الميتة والدم ولحم الخنزير ونحوه ( ^ ويضع عنهم إصرهم ) الإصر : كل ما يثقل على الإنسان من قول أو فعل ، والإصر : العهد الثقيل : وإصرهم : أن الله - تعالى - جعل توبتهم بقتلهم أنفسهم ( ^ والأغلال التي كانت عليهم ) وذلك مثل ما كان عليهم من قرض موضع النجاسة عن الثوب بالمقراض ، ولا يجزئهم غسلها ، وأنه كان لا تجوز صلاتهم إلا في الكنائس ، وأنه لا يجوز لهم أخذ الدية عن القتيل بل كان يتعين القصاص ، وكان يجب عليهم قطع الجوارح الخاطئة لا يسعهم غير ذلك ، فسماها أغلالا ؛ لأنها كانت كالطوق في عنقهم .
( ^ فالذين آمنوا به ) أي : بمحمد ( ^ وعزروه ) أي : عظموه ( ^ ونصروه واتبعوا
____________________

( ^ الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون ( 158 ) ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ( 159 ) وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر ) * * * * النور الذي أنزل معه ) وهو القرآن ( ^ أولئك هم المفلحون ) . < < الأعراف : ( 158 ) قل يا أيها . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السموات والأرض لا إله لا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته ) يعني : محمدا يؤمن بالله وبالقرآن ويقرأ : ' وكلمته ' قيل : هي القرآن أيضا ، وقال بعضهم : أراد بالكلمة : عيسى - صلوات الله عليه - ( ^ واتبعوه لعلكم تهتدون ) . < < الأعراف : ( 159 ) ومن قوم موسى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ) روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال : هؤلاء قوم بأقصى الشرق وراء الصين عند مطلع الشمس ، كانوا على شريعة موسى - صلوات الله عليه - إلى أن بعث محمد فلما بعث محمد آمنوا به ، وكانوا على الحق من لدن موسى إلى زمان محمد عليهما السلام - وقيل : هم الذين أسلموا في زمن النبي من اليهود مثل ( ابن ) صوريا ، وابن سلام ، ونحوهما ، والأول أظهر .
وقوله : ( ^ وبه يعدلون ) أي : يقومون بالحق والعدل . < < الأعراف : ( 160 ) وقطعناهم اثنتي عشرة . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما ) أي : فرقناهم فرقا ، وقوله : ( ^ اثنتي عشرة ) يقال في اللغة : اثنتي عشرة بكسر الشين وبجزم الشين ، والجائز في القرآن بجزم الشين ، فإن قيل : لم لم يقل : اثني عشر أسباطا على التذكير ؟ قيل : إنما ذكره على التأنيث لأنه يرجع إلى الأمم .
____________________

( ^ فانبجست منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ( 160 ) وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين ( 161 ) فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون ( 162 ) ) * * * *
قالوا : وفي الآية تقديم وتأخير ، وتقديرها . وقطعناهم أسباطا أمما اثنتي عشرة ، وقيل فيه حذف ، وتقديره : وقطعناهم اثنتي عشرة فرقة أسباطا أمما ، فيكون بدلا عن الفرقة ، وقد بينا أن الأسباط في بني إسحاق كالقبائل في بني إسماعيل ، وأنشدوا في السبط :
( علي والثلاثة من بنيه ** هم الأسباط ليس بهم خفاء )
( فسبط سبط إيمان وبر ** وسبط غيبته كربلاء )
أي : كرب وبلاء .
( ^ وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر ) وقد بينا هذا في سورة البقرة .
( ^ فانبجست منه اثنتا عشرة عينا ) أي : انفجرت ( ^ قد علم كل أناس مشربهم وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) وقد سبق تفسيره في سورة البقرة . < < الأعراف : ( 161 ) وإذ قيل لهم . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطاياكم ) ويقرأ : ' خطيئاتكم ' وكلاهما واحد ( ^ سنزيد المحسنين ) وقد بينا هذا أيضا في سورة البقرة . < < الأعراف : ( 162 ) فبدل الذين ظلموا . . . . . > >
( ^ فبدل الذين ظلموا ) قد بينا معنى هذا التبديل ( ^ منهم قولا غير الذي قيل
____________________

( ^ واسئلهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون ( 163 ) وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ) * * * * لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السماء ) أي عذابا من السماء ( ^ بما كانوا يظلمون ) . < < الأعراف : ( 163 ) واسألهم عن القرية . . . . . > >
قوله تعالى ( ^ واسألهم عن القرية ) هذا سؤال توبيخ وتقريع لا سؤال استعلام ، واختلفوا في تلك القرية ، قال ابن عباس : هي الأيلة . وقال الزهري : هي طبرية الشام . وقيل : إنها مدين ( ^ التي كانت حاضرة البحر ) أي : مجاورة البحر ( ^ إذ يعدون في السبت ) أي : يجاوزون أمر الله في السبت ، وكان الله - تعالى - حرم عليهم أن يعملوا في السبت عملا سوى العبادة .
( ^ إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ) أي : ظاهرة ، قاله ابن عباس ، ومنه الشوارع لظهورها ، وقيل : هو من الشروع ، وهو الدخول ، فيكون معناه أن تلك القرية كان بجنبها خليج البحر ، فتدخله الحيتان يوم السبت ولا تدخله في سائر الأيام . وفي القصة : أنها كانت تأتيهم مثل الكباش السمان البيض يوم السبت تشرع إلى أبوابهم ، ثم لا يرى شيء منها في غير يوم السبت فذلك قوله : ( ^ ويوم لا يسبتون لا تأتيهم ) وقرأ الحسن : ' لا يسبتون ' بضم الياء ، أي : لا يدخلون في السبت ، والمعروف : ' لا يسبتون ' ومعناه : لا يعظمون السبت ، يقال : ( أسبت ) إذا دخل السبت ، وسبت إذا عظم السبت ، يعني : ويوم لا يعظمون السبت ( ^ لا تأتيهم ) وعلى قراءة الحسن : ويوم لا يدخلون السبت لا تأتيهم ، وكان ذلك ابتلاء من الله - تعالى - لهم كما قال : ( ^ كذلك نبلوهم ) أي : نختبرهم ( ^ بما كانوا يفسقون ) . < < الأعراف : ( 164 ) وإذ قالت أمة . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما ) وفي القصة : أنهم احتالوا بحيلة الاصطياد ؛ فكانوا يضعون الحبال يوم الجمعة حتى تقع فيها الحيتان يوم السبت ، ثم يأخذونها يوم الأحد ، وقيل : إن الشيطان وسوس إليهم أن الله - تعالى -
____________________

( ^ ربكم ولعلهم يتقون ( 164 ) فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون ( 165 ) فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم ) * * * * لم ينهاكم عن الاصطياد في هذا اليوم وإنما نهاكم عن الأكل ، فاصطادوا يوم السبت ، ثم افترقوا على ثلاث فرق : فرقة اصطادت ، وفرقة نهت وأمرت بالمعروف ، وفرقة سكتت ؛ فقالت الفرقتان للفرقة العاصية : لا نساكنكم قرية عصيتم الله فيها ؛ فاعتزلنا القرية وخرجوا ، فلما أصبحوا جاءوا إلى باب القرية ، فلم يفتحوا لهم الباب ؛ فجاءوا بسلم ، فلما صعدوا بالسلم ، رأوهم قد مسخوا قردة ، قال قتادة : كانت لهم أذناب يتعادون .
فقوله : ( ^ وإذ قالت أمة منهم ) هي الفرقة الساكتة ، قالت للفرقة الناهية : ( ^ لم تعظون قوما ) يعني : الفرقة العاصية ( ^ الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ) أي : موعظتنا معذرة ، وذلك أنا قد أمرنا بالأمر بالمعروف ، فنأتهم هذا الأمر وإن لم يقبلوا ؛ حتى يكون ذلك لنا عذرا عند الله - تعالى - ويقرأ ' معذرة ' بالنصب ، أي : نعتذر معذرة إلى ربكم ( ^ ولعلهم يتقون ) . < < الأعراف : ( 165 ) فلما نسوا ما . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فلما نسوا ما ذكروا به ) أي : تركوا ما ذكروا به ، قيل : كانوا يصطادون سبعة أيام ، وقيل : كانوا قد اصطادوا يوما واحدا .
( ^ أنجينا الذين ينهون عن السوء ) يعني : الفرقة الناهية ( ^ وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس ) يعني : الفرقة العاصية ، فأخذناهم بعذاب بئيس على وزن فعيل . وبئس على وزن فعل ، وبئس على وزن فعلل ، والكل واحد ، ومعناه : بعذاب شديد ، قال ابن عباس : بعذاب لا رحمة فيه .
( ^ بما كانوا يفسقون ) قال ابن عباس : أدري أن الفرقة العاصية قد هلكت ، وأن الفرقة الناهية قد نجت ، ولا أدري ما حال الفرقة الساكتة .
قال عكرمة : ما زلت أنزله - يعني : من الآيات درجة درجة - وأبصره - يعني : ابن عباس - حتى قال : نجت الفرقة الساكتة ، وكساني بذلك حلة . فإن عكرمة كان
____________________

( ^ كونوا قردة خاسئين ( 166 ) وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم ( 167 ) وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون ) * * * * يكلمه في الآية ، ويستدل بظاهرها ؛ حتى ظهر الدليل لابن عباس على نجاة الفرقة الساكتة ، ومن الدليل عليه في ظاهر الآية أنه قال : ( ^ فلما نسوا ما ذكروا به ) وتلك الفرقة لم ينسوا ذلك ، والثاني أنه قال : ( ^ أنجينا الذين ينهون عن السوء ) والفرقة الساكتة قد نهوا نهي تحذير بقولهم : لم تعظون قوما الله مهلكهم .
والثالث أنه قال : ( ^ وأخذنا الذين ظلموا ) يعني : بالاصطياد يوم السبت ؛ وهم ما ظلموا بالاصطياد ، قال الحسن البصري : نجت الفرقتان ، وهلكت واحدة . < < الأعراف : ( 166 ) فلما عتوا عن . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين ) وهذا أمر تكوين ، وقوله : ( ^ خاسئين ) أي : مبعدين . < < الأعراف : ( 167 ) وإذ تأذن ربك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإذ تأذن ربك ) أي : أعلم ربك ، قال الشاعر :
( تأذن إن شر الناس حي ** ينادي من شعارهم يسار )
وقال الزجاج : معناه : تألى ربك وحلف ( ^ ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب ) أي : يذيقهم سوء العذاب ، وهو الجزية ، وقيل : هو قتل بختنصر إياهم فإن قال قائل : كيف يبعث عليهم العذاب ، وقد أهلكهم ؟ وقيل : أراد به على أبنائهم ، ومن يأتي بعدهم ( ^ إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم ) . < < الأعراف : ( 168 ) وقطعناهم في الأرض . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وقطعناهم في الأرض أمما ) أي : فرقناهم فرقا ، ومعناه : شتتنا أمر اليهود فلا يجتمعون على كلمة واحدة ( ^ منهم الصالحون ) يعني : الذين أسلموا منهم ( ^ ومنهم دون ذلك ) يعني الذين بقوا على الكفر .
( ^ وبلوناهم ) أي : اختبرناهم ( ^ بالحسنات والسيئات ) أي : بالخصب والجدب والخير والشر ( ^ لعلهم يرجعون ) .
____________________

( ( 168 ) فخلف من بعدهم خلف ورثوا لكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون ( 169 ) ) * * * * < < الأعراف : ( 169 ) فخلف من بعدهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فخلف من بعدهم خلف ) اعلم أن الخلف يقال في الذم والمدح جميعا ، لكن عند الإطلاق الخلف للمدح ، والخلف للذم ، قال الشاعر :
( لنا لقدم الأولى إليك وخلفنا ** لأولنا في طاعة لله تابع )
وهاهنا للذم ، وأراد به أبناء الذين سبق ذكرهم من أصحاب السبت ( ^ ورثوا الكتاب ) يعني : انتقل إليهم الكتاب ( ^ يأخذون عرض هذا الأدنى ) أي : حطام الدنيا ، وإنما سميت الدنيا دنيا ؛ لأنها أدنى إلى الخلق من الآخرة ؛ ولذلك قال : ( ! ( عرض هذا الأدنى ) ! ويقولون سيغفر لنا ) وهذا اغترار منهم بالله - تعالى - وفي الحديث : ' الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والفاجر من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله المغفرة ' ( ^ وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ) قال مجاهد : وصفهم بالإصرار على الذنب ، وقيل معناه : إنهم يأخذون أخذا بعد أخذ لا يبالون من حلال كان أو من حرام ، بل يأخذون من غير تفتيش .
( ^ ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق ) أي : أخذ عليهم العهد ألا يقولوا على الله الباطل في التوارة ( ^ ودسوا ما فيه ) أي : علموا ذلك فيه بالدرس ، قاله الضحاك ، ودرس الكتاب : قراءته مرة بعد أخرى ( ^ والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون ) .
____________________

( ^ والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين ( 170 ) وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون ( 171 ) وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ) * * * * < < الأعراف : ( 170 ) والذين يمسكون بالكتاب . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة ) قيل : هذا في أمة محمد وقيل : هو فيمن أسلم من اليهود ، يمسكون بالقرآن ، وأقاموا الصلاة ( ^ إنا لا نضيع أجر المصلحين ) . < < الأعراف : ( 171 ) وإذ نتقنا الجبل . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة ) نتقنا أي : رفعنا الجبل فوقهم ، وقد ذكر هذا في سورة البقرة ( ^ وظنوا أنه واقع بهم ) يعني : وأيقنوا ، والظن : اليقين : وقيل : غلب على ظنهم أنه واقع بهم ( ^ خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون ) وقد ذكرنا القصة في سورة البقرة . < < الأعراف : ( 172 ) وإذ أخذ ربك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ) في الآية نوع إشكال ، وشرحها وتفسيرها في الأخبار ، روى مالك في الموطأ بإسناده عن مسلم بن يسار الجهني عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه سئل عن هذه الآية ، فقال : سمعت رسول الله يقول : ' إن الله - تعالى - مسح ظهر آدم ، فاستخرج منه ذرية ، وقال : هؤلاء في الجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ، ثم مسح ظهر آدم فاستخرج ذرية ، وقال : هؤلاء أهل النار ، وبعمل أهل النار يعملون ، فقيل : يا رسول الله ، ففيم العمل إذا ؟ فقال : إن الله - تعالى - إذا خلق للجنة أهلا استعملهم بعمل أهل الجنة حتى يدخلهم الجنة ، وإذا خلق للنار خلقا استعملهم بعمل أهل النار حتى يدخلهم النار ' والمعروف والذي عليه جماعة المفسرين في معنى الآية أن الله - تعالى -
____________________

( ^ ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ( 172 ) أو ) * * * * مسح صفحة ظهر آدم اليمنى فأخرج منه ذرية بيضاء كهيئة الذر يتحركون ، ثم مسح صفحة ظهر آدم اليسرى فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر ، فقال : يا آدم ، هؤلاء ذريتك ، ثم قال لهم : ( ^ ألست بربكم ) ؟ قالوا : بلى ، فقال للبيض : هؤلاء في الجنة برحمتي ولا أبالي ، وهم أصحاب اليمين ، وقال للسود : هؤلاء في النار ولا أبالي ، وهم أصحاب الشمال ، ثم أعادهم جميعا في صلبه ، فأهل القبور محبوسون حتى يخرج أهل الميثاق كلهم من أصلاب الرجال وأرحام النساء .
قال الله تعالى فيمن نقض العهد : ( ^ وما وجدنا لأكثرهم من عهد ) وروى أبو العالية عن أبي بن كعب في هذه الآية ، قال : جمعهم الله جميعا ، فجعلهم أرواحا ثم صورهم ، ثم استنطقهم ، فقال : ( ^ ألست بربكم ) ؟ قالوا : بلى ، شهدنا أنك ربنا وإلهنا ، لا رب لنا غيرك ، قال الله - تعالى - : فأرسل إليكم رسلي ، وأنزل عليكم كتبي ، فلا تكذبوا رسلي ، وصدقوا كلامي ، فإني سأنتقم ممن أشرك ولم يؤمن بي ، فأخذ عهدهم وميثاقهم .
وفي بعض الأخبار : أن الله استخرج ذرية آدم ، فنثرهم بين يدي آدم ، ثم كلمهم قبلا - أي : عيانا - فقال : ( ^ ألست بربكم ) ؟ قالوا : بلى . وقيل : جعل لهم عقولا يفهمون بها ، وألسنة ينطقون بها ، ثم خاطبهم وألهمهم الجواب .
وقال بعض المفسرين عن علماء السلف : إن الكل قالوا : بلى ، لكن المؤمنين قالوا : بلى طوعا ، وقال الكافرون كرها ، وهذا معنى قوله - تعالى - : ( ^ وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها ) .
رجعنا إلى قوله تعالى : ( ^ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ) فإن قال قائل : لما كان الاستخراج من ظهر آدم ، فكيف قال : ( ^ أخذ ربك من بني آدم من
____________________

( ^ تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون ( 173 ) ) * * * * ظهورهم ) ؟ قال بعض العلماء في جوابه : إن الله - تعالى - استخرجهم من صلب آدم على الترتيب الذي يخرجه من بني آدم من ظهورهم إلى يوم القيامة ، فلذلك قال : ( ^ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ) .
واعلم أن المعتزلة تأولوا هذه الآية ، فقالوا : أراد به الأخذ من ظهور بني آدم على الترتيب الذي مضت به السنة من لدن آدم إلى فناء العالم .
وقوله : ( ^ وأشهدهم على أنفسهم ) يعني كما نصب من دلائل العقول التي تدل على كونه ربا ، ويلجئهم إلى الجواب بقولهم : بلى ، وأنكروا الميثاق . وهذا تأويل باطل ، وأما أهل السنة مقرون بيوم الميثاق ، والآية على ما سبق ذكره .
( ^ وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ) واختلفوا في قوله : ( ^ شهدنا ) قل بعضهم : هذا من قول الله والملائكة قالوا : شهدنا ، وقيل : هو قول المخاطبين ، قالوا : بلى شهدنا ، وقيل : فيه حذف ، وتقديره : أن الله تعالى قال للملائكة : اشهدوا ، فقالوا : شهدنا .
وأما قوله تعالى : ( ^ أن تقولوا يوم القيامة ) يقرأ بالياء والتاء ، فمن قرأ بالياء فتقدير الكلام : وأشهدهم على أنفسهم لئلا يقولوا يوم القيامة : إنا كنا عن هذا غافلين ، ومن قرأ بالتاء فتقدير الكلام : أخاطبكم ألست بربكم ؟ لئلا تقولوا يوم القيامة : إنا كنا عن هذا غافلين . فإن قال قائل : الحجة إنما تلزم في الدنيا إذا رجعوا عن ذلك العهد الذي كان يوم الميثاق واحد لا يذكر ذلك الميثاق حتى يكون بالرجوع معاندا ، فتلزمه الحجة ، وقيل : إن الله - تعالى - قد أوضح الدلائل ونصبها على وحدانيته ، وصدق قوله ، وقد أخبر عن يوم الميثاق ، وهو صادق في الأخبار ، فكل من نقض ذلك العهد كان معاندا ولزقته الحجة . < < الأعراف : ( 173 ) أو تقولوا إنما . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل ) يعني : إنما أخذت ما أخذت
____________________

( ^ وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون ( 174 ) واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ ) * * * * من العهد والميثاق عليكم جميعا ؛ لئلا تقولوا : ( ^ إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم ) يعني : أن الجناية من الآباء ، وكنا أتباعا لهم ؛ فيجعلوا لأنفسهم حجة وعذرا عند الله ، وفي هذا دليل على أن أولاد الكفار يكونون مع الكفار .
( ^ أفتهلكنا بما فعل المبطلون ) أي : تأخذنا بجناية آبائنا المبطلين ؟ . < < الأعراف : ( 174 ) وكذلك نفصل الآيات . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون ) . < < الأعراف : ( 175 ) واتل عليهم نبأ . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ) قال ابن عباس وابن مسعود : في بلعم بن باعور ، ويقال : بلعام بن باعر ، كان في مدينة الجبارين ، وكان معه الاسم الأعظم ، فلما قصدهم موسى بجنده ، قالوا لبلعم : إن موسى رجل فيه حدة ، فادع الله حتى يرد عنا موسى ، وقيل : إن ملكهم دعاه إلى نفسه وقال له ذلك ، فقال بلعم : لو فعلت ذلك ذهب ديني ودنياي ، فألحوا عليه حتى دعا الله - تعالى - فاستجيبت دعوته ، ورد عنهم موسى ، وأوقعهم في التيه ، فلما وقعوا في التيه ، قال موسى : يا رب بم حبستنا في التيه ؟ قال : بدعاء بلعم . قال موسى : اللهم فكما استجبت دعوته فينا فاستجب دعوتي فيه ، ثم دعا الله - تعالى - حتى ينزع عنه اسمه الأعظم والإيمان ، ففعل ، وقيل : نزع الله عنه الاسم الأعظم والإيمان ، معاقبة له على ما دعا ، ولم يكن ذلك بدعوة موسى ؛ فهذا معنى قوله تعالى : ( ^ فانسلخ منها ) .
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص : الآية في أمية بن أبي الصلت الثقفي كان يطلب الدين قبل مبعث النبي ، وكان يطمع أن يكون نبيا ، فلما بعث النبي حسده وكفر به ، وكان أمية صاحب حكمة وموعظة حسنة .
وقال الحسن : الآية في منافقي اليهود . وقال مجاهد : الآية في نبي من الأنبياء بعثه الله - تعالى - إلى قومه ، فرشاه قومه . وهذا أضعف الأقوال ؛ لأن الله تعالى يعصم أنبياءه عن مثل ذلك ، وعن ابن عباس - في رواية أخرى - أن الآية في رجل من بني إسرائيل كانت له ثلاث دعوات مستجابة أعطاه الله تعالى ذلك ، وكانت له امرأة
____________________

( ^ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ( 175 ) ولو شئنا لرفعناه ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ( 176 ) ساء مثلا القوم الذين ) * * * * دميمة ؛ فقالت له : ادع الله أن يجعلني من أجمل نساء العالم ، فدعا الله تعالى فاستجاب دعوته ؛ فتمردت واستعصت عليه ؛ فدعا الله تعالى أن يجعلها كلبة ؛ فجعلت ، فقال له بنوها : ادع الله أن يردها ، فدعا الله تعالى فعادت كما كانت ، فذهبت فيها دعواته الثلاثة ، والقولان الأولان أظهر .
وقوله : ( ^ فأتبعه الشيطان ) أي : أدركه الشيطان ، يقال : تبعه إذا سار في أثره ، واتبعه إذا أدركه ( ^ فكان من الغاوين ) أي : من الضالين . < < الأعراف : ( 176 ) ولو شئنا لرفعناه . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولو شئنا لرفعناه بها ) أي لرفعنا درجته ومنزلته بتلك الآيات وأمتناه قبل أن يكفر ، وقيل معناه : لو شئنا [ لحلنا ] بينه وبين الكفر ( ^ ولكنه أخلد إلى الأرض ) أي : مال إلى الدنيا ، ( ^ واتبع هواه ) وهذه أشد آية في حق العلماء ، وقلما يخلوا عن أحد هذين عالم من الركون إلى الدنيا ، ومتابعة الهوى .
( ^ فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ) ضرب له مثلا بأخس حيوان في أخس الحال ؛ فإنه ضرب له المثل بالكلب لاهثا ، وحقيقة المعنى : أنك إن حملت على الكلب وطردته يلهث ، وإن تتركه يلهث ، فكذلك الكافر ، إن وعظته وزجرته فهو ضال ، وإن تركته فهو ضال ، واللهث : إدلاع اللسان .
( ^ ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا ) ضرب المثل ثم بين أنه مثل ذلك ( الذي ) سبق ذكره ، وقيل : هذا كله ضرب مثل للكفار مكة ؛ فإنهم كانوا يتمنون أن يكون منهم بني ، فلما بعث النبي حسدوه وكفروا ؛ فكانوا كفارا قبل بعثته وكفارا ( بعد بعثته ) ( ^ فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ) .
____________________

( ^ كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون ( 177 ) من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون ( 178 ) ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا ) * * * * < < الأعراف : ( 177 ) ساء مثلا القوم . . . . . > >
قوله تعالى ( ^ ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا ) أي : بئس المثل مثلا القوم ( ! ( وأنفسهم كانوا يظلمون ) { < الأعراف : ( 178 ) من يهد الله . . . . . > > من يهد الله ) أي : من يهده الله ( ^ فهو المهتد ومن يضلل ) أي : ومن يضلله الله ( ^ فأولئك هم الخاسرون ) وهذا دليل على القدرية ؛ حيث نسب الهداية والضلالة إلى فعله من غير سبب . < < الأعراف : ( 179 ) ولقد ذرأنا لجهنم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس ) أي : خلقنا لجهنم كثيرا ، وهذا على وفق قول أهل السنة ، وروت عائشة - رضي الله عنها - عن النبي أنه قال : ' إن الله تعالى خلق الجنة ، وخلق لها أهلا ؛ خلقهم لها وهم في أصلاب بائهم ، وخلق النار ، وخلق لها أهلها ، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم ' وهذا في الصحيح ، وفي رواية أخرى : ' إن الله تعالى خلق الجنة وخلق لها أهلا بأسمائهم وأسماء آبائهم وأسماء قبائلهم ، وخلق النار ، وخلق لها أهلا بأسمائهم وأسماء آبائهم وأسماء قبائلهم - وهذا الحديث ليس في الصحيح - لا يزاد فيهم ولا ينقص ' وقيل معنى قوله : ( ^ ولقد ذرأنا لجهنم ) أي : ذرأناهم ، وعاقبة أمرهم إلى جهنم ، واللام لام العاقبة ، وهذا مثل قول القائل :
( يا أم سليم فلا تجزء عن ** فللموت ما تلد الوالدة )
وقال آخر :
( وللموت تغذوا الوالدات سخالها ** كما لخراب الدهر تبنى المساكن )
____________________

( ^ يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون ( 179 ) ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون ( 180 ) وممن خلقنا أمة يهدون بالحق ) * * * *
والأول أصح ، وأقرب إلى مذهب أهل السنة ، وقوله : ( ^ لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها ) ومعناه : أنهم لما لم يفقهوا بقلوبهم ما انتفعوا به ، ولم يبصروا بأعينهم ، ولم يسمعوا بآذانهم ؛ ما انتفعوا به ؛ فكأنهم لا يفقهون ولا يبصرون ولا يسمعون شيئا ، وهذا كما قال مسكين الداري :
( أعمى إذا ما جارتي برزت ** حتى توارى جارتي الخدر )
( أصم عما كان بينهما سمعي ** وما بالسمع من وقر )
( ^ أولئك كالأنعام ) يعني : في أن همتهم من الدنيا الأكل والتمتع بالشهوات ( ^ بل هم أضل ) وذلك أن الأنعام تميز بين المضار والمنافع ، وأولئك لا يميزون ما يضرهم عما ينفعهم ( ^ أولئك هم الغافلون ) . < < الأعراف : ( 180 ) ولله الأسماء الحسنى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ) الأسماء الحسنى هي ما وردت في الخبر ، روى أبو هريرة عن النبي أنه قال : ' إن لله تسعة وتسعين اسما - مائة غير واحد - من أحصاها دخل الجنة ' ، وقوله : ( ^ الحسنى ) يرجع إلى التسميات ، وقوله ( ^ فادعوه بها ) وذلك بأن يقول : يا عزيز ، يا رحمن ، ونحو هذا ، واعلم أن أسماء الله تعالى على التوقيف ؛ فإنه يسمى جوادا ولا يسمى سخيا ، وإن كان في معنى الجواد ، ويسمى رحيماً ولا يسمى رقيقا ، ويسمى عالما ولا يسمى عاقلا ، وعلى هذا لا يقال : يا خادع ، يا مكار ، وإن ورد في القرآن ( ! ( يخادعون الله وهو خادعهم ) ! ويمكرون ويمكر الله ) لكن لما لم يرد الشرع بتسميته به لم يجز ذلك له .
( ^ وذروا الذين يلحدون في أسمائه ) قال يعقوب بن السكيت صاحب الإصلاح :
____________________

( ^ وبه يعدلون ( 181 ) والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ( 182 ) وأملي لهم إن كيدي متين ( 183 ) أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير ) * * * * الإلحاد : هو الميل عن الحق ، وإدخال ما ليس في الدين ، قيل : والإلحاد في الأسماء هاهنا : كانوا يقولون في مقابلة اسم الله : اللآت ، وفي مقابلة العزيز : العزى ، ومناة في مقابلة المنان ، وقيل : هو تسميتهم الأصنام آلهة ، وهذا أعظم الإلحاد في الأسماء ، فهذا معنى قوله : ( ^ وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون ) . < < الأعراف : ( 181 ) وممن خلقنا أمة . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ) روى قتادة مرسلا عن النبي أنه قال : ' هؤلاء من هذه الأمة ، وقد كان فيمن قبلكم ' وأشار به إلى قوم موسى ، كما قال تعالى : ( ^ ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ) . < < الأعراف : ( 182 ) والذين كذبوا بآياتنا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ) قال الأزهري : الاستدراج : هو الأخذ قليلا قليلا ، ومنه درج الكتاب ، وقيل : الاستدراج من الله هو أن العبد كلما ازداد معصية زاده الله - تعالى - نعمة ، وقيل : هو أن يكثر عليه النعم وينسيه الشكر ، ثم يأخذه بغتة ؛ فهذا هو الاستدراج من حيث لا يعلمون . < < الأعراف : ( 183 ) وأملي لهم إن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وأملي لهم ) أي : أمهل لهم وأؤخر لهم ( ^ إن كيدي متين ) أي : شديد . < < الأعراف : ( 184 ) أولم يتفكروا ما . . . . . > >
قوله تعالى ( ^ أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين ) سبب نزول هذه الآية ما روي : ' أن النبي ذات ليلة صعد الصفا ، وهو ينادي طول الليل : يا بني فلان ، يا بني فلان ، إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ، فلما أصبحوا قالوا : إن محمدا قد جن ، يصيح طول الليل ؛ فنزلت هذه الآية ' ( ^ أو لم يتفكروا ) ' يعني : في حال محمد أنه لا يليق بحاله الجنون .
____________________

( ^ مبين ( 184 ) أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون ( 185 ) من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون ( 186 ) يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( 187 ) * * * * < < الأعراف : ( 185 ) أولم ينظروا في . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض ) يعني : استدلوا بها على وحدانية الله تعالى ( ^ وما خلق الله من شيء ) أي : أو لم ينظروا إلى ما خلق الله من شيء ( ^ وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم ) يعني : لعل قد اقترب أجلهم فيموتوا قبل أن يؤمنوا ( ^ فبأي حديث بعده يؤمنون ) أي : بأي نبي بعد محمد ، وبأي كتاب بعد كتاب محمد يؤمنون . < < الأعراف : ( 186 ) من يضلل الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ من يضلل الله ) أي : من يضلله الله ( ^ فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون ) أي : في غلوهم في الباطل ( ^ يعمهون ) يتحيرون ويترددون . < < الأعراف : ( 187 ) يسألونك عن الساعة . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يسألونك عن الساعة أيان مرساها ) أي : مثبتها ، يقال : أرسى ، أي : أثبت ، ومعناه : يسألونك عن الساعة متى قيامها ( ^ قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها ) لا يظهرها لوقتها ( ! ( إلا هو ) ! ثقلت في السموات والأرض ) أي : خفي علمها في السموات والأرض ، فكأنما ثقلت ، وكل خفي ثقيل ، ومعناه : ثقيل وصفها على أهل السموات والأرض ؛ بما يكون فيها من تكوير الشمس والقمر ، وتكوير النجوم ، وتسيير الجبال ، وطي السموات والأرض ، وقيل معناه : عظم وقوعها على أهل السموات والأرض .
( ^ لا تأتيكم إلا بغتة ) أي : فجأة .
( ^ يسألونك كأنك حفي عنها ) أي كأنك مسرور بسؤالهم عنها ، يقال : تحفيت فلانا في المسألة إذا سألته وأظهرت السرور في سؤالك ، فعلى هذا تقدير الآية :
____________________

( ^ قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون ( 188 ) هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به ) * * * * يسألونك عنها كأنك حفي بسؤالهم ، وقيل معناه : يسألونك كأنك حفي عنها أي : عالم بها ، يقال : أحفيت فلانا ، إذا ما بالغت في المسألة عنه حتى علمت ، فعلى هذا معنى الآية : كأنك حفي عنها ، أي : كأنك بالغت في السؤال عنها ، حتى علمت ( ^ قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) . < < الأعراف : ( 188 ) قل لا أملك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء ) فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : معناه : ولو كنت أعلم الخصب من الجدب لأعددت من الخصب للجدب وما مسني الجوع ، قاله ابن عباس .
وقال ابن جريج : معناه : لو كنت أعلم متى أموت لاستكثرت من الخيرات والطاعات ، وما مسني السوء أي : ما بي جنون ؛ لأنهم كانوا نسبوه إلى الجنون .
القول الثالث : معناه : ولو كنت أعلم متى الساعة لأخبرتكم بقيامها حتى تؤمنوا ، وما مسني السوء يعني : بتكذيبكم ( ^ إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون ) . < < الأعراف : ( 189 ) هو الذي خلقكم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ هو الذي خلقكم من نفس واحدة ) يعني : آدم ( ^ وجعل منها زوجها ) يعني : حواء ( ! ( ليسكن إليها ) ! فلما تغشاها ) أي : وطئها ، والغشيان أحسن كناية عن الوطء ، يقال : تغشاها وتخللها ، إذا وطئها .
( ^ حملت حملا خفيفا ) هو أول ما تحمل المرأة من النطفة ( ^ فمرت به ) وقرأ يحيى بن يعمر : ' فمرت به ' خفيفا من المرية أي : شكت ، وقرئ في الشواذ : ' فمارت به : ' أي : تحركت به من المور ، وقرأ ابن عباس : ' فاستمرت به ' وهو معنى القراءة المعروفة ، ومعناه : فمرت بالحمل حتى قامت وقعدت ودخلت وخرجت ، وقيل : هو مقلوب ، وتقديره فمر الحمل بها حتى قامت وقعدت ( ^ فلما أثقلت ) أي : حان
____________________

( ^ فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين ( 189 ) فلما آتاهما ) * * * * وقت الولادة ( ^ دعوا الله ربهما ) .
وفي القصة : أن إبليس جاء إلى حواء حين حبلت ، وقال لها : أتدرين ما في بطنك ؟ قالت : لا . فقال : لعله بهيمة ، وإني أخشى أن تكون لها قرنان تشق بهما بطنك ؛ فخافت حواء ، وجلست حزينة ، ثم عاد إليها اللعين ، وقال : أتريدين أن أدعو الله تعالى حتى يجعله إنسانا متكلما ؟ قالت : نعم . إني قد وسوست إليكما مرة فأطيعاني حتى أدعو ، فقالت : ماذا نصنع ؟ قال اللعين : إذا ولدت تسميه عبد الحارث - وكان اسم إبليس من قبل الحارث - فذكرت ذلك لآدم ، فتوافقا على ذلك ، فلما ولدت سمياه عبد الحارث ، وقيل : إنها ولدت مرة فسمياه عبد الله فمات ، ثم ولدت ولد آخر فسمياه عبد الله فمات ، فجاء اللعين ، وقال : أما علمتما أن الله تعالى لا يدع عبده عندكما ، فإذا ولدت ولدا فسميه عبد الحارث ، حتى يحيا ، فلما ولدت الثالث سمياه عبد الحارث فعاش وحيا .
وفي الخبر : قال النبي : ' خدعهما إبليس مرتين : مرة في الجنة ، ومرة في الأرض ' وأراد به هذا ' . قوله ( ^ فلما أثقلت دعوا الله ربهما ) يعني : آدم وحواء ( ^ لئن آتيتنا صالحا ) أي : ولدا سوى الخلق ، إذ كانا [ يدعوان ] أن يجعله الله إنسانا مثلهما خوفا من وسوسة إبليس ( ! ( لنكونن من الشاكرين ) { < الأعراف : ( 190 ) فلما آتاهما صالحا . . . . . > > فلما آتاهما صالحا ) أي : سوى الخلق ( ^ جعلا له شركاء فيما آتاهما ) يعني سمياه عبد الحارث ، فإن قال قائل : كيف يقول : ( ^ جعلا له شركاء ) وآدم كان نبيا معصوما عن الإشراك بالله ؟
قيل : لم يكن هذا إشراكا في التوحيد ، وإنما ذلك إشراك في الاسم ، وذلك لا يقدح في التوحيد ، وهو مثل تسمية الرجل ولده عبد يغوث وعبد زيد وعبد عمرو ، وقول الرجل لصاحبه : أنا عبدك ، وعلى ذلك قول يوسف - صلوات الله عليه - : ( ^ إنه ربي أحسن مثواي ) ومثل هذا لا يقدح ، وأما قوله : ( ^ فتعالى الله عما يشركون )
____________________

( ^ صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون ( 190 ) أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون ( 191 ) ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون ( 192 ) وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون ( 193 ) إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين ) * * * * ابتداء كلام بعد الأول ، وأراد به : إشراك أهل مكة ، ولئن أراد به الإشراك الذي سبق استقام الكلام ؛ لأنه كان الأولى ألا يفعل ما أتى به من الإشراك في الاسم ، وكان ذلك زلة منه ، فلذلك قال : ( ^ فتعالى الله عما يشركون ) وفي الآية قول آخر : أن هذا في جميع بني آدم . قال عكرمة : وكأن الله يخاطب به كل واحد من الخلق بقوله : ( ^ هو الذي خلقكم من نفس واحدة ) يعني : خلق كل واحد من أبيه ( ^ وجعل منها زوجها ) أي : جعل من جنسها زوجها ( ^ ليسكن إليها ) يعني : كل زوج إلى زوجته ( ^ فلما تغشاها ) أي : وطئها ( ^ حملت حملا خفيفا فمرت به ) وهذا قول حسن في الآية .
وقيل : إنما عبر بآدم وحواء عن جميع أولادهما ؛ لأنهما أصل الكل ، والأول أشهر وأظهر ، وهو قول ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير . وجماعة المفسرين كلهم قالوا : إن الآية في آدم وحواء كما بينا . < < الأعراف : ( 191 ) أيشركون ما لا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون ) يعني : الأصنام لا يخلقون شيئا بل هم مخلوقون < < الأعراف : ( 192 ) ولا يستطيعون لهم . . . . . > > ( ^ ولا يستطيعون لهم نصرا ) أي : منعا ( ^ ولا أنفسهم ينصرون ) . < < الأعراف : ( 193 ) وإن تدعوهم إلى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم ) هذا في قوم مخصوصين علم الله أنهم لا يؤمنون ( ^ سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون ) أي : سواء دعوتموهم أو لم تدعوهم لا يؤمنون ) < < الأعراف : ( 194 ) إن الذين تدعون . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم ) . فإن قال قائل : كيف تكون الأصنام عبادا أمثالنا ؟ قيل : قال مقاتل : أراد به الملائكة . والخطاب مع قوم كانوا
____________________

( ( 194 ) ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون ( 195 ) إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين ( 196 ) والذين تدعون من دونه لا يستطيعون ) * * * * يعبدون الملائكة ، وقيل : أراد به الشياطين . والخطاب مع قوم كانوا يعبدون الكهنة والشياطين ، والصحيح أنه في الأصنام ، وهم عباد أمثال الناس في العبادة ، وعبادتهم التسبيح ، وللجمادات تسبيح كما نطق به الكتاب . ( ^ وإن من شيء إلا يسبح بحمده ) وقوله ( ^ أمثالكم ) يعني : أن الأصنام مذللون مسخرون لما أريد منهم مثلكم ، وهذا مثل قوله تعالى : ( ^ وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ) ومعناه : أمثالكم في شيء دون شيء كذلك هاهنا وقيل : إنما قال : ( ^ أمثالكم ) لأنهم صوروها على صورة الأحياء ، وطلبوا منها ما يطلب من الأحياء .
( ^ فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين ) وهذا لبيان عجزهم ، ثم أكده فقال : < < الأعراف : ( 195 ) ألهم أرجل يمشون . . . . . > > ( ^ ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها ) وذلك أن قدرة المخلوقين إنما تكون بهذه الآلات والجوارح ، وليست لهم تلك الآلات ، بل أنتم أكبر قدرة منهم لوجود هذه الأشياء فيكم .
( ^ قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون ) أي : فلا تمهلون . < < الأعراف : ( 196 ) إن وليي الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( إن وليي الله الذي نزل الكتاب ) يعني : ناصري ومعيني الله الذي نزل الكتاب ، وقرئ في الشواذ : ' إن ولي الله ' بكسر الهاء ، ومعناه : جبريل ولي الله الذي نزل الكتاب أي : نزل بالكتاب ( ^ وهو يتولى الصالحين ) يعني : جبريل ولي الصالحين ، وهذا مثل قوله تعالى : ( ^ فإن الله هو مولاه وجبريل ) . < < الأعراف : ( 197 ) والذين تدعون من . . . . . > >
قوله تعالى ( ^ والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم
____________________

( ^ نصركم ولا أنفسهم ينصرون ( 197 ) وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون ( 198 ) خذ العفو وأمر بالعرف واعرض عن الجاهلين ) * * * * ينصرون ) وهذا لبيان عجزهم أيضا < < الأعراف : ( 198 ) وإن تدعوهم إلى . . . . . > > ( ^ وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا ) يعني : الأصنام ( ^ وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون ) فإن قيل : كيف يتصور النظر من الأصنام ؟ قال الكسائي : تقول العرب : داري تنظر إلى دار فلان ، إذا كانت مقابلة لما ، فكذلك قوله : ( ^ وتراهم ينظرون إليك ) يعني : نظر المقابلة . < < الأعراف : ( 199 ) خذ العفو وأمر . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ) روى : ' أن جبريل - صلوات الله عليه - لما نزل بهذه الآية ، قال : يا رسول الله ، أتيتك بمكارم الأخلاق ، فروى أن النبي سأل جبريل عن معنى هذه الآية ، فقال له : حتى أسأل ربي ، ثم رجع وقال : صل من قطعك ، وأعط من حرمك واعف عن من ظلمك ' .
ثم اختلفوا في معنى هذا العفو ، فقال عطاء : هو الفضل من أموال الناس . وكان في الابتداء يجب التصدق بما فضل من الحاجات ، ثم صار منسوخا بآية الزكاة ، وهذا معنى قوله تعالى : ( ^ ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو ) وقال ابن الزبير : العفو : ما تيسر من أخلاق الناس ، أي : خذ الميسور من أخلاق الناس مثل : قبول الاعتذار ، والعفو والمساهلة في الأمور ، وترك البحث عن الأشياء ونحو ذلك .
وقوله : ( ^ وأمر بالعرف ) هو الأمر بالمعروف ، وهو ما يعرفه الشرع .
وقوله : ( ^ وأعرض عن الجاهلين ) يعني : إذا سفه عليك الجاهل فلا تكافئه ولا تقابله بالسفه ، وذلك مثل قوله : ( ^ وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ) وذلك
____________________

( ( 199 ) وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم ( 200 ) إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ( 201 ) وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون ( 202 ) وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها قل إنما ) * * * * سلام المنازعة ، قال : ( ^ وإذا مروا باللغو مروا كراما ) يعني : أكرموا أنفسهم عن الخوض فيه .
وروى أن عيينة بن حصن - وكان سيد غطفان - لما قدم المدينة قال للحر بن قيس : لك وجه عند أمير المؤمنين ؛ فاستأذن لي عليه ، فاستأذن له فدخل على عمر - رضي الله عنه - فقال له : إنك لا تقضي فينا بالحق ، ولا تقسم فينا بالعدل ، فغضب عمر وهم أن يؤديه ، فقال الحر بن قيس : إن الله تعالى يقول : ( ^ وأعرض عن الجاهلين ) وهذا من الجاهلين ، فسكت عمر - رضي الله عنه - . < < الأعراف : ( 200 ) وإما ينزغنك من . . . . . > >
قوله تعالى ( ^ وإما ينزغنك من الشيطان نزغ ) النزغ من الشيطان : الوسوسة ( ^ فاستعذ بالله ) أي : استجر بالله ( ^ إنه سميع عليم ) . < < الأعراف : ( 201 ) إن الذين اتقوا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن الذين اتقوا إذا مسهم طيف من الشيطان ) وتقرأ : ' طائف ' ومعناهما واحد .
قال سعيد بن جبير : هو الغضب . وقال أبو عمرو بن العلاء : هو الوسوسة . وأصل الطيف : الجنون .
( ^ تذكروا فإذا هم مبصرون ) وفي معناه قولان : أحدهما : أنهم إذا وسوسهم الشيطان بالمعصية ذكروا عقاب الله ؛ فإذا هم كافون عن المعصية .
والقول الثاني معناه : ذكروا الله ؛ فإذا هم يبصرون الحق عن الباطل . < < الأعراف : ( 202 ) وإخوانهم يمدونهم في . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإخوانهم ) أي : أشباههم من الشياطين ( ^ يمدونهم ) أي : يردونهم ( ^ في الغي ) في الضلالة ( ^ ثم لا يقصرون ) أي : لا يكفون .
____________________

( ^ أتبع ما يوحى إلي من ربي هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ( 203 ) وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ( 204 ) واذكر ربك في نفسك تضرعا ) * * * * < < الأعراف : ( 203 ) وإذا لم تأتهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبتها ) كانوا يسألون النبي الآيات ( تعنتا ) ويستكثرون منها ، فإذا لم يقرأ عليهم آية قالوا : لولا اجتبيتها ، أي : هلا اختلقتها وقلتها من تلقاء نفسك . قال : ( ^ قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي هذا بصائر من ربكم ) يعني : القرآن ( ^ وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ) . < < الأعراف : ( 204 ) وإذا قرئ القرآن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ) قال الحسن ، والزهري ، والنخعي : هذا في القراءة في الصلاة . وقال عطاء ومجاهد : هو في الخطبة . ولم يرضوا من مجاهد هذا القول ؛ لأن الآية مكية ، والجمعة إنما وجبت بالمدينة ، ولأن الاستماع في جميع الخطبة واجب ، ولا يختص بالقراءة في الخطبة . فالأول أصح .
وليس لمن يرى ترك القراءة خلف الإمام مستدل ( في الآية ) ؛ لأن القراءة خلف الإمام لا تنافي الاستماع ؛ لأنه يتبع سكتات الإمام ، ولأن الآية فيما وراء الفاتحة ؛ بدليل حديث عبادة بن الصامت ، عن النبي أنه قال : ' إذا كنتم خلفي فلا تقرءوا إلا بأم القرآن ' .
وفي الآية : قول ثالث : أن المراد به النهي عن الكلام في الصلاة . قاله أبو هريرة . وهذا قول حسن . < < الأعراف : ( 205 ) واذكر ربك في . . . . . > >
قوله تعالى ( ^ واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفه ) قيل : هذا في الدعاء أي : ادع الله بالتضرع والخيفه . وقيل : هو في صلاة السر .
____________________

( ^ وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين ( 205 ) إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون ( 206 ) . * * * *
( ^ ودون الجهر من القول ) أراد به : في صلاة الجهر لا تجهر جهرا شديدا ( ^ بالغدو والأصال ) فالغدو : أوائل النهار ، والآصال : أواخر النهار ( ^ ولا تكن من الغافلين ) عن ذكر الله . < < الأعراف : ( 206 ) إن الذين عند . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن الذين عند ربك ) يعني : الملائكة ؛ ذكرهم بالتقريب والكرامة ( ^ لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون ) يعني : إن كان هؤلاء يستكبرون عن عبادة الله تعالى ؛ فالذين عنده لا يستكبرون عنها .
وقد ورد في السجود أخبار منها : ما روى أبو هريرة - رضي الله عنه - عن النبي أنه قال : ' إذا سجد ابن آدم ؛ اعتزل الشيطان يبكي ، ويقول : يا ويلاه ، أمر ابن آدم بالسجود فسجد ؛ فله الجنة ، وأمرت بالسجود فأبيت ؛ فلي النار ' .
وفي حديث ربيعة بن كعب الأسلمي : ' أنه أتى النبي بوضوئه لحاجته فقال : سلني . فقلت : أريد مرافقتك في الجنة ، فقال : أو غير ذلك ؟ فقلت : هو ذاك ، فقال : أعني على نفسك بكثرة السجود ' أخرجه مسلم في الصحيح .
وروى أبو فاطمة عن النبي أنه قال : ' ما من عبد يسجد لله سجدة ؛ إلا رفعه الله بها درجة ' . والله أعلم .
____________________

<
> بسم الله الرحمن الرحيم <
> ( ^ يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا ) * * * * <
> تفسير سورة الأنفال <
>
قال الشيخ الإمام رضي الله عنه : سورة الأنفال مدنية إلا سبع آيات ؛ وذلك من قوله : ( ^ وإذ يمكر بك الذين كفروا ) إلى آخر الآيات السبع ؛ فإنها نزلت بمكة ، وأكثر السورة في غزوة بدر . < < الأنفال : ( 1 ) يسألونك عن الأنفال . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يسألونك عن الأنفال ) والسؤال سؤالان : سؤال استخبار ، وسؤال طلب ؛ فقوله : ( ^ يسألونك عن الأنفال ) سؤال استخبار ؛ فإنهم سألوه عن حكم الأنفال .
وقرأ ابن مسعود وسعد بن أبي وقاص : ' يسألونك الأنفال ' وهذا سؤال طلب . روى مصعب بن سعد ، عن أبيه سعد بن أبي وقاص أنه قال : ' سألت رسول الله سيفا يوم بدر فقلت : نفلنيه يا رسول الله ، فنزل قوله : ( ^ يسألونك عن الأنفال ) ' .
والأنفال : الغنائم . والنفل في اللغة : الزيادة ، قال لبيد بن ربيعة العامري شعرا :
( إن تقوى ربنا خير نفل ** وبإذن الله ريثي والعجل )
ومنه صلاة النافلة ؛ لأنها زيادة على الفريضة . فسميت الغنائم أنفالا ؛ لأنها زيادة كرامة من الله تعالى لهذه الأمة على الخصوص .
وسبب نزول الآية ما روى ' أن أصحاب النبي افترقوا يوم بدر فرقتين : فرقة كانت تقاتل وتأسر ، وفرقة تحرس رسول الله ، ثم تنازعوا ، فقالت الفرقة المقاتلة :
____________________

( ^ الله ورسوله إن كنتم مؤمنين ( 1 ) إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ) * * * * الغنائم لنا ؛ قاتلنا وأسرنا ، وقال الآخرون : كنا ردءا لكم ، ونحرس رسول الله ، فالغنيمة بيننا ؛ فنزل قوله تعالى : ( ^ يسألونك عن الأنفال ) .
وفي رواية : ' أن النبي قال يومئذ : من قتل قتيلا فله كذا ، ومن أسر أسيرا فله كذا ، فتسارع الشبان وقاتلوا وأسروا ، وبقي الشيوخ مع الرسول - عليه السلام - يحرسونه ثم تنازعوا في الغنيمة ، فقال الشبان : الغنيمة لنا ؛ لأنا قاتلنا . وقال الشيوخ : كنا نحرس رسول الله ، وكنا ردءا لكم . وكان الذي تكلم من الشبان أبو اليسر والذي تكلم من الشيوخ سعد بن معاذ ، فنزلت الآية ، فقسم النبي الأنفال بين الكل .
وقوله : ( ^ قل الأنفال لله والرسول ) واختلفوا فيه قال مجاهد ، وعكرمة : الآية منسوخة بقول تعالى : ( ^ واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسة وللرسول ) فهذه الآية ردت من الكل إلى الخمس ، فكانت ناسخة للأولى .
وقيل : الآية غير منسوخة ، ومعنى قوله : ( ^ قل الأنفال لله والرسول ) أي : حكمها لله والرسول ؛ فتكون موافقة لتلك الآية .
( ^ فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ) قال : ثعلب : يعني : أصلحوا الحالة التي بينكم ، ومعناه : الإصلاح بترك المنازعة وتسليم أمر الغنيمة إلى الله والرسول ( ^ وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين ) . < < الأنفال : ( 2 ) إنما المؤمنون الذين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ) قال ابن أبي نجيح :
____________________

( ^ وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون ( 2 ) الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ( 3 ) أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم ( 4 ) كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون ) * * * * أي : خافت وفرقت ، قال الشاعر :
( لعمرك ما أدري وإني لأوجل ** على أينا تغدو المنية أول )
( ^ وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا ) أي : يقينا وتصديقا ؛ وذلك أنه كلما نزلت آية فآمنوا به ازدادوا إيمانا وتصديقا ، وهذا دليل لأهل السنة على أن الإيمان يزيد وينقص ( ^ وعلى ربهم يتوكلون ) التوكل هو الاعتماد على الله والثقة به . < < الأنفال : ( 3 ) الذين يقيمون الصلاة . . . . . > >
( الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ) إقامة الصلاة هي أداؤها في أوقاتها بشرائطها وأركانها . < < الأنفال : ( 4 ) أولئك هم المؤمنون . . . . . > >
( ^ أولئك هم المؤمنون حقا ) قال مقاتل : يعني : إيمانا لا شك فيه . وقيل : برأهم من الكفر والنفاق .
وفيه دليل لأهل السنة على انه لا يجوز لكل أحد أن يصف نفسه بكونه مؤمنا حقا ؛ لأن الله تعالى إنما وصف بذلك قوما مخصوصين على أوصاف مخصوصة ، وكل أحد لا يتحقق في نفسه وجود تلك الأوصاف .
( ^ لهم درجات عند ربهم ) قال الربيع بن أنس : الدرجات سبعون درجة ، ما بين كل درجتين حضر الفرس المضمر سبعين سنة ( ^ ومغفرة ورزق كريم ) أي : كامل لا نقص فيه . < < الأنفال : ( 5 - 6 ) كما أخرجك ربك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ كما أخرجك ربك من بيتك بالحق ) الأكثرون على أنه في إخراجه من المدينة إلى بدر للقتال مع المشركين . وقيل : هو في إخراجه من مكة إلى المدينة .
____________________

( ( 5 ) يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ( 6 ) وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ) * * * *
واختلفوا في أن قوله : ( ^ كما أخرجك ) إلى ماذا ترجع كاف التشبيه ؟ قال المبرد : تقديره : الأنفال لله وللرسول وإن كرهوا ، كما أخرجك ربك من بيتك وإن كرهوا . وقول الفراء قريب من هذا ، وهكذا قول الزجاج ؛ فإنهما قالا : تقديره : امض لأمر الله في الأنفال وإن كرهوا كما مضيت لأمر الله عند إخراجك من بيتك وإن كرهوا .
وقيل : هو راجع إلى قوله تعالى : ( ^ فاتقوا الله ) وتقديره : كما أخرجك ربك من بيتك بالحق فاتبعت أمره فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم . وقيل : هو راجع إلى قوله تعالى : ( ^ لهم درجات عند ربهم ) وتقديره : وعد الدرجات حق كما أخرجك ربك من بيتك بالحق ؛ فأنجز والوعد بالنصر والظفر . وقال أبو عبيدة : ' ما ' هاهنا بمعنى : ' الذي ' أي : كالذي أخرجك ربك .
( ^ وإن فريقا من المؤمنين لكارهون يجادلونك في الحق بعد ما تبين ) وذلك أن أصحاب رسول الله كرهوا خروجه إلى بدر ، وجادلوا فيه ، فقالوا : لا نخرج ؛ فإنا لم نستعد للقتال ، وليس معنا أهبة الحرب .
وقوله : ( ^ بعد ما تبين ) معناه : ما تبين لهم صدقه في الوعد بما وعدهم مرة بعد أخرى فصدقهم في وعده .
( ^ كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ) فيه تقديم وتأخير ، وتقديره : وإن فريقا من المؤمنين لكارهونه كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ، يجادلونك في الحق بعد ما تبين . < < الأنفال : ( 7 ) وإذ يعدكم الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم ) سبب هذا : ما روي أن أبا سفيان قدم على عير من قبل الشام فيها أموال قريش ، فبلغ ذلك رسول الله وأصحابه بالمدينة ، فخرجوا في طلب العير ، فبعث أبو سفيان رجلا إلى مكة يستنفرهم ويستغيث بهم ، فخرج أبو جهل ورءوس المشركين في سبعمائة وخمسين
____________________

( ^ ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ( 7 ) ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون ( 8 ) إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف ) * * * * رجلا ، وكان المسلمون يومئذ ثلاثمائة وثلاثة عشر نفرا ، ولم يكن لهم كثير سلاح ، وكان معهم فرسان فحسب ، أحدهما للمقداد بن عمرو ، والآخر لأبي مرثد الغنوي ، وكان معهم ستة أدرع ، وكان أكثرهم رجاله ، وبعضهم على الأبعرة ، فوعدهم الله - تعالى - إحدى الطائفتين : إما العير ( أو ) النفير ، وكان أبو سفيان صاحب العير ، وأبو جهل صاحب النفير ، فالتقى الجمعان ، ووقعوا في القتال ، وأخذ العير طريق الساحل وذهبوا ، وكان المسلمون يودون أن يظفروا بالعير ويفوزوا بالمال من غير القتال ' فهذا معنى قوله : ( ^ وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ) والشوكة : السلاح .
( ^ ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ) أي : يظهر الحق ويعلى كلمته ( ^ ويقطع دابر الكافرين ) أي : أصل الكافرين . < < الأنفال : ( 8 ) ليحق الحق ويبطل . . . . . > >
( ^ ليحق الحق ويبطل الباطل ) أي : يثبت الحق وينفي الباطل ( ^ ولو كره المجرمون ) . < < الأنفال : ( 9 ) إذ تستغيثون ربكم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إذ تسغيثون ربكم ) الاستغاثة : طلب الغوث ( ^ فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ) سبب هذا ما روى : ' أنه لما التقى الجمعان ببدر استقبل النبي القبلة ورفع يديه وقال : اللهم أنجزني ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض ، وعلا به صوته فقال له أبو بكر : خفض من صوتك يا رسول الله ؛ فإن الله منجزك ما وعدك ' فنزلت الآية واستجاب دعاءه ، وأمدهم الله تعالى بالملائكة ؛ فروى : ' أنه نزل جبريل في خمسمائة ، وميكائيل في خمسمائة ، وكان على رءوسهم عمائم بيض قد أرخوا أطرافها بين أكتافهم ، وهم على صور البشر
____________________

( ^ من الملائكة مردفين ( 9 ) وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم ( 10 ) إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من ) * * * * على خيل بلق ' فهذا معنى قوله : ( ^ فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ) يقال : ردفه وأردفه إذا ( أتبعه ) ، قال الشاعر :
( إذا الجوزاء أردفت الثريا ** ظننت بآل فاطمة الظنونا )
فمعنى قوله ( ^ مردفين ) أي : متتابعين بعضهم في إثر بعض . وهذا معنى القراءة الثانية بفتح الدال . ومنهم من فرق بينهما وقال : مردفين أي : ممدين بعضهم لبعض . ومن قرأ بفتح الدال فمعناه : ممدين من قبل الله . < < الأنفال : ( 10 ) وما جعله الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وما جعله الله إلا بشرى ) أي : بشارة ( ^ ولتطمئن به قلوبكم ) أي : تسكن به قلوبكم ( ^ وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم ) < < الأنفال : ( 11 ) إذ يغشيكم النعاس . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إذ يغشيكم النعاس أمنة منه ) ويقرأ : ' إذ يغشاكم النعاس ' وقرأ ابن محيصن : ' أمنة ' ساكنة الميم في الشواذ .
والقصة في ذلك : أن الكفار يوم بدر نزلوا على الماء ، ونزل المسلمون على غير ماء ، فأجنب بعضهم وأحدثوا ، فلم يجدوا ماء يتطهرون به ، وكانوا في رمل تسوخ فيه أرجلهم ، فوسوس إليهم الشيطان : إنكم تزعمذسون أنكم على الحق وأولئك على الباطل وإذا هم على الماء ، فلو كنتم على الحق لكنتم أنتم على الماء ، وما بقيتم مجنبين محدثين ، فوقع فيهم خوف شديد ، فألقى الله تعالى عليهم النعاس حتى أمنوا ، وأنشأ سحابة فتمطرت عليهم حتى سال الوادي وتطهروا واغتسلوا ، وتلبدت الرمال حتى ثبتت عليها الأقدام . فهذا معنى قوله : ( ^ إذ يغشيكم النعاس أمنة ) .
____________________

( ^ السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام ( 11 ) إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ( 12 ) ذلك ) * * * *
قال ابن مسعود : النعاس في القتال من الله ، وفي الصلاة من الشيطان .
( ^ وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ) وهو ما ذكرنا ( ^ ويذهب عنكم رجز الشيطان ) أي : وسوسة الشيطان ( ^ وليربط على قلوبكم ) أي : يشدد قلوبكم وتثبت بإزالة الخوف ( ^ ويثبت به الأقدام ) يعني : على الرمل حين تلبد بالمطر . < < الأنفال : ( 12 ) إذ يوحي ربك . . . . . > >
( ^ إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم ) أي : بالنصر والظفر ( ^ فثبتوا الذين آمنوا ) وروى ' أن الملك كان يمشي بين أيديهم وينادي : أيها المسلمون ، أبشروا بالظفر والنصر ' . وقيل : كان يلهمهم الملك ذلك ؛ وللملك إلهام .
( ^ سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق ) أي : على الأعناق ، وقيل : ' فوق ' فيه صلة ، ومعناه : فاضربوا الأعناق ، وقيل : هو على موضعه ، ومعناه : فاضربوا على اليافوخ .
( ^ واضربوا منهم كل بنان ) قيل : البنان : مفاصل الأطراف ، وقيل : الأصابع ، كأنه عبر به عن الأيدي والأرجل .
قال ابن الأنباري : ما كانت الملائكة تعلم كيف يقتل الآدميون ، فعلمهم الله .
وقيل : إن الملائكة لم يقاتلوا إلا في غزوة بدر .
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - : أنه لما أراد أن يحز رأس أبي جهل - وكان قد علاه ليقتله - فقال له أبو جهل : كنا نسمع الصوت ولا نرى شخصا ، ونرى الضرب ولا نرى الضارب ، فمن هم ؟ قال : هم الملائكة : فقال أبو جهل : أولئك غلبونا لا انتم . < < الأنفال : ( 13 - 14 ) ذلك بأنهم شاقوا . . . . . > >
( ^ ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ) أي : نازعوا الله ورسوله .
____________________

( ^ بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب ( 13 ) ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار ( 14 ) يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار ( 15 ) ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى ) * * * *
( ^ ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عاب النار ) إنما قال ذلك مبالغة في التعذيب والانتقام ، والعرب تقول للعدو إذا أصابه المكروه : ذق . قال الله تعالى : ( ^ ذق إنك أنت العزيز الكريم ) .
وروي أن أبا سفيان بن حرب لما مر بحمزة بن عبد المطلب وهو مطروح مقتول يوم أحد فقال له : ذق يا عقق ، يعني : ذق أيها العاق .
وفي القصة : أن المسلمين لما فرغوا من قتال بدر وانهزم الكفار قصدوا طلب العير وأن يتبعوهم - وكان العباس بن عبد المطلب في وثاق المسلمين وأسرهم - فقال لهم : ليس لكم إلى ذلك سبيل ؛ فإن الله - تعالى - وعدكم إحدى الطائفتين ، وقد ظفرتم بالجيش ؛ فليس لكم العير ، فسكتوا . < < الأنفال : ( 15 ) يا أيها الذين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا ) أي : متزاحفين والتزاحف : التداني من القتال ، ومعناه : إذا تزاحفتم وتوافقتم ( ^ فلا تولوهم الأدبار ) أي : لا تنهزموا ؛ فإن المنهزم يولي دبره إذا انهزم < < الأنفال : ( 16 ) ومن يولهم يومئذ . . . . . > > ( ^ ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال ) التحرف للقتال هو أن يرى الانهزام ويقصد به طلب الغرة والغيلة ، وانتهاز الفرصة ( ^ أو متحيزا إلى فئة ) أي : مائلا إلى فئة ( ^ فقد باء بغضب من الله ) أي : رجع بغضب من الله ( ^ ومأواه جهنم وبئس المصير ) واستدلت المعتزلة بإطلاق قوله : ( ^ ومأواه جهنم ) في وعيد الأبد ، ولا حجة لهم فيه ؛ لأن معنى الآية : ومأواه جهنم إلا أن تدركه الرحمة ؛ بدليل سائر الآي المقيدة .
قال الحسن البصري : الآية في أهل بدر خاصة ، ما كان يجوز لهم الانهزام بحال ؛ لأن النبي كان معهم ولم يكن لهم فئة يتحيزون إليها ، فأما في حق غيرهم فالفرار من الزحف لا يكون كبيرة ؛ لأن المسلمين بعضهم فئة لبعض ، فيكون الفار متحيزا إلى فئة .
____________________

( ^ فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير ( 16 ) فلم تقتلوهم ولكن الله ) * * * *
وهذا مروي عن أبي سعيد الخدري - من الصحابة - ويشهد لذلك : قول عمر - رضي الله عنه - أنه قال : لما أصاب المسلمين يوم الجسر ما أصابهم وصبروا حتى قتلوا ، قال عمر : هلا رجعوا إليّ وكان إذا بعث جيشا بعد ذلك يقول : أنا فئة لكل مسلم .
ويدل عليه ما روي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه قال : ' غزونا غزو فحصنا حيصة ، فقلنا : يا رسول الله ، نحن الفرارون ؟ فقال لا ؛ بل أنتم العكارون ، وأنا فئتكم ' .
وفي الآية قول آخر - وهو المذهب اليوم وعليه عامة الفقهاء - أنه إن كان الكفار أكثر من مثليهم جاز الفرار من الزحف ؛ لقوله : ( ^ الآن خفف الله عنكم ) ولقوله : ( ^ ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) ولو صبروا جاز ، اللهم أن يعلموا قطعا أنه لا يمكنهم مقاومتهم ، فحينئذ لا يجوز الصبر ؛ لأنه يكون إلقاء لنفسه في التهلكة ، وإن كان الكفار مثلي المسلمين أو دون المثلين لا يجوز الفرار من الزحف إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة - يعني : إلى فئة قريبة من الجيش مثل السرايا - والفرار من الزحف إنما يكون كثيره من هذه الصورة . < < الأنفال : ( 17 ) فلم تقتلوهم ولكن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم ) سبب هذا : أن المسلمين لما انصرفوا من قتال بدر ، كان الواحد منهم يقول : أنا قتلت فلانا ، ويقول الآخر : أنا قتلت فلانا ؛ فلم يرض الله تعالى منهم ذلك ، ونزلت الآية : ( ^ فلم تقتلوهم ) يعني : بقوتكم وعدتكم ( ^ ولكن الله قتلهم ) ( بنصره ) إياكم ومعونته لكم . وقيل معناه : ولكن الله قتلهم بسوقهم إليكم حتى ظفرتم بهم .
____________________

( ^ قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم ( 17 ) ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين ( 18 ) إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ) * * * *
وقيل معناه : ولكن الله قتلهم ببعث الملائكة لكم مددا ، فقتلهم الله بالملائكة .
( ^ وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ) روى : ' أن النبي أخذ كفا من الحصباء يوم بدر ورمى به إلى وجوه المشركين وقال : شاهت الوجوه . فلم يبق منهم أحد إلا وأصاب عينيه من ذلك ، وشغل بعينيه ' .
( ^ وما رميت إذ رميت ) يريد به ذلك الرمي بالحصباء التي أصابت عيونهم ؛ إذ ليس هذا في قدرة البشر أن ترمي الحصباء إلى وجوه جيش بحيث لا تبقى عين إلا ويصيبها منها ؛ ( ^ ولكن الله رمى ) بقوته وقدرته . وقيل معناه : وما بلغت إذ رميت ؛ ولكن الله بلغ ، وقيل معناه : وما رميت بالرعب في قلوبهم .
( ^ وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا ) أي : نعمة حسنة ينعم بها على المؤمنين ، وذلك نعمة النصر والظفر ، والشدة بلاء ، والنعمة بلاء ، والله تعالى يبتلي عبده تارة بالنعمة وتارة بالشدة ( ^ إن الله سميع عليم ) . < < الأنفال : ( 18 ) ذلكم وأن الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين ) يقرأ مخففا ومشددا ومعناه : مضعف كيد الكافرين . < < الأنفال : ( 19 ) إن تستفتحوا فقد . . . . . > >
قوله : ( ^ إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ) قال الضحاك : سبب هذا أن أبا جهل
____________________

( ^ وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين ( 19 ) يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون ( 20 ) ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون ( 21 ) إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ( 22 ) ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون ( 23 ) يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا ) * * * * قال يوم بدر : اللهم انصر أحب الفئتين إليك وأكرمهم عليك . وفي رواية أخرى : اللهم أقطعنا للرحم ، وأفسدنا للجماعة ، وأتانا بما لا نعرف ؛ فاخزه اليوم ، فأجابه الله تعالى يقوله : ( ^ إن تستفتحوا ) أي : إن تستنصروا فقد جاءكم النصر .
( ^ وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ) أي : إن تعودوا إلى الدعاء نعد إلى الإجابة ، وإن تعودوا إلى القتال نعد إلى النصر ( ^ ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين ) . < < الأنفال : ( 20 ) يا أيها الذين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ) أمر الصحابة بطاعته وطاعة رسوله ( ^ ولا تولوا عنه ) أي : لا تعرضوا عنه ( ^ وأنتم تسمعون < < الأنفال : ( 21 ) ولا تكونوا كالذين . . . . . > > ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون ) يعني : أنهم لما لم ينتفعوا بما سمعوا فكأنهم لم يسمعوا ، فلا تكونوا مثلهم . < < الأنفال : ( 22 ) إن شر الدواب . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ) سمى الكفار صما بكما ؛ لأنهم لما لم يسمعوا الحق ، ولم ينطقوا بالحق ، ولم يعقلوا الحق سماهم بذلك ، وعدهم من جملة الأنعام . < < الأنفال : ( 23 ) ولو علم الله . . . . . > >
( ^ ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ) أي : لأسمعهم سماع التفهم والقبول لو علم أنهم يصلحون لذلك .
( ^ ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون ) فإن قيل : كيف يستقيم قوله : ( ^ لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا ) ؟ قيل معناه : لو علم فيهم خيرا لأسمعهم سماع التفهم ، ولو
____________________

( ^ دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون ( 24 ) ) * * * * أسمعهم سماع الآذان لتولوا . وقيل معناه : ولو أسمعهم سماع التفهم لتولوا ؛ لما سبق لهم من الشقاوة ، وأنهم لا يصلحون لذلك ولا خير فيهم . وقيل : معناه : أنهم كانوا يقولون للنبي : أحيي لنا قصيا ؛ فإنه كان شيخا مباركا حتى نشهد لك بالنبوة فنؤمن بك ، فقال الله تعالى : ( ^ ولو أسمعهم ) كلام قصي ( ^ لتولوا وهم معرضون ) . < < الأنفال : ( 24 ) يا أيها الذين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) قال السدي في قوله : ( ^ لما يحييكم ) : أراد به الإيمان . وسمى السدي بذلك ؛ لأنه كان يجلس في سدة مسجد الكوفة .
وقال قتادة : هو القرآن . وقال الفراء : هو الجهاد . وقال ابن قتيبة : هو الشهادة .
وروى أبو هريرة ' أن النبي دعا أبي بن كعب وهو في الصلاة ، فأسرع القراءة وأتم الصلاة وأجابه ، فقال النبي : ما منعك أن تجيبني ؟ فقال : كنت في الصلاة ، فقال - عليه السلام - : أما سمعت قوله الله تعالى : ( ^ استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) ؟ فقال : علمت ، لا أعود ' .
( ^ واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه ) قال سعيد بن جبير وجماعة : يحول بين المؤمن والكفر وبين الكافر ، والإيمان . قال الضحاك : يحول بين المؤمن والمعصية ، وبين الكافر والطاعة .
وفيه قول ثالث : أن معناه : يحول بين المؤمن والخوف ، وبين الكافر والأمن ؛ وذلك أن الكفار كانوا آمنين ، والمسلمين كانوا خائفين ؛ فأبدل الله تعالى خوف هؤلاء بالأمن ، وأمن هؤلاء بالخوف ، وعبر بالقلب ؛ لأنه محل الخوف والأمن ( ^ وأنه إليه تحشرون ) .
____________________

( ^ واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب ( 25 ) واذكروا إذ انتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون ( 26 ) يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون ( 27 ) واعلموا أنما أموالكم ) * * * * < < الأنفال : ( 25 ) واتقوا فتنة لا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ) أكثر المفسرين على أن الآية في أصحاب النبي ومعناها : اتقوا عذابا يصيب الظالم وغير الظالم .
قال الزبير حين رأى ما رأى يوم الجمل : ما علمت أن هذه الآية نزلت فينا أصحاب رسول الله حتى كان هذا اليوم . وقال ابن عباس في معنى الآية : لا تقروا المنكر بينكم ، ومروا بالمعروف ؛ كي لا يعمكم الله بعقاب ، فيصيب الظالم وغير الظالم .
وقيل : أراد بالفتنة : تفريق الكلمة واختلاف الآراء ، واتقوا فتنة تفريق الكلمة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ، فيكون العذاب مضمرا فيه ( ^ واعلموا أن الله شديد العقاب ) . < < الأنفال : ( 26 ) واذكروا إذ أنتم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس ) قال وهب بن منبه : يعني : تتخطفكم فارس . وقال عكرمة : يتخطفكم كفار العرب ( ^ فآواكم ) يعني : إلى المدينة ( ^ وأيدكم بنصره ) أي : قواكم بنصره ( ^ ورزقكم من الطيبات ) يعني : الغنائم ( ^ لعلكم تشكرون ) . < < الأنفال : ( 27 ) يا أيها الذين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم ) ولا تخونوا أماناتكم ( ^ وأنتم تعلمون ) قال الكلبي : نزلت الآية في أبي لبابة بن عبد المنذر ؛ فإن النبي لما حاصر بني قريظة بعثه إليهم - وكان منهم - فقالوا له : ماذا يفعل بنا لو نزلنا على حكيه ؟ فوضع أصبعه على حلقه وأشار إليهم بالذبح - يعني : يقتلكم - قال أبو لبابة : فما برحت قدماي حتى عرفت أني خنت الله ورسوله ، ونزلت الآية ' .
____________________

( ^ وأولادكم فتنة وان الله عنده أجر عظيم ( 28 ) يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم ( 29 ) وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير ) * * * *
وقيل : الآية في جميع الأمانات ، نهي العباد عن الخيانة في الأمانات ، وتدخل في الأمانات الطاعات ؛ فإن الطاعات أمانات عند العباد على معنى أنها بينهم وبين ربهم أدوها أو لم يؤدوها . < < الأنفال : ( 28 ) واعلموا أنما أموالكم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم ) قيل : هذا أيضا في أبي لبابة ، وكان فيهم أهله وأولاده وأمواله ، فقال ما قال خوفا عليهم . وقيل : هو في سائر الخلق . وفي الحديث : ' الولد مجبنة مبخلة ومجهلة ' .
وروي أن النبي رأى الحسن والحسين فقال : ' إنكم لتجبنوني وتبخلوني وتجهلوني ، وإنكم لمن ريحان الله ' وأشار إلى الحسن والحسين يعني : توقعون الأباء في الجبن والبخل والجهل . وقوله : ' لمن ريحان الله ' أي : من رزق الله . < < الأنفال : ( 29 ) يا أيها الذين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ) قال ابن عباس : أي : مخرجا . وقال جاهد : منجاة ( ^ ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم ) . < < الأنفال : ( 30 ) وإذ يمكر بك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ) سبب نزول الآية أن المشركين اجتمعوا في دار الندوة ليدبروا أمر رسول الله ، فدخل
____________________

( ^ الماكرين ( 30 ) وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا ) * * * * عليهم إبليس في صورة شيخ ، فقالوا له : ما الذي أدخلك علينا ؟ قال : أنا شيخ من نجد ، ولست من تهامة ، وقد بلغني اجتماعكم في أمر هذا الرجل ، وأنه لا يعدمكم مني رأي ، فقالوا : اتركوه ، ثم تشاوروا ، فقال عتبة : اربطوه على جمل وأخرجوه من بلدكم تكفكموه العرب ، فقال إبليس : ليس هذا برأي ، أما ترون حلاوة منطقه وأخذه القلوب ، فلو فعلتم به ذلك يذهب فيستميل قلوب قوم ثم يغزوكم ويفرق جمعكم ، فتركوا ذلك ، فقال أبو البختري بن هشام : نحبسه في بيت ونتربص به ريب المنون ، فقال إبليس : ليس هذا برأي ، فإن له عشيرة وقوما لا يرضون به ويخرجونه ، فتركوا ذلك ، فقال أبو جهل : عندي رأي ، هذه خمسة أحياء من قريش ، نختار من كل حي شابا قويا ونضع في يده سيفا حادا ، ونأمرهم أن يضربوه دفعة واحدة حتى يتفرق دمه في القبائل ، ويعجز قومه عن القتال فيرضون بالدية ، فقال إبليس : هذا هو الرأي ، وتفرقوا عليه ، فأخبره الله تعالى يمكرهم ، ونزلت الآية ، فروى أن النبي بعث أبا بكر ليتفحص عن حالهم ، فلما جاء إليهم فإذا إبليس قد خرج من بينهم ، فماشاه ساعة ثم لما أراد أن يفارقه قال له أبو بكر : أين تريد ؟ فقال [ له ] اللعين : لي قوم بهذا الوادي ، فعلم أبو بكر أنه إبليس ، فقال الحمد لله الذي أخزاك واظهر دينه ، فاختفى منه ؛ فقوله ( ^ وإذ يمكر بك الذين كفروا ) هو مكرهم ذلك ، والمكر : التدبير ( ^ ليثبتوك ) أي : ليحبسوك كما قال أبو البختري ( ^ أو يقتلوك ) كما قال أبو جهل ( ^ أو يخرجوك ) كما قال عتبة .
( ^ ويمكرون ويمكر الله ) والمكر من الله : التدبير بالحق ، وقيل : هو الأخذ بغتة . قال الزجاج معناه : يجازيهم جزاء المكر .
( ^ والله خير الماكرين ) أي : خير المدبرين . < < الأنفال : ( 31 ) وإذا تتلى عليهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا ) هذا قول النضر بن الحارث بن كلدة ، وكان قد خرج إلى الحيرة من أرض العراق
____________________

( ^ أساطير الأولين ( 31 ) وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ( 32 ) وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان ) * * * * واشترى أخبار رستم ، واسفنديار ، وأحاديث العجم ، وجاء بها إلى مكة ، وقال : لو شئت لقلت مثل القرآن ؛ فذلك قوله : ( ^ لو نشاء لقلنا مثل هذا ) .
( ^ إن هذا إلا أساطير الأولين ) أي : أكاذيب الأولين ؛ والأساطير : جمع الأسطورة ، وهي المكتوبة . فإن قيل : إذا كان القرآن معجزا كيف يستقيم قوله : ( ^ لو نشاء لقلنا مثل هذا ) وهل يقول أحد : لو شئت قلبت الحجر ذهبا والعصا حية وهو عاجز عنه ؟
قيل : إن القرآن مطمع ممتنع ، فقد يتوهم صفوهم أنه يقول مثله ، ويمتنع عليه ذلك فيخطئ ظنه . وقيل : إنه توهم بجهله أنه يمكنه الإتيان بمثله وكان عاجزا . < < الأنفال : ( 32 ) وإذ قالوا اللهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ) أكثر المفسرين على أن هذا قول النضر بن الحارث ، وفي الصحيح برواية أنس أن هذا قول أبي جهل عليه اللعنة .
وهذا يدل على شدة بصيرتهم في الكفر ، وأنه لم تكن لهم شبهة وريبة في كذب الرسول ؛ لأن العاقل لا يسأل العذاب بمثل هذا متردد في أمره ؛ وهذا دليل على أن العارف ليست بضرورته .
وحكى عن معاوية أنه قال لرجل من أهل اليمن : ما أجهل قومك حيث قالوا : ربنا باعد بين أسفارنا ، فقال الرجل وأجهل من قومي قومك ؛ حيث قالوا : إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم . < < الأنفال : ( 33 ) وما كان الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ) يعني : أهل مكة ( ^ وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ) وفي معناه أقوال :
أحدها : أن هذا في قوم من المسلمين بقوا بمكة بعد هجرة الرسول ، وما كان الله ليعذبهم وفيهم من يستغفر .
____________________


( ^ الله معذبهم وهم يستغفرون ( 33 ) وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد ) * * * *
وقيل : في قوم علم الله تعالى أنهم يؤمنون ويستغفرون من أهل مكة ، وذلك مثل : أبي سفيان ، وصفوان بن أمية ، وعكرمة بن أبي جهل ، وسهيل بن عمرو ، وحكيم بن حزام ، ونحوهم ، فلما كان في علم الله تعالى أنهم لأصحابه يسلمون ويستغفرون ؛ عدهم مستغفرين في الحال .
وقيل معناه : وما كان الله معذبهم وفي أصلابهم من يستغفر ؛ إذ كان لبعضهم أولاد قد أسلموا .
وقيل : إنما قال : ( ^ وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ) دعوة لهم إلى الإسلام والاستغفار ، كالرجل يقول : لا أعاقبك وأنت تطيعني ، أي : أطعني حتى لا أعاقبك .
وفي الخبر : ' أن النبي قال : أنزل الله على أمانين لأمتي : ( ^ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان معذبهم وهم يستغفرون ) فإذا مضيت تركت لهم الاستغفار إلى يوم القيامة ' . وهو في جامع أبي عيسى بطريق أبي موسى الأشعري .
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال : من قال في كل يوم : أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه ، ثلاث مرات ، غفر له ذنوبه وإن كان فارا من الزحف .
واستدل بهذا الأثر من عد الفرار من الزحف من جملة الكبائر . < < الأنفال : ( 34 ) وما لهم ألا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وما لهم ألا يعذبهم الله ) فإن قال قائل : كيف التلفيق بين هذا وبين قوله : ( ^ وما كان الله [ ليعذبهم ] ) ؟ قيل : أراد بالأول : عذاب الاستئصال ، وبهذا : عذاب السيف . وقيل : أراد بالأول : عذاب الدنيا ، وبالثاني : عذاب الآخرة .
____________________


( ^ الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياءه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون ( 34 ) وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ( 35 ) إن ) * * * *
وقيل : المراد به أولئك الذين ترك تعذيبهم ؛ لكون النبي بينهم ، ومعناه : وما لهم ألا يعذبهم الله بعد خروجك من بينهم .
( ^ وهم يصدون عن المسجد الحرام ) أي : يمنعون عنه ( ^ وما كانوا أولياءه ) وذلك أنهم كانوا يدعون : إنا أولياء البيت ( ^ إن أولياؤه إلا المتقون ) يعني : المؤمنين ( ^ ولكن أكثرهم لا يعلمون ) . < < الأنفال : ( 35 ) وما كان صلاتهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية ) قال ابن عمر ، وابن عباس - رضي الله عنهم - والحسن المكاء : الصفير ، والتصدية : التصفيق . والمكاء في اللغة : اسم طائر له صفير فكأنه قال : إلا صوت مكاء ، وقال مجاهد : والمكاء أن يجعل أصابعه في شدقيه ، والتصدية : الصفير ؛ فجعلهما شيئا واحدا . وقال سعيد بن جبير : التصدية : هي صدهم المؤمنين عن المسجد الحرام . والأول أصح ، قال الشاعر :
( وحليل غانية تركت مجدلا ** تمكو فريصته كشدق الأعلم )
أي : تصفر فريصته كشدق الأعلم .
والقصة في ذلك : أن أربعة من بني عبد الدار كانوا إذا صلى النبي في المسجد الحرام وقف اثنان عن يمينه ، واثنان عن يساره ، فيصفر اللذان عن يمينه ويصفق اللذان عن يساره حتى يخلطوا عليه القراءة .
قال ابن الأنباري : إنما سماه صلاة ؛ لأنهم أمروا بالصلاة في المسجد ، فلما وضعوا ذلك موضع الصلاة سماه صلاة ( ^ فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ) . < < الأنفال : ( 36 ) إن الذين كفروا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن الذيك كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فيسنفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون ) فيه قولان :
____________________


( ^ الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون ( 36 ) ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون ( 37 ) قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنت ) * * * *
أحدهما : أن الآية في المطمعين يوم بدر ، وهم اثنا عشر نفرا من رؤس المشركين : أبو جهل بن هشام ، والحارث بن هشام ، وأبي بن خلف ، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة ، ومنبه ونبيه ابنا الحجاج ، وأبو البختري بن هشام ، وحكيم بن حزام ، والنضر بن الحارث ، وزمعة بن الأسود ، والعباس بن عبد المطلب ؛ لأن كل واحد منهم كان كل يوم ينحر عشرة أبعرة ويطعم الجيش .
والقول الثاني : أن هذا في أبي سفيان بن حرب استأجر ثلاثة آلاف رجل من الأحابيش يوم أحد لقتال النبي - عليه السلام - فنزل قوله تعالى : ( ^ إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله ثم تكون حسرة عليهم يوم القيامة ثم يغلبون ) .
قال الحسن : أشد الناس حسرة يوم القيامه من يرى ماله في ميزان غيره ( ^ والذين كفروا إلى جهنم يحشرون ) . < < الأنفال : ( 37 ) ليميز الله الخبيث . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ليميز الله الخبيث من الطيب ) أي : ليفرق الله الخبيث من الطيب ؛ الخبيث : ما أنفق من الحرام ، والطيب : ما أنفق من الحلال . وقيل : الخبيث ما أنفق في المعصية ، والطيب ما أنفق في الطاعة .
( ^ ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا ) أي : يجمعه جميعا ؛ يقال : سحاب مركوم إذا كان بعضه على بعض ( ^ فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون ) .
وعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال : إن الله تعالى يجمع الدنيا يوم القيامة ، فيأخذ ماله ويطرح الباقي في النار . ولأي معنى يطرحه في النار ؟ قيل : ليضيق المكان على الكفار ، وقيل : لتكون الحسرة أشد عليهم إذا نظروا إليها . < < الأنفال : ( 38 ) قل للذين كفروا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ) قال يحيى بن
____________________


( ^ الأولين ( 38 ) وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير ( 39 ) وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير ( 40 ) واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى ) * * * * معاذ الرازي - رحمه الله - إيمان لم يعجز عن هدم كفر قبله فمتى يعجز عن هدم ذنب بعده !
( ^ وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين ) قيل : سنة الأولين : أن يصل عذاب الدنيا بعقوبة الآخرة . < < الأنفال : ( 39 - 40 ) وقاتلوهم حتى لا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ) أي : لا يكون شرك ( ^ ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما تعملون بصير وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير ) فالمولى : القيم بالأمور ، والنصير : الناصر . < < الأنفال : ( 41 ) واعلموا أنما غنمتم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ) الآية .
اختلف العلماء في الغنيمة والفيء ؛ فأحد القولين : أنهما سواء ، وهو المال المأخوذ من الكفار على وجه القهر .
والقول الثاني - وهو الأصح - : أنهما مختلفان ، والفرق بينهما : أن الغنيمة : هي المال المأخوذ من الكفار على وجه العنوة بإيجاف الخيل والركاب ، والفيء : هو المال المأخوذ من غير إيجاف خيل ولا ركاب .
وهذا القول منقول عن سفيان الثوري ، والشافعي - رضي الله عنهما - وغيرهما .
( ^ فأن الله ) أكثر المفسرين على أن قوله : ( ^ لله ) افتتاح كلام ، وليس لله سهم منفرد ؛ بل سهم الله وسهم الرسول واحد .
وفيه قول آخر : أن لله سهما يصرف إلى الكعبة . وقد روي أن الحسن بن محمد بن الحنفية سئل عن هذه الآية فقال : قوله ( ^ فأن لله خمسة ) افتتاح كلام ، لله الدنيا والآخرة . وعن أبي العالية الرياحي قال : ' كان رسول الله يقسم الغنيمة على
____________________

خمسة أسهم ، فيفرز الخمس منه ، ثم يأخذ منه قبضة فيجعله للكعبة ، ثم يقسم الباقي على ما ذكر الله ' .
وأما قوله : ( ^ وللرسول ) أكثر المفسرين على أن للرسول سهما مفردا . وقال بعضهم : ليس للرسول سهم أصلا ؛ وإنما هو افتتاح كلام ، ومعنى ذكر الرسول أن التدبير إليه .
ثم اختلفوا على القول الأول أن ذلك السهم بعد موته لمن يكون ؟
قال قتادة : هو للخليفة بعده . وقال بعضهم : يرد إلى الأسهم الأربعة . وأما مذهب الشافعي : أن ذلك السهم يصرف إلى المصالح .
وفيه قول رابع : أنه يصرف إلى الكراع والسلاح في سبيل الله . وهذا مروي عن إبراهيم النخعي وغيره .
وأما قوله : ( ^ ولذي القربى ) اختلفوا في هذا على ثلاثة أقاويل :
فمذهب الشافعي : أن لهم سهما مفردا بعد رسول الله إلى قيام الساعة ، يشترك فيه أغنياؤهم وفقراؤهم على ما هو المعروف . وهذا قول أحمد وغيره .
وقال مالك : الأمر فيه إلى الإمام إن شاء أعطاهم ، وإن شاء لم يعطهم ، وكذلك في الباقي ، وإنما ذكروا لجواز الصرف إليهم لا للاستحقاق .
والقول الثاني : وهو مذهب أبي حنيفة - رضي الله عنه - : أن سهم ذوي القربى يرد إلى الباقين ، وليس لهم سهم مفرد ، فيقسم على ثلاثة أسهم لليتامى والمساكين وابن السبيل . ويروون هذا عن الخلفاء الأربعة أنهم قسموا على هذا الوجه ، والله أعلم بالصواب .
ثم اختلفوا في ذوي القربى من هم ؟ قال مجاهد . هم بنو هاشم خاصة ؛ وروي عن ابن عباس أنه قال : جميع قريش . وحكى عنه أنه سئل عن سهم ذوي القربى فقال : نزعم أنه لنا ، ويأبى قومنا ذلك علينا .
____________________


( ^ والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى ) * * * *
والقول الثالث : أن ذوي القربى هم بنو هاشم وبنو المطلب ، وهذا قول الشافعي - رحمه الله - وقد دل عليه الخبر المروي بطريق جبير بن مطعم - رضي الله عنه - عن النبي : ' قسم سهم ذوي القربى بين بني هاشم وبني المطلب ، فمشيت أنا وعثمان إلى رسول الله وقلنا : يا رسول الله ، إنا لا ننكر فضيلة بني هاشم لمكانك الذي وضعك الله فيهم ؛ ولكننا وإخواننا بني المطلب في القرابة منك سواء ، وقد أعطيتهم وحرمتنا ، فقال : أنا وبني المطلب شيء واحد - وشبك بين أصابعه - وإنهم لم يفارقونا في الجاهلية والإسلام ' .ٍ
وأما قوله تعالى : ( ^ واليتامى ) فاليتامى لهم سهم مفرد بالإنفاق ، واليتيم الذي يستحق السهم هو الذي لا أب له فيكون صغيرا فقيرا .
وقوله : ( ^ والمساكين ) فالمساكين هم أهل الحاجة ، وسيرد الفرق بين المسكين والفقير في سورة براءة .
وأما قوله : ( ^ وابن السبيل ) فهو المنقطع الذي بعد عن ماله .
وقوله : ( ^ إن كنتم آمنتم بالله ) معناه : واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ، على ما ذكر ، إن كنتم آمنتم بالله . وقيل معناه : يأمران فيه بما يريدان فاقبلوا إن كنتم آمنتم بالله .
قوله تعالى : ( ^ وما أنزلنا ) يعني : إن كنتم آمنتم بالله وبما أنزلنا ( ^ على عبدنا ) .
وفيه قول آخر : أن هذا راجع إلى قوله تعالى : ( ^ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ) إن كنتم آمنتم بالله وبما أنزلنا على عبدنا ( ^ يوم الفرقان ) يوم بدر ، فرق الله تعالى فيه بين الحق والباطل ( ^ يوم التقى الجمعان ) معناه : التقى حزب الله وحزب الشيطان
____________________


( ^ الجمعان والله على كل شيء قدير ( 41 ) إذ إنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم ( 42 ) إذ ) * * * *
( ^ والله على كل شيء قدير ) .
وروي عن الشعبي أنه قال : يوم الفرقان يوم السابع عشر من رمضان أخبر الله تعالى بتمام قدرته . < < الأنفال : ( 42 ) إذ أنتم بالعدوة . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إذ أنتم بالعدوة الدنيا ) الآية ، العدوة : شفير الوادي ؛ والغدوة والعدوة واحد ، وقوله ( ^ الدنيا ) يعني : الأدنى من المدينة ؛ فهي تأنيث الأدنى ( ^ وهم بالعدوة القصوى ) يعني : الأقصى من مكة ؛ وهي تأنيث الأقصى ( ^ والركب أسفل منكم ) قالوا معناه : والركب بمنزل أسفل منكم . والركب : هو العير الذي كان عليه أبو سفيان ، وكانوا بساحل البحر على ثلاثة أميال من بدر ( ^ ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ) معناه : ولو تواعدتم الاتفاق والاجتماع للقتال لاختلفتم لقلتكم وكثرتهم ( ^ في الميعاد ولكن ) الله جمع من غير ميعاد ( ^ ليقضي الله أمرا كان مفعولا ) .
قوله تعالى : ( ^ ليهلك من هلك عن بينة ) الآية فيها قولان :
أحدهما - وهو الأظهر - : أن الهلاك هو الكفر ، والحياة هي الإيمان ، ومعناه : ليكفر من كفر عن حجة بينة فيما له وعليه ( ^ ويحيا من حي ) يعني : ويؤمن من آمن على مثل ذلك .
والقول الثاني : أن الهلاك هو الموت ، والحياة هي العيش ، ومعناه : ليموت من يموت عن حجة بينة ، ويعيش من يعيش على مثل ذلك .
( ^ وإن الله لسميع عليم ) سميع لأقوالكم ، عليم بأموركم . < < الأنفال : ( 43 ) إذ يريكهم الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إذ يريكهم الله في منامك قليلا ) الآية فيها قولان :
أظهر القولين : أن المنام حقيقة النوم ؛ فرآهم رسول الله في نومه أقل مما كانوا
____________________


( ^ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور ( 43 ) وإذ يريكموهم إذا التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور ( 44 ) يا أيها الذين آمنوا ) * * * * في العدد .
والقول الثاني وهو قول الحسن البصري : أنه قوله تعالى : ( ^ في منامك ) أي : في عينك قليلا ؛ وسمى العين مناما ؛ لأنها موضع النوم .
( ^ ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ) لجبنتم ( ^ ولتنازعتم في الأمر ) يعني : في الإحجام والإقدام ( ^ ولكن الله سلم ) أي : سلمكم من الفشل والجبن ( ^ إنه عليم بذات الصدور ) .
وقد صح عن النبي أنه كان يستعيذ بالله من الجبن . < < الأنفال : ( 44 ) وإذ يريكموهم إذ . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور ) معنى الآية : أن الله تعالى قلل المشركين في أعين المؤمنين ؛ ليقدموا ولا يجبنوا ، وقلل المؤمنين في أعين الكفار ؛ لئلا يهربوا .
وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : قلت يوم بدر لبعض من كان بجنبي : تراهم سبعين رجلا ، فقال : أراهم مائة ، ثم إنا أسرنا منهم فقلنا لهم : كم كنتم ؟ فقالوا : كنا ألفا ( ^ ليقضي الله ) يعني : ليقضي الله من إعلاء الإسلام وإذلال الشرك ونصرة المؤمنين وقتل المشركين . < < الأنفال : ( 45 ) يا أيها الذين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة ) الآية ، الفئة : الجماعة .
____________________


( ^ إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ( 45 ) وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين ( 46 ) ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعلمون ) * * * *
قوله : ( ^ فاثبتوا واذكروا الله كثيرا ) ومعنى ذكر الله : هو الدعاء بالنصرة والظفر ( ^ لعلكم تفلحون ) وكونوا على رجاء الفلاح . < < الأنفال : ( 46 ) وأطيعوا الله ورسوله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وأطيعوا الله ورسوله ) الآية ، وقوله : ( ^ ولا تنازعوا فتفشلوا ) معناه : ولا تختلفوا فتضعفوا ( ^ وتذهب ريحكم ) معناه : جدكم وجهدكم .
وقال قتادة : الريح هاهنا : ريح النصرة . وقد صح عن النبي أنه قال : ' نصرت بالصبا ، وأهلكت عاد بالدبور ' .
والقول الثالث ، قول الأخفش وغيره : وتذهب ريحكم أي : دولتكم ( ^ واصبروا إن الله مع الصابرين ) معلوم التفسير .
وفي الآية فضيلة عظيمة لأهل الصبر ؛ فإن الله تعالى قال : ( ^ إن الله مع الصابرين ) قال الشاعر :
( إني رأيت في الأيام تجربة ** للصير عاقبة محمودة الأثر )
قوله تعالى : ( ^ ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ) الآية ، البطر : الطغيان في النعمة وترك الشكر ، والرياء : إظهار الجميل وإبطان القبيح .
والآية نزلت في المشركين حين أقبلوا إلى بدر ، < < الأنفال : ( 47 ) ولا تكونوا كالذين . . . . . > > فقال تعالى للمؤمنين : ( ^ ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ) .
( ^ ويصدون عن سبيل الله ) معناه : يمنعون عن سبيل الحق ( ^ والله بما يعلمون محيط ) روي عن النبي أنه قال حين أقبل المشركون : ' اللهم هذه قريش أقبلت
____________________


( ^ محيط ( 47 ) وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم وإني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب ( 48 ) إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ) * * * * بفخرها وخيلائها تحادك وتحاد رسولك ' الخبر إلى آخره . < < الأنفال : ( 48 ) وإذ زين لهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس ) الآية . روي أن إبليس - عليه ما يستحق - تمثل في صورة سراقة بن مالك وقال للمشركين : ( ^ وإني جار لكم ) معناه : مجير لكم من بني كنانة ، فلا يصيبكم منهم سوء ، ثم جعل يحرضهم على القتال ( ^ فلما تراءت الفئتان ) أي : تلاقت الفئتان ، المؤمنون والمشركون ( ^ نكص على عقبيه ) رجع القهقري على عقبيه ( ^ وقال إني بريء منكم ) في القصة : أنه كان آخذا بيد الحارث بن هشام أخي أبي جهل ، فلما رأى الملائكة ينزلون من السماء يقدمهم جبريل - عليه السلام - نزع يده من يد الحارث وهرب ، فقال له الحارث : أفرارا من غير قتال ؟ وجعل يمسكه ، فدفع في صدره وقال : ( ^ إني أرى ما لا ترون ) وهرب ( ^ إني أخاف الله ) .
فإن قال قائل : كيف قال إني أخاف الله وقد ترك السجود لآدم وهو لم يخف الله ؟ الجواب فيه قولان :
أحدهما : أنه قال هذا كذبا ، والقول الثاني : أنه خاف أن يؤخذ فيفتضح بين الإنس . ومنهم من قال : خاف أنه قد حضر أجله ( ^ والله شديد العقاب ) . < < الأنفال : ( 49 ) إذ يقول المنافقون . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ) هؤلاء قوم كانوا أسلموا بمكة ولم يهاجروا ، فكان في قلوبهم بعض الريب ، فخرجوا مع المشركين وقالوا : إن نرى مع محمد قوة انتقلنا إليه ، فلما رأوا قلة المؤمنين وضعف شوكتهم قالوا هذا القول ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ( ^ إذ يقول المنافقون . . . ) الآية .
قوله تعالى : ( ^ ومن يتوكل على الله ) ومن يثق بالله ( ^ فإن الله عزيز حكيم ) قد
____________________


( ^ غر هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم ( 49 ) ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق ( 50 ) ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد ( 51 ) كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب ( 52 ) ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم ) * * * * بينا معنى العزيز الحكيم من قبل . < < الأنفال : ( 50 ) ولو ترى إذ . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة ) فيه قولان :
أحدهما : أن هذا عند الموت ، وقوله : ( ^ يضربون وجوههم وأدبارهم ) يضربون وجوههم بأسواط النار ، وأدبارهم سوقا إلى العذاب .
والقول الثاني : أن التوفي هاهنا هو القتل ، ومعناه : قتل الملائكة المشركين ببدر ، وقوله ( ^ يضربون وجوههم وأدبارهم ) معناه : يضربونهم بالسيف إذا أقبلوا . وقوله ( ^ وأدبارهم ) ويضربونهم بالسيف إذا أدبروا ، ويقولون : ( ^ وذوقوا عذاب الحريق ) .
روي عن الحسن البصري أنه قال : مع الملائكة مقامع من حديد يضربون بها الكفار ، فتلتهب النار في جراحاتهم ؛ فهذا معنى قوله : ( ^ وذوقوا عذاب الحريق ) . < < الأنفال : ( 51 ) ذلك بما قدمت . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد ) ومعناه ظاهر . < < الأنفال : ( 52 ) كدأب آل فرعون . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ كدأب آل فرعون ) الآية ، الدأب هاهنا بمعنى العادة ، ومعناه : عادتهم في الكفر كعادة آل فرعون ( ^ والذين من قبلهم كفروا بآيات الله ) الآية ، ومعنى الآية ظاهر . < < الأنفال : ( 53 ) ذلك بأن الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم ) الآية ، فيه قولان :
أحدهما : معناه : ( ^ لم يكن مغيرا نعمة ) يعني : لم يكن مبدلا النعمة بالبلية
____________________


( ( 53 ) كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين ( 54 ) إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون ( 55 ) الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون ) * * * * ( ^ حتى يغيروا ما بأنفسهم ) يعني : حتى يتركوا الشكر ، ويؤتوا الكفران .
والقول الثاني : أن هذا في أهل مكة ؛ فإن الرسول كان نعمة أنعمها الله تعالى عليهم ، فكفروا بهذه النعمة ، فغيرها الله تعالى ، ومعناه : أنه نقلها إلى أهل المدينة ( ^ وأن الله سميع عليم ) معلومان . < < الأنفال : ( 54 ) كدأب آل فرعون . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ كدأب آل فرعون ) ومعناه : ما بينا ، وإعادة الذكر للتأكيد ، ويجوز أن هذا كان في قوم آخرين سوى الأولين .
قوله تعالى : ( ^ والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم ) يعني : نهلك هؤلاء كما أهلكنا أولئك .
قوله تعالى : ( ^ وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين ) يعني : الأولين والآخرين . < < الأنفال : ( 55 ) إن شر الدواب . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن شر الدواب عند الله الذين كفروا ) الآية . هذه الآية مثل قوله تعالى : ( ^ أولئك كالأنعام بل هم أضل ) سماهم الله تعالى دواب وأنعاماً ؛ لقلة انتفاعهم بعقولهم وألبابهم وأسماعهم وأبصارهم ( ^ فهم لا يؤمنون ) معناه ظاهر . < < الأنفال : ( 56 ) الذين عاهدت منهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ الذين عاهدت منهم ) هذه الآية نزلت في قوم من المشركين عاهدوا مع رسول الله ثم نقضوا العهد ، فقال الله تعالى : ( ^ الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة ) يعني : كلما عاهدوا نقضوا ( ^ وهم لا يتقون ) معناه : لا يتقون نقض العهد . < < الأنفال : ( 57 ) فإما تثقفنهم في . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فإما تثقفنهم في الحرب ) معناه : فإما تصادفنهم في الحرب ( ^ فشرد بهم من خلفهم ) قال سعيد بن جبير : أنذر بهم من خلفهم ، قال الشاعر :
( أطوف في الأباطح كل يوم ** مخافة أن يشرد بي حكيم )
____________________


( ( 56 ) فإما تثقفهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون ( 57 ) وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين ( 58 ) ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون ( 59 ) وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ) * * * *
قوله تعالى : ( ^ لعلهم يذكرون ) يعني : يتذكرون .
ومعنى الآية : أي نكل بهؤلاء الذين جاءوا لحربك أو نقضوا عهدك تنكيلا يفرق بينهم من خلفهم من جماعاتهم . < < الأنفال : ( 58 ) وإما تخافن من . . . . . > >
فقوله تعالى : ( ^ وإما تخافن من قوم خيانة ) الآية ، معنى المخافة هاهنا : هو الإحساس بالخيانة ( ^ فانبذ إليهم على سواء ) يعني : فانبذ العهد إليهم ( ^ على سواء ) يعني : على حالة تستوي أنت وهم في العلم به .
والمراد من الآية : ألا تقاتلهم قبل نبذ العهد ، وقبل علمهم بالنبذ حتى لا تنسب إلى نقض العهد ، وهذه الآية تعد من فصيح القرآن .
قوله تعالى : ( ^ إن الله لا يحب الخائنين ) والمعنى معلوم . < < الأنفال : ( 59 ) ولا يحسبن الذين . . . . . > >
قوله تعالى ( ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا ) الآية في القوم الذين انهزموا يوم بدر من المشركين ، قوله : ( ^ سبقوا ) يعني : فاتوا .
قوله ( ^ إنهم لا يعجزون ) يعني : لا يفوتوني . وقرأ ابن محيصن : ' لايعجزون ' والصحيح القراءة الأولى . وقد قرئت الآية بقراءتين : ' أنهم ' و ' إنهم ' فقوله : ' إنهم ' على طريق الابتداء ، وقوله : ' أنهم ' يعني : لأنهم لا يفوتون . ومعنى الفوات منقول عن أبي عبيدة ، وعن الحسن البصري أنه قال : ( ^ لا يعجزون ) معناه : إن فاتهم عذاب الدنيا لا يفوتهم من عذاب الآخرة . < < الأنفال : ( 60 ) وأعدوا لهم ما . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ) الآية ، الإعداد : اتخاذ الشيء لوقت الحاجة ، وقوله : ( ^ من قوة ) فيه أقوال :
____________________


( ^ ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا ) * * * *
أحدها : ما روى عقبة بن عامر : ' أن النبي قرأ هذه الآية على المنبر ثم قال : ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي ' . أورده مسلم في ' الصحيح ' .
والقول الثاني : وهو أن القوة : ذكور الخيل ، والرباط : إناثها . هذا قول عكرمة .
وروي عن خالد بن الوليد أنه كان لا يركب في القتال إلا الإناث ؛ لقلة صهيلها .
وعن أبي محيريز قال : كانوا يستحبون ركوب ذكور الخيل عند الصفوف ، وركوب إناث الخيل عند الثبات والغارات .
والقول الثالث : أن القوة : هي جميع الأسلحة . وقد قيل : إن القوة : الحصون ؛ والحصون : الخيول ، قال الشاعر :
( ولقد علمت على تجنبي الردى ** أن الحصون الخيل لا مدر القرى )
وقوله : ( ^ ترهبون به ) معناه : تخيفون به ( ^ عدو الله وعدوكم ) أي : أعداء الله وأعداءكم واحد بمعنى الجمع . وقوله : ( ^ وآخرين من دونهم ) أي : ترهبون به آخرين من دونهم ، واختلفوا في معناه :
روي عن مجاهد أنه قال : هم بنو قريظة . وفيه قول آخر : أنهم المنافقون .
وفيه قول ثالث : أنهم الجن . وعن السدى أنه قال : أهل فارس .
وروي عن النبي أنه قال : ' لن يخبل الجن آدميا في داره فرس عتيق ' . أورده النقاش في تفسيره .
____________________


( ^ من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون ( 60 ) وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم ( 61 ) وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين ( 62 ) وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض ) * * * *
وفي الآية قول رابع : روي عن معاذ بن جبل أنه قال : ( ^ وآخرين من دونهم ) يعني : الشياطين .
وقوله : ( ^ لا تعلمونهم الله يعلمهم ) ظاهر .
قوله : ( ^ وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون ) أي : لا ينقص أجوركم . < < الأنفال : ( 61 ) وإن جنحوا للسلم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ) السلم والسلم والسلم : الصلح ، ومعناه : وإن مالوا إلى الصلح فمل إليه .
وروي عن الحسن وقتادة أنهما قالا : هذه الآية منسوخة بآية السيف .
قوله تعالى : ( ^ وتوكل على الله ) معناه : ثق بالله ( ^ إنه هو السميع العليم ) . < < الأنفال : ( 62 ) وإن يريدوا أن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإن يريدوا أن يخدعوك ) الخداع : أن يظهر خلاف ما يبطن .
قوله : ( ^ فإن حسبك الله ) يعني : فإن كافيك هو ( ^ هو الذي أيدك بنصره ) هو الذي قواك بنصره ( ^ وبالمؤمنين ) أي : قواك بالمؤمنين < < الأنفال : ( 63 ) وألف بين قلوبهم . . . . . > > ( ^ وألف بين قلوبهم ) أكثر المفسرين أن هذا في الأوس والخزرج ؛ وقد كانت بينهم إحن وتراث في الجاهلية ، وكان القتال بينهم قائما مائة سنة ، فألف الله بين قلوبهم بالنبي قال الزجاج : كان الرجل منهم يلطم اللطمة فكان يقاتل بقوته إلى أن يستفيد منها ، فألف الله بين قلوبهم بالإسلام ، حتى صار الرجل يقاتل أخاه وقريبه على الإسلام .
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال : نزلت الآية في المتحابين في الله .
وفي الأخبار عن النبي أنه قال : ' المؤمن مألفة ، ولا خير فيمن لا يؤلف ولا
____________________

( ^ جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم ( 63 ) يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين ( 64 ) يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن ) * * * * يألف .
وعن خالد بن معدان أنه قال : إنه لله ملكا في السماء ؛ نصفه من ثلج ونصفه من نار ، وتسبيحه : اللهم كما ألفت بين الثلج والنار فألف بين قلوب عبادك الصالحين .
قوله ( ^ لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم ) أي منيع في ملكه ، حكيم في خلقه . < < الأنفال : ( 64 ) يا أيها النبي . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين ) روي عن ابن عباس برواية الوالبي أنه قال : أسلم تسعة وثلاثون رجلا وثلاث وعشرون امرأة ، ثم أسلم عمر رضي الله عنه تمام الأربعين ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
وفي الآية قولان : أحدهما : ( ^ يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك ) أي : يكفيك الله ويكفي من اتبعك من المؤمنين ، فتكون ' من ' في موضع النصب .
والقول الثاني : ( ^ حسبك الله ) وحسبك تباعك من المؤمنين ؛ فتكون ' من ' في موضع الرفع ، قال الشاعر :
( إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا ** فحسبك والضحاك سيف مهند )
وهذا استشهاد للقول الأول .
وقرأ الشعبي : ' حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين ' ومعناه قريب من الأول . < < الأنفال : ( 65 ) يا أيها النبي . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال ) قرئ في الشاذ : ' حرص
____________________

( ^ يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون ( 65 ) الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع ) * * * * المؤمنين ' بالصاد غير معجمة ، والمعروف بالضاد معجمة ؛ والتحريض : هو الحث على المبادرة إلى الشيء .
قوله تعالى : ( ^ إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا ) هذا خبر بمعنى الأمر ، وكان الله تعالى أمر المؤمنين ألا يفر الواحد منهم عن عشرة ، ولا تفر المائة منهم عن ألف . فإن قال قائل : أيش معنى ( ^ بأنهم قوم لا يفقهون ) وأي اتصال لهذا بمعنى الآية ؟
جوابه : معناه : أنهم يقاتلون على جهالة لا على حسبة وبصيرة ، وأنتم تقاتلون على بصيرة وحسبة ، فلا يثبتون إذا ثبتم ، ثم إن المسلمين سألوا الله التخفيف ، فأنزل الله تعالى الآية الأخرى ، وأمر ألا يفر الواحد من أثنين ، والمائة من المائتين .
فإن قال قائل : الله تعالى قال : ( ^ يغلبوا مائتين ) ونحن رأينا القتال على هذا العدد بلا غلبة ، فكيف يستقيم معنى الآية ، والخلف في خبر الله لا يجوز ؟
قلنا : إن معنى قوله : ( ^ يغلبوا ) أي : يقاتلوا ؛ كأنه أمرهم بالقتال على رجاء الظفر والنصرة من الله تعالى . < < الأنفال : ( 66 ) الآن خفف الله . . . . . > >
وأما قوله : ( ^ الآن خفف الله عنكم ) هذه الآية ناسخة للآية الأولى ، وقرأ أبو جعفر يزيد بن القعقاع : ' وعلم أن فيكم ضعفاء ' والمعروف : ' ضعفا ' و ' ضعفا ' ومعناهما واحد .
( ^ فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين ) وباقي الآية معناه معلوم .
____________________


( ^ الصابرين ( 66 ) ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم ( 67 ) لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما ) * * * * < < الأنفال : ( 67 ) ما كان لنبي . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ما كان لنبي أن يكون له أسرى ) قرئ : ' أسرى ، وأسارى ' . قال أهل اللغة : أسرى جمع أسير ، وأسارى جمع الجمع . وحكى الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال : الأسرى هم المأخوذون من غير شد ، والأسارى هم الذين أخذوا وشدوا . والأصح عند أهل اللغة أنه لا فرق بينهما ، قاله الأزهري .
وقوله تعالى : ( ^ حتى يثخن في الأرض ) الإثخان : القتل ، وقيل : المبالغة في التنكيل .
( ^ تريدون عرض الدنيا ) بالإفداء .
قوله تعالى : ( ^ والله يريد الآخرة ) معناه : يرغبكم في الآخرة ، وقوله : ( ^ والله عزيز حكيم ) قد ذكرنا معنى العزيز الحكيم .
واعلم أن الآية نزلت في أسارى بدر ؛ فإنه روي : ' أن النبي قتل سبعين يوم بدر ، وأسر سبعين من المشركين ، ثم إنه استشار أصحابه في الأسارى ، فقال أبو بكر - رضي الله عنه - : هؤلاء قومك وأسرتك وأهلك ، استبقهم لعل الله أن يهديهم بك ، وخذ منهم الفداء ؛ فيكون معونة للمسلمين . وقال عمر : هؤلاء آذوك وأخرجوك وكفروا بما جئت به فاضرب أعناقهم . فمال الرسول إلى قول أبي بكر وأحب ما ذكره ' .
وروي ' أنه قال لأبي بكر : مثلك مثل إبراهيم حين قال : ( ^ فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ) وقال لعمر : مثلك مثل نوح حين قال : ( ^ رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ) ' ثم قال لأصحابه : لا يخلين أحد منكم
____________________


( ^ أخذتم عذاب عظيم ( 68 ) فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم ) * * * * عن أسير إلا بفداء أو بضرب عنقه ففادوا وكان الفداء لكل أسير أربعين أوقية ، الأوقية أربعون درهما ، فأنزل الله تعالى هذه الآية إلى آخرها . < < الأنفال : ( 68 ) لولا كتاب من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ) روي عن النبي برواية أبي هريرة أنه قال : ' لم تحل الغنائم لأحد سود الرءوس قبلكم ؛ كانت نار تنزل من السماء فتأكلها . قال أبو هريرة : فلما كان يوم بدر ووقعوا فيما وقعوا من الغنائم فادوا الأسارى قبل أن ينزل الوحي بالجواز ، أنزل الله تعالى : ( ^ لولا كتاب من الله سبق لمسكم ) الآية ' . وفي معنى الآية أقوال :
أحدها : لولا كتاب من الله سبق في تحليل الغنائم لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم . هذا قول سعيد بن جبير وجماعة .
والثاني : لولا كتاب من الله سبق من مغفرته لأهل بدر ما صنعوا ؛ لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ، هذا قول الحسن البصري .
والثالث : لولا كتاب من الله سبق أنهم لم يقدم إليكم ألا تأخذوا ؛ لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ؛ فإنه لا يعذب من غير تقدمة .
وقد صح عن النبي أنه قال : ' أريت عذابكم دون هذه الشجرة ، وأشار إلى شجرة قريبة منه ' . وروي أنه قال لعمر : ' لو نزل العذاب ما نجا أحد سواك ' .
وروي أنه قال له : ' كاد يصيبنا ' .
____________________


( ( 69 ) يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم ( 70 ) وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم ( 71 ) إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا ) * * * *
وروي أنه لما نزلت الآية الأولى كف أصحاب رسول الله أيديهم عما أخذوا من الفداء ، فأنزل الله تعالى هذه الآية إلى آخرها . < < الأنفال : ( 70 ) يا أيها النبي . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى ) نزلت هذه الآية في العباس بن عبد المطلب ، فإنه أسر يوم بدر ، وكانت معه عشرون أوقية من الذهب فأخذت منه ، ثم قال له النبي : ' افد نفسك وابني أخيك - يعني عقيلا ونوفلا - فقال : مالي شيء ، وقد أخذتم ما كان معي ، قال : أين المال الذي دفعته إلى أم الفضل وقلت : إن أصبت في هذا الوجه فلعبد الله كذا ، وللفضل كذا ، ولقثم كذا ؟ فقال : والله ما كان معنا أحد ، فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ؛ ثم إنه فادى نفسه وابني أخيه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية إلى آخرها ' .
قوله تعالى : ( ^ إن يعلم الله في قلوبكم خيرا ) معناه : إن يعلم في قلوبكم إيمانا .
قوله تعالى : ( ^ يؤتكم خير مما أخذ منكم ) قال العباس : فقد آتاني الله خيرا مما أخذ مني ، وكان له عشرون عبدا يتجر كل عبد في عشرين ألف درهم .
وقوله : ( ^ ويغفر لكم والله غفور رحيم ) قال العباس : وأنا أرجو من الله المغفرة . < < الأنفال : ( 71 ) وإن يريدوا خيانتك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإن يريدوا خيانتك ) الخيانة : ضد الأمانة ؛ ومعناه : إن أرادوا أن يكفروا بك ( ^ فقد خانوا الله من قبل ) أي : قد كفروا بالله من قبل .
قوله : ( ^ فأمكن منهم ) يعني : مكن منهم ( ^ والله عليم حكيم ) . < < الأنفال : ( 72 ) إن الذين آمنوا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ) الآية ، الهجرة : هي الخروج من الوطن إلى غيره ، وقد كانت فرضا في ابتداء
____________________


( ^ بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير ( 72 ) والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ( 73 ) ) * * * * الإسلام ، فلما كان يوم فتح مكة قال النبي : ' لا هجرة بعد اليوم ' .
وروي عن الحسن البصري أنه قال : الهجرة قائمة إلى قيام الساعة ، فعلى أهل البوادي إذا أسلموا أن يهاجروا إلى الأمصار .
قوله : ( ^ والذين آووا ونصروا ) هؤلاء أهل المدينة ؛ ومعنى الإيواء : ضمهم المهاجرين إلى أنفسهم في الأموال والمساكن .
قوله : ( ^ أولئك بعضهم أولياء بعض ) فيه قولان :
أحدهما : أولئك أعوان بعض .
والقول الثاني معناه : يرث بعضهم من بعض .
قوله تعالى : ( ^ والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا ) قطع الموالاة بين المسلمين وبينهم حتى يهاجروا ، وكان المهاجر لا يرث من الأعرابي ، ولا الأعرابي من المهاجر ، ثم قال : ( ^ وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر ) يعني : وإن استنصروكم الذين لم يهاجروا فعليكم النصر ، ثم استثنى وقال : ( ^ إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق ) أي : موادعة ، فلا تنصروهم عليهم . قوله : ( ^ والله بما تعملون بصير ) معناه ظاهر . < < الأنفال : ( 73 ) والذين كفروا بعضهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ والذين كفروا بعضهم أولياء بعض ) يعني : أن بعضهم أعوان بعض .
والقول الثاني : إن بعضهم يرث من البعض .
وقوله ( ^ إلا تفعلوه ) يعني : إن لم تقبلوا هذا الحكم ( ^ تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ) الفتنة في الأرض : قوة الكفر ، والفساد الكبير : ضعف الإيمان .
____________________

( ^ والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم ( 74 ) والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم ( 75 ) ) * * * * < < الأنفال : ( 74 ) والذين آمنوا وهاجروا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا ) ( الآية ) ، فإن قيل : أي معنى في هذا التكرار ؟
قلنا : المهاجرون كانوا على طبقات ، وكان بعضهم أهل الهجرة الأولى ، وهم الذين هاجروا قبل الحديبية ، وبعضهم أهل الهجرة الثانية ، وهم الذين هاجروا بعد الحديبية قبل فتح مكة ، وكان بعضهم ذا هجرتين ، وهما الهجرة إلى الحبشة والهجرة إلى المدينة ؛ فالمراد من الآية الأولى الهجرة الأولى ، والمراد من الثانية الهجرة الثانية .
قوله تعالى : ( ^ أولئك هم المؤمنون حقا ) يعني : لا مرية ولا ريب في إيمانهم .
قوله : ( ^ لهم مغفرة ورزق كريم ) روى في الرزق الكريم أن المراد منه : رزق الجنة لا يصير بخوى ؛ بل يصير رشحا له ريح المسك . < < الأنفال : ( 75 ) والذين آمنوا من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم ) الآية ، أراد به : فأولئك معكم ، فأنتم منهم وهم منكم .
قوله تعالى : ( ^ وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) أكثر المفسرين على أن هذه الآية ناسخة لما سبق من إثبات الميراث بالهجرة ، فنقل الميراث من الهجرة إلى الميراث بالقرابة .
قوله تعالى : ( ^ في كتاب الله ) أي : في حكم الله .
قوله : ( ^ إن الله بكل شيء عليم ) قال أهل العلم : ليس المراد من أولي الأرحام الأقرباء الذين ليس لهم عصوبة ولا فرض ؛ وإنما المراد من أولي الأرحام [ أهل العصابات ] ثم ميراث الأقرباء مذكور في موضع آخر ، وهو آية الميراث ، والله أعلم .
____________________

<
> تفسير سورة التوبة <
>
اعلم أن هذه السورة مدنية ، وقد صح عن النبي برواية البراء بن عازب : ' أنها آخر سورة أنزلت كاملة ' ولها أسماء كثيرة .
وروي عن ابن عباس أنه سئل عن هذه السورة ، فقال : هي الفاضحة ؛ مازال ينزل قوله [ تعالى ] : ومنهم ، ومنهم ، حتى طننا أنه لا يترك منا أحدا . وقال حذيفة بن اليمان : هي سورة العذاب .
ومن المعروف أنها تسمى سورة البحوث ، ومن أسمائها : المبعثرة ، ومن أسمائها : المنيرة ، ومن أسمائها : الحافرة ، لأنها حفرت عن قلوب المنافقين . وروى النقاش عن ابن عمر أنها تسمى المقشقشة . وعن عمران بن حدير أنه قال : قرأت هذه السورة على أعرابي ، فقال : هذه السورة أظنها آخر ما أنزلت ، فقلت له : ولم ؟ فقال : أرى عهودا تنبذ ، وعقودا تنقض .
وعن سعيد بن جبير : أن هذه السورة كانت تعدل سورة البقرة في الطول .
وأما الكلام في حذف التسمية : روي عن ابن عباس أنه قال : ' قلت لعثمان - رضي الله عنه - : ما بالكم عمدتم إلى سورة التوبة وهي من المئين ، وإلى سورة الأنفال وهي من المثاني ، فقرنتم بينهما ولم تكتبوا سطر ( ^ بسم الله الرحمن الرحيم ) ؟ فقال : ' كان إذا أنزل على رسول الله الشيء من القرآن دعا بعض من يكتب ، فيقول له : ضعه في سورة كذا ، ضعه في سورة كذا ، وكانت الأنفال من أول ما أنزلت بالمدينة ، والتوبة من آخر ما أنزلت ، وكان قصتيهما شبيهة بعضها ببعض ، وخرج رسول الله من الدنيا ولم يبين لنا شيئا فظننا أنهما سورة واحدة ؛ فلذلك قرنا بينهما ولم نكتب ( ^ بسم الله الرحمن الرحيم ) .
____________________

( ^ براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ( 1 ) فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين ( 2 ) وأذان ) * * * *
وهذا خبر في ' الصحيح ' أورده مسلم ، وروى أن الصحابة اختلفوا ، فقال بعضهم : هما سورتان ، وقال بعضهم : هما سورة واحدة ؛ فاتفقوا أن يفصلوا ببياض بين السورتين ، ولا يكتبوا : ' بسم الله الرحمن الرحيم ' .
والقول الثالث : ما حكى عن سفيان بن عيينة من المتقدمين ، والمبرد من المتأخرين : أن السورة سورة نقض العهد والبراءة من المشركين ؛ والتسمية أمان وافتتاح خير ؛ فلهذا لم يكتبوا ' بسم الله الرحمن الرحيم ' . < < التوبة : ( 1 ) براءة من الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ برآءة من الله ورسوله ) قوله : ( ^ براءة ) هذه براءة ، والبراءة : نقض العصمة ، ومعنى الآية : تبرؤ من الله ورسوله .
( ^ إلى الذين عاهدتم من المشركين ) وقال بعضهم : برىء الله ورسوله من المشركين . < < التوبة : ( 2 ) فسيحوا في الأرض . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فسيحوا في الأرض ) معناه : أقبلوا وأدبروا واذهبوا وجيئوا ( ^ أربعة أشهر ) اختلفوا في الأشهر الأربعة :
قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة : ابتداؤه من يوم النحر ، وآخره العاشر من شهر ربيع الآخر . وقال الزهري : هو شوال ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم .
والقول الأول هو الصواب .
قوله تعالى : ( ^ واعلموا أنكم غير معجزي الله ) أي : غير فائتي الله ، ومعناه : أنه
____________________

وإن أجلكم هذه المدة فلا يعجز عن عذابكم ، كما يعجز من يفوته الشيء ( ^ وأن الله مخزي الكافرين ) أي : مذل الكافرين .
وسبب نزول الآية : ' أنه كان بين رسول الله وبين المشركين عهود ومدد ، فلما غزا غزوة تبوك أرجف المنافقون بالنبي ، فجعل المشركون ينقضون العهود - وقيل : إن هذا كان قبل غزوة تبوك - فلما كانت سنة تسع من الهجرة بعث أبا بكر - رضي الله عنه - للحج بالناس ، وبعث عليا - رضي الله عنه - ليقرا على الناس هذه الآيات من أول هذه السورة . ويروى أنه بعث أبا بكر أولا ، ثم إنه بعث عليا في إثره ، وقال : ' لا يبلغ هذه الآيات إلا رجل منى ' يعني : من رهطي فكان أبو بكر أميرا على الموسم ، وكان علي ينادي في الناس بهذه الآيات .
وروى أن عليا سئل : بم بعثك رسول الله ؟ فقال : بعثني بأربعة أشياء : أولها : من كان بينه وبين رسول الله عهد فمدته إلى أربعة أشهر ، والثاني : لا يحجن بعد هذا العام مشرك ، والثالث : لا يطوفن بالبيت عريان ، والرابع : لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ' .
فإن قال قائل : كيف بعث أبا بكر بهذه الآيات ثم عزله وبعث عليا ، وقال : ' لا يبلغ عني إلا رجل مني ' ، فإن كان لا يبلغ هذا إلا رجل من رهطه ، فكذلك سائر الأشياء ؟
والجواب عنه : ذكر العلماء أن رسول الله لم يعزل أبا بكر عن الموسم ، وكان هو الأمير ، وإنما بعث عليا لينادى بهذه الآيات ؛ لأن العرب كانوا تعارفوا أنه لا يعقد على القوم إلا سيدهم ، ولا ينقض إلا سيدهم أو رجل من أهله ، فبعث عليا على ما تعارفوا ؛ ليزيح العلل بالكلية ، فلا تبقى لهم علة ، فكان المعنى هذا ، والله أعلم .
____________________


( ^ من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين ) * * * * < < التوبة : ( 3 ) وأذان من الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وأذان من الله ورسوله ) معناه : إعلام من الله ورسوله ، قال الحارث بن حلزة :
( آذنتنا بينهماأسماء ** رب ثاو يمل منه الثواء )
معناه : أعلمتنا .
قوله تعالى : ( ^ إلى الناس يوم الحج الأكبر ) اختلفوا في يوم الحج الأكبر على أقوال :
روى يحيى بن ( الجزار ) أن عليا - رضي الله عنه - خرج يوم العيد على دابة ، فأخذ رجل بلجام دابته ، وقال : ما يوم الحج الأكبر ؟ فقال : هو اليوم الذي أنت فيه ، خل عنها .
وروى مثل هذا عن ابن عمر ، والمغيرة بن شعبة ، وعبد الله بن أبي أوفى .
والقول الثاني : قول ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : هو يوم عرفة . وهو قول مجاهد والشعبي والنخعي وجماعة .
وقال ابن سيرين - وهو القول الثالث - : يوم الحج الأكبر هو اليوم الذي حج فيه رسول الله ، اتفق فيه حج أهل المل كلها .
والصحيح هو أحد القولين الأولين .
واختلفوا في الحج الأكبر :
فأحد القولين : أن الحج الأكبر هو القرآن ، والحج الأصغر هو الإفراد .
والقول الثاني : أن الحج الأكبر : هو الحج ، والأصغر هو العمرة .
قوله : ( ^ أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم ) معناه : ورسوله بريء
____________________


( ^ كفروا بعذاب أليم ( 3 ) إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين ( 4 ) فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم ) * * * * أيضا . < < التوبة : ( 4 ) إلا الذين عاهدتم . . . . . > > ( ^ إلا الذين عاهدتم من المشركين ) وقع الاستثناء على قوم من بني ضمرة أمر الله رسوله أن يتم إليهم عهدهم إلى مدتهم ، وكان قد بقي من مدتهم تسعة أشهر ؛ والسبب في الإتمام : أنهم لم ينقضوا العهد ، وهذا معنى قوله تعالى : ( ^ ثم لم ينقصوكم شيئا ) ، وقرأ عطاء بن يسار : ' ثم لم ينقضوكم شيئا ' بالضاد المعجمة .
قوله تعالى : ( ^ ولم يظاهروا عليكم أحدا ) ومعناه : ولم يعاونوا عليكم أحدا ( ^ فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين ) يعني : المتقين عن نقض العهد . وروى عن الحسن البصري - رحمه الله - أنه قال : المتقي : من يدع مالا بأس به حذرا مما به بأس . < < التوبة : ( 5 ) فإذا انسلخ الأشهر . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين ) روي في التفاسير ' أن النبي أجل المشركين الذين كان بينهم وبين النبي عهد أربعة أشهر ، وأجل الذين لم يكن بين رسول الله وبينهم عهد باقي ذي الحجة والمحرم وهو خمسون ليلة ' فهذا معنى الآية .
فإن قيل : قال تعالى : ( ^ فإذا انسلخ الأشهر الحرم ) وما ذكرتم بعض الأشهر الحرم .
قلنا : هذا القدر كان متصلا بما مضى ؛ فأطلق عليه اسم الجميع ، ومعناه : هو مضى المدة المعروفة التي تقع بعد انسلاخ الأشهر الحرم .
قوله تعالى : ( ^ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) معناه معلوم .
قوله ( ^ وخذوهم ) ظاهر . أي : خذوهم أسرا ؛ والعرب تسمي الأسير أخيذا ، وفي المثل : أكذب من أخيذ .
قوله تعالى : ( ^ واحصروهم ) يعني : واحبسوهم ، يعني : حولوا بينهم وبين
____________________


( ^ واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم ( 5 ) وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون ( 6 ) كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما ) * * * * المسجد الحرام ، هذا هو معنى الحبس هاهنا .
وقوله : ( ^ واقعدوا لهم كل مرصد ) قال أبو عبيدة : المرصد : الطرق . يعني اقعدوا لهم بطرق مكة حتى لا يصلوا إلى المسجد الحرام قال الشاعر :
( ولقد علمت [ ولا أخالك ناسيا ] ** أن المنية للفتى بالمرصد )
قوله : ( ^ فإن تابوا ) يعني : آمنوا ( ^ وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ) يعني : خلوا سبيلهم ليصلوا إلى المسجد الحرام ( ^ إن الله غفور رحيم ) معلوم . < < التوبة : ( 6 ) وإن أحد من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإن أحد من المشركين استجارك فأجره ) الإستجارة : طلب الأمان . ومعنى الآية : وإن أحد من المشركين طلب منك الأمان فأجره ، أي : أمنه ( ^ حتى يسمع كلام الله ) يعني : فيما له وعليه من العقاب والثواب والوعد والوعيد ( ^ ثم أبلغه مأمنه ) يعني : الموضع الذي يأمن فيه ( ^ ذلك بأنهم قوم لا يعلمون ) ومعناه : أنهم يحتاجون إلى أن يسمعوا كلام الله تعالى لجهلهم . < < التوبة : ( 7 ) كيف يكون للمشركين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله ) قال الفراء : كلمة ' كيف ' هاهنا كلمة استفهام بمعنى الجحد ، ومعناه : لا يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله ، يعني : ولا عند رسوله .
قوله تعالى : ( ^ إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام ) هؤلاء قوم من بني ضمرة على ما ذكرنا .
قوله تعالى : ( ^ فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ) يعني : إذا وفوا بعهدكم وفوا
____________________


( ^ استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين ( 7 ) كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون ( 8 ) اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا ) * * * * بعهدهم ( ^ إن الله يحب المتقين ) قيل معناه : إن الله يحب المؤمنين ، وقيل : يحب المتقين نقض العهد . < < التوبة : ( 8 ) كيف وإن يظهروا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة ) يعني : كيف يكون لهم عهد وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة ؟ اختلفت الأقوال في ' إلا ' :
روي عن مجاهد أن ' إلا ' هو الله تعالى . وفي الشاذ قرئ : ' لا يرقبوا فيكم إيلا ولا ذمة ' ، وإيل : هو الله .
وروي عن أبي بكر - رضي الله عنه - أنه قال في كلمات مسيلمة الكذاب - لعنه الله - حين سمع أنه يقول : يا ضفدع نقي نقي ، كم تنقين ، لا الماء تكدرين ولا الشراب تمنعين . فقال أبو بكر : إن هذا كلام لم يخرج من إل يعني : من الله .
والقول الثاني قول أبي عبيدة : الإل هو العهد ، والذمة : التذمم .
والثالث : قول الضحاك - وهو أولى الأقاويل وأحسنها - قال : إن الإل هو القرابة ، والذمة : العهد ، قال حسان بن ثابت :
( لعمرك إن إلك من قريش ** كإل السقب من رأل النعام )
قوله تعالى : ( ^ يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم ) يعني : يعدون الوفاء بالقول ، وتأبى قلوبهم إلا الغدر ( ^ وأكثرهم فاسقون ) فإن قال قائل : هذا في المشركين وهم كلهم فاسقون ، فكيف قال : ( ^ وأكثرهم ) ؟
قلنا : الفسق هاهنا : نقض العهد ، وكان في المشركين من وفى بعهده ؛ فلهذا قال ( ^ وأكثرهم فاسقون ) . < < التوبة : ( 9 ) اشتروا بآيات الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا ) الآية . قال الحسن البصري : الدنيا
____________________


( ^ يعملون ( 9 ) لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون ( 10 ) فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون ( 11 ) وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر ) * * * * بحذافيرها ثمن قليل . ومعنى الآية : أنهم اختاروا الدنيا على رضا الله وعلى الإيمان بآيات الله ( ^ فصدوا عن سبيله ) يعني : منعوا الناس عن سبيله ( ^ إنهم ساء ما كانوا يعملون ) ظاهر المعنى . < < التوبة : ( 10 ) لا يرقبون في . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ) المراقبة : الحفظ ، والإل والذمة قد ذكرنا معناهما ( ^ وأولئك هم المعتدون ) المجاوزون للحدود . < < التوبة : ( 11 ) فإن تابوا وأقاموا . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون ) ظاهر المعنى . < < التوبة : ( 12 ) وإن نكثوا أيمانهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم ) هذا في العهد الذي كان بين رسول الله وبين قريش ، فنقضوا العهد ، وكان نقضهم : أنهم عاونوا بني بكر على خزاعة ، وكانت بنو بكر حلفاء قريش ، وخزاعة حلفاء النبي ، فجاء رجل من خزاعة إلى النبي بالمدينة ، وأنشده :
( لاهم إني ناشد محمدا ** حلف أبينا وأبيه الأتلدا )
( وإن قريشا نقضوك الموعدا ** وبيتونا بالوثير هجدا )
( وقتلونا ركعا وسجدا ** )
في أبيات كثيرة ، فقال رسول الله : ' لانصرت إن لم أنصركم ' .
____________________


( ^ إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون ( 12 ) ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين ( 13 ) قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف ) * * * *
وروى أنه رأى سحابة تبرق ، فقال رسول الله : ' إن هذه السحابة لتستهل بنصر خزاعة ' ، وكان هذا ابتداء القصد لفتح مكة .
قوله تعالى : ( ^ وطعنوا في دينكم ) هذا دليل على أن الذمي إذا طعن في دين الإسلام ظاهرا لا يبقى له عهد ، ويجوز قتله .
قوله : ( ^ فقاتلوا أئمة الكفر ) يعني : رءوس الكفر ، ورءوس الكفر هم : أبو سفيان ، وسهيل بن عمرو ، وأمية بن صفوان ، وعكرمة بن أبي جهل ( ^ إنهم لا أيمان لهم ) يعني : لا عهود لهم . وقرأ الحسن البصري : ' إنهم لا إيمان لهم ' وهو اختيار ابن عامر ، ويجوز أن تكون الأيمان هاهنا بمعنى الإيمان ، تقول العرب : أمنته إيمانا ، فذكر المصدر وأراد به الاسم ( ^ لعلهم ينتهون ) . < < التوبة : ( 13 ) ألا تقاتلون قوما . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم ) معناه معلوم .
قوله ( ^ وهموا بإخراج الرسول ) معلوم ( ^ وهم بدءوكم أول مرة ) أراد به أنهم بدءوا بالقتال في حرب بدر . قال أبو جهل - لعنه الله - : لا نرجع حتى نستأصل محمدا وأصحابه ( ^ أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين ) معناه : ظاهر . < < التوبة : ( 14 ) قاتلوهم يعذبهم الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ) معنى الآية ظاهر .
وقوله : ( ^ ويشف صدور قوم مؤمنين ) يعني : خزاعة . < < التوبة : ( 15 ) ويذهب غيظ قلوبهم . . . . . > >
( ^ ويذهب غيظ قلوبهم ) أي : خزاعة ( ^ ويتوب الله على من يشاء والله عليم
____________________


( ^ صدور قوم مؤمنين ( 14 ) ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم ( 15 ) أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون ( 16 ) ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك ) * * * * حكيم ) روي عن النبي أنه قال يوم فتح مكة : ' ارفعوا السيف إلا خزاعة عن بني بكر إلى العصر ' . < < التوبة : ( 16 ) أم حسبتم أن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ) الآية ، قال أهل التفسير : لما أمر الله تعالى نبيه بالقتال ظهر المنافقون ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ( ^ أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ) والمراد من العلم هاهنا : العلم الذي يقع الجزاء عليه ، وهو العلم بعد الوجود لاعلم الغيب الذي لا يقع الجزاء عليه ( ^ ولما يعلم الله ) يعني : ولم يعلم الله ( ^ ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة ) قال الفراء : الوليجة : البطانة ، وهو خاصة الإنسان الذي يفشي سره إليه ، فصار معنى الآية ( ^ ولما يعلم الله ) ولم يعلم الله الذين جاهدوا منكم ، ولم يعلم الذين امتنعوا أن يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة ( ^ والله خبير بما تعملون ) ظاهر . < < التوبة : ( 17 ) ما كان للمشركين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله ) معنى الآية : نفي أهلية عمارة المسجد الحرام عن المشركين .
قوله ( ^ شاهدين على أنفسهم بالكفر ) و ' شاهدين ' نصب على الحال ، وأما شهادتهم على أنفسهم بالكفر : هي سجودهم للأصنام ، وقولهم في التلبية : لبيك اللهم لبيك ، لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك تملكه وما ملكك .
____________________


( ^ حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون ( 17 ) إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين ( 18 ) أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله ) * * * *
وفيه قول آخر : أن معنى قوله : ( ^ شاهدين على أنفسهم بالكفر ) هو أنك تقول لليهودي : ما أنت ؟ فيقول : يهودي ، وتقول للنصراني : ما أنت ؟ فيقول : نصراني ، وكذلك المجوسي والمشرك .
قوله تعالى : ( ^ أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون ) الحبوط : هو البطلان ، وخالدون : دائمون . < < التوبة : ( 18 ) إنما يعمر مساجد . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إنما يعمر مساجد الله ) سبب نزول الآية : أن العباس - رضي الله عنه - لما أسر يوم بدر عيره أصحاب رسول الله بترك الإسلام والهجرة ، فقال : نحن عمار المسجد الحرام وسقاة الحجيج .
وفي رواية : أنه لما أسلم قال للمسلمين : لئن سبقتمونا بالإسلام فقد كنا نعمر المسجد الحرام ، ونسقي الحجيج ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ( ^ إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله ) معناه : لم يترك الإيمان بالله من خشية أحد ( ^ فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين ) وعسى من الله واجب . فإن قال قائل : أتقولون : إن كل من عمر مسجدا بكون هكذا على ما قال الله تعالى ؟
قلنا : معنى الآية - والله أعلم - أن من كان بهذه الأوصاف كان أهل عمارة المسجد الحرام ، ولا يعمر المسجد الحرام إلا من استجمع هذه الأوصاف ، وعمارة المسجد الحرام بذكر الله ، والرغبة إليه ، والدعاء ، والصلاة وغيره . < < التوبة : ( 19 ) أجعلتم سقاية الحاج . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله ) أكثر المفسرين على أن هذه الآية نزلت في علي والعباس - رضي الله عنهما - وكان الذي عير العباس بترك الإسلام
____________________


والهجرة هو علي - رضي الله عنه - فقال العباس : نحن عمار المسجد الحرام ، وسقاة الحجيج ، فقال الله تعالى ( ^ أجعلتم سقاية الحاج ) ومعناه : أجعلتم أهل سقاة الحاج وأهل عمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله . وقرىء : ' أجعلتم سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام ' وعلى هذه القراءة لا يحتاج إلى تقدير الأهل ( ^ لا يستوون عند الله ) معناه : لا يستوي من عبد الله وهو مؤمن ، ومن عمر المسجد وهو مشرك ( ^ والله لا يهدي القوم الظالمين ) وقد وردت أخبار في الترغيب في عمارة المساجد :
روى أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي قال : ' من رأيتموه يعتاد المساجد ؛ فاشهدوا له بالإيمان ، ثم قرأ قوله تعالى : ( ^ إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله ) .
وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن النبي قال : ' من غدا أو راح إلى المسجد أعد الله له نزلا كلما غدا أو راح ' .
وروى جابر - رضي الله عنه - أن النبي قال : ' المسجد سوق من أسواق الجنة ، من دخله كان ضيف الله ، قراه : المغفرة ، وتحيته : الكرامة ؛ فإذا دخلتم فارتعوا . قيل : يا رسول الله ، وما الرتاع ؟ قال : الابتهال إلى الله والرغبة ' .
وقد صح عن النبي أنه قال : ' من بنى لله مسجدا بنى الله له مثله في الجنة ' .
____________________


( ^ واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين ( 19 ) الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون ( 20 ) يبشرهم ربهم برحمة منه ) * * * *
وفي رواية عائشة - رضي الله عنها - أن النبي قال ' من بنى مسجدا ولو كمفحص قطاة ؛ بنى الله له بيتا في الجنة ' . < < التوبة : ( 20 ) الذين آمنوا وهاجروا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله ) فإن قال قائل : كيف يستقيم قوله : ( ^ أعظم درجة عند الله ) وليس للمشركين درجة أصلا ؟ الجواب من وجهين :
أحدهما : أعظم درجة من درجتهم على تقديرهم في أنفسهم ؛ وهذا مثل قوله تعالى : ( ^ أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ) ومعناه : على تقديرهم في أنفسهم .
والثاني : أن هؤلاء الصنف من المؤمنين أعظم درجة عند الله من غيرهم .
ثم قال تعالى : ( ^ وأولئك هم الفائزون ) الفائز : الذي ظفر بأمنيته . < < التوبة : ( 21 ) يبشرهم ربهم برحمة . . . . . > >
ثم قال تعالى : ( ^ يبشرهم ربهم برحمة ) الآية . والبشارة : خبر سار صدق ؛ يسمى بشارة لأنه تتغير به بشرة الوجه .
____________________


( ^ ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم ( 21 ) خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم ( 22 ) يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون ( 23 ) قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة ) * * * *
قوله ( ^ برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم ) النعيم هو العيش اللذيذ ، والمقيم : الدائم ، وهو من لا يظعن أبدا < < التوبة : ( 22 ) خالدين فيها أبدا . . . . . > > ( ^ خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم ) معناه ظاهر . < < التوبة : ( 23 ) يا أيها الذين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء ) الآية : نزلت الآية في قو م أسلموا بمكة ، فلما هاجر المسلمون لم يهاجروا . قال ابن عباس : كان الرجل إذا أراد أن يهاجر تعلق به أهله وولده ، وقالوا : أتضيعنا وتتركنا ، فيقيم شفقة عليهم ؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية .
قوله تعالى : ( ^ إن استحبوا الكفر على الإيمان ) معناه : أي : اختاروا الكفر على الإيمان .
قوله : ( ^ ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون ) وكان في ذلك الوقت لا يقبل الإيمان إلا من مهاجر ؛ فهذا معنى قوله تعالى : ( ^ فأولئك هم الظالمون ) . < < التوبة : ( 24 ) قل إن كان . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم ) روي أن الآية الأولى لما نزلت قال أولئك الذين أسلموا ولم يهاجروا : إن نحن هاجرنا ضاعت أموالنا وخربت دورنا ، وقطعنا أرحامنا ؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية .
قوله تعالى : ( ^ وعشيرتكم ) قرئت بقراءتين : ' عشيرتكم ' و ' عشيراتكم ' والأصح : ' عشيرتكم ' فإن جمع العشيرة هو عشائر ، والعشيرات قالوا : ضعيف في اللغة .
قوله تعالى : ( ^ وأموال اقترفتموها ) أي : اكتسيتموها ، ومثله قوله تعالى : ( ^ ومن
____________________


( ^ تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين ( 24 ) لقد نصركم الله ) * * * * يقترف حسنة ) يعني : يكتسب .
قوله : ( ^ وتجارة تخشون كسادها ) معناه ظاهر .
وروي عن عبد الله بن المبارك أنه قال في قوله : ( ^ وتجارة تخشون كسادها ) قال : هي الأخوات والبنات إذا لم يوجد لهن خاطب . حكاه النقاش في تفسيره .
قوله : ( ^ ومساكن ترضونها ) يعني : تستطيبونها .
قوله : ( ^ أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا ) معناه : فانتظروا .
قوله ( ^ حتى يأتي الله بأمره ) أكثر المفسرين على أن المراد منه : فتح مكة ، وهذا أمر تهديد وليس بأمر حتم ولا ندب ولا إباحة .
قوله : ( ^ والله لا يهدي القوم الفاسقين ) معناه ظاهر . < < التوبة : ( 25 ) لقد نصركم الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم ) الآية . حنين واد بين مكة والطائف ( ^ إذ أعجبتكم كثرتكم ) روي أن النبي كان في اثني عشر ألفا ، والمشركون أربعة آلاف ، عليهم مالك بن عوف النصري ، فقال رجل من الأنصار يقال له : سلمة بن سلامة وقش : لن نغلب اليوم عن قلة ، فلم يرض الله تعالى قوله ، ووكلهم إلى أنفسهم ، فحمل المشركون حملة انهزم المسلمون كلهم سوى نفر يسير بقوا مع رسول الله فيهم العباس بن عبد المطلب ، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ' .
وذكر البخاري في ' الصحيح ' برواية البراء بن عازب : ' أن أبا سفيان بن الحارث
____________________


( ^ في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ( 25 ) ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذاب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين ) * * * * كان آخذا برأس بغلة النبي يوم حنين ، والنبي يقول : أنا النبي لا كذب ، أنا ابن عبد الله بن عبد المطلب ' ، ثم إن العباس - رضي الله عنه - نادى المسلمين بأمر رسول الله - وكان رجلا صيتا - فجعل ينادي يا أصحاب سورة البقرة ، يا أنصار الله وأنصار رسول الله ، يا أصحاب الشجرة ، هذا رسول الله ، فرجعوا وقاتلوا ووقعت الهزيمة على الكفار . . . القصة إلى آخرها ' فهذا معنى قوله : ( ^ ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا ) يعني : أن الظفر ليس بالكثرة ، بل بنصرة الله تعالى .
قوله تعالى : ( ^ وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ) قال الفراء : الباء هاهنا بمعنى ' في ' معناه : في رحبها وسعتها . وقيل المعنى : برحبها وسعتها .
قوله تعالى : ( ^ ثم وليتم مدبرين ) أي : متفرقين ، أي : منهزمين . < < التوبة : ( 26 ) ثم أنزل الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ) الآية . السكينة : الرحمة . وقيل : السكينة : الآمنة ، وهي فعيلة من السكون ، وهاهنا هي بمعنى النصر ، قال الشاعر :
( لله قبر بالبسيطة غالها ** ماذا أجن سكينة ووقارا )
قوله تعالى : ( ^ وأنزل جنودا لم تروها ) يعني : الملائكة ، ونزلت لا للقتال ، ولكن لتجبين الكفار وتشجيع المسلمين ، فإن المروي أن الملائكة لم تقاتل إلا في يوم بدر .
____________________


( ^ ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم ( 27 ) يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن ) * * * *
قوله تعالى : ( ^ وعذب الذين كفروا ) يعني : بالقتل والأسر ، ( ^ وذلك جزاء الكافرين ) معناه ظاهر . < < التوبة : ( 27 ) ثم يتوب الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم ) معناه ظاهر وهذا في الذين كفوا عن القتل . < < التوبة : ( 28 ) يا أيها الذين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس ) معنى قوله ( ^ نجس ) قذر ، فإذا ضم إلى غيره قيل : رجس نجس ، وإذا أفرد قيل : نجس .
روي عن عمر بن عبد العزيز أنه قال : نجاستهم كنجاسة الكلب والخنزير .
وعن الحسن البصري قال : إذا صافح مسلم كافرا يجب عليه غسل يده .
والصحيح أن المراد من الآية : أنه يجب الاجتناب منهم كما يجب الاجتناب من النجاسات . وقيل إن معنى قوله ( ^ نجس ) : أنهم يجنبون فلا يغتسلون ، ويحدثون فلا يتوضئون .
قوله تعالى : ( ^ فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) هذا خبر بمعنى أمر ، ومعناه : لا تخلوهم أن يدخلوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا .
ومذهب المدنيين : أن المسجد الحرام هو جميع الحرم ، ولا يترك كافر يدخله ، وإن كان معاهدا أو عبدا ، وهذا قول عمر بن عبد العزيز وجماعة .
ومذهب الكوفيين : أنه يجوز أن يدخله المعاهد والعبد ، وهذا مروي عن جابر .
وقوله : ( ^ وإن خفتم عيلة ) يعني : فقرا . وفي مصحف عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - : ' وإن خفتم عائلة ' يعني : أمرا شاقا ، يقال : عالني الأمر ، أي : شق علي .
وسبب نزول الآية : أن أهل مكة إنما كانت معايشهم من التجارات والأرباح ، فلما أمر الله تعالى المسلمين أن لا يخلوا الكفار أن يدخلوا المسجد الحرام ، قالوا : فكيف
____________________


( ^ خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم ( 28 ) قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم ) * * * * أمر معايشنا ؟ وخافوا الفقر وضيق العيش ، فقال الله تعالى لهم : ( ^ وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء ) فروي أنه أسلم أهل جرش - بالجيم معجمة - وصنعاء ، وسائر نواحي اليمن ، وجلبوا الميرة الكثيرة إلى أهل مكة ، ووسع الله عليهم ( ^ إن الله عليم حكيم ) ومعناه ظاهر . < < التوبة : ( 29 ) قاتلوا الذين لا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ) فإن قال قائل : إن أهل الكتابين يؤمنون بالله واليوم الآخر ، فكيف معنى الآية ؟
الجواب من وجهين :
أحدهما : أنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر كإيمان المؤمنين ؛ فإنهم قالوا : عزير ابن الله ، وقالوا : المسيح ابن الله ، وقالت اليهود : لا أكل ولا شرب في الجنة .
والجواب الثاني : أن كفرهم ككفر من لا يؤمن بالله واليوم الآخر في عظم الجرم .
قوله تعالى : ( ^ ولا يدينون دين الحق ) قال أبو عبيدة : ولا يطيعون الله كطاعة أهل الحق .
قوله : ( ^ من الذين أوتوا الكتاب حتى يطعوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) قال قتادة : ' عن يد ' : عن قهر وذل . وقال غيره : ' عي يد ' أي يعطي بيده . وفيه قول ثالث : ' عن يد ' أي : عن إقرار بإنعام أهل الإسلام عليهم ( ^ وهم صاغرون ) روي عن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - قال : معناه : وهم مذمومون . وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال : يؤخذ ويوجأ في عنقه ، فهذا معنى الصغار . وقال غيره : يؤخذ منه وهو قائم ، والآخذ جالس . وقيل : إنه يلبب ويجر إلى موضع الإعطاء بعنف . وعند الشافعي - رضي الله عنه - معنى الصغار : هو جريان أحكام الإسلام
____________________

( ^ صاغرون ( 29 ) وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ) * * * * عليهم . وهذا معنى حسن . < < التوبة : ( 30 ) وقالت اليهود عزير . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وقالت اليهود عزير ابن الله ) هذا في قوم بأعيانهم كانوا بالمدينة أفناهم السيف ، منهم : سلام بن مشكم ، ومالك بن ' الضيف ' ، وفنحاص اليهودي ، وأما الآن فلا يقول منهم أحد هذا . ويقال : إن القائلين لهذه المقالة قوم من سلفهم ومتقدميهم .
وكان السبب في ذلك أن اليهود لما بدلوا وخالفوا شريعة التوراة نسخ الله تعالى التوراة من صدورهم ، فخرج عزير يسيح في الأرض يطلب العلم ، فلقيه جبريل - عليه السلام - فعلمه التوراة . وروي أنه نزل نور فدخل جوفه فقرأ التوراة عن ظهر قلبه ، فرجع وأملى التوراة على اليهود ، فقال جماعة منهم هذه المقالة يعني : عزير ابن الله .
( ^ وقالت النصارى المسيح ابن الله ) هم على ذلك الآن .
قوله : ( ^ ذلك قولهم بأفواههم ) فإن قال قائل : الإنسان لا يقول قولا إلا بفمه ، فكيف يكون معنى هذا الكلام ؟
الجواب : أن معناه : أنهم قالوا هذا القول بلا حجة ولا بيان ولا برهان ، وإنما كان مجرد قول بلا أصل .
قوله تعالى : ( ^ يضاهئون ) قرئ بقراءتين ، و ( ^ يضاهئون ) يعني : يشابهون ، والمضاهاة : المشابهة والمماثلة ، تقول العرب : امرأة ضهياء إذا كانت لا تحيض ، فهي تشبه الرجال .
قوله تعالى : ( ^ قول الذين كفروا من قبل ) فيه معنيان :
أحدهما : قول الذين أشركوا من قبل ؛ فإن المشركين كانوا يقولون : مناة واللات والعزى بنات الله .
____________________


( ^ ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون ( 30 ) اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا ) * * * *
والقول الثاني : أن النصارى قالوا في المسيح ما قالت اليهود في عزير ، فهذا معنى قوله : ( ^ يضاهئون قول الذين كفروا من قبل ) .
( ^ قاتلهم الله ) قال أبو عبيدة : لعنهم الله ، وقيل : قتلهم الله ، كما تقول العرب : عافاه الله ، أي : أعفاه الله .
وفيه قول ثالث : أن هذه كلمة تعجب ، قال الشاعر :
( فيا قاتل الله ليلى كيف تعجبنى ** وأخبر الناس أنى لا أباليها )
وليس المعنى تحقيق المقاتلة ؛ ولكنه كلمة تعجب .
قوله تعالى : ( ^ أنى يؤفكون ) معناه : أنى يصرفون ، يقال : أرض مأفوكة إذا صرف عنها المطر ، وقول مأفوك إذا كان مصروفا عن الحق . < < التوبة : ( 31 ) اتخذوا أحبارهم ورهبانهم . . . . . > >
قوله تعالى ( ^ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) يقال : الأحبار من اليهود ، والرهبان من النصارى ، وقد بينا فيها أقوالا من قبل . فإن قال قائل : إنهم لم يعبدوا الأحبار والرهبان ، فأيش معنى قوله ( ^ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) ؟
قلنا : معناه : أنهم استحلوا ما أحلوا ، وحرموا ما حرموا ؛ فهذا معنى عباداتهم لهم . وقد صح هذا المعنى برواية عدي بن حاتم ، عن النبي .
____________________


( ^ إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون ( 31 ) يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ( 32 ) هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ( 33 ) يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في ) * * * *
قوله : ( ^ والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون ) معناه ظاهر . < < التوبة : ( 32 ) يريدون أن يطفئوا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ) معناه : يريدون أن يخمدوا نور الله ، والمراد من النور : القرآن ، وقيل : هو محمد .
وقوله : ( ^ بأفواههم ) معناه : بتكذيبهم .
قوله : ( ^ ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ) ظاهر المعنى . < < التوبة : ( 33 ) هو الذي أرسل . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ) قال المفسرون : هذا عند نزول عيسى ابن مريم - عليه السلام لا يبقى في الأرض أحد إلا أسلم .
وفي قوله : ( ^ ليظهره على الدين كله ) قول آخر : وهو أنه الإظهار بالحجة ؛ فدين الإسلام ظاهر على كل الأديان بالدليل والحجة . < < التوبة : ( 34 ) يا أيها الذين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله ) الآية ، وقد بينا معنى الأحبار والرهبان من قبل وقوله : ( ^ ليأكلون أموال الناس بالباطل ) قال أهل التفسير : إن المراد منه أخذ الرشاء في الأحكام والمآكل التي كانت لعلمائهم على سفلتهم ( ^ ويصدون عن سبيل الله ) معناه : أنهم يمنعون الناس عن الإسلام ، وقوله : ( ^ والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله ) الكنز هو المال المجموع ، قال الشاعر :
____________________


( ^ سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ( 34 ) * * * *
( لا در درى إن أطعمت نازلهم ** قرف الحتى وعندي البر مكنوز )
والحتى قالوا : هو المقل .
واختلف أهل العلم في من نزلت هذه الآية ، قال بعضهم : نزلت في أهل الكتاب ، والأكثرون أنها نزلت في الكل .
واختلفوا في الكنز ، روي عن ابن عمر ، وجماعة : أن الكنز كل مال لم تؤد زكاته ، وأما الذي أديت زكاته فليس بكنز ، وإن كان مدفونا . وعن علي - رضي الله عنه - أنه قال : أربعة آلاف درهم نفقة وما فوقها كنز . وقال بعضهم : ما فضل عن الحاجة فهو كنز .
وقوله : ( ^ ولا ينفقونها في سبيل الله ) فإن سأل سائل وقال : إنه تقدم ذكر الذهب والفضة جميعا ، فكيف قال : ولا ينفقونها ، ولم يقل : ولا ينفقونهما ؟
الجواب عنه من وجهين :
أحدهما : أن المعنى : ولا ينفقون الكنوز في سبيل الله .
والثاني : أن معنى الآية : يكنزون الذهب ولا ينفقونه ، ويكنزون الفضة ولا ينفقونها ، فاكتفى بأحدهما عن الآخر ، قال الشاعر :
( نحن بما عندنا وأنت بما ** عندك راض والرأي مختلف )
معناه : نحن بما عندنا راضون ، وأنت بما عندك راض . وفي مثل هذا قول الشاعر :
( إن شرخ الشباب والشعر الأسود ** ما لم يعاض كان جنونا )
يعني : ما لم يعاضيا .
قوله : ( ^ فبشرهم بعذاب أليم ) معناه : ضع هذا الوعيد موضع البشارة ، وإلا فالوعيد لا يكون بشارة حقيقة .
____________________


( ^ يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون ( 35 ) * * * * < < التوبة : ( 35 ) يوم يحمى عليها . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يوم يحمى عليها في نار جهنم ) أي : يوقد عليها حتى تصير نارا .
قوله تعالى : ( ^ فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم ) قال أهل التفسير : لا يوضع درهم مكان درهم ، ولا دينار مكان دينار ؛ ولكن يوسع جلده حتى يوضع كل دينار ودرهم في موضعه . وفي حديث أبي أمامة الباهلي ( رضي عنه ) : ' أن رجلا من أهل الصفة مات وترك دينارا ، فقال النبي : كيه . ومات آخر وترك دينارين فقال : كيتان ' .
وقد صح عن النبي أنه قال : ' يجعل الذهب والفضة صفائح ، فيكوى بها في كل يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار ' .
وروى ثوبان : ' أن الله تعالى لما أنزل هذه الآية شق على المسلمين مشقة شديدة فقالوا : يا رسول الله ، أي المال نتخذ ، وقد أنزل في المال ما أنزل ؟ فقال : ليتخذ أحدكم قلبا شاكرا ، ولسانا ذاكرا ، وزوجة تعينه على دينه ' .
____________________


( ^ إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة ) * * * *
وفي الأخبار - أيضا - عن النبي : ' أن الكنز يتبعه حتى يلقمه يده فيقضمها ، ثم يتبع سائر جسده ' .
وقد روي عن عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - أنه قال : الآية منسوخة بآية الزكاة . وقال سائر العلماء : ليست بمنسوخة . وعن أبي بكر الوراق - رحمه الله - أنه قال : إنما ذكر الجبهة والجنب والظهر ؛ لأن الغني إذا رأى الفقير قبض جبهته ، وزوى ما بين عينيه ، وولاه ظهره ، وأعرض عنه كشحه .
قوله تعالى : ( ^ هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون ) وعيد وتهديد . < < التوبة : ( 36 ) إن عدة الشهور . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله ) قال أهل التفسير : معنى الآية : هو أن الشهور التي تعبد بها المسلمون في صيامهم وحجهم وأعيادهم وسائر أمورهم ، هي الشهور بالأهلة ، وقد كان أهل الجاهلية يحسبون السنة بالشهور الشمسية ، ويجعلون السنة ثلثمائة وخمسة وستين يوما وربع يوم . وأما في الشريعة فالسنة ما بينا ، ولهذا يكون الصوم تارة في الشتاء وتارة في الصيف .
قوله : ( ^ في كتاب الله ) أي : في حكم الله ، وقيل : في اللوح المحفوظ . ( ^ يوم خلق السموات والأرض ) ظاهر المعنى .
قوله : ( ^ منها أربعة حرم ) هي : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب . واحد فرد وثلاثة سرد .
____________________


( ^ كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين ( 36 ) إنما النسيء زيادة في الكفر * * * *
وقد صح عن النبي برواية أبي بكرة أنه قال : ' ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض ، السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم 000 ' الخبر .
قوله : ( ^ ذلك الدين القيم ) أي : ذلك الحساب الصحيح .
قوله : ( ^ فلا تظلموا فيهن أنفسكم ) اختلفوا في هذا على قولين :
أحدهما : أن قوله : ( ^ فلا تظلموا فيهن ) ينصرف إلى الأشهر الأربعة .
والثاني أنه منصرف إلى جميع أشهر السنة ، وهذا محكي عن ابن عباس .
وأما الظلم في هذا الموضع : فهو ترك الطاعة وفعل المعصية .
وقوله : ( ^ وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلوكم كافة ) أي : قاتلوا جميع المشركين كافة كما قاتلوا جميعكم .
قوله : ( ^ واعلموا أن الله مع المتقين ) من الظلم بالنصرة والظفر . < < التوبة : ( 37 ) إنما النسيء زيادة . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إنما النسيء زيادة في الكفر ) قرىء بغير الهمز ، والمشهور بالهمزة . قال أهل العربية : وهو الأصح ، والنسيء : هو التأخير ، يقال نسأ الله في أجلك أي : أخر .
وسبب نزول الآية : أن أهل الجاهلية كانوا يجعلون المحرم مرة حلالا ومرة حراما ، فإذا أحلوا المحرم أبدلوا الصفر بالتحريم ، وكان السبب في ذلك أن عامة معايشهم كانت بالغارات والقتال والسيوف ، فكان يشق عليهم أن يكفوا عن القتال ثلاثة أشهر متوالية ، وكان الذي يتولى التحليل والتحريم رجل من بني كنانة يقال له : أبو ثمامة ، ورثه عن آبائه ، وكان يقوم على ناقة ويقول : أيها الناس ، أنا لا أعاب ولا أحاب ولا يرد قضاء قضيته ، أما إني قد أحللت المحرم وحرمت الصفر العام ، قال رجل منهم : ألسنا الناسئين على معد شهور الحل يجعلها حراما . فهذا هو معنى النسىء المذكور في الآية .
____________________


( ^ يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين ( 37 ) يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم ) * * * *
وقوله تعالى : ( ^ زيادة في الكفر ) معناه : زيادة كفر على كفرهم .
قوله تعالى : ( ^ يضل به الذين كفروا ) أي : يضل الله به الذين كفروا ، وقرىء ' يضل به الذين كفروا ' على ما لم يسم فاعله ، وقرىء ' يضل به الذين كفروا ' وهو الأشهر ، وهو ظاهر المعنى .
قوله تعالى : ( ^ يحلونه عاما ويحرمونه عاما ) قد ذكرنا المعنى . قوله : ( ^ ليواطئوا ) ليوافقوا ، والمواطأة : الموافقة ، ومعناه : ليوافقوا ( ^ عدة ما حرم الله ) يعني : عدد ما حرم الله ( ^ فيحلوا ما حرم الله ) فيقولوا : أربعة وأربعة . قوله : ( ^ زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين ) ظاهر المعنى .
وفي الآية قول آخر : وهو أن النسىء : تأخير الحج كل عام شهرا . قالوا : وحج أبو بكر سنة تسع في ذي القعدة ، وحج رسول الله سنة عشر في ذي الحجة ، وهو معنى قوله : ' ألا إن الزمان قد استدار كهيئته ' الخبر الذي ذكرنا . < < التوبة : ( 38 ) يا أيها الذين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض ) نزلت الآية في غزوة تبوك ، وكانت الغزوة في حارة القيظ حين أينعت الثمار وطابت الظلال فشق على المسلمين مشقة شديدة وتخلف بعضهم بالعذر ، وتخلف بعضهم بلا عذر ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
وقوله : ( ^ اثاقلتم إلى الأرض ) أي : تثاقلتم ؛ وحقيقة المعنى : قعدتم عن الغزو وكرهتم الخروج .
____________________


( ^ بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل ( 38 ) إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير ( 39 ) إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ ) * * * *
وقوله : ( ^ إلى الأرض ) أي : إلى الدنيا ، وسمى الدنيا أرضا ، لأنها في الأرض .
قوله : ( ^ أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة ) أي : بنعيم الدنيا من نعيم الآخرة .
قوله ( ^ فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل ) . روى عن سعيد بن جبير أنه قال : جميع الدنيا جمعة من جمع الآخرة . وقد صح عن النبي أنه قال : ' ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بما يرجع ' . < < التوبة : ( 39 ) إلا تنفروا يعذبكم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ) هذا تهديد ووعيد لمن ترك النفر في سبيل الله ، والنفر ضد الهدوء والسكون .
قوله : ( ^ ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا ) معناه : إن ضره راجع إليكم لا إليه ( ^ والله على كل شيء قدير ) ظاهر المعنى . < < التوبة : ( 40 ) إلا تنصروه فقد . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إلا تنصروه فقد نصره الله ) معناه : إن لم تنصروه فقد نصره الله ( ^ إذ أخرجه الذين كفروا ) قد بينا قصة إخراجهم في قوله تعالى : ( ^ وإذ يمكر بك الذين كفروا ) الآية . قوله : ( ^ ثاني اثنين ) معناه : أحد اثنين ، تقول العرب : خامس خمسة أي : أحد الخمسة ، ورابع أربعة أي : أحد الأربعة .
قال المفسرون : عاتب الله جميع الناس بترك نصرة الرسول سوى أبي بكر - رضي الله عنه - وقيل : نصرته عن خلقي إلا عن أبي بكر - رضي الله عنه - فإنه قد نصره .
قوله تعالى : ( ^ إذ هما في الغار ) الغار : ثقب في الجبل ، وهذا الجبل هو جبل ثور ، جبل قريب من مكة .
____________________


( ^ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده ) * * * *
قوله : ( ^ إذ يقول لصاحبه ) أي : لأبي بكر - رضي الله عنه - باتفاق أهل العلم .
وروي أن النبي قال : ' أبو بكر صاحبي في الغار ، وصاحبي على الحوض ' .
وعن الحسين بن الفضل البجلي أنه قال : من قال : إن أبا بكر ليس بصاحب رسول الله فهو كافر ، لإنكاره نص القرآن ، وفي سائر الصحابة إذا أنكر يكون مبتدعا ولا يكون كافرا .
قوله : ( ^ لا تحزن إن الله معنا ) روي ' أن النبي لما خرج مع أبي بكر - رضي الله عنه - أمر عليا حتى اضطجع على فراشه ، وذكر له أنه لا يصيبه سوء ، وخرج مع أبي بكر قبل الغار ، وجاء المشركون يقصدون النبي فقام علي - رضي الله عنه - من مضجعه فقالوا له : أين صاحبك ؟ قال : لا أدري ، فخرجوا في طلبه يقتفون أثره حتى وصلوا إلى الغار ، فلما أحس أبو بكر - رضي الله عنه - بهم خاف خوفا شديدا ، وقال : يا رسول الله ، إن أقتل يهلك واحد ، وإن تقتل تهلك هذه الأمة ، فقال له النبي : لا تحزن إن الله معنا ' . وقد ثبت أن النبي قال له : ' يا أبا بكر ! ما ظنك باثنين الله ثالثهما ' . وفي القصة : أن الله تعالى أنبت ثمامة على فم الغار ، وهي شجرة صغيرة ، وألهم حمامة حتى فرخت ، وألهم عنكبوتا حتى نسجت .
قوله تعالى : ( ^ فأنزل الله سكينته عليه ) فيه قولان : أحدهما : على النبي . وهو اختيار الزجاج .
والآخر : أنه على أبي بكر ، وهو قول الأكثرين ؛ لأن السكينة هاهنا ما يسكن به
____________________


( ^ بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم ( 40 ) انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ( 41 ) لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ) * * * *
القلب ؛ وأبو بكر - رضي الله عنه - كان هو الخائف والحزين دون رسول الله .
وفي الآية قول ثالث : أن السكينة نزلت عليهما ؛ ونقل في مصحف حفصة - رضي الله عنها - ' فأنزل الله سكينته عليهما وأيدهما بجنود لم تروها ' قوله : ( ^ وأيده بجنود لم تروها ) الجنود هاهنا : الملائكة ، نزلوا فألقوا الرعب في قلوب الكفار حتى رجعوا . قوله : ( ^ وجعل كلمة الذين كفروا السفلى ) كلمتهم : الشرك ؛ وهي السفلى إلى يوم القيامة ( ^ وكلمة الله هي العليا ) يعني : لا إله إلا الله ، وهي العليا إلى يوم القيامة . قوله : ( ^ والله عزيز حكيم ) قد بينا معنى العزيز الحكيم . < < التوبة : ( 41 ) انفروا خفافا وثقالا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ انفروا خفافا وثقالا ) يقال : إن هذه الآية أول آية أنزلت من سورة التوبة .
قوله : ( ^ خفافا وثقالا ) فيه أقوال : روي عن ابن عباس وقتادة أنهما قالا : نشاطا وغير نشاط . قال الأزهري : النشاط جمع النشيط .
والقول الثاني : قول الحسن البصري : انفروا في اليسر والعسر . وهذا قول حسن . وعن الحكم بن عتيبة : مشاغيل وغير مشاغيل . وعن أبي طلحة صاحب النبي :
شيوخا وشبابا . وفيه قول خامس : رجالة وركبانا . ( ^ وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله 000 ) إلى آخر الآية ، معناه ظاهر ، وقيل : إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : ( ^ وما كان المؤمنون لينفروا كافة ) الآية ، والله أعلم . < < التوبة : ( 42 ) لو كان عرضا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ) أي : لو كانت غنيمة قريبة المتناول ( ^ وسفرا قاصدا ) أي : سفرا قصيرا سهلا [ قريبا ] ( ^ لاتبعوك ) أي :
____________________


( ^ ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون ( 42 ) عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين ( 43 ) لا يستئذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين ( 44 ) إنما يستئذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت فهم في ريبهم يترددون ( 45 ) ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل ) * * * * لخرجوا معك ( ^ ولكن بعدت عليهم الشقة ) أي : بعد عليهم السفر ، والشقة في اللغة : هي الغاية التي يقصد إليها .
قوله ( ^ وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم ) هذا في المنافقين .
قوله تعالى : ( ^ يهلكون أنفسهم ) يعني : باليمين الكاذبة . قوله : ( ^ والله يعلم إنهم لكاذبون ) ظاهر المعنى . < < التوبة : ( 43 ) عفا الله عنك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ عفا الله عنك لم أذنت لهم ) روي عن عمرو بن ميمون الأودي أنه قال : فعل رسول الله شيئين بغير إذن من الله : فداء أسارى بدر ، وأذن للمتخلفين في غزوة تبوك ، فعاتبه الله تعالى فيهما جميعا . وفي تقديم قوله تعالى : ( ^ عفا الله عنك ) معنى لطيف في حفظ قلب النبي .
قوله : ( ^ حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين ) ظاهر المعنى . < < التوبة : ( 44 ) لا يستأذنك الذين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر ) معناه : لا يستأذنك في التخلف .
قوله ( ^ أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ) الآية ، معلوم ، ثم قال < < التوبة : ( 45 ) إنما يستأذنك الذين . . . . . > > : ( ^ إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم ) أي : شكت قلوبهم ( ^ فهم في ريبهم يترددون ) يتحيرون .
ثم قال : < < التوبة : ( 46 ) ولو أرادوا الخروج . . . . . > > ( ^ ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ) يعني : لو قصدوا الخروج لأعدوا له
____________________


( ^ اقعدوا مع القاعدين ( 46 ) لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين ( 47 ) لقد ) * * * * عدة أي : أهبة السفر من الزاد والراحلة وغيرهما ( ^ ولكن كره الله انبعاثهم ) معناه : خروجهم ( ^ فثبطهم ) معناه : فكسلهم وكفهم عن الخروج ( ^ وقيل اقعدوا مع القاعدين ) قال مقاتل بن سليمان : وحيا إلى قلوبهم . وقال غيره : قال بعضهم لبعض : اقعدوا مع القاعدين . < < التوبة : ( 47 ) لو خرجوا فيكم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ) هذه الآية نزلت في شأن المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك ، ومعنى قوله : ( ^ خبالا ) أي : فسادا وشرا ، ومعنى الفساد : هو إيقاع الجبن والفشل بين المؤمنين .
وقوله ( ^ ولأوضعوا خلالكم ) الإيضاع : هو سرعة السير . قال الراجز شعر :
( يا ليتني فيها جذع ** أخب فيها وأضع )
قال الزجاج : معنى الآية : أسرعوا فيما يخل بكم . وقال غيره : أسرعوا بينكم بايقاع البغضاء والعداوة بالنميمة ، ونقل الحديث من بعض إلى بعض ، وعلى هذا قوله : ( ^ خلالكم ) : وسطكم ( ^ يبغونكم الفتنة ) يطلبون لكم الفتنة ، وفي الفتنة معنيان : أحدهما : أنها الشرك ، والآخر : أنها تفريق الكلمة .
( ^ وفيكم سماعون لهم ) فيه قولان :
أحدهما : أن فيكم جواسيس لهم ينقلون الحديث إليهم ، وسئل ابن عيينة : هل في القرآن ذكر للجواسيس ؟ قال : نعم . وذكر هذه الآية .
والقول الثاني : ( ^ وفيكم سماعون لهم ) قائلون لهم أي : يقبل ما يقولون ، ومنه ما ورد في الصلاة : ' سمع الله لمن حمده ' قبل الله لمن حمده . وعن أبي عبيدة : وفيكم سماعون لهم : مطيعون لهم . والمعنى قريب من القول الثاني .
____________________


( ^ ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون ( 48 ) ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ( 49 ) إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا ) * * * *
( ^ والله عليم بالظالمين ) معناه معلوم . فإن قال قائل : قد قال في أول الآية : ( ^ مازادوكم إلا خبالا ) وكان النبي وأصحابه في خبال حتى يزيدوا ؟
الجواب : إن معنى الآية : مازادوكم قوة ؛ بل طلبوا لكم الخبال . < < التوبة : ( 48 ) لقد ابتغوا الفتنة . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ لقد ابتغوا الفتنة من قبل ) الآية ، الابتغاء : الطلب ، والفتنة : إيقاع الاختلاف المؤدي إلى تفريق الكلمة . وقوله ( ^ وقلبوا لك الأمور ) ومعناه : صرفوا لك الأمور وأرادوها ظهرا لبطن وبطنا لظهر ، وحقيقة المعنى : أنهم طلبوا بكل حيلة إفساد أمرك ( ^ حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون ) معناه معلوم . < < التوبة : ( 49 ) ومنهم من يقول . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ) أكثر المفسرين أن هذه الآية نزلت في رجل من المنافقين يقال له : الجد بن قيس قال له رسول الله : ' هل لك في جلاد بني الأصفر - يعني الروم - لعلك تصيب منهم سرارى . قال رسول الله حثا له على الخروج ، فقال : يا رسول الله ، ائذن لي - يعني : في التخلف - ولا تفتني - يعني : بنساء الروم - قال : قومي علموا أني بالنساء مغرم ، يعني : معجب ' .
وهذا أحد القولين في قوله : ( ^ ولا تفتني ) .
والقول الثاني : إن معناه : لا تؤثمني ، قال قتادة ، ومعناه : لا تسمنى للخروج ، والخروج عسير علي فأتخلف فأقع في الإثم .
____________________


( ^ أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون ( 50 ) قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون ( 51 ) قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ) * * * *
قوله : ( ^ ألا في الفتنة سقطوا ) فيه معنيان :
أحدهما : ألا في جهنم سقطوا ، والآخر : ألا في الشرك سقطوا .
( ^ وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ) محدقة بالكافرين . < < التوبة : ( 50 ) إن تصبك حسنة . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن تصبك حسنة تسؤهم ) الحسنة هاهنا هي النعمة التي تطيب بها نفس الإنسان ، وتلذ عيشه . وفي غير هذا الموضع الحسنة بمعنى الطاعة . .
( ^ وإن تصبك مصيبة ) المصيبة هاهنا هي البلية في القتال بإصابة الكافرين من المسلمين ، يقال : إن الحسنة المذكورة كانت يوم بدر ، والمصيبة المذكورة كانت يوم أحد .
وقوله : ( ^ يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ) يعني : حذرنا من قبل ، ومعناه : احترزنا من الوقوع في المصيبة ( ^ ويتولوا وهم فرحون ) معناه معلوم . < < التوبة : ( 51 ) قل لن يصيبنا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قل لن يصيبنا إلا ماكتب الله لنا ) أمر الله تعالى المؤمنين بأن يجيبوهم بهذا .
وقوله : ( ^ إلا ما كتب الله لنا ) أي : علينا ، وقيل : معناه : ما أخبر الله لنا ( ^ هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) وهو حافظنا وناصرنا وعليه يعتمد المؤمنون ، وفي الخبر المعروف برواية أبي الدرداء أن النبي قال : ' لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه ' . < < التوبة : ( 52 ) قل هل تربصون . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قل هل تربصون بنا ) هل تنتظرون بنا ( ^ إلا إحدى الحسنيين )
____________________


( ^ ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون ( 52 ) قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين ( 53 ) وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون ) * * * * تثنيه الحسنى : الحسنيان ، أحدهما : الظفر ، والأخرى : الشهادة .
وروى أبو هريرة عن النبي أنه قال : ' ضمن الله لمن خرج في سبيله إيمانا واحتسابا أن يدخله الجنة ، أو يرجعه إلى منزله الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة ' .
وقوله : ( ^ ونحن نتربص بكم ) أي : ننتظر بكم ( ^ أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا ) العذاب من عنده هو القارعة تنزل من السماء ، والعذاب بأيدي المؤمنين هو العذاب بالسيف ( ^ فتربصوا إنا معكم متربصون ) فانتظروا إنا معكم منتظرون . < < التوبة : ( 53 ) قل أنفقوا طوعا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قل أنفقوا طوعا أو كرها ) هذا أمر بمعنى الشرط ، ومعناه : إن أنفقتم طوعا أو كرها ( ^ لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين ) لأنكم كنتم قوما فاسقين ، والفسق هاهنا هو الكفر . < < التوبة : ( 54 ) وما منعهم أن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ) معناه : أن المانع من قبول نفقاتهم كفرهم بالله وبرسوله .
وقوله : ( ^ ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ) أي : متثاقلين . فإن قيل : كيف ذكر الكسل في الصلاة ولا صلاة أصلا ؟
قلنا : الذم واقع على الكفر الذي يبعث على الكسل ؛ فإن الكفر مكسل والإيمان منشط ، ويقال : أصل كل كفر الكسل ، وفي المثل : الكسل أحلى من العسل ( ^ ولا ينفقون إلا وهم كارهون ) معلوم المعنى . وحقيقة المعنى في الكل : أنهم لا يصلون ولا ينفقون إلا خوفا ، فأما تقربا إلى الله فلا .
____________________


( ^ الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون ( 54 ) فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون ( 55 ) ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون ) * * * * < < التوبة : ( 55 ) فلا تعجبك أموالهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم ) الإعجاب بالشيء هو السرور به .
وقوله : ( ^ إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا ) فيه سؤال ، وهو أنه يقال : كيف يكون التعذيب بالمال والولد وهم يتنعمون بالأموال والأولاد ؟
الجواب من وجوه :
أحدهما : أن في الآية تقديما وتأخيرا ، كأنه تعالى قال : فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا ، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة .
والقول الثاني : أن التعذيب بالمصائب الواقعة في المال والولد .
الثالث : أن معنى التعذيب هو التعب في الجمع ، وشغل القلب بالحفظ ، وكراهة الإنفاق مع الإنفاق ، وتحليفه عند من لا يحمده ، وقدومه على من لا يعدله .
وقوله ( ^ وتزهق أنفسهم وهم كافرون ) تخرج أنفسهم وهم كافرون .
وفي الآية رد على القدرية ، وهو ظاهر . < < التوبة : ( 56 ) ويحلفون بالله إنهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ويحلفون بالله إنهم لمنكم ) يعني : من جملتكم ( ^ وما هم منكم ) يعني : ليسوا من جملتكم ( ^ ولكنهم قوم يفرقون ) أي : يخافون .
وفي الحكايات : أن بعض الملحدين رئي يصلي صلاة حسنة ، فسئل عن ذلك فقال : عادة أهل البلد ، وصيانة المال والولد . < < التوبة : ( 57 ) لو يجدون ملجأ . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا ) قال قتادة : والملجأ : الحصون ، والمغارات : الغيران ، والمدخل : الأسراب . وهذا قول حسن . فمعنى الآية : لو يجدون مخلصا منكم ومهربا لفارقوكم ، وهذا معنى قوله تعالى : ( ^ لولوا إليه وهم يجمحون ) يعني : يسرعون ، يقال : فرس جموح إذا لم يكن رده عن وجهه بشيء .
____________________


( ( 56 ) لو يجدون ملجئا أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون ( 57 ) ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ( 58 ) ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون ( 59 ) ) * * * *
قال الشاعر :
( لقد جمحت جماحا في دمائهم ** حتى رأيت ذوي الأشراف قد خمدوا )
وروي عن أنس أنه قرأ : ' وهم يجمرون ' والمعنى قريب في الأول . < < التوبة : ( 58 ) ومنهم من يلمزك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ومنهم من يلمزك في الصدقات ) يعني : يعيبك في إعطاء الصدقات ، ويقال : الهمزة واللمزة بمعنى واحد ، ويقال : اللمزة الذي يعيب الناس بقوله ، والهمزة : الذي يشير بطرفه [ هزاء ] .
سبب نزول الآية : ' أن ذا الخويصرة التميمي - واسمه : حرقوش بن زهير - أتى رسول الله وهو يقسم ، فقال : يا رسول الله ، اعدل ، فقال : فمن يعدل إن لم أعدل . ثم قال : يخرج من ضئضىء هذا أقوام تحقرون صلاتكم عند صلاتهم ، وصيامكم عند صيامهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ' الخبر فأنزل الله تعالى هذه الآية .
قوله تعالى : ( ^ فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ) هذا في ثعلبة بن حاطب وأصحابه ، كانوا يرضون إن أعطوا كثيرا ، وإن أعطوا القليل سخطوا وعابوا . < < التوبة : ( 59 ) ولو أنهم رضوا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله ) كافينا الله ( ^ سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون ) يعني : لو رضوا بما فعلت
____________________


( ^ إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب ) * * * * ورغبوا في الزيادة كان خيرا لهم من سخطهم وعيبهم . < < التوبة : ( 60 ) إنما الصدقات للفقراء . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إنما الصدقات للفقراء والمساكين ) الآية ، الفقير في اللغة : هو المحتاج الذي كسرت الحاجة فقار ظهره ، والمسكين : الذي ضعفت نفسه عن الحركة في طلب القوة فسكنت ، وأما الكلام ففي الفقير والمسكين نفى الآية أقوال كثيرة .
أحدها : روي عن ابن عباس والحسن ومجاهد والزهري أنهم قالوا : الفقير : الذي لا يسأل ، وقال بعضهم على خلاف ذلك .
والثاني : قول قتادة ، وهو أن الفقير الذي به زمانة ولا شيء له ، والمسكين : الذي لا شيء له وليس به زمانة ، وقال بعضهم على ما قاله قتادة .
والثالث : أن الفقراء هم المهاجرون ، والمساكين هم الأعراب ، وهذا قول إبراهيم النخعي .
والرابع : أن الفقراء هم المسلمون المحتاجون ، والمساكين هم أهل الحاجة من أهل الذمة .
وفيه قول خامس : أن الفقير والمسكين واحد . واختلفوا أيهما أحوج ، فمذهب الشافعي - رحمه الله - أن الفقير أحوج من المسكين ، واستدل بقوله تعالى : ( ^ أما السفينة فكانت لمساكين ) فسماهم مساكين مع أن لهم سفينة . وزعم الأصمعي وجماعة من أهل اللغة أن المسكين أحوج من الفقير ، وأنشدوا :
( أما الفقير الذي كانت حلوبته ** وفق العيال فلم تترك له [ سبد ] )
قال يونس النحوي : قلت لأعرابي : أفقير أنت ؟ قال : بل مسكين - يعني : أدون من الفقير .
____________________


( ^ والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم ( 60 ) ) * * * *
قوله تعالى : ( ^ والعاملين عليها ) يعني : السعادة ، ولهم سهم من الصدقات معلوم .
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص : أن لهم بقدر أجر المثل .
وقوله : ( ^ والمؤلفة قلوبهم ) قال أهل العلم : المؤلفة قلوبهم صنفان : مسلمون ، ومشركون ، وكل صنف على صنفين : أما المسلمون قوم كان إيمانهم ضعيفا مثل : أبي سفيان بن حرب ، وعيينة بن حصن الفزارى ، والأقرع بن حابس ، وعباس بن مرداس وأمثالهم ، كان رسول الله يعطيهم ليتألفوا على الإيمان فيقوي إيمانهم ، وصنف كان إيمانهم قويا مثل : عدي بن حاتم ، والزبرقان بن بدر وغيرهما ، كان يعطيهم ليتألف عشيرتهم .
وأما المشركون فصنفان : صنف كان يدفعهم ليدفع أذاهم عن المسلمين ، مثل عامر ابن الطفيل وغيره ، وصنف كان يعطيهم ليؤمنوا ويميلوا إليه مثل صفوان بن أمية بن خلف ، ومالك بن عوف النصري وغيرهما .
واختلفوا أن سهم المؤلفة قلوبهم هل بقي بعد النبي ؟
قال الشعبي وجماعة : قد سقط . وهو قول أكثر أهل العلم . وقال الزهري : هو باق . وقد حكى عن الشافعي كلا القولين ، والصحيح هو الأول .
وقوله : ( ^ وفي الرقاب ) فيه قولان :
أحدهما : أنهم المكاتبون . وهذا قول الشافعي وأبي حنيفة وغيرهما .
وقال مالك : يشترى بذلك السهم رقاب فيعتقون . الصحيح هو الأول .
قوله : ( ^ والغارمين ) قال مجاهد : هؤلاء قوم أحرقت النار دورهم ، وأذهب السيل أموالهم فادانوا لنفقاتهم . وقال غيره : هو كل من لحقه غرم بسبب لا معصية فيه .
____________________


( ^ ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم ( 61 ) يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين ) * * * *
وقوله : ( ^ وفي سبيل الله ) هؤلاء الغزاة والحجاج ، وقوله : ( ^ في سبيل الله ) : في طاعة الله ( ^ وابن السبيل ) فيه قولان :
أحدهما : أنه الذي قطع عليه الطريق فبقي فقيرا لا مال له . والذي عليه الفقهاء أنه الذي بعد عن ماله ؛ فيصرف إليه سهم من الصدقات وإن صار غنيا في بلده .
وحكى ابن الأنباري قولا ثالثا : أن ابن السبيل هو الضيف .
قوله تعالى : ( ^ فريضة من الله ) أي : افترض الله ذلك فريضة ( ^ والله عليم حكيم ) عليم بما يصلح خلقه ، حكيم فيما دبره . < < التوبة : ( 61 ) ومنهم الذين يؤذون . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن ) الأذن هاهنا : هو من يسمع كل ما قيل له . قال الشاعر :
( أيها القلب تعلل بددن ** إن همي في سماع وأذن )
وسبب نزول الآية : أن المنافقين قالوا : قولوا ما تريدون ثم أنكروا واحلفوا ؛ فإن محمدا أذن يسمع كل ما قيل له ويقبله .
( ^ قل أذن خير لكم ) يعني : هذه الخلة خير لكم ، فكأنه قال : مستمع خير خير لكم ، ومستمع شر شر لكم ( ^ يؤمن بالله ) يصدق بالله ( ^ ويؤمن للمؤمنين ) ويصدق المؤمنين ( ^ ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم ) معناه ظاهر . وقرئ : ' أذن خير لكم ' أي : أصلح لكم . < < التوبة : ( 62 ) يحلفون بالله لكم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين ) معناه ظاهر .
وقوله : ( ^ إن كانوا مؤمنين ) قيل : يعني : ما كانوا مؤمنين .
____________________


( ( 62 ) ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ذلك الخزي العظيم ( 63 ) يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزءوا إن الله مخرج ما تحذرون ( 64 ) ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا ) * * * * < < التوبة : ( 63 ) ألم يعلموا أنه . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله ) يحادد الله : يعني : من يكون في حد وجانب من الله ورسوله ( ^ فإن له نار جهنم خالدا فيها ذلك الخزي العظيم ) الفضيحة العظيمة والنكال العظيم . < < التوبة : ( 64 ) يحذر المنافقون أن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يحذر المنافقون ) فيه قولان :
أحدهما : أنه خبر بمعنى الأمر ، ومعناه : ليحذر المنافقون .
والآخر : أنه بمعنى الإخبار عنهم ؛ إذ كانوا يستهزئون ويخافون الفضيحة بنزول القرآن في شأنهم .
قوله تعالى : ( ^ أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم ) وقد بينا أن هذه السورة تسمى المبعثرة والفاضحة ؛ فهذه الآية تشير إلى ما قدمنا .
وقد روي عن عبد الله بن عباس قال : أنزل الله تعالى ذكر سبعين رجلا من المنافقين بأسمائهم وأسماء آبائهم وعشائرهم ، ثم نسخ ذكر الأسماء رحمة ورأفة على المؤمنين ؛ لأن أولادهم كانوا مؤمنين ، فنسخ ذلك لئلا يعير بعضهم بعضا .
قوله تعالى : ( ^ قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون ) معناه ظاهر . < < التوبة : ( 65 ) ولئن سألتهم ليقولن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب ) .
سبب نزول الآية : ' أن النبي كان يسير في غزوة تبوك وقدامه ثلاثة من المنافقين ، اثنان يستهزئان ، والثالث يضحك ' وقيل : إن استهزاءهم : أنهم كانوا يقولون : إن محمدا يزعم أنه يغلب الروم ويفتح مدائنهم ، ما أبعده عن ذلك .
وقيل : إنهم كانوا يقولون : إن محمدا يزعم أنه نزل القرآن في شأن أصحابنا المقيمين
____________________


( ^ نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون ( 65 ) لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين ( 66 ) المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن ) * * * * بالمدينة ، وإنما هو قوله وكلامه . فهذا معنى الآية ؛ فإنه روي أن النبي أرسل إليهم : ماذا كنتم تقولون ؟ فقالوا : إنا كنا نخوض فيما يخوض فيه الركب ، فقال الله تعالى : ( ^ قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون ) .
وروي عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أنه قال : ' رأيت عبد الله بن أبي ابن سلول يشتد قدام النبي والحجارة تنكبه وهو يقول : إنما كنا نخوض ونلعب ؛ ورسول الله يقول : ( ^ أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون ) ' . < < التوبة : ( 66 ) لا تعتذروا قد . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم ) فإن قال قائل : قد كفرتم بعد إيمانكم وهم لم يكونوا مؤمنين .
الجواب عنه : أن معناه : أظهرتم الكفر بعد إظهاركم الإيمان .
وقوله تعالى : ( ^ إن نعف عن طائفة منكم ) قرئ : ' نعف ' ومعناهما واحد ، والطائفة هاهنا رجل واحد كان يسمى مخشى بن حمير ، وكان هو الذي يضحك ولا يخوض معهم ، وروى أنه جانبهم فقال : ( ^ إن نعف عن طائفة منكم ) يعني : هذا الواحد ( ^ نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين ) معناه معلوم . < < التوبة : ( 67 ) المنافقون والمنافقات بعضهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض ) الآية ، قوله : ( ^ بعضهم من بعض ) فيه قولان :
أحدهما : أن بعضهم على دين البعض .
____________________


( ^ المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون ( 67 ) ) * * * *
والآخر : أن أمرهم واحد ، وهذا كالرجل يقول لغيره : أنا منك ، يعني : أمري وأمرك واحد .
( ^ يأمرون بالمنكر ) فيه قولان :
أحدهما : أن المنكر : هو الشرك ، والمعروف : هو الإيمان بالله .
وعن أبي العالية الرياحي أنه قال : كل ما ذكر من المنكر في القرآن فهو عبادة الأوثان والشرك بالله .
والقول الثاني : أن المنكر : هو معصية الله تعالى ، والمعروف : هو طاعة الله .
وقوله تعالى : ( ^ وينهون عن المعروف ) القول المعروف أن معنى قوله : ( ^ ويقبضون أيديهم ) يمسكون عن الإنفاق في سبيل الله .
والقول الثاني : يقبضون أيديهم أي : عن الجهاد في سبيل الله .
وقال بعض المتأخرين : يعني : لا يبسطونها للدعاء والرغبة إلى الله .
قوله تعالى : ( ^ نسوا الله فنسيهم ) أي : تركوا أمر الله فتركهم من رحمته . وروي عن قتادة أنه قال : نسوا من الخير ولم ينسوا من الشر .
قوله تعالى : ( ^ إن المنافقين هم الفاسقون ) يعني : هم الخارجون عن طاعة الله .
وقد صح عن النبي أنه قال : ' علامة المنافق ثلاثة : إذا قال كذب ، وإذا ائتمن خان ، وإذا وعد ( خلف ) ' . وفي بعض الروايات : ' إذا عاهد غدر ' . وفي بعض الأخبار : ' لايأتون الصلاة إلا دبرا ولا يقرءون القرآن إلا هجرا ' . وفي بعض الروايات عن ابن عباس : أن عدد المنافقين من الرجال في زمان رسول الله كان ثلثمائة ، وعدد النساء مائة وسبعون .
____________________


( ^ وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم ( 68 ) كالذين من قبلكم كانوا أشد منكر قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون ( 69 ) ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود ) * * * * < < التوبة : ( 68 ) وعد الله المنافقين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها ) معلوم . وقوله : ( ^ هي حسبهم ) أي : كافيتهم ( ^ ولعنهم الله ) أي : أبعدهم الله من رحمته ( ^ ولهم عذاب مقيم ) أي : دائم . < < التوبة : ( 69 ) كالذين من قبلكم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ كالذين من قبلكم ) معناه : أنتم يا معشر المنافقين كالذين من قبلكم . قوله : ( ^ كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم ) الخلاق : النصيب ، وقيل : الحظ الوافر . ومعنى الآية : استمتعوا باتباعهم الشهوات ( ^ كما استمتعتم بخلاقكم ) باتباعكم الشهوات ، وقيل : معنى الآية : رضوا بنصيبهم من الدنيا عن نصيبهم من الآخرة . وقوله تعالى : ( ^ وخضتم كالذي خاضوا ) يعني : لعبوا واستهزءوا كما فعلتم . قوله تعالى : ( ^ أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون ) معناه : كما حبطت أعمالهم وخسروا كذلك حبطت أعمالكم وخسرتم . وقد روي عن النبي أنه قال : ' لتتبعن سنن من قبلكم حتى لو دخل أحدهم في جحر ضب ليدخلنه أحدكم ' . وعن عمر - رضي الله عنه - قال : ما أشبه الليلة بالبارحة في الدنيا والآخرة . < < التوبة : ( 70 ) ألم يأتهم نبأ . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم ) أي : خبر الذين من قبلهم ( ^ قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين ) ومدين اسم قرية شعيب . قوله : ( ^ والمؤتفكات ) هي : قريات لوط ؛ سميت مؤتفكة ؛ لأن الله تعالى قلبها بهم . قوله :
____________________


( ^ وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ( 70 ) والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم ( 71 ) وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في ) * * * * ( ^ أتتهم رسلهم بالبينات ) بالحجج ( ^ فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) معناه : ما نقص الله حظهم ؛ ولكن نقصوا هم حظهم ، وضروا بأنفسهم . < < التوبة : ( 71 ) والمؤمنون والمؤمنات بعضهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ) هذه الولاية هي ولاية الدين واتفاق الكلمة . ويقال في تفسير الآية : المهاجرون والأنصار بعضهم أولياء بعض ، والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض .
قوله تعالى : ( ^ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ) إلى آخر الآية معناه معلوم . وقوله : ( ^ ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله ) قال عطاء بن أبي رباح : هو اتباع الكتاب والسنة . وقوله : ( ^ إن الله كان عزيزا حكيما ) أي : عزيز في نصره ، حكيم في تدبيره . < < التوبة : ( 72 ) وعد الله المؤمنين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ) الجنات : البساتين ( ^ تجري من تحتها الأنهار ) هذه الأنهار هي الأنهار التي ذكر الله تعالى في سورة محمد .
قوله : ( ^ ومساكن طيبة ) روي عن عبد الله بن عباس أنه قال : ( ^ ومساكن طيبة ) هي قصر من لؤلؤ فيها سبعون دارا من الزبرجد ، في كل دار سبعون بيتا من الياقوت ، في كل بيت سبعون سريرا ، على كل سرير سبعون فراشا من كل لون ، على كل فراش زوجة من الحور العين . وفي الآثار - أيضا - أن قوله : ( ^ في جنات عدن ) قال : إن جنة عدن هي مأوى الأنبياء والصديقين والشهداء ، وسائر الجنان حواليها . وقيل : إن جنة عدن في السماء السابعة لا يدخلها إلا نبي أو صديق أو إمام عدل أو رجل محكم في نفسه . ومعنى قوله ' محكم في نفسه ' يعني : خير بين الكفر والقتل فاختار
____________________


( ^ جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم ( 72 ) يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير ( 73 ) يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر ) * * * * القتل . وأما جنة المأوى فهي في السماء الدنيا . وقوله : ( ^ عدن ) أي : موضع الإقامة ، يقال : عدن بالمكان إذا أقام به ، قال الشاعر :
( فإن تستضيفوا إلى حلمه ** تضيفوا إلى راجح قد عدن )
وقوله تعالى : ( ^ ورضوان من الله أكبر ) معناه : رضا الله أكبر من هذه التحف .
وروى أبو سعيد الخدري أن النبي قال : ' إن الله تعالى يقول : يا أهل الجنة . فيقولون : لبيك ربنا وسعديك ، والخير في يديك ، فيقول : هل رضيتم عني ؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا أفضل ما تعطي أحدا من خلقك ؟ ! فيقول : وأنا أعطيكم أفضل من ذلك ، فيقولون : وما أفضل من ذلك ؟ فيقول : أحل - أي : أنزل - عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا ' . خرجه البخاري ومسلم في كتابيهما .
قوله ( ^ ذلك هو الفوز العظيم ) معناه ظاهر . < < التوبة : ( 73 ) يا أيها النبي . . . . . > >
( ^ يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ) قال أهل التفسير : معناه : جاهد الكفار بالسيف ، والمنافقين باللسان . وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : لا تلق المنافق إلا بوجه مكفهر . وروي عنه أنه قال : يجاهد بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه . وقوله تعالى : ( ^ واغلظ عليهم ) الغلظة ها هنا : هو الانتهار الشديد . قوله : ( ^ ومأواهم جهنم وبئس المصير ) معناه ظاهر . < < التوبة : ( 74 ) يحلفون بالله ما . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر ) الآية نزلت في المنافقين أيضا . واختلف القول في كلمة الكفر .
قال بعضهم : كلمة الكفر : هي سب محمد . وقال بعضهم : كلمة الكفر : هي قول الجلاس بن سويد ؛ فإنه قال : لئن كان ما يقول محمد حق فنحن شر من الحمير .
____________________


( ^ وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا ) * * * * وفيه قول ثالث : أن كلمة الكفر هي قولهم : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، وعنوا بالأعز : عبد الله بن أبي بن سلول ، وقالوا : نتوجه بالتاج خلافا على محمد .
وقوله تعالى : ( ^ وكفروا بعد إسلامهم ) معناه : وأظهروا الكفر بعد إظهارهم الإسلام .
وقوله تعالى : ( ^ وهموا بما لم ينالوا ) يعني : قصدوا ما لم يدركوه ؛ فإنه روي أن اثني عشر نفرا من المنافقين اجتمعوا في غزوة تبوك ليغتالوا النبي . وروي أنهم قصدوا أن يوقعوه من العقبة في الوادي ، فدفع الله شرهم عن النبي ؛ فهذا معنى قوله : ( ^ وهموا بما لم ينالوا ) . وقوله تعالى : ( ^ وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله ) نقموا أي : كرهوا ، قال الشاعر في مدح بني أمية شعرا :
( ما نقموا من بني أمية ** إلا أنهم ( يحلمون ) إن غضبوا )
( وأنهم سادة الملوك ** ولا يصلح إلا عليهم العرب )
وقوله تعالى : ( ^ إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله ) يعني : بالغنائم . وروي : ' أن الجلاس بن سويد كان تحمل بحمالة فأداها عنه رسول الله ' . وروي أن عبد الله بن أبي بن سلول كانت له دية على قوم فأمر النبي أن يوفر عليه . فهذا كله معنى قوله تعالى : ( ^ إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله ) .
قوله تعالى : ( ^ فإن يتوبوا يك خيرا لهم ) روي أنه لما نزلت هذه الآية قال الجلاس بن سويد : إني أرى الله يعرض علي التوبة ، وإني قد تبت إلى الله مما كنت فيه ؛ فروي
____________________


( ^ والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير ( 74 ) ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين ( 75 ) فلما آتاهم من فضله بخلوا ) * * * * أنه صح إيمانه واستشهد يوم اليمامة .
قوله تعالى : ( ^ وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير ) إلى آخر الآية ، معناه ظاهر .
ويقال في قوله تعالى : ( ^ وما نقموا إلا أن أغناهم الله ) يعني : ليست لهم كراهة ولا نقمة ، وهذا مثل قول الشاعر :
( ولا عيب فينا غير أن سيوفنا ** بهن فلول من قراع الكتائب )
يعني : لا عيب فينا أصلا . < < التوبة : ( 75 - 76 ) ومنهم من عاهد . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين ) أي : لنتصدقن ، وأدغمت التاء في الصاد وشددت ، أي : لنصدقن في وجوه الخير من الجهاد وغيره ، ولنكونن من الصالحين . قيل : مثل عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وغيرهما في البذل والعطاء .
في الآية قولان : أحدهما : أنها نزلت في رجل من الأنصار كان له مال غائب ، فقال : إن رد الله على مالي لأفعلن كذا وكذا ، فرد الله عليه ماله فلم يفعل شيئا ، فأنزل الله تعالى فيه هذه الآية .
والقول الثاني : أنها نزلت في ثعلبة بن حاطب . روى أبو أمامة الباهلي : ' أن ثعلبة ابن حاطب جاء إلى النبي وقال : يا رسول الله ، ادع الله أن يرزقني مالا ، فقال : قليل يكفيك خير من كثير لا تقوم بحقه فقال : يا رسول الله ، ادع الله أن يرزقني مالا ، فقال : أما ترضى أن تكون مثل رسول الله ، فوالله لو أردت أن تسير معي الجبال ذهبا وفضة لسارت ، فقال : يا رسول الله ، ادع الله أن يرزقني مالا ، فوالله لاؤدين إلى كل ذي حق حقه ، فدعا رسول الله وقال : اللهم ارزق ثعلبة مالا ، قال : فاتخذ غنما فنمت كما ينمو الدود حتى ضاقت بها أزقة المدينة ، فخرج بها إلى الصحراء
____________________


( ^ به وتولوا وهم معرضون ( 76 ) فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ( 77 ) ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ) * * * * وجعل يحضر الصلوات الخمس ، ثم نمت حتى ضاقت بها مراعي المدينة ، فقال فبعد بها وجعل لا يحضر إلا الجمعة ، ثم ترك حضور الصلوات والجمعة جميعا . قال : فبعث رسول الله مصدقه ليأخذ الزكاة ، فمر عليه وطالبه بالزكاة ، فقال : ما أرى هذا إلا أخت الجزية ، اذهب حتى تعود إلي ، فلما عاد إليه لم يعط شيئا ، وقال : حتى ألقى رسول الله ، فرجع المصدق وأخبر النبي بأمره ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فروي أنه ذكر له أنه نزلت فيه هذه الآية فحضر المدينة وقال : يا رسول الله ، خذ مني الزكاة ، فأبى أن يأخذ ، فلما توفي رسول الله جاء إلى أبي بكر وطلب أن يأخذ منه الزكاة ، فقال : ما أخذ رسول الله ؛ فلا آخذ أنا ، وهكذا في زمان عمر وزمان عثمان ، وتوفي في زمان عثمان ' . < < التوبة : ( 77 ) فأعقبهم نفاقا في . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ فأعقبهم نفاقا في قلوبهم ) فيه معنيان :
أحدهما : فعاقبهم نفاقا في قلوبهم ، يقال : أعقبه وعاقبه بمعنى واحد .
والمعنى الثاني : أخلفهم نفاقا في قلوبهم .
( ^ إلى يوم يلقونه ) يوم القيامة .
قوله تعالى : ( ^ بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ) . < < التوبة : ( 78 ) ألم يعلموا أن . . . . . > >
ثم قال : ( ^ ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم ) يعني : ما أضمروا في قلوبهم
____________________


( ^ ونجواهم وأن الله علام الغيوب ( 78 ) الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم ( 79 ) استغفر لهم أولا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن ) * * * * وما تناجوا به بينهم ( ^ وأن الله علام الغيوب ) معناه ظاهر . < < التوبة : ( 79 ) الذين يلمزون المطوعين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات ) يلمزون : يعيبون .
وسبب نزول الآية : ' أن النبي حث الناس على الصدقة ، فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف دينار - وكان ذلك نصف ماله - وجاء عاصم بن عدي بثلثمائة وسق من تمر - والوسق حمل بعير - وجاء أبو عقيل - رجل من الأنصار - بصاع من تمر ، وقال : كان لي صاعان من تمر فجئت بأحدهما ، فقال المنافقون : أما عبد الرحمن ابن عوف وعاصم بن عدي : فأعطيا ما أعطيا رياء ، وأما أبو عقيل : فما كان أغنى الله من صاع أبي عقيل ، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية ' . ( ^ والمطوعين ) المتطوعين من المؤمنين ، هو عبد الرحمن بن عوف ، وعاصم بن عدي ( ^ والذين لا يجدون إلا جهدهم ) هو أبو عقيل . والجهد : الطاقة ( ^ فيسخرون منهم ) يستهزئون منهم ( ^ سخر الله منهم ) جازاهم جزاء السخرية ( ^ ولهم عذاب أليم ) . < < التوبة : ( 80 ) استغفر لهم أو . . . . . > >
قوله سبحانه وتعالى : ( ^ استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ) الآية . أراد به إثبات اليأس عن طمع المغفرة لهم .
وروي عن الحسن البصري أنه روى عن النبي مرسلا أنه قال : ' والله لأزيدن على السبعين ' فأنزل الله عز وجل : ( ^ سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم ) وذكر عدد السبعين للمبالغة في إثبات اليأس ( ^ إن الله لا يهدي القوم الفاسقين ) معناه معلوم .
____________________


( ^ يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين ( 80 ) فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون ( 81 ) فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون ( 82 ) فإن ) * * * * < < التوبة : ( 81 ) فرح المخلفون بمقعدهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فرح المخلفون ) الفرح : لذة في القلب بنيل المشتهى ، والغم : ضيق في القلب بفوات المشتهى . وأما المخلفون فهم الذين قعدوا عن الغزو ، وتركوا الخروج مع رسول الله . والمخلف : المتروك . وقوله : ( ^ بمقعدهم ) يعني : بقعودهم . وقوله : ( ^ خلاف رسول الله ) فيه معنيان : أحدهما : مخالفة لرسول الله . والثاني : بمقعدهم خلاف رسول الله أي : بعد رسول الله ، قاله أبو عبيدة ( ^ وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ) المجاهدة بالمال : هي الإنفاق ، والمجاهدة بالنفس : هي مباشرة القتال ، وقوله : ( ^ وكرهوا ) يعني : لم يحبوا ( ^ وقالوا لا تنفروا في الحر ) الحر : هو وهج الشمس ، والبرد ضده . ( ^ قل نار جهنم أشد حرا ) يعني : أشد وهجا ( ^ لو كانوا يفقهون ) قرأ ابن مسعود : ' لو كانوا يعلمون ' . والمعنى واحد . < < التوبة : ( 82 ) فليضحكوا قليلا وليبكوا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا ) الضحك : حالة تكون في الإنسان من التعجب والفرح ، والبكاء حالة تعتري الإنسان من الهم وضيق القلب مع جريان الدمع على الخد ، ويقال : إن الضحك في بني آدم كالصهيل في الخيل .
وفي الآية قولان : أحدهما : أن معنى قوله : ( ^ فليضحكوا قليلا ) أي : في الدنيا ( ^ وليبكوا كثيرا ) في الآخرة ( ^ جزاء بما كانوا يعملون ) قاله أبو رزين ، والحسن وجماعة .
والقول الثاني : أن هذا أمر بمعنى الخبر ، فكأنه قال : يضحكون قليلا ، ويبكون كثيرا ، يعني : في الآخرة .
فإن قال قائل : كيف قال : يضحكون قليلا وهم لا يضحكون أصلا في الآخرة ؟
الجواب : قلنا : معنى قوله : يضحكون قليلا يعني : لا يضحكون أصلا ، وهذا مثل
____________________


( ^ رجعك الله إلى طائفة منهم فاستئذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين ( 83 ) ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا ) * * * * قوله تعالى : ( ^ فقليلا ما يؤمنون ) أي : لا يؤمنون شيئا .
وروي عن الحسن البصري أنه قال : إن أهل النار ليبكون لا يرقأ لهم دمع حتى إن السفن لو أجريت في دموعهم جرت . < < التوبة : ( 83 ) فإن رجعك الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فإن رجعك الله إلى طائفة منهم ) يعني : لو ردك الله إلى طائفة منهم ( ^ فاستئذنوك للخروج ) ليخرجوا معك في القتال ( ^ فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا ) قال أهل التفسير : العدو ها هنا : أهل الكتاب ؛ فإنه لم يكن بقي بجزيرة العرب مشرك في ذلك الوقت . قوله : ( ^ إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين ) والخالفون هاهنا هم النساء والصبيان ، وقيل : هم أهل الزمانة والضعف . < < التوبة : ( 84 ) ولا تصل على . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ) الآية . نزلت الآية في شأن عبد الله بن أبي بن سلول ؛ فإنه روي : ' أنه لما حضره الموت جاء ابنه إلى رسول الله برسالته يطلب منه قميصه ليكفنه فيه ، فأعطاه رسول الله قميصه . وفي بعض الروايات : أنه أعطاه قميصه الذي فوق قميصه وهو الأعلى ، فرد وطلب قميصه الذي يلي جلده ، فلما توفي قدم ليصلي عليه رسول الله بطلب ابنه ذلك ووصيته ، فلما تقدم رسول الله ليصلي عليه أخذ عمر بثوبه وقال : يا رسول الله ، أتصلي على هذا المنافق ؟ فقال رسول الله : إن ربي خيرني . وقرأ قوله تعالى : ( ^ استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ) وقد اخترت أن أصلي عليه قال : فصلي عليه ، فأنزل الله تعالى قوله ( ^ ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ) .
وفي رواية أنس : ' أن النبي لما وقف ليصلي عليه أخذ جبريل - عليه السلام
____________________


( ^ وهم فاسقون ( 84 ) ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون ( 85 ) وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله ) * * * * بطرف ثوبه ومنعه من الصلاة ، فترك الصلاة ' .
والرواية الأولى هي في ' الصحيحين ' .
وقوله : ( ^ ولا تقم على قبره ) وفي رواية : ' أن النبي كان إذا صلى على ميت وقف على قبره ودعا ' فمنعه الله تعالى عن ذلك في حق المنافقين .
فإن قيل : كيف يجوز أن يصلي النبي على المنافق وهو يعلم أنه كافر بالله ؟
الجواب عنه : أنه رأى ذلك مصلحة ؛ وقد قيل حين صلى عليه : ' إن صلاتي عليه لا تغني عنه من عذاب الله شيئا ' .
وفي بعض الروايات : ' أن عبد الله بن أبيّ بن سلول لما طلب منه قميصه ليتبرك به ويكفن فيه ، أسلم ألف رجل من قومه لم يكونوا أسلموا من قبل لما رأوا من تبركه بالنبي . [ ( ^ إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون ) ] وباقي الآية معلوم . < < التوبة : ( 85 ) ولا تعجبك أموالهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولا تعجبك أموالهم ولا أولادهم ) قد بينا معناها فيما سبق ؛ فإن قيل : أيش معنى التكرار ؟
وفي هذه الآية الجواب من وجهين : أحدهما : أنه للتأكيد .
والثاني : أن الآيتين نزلتا في طائفتين من المنافقين دون طائفة واحدة .
____________________


( ^ وجاهدوا مع رسوله استئذنك أولوا الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين ( 86 ) رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون ( 87 ) لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون ( 88 ) أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين ) * * * * < < التوبة : ( 86 ) وإذا أنزلت سورة . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله ) معنى الآية ظاهر .
وقوله : ( ^ استأذنك أولوا الطول منهم ) الطول : هو السعة والغنا بإجماع المفسرين ، وقيل : إنه إنما سميت السعة طولا ؛ لأن الإنسان يتطاول بها الناس .
وقوله : ( ^ وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين ) يعني : مع القاعدين عن الجهاد . < < التوبة : ( 87 ) رضوا بأن يكونوا . . . . . > >
ثم قال : ( ^ رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ) قال قتادة : الخوالف : هم النساء . وقال غيره : هم أدنياء الناس وسفلتهم ، يقال : فلان خالفه قومه إذا كان دونهم . قوله : ( ^ وطبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون ) طبع : ختم ، ويقال : الطبائع نكت سوداء تقع على القلب ، يعرف بها الملك المنافق من المؤمن . < < التوبة : ( 88 ) لكن الرسول والذين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم ) معناه معلوم .
وقوله : ( ^ وأولئك لهم الخيرات ) فيه أقوال :
أحدها : أن الخيرات : هي الغنائم ، والآخر : أن الخيرات : هي الحور في الجنة ، وواحدتها : خيرة ؛ قال الله تعالى : ( ^ فيهن خيرات حسان ) يعني : الحور .
والقول الثالث : أن الخيرات لا يعلم معناها إلا الله . حكي هذا عن ابن عباس ، ومثل هذا : قوله تعالى : ( ^ فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين ) .
( ^ وأولئك هم المفلحون ) قد بينا المعنى .
____________________


( ^ فيها ذلك الفوز العظيم ( 89 ) وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم ( 90 ) ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا ) * * * * < < التوبة : ( 89 ) أعد الله لهم . . . . . > >
ثم قال : ( ^ أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم ) ومعناه ظاهر . < < التوبة : ( 90 ) وجاء المعذرون من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم ) قرىء بقراءتين ' المعذرون ' و ' المعذرون ' ؛ وفي المعذرين قولان : أحدهما : أن المعذرين هم المعتذرون ، أدغمت التاء في الذال .
والقول الثاني : أن المعذرين : هم المقصرون ، والتعذير في اللغة : هو التقصير . وأما المعذرون : فهم الذين بالغوا في العذر ، يقال في المثل : لقد أعذر من أنذر . يعني : بالغ في إظهار العذر من قدّم في النذارة ، قال لبيد شعرا :
( إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ** ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر )
يعني : بالغ في العذر .
واعلم أن هذه الآية نزلت في المنافقين ، وقد اعتذروا ولم يكن لهم عذر . وأما الأعراب : هم الذين يسكنون البادية ، والعربي : اسم لمن له نسب من العرب .
وقوله : ( ^ وقعد الذين كذبوا الله ورسوله ) هذا في المنافقين ؛ ومعنى ( ^ كذبوا الله ورسوله ) يعني : لم يأتوا بعذر صادق ، ثم قال : ( ^ سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم ) ومعناه معلوم . < < التوبة : ( 91 ) ليس على الضعفاء . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ليس على الضعفاء ولا على المرضى ) اختلفوا في الضعفاء ، قال بعضهم : هم المجانين ، والضعف : نقصان عقولهم . وقال بعضهم : هم الصبيان . وقال بعضهم : هم النسوان . وأما المرضى : فمعلوم . وقوله : ( ^ ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج ) الذين لا يجدون : هم الفقراء ، والحرج : الضيق . وقوله : ( ^ إذا نصحوا
____________________


( ^ لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم ( 91 ) ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون ( 92 ) إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون ( 93 ) ) * * * * لله ورسوله ) يعني : أخلصوا العمل لله ولرسوله ، وإخلاص العمل لله بالعبادة ، وللرسول بالمتابعة . قوله تعالى : ( ^ ما على المحسنين من سبيل ) معناه : ليس على من أحسن بالإخلاص سبيل ، والسبيل : هو العقوبة ( ^ والله غفور رحيم ) . وروي عن ابن عباس أنه قرأ : ' والله لأهل الإساءة غفور رحيم ' . < < التوبة : ( 92 ) ولا على الذين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم ) معناه : لا سبيل على الأولين ولا على هؤلاء ، قال محمد بن إسحاق : نزلت الآية في سبعة نفر ، منهم عبد الله بن المغفل المزني ، والعرباض بن سارية ، وأبو ( ليلى ) عبد الرحمن بن كعب ، سموا البكائين . وروي عن الحسن البصري أنه قال هذا في أبي موسى الأشعري وأصحابه .
واختلف القول في قوله : ( ^ لتحملهم ) أحد القولين - وهو المعروف - : أنهم طلبوا الإبل ليركبوها . والقول الثاني : أنهم طلبوا النعال . هذا قول الحسن بن صالح .
وقوله : ( ^ قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون ) معناه ظاهر . وفي بعض الأخبار : أن النبي قال : ' لا يزال أحدكم راكبا مادام متنعلا ' . < < التوبة : ( 93 ) إنما السبيل على . . . . . > >
ثم قال ( ^ إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ) الخوالف : النساء والصبيان ؛ يقال : خالف وخوالف ، كما يقال : فارس وفوارس ، وهالك وهوالك . ( ^ طبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون ) ظاهر المعنى .
____________________


( ^ يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ( 94 ) سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون ( 95 ) يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين ) * * * * < < التوبة : ( 94 ) يعتذرون إليكم إذا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم ) روي أن المنافقين الذين تخلفوا كانوا بضعة وثمانين نفرا ، فلما رجع رسول الله من غزوة تبوك جاءوا يعتذرون ، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية ( ^ قل لاتعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم ) يعني : فيما سلف ( ^ وسيرى الله عملكم ورسوله ) يعني : في المستأنف ( ^ ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ) . < < التوبة : ( 95 ) سيحلفون بالله لكم . . . . . > >
ثم قال في شأنهم : ( ^ سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم ) الانقلاب : هو الرجوع إلى المكان الذي خرجوا منه ( ^ فأعرضوا عنهم إنهم رجس ) الرجس : هو النتن والقذر ( ^ ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون ) فإن قيل : كيف قال في الآية : ( ^ سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم ) إذا كان المؤمنون مقبلين عليهم حتى يقول : ( ^ لتعرضوا عنهم ) ؟
والجواب عنه : ذكر الأزهري في كتابه ' التقريب ' معنى الآية : سيحلفون بالله لكم لإعراضكم عنهم لتقبلوا عليهم ؛ فأعرضوا عنهم . < < التوبة : ( 96 ) يحلفون لكم لترضوا . . . . . > >
ثم قال : ( ^ يحلفون لكم لترضوا عنهم ) الرضا ضد الكراهة ( ^ فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين ) .
وفي القصة : ' أن أبا خيثمة رجل من أصحاب رسول الله كان قد تخلف ، وكانت له امرأتان ، فذهب إليهما وقد هيأت كل واحدة منهما طعاما ، وبردت شرابا وبسطت له في الظل ، فنظر إلى ذلك وقال : رسول الله في الضح والذبح ، وأبو خيثمة في الظل ! ما هذا بنصف ، ثم ركب ناقته واتبع رسول الله ، فأدرك النبي وقد نزل
____________________


( ( 96 ) الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم ( 97 ) ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم ) * * * * بتبوك ، فقال الناس : يا رسول الله ، هذا راكب قد أقبل ، فقال رسول الله : كن أبا خيثمة فقال الناس : هو أبو خيثمة ' . < < التوبة : ( 97 ) الأعراب أشد كفرا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله ) معنى أجدر : أخلق وأحرى أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله ( ^ على رسوله ) وهذا لبعدهم من سماع القرآن ومعرفة السنن . وفي بعض الأخبار : ' أهل الكفور هم أهل القبور ' . وفي آثار التابعين عن إبراهيم النخعي : أن أعرابيا جلس عند زيد بن صوحان - وكانت شماله أصيبت يوم نهاوند في حرب العجم - فجعل يكلمه ويذكر له العلم ، فقال له الأعرابي : إنه ليؤنسني علمك وتريبني يدك ، فقال له زيد : وما يريبك مني وإنها الشمال ؟ فقال الأعرابي : إني ما أدري الشمال تقطع أم اليمين ؟ فقال زيد بن صوحان : صدق الله تعالى : ( ^ الأعراب أشد كفرا ونفاقا ) .
وزيد بن صوحان من كبار التابعين ، وهو الذي ذكر رسول الله في شأنه أن يده تسبقه إلى الجنة . ( ^ والله سميع عليم ) . < < التوبة : ( 98 ) ومن الأعراب من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ) المغرم : التزام ما لا يلزم ، قال الشاعر :
( فمالك مسلوب العدا كأنما ترى ** هجر ليلى مغرما أنت غارمه )
قوله : ( ^ ويتربص بكم الدوائر ) أي : ينتظر بكم الدوائر ، والدوائر : جمع الدائرة ،
____________________


( ^ الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم ( 98 ) ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم ( 99 ) والسابقون الأولون من ) * * * * والدائرة : انتقال المحبوب إلى المكروه ، وقيل : الدوائر : صروف الدهر .
ثم قال : ( ^ عليهم دائرة السوء ) وقرىء : ' دائرة السوء ' ومعناه : أن المكروه العظيم ما يلحقهم . وقوله : ( ^ والله سميع عليم ) . < < التوبة : ( 99 ) ومن الأعراب من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ) معناه معلوم ( ^ ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ) القربات جمع القربة ، والصلوات جمع الصلاة ؛ ومعنى القربات : أنه يطلب القربة إلى الله تعالى ، ومعنى الصلوات : أنه يطلب الدعاء من رسول الله .
واعلم أن الصلاة من الله الرحمة ، ومن المؤمنين الدعاء ، ومن الملائكة الاستغفار ، قال الأعشى :
( تقول بنتي وقد قربت مرتحلا ** يا رب جنب أبى الأوصاب والوجعا )
( عليك مثل الذي صليت فاغتمضي ** عينا فإن لجنب المرء مضطجعا )
ثم قال : ( ^ ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته ) أي : في جنته ( ^ إن الله غفور رحيم ) معلوم . < < التوبة : ( 100 ) والسابقون الأولون من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ) هذه الآية في السابقين الأولين ، وفيهم أقوال :
أحدها : قول سعيد بن المسيب وابن سيرين وجماعة ، أنهم قالوا : هم الذين صلوا إلى القبلتين .
____________________


( ^ المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد ) * * * *
وقال عطاء : هم أهل بدر .
وقال الشعبي : هم أهل بيعة الرضوان ، وبيعة الرضوان كانت بالحديبية .
والقول الرابع : السابقون الأولون من المهاجرين : هم الذين أسلموا قبل الهجرة ، والسابقون الأولون من الأنصار : هم الذين بايعوا مع رسول الله ليلة العقبة .
وروي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قرأ : ' والأنصار ' بالرفع . وفي هذه القراءة السابقون الأولون من المهاجرين خاصة . والمعروف ' والأنصار ' ومعناه : ومن الأنصار : والمهاجرين هم الذين هاجروا من أوطانهم وقدموا المدينة مع رسول الله ، والأنصار هم أهل المدينة الذين أنزلوا رسول الله والمهاجرين في دورهم .
وأما قوله : ( ^ والذين اتبعوهم بإحسان ) فيه قولان : أحدهما : أنهم بقية المهاجرين والأنصار سوى السابقين الأولين منهم .
والقول الثاني : أنهم المؤمنون إلى قيام الساعة .
وعن أبي صخر حميد بن زياد قال : أتيت محمد بن كعب القرظي فقلت له : ما قولك في أصحاب رسول الله ؟ فقال : جميع أصحاب رسول الله في الجنة ، مسيئهم ومحسنهم ، فقلت له : من أين تقول هذا ؟ فقال : اقرأ قوله تعالى : ( ^ والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ) إلى أن قال : ( ^ رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات ) ثم قال : شرط للتابعين شريطة ، وهو قوله : ( ^ اتبعوهم بإحسان ) ومعناه : أنهم اتبعوهم في أفعالهم الحسنة دون السيئة . قال أبو صخر : وكأني لم أقرأ هذه الآية قط .
وفي الخبر المعروف برواية أبي سعيد الخدري أن النبي قال : ' لا تسبوا أصحابي ؛ فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم ملء الأرض ذهبا لم يدرك مد أحدهم
____________________


( ^ لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم ( 100 ) وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم ( 101 ) وآخرون اعترفوا ) ولا نصيفه '
قوله : ( ^ رضي الله عنهم ورضوا عنه ) أي : رضي الله عنهم بطاعتهم ( ^ ورضوا عنه ) بثوابه ، وباقي الآية معلوم ( ^ وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك هو الفوز العظيم ) . < < التوبة : ( 101 ) وممن حولكم من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وممن حولكم من الأعراب منافقون ) قال أهل التفسير : هم مزينة وجهينة وأشجع وغفار وأسلم ( ^ ومن أهل المدينة ) قوم من الأوس والخزرج ( ^ مردوا على النفاق ) قال الفراء : مرنوا على النفاق . وقال ثعلب : استنمروا على النفاق . وفي الآية تقديم وتأخير ، كأنه قال : وممن حولكم من الأعراب منافقون مردوا على النفاق ومن أهل المدينة ، هكذا قاله أهل المعاني ( ^ لا تعلمهم نحن نعلمهم ) هذا دليل على أن الرسول لم يعلم جميع المنافقين .
وقوله تعالى : ( ^ سنعذبهم مرتين ) فيه أقوال :
أحدها : أنها الفضيحة في الدنيا ، والعذاب في الآخرة .
وفي الخبر ' أن النبي قام خطيبا على المنبر ، وقال : اخرج يا فلان ، فإنك منافق ، اخرج يا فلان ، فإنك منافق ' هكذا حتى أخرجهم جميعا من المسجد .
____________________


( ^ بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور ) * * * *
والقول الثاني : قو مجاهد ، وهو الخوف في الدنيا ، والعذاب في الآخرة .
والقول الثالث : أن العذاب الأول : هو القتل ، والعذاب الثاني : هو عذاب القبر .
والرابع : قال ابن قتيبة : العذاب الأول : هو السبي ، والعذاب الثاني : هو القتل .
( ^ ثم يردون إلى عذاب عظيم ) يعني : إلى جهنم . < < التوبة : ( 102 ) وآخرون اعترفوا بذنوبهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وآخرون اعترفوا بذنوبهم ) الآية نزلت في قوم من المؤمنين تخلفوا عن رسول الله بغير عذر ، فيهم أو لبابة بن عبد المنذر وغيره ، فلما قفل رسول الله من الغزو ، وقرب من المدينة جاءوا فربطوا أنفسهم بسوارى المسجد وقالوا : لا نحل أنفسنا حتى يتوب الله علينا ، فدخل رسول الله المسجد ، وكان من عادته أنه كان إذا خرج إلى سفر صلى ركعتين في المسجد ، ثم يخرج ، وإذا رجع بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين ، ثم يدخل منزله ، فلما دخل المسجد ورأى هؤلاء النفر قد ربطوا أنفسهم بالسوارى سأل وقال : ' ما شأنهم ؟ فقيل : إنهم حلفوا ألا يحلوا أنفسهم حتى يتوب الله عليهم ، فقال رسول الله : وإني أحلف أن لا أحلهم حتى يقضي الله فيهم بأمره ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ' .
وقوله تعالى : ( ^ خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ) العمل السيء هو التخلف عن الغزو بلا إشكال ، وأما العمل الصالح ففيه معنيان :
أحدهما : ندامتهم وربطهم أنفسهم بالسوارى .
والثاني : العمل الصالح : هو غزواتهم مع رسول الله من قبل .
وفي الأخبار ، عن سمرة بن جندب أن النبي قال : ' أتاني الليلة آتيان فانطلقا بي إلى مدينة مبنية لبنة من الذهب ولبنة من الفضة ، فتلقاني رجال شطر خلقهم كأحسن ما أنت راء ، وشطر خلقهم كأقبح ما أنت راء ، فقيل لهم : قعوا في ذلك
____________________


( ^ رحيم ( 102 ) خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم ( 103 ) ) * * * * النهر ، فوقعوا في النهر ، فخرجوا وقد ذهب عنهم السوء ، فسألت عن أولئك القوم ، فقيل لي : أما المدينة فهي الجنة ، [ وهذاك ] منزلك ، وهؤلاء القوم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ؛ فتجاوز الله عنهم ' .
وأما قوله تعالى : ( ^ عسى الله أن يتوب عليهم ) قال الحسن البصري وغيره : عسى من الله واجب . فلما نزلت هذه الآية أمر رسول الله أن يحل أولئك القوم من السوارى .
وروي عن أبي عثمان النهدي أنه قال : أرجي آية في القرآن هذه الآية .
( ^ إن الله غفور رحيم ) . < < التوبة : ( 103 ) خذ من أموالهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ) قال أهل التفسير : لما تاب الله على أولئك القوم جاءوا بأموالهم إلى النبي وقالوا : خذها صدقة لله ، فأبى أن يأخذها ، فأنزل الله تعالى هذه الآية : ( ^ خذ من أموالهم ) . وقوله : ( ^ تطهرهم ) أي : من الذنوب . وقوله : ( ^ وتزكيهم بها ) أي : وترفعهم بها من منازل المنافقين إلى منازل المخلصين ( ^ وصل عليهم ) وادع لهم ( ^ إن صلاتك سكن لهم ) أي : دعاؤك سكن لهم ، أي : سكون لهم ، أي : دعاؤك سكن لهم وطمأنينة وتثبيت .
وقد قال بعض أهل العلم : إنه يجب على الإمام أن يدعو للذي جاء بالصدقة . وقال بعضهم : يستحب ، ولا يجب . وقال بعضهم : يجب في الفرض ويستحب في النفل . وقال بعضهم : يجب على الإمام أن يدعو للمعطي ، ويستحب للفقير أن يدعو . ومنهم من قال : إن التمس المعطي أن يدعو له يجب ؛ وإلا فلا يجب .
____________________


( ^ ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم ( 104 ) ) * * * *
وقد ثبت الخبر برواية عبد الله بن أبي أوفى قال : ' كان الرجل إذا جاء بصدقته إلى النبي دعا له ؛ فجاء أبي بصدقته فقال النبي : أللهم صل على آل أبي أوفى .
( ^ والله سميع عليم ) معناه معلوم . < < التوبة : ( 104 ) ألم يعلموا أن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ) هذا ظاهر . وقوله : ( ^ ويأخذ الصدقات ) معناه : يقبل الصدقات . وقال بعض أهل المعاني قوله : ( ^ ألم يعلموا ) هو بمعنى الأمر ؛ كأنه قال : اعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده .
وفي الخبر المشهور المعروف عن أبي هريرة عن النبي قال : ' والذي نفسي بيده ، ما من عبد يتصدق بصدقة من كسب طيب - ولا يقبل الله إلا طيبا - إلا أخذها الله بيمينه فيربيها كما يربى أحدكم فلوه ، حتى إن اللقمة تجيء يوم القيامة مثل أحد ، ثم قرأ قوله تعالى : ( ^ ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات ) ' . والخبر صحيح .
وروي عن ابن مسعود أنه قال : إن الصدقة تقع في يد الله قبل أن تقع في يد الفقير . وروي في بعض الروايات مرفوعا إلى النبي .
قوله : ( ^ وأن الله هو التواب الرحيم ) معلوم المعنى . < < التوبة : ( 105 ) وقل اعملوا فسيرى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ) في الآية
____________________


( ^ وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ( 105 ) وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم ) * * * * معنى التهديد . فإن قال قائل : ما معنى رؤية الرسول والمؤمنين ؟
قلنا : رؤية الرسول : هي بإعلام الله إياه عملهم ، ورؤية المؤمنين : بإيقاع المحبة في قلوبهم لأهل الصلاح ، وإيقاع البغضة في قلوبهم لأهل الفساد .
وفي بعض الأخبار : ' لو عمل المؤمن في صخرة ليس لها باب [ لأظهره ] الله إذا عمله ' .
قوله تعالى : ( ^ وستردون إلى عالم الغيب والشهادة . . . . ) الآية ، معناه معلوم . < < التوبة : ( 106 ) وآخرون مرجون لأمر . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وآخرون مرجون لأمر الله ) الإرجاء : التأخير ، ومعناه : مؤخرون لأمر الله ، وأمر الله تعالى هنا : حكم الله .
والآية نزلت في كعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، ومرارة بن الربيع ؛ وهؤلاء الثلاثة الذين تأتي قصتهم من بعد .
وقوله ( ^ إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم ) معناه معلوم . < < التوبة : ( 107 ) والذين اتخذوا مسجدا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا ) نزلت الآية في قوم من المنافقين منهم : وديعة بن ثابت ، وثعلبة بن حاطب ، ( وجارية بن يزيد ) ، وابنه
____________________


( ^ وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم ( 106 ) والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون ( 107 ) لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على ) * * * * مجمع بن جارية ، وحزام بن مالك ، وأبو حبيبة بن الأزعر ، وعباد بن حنيث ، ورجل يقال له : يخرج إلى تمام اثنى عشر نفرا ، بنوا هذا المسجد بقصد ما ذكره الله في كتابه ، وهو قوله : ( ^ ضرارا ) يعني : مضارة بالرسول ( ^ وكفرا ) بالله ( ^ وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله ) والإرصاد : الإعداد ، والذي حارب الله ورسوله هاهنا هو أبو عامر الراهب ، وكان ممن يطلب الدين في الابتداء ، ثم تنصر وتحزب الأحزاب على رسول الله ، ثم لحق بقيصر يستنجده على رسول الله وأصحابه ، فهؤلاء بنوا هذا المسجد وقالوا : نبني هذا المسجد فنخلوا بأمرنا ، ونتحدث بما نريد ، وننتظر رجوع أبي عامر الراهب . وكان هذا المسجد بني قريبا من مسجد قباء . وقوله : ( ^ من قبل ) راجع إلى أبي عامر ( ^ وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى ) معناه : إلا الرفق بالمسلمين ( ^ والله يشهد إنهم لكاذبون ) معناه معلوم . < < التوبة : ( 108 ) لا تقم فيه . . . . . > >
ثم قال : ( ^ لا تقم فيه ابدا ) روي أنهم طلبوا من النبي أن يأتي فيصلي فيه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية : ( ^ لا تقم فيه أبدا ) معناه : لا تصل فيه أبدا ( ^ لمسجد أسس على التقوى ) اختلفوا في هذا المسجد ؛ قال ابن عمر ، وزيد بن ثابت ، وأبو سعيد الخدري : هو مسجد النبي بالمدينة . وروى أبو سعيد الخدري : ' أن رجلين تماريا في المسجد الذي أسس على التقوى ، فسألا رسول الله فقال - عليه السلام - : هو مسجدي هذا ' . وأورده أبو عيسى الترمذي في ' جامعه ' .
____________________


( ^ التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين ( 108 ) أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس ) * * * *
والقول الثاني : أنه مسجد قباء . هذا قول سعيد بن جبير ، وقتادة ، وجماعة من التابعين .
والقول الثالث : أنه جميع مساجد المدينة والأولى هو القول الأول .
وقوله : ( ^ أسس على التقوى ) أي : ليتقى فيه من الشرك . وقوله : ( ^ من أول يوم ) معناه : من ابتداء أيام الإسلام ( ^ أحق أن تقوم فيه ) أي : أولى أن تقوم فيه ، أي : تصلي فيه ، قوله تعالى : ( ^ فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين ) معناه معلوم .
وقد روي أن النبي قال لأهل قباء : ' إن الله تعالى قد أحسن الثناء عليكم ، فماذا تعملون ؟ فقالوا : نتوضأ من الحدث ونغتسل من الجنابة . فقال - عليه السلام - : فهل شيء غير هذا ؟ فقالوا : إن أحدنا إذا استنجى أحب أن يتبع أثر الاستنجاء بالماء ، فقال عليه السلام : هو ذاك ، فعليكم به ' . < < التوبة : ( 109 ) أفمن أسس بنيانه . . . . . > >
ثم قال : ( ^ أفمن أسس ) وقرىء : ' أفمن أسس ' ( ^ بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير ) أي : على طلب التقوى وطلب الرضا من الله خير ( ^ أم من أسس بنيانه على
____________________


( ^ بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين ( 109 ) لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم ) * * * * شفا جرف ) الشفا : هو الحرف والحد ، والجرف : هو ما تجرف من السيل ، أي : تقطع من السيل ، فصار لرخاوته لا يثبت عليه بناء . قوله : ( ^ هار ) معناه : هائر ، والهائر : الساقط ( ^ فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين ) معناه معلوم .
واعلم أن المراد من الآية : هو التمثيل والتشبيه في قلة الثبات والقرار وسوء العاقبة . واختلفوا في الذي كانت عاقبة مسجد الضرار ؛ فالأكثرون على أن النبي دعا مالك بن الدخشم ، وعاصم بن عدي ، وأمرهما أن يهدما ذلك المسجد ويحرقاه ففعلا ذلك .
والقول الآخر : أن ذلك المسجد انهار بنفسه من غير أن يمسه أحد . وفي بعض التفاسير أنه خسف به . وروي أنه لما خسف به سطع منه دخان في السماء ، والله أعلم . < < التوبة : ( 110 ) لا يزال بنيانهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم ) يعني : شكا واضطرابا في قلوبهم . وقال السدى : حرازة في قلوبهم . وقوله : ( ^ إلا أن تقطع قلوبهم ) فيه قولان :
أحدهما : حتى يموتوا . وقرىء في الشاذ : ' إلى أن تقطع قلوبهم ' .
والقول الثاني : حتى يتوبوا ، فجعل الندامة في القلب بمنزلة تقطع في القلب .
( ^ والله عليم حكيم ) عليم بخلقه ، حكيم في تدبيره . < < التوبة : ( 111 ) إن الله اشترى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ) معنى الآية : أن الله تعالى أمر ( المسلمين ) بأن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ، وجعل لهم الجنة ثوابا عليه ، فجعل هذا بمنزلة الشراء والبيع .
قوله : ( ^ يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا ) معناه : أن ثواب الجنة وعد حق . ثم قال : ( ^ في التوراة والإنجيل والقرآن ) وهذا دليل على أن أهل
____________________


( ^ حكيم ( 110 ) إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم ) * * * * الملل كلهم أمروا بالجهاد وجعل ثوابهم الجنة ، وقد بينا معنى التوراة والإنجيل والقرآن .
وقوله : ( ^ ومن أوفى بعهده من الله ) معناه معلوم ( ^ فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به ) معناه : فافرحوا ببيعكم الذي بايعتم به ( ^ وذلك هو الفوز العظيم ) .
روي في الأخبار أن هذه الآية : لما نزلت قال أصحاب رسول الله : ربح البيع ، لا نقيل ولا نستقيل . وعن عمر - رضي الله عنه - قال : إن الله بايعك وجعل الصفقتين لك . وعن بعض التابعين أنه قال : ثامن فأغلى في الثمن ، وبايع فأغلى في العوض . وعن الحسن البصري أنه قال : إن الله تعالى أعطاك الدنيا فاشتر الجنة ببعضها من الله . < < التوبة : ( 112 ) التائبون العابدون الحامدون . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ التائبون العابدون ) الآية التائبون : هم الذين تابوا من الشرك . وقيل : هم الذين تابوا من جميع المعاصي . والعابدون : هم الذين عبدوا الله بالتوحيد ، وقيل : بسائر الطاعات . و ( ^ الحامدون ) فيه قولان :
أحدهما : أنهم [ هم ] الذين يحمدون الله على كل حال في السراء والضراء .
والقول الثاني : أنهم الذين يحمدون الله على الإسلام .
وقوله : ( ^ السائحون ) فيه أقوال :
( أحدهما ) : أنهم الصائمون . هكذا روي عن ابن مسعود ، وابن عباس . وفي بعض الأخبار أن النبي قال : ' سياحة أمتي : الصيام ' . ( وقال ) سفيان بن عيينة : سمى الصائم سائحا ؛ لأنه ترك المطعم والمشرب والمنكح .
والقول الثاني : أن السائحين : هم المجاهدون في سبيل الله . وفي بعض الأخبار أن
____________________


( ( 111 ) التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين ( 112 ) ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانون أولي قربى من بعد ما ) * * * * النبي قال : ' سياحة أمتي : الجهاد ' .
والقول الثالث : أن السائحين : هم طلبة العلم ، روي عن بعض التابعين .
وقوله ( ^ الراكعون الساجدون ) يعني : المصلين . وقوله : ( ^ الآمرون بالمعروف ) أي : الآمرون بالإيمان ( ^ والناهون عن المنكر ) يعني : عن الشرك . وقوله : ( ^ والحافظون لحدود الله ) معناه : القائمون بأوامر الله ( ^ وبشر المؤمنين ) معناه معلوم . < < التوبة : ( 113 ) ما كان للنبي . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ) اختلفوا في سبب نزول هذه الآية على ثلاثة أقوال :
الأول : ما رواه سعيد بن المسيب ، عن أبيه : ' أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية ، فقال له النبي : أي عم ! قل : لا إله إلا الله ، كلمة أحاج لك بها عند الله . فقال له أبو جهل وعبد الله بن [ أبي ] أمية : أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ ! فما زالا يكلمانه حتى كان آخر كلمة قالها : على ملة عبد المطلب ، فقال النبي : لأستغفرن لك ما لم أنه عنه ؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية : ( ^ ما كان للنبي . . . . ) إلى آخر الآية ' .
والثاني : روى مسروق ، عن عبد الله بن مسعود : ' أن النبي خرج إلى المقابر فاتبعناه ، فأتى قبرا وقعد عنده ، وناجاه طويلا ، ثم بكى وبكينا لبكائه ، فقلنا له : يا رسول الله من صاحب هذا القبر ؟ فقال : هذه أمي آمنة بنت وهب ، استأذنت ربي
____________________


( ^ تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ( 113 ) وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه ) * * * * في زيارتها فأذن لي ، ثم استأذنته في أن أستغفر لها فلم يأذن لي ، قال : فأخذني عليها الشفقة ما يأخذ الولد للوالدة فبكيت ، وأنزل الله تعالى هذه الآية : ( ^ ما كان للنبي . . . ) إلى آخر الآية ' .
والقول الثالث : روي عن علي - رضي الله عنه - : ' أنه سمع رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان ، فقال له علي : أتستغفر للمشركين ؟ فقال ذلك الرجل : قد استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك ، فأتى النبي وأخبره بذلك ، فأنزل الله تعالى هذه الآية إلى آخرها ' . < < التوبة : ( 114 ) وما كان استغفار . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه ) وفي هذه الآية قولان :
أحدهما : أن إبراهيم - عليه السلام - قال لأبيه : لأستغفرن لك ، قال هذا رجاء أن ينقله الله تعالى من الكفر إلى الإسلام ببركة دعائه واستغفاره .
والقول الثاني : أن أبا إبراهيم وعد إبراهيم وقال : لأسلمن ، فاستغفر لي ، فاستغفر له إبراهيم لهذا المعنى .
( ^ فلما تبين له أنه عدو لله ) بموته على الكفر ( ^ تبرأ منه ) فإن قال قائل : كيف يجوز أن يستغفر إبراهيم للمشرك ؟
____________________


( ^ فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم ( 114 ) ) * * * *
الجواب عنه : قال بعض أهل المعاني : يحتمل أن أبا إبراهيم كان أظهر الإسلام وهو يبطن الكفر ، فاستغفر له إبراهيم لإظهاره الإسلام ( ^ فلما تبين له أنه عدو لله ) مصر على الكفر في الباطن ( ^ تبرأ منه ) هكذا قاله بعض أهل المعاني .
والذي عليه عامة المفسرين ما بينا من قبل .
وقد قرأ الحسن البصري : ' إلا عن موعدة وعدها إياه ' وهذا صريح في أن الوعد كان من إبراهيم ، والدليل على أن إبراهيم استغفر له وهو مشرك : أن الله تعالى قال في سورة الممتحنة : ( ^ قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه . . ) إلى أن قال : ( ^ إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك ) فقد صرح أن إبراهيم ليس بقدوة في هذا الاستغفار ؛ وإنما استغفر له وهو مشرك لمكان الوعد ؛ رجاء أن يسلم .
وقوله : ( ^ إن إبراهيم لأواه حليم ) اختلفوا في ' الأواه ' على أقاويل .
روي عن عبد الله بن مسعود . وعبد الله بن عباس : أن الأواه : هو الدعاء . وعن ابن مسعود في رواية أخرى : أنه الرحيم ، وعن ابن عباس في رواية أخرى : أنه المؤمن التواب ، وعن مجاهد أنه الفقيه ، وعن كعب الأحبار : أنه الذي يتأوه من الذنوب ، فيقول : أوه أوه . وروى أبو ذر ' أن رجلا كان يطوف ويقول : أوه أوه ، فقلت للنبي : إن هذا الرجل ليؤذينا ، فقال : لا تقل هذا ؛ فإنه أواه ' . قال الشاعر :
( إذا ما قمت أرحلها بليل ** تأوه آهة الرجل الحزين )
وعن سعيد بن جبير قال الأواه : المسبح . وقيل : إنه الموقف . وقيل : إنه الموقن .
وأما الحليم : فهو : الصفوح عن الذنوب . < < التوبة : ( 115 ) وما كان الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم ) معناه : ما كان الله ليحكم بالضلالة بترك الأوامر ( ^ حتى يبين لهم ما يتقون ) فيتركوا .
____________________


( ^ وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم ( 115 ) إن الله له ملك السموات والأرض يحيي ويميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ( 116 ) لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين ) * * * *
وعن أبي عمرو بن العلاء قال : معناه : حتى يحتج عليهم بالأمر .
سبب نزول الآية : أن قوما كانوا أتوا النبي فأسلموا ، ولم تكن الخمر حرمت ولا القبلة صرفت ، فرجعوا إلى قومهم وهم على ذلك ، ثم حرمت الخمر ( و ) صرفت القبلة ولم يكن لهم علم بذلك ، فلما قدموا بعد ذلك للمدينة وجدوا الخمر قد حرمت والقبلة قد صرفت ، فقالوا للنبي : قد كنت على دين ونحن على ( غيره ) فنحن ضلال ؟ فأنزل الله ( ^ وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون ) .
وفي الآية قول آخر ؛ وهو : أن الآية في الاستغفار للمشركين ؛ فإن جماعة من الصحابة كانوا استغفروا لآبائهم ولم يعلموا أن ذلك لا يجوز ، فلما أنزل النهي عنه خافوا على أنفسهم خوفا شديدا ؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية .
قوله تعالى : ( ^ إن الله بكل شيء عليم ) ، وكذا الآية التي تليها معلوم المعنى إلى آخرها . < < التوبة : ( 117 ) لقد تاب الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار ) معنى قوله : ( ^ لقد تاب الله ) لقد تجاوز الله . وقيل : لقد صفح الله . وقوله ( ^ الذين اتبعوه في ساعة العسرة ) معناه : في وقت العسرة ، وكانت غزوة تبوك تسمى غزوة العسرة ، وكذلك ذلك الجيش يسمى جيش العسرة ؛ والعسرة : الشدة ، وكانت عليهم عسرة في الظهر والزاد والماء ، فروي أن الاثنين والثلاثة فما زاد كانوا يعتقبون البعير الواحد . وروي أنهم كانوا فني زادهم حتى كان الرجلان يقتسمان التمرة بينهما . هكذا حكي عن
____________________


( ^ اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم ( 117 ) وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض ) * * * * ابن عباس . وروي : ' أنهم عطشوا عطشا شديدا حتى نحروا الإبل وعصروا كرشها وشربوا ما فيها ، ثم إن النبي استسقى الله تعالى فسقوا . هكذا رواه عمر - رضي الله عنه - فهذا هو معنى العسرة .
وقوله : ( ^ من بعد ما كاد يزيغ ) قرئ : ' تزيغ ويزيغ ' فقوله : ' تزيغ ' منصرف إلى القلوب ، وقوله : يزيغ منصرف إلى الفعل ؛ كأنه قال : يزيغ الفعل ( ^ قلوب فريق منهم ) .
وأما الزيغ في اللغة : هو الميل ، وليس المراد من الميل هنا هو الميل عن الدين ، إنما المراد من الميل هو الميل عن متابعة رسول الله ونصرته في الغزو ، واختيار التخلف من شدة العسرة .
( ^ ثم تاب عليهم ) فإن قال قائل : ما هذا التكرار ، فقد قال في أول الآية : ( ^ لقد تاب الله على النبي ) ؟ .
الجواب عنه : أنه ذكر التوبة في أول الآية قبل ذكر الذنب - وهو محض [ تفضل ] من الله ، فلما ذكر الذنب أعاد ذكر التوبة ، والمراد منه : القبول .
( ^ إنه بهم رءوف رحيم ) معلوم المعنى . < < التوبة : ( 118 ) وعلى الثلاثة الذين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وعلى الثلاثة الذين خلفوا ) قرأ عكرمة بن عمار : ' وعلى الثلاثة الذين خلفوا ' مخفف ، وفي بعض القراءات : ' وعلى الثلاثة الذين خالفوا ' .
واعلم أن هؤلاء الثلاثة هم الذين أنزل الله في شأنهم قوله تعالى : ( ^ وآخرون مرجون لأمر الله ) وأما أسماؤهم : كعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، ومرارة بن
____________________


( ^ بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم ) * * * * الربيع ، وكانوا مؤمنين مخلصين تخلفوا بغير عذر ، فلما قدم النبي المدينة قافلا من غزوة تبوك ، حضروا وأقروا عنده بالذنب ، وأنه لم يكن لهم عذر ، فأخر أمرهم ولم يستغفر لهم ، ونهى المسلمين عن مخالطتهم ومكالمتهم .
وفي الآية قصة طويلة مذكورة في ' الصحيحين ' ؛ فروي أنهم مكثوا على ذلك أربعين ليلة ، ثم إن رسول الله أمرهم أن يعتزلوا نساءهم إلى تتمة خمسين ليلة ، وكانوا يسلمون على أصحاب رسول الله فلا يردون عليهم السلام . قال كعب بن مالك : فكنت أدخل المسجد وأصلي وأنظر هل ينظر إلي رسول الله فكنت إذا نظرت إليه صرف عني بصره ، قال : فاقتحمت يوما على أبي قتادة حائطه - وكان ابن عمي - فسلمت عليه فلم يرد علي الجواب ، فقلت له : يا ابن عمي ، أتعلم أني أحب الله ورسوله ؟ فسكت عني ، فرددت الكلام ثلاثا ، فقال في الثالثة : الله ورسوله أعلم ، قال : فبكيت بكاء شديدا وخرجت ، قال : فلما كان تتمة خمسين ليلة من يوم نهى رسول الله عن كلامنا ، كنت على ظهر بيتي وقد صليت الصبح ، وأنا كما ذكر الله تعالى : ( ^ حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ) أي : برحبها وسعتها ( ^ وضاقت عليهم أنفسهم ) أي : من جفوة القوم وغلظة رسول الله عليهم ، إذ سمعت مناديا ينادي على ذروة سلع - والسلع : الجبل - : أبشر يا كعب بن مالك ، قال : فخررت لله ساجدا ، وجاء البشير فأعطيته ثوبي ولبست ثوبين غيرهما ، وأتيت رسول الله وجلست بين يديه ووجهه يستنير كاستنارة القمر ، فقال : أبشر يا كعب بن مالك بخير يوم مر عليك منذ أسلمت فقلت : يا رسول الله ، أمن عندك أم من عند الله ؟ فقال : لا ، بل من عند الله وقرأ على الآية ، فقلت : يا رسول الله ، إن من توبتي أن أخلع من ( جميع ) مالي صدقة لله ولرسوله ، فقال : أمسك عليك بعض مالك ؛ فهو خير لك ' القصة إلى آخرها .
____________________


( ^ وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم ( 118 ) يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ( 119 ) ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم ) * * * *
وقوله تعالى : ( ^ وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ) معناه : وظنوا : تيقنوا أن لا مفزع ولا منجا من الله إلا إليه . وقوله تعالى : ( ^ ثم تاب عليهم ليتوبوا ) يعني : ليستقيموا على التوبة ويثبتوا عليها ، فإن توبتهم قد سبقت ( ^ إن الله هو التواب الرحيم ) معلوم المعنى . < < التوبة : ( 119 ) يا أيها الذين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ) قال الضحاك : مع محمد وأصحابه .
وروي عن بعضهم أنه قال : مع الصادقين أي : مع أبي بكر وعمر . وعن بعضهم : مع الخلفاء الأربعة . وقال بعضهم : إن الصادقين هاهنا الثلاثة الذين سبق ذكرهم ؛ فإنهم صدقوا النبي بالاعتراف بالذنب ، ولم يعتذروا بالأعذار الكاذبة مثل المنافقين . فروي عن كعب بن مالك قال : ما أبلاني الله ببلاء أعظم عندي من صدقي رسول الله فإنه من شكري عليها أن لا أكذب أبدا . وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : لا يصلح الكذب في جد ولا هزل ، وقرأ هذه الآية . ويقال : إن في قراءته : ' وكونوا من الصادقين ' . < < التوبة : ( 120 ) ما كان لأهل . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ) الآية ، معناها : هو النهي عن التخلف . وقوله : ( ^ ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ) معناه : ما كان لهم أن يختاروا الخفض والدعة ، ويتركوا رسول الله في شدة السفر ومقساة التعب . ثم قال : ( ^ ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ) الظمأ : العطش ( ^ ولا نصب ) النصب : التعب ( ^ ولا مخمصة ) وهي المجاعة ( ^ في سبيل الله ) في الجهاد . وقوله : ( ^ ولا يطئون موطئا ) يعني : لا يضعن قدما ( ^ يغيظ الكفار ) أي : يغضبهم ( ^ ولا ينالون من عدو نيلا ) يعني : لا يصيبون منهم شيئا في نفس أو مال ( ^ إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين ) معلوم المعنى .
____________________


( ^ عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين ( 120 ) ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون ( 121 ) وما كان المؤمنون ) * * * * < < التوبة : ( 121 ) ولا ينفقون نفقة . . . . . > >
ثم قال : ( ^ ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ) يعني : قليلا ولا كثيرا ، قيل في التفسير : حتى التمرة ( ^ ولا يقطعون واديا ) أي : لا يعبرون واديا مقبلين ومدبرين ( ^ إلا كتب لهم ) أي : أثيبوا على ذلك ( ^ ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون ) معناه معلوم . < < التوبة : ( 122 ) وما كان المؤمنون . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وما كان المؤمنون لينفروا كافة ) الآية ، وفيها قولان :
أحدهما : ' أن النبي كان يبعث بالسرايا بعد غزوة تبوك ، فكان الناس يخرجون جميعهم لعظم ما أصابهم من التعيير والملامة في التخلف ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ' . قال قتادة : هذا في السرايا ، فأما إذا خرج الرسول بنفسه فعليهم أن يخرجوا جميعا معه .
و القول الثاني : أن النبي كما دعا على مضر ، وقال : ' اللهم اجعل سنيهم كسني يوسف ، قال : فأصابهم قحط شديد وجدب ، فجعلت القبيلة تقبل إلى المدينة بأجمعهم ويقولون : أسلمنا ، فكانوا يضيقون على أهل المدينة منازلهم ويلوثون الطرقات ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فردهم رسول الله إلى قبائلهم ' . وقوله : ( ^ فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ) معناه : هلا نفر من كل فرقة منهم طائفة ، فعلى الأول معنى الآية : هو النهي عن ترك رسول الله وحده . وقوله : ( ^ ليتفقهوا في الدين ) يعني : ليحضروا نزول القرآن وبيان السنن ( ^ ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم ) معناه : ليعلموا السرية إذا رجعوا إليهم ما نزل من القرآن والسنن .
وعلى القول الثاني معنى الآية : ما كان لأهل القبائل أن ينفروا جميعا إلى المدينة
____________________


( ^ لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ( 122 ) ) * * * * ويتركوا مواضعهم ؛ ولكن لينفر من كل فرقة طائفة أي : من كل قبيلة طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم وليعلموا قومهم إذا رجعوا إليهم ( ^ لعلهم يحذرون ) .
وأما الطائفة : فهو اسم لثلاثة فما زاد ، وقد ورد في القرآن ذكر الطائفة ، والمراد منه : الواحد ، وقد ذكرناه في قوله تعالى : ( ^ إن نعف عن طائفة منهم ) من قبل .
واستدل أهل الأصول بهذه على وجوب قبول خبر الواحد ، والمسألة في الأصول ( كبيرة ) .
وأما الفقه فهو في اللغة : عبارة عن الفهم ، وفي الشرع : عبارة عن علم مخصوص وهو علم الأحكام .
وقد ثبت عن النبي أنه قال : ' من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ' .
وروي عن النبي أنه قال : ' الناس معادن ، فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا ' . وفي بعض الأخبار : ' أفضل العبادة : الفقه ، ولفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد ' . وعن الشافعي - رضي الله عنه - أنه قال : طلب
____________________


( ^ يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين ( 123 ) وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون ( 124 ) وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون ( 125 ) أولا يرون أنهم يفتنون في ) * * * * العلم أفضل من صلاة النافلة . < < التوبة : ( 123 ) يا أيها الذين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ) يعني : يقربون منكم . وعن عمر : هم الديلم ، وعن غيره : هم الروم ( ^ وليجدوا فيكم غلظة ) قال ابن عباس : شجاعة . وقال الحسن : صبرا على الحرب ( ^ واعلموا أن الله مع المتقين ) ظاهر . < < التوبة : ( 124 ) وإذا ما أنزلت . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا ) هذا في المنافقين الذين كانوا يقولون هذا القول استهزاء ، فقال الله تعالى : ( ^ فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون ) وهم يفرحون . < < التوبة : ( 125 ) وأما الذين في . . . . . > >
ثم قال : ( ^ وأما الذين في قلوبهم مرض ) أي : شك ونفاق ( ^ فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون ) أي : كفر إلى كفرهم . فإن قال قائل : كيف يزيد إنزال السورة لهم كفرا ؟
الجواب : أنهم كانوا يكفرون بكل سورة أنزلها الله تعالى ، فلما كفروا عند إنزال السورة نسب كفرهم إليها ، وهذا كما تقول العرب : كفى بالسلامة داء ؛ لأن الداء يكون عند طول السلامة ، قال الشاعر :
( أرى بصري قد رابني بعد صحة ** وحسبك داء أن تصح وتسلما ) < < التوبة : ( 126 ) أو لا يرون . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ) معناه : يبتلون في كل عام بالأمراض والشدائد ، وقيل : بالجهاد مع الأعداء ( ^ ثم لا يتوبون ) لا يرجعون إلى الله ( ^ ولا هم يذكرون ) ولا هم يتعظون . < < التوبة : ( 127 ) وإذا ما أنزلت . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض ) الآية ، كان المنافقون إذا نزلت السورة أو شيء من القرآن يومئ بعضهم إلى بعض ، ويخافون مع ذلك أن
____________________

( ^ كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون ( 126 ) وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون ( 127 ) لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص ) * * * * يراهم المؤمنون ، فهذا معنى قوله : ( ^ هل يراكم من أحد ) ثم قال : ( ^ ثم انصرفوا ) فيه معنيان : أحدهما : انصرفوا عن مواضعهم ، والآخر : انصرفوا عن الإيمان ، أي : لم يؤمنوا ولم يقبلوا .
وقوله : ( ^ صرف الله قلوبهم ) قال أبو إسحاق الزجاج : أضلهم الله مجازاة على كفرهم ( ^ بأنهم قوم يفقهون ) معلوم المعنى . < < التوبة : ( 128 ) لقد جاءكم رسول . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ لقد جاءكم رسول من أنفسكم ) قرىء في الشاذ : من أنفسكم ، ويقال : إن هذه القراءة قراءة فاطمه - رضي الله عنها - قال يعقوب الحضرمي : طلبت هذا الحرف خمسين سنة فلم أجد له راويا . ومعنى هذا : أشرفكم وأفضلكم .
والقراءة المعروفة : ( ^ من أنفسكم ) قال قتاده : ومعناه : إن نسبه معروف بينكم
والقول الثاني : حكى عن جعفر بن محمد - رضي الله عنه - أنه قال : ( ^ من أنفسكم ) معناه : أنه لم يولد إلا من نكاح صحيح إلى زمان آدم .
والقول الثالث : حكى عن ابن عباس أنه قال : معناه : أنه ليس بطن من بطون العرب إلا وقد ولدت النبي .
والقول الرابع : أن معنى هذا هو معنى قوله تعالى : ( ^ قل إنما أنا بشر مثلكم ) وإذا كان الرسول بشرا مثل القوم ؛ فيكون أقرب للألفة وأدنى لفهم الحجه .
وقوله : ( ^ عزيز عليه ما عنتم ) أي : شديد عليه عنتكم ، والعنت : هو المكروه ولقاء الشده ، كانه قال : شديد عليه ما يضركم ويهلككم ، وهو الكفر الذي أنتم عليه .
وقوله تعالى : ( ^ حريص عليكم ) الحرص : شدة طلب الشىء ، ومعناه : حريص
____________________

( ^ عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم ( 128 ) فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم ( 129 ) ) * * * * على إيمانكم ( ^ بالمؤمنين رءوف رحيم ) عطوف رفيق .
وقد أعطاه الله تعالى في هذه الآيه اسمين من أسمائه ، وهو في نهاية الكرامه . < < التوبة : ( 129 ) فإن تولوا فقل . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فإن تولوا ) معناه : فإن أعرضوا عن الإيمان أو عنك ( ^ فقل حسبي الله ) كافي الله أي : يكفيني الله ( ^ لا إله إلا هو عليه توكلت ) عليه اعتمدت وبه وثقت ( ^ وهو رب العرش العظيم ) قرأ ابن محيصن : ' رب العرش العظيم ' بالرفع ، فرجع إلى الله تعالى ، والقراءة المعروفة بالكسر ، وهو يرجع إلى العرش . وعن بعض التابعين : لا يعرف أحد قدر العرش سوى الله تعالى . وفى بعض الأخبار عن النبي أنه قال : ' العرش من ياقوتة حمراء ' . وعن وهب بن منبه : أن الله تعالى خلق العرش من نوره . وعن كعب الأخبار : أن السموات في العرش كقنديل معلق من السماء . وعن مجاهد : أن السموات في العرش كحلقة . وحكى عن أبي بن كعب أنه قال في هاتين الآيتين : هما أحدث الآيات بالله عهدا . فعلى قوله : هاتان الآيتان آخر ما أنزل من القرآن . وهو رواية أيضا عن ابن عباس وقد ذكرنا غير هذا برواية البراء بن عازب ، والله أعلم بالصواب .
____________________

<
> بسم الله الرحمن الرحيم <
> ( ^ آلر تلك آيات الكتاب الحكيم ( 1 ) أكان للناس عجبا ) * * * * <
> تفسير سورة يونس <
>
وهي مكية إلا ثلاث آيات ، وهو قوله تعالى ( ^ فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك ) إلى آخر الآيات الثلاث .
وحكى عن محمد بن سيرين أنه قال : هذه السورة كانت بعد السورة السابقة . < < يونس : ( 1 ) الر تلك آيات . . . . . > >
قوله تعالى ( ^ آلر ) روى أبو الضحى عن ابن عباس قال : ( ^ آلر ) أنا الله أرى . وروى عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : الر ، وحم ، ونون هو تمام اسم الرحمن .
وفي الحروف المهجيات أقوال ذكرناها في أول سورة البقرة .
وقوله : ( ^ تلك آيات الكتاب ) قال أبو عبيدة : معناه : هذه آيات الكتاب . قال الشاعر :
( تلك خيلي منه وتلك ركابي ** هن صفر أولادها كالزبيب )
وقال الزجاج : معنى الآية : وهو أن الآيات التي أنزلتها عليك من قبل ( ^ تلك آيات الكتاب الحكيم ) والكتاب : هو القرآن ، والحكيم : هو المحكم ، على قول أكثر المفسرين ، فعيل بمعنى مفعل ، مثل قوله : ( ^ هذا ما لدى عتيد ) أي : معتد . وقال بعضهم : الحكيم على وضعه ، وسمى القرآن حكيما ؛ لأنه كالناطق بالحكمة . < < يونس : ( 2 ) أكان للناس عجبا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ أكان للناس عجبا ) العجب : حالة تعتري الإنسان من رؤية شيء على خلاف العادة .
وسبب نزول هذه الآية : أن الله تعالى لما بعث محمدا قال المشركون : أما وجد
____________________


( ^ أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين ( 2 ) ) * * * * الله نبيا سوى يتيم أبى طالب ، فأنزل الله تعالى هذه الآية وهى قوله : ( ^ أكان للناس عجبا ) ومعناه : أعجب الناس ، يعنى : المشركين ( ^ أن أوحينا إلى رجل منهم ) والرجل ها هنا : النبي ، وقوله : ( ^ منهم ) قالوا : معناه : إنه رجل يعرفونه باسمه ونسبه ، لا يكتب ، ولا يشعر ، ولا يتكهن ، ولايكذب .
وقوله : ( ^ أن أنذر الناس ) الإنذار : هو الإعلام مع التخويف . وقوله : ( ^ وبشر الذين آمنوا ) قد بينا معنى البشارة . وقوله : ( ^ أن لهم قدم صدق عند ربهم ) فيه أربعة أقوال :
القول الأول - وهذا قول الأكثرين - أن القدم الصدق : هو الأعمال الصالحة ، يقال : لفلان قدم في الشجاعة ، وقدم فى العلم ، ويقال : فلان وضع قدمه فى كذا ، إذا شرع فيه بعمله .
والقول الثاني : أن القدم الصدق : هو الثواب .
والقول الثالث : حكى عن ابن عباس أنه قال : القدم الصدق : هو السعادة في الذكر الأول .
والقول الرابع : أن المراد منه : هو الرسول ، وقدم صدق : شفيع صدق ، قاله مقاتل بن حيان .
قوله تعالى : ( ^ قال الكافرون إن هذا لساحر مبين ) وقرىء بقراءتين : ' لساحر مبين ' ، و ' إن هذا لسحر مبين ' ؛ فالساحر ينصرف إلى الرسول ، والسحر ينصرف إلى القرآن .
____________________


( ^ إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون ( 3 ) إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا ) * * * * < < يونس : ( 3 ) إن ربكم الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن ربكم الله الذى خلق السموات والأرض في ستة أيام ) في الأيام قولان :
أحدهما : أنها كأيام الآخرة ، كل يوم ألف سنة . والآخر أنها كأيام الدنيا .
قوله ( ^ ثم استوى على العرش ) قد بيينا مذهب أهل السنة في الاستواء ؛ وهو أنه نؤمن به ونكل علمه إلى الله تعالى من غير تأويل ولا تفسير .
وأما المعتزلة : فإنهم أولوا الاستواء بالاستيلاء ، وهو باطل عند أهل العربية .
حكى عن أحمد بن أبي داود - وكان من رؤساء المعتزلة - أنه قال لابن الأعرابي : أتعرف العرب الاستواء ؟ بمعنى الإستيلاء فقال . لا . ويحكى أن هذه المسألة جرت في مجلس المأمون ، فقال بشر المريسي : الاستواء بمعنى الاستيلاء ، فقال له أبو السمراء - وهو رجل من أهل اللغة - اخطأت يا شيخ ؛ فإن العرب لا تعرف الاستيلاء إلا بعد عجز سابق .
قوله تعالى ( ^ يدبر الأمر ) قال مجاهد : يقضي الأمر ( ^ ما من شفيع إلا من بعد إذنه ) معناه : أن الشفعاء لا يشفعون إلا بإذنه ، وهذا رد على النضر بن الحارث ، فإنه كان يقول : إذا كان يوم القيامة يشفعني اللات والعزى . قوله تعالى ( ^ ذلكم الله ربكم ) يعنى : ذلك الذي فعله هذا ربكم ( ^ فاعبدوه أفلا تذكرون ) أفلا تتعظون . < < يونس : ( 4 ) إليه مرجعكم جميعا . . . . . > >
قوله تعالى ( ^ إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا ) نصب وعد الله حقا يعنى : وعد الله وعداً حقا ( ^ إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ) معناه معلوم ( ^ ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط ) قال ابن عباس : بالعدل ( ^ والذين كفروا لهم شراب من حميم ) الحميم هو الماء الذي انتهى حره . وفي القصص : أن النار أوقدت عليه منذ يوم خلقها إلى أن يدخل الكفار [ في ] ( 1 ) النار . قوله : ( ^ وعذاب أليم بما كانوا
____________________

( ^ الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون ( 4 ) هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون ( 5 ) إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السموات والأرض لآيات لقوم يتقون ( 6 ) إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن أياتنا غافلون ) * * * * أي : عذاب موجع بكفرهم . < < يونس : ( 5 ) هو الذي جعل . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا ) الآية ، الشمس والقمر جسمان نيران ، أحدهما أضوأ من الآخر ، وقوله : ( ^ جعل الشمس ضياء ) أي : ذات ضياء ( ^ والقمر نورا ) أي : ذا نور . وقوله : ( ^ وقدره منازل ) منهم من قال : هذا ينصرف إلى القمر خاصة ، ومنهم من قال : ينصرف إليهما ، إلا أنه اكتفى بذكر أحدهما عن الآخر .
ومنازل القمر ثمانية وعشرون منزلا ، أساميها معلومة عند العرب ، تكون أربعة عشر منها ظاهرة أبدا ، وأربعة عشر منها غائبة أبدا ، وكلما طلع واحد غاب واحد ، والقمر ينزل كل ليلة منزلا منها .
وقوله تعالى : ( ^ لتعلموا عدد السنين والحساب ) يعني : قدره منازل لتعلموا عدد السنين وحساب الشهور والأيام . وقوله : ( ^ ما خلق الله ذلك إلا بالحق ) أي : للحق .
قوله : ( ^ يفصل الآيات لقوم يعلمون ) معلوم المعنى . < < يونس : ( 6 ) إن في اختلاف . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن في اختلاف الليل والنهار ) معناه معلوم إلى آخر الآية ، وقد ذكرنا من قبل . < < يونس : ( 7 ) إن الذين لا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن الذين لا يرجون لقاءنا ) قوله : ' لا يرجون ' فيه قولان :
أحدهما : لا يخافون ، والآخر : لا يطمعون .
وقوله : ( ^ لقاءنا ) قد بينا من قبل . وقوله تعالى : ( ^ ورضوا بالحياة الدنيا ) قال قتادة : لها يطلبون وبها يفرحون . وقوله تعالى : ( ^ واطمأنوا بها ) سكنوا إليها . قوله تعالى : ( ^ والذين هم عن آياتنا غافلون ) الغفلة سهو يعتري القلب يصرفه عن وجد
____________________

( ( 7 ) أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون ( 8 ) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم ( 9 ) دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ( 10 ) * * * * العلم . < < يونس : ( 8 ) أولئك مأواهم النار . . . . . > >
ثم قال : ( ^ أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون ) معناه معلوم . < < يونس : ( 9 ) إن الذين آمنوا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم ) قال مجاهد : هذا هو معنى قوله تعالى : ( ^ نورا يمشي به ) . وقال غيره : يهديهم ربهم : يرشدهم ربهم بإيمانهم إلى الجنة ( ^ تجري من تحتهم الأنهار ) أي : من تحت الأشجار . قوله : ( ^ في جنات النعيم ) . < < يونس : ( 10 ) دعواهم فيها سبحانك . . . . . > >
ثم قال : ( ^ دعواهم فيها ) معناه : دعاؤهم فيها ( ^ سبحانك اللهم ) هذا كلمة تنزيه وتبرئة الرب عن السوء . وفي الأخبار : ' أن قوله : ( ^ سبحانك اللهم ) علامة بين أهل الجنة والخدم ، وإذا أرادوا الطعام قالوا : سبحانك اللهم ، فيدخل الخدم بالموائد ، كل مائدة ميل في ميل ، قوائمها من اللؤلؤ ، على كل مائدة سبعون ألف صحفة ، في كل صحفة لون من الطعام لا يشبه بعضه بعضا ، ثم تجىء الطير كأمثال البخت ، قوائمها لون ، وأجنحتها لون ، وبطونها وظهورها لون ، فيقع بين أيدى أهل الجنة فيأكلون منها ما يشاءون ، ثم تطير كما كانت ' .
وقوله تعالى : ( ^ وتحيتهم فيها سلام ) يعنى : تحية بعضهم بعضا يكون بالسلام ، ويقال معناه : إن تحية الملائكة لهم بالسلام ، ويقال : إن تحية الله لهم بالسلام .
قوله تعالى : ( ^ وآخر دعواهم ) معناه : وآخر قولهم : ( ^ أن الحمد لله رب العالمين ) فيكون ابتداء أمرهم بالتسبيح ، وانتهاء أمرهم بالحمد والشكر .
____________________


( ^ يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون ( 11 ) وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو ) * * * * < < يونس : ( 11 ) ولو يعجل الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير ) قال ابن عباس : هذا في قول الرجل يقول عند الغضب لأهله وولده : لعنكم الله ، لا بارك الله فيكم ، ومعناه : ولو يعجل الله للناس الشر - يعنى : المكروه - استعجالهم بالخير أي : كما يحبون استعجالهم بالخير ( ^ لقضى إليهم أجلهم ) فهلكوا جميعا وماتوا . وقوله : ( ^ فنذر الذين لا يرجون لقاءنا ) أي : لا يخافون لقاءنا ( ^ في طغيانهم ) أي : في ضلالتهم . قوله ( ^ يعمهون ) يترددون ، وقيل : يتمادون ، وقد ثبت الخبر عن النبي أنه قال : ' اللهم إني بشر أغضب كما يغضب البشر ، فأيما [ رجل ] سببته أولعنته فاجعلها له طهرة ورحمة ' . وفي الباب روايات كثيرة كلها صحيحة . < < يونس : ( 12 ) وإذا مس الإنسان . . . . . > >
قوله تعالى ( ^ وإذا مس الإنسان الضر ) أي : المكروه ( ^ دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما ) قال أهل التفسير : هذا يحتمل معنيين :
أحدهما : إذا مس الإنسان الضر لجنبه أو قاعدا أو قائما دعانا .
والآخر : يحتمل إذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما ، يعني : على هذه الأحوال كلها .
قوله تعالى : ( ^ فلما كشفنا عنه ضره مر ) فيه معنيان :
أحدهما : مر طاغيا كما كان من قبل ، والآخر : استمر على ما كان من قبل . قال بعضهم في هذا المعنى :
( كأن الفتى لم يعر يوما إذا اكتسى ** ولم تك صعلوكا إذا ما تمولا )
قوله تعالى : ( ^ كأن لم يدعنا إلى ضر مسه ) معناه : كأن لم يطلب منا كشف ضرمسه . قوله ( ^ كذلك زين للمسرفين ) قال ابن جريج : كذلك زين للمسرفين ( ^ ما
____________________


( ^ قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون ( 12 ) ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين ( 13 ) ثم جعلناكم خلائف في الأرض من ) * * * * كانوا يعملون ) من الدعاء عند البلاء ، وترك الشكر عند الرخاء . وفيه معنى آخر : وهو أنه كما زين لكم أعمالكم ، كذلك زين للمسرفين الذين كانوا من قبلكم أعمالهم . < < يونس : ( 13 ) ولقد أهلكنا القرون . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات ) معناه معلوم . وقوله : ( ^ وما كانوا ليؤمنوا ) قال الزجاج : هذا في قوم علم الله أنهم لا يؤمنون . وقال ابن الأنباري : منعهم الله من الإيمان جزاء على كفرهم . قوله : ( ^ كذلك نجزي القوم المجرمين ) وهذا دليل على أن قول ابن الأنباري أصح . < < يونس : ( 14 ) ثم جعلناكم خلائف . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم ) يعني : خلفاء في الأرض من بعدهم ( ^ لننظر كيف تعملون ) ومعناه : ليختبركم فينظر كيف تعملون .
روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال : يا ابن أم عمر ، لقد استخلفت ، فانظر كيف تعمل .
وروي أنه قال في موعظته : أيها المؤمنون ، إن الله استخلفكم لينظر كيف تعملون ، فأروا الله أعمالكم الحسنة ، وكفوا عن الأعمال القبيحة . < < يونس : ( 15 ) وإذا تتلى عليهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله ) روي في التفاسير أن المشركين قالوا للنبي : يا محمد ، إن كنت تريد أن نؤمن لك فأت بقرآن ليس فيه سب آلهتنا ، وليس فيه ذكر البعث والنشور وإن لم ينزله الله هكذا ، فقله من عند نفسك ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . فإن قال قائل : أيش الفرق بين قوله : ( ^ ائت بقرآن غير هذا ) [ وقوله ] : ( ^ أو بدله ) أليس معناهما واحد ؟
____________________


( ^ بعدهم لننظر كيف تعملون ( 14 ) وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ( 15 ) قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون ( 16 ) فمن أظلم ممن ) * * * *
الجواب : أن معناهما مختلف ، وقوله : ( ^ ائت بقرآن غير هذا ) يجوز أن يأتي بغيره معه ، وقوله : ( ^ أو بدله ) لا يكون إلا أن يترك هذا ويأتي بغيره .
قوله تعالى : ( ^ قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ) معلوم المعنى ، وكأنه قال : لم أقل هذا من تلقاء نفسي حتى أقول غيره من تلقاء نفسي . < < يونس : ( 16 ) قل لو شاء . . . . . > >
ثم قال : ( ^ قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ) يعني : لو شاء الله ما أنزل القرآن علي ، ( ^ ولا أدراكم به ) أي : ولا أعلمكم الله به ( ^ فقد لبثت فيكم عمرا من قبله ) العمر والعمر بمعنى واحد ، قال الشاعر :
( بان الشباب وأخلف العمر ** وتنكر الإخوان والدهر )
وقدر العمر الذي لبث فيهم من قبله : هو أربعون سنة باتفاق أهل العلم ؛ فإن النبي بعث إليهم وهو ابن أربعين سنة ، ولبث بمكة ثلاث عشرة سنة ، وبالمدينة عشرا ، وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة . وفي رواية عن أنس ' أن النبي مكث بمكة عشرا ، وبالمدينة عشرا وتوفاه الله على رأس ستين سنة . والرواية الأولى أظهر وأشهر .
قوله ( ^ أفلا تعقلون ) معناه : أفلا تفقهون . < < يونس : ( 17 ) فمن أظلم ممن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون ) معلوم المعنى . < < يونس : ( 18 ) ويعبدون من دون . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ) فإن قال قائل :
____________________


( ^ افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون ( 17 ) ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون ( 18 ) وما كان الناس ) * * * * كيف قال : ( ^ ولا يضرهم ) ولا شك أنه ضرهم ؟
الجواب عنه معناه : لا يضرهم إن تركوا عبادته ، ولا ينفعهم إن عبدوه . وقوله : ( ^ ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ) فإن قال قائل : كيف قالوا : هؤلاء شفعاؤنا عند الله وهم لا يؤمنون بالبعث ؟ .
الجواب : أنهم كانوا يقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله في مصالح معايشنا في الدنيا .
وقوله تعالى : ( ^ قل أتنبئون الله ) أي : أتخبرون الله ؟ ( ^ بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون ) معلوم المعنى .
وحقيقة الآية : الرد أو الإنكار عليهم . < < يونس : ( 19 ) وما كان الناس . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وما كان الناس إلا أمة واحدة ) فيه قولان :
أحدهما : قول مجاهد وهو : أن الناس كانوا على الإسلام في زمان آدم إلى أن قتل أحد ابنيه الآخر ( ^ فاختلفوا ) .
والقول الثاني : أن العرب كانوا على دين إبراهيم حتى اختلفوا . ومن المعروف أن أول من غير دين إبراهيم من العرب هو عمرو بن لحي . وثبت أن النبي قال : ' رأيت [ عمرو ] بن لحي يجر قصبه في النار ' .
ويقال في الآية : إن المراد من ' الأمة ' أهل سفينة نوح عليه السلام .
قوله تعالى : ( ^ ولولا كلمة سبقت من ربك ) يعني : في التأجيل والإمهال ( ^ لقضى بينهم فيما فيه يختلفون ) أي : لحكم بينهم فيما فيه يختلفون .
____________________


( ^ إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون ( 19 ) ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين ( 20 ) وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا قل ) * * * * < < يونس : ( 20 ) ويقولون لولا أنزل . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه ) فإن قال قائل : أليس الرسول قد أتى بالآيات على زعمكم ؟
الجواب عنه : بلى ، ومعنى الآية : هلا أنزل عليه آية من ربه على ما نقترحه .
( ^ فقل إنما الغيب لله ) يعني : علم الغيب لله ، إن شاء أتى بالآية التي تسألونها وإن شاء لم يأت ( ^ فانتظروا إني معكم من المنتظرين ) يعني : انتظروا الغيب إني معكم من المنتظرين . < < يونس : ( 21 ) وإذا أذقنا الناس . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم ) الذوق : تناول ماله طعم بفمه ليجد طعمه ، فأما الرحمة هاهنا فيها قولان :
أحدهما : أنها العافية ، والآخر : أنها الخصب والنعمة .
والضراء فيها قولان :
أحدهما : أنها الشدة ، والآخر : أنها الجدب والقحط .
( ^ مستهم ) أي : أصابتهم . وقوله تعالى : ( ^ إذا لهم مكر في آياتنا ) المكر : صرف الشيء عن وجهه بطريق الحيلة . قال مجاهد : ( ^ إذا لهم مكر في آياتنا ) أي : تكذيب واستهزاء .
وقوله تعالى : ( ^ قل الله أسرع مكرا ) يعني : أشد أخذا . ويقال : معناه : إن ما يأتي من العذاب من قبله أسرع في إهلاككم مما يأتي منكم في دفع الحق وتكذيبه .
وقوله : ( ^ إن رسلنا يكتبون ما تمكرون ) معناه معلوم . < < يونس : ( 22 ) هو الذي يسيركم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ هو الذي يسيركم في البر والبحر ) قرئت بقراءتين : ' يسيركم ' و ' ينشركم ' ، والمعروف : ' يسيركم ' ومعناه : تسهيل طريق السير عليكم في البر والبحر . وأما من قرأ : ' ينشركم ' معناه : يبثكم . وروي عن الضحاك أنه قال : البحر هو الأمصار ، والبر هو البوادي . وقوله تعالى : ( ^ حتى إذا كنتم في الفلك ) قال أهل
____________________


( ^ الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون ( 21 ) هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف ) * * * * اللغة : الفلك تؤنث وتذكر . قال الله تعالى : ( ^ في الفلك المشحون ) وقال هاهنا : ( ^ وجرين بهم ) وقالوا أيضا : إن الفلك يكون بمعنى الواحد وبمعنى الجمع . وقوله : ( ^ بريح طيبة ) أي : هينة لينة .
وقد روي عن النبي أنه قال : ' الريح من روح الله ، فسألوا الله من خيرها ، وتعوذوا بالله من شرها ' .
فإن قال قائل : كيف قال : ( ^ حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم ) فهذا تغيير الكلام عن وجهه ؟
والجواب عنه : أن العرب تقيم المعاينة مقام المخاطبة ، والمخاطبة مقام المعاينة ، قال الشاعر :
( وشطت مزار العاشقين فأصبحت ** عسيرا على طلابك ابنة مخرم )
ومنهم من قال : معنى الآية : حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة يا محمد . وقوله : ( ^ وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف ) وهي الشديدة المهلكة ، قال الشاعر :
( في فيلق شهباء ملمومة ** تعصف بالحاسر والدارع )
وقوله : ( ^ وجاءهم الموج من كل مكان ) الموج : ما يظهر على البحر من الريح .
____________________


( ^ وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين ) * * * *
وقوله : ( ^ وظنوا ) وتيقنوا ( ^ أنهم أحيط بهم ) يقال لمن كان في بلاء وشدة : إنه قد أحيط به . وقوله : ( ^ دعوا الله مخلصين له الدين ) معناه : أنهم أخلصوا في الدعاء ، ولم يدعوا أحدا سوى الله . وقوله : ( ^ لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين ) معناه معلوم . < < يونس : ( 23 ) فلما أنجاهم إذا . . . . . > >
ثم قال تعالى : ( ^ فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق ) البغي : هو قصد الاستعلاء على الغير بالظلم ، والبغي ها هنا بمعنى الفساد ، ويقال : بغي الجرح إذا أدى إلى الفساد ، وبغت المرأة إذا فجرت .
وقد روي عن النبي أنه قال : ' لا يؤخر الله صاحب بغي ' أي : لا يمهله . وفي الأخبار - أيضا - : ' البغي مصراعة ' .
ثم قال : ( ^ يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم ) أي : وبال بغيكم عليكم .
قوله ( ^ متاع الحياة الدنيا ) وقرىء : ' متاع الحياة الدنيا ' ؛ فمن قرأ بالرفع معناه : هو متاع الحياة الدنيا ، ومن قرأ بالنصب معناه : يمتعون متاع الحياة الدنيا . وعن الأعمش قال : المتاع : زاد الراكب . وقال أهل المعاني : حقيقة معنى الآية : أن البغي متاع الحياة الدنيا .
____________________


( ^ فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون ( 23 ) إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت بها وظن أهلها أنهم قادرون عليها ) * * * *
قوله تعالى : ( ^ ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون ) أي : نخبركم بما كنتم تعملون . < < يونس : ( 24 ) إنما مثل الحياة . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إنما مثل الحياة الدنيا ) معناه : إنما صفة الحياة الدنيا ( ^ كماء أنزلناه من السماء ) أي : من السحاب ( ^ فاختلط به نبات الأرض ) يعني : اختلط المطر بالنبات ، والنبات بالمطر ( ^ مما يأكل الناس والأنعام ) ظاهر المعنى ، وقوله : ( ^ حتى إذا أخذت الأرض زخرفها ) الزخرف : كمال الحسن ، والذهب زخرف ؛ لكماله في الحسن ، ومعنى الزخرف هاهنا : البهجة والنضرة . وقوله : ( ^ وازينت ) أي : تزينت ، وقالوا معناه : أنبتت وأثمرت وأينعت .
وقوله : ( ^ وظن أهلها أنهم قادرون عليها ) معناه : وظن أهلها أنهم قادرون على جذاذها وقطافها وحصادها . وقوله : ( ^ أتاها أمرنا ليلا أو نهارا ) أي : عذابنا ليلا أو نهارا . وقوله : ( ^ فجعلناها حصيدا ) الحصيد : المحصود ، والمعنى ها هنا : هو الاستئصال بالعذاب . وقوله : ( ^ كأن لم تغن بالأمس ) قال مجاهد : معناه : كأن لم تعمر بالأمس . وقال غيره : كأن لم يكن قائما بالأمس ، يقال : غنى فلان بالمكان إذا قام فيه ، والمغاني هي المنازل ، قال لبيد :
( ولقد سئمت من الحياة وطولها ** وسؤال هذا الناس كيف لبيد )
( وغنيت سبتا قبل مجرى داحس ** لو كان للنفس اللجوج خلود )
ومعنى غنيت : أقمت ، والسبت : الدهر هاهنا .
قال قتادة : معنى الآية : هو أن المتشبث بالدنيا يأتيه أمر الله وعذابه أغفل ما يكون وأعجب بها .
وقوله ( ^ كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون ) ظاهر المعنى .
____________________

( ^ أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس ) * * * * < < يونس : ( 25 ) والله يدعو إلى . . . . . > >
قوله تعالى ( ^ والله يدعو إلى دار السلام ) في الأخبار أن النبي قال : ' ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وبجنبتيها ملكان يسمعان الخلائق إلا الثقلين : ألا هلموا إلى ربكم ، ثم قرأ قوله تعالى : ( ^ والله يدعوا إلى دار السلام ) . وفي الآثار - أيضا - : ' أنه ما من يوم ولا ليل إلا وينادى مناد : يا طالب الخير هلم ، ويا طالب الشر أقصر .
وأما دار السلام : فالدار هي الجنة ، وفي السلام قولان :
أحدهما : أنه هو الله . والآخر : أن السلام بمعنى السلامة ؛ كأنه قال : يدعو إلى دار السلام من الآفات .
وروى أبو جعفر محمد بن علي الباقر ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري - رضي الله عنهما - أن النبي قال : ' رأيت في منامي كأن على رأسي جبريل ، وكأن
____________________

( ^ كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون ( 24 ) والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ( 25 ) ) * * * * على رجلي ميكائيل ، فقال أحدهما لصاحبه : اضرب له مثلا ، فقال الآخر : مثلك يا محمد مثل ملك بنى دارا ثم بنى في دار بيتا ، ثم وضع في البيت مأدبة ، ثم دعا إليها الناس ، فمنهم التارك ومنهم المجيب ، فالملك : هو الله تعالى ، والدار : هو الإسلام ، والبيت : الجنة ، والداعي : أنت ، فمن أجاب دخل الجنة ، ومن دخل الجنة أكل منها ' .
وقوله : ( ^ ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) الصراط المستقيم : هو الإسلام ، وفيه أقوال أخر ، ذكرناها من قبل . < < يونس : ( 26 ) للذين أحسنوا الحسنى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) الإحسان هاهنا : الإسلام ، والإحسان : هو قول لا إله إلا الله . واختلفوا في الحسنى وزيادة ، فروي عن أبي بكر الصديق وأبي موسى الأشعري ، وابن عباس ، وحذيفة ، وقتادة ، وجماعة من التابعين أنهم قالوا : الحسنى : هي الجنة ، والزيادة : هي النظر إلى الله عز وعلا . وروى أبو القاسم بن بنت منيع ، عن هدبة بن خالد ، عن حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن صهيب - رضي الله عنهم - أن النبي قال : ' إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله - تعالى - : يا أهل الجنة ، إن لكم عندي موعدا وأنا منجزكموه ، فقالوا : وما ذلك ؟ ألم تبيض وجوهنا ؟ ألم تثقل موازيننا ؟ ألم تدخلنا الجنة وتخلصنا من النار ؟ قال : فيتجلى لهم فينظرون إلى وجهه ، فما أعطوا شيئا هو أحب ( إليهم ) من النظر إليه ، ثم قرأ قوله تعالى : ( ^ للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) ' .
____________________

( ^ للذين أحسنوا بالحسنى وزيادة ) * * *
قال الإمام أبو المظفر : أخبرنا بهذا الحديث أبو الحسين أحمد بن محمد بن النقور بالتخفيف ببغداد قال : أخبرنا أبو القاسم بن حبابة قال : أخبرنا أبو القاسم بن بنت منيع . . . الخبر خرجه مسلم في ' الصحيح ' .
وفي الآية أقوال آخر .
وروى عن علي رضي الله عنه أنه قال : الزيادة : غرفة من اللؤلؤ لها أربعة آلاف باب . وروى عن الحسن البصري أنه قال : الحسنى : هي المثل من الثواب ، والزيادة : هي الزيادة على المثل إلى سبعمائة ضعف . وقال مجاهد : الحسنى ، هي المثل ، والزيادة : رضوان الله تعالى .
قوله ا \ تعالى : ( ^ ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة ) القتر : سواد الوجه ، وأصل ( القتار ) : هو الدخان .
قوله : ( ^ ولا ذلة ) أي : هوان .
قوله : ( ^ أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ) معناه ظاهر . < < يونس : ( 27 ) والذين كسبوا السيئات . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها ) الآية ، هذا هو معنى قوله تعالى : ( ^ ومن جاء بالسيئة فلا يجزي إلا مثلها ) . قوله : ( ^ [ و ] ترهقهم ذلة ) أي : تغشاهم ذلة ، أي : ذل . ( ^ ما لهم من الله من عاصم ) أي : مانع . وقوله : ( ^ كأنما أغشيت وجوههم قطعا ) قرئت بقراءتين : ' قطعا ' و ' قطعا ' ، فالقطع
____________________

( ^ ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ( 26 ) والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ( 27 ) ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال ) * * * * بتحريك الطاء - جمع القطعة ، والقطع - بسكون الطاء - واحد .
فإن قيل : كيف لم يقل : ' قطعا من الليل مظلمة ' ؟
قلنا : تقدير الآية : قطعا من الليل في حال ظلمته ، هكذا قاله أهل اللغة .
( ^ أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) ظاهر . < < يونس : ( 28 ) ويوم نحشرهم جميعا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم ) الآية . معنى الآية : ثم نقول للذين أشركوا : الزموا أنتم وشركاؤكم مكانكم .
قوله : ( ^ فزيلنا بينهم ) معناه : ميزنا بينهم يعني : فرقنا بين المشركين والأصنام ؛ وهو من قوله : زلت ، لا من قوله : ذلت ( ^ وقال شركاؤكم ما كنتم إيانا تعبدون ) الشركاء : هي الأصنام التي جعلوها شركاء لله تعالى على زعمهم . وقوله : ( ^ ما كنتم إيانا تعبدون ) معناه : كنتم إيانا تعبدون بطلبنا ودعوتنا . < < يونس : ( 29 ) فكفى بالله شهيدا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين ) معلوم المعنى . < < يونس : ( 30 ) هنالك تبلو كل . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ هنالك تبلو ) الآية ، قرئت بقراءتين : ' تتلو ' و ' تبلو ' فقوله : ' تبلو ' قال مجاهد : تختبر ، معناه : تجده وتقف عليه ، وقوله ' تتلو ' قال الأخفش : يقرأ ، فيكون في معنى قوله : ( ^ يخرج له يوم القيامة ) إلى قوله : ( ^ اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ) .
____________________

( ^ شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون ( 28 ) فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين ( 29 ) هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق ) * * * *
والقول الثاني : أن معنى ' تتلو ' : تتبع ، قال الشاعر :
( أرى المريب يتبع المريبا ** كما رأيت الذيب يتلوا الذيبا )
قوله تعالى : ( ^ كل نفس ما أسلفت ) أي : ما قدمت . قوله تعالى : ( ^ وردوا إلى الله مولاهم الحق ) فإن قال قائل : قد قال في موضع آخر : ( ^ وأن الكافرين لا مولى لهم ) وقال هاهنا : ( ^ وردوا إلى الله مولاهم الحق ) فكيف وجه الآيتين ؟ .
الجواب عنه : أن المولى هناك بمعنى الناصر والحافظ ، والمولى هاهنا بمعنى المالك ، فلم يكن بين الآيتين اختلاف .
وقوله [ تعالى ] ( ^ وضل عنهم ما كانوا يفترون ) أي : فات عنهم ما كانوا يكذبون . < < يونس : ( 31 ) قل من يرزقكم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قل من يرزقكم من السماء والأرض ) الرزق من السماء بالمطر ، ومن الأرض بالنبات . وقوله : ( ^ أم من يملك السمع والأبصار ) معناه : ومن أعطاكم الأسماع والأبصار . وقوله ( ^ ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ) معناه : ومن يخرج النطفة من الحي ، والحي من النطفة ، والسنبلة من الحب ، والحب من السنبلة ، والبيض من الطير والطير من البيض ، والشجر من النواة ، والنواة من الشجر ، والمؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن .
وقوله ( ^ ومن يدبر الأمر ) ومن يقضي الأمر . وقوله : ( ^ فسيقولون الله فقل أفلا تتقون ) معناه : أفلا تتقون الشرك مع هذا الإقرار . < < يونس : ( 32 ) فذلكم الله ربكم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فذلكم الله ربكم الحق ) معناه : فذلكم الذي صفته هذا هو ربكم الحق . وقوله : ( ^ فماذا بعد الحق إلا الضلال ) معناه : فماذا بعد الحق إلا الباطل .
____________________

( ^ وضل عنهم ما كانوا يفترون ( 30 ) قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون ( 31 ) فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون ( 32 ) ) * * * *
وروي عن حرملة أنه قال : سألت ( مالك بن أنس ) عن الغناء ، فقرأ هذه الآية : ( ^ فماذا بعد الحق إلا الضلال ' )
وروي عن القاسم بن محمد من التابعين نحوا من هذا في هذا المعنى . وقوله ( ^ فأنى تصرفون ) أي : كيف يعدل بكم عن وجه الحق ؟ . < < يونس : ( 33 ) كذلك حقت كلمة . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ كذلك حقت ) أي : وجبت ( ^ كلمة ربك ) أي : حكمة ربك ( ^ على الذين فسقوا ) أي : كفروا ( ^ أنهم لا يؤمنون ) قال أهل التفسير : هذا في أقوام بأعيانهم علم الله أنهم لا يؤمنون . < < يونس : ( 34 ) قل هل من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده ) معناه : ينشىء الخلق ثم يعيده . وقوله : ( ^ قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده ) معناه : ينشىء الخلق ثم يعيده ، ومعنى الإعادة : هي الإحياء للبعث يوم القيامة . وقوله ( ^ فأنى تؤفكون ) معناه : فكيف تصرفون ؟ . < < يونس : ( 35 ) قل هل من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق ) معناه ظاهر . وقوله : ( ^ أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى ) قرئت بقراءات كثيرة قال أهل العربية : أصحها : ' أمن لا يهدي ' أو ' يهدي ' على وجه الإدغام ؛ لأن معناه : يهتدي . ثم قال : ( ^ إلا أن يهدى ) فإن قيل : كيف قال : ( ^ إلا أن يهدى ) والأصنام لا يتصور فيها أن تهدى ولا أن تهتدي ؟ الجواب من وجهين :
أحدهما أن معنى الهداية هاهنا هي النقل ، يعنى : لا ينتقل من مكان إلى مكان إلا أن ينقل .
____________________

( ^ كذلك حقت كلمت ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون ( 33 ) قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون ( 34 ) قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي أي الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون ( 35 ) وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون ( 36 ) وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من ) * * * *
والوجه الثاني : أن هذا مذكور على وجه المجاز ؛ فإن المشركين كانوا يعتقدون في الأصنام أنها تسمع وتعقل وتهدي ، فذكر ذلك في الأصنام على وفق ما يعتقدون ، وجعلها بمنزلة من يعقل في هذا الخطاب ، وأثبت عجزها عن الهداية . قوله : ( ^ فما لكم كيف تحكمون ) معناه ظاهر . < < يونس : ( 36 ) وما يتبع أكثرهم . . . . . > >
قوله سبحانه وتعالى : ( ^ وما يتبع أكثرهم إلا ظنا ) الآية ، الظن : حالة بين الشك واليقين . وقوله : ( ^ وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ) معناه : إن الظن لا يقوم مقام الحق بحال . وقوله : ( ^ إن الله عليم بما يفعلون ) معناه ظاهر . < < يونس : ( 37 ) وما كان هذا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ) الآية ، وفيه وجهان من المعنى :
أحدهما : وما كان هذا القرآن افتراء من دون الله .
والوجه الثاني : وما ينبغي لمثل هذا القرآن أن يفترى من دون الله لقوله تعالى : ( ^ وما كان لنبي أن يغل ) معناه : وما ينبغي لمثل النبي أن يغل .
وقوله : ( ^ ولكن تصديق الذي بين يديه ) فيه قولان :
أحدهما : تصديق الذي بين يديه من التوراة والإنجيل .
والثاني : تصديق الشيء الذي القرآن بين يديه من القيامة والبعث .
وقوله : ( ^ وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين ) التفصيل : التبيين ،
____________________

( ^ رب العالمين ( 37 ) أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ( 38 ) بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ( 39 ) ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين ( 40 ) وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم ) * * * * ومعنى باقي الآية معلوم . < < يونس : ( 38 ) أم يقولون افتراه . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله ) معنى الآية : هو الاحتجاج على الكفار بمعجزة القرآن ؛ فإنهم كانوا يقولون : إن محمدا قد افتراه ، فقال لهم : إن كان افتراه وأتى به من عند نفسه فأتوا أنتم بمثله .
فإن قيل : قال : ( ^ فأتوا بسورة مثله ) فللقرآن مثل يؤتى بسورة منه ؟
الجواب : أن معناه : فأتوا بسورة من مثله في البلاغة والنظم وصحة المعنى . وقيل : إن معناه : فأتوا بسورة مثل سورة القرآن .
وقوله : ( ^ وادعوا من استطعتم من دون الله ) معناه : واستعينوا بمن استطعتم من دون الله ( ^ إن كنتم صادقين ) . < < يونس : ( 39 ) بل كذبوا بما . . . . . > >
قوله : ( ^ بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ) الإحاطة بعلم الشيء هي : المعرفة به من جميع وجوهه ، ومعنى الآية : بل كذبوا بالقرآن ولم يحيطوا بعلمه ، يعني : لم يعلموه .
وقوله : ( ^ ولما يأتهم تأويله ) أي : ولم يأتهم تأويله ، ومعناه : ولم يعلموا ما يؤول إليه عاقبة أمرهم . ثم قال تعالى : ( ^ كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ) ظاهر المعنى . < < يونس : ( 40 ) ومنهم من يؤمن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين ) معناه : ومنهم من يؤمن به - بالقرآن - كأصحاب النبي من المهاجرين والأنصار ، ومنهم من لا يؤمن به كأبي جهل ومن ( تابعه ) ، ومنهم من قال : ومنهم من يؤمن
____________________


( ^ أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون ( 41 ) ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون ( 42 ) ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو ) * * * * به سرا وعلانية كالمؤمنين المخلصين ، ومنهم من لا يؤمن به سرا كالمنافقين .
( ^ وربك أعلم بالمفسدين ) ظاهر المعنى . < < يونس : ( 41 ) وإن كذبوك فقل . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم ) الآية ، معناه : لي عملي وجزاؤه ولكم عملكم وجزاؤه . قوله : ( ^ أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون ) هذا مثل قوله : ( ^ لكم دينكم ولي دين ) ومثل قوله تعالى : ( ^ لنا أعمالنا ولكم أعمالكم ) . < < يونس : ( 42 ) ومنهم من يستمعون . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ومنهم من يستمعون إليك ) الآية ، الاستماع : طلب السمع ، وقد كانوا يطلبون سماع القرآن للرد والتكذيب به ، لا للتفهم والإيمان به . وقوله : ( ^ أفأنت تسمع الصم ) الصمم : آفة تمنع من السماع ، والمراد من الصمم هاهنا : صمم القلب ؛ فإنهم لما لم يسمعوا القرآن للإيمان به وقبوله كأنهم لم يسمعوا ، وجعلهم بمنزلة الصم ، والصم : جمع الأصم . وقال الزجاج : قد كانوا يسمعون حقيقة ؛ ولكن لشدة بغضهم وعداوتهم للنبي لم يستمعوا ليفهموا ، فجعلهم كأن لم يسمعوا . قوله : ( ^ ولو كانوا لا يعقلون ) معناه : ولو كانوا جهالا . < < يونس : ( 43 ) ومنهم من ينظر . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ومنهم من ينظر إليك ) النظر : طلب الرؤية بتقليب البصر ، وأما نظر القلب : هو طلب العلم بالفكرة . وقوله : ( ^ أفأنت تهدي العمي ) جعلهم بمنزلة العمي ؛ لأنهم لم ينظروا لطلب الحق ، والمراد من العمى هاهنا : عمى القلب . ومنهم من قال : جعلهم بمنزلة العمى كما جعلهم بمنزلة الصم حيث لم ينتفعوا لا بأسماعهم ولا بأبصارهم .
وذكر ابن الأنباري حاكيا عن ابن قتيبة أنه استدل بهذه الآية على أن السمع أفضل
____________________


( ^ كانوا لا يبصرون ( 43 ) إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون ( 44 ) ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم قد خسر الذين ) * * * * من البصر ، فإن الله تعالى قال في الصمم : ( ^ لو كانوا لا يعقلون ) ، وقال في العمى : ( ^ ولو كانوا لا يبصرون ) .
قال ابن الأنباري : وهذا غلط ؛ لأن المراد من الآية عمى القلب لا عمى العين ، وكذلك صمم القلب لا صمم الأذن ؛ فعلى هذا لا يقع التفضيل .
قال ابن الأنباري : ولأن حاسة البصر أفضل من حاسة السمع ، ألا ترى أن الجمال فيها أكثر ، والنقصان بفوتها أعظم ، وسماها الرسول كريمتى الإنسان ؛ فإنه قال : ' يقول الله تعالى : من أخذت كريمتيه فصبر واحتسب ، لم يكن له جزاء إلا الجنة ' .
وإذا كان الرجل أعمى فإنه لا يبصر إقباله من إدباره ، ولا طريق غيه من طريق رشده ، ويكون أسيرا في نفسه ، ( ويتعطل ) عليه منافع عامة جوارحه . < < يونس : ( 44 ) إن الله لا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون ) ظاهر المعنى . < < يونس : ( 45 ) ويوم يحشرهم كأن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار ) معنى الآية : تقريب وقت مماتهم من وقت بعثهم ، وهذا كقوله تعالى : ( ^ كأن لم يلبثوا إلا ساعة من نهار ) . وقوله : ( ^ يتعارفون بينهم ) يعني : يعرف بعضهم بعضا . وفي بعض
____________________


( ^ كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين ( 45 ) وإما نرنيك بعض الذين نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون ( 46 ) ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون ( 47 ) ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ( 48 ) قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا ) * * * * الآثار : أن الإنسان يوم القيامة يعرف من بجنبه ، ولا يكلمه هيبة وخشية . وقوله : ( ^ قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين ) الخسران هاهنا : خسران النفس ، ولا شيء أعظم من خسران النفس . وفي بعض الآثار : يا بان آدم ، أنت في دار التجارة فاربح فيها نفسك . < < يونس : ( 46 ) وإما نرينك بعض . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإما نرينك بعض الذي نعدهم ) قال مجاهد : بعض الذي نعدهم هو : القتل يوم بدر . وقال غيره : معنى الآية : إما نعذبهم في حياتك ( ^ أو نتوفينك ) قبل تعذيبهم ( ^ فإلينا مرجعهم ) ومرجعهم إلينا . وقوله : ( ^ ثم الله شهيد على ما يفعلون ) ظاهر المعنى ، و ' ثم ' هاهنا بمعنى الواو . < < يونس : ( 47 ) ولكل أمة رسول . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ ولكل أمة رسول ) الأمة : هي الجماعة إذا كانوا على منهج واحد ومقصد واحد . والرسول : كل من حمل رسالة ليؤديها على الحق . وقوله تعالى : ( ^ فإذا جاء رسولهم ) قال مجاهد : فإذا جاء رسولهم شاهدا عليهم يوم القيامة ( ^ قضى بينهم بالقسط ) أي : بالعدل ( ^ وهم لا يظلمون ) يعني : لا ينقص من حقهم .
وفي الآية معنى آخر : وهو أن معنى قوله : ( ^ فإذا جاء رسولهم ) يعني : إذا جاء رسولهم بالإعذار والإنذار قضى بينهم بالقسط أي : بالحق ، ومعناه : أنه قبل مجيء الرسل لا يتوجه ثواب ولا عقاب . < < يونس : ( 48 ) ويقولون متى هذا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ) يعني : وعد الساعة . < < يونس : ( 49 ) قل لا أملك . . . . . > >
ثم قال تعالى : ( ^ قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله ) الآية . الملك : قوة يتصرف بها في الشيء ، وقوله : ( ^ ضرا ولا نفعا ) يعني : دفع ضر ولا جلب نفع لم يقدره الله تعالى . وقوله : ( ^ لكل أمة أجل ) الأجل : مدة مضروبة لحلول أمر .
____________________


( ^ يستئخرون ساعة ولا يستقدمون ( 49 ) قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون ( 50 ) أثم إذا ما وقع آمنتم به الآن وقد كنتم به تستعجلون ( 51 ) ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون ( 52 ) ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين ( 53 ) ولو أن ) * * * *
وقوله : ( ^ إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ) ظاهر المعنى . < < يونس : ( 50 ) قل أرأيتم إن . . . . . > >
قوله تعالى ( ^ قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ) والبيات : ما يحصل ليلا .
وقوله : ( ^ ماذا يستعجل منه المجرمون ) معناه : ماذا يستعجل من الله المجرمون ؟ وقيل : ماذا يستعجل من العذاب المجرمون ؟ وحقيقة المعنى : أنهم كانوا يستعجلون العذاب ؛ مثل قول النضر بن الحارث ، فإنه قال : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك ، فأمطر علينا حجارة من السماء ، أو ائتنا بعذاب أليم ، فقال الله تعالى في هذه الآية : ( ^ ماذا يستعجل منه المجرمون ) يعني : وأيش يعلم المجرمون ماذا يستعجلون ويطلبون ؟ كالرجل يقول لغيره : ماذا جنيت على نفسك ؟ إذا فعل فعلا قبيحا . < < يونس : ( 51 ) أثم إذا ما . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ثم إذا ما وقع آمنتم به ) قيل في التفسير : معنى قوله : ( أثم ) : هنالك إذا ما وقع - أي : العذاب ( ^ آمنتم به ) يعني : آمنتم بالله ؟ من وقع العذاب ؟ أي : نزل . ثم قال : ( ^ الآن ) وفيه حذف ومعناه : الآن آمنتم به ( ^ وقد كنتم به تستعجلون ) تكذيبا واستهزاء . < < يونس : ( 52 ) ثم قيل للذين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون ) ظاهر المعنى . < < يونس : ( 53 ) ويستنبئونك أحق هو . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ويستنبئونك أحق هو ) معناه : ويستخبرونك أحق هو ؟ والحق ضد الباطل ، ويقال : الحق ما قام عليه الدليل . وقوله : ( ^ قل إي وربي ) معناه : قل نعم وربي ( ^ إنه لحق وما أنتم بمعجزين ) معناه : وما أنتم بفائتين من العذاب ؛ لأن من عجز عن الشيء فقد فاته . < < يونس : ( 54 ) ولو أن لكل . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به ) الافتداء
____________________


( ^ لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط وهو لا يظلمون ( 54 ) ألا إن لله ما في السموات والأرض ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون ( 55 ) هو يحيي ويميت وإليه ترجعون ( 56 ) يا أيها ) * * * * هاهنا : بذل ما ينجو به عن العذاب . وقوله : ( ^ وأسروا الندامة لما رأوا العذاب ) فيه قولان :
أحدهما : قول أبي عبيدة ، وهو : أن معناه : وأظهروا الندامة .
والقول الثاني : وأسروا الرؤساء منهم الندامة من الضعفاء خوفا من مذامتهم وتعييرهم .
وقوله : ( ^ وقضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون ) قد بينا المعنى . < < يونس : ( 55 ) ألا إن لله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ألا إن لله ما في السموات والأرض ) فإن قال قائل : أليس أن عندكم السموات سبع ، والأرضون سبع ، فكيف ذكر السموات بلفظ الجمع والأرض بلفظ ( الوحدان ) ؟
الجواب : أن الواحد هاهنا بمعنى الجمع ، والعرب قد تذكر الواحد بلفظ الجمع ، والجمع بلفظ الواحد ، وقيل : إن الأرضين وإن كانت سبعا ولكن لما لم تظهر سوى هذه الواحدة وكانت الباقون مخفية ، ذكر بلفظ الوحدان .
وقوله : ( ^ ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون ) ظاهر المعنى . < < يونس : ( 56 ) هو يحيي ويميت . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ هو يحيي ويميت وإليه ترجعون ) معلوم المعنى . < < يونس : ( 57 ) يا أيها الناس . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم ) الآية ، الموعظة : قول على طريق العلم يؤدي إلى صلاح العباد . وقوله : ( ^ وشفاء لما في الصدور ) الشفاء هاهنا هو الدواء لذي الجهل . وقال أهل العلم : لا داء أعظم من الجهل ، ولا دواء أعز من دواء الجهل ، ولا طبيب أقل من طبيب الجهل ، ولا شفاء أبعد من شفاء الجهل .
____________________

( ^ الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ( 57 ) قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ( 58 ) قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل الله أذن لكم أم على الله تفترون ) * * * *
وأما قوله ( ^ لما في الصدور ) الصدر موضع القلب ، وهو أعز موضع في الإنسان ؛ لجوار القلب . وقوله : ( ^ وهدى ) يعني : وهدى من الضلالة . وقوله : ( ^ ورحمة للمؤمنين ) الرحمة : هي النعمة على المحتاج ، فإنه لو أهدى ملك إلى ملك شيئا لا يقال : قد رحمه ، وإن كان هذا نعمة على الحقيقة ؛ لأنه لم يضعها في محتاج . < < يونس : ( 58 ) قل بفضل الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قل بفضل الله وبرحمته ) قال الحسن البصري : فضل الله : القران ، ورحمته : الإسلام . وعن بعضهم : فضل الله : الإسلام ، ورحمته : القرآن . وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : فضل الله : القرآن ، ورحمته : أن جعلنا من أهله . وهذا مروي أيضا عن عكرمة .
وقوله : ( ^ فبذلك فليفرحوا ) وقرأ الحسن : ' فبذلك فلتفرحوا ' معناه : فبذلك فلتعجبوا .
وقوله : ( ^ هو خير مما يجمعون ) أي : مما يجمع الكفار من الدراهم والدنانير . < < يونس : ( 59 ) قل أرأيتم ما . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا ) قال أهل التفسير : معنى هذا هي السوائب والحوامي التي جعلها أهل الشرك حراما عليهم ، وقد ذكرنا هذا في تفسير سورة الأنعام ، وما أحلوا من ذلك وما حرموا في تفسير قوله : ( ^ وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا ) فإن قيل : كيف يستقيم هذا المعنى ، وقد قال في آخر الآية : ( ^ قل الله أذن لكم أم على الله تفترون ) ؟
وليس المراد من الآية الاستفهام ؛ وإنما المراد منها الرد والإنكار عليهم . < < يونس : ( 60 ) وما ظن الذين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة ) قالوا : معناه :
____________________

( ( 59 ) وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون ( 60 ) وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في * * * * وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة ، أيلقاهم الخير أم يلقاهم الشر ؟ وحقيقة المعنى : أن الشر يلقاهم ؛ لأنه الذي يليق بافترائهم .
وقوله : ( ^ إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون ) في التفاسير : من ألف واحد شاكر . < < يونس : ( 61 ) وما تكون في . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وما تكون في شأن ) الشأن : اسم مبهم ، وهو مثل قول القائل لغيره : ما حملك وما بالك ؟ وما شانك ؟ وقوله : ( ^ في شأن ) يعني : في شأن من الشؤون .
وقوله : ( ^ وما تتلو منه من قرآن ) فإن قيل : [ أيش معنى ] قوبه : ( ^ وما تتلو منه ) ولم يسبق ذكر القرآن ؟ الجواب عنه من وجهين : أحدهما أن معناه : وما تتلو من الشأن ، من قرآن ، والآخر : أنه راجع إلى القرآن أيضاً ، فأبطن في قوله : ( ^ منه ) وأظهر في قوله ( ^ من قرآن ) تفخيما له . وقوله : ( ^ ولا تعلمون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً ) الشهود هاهنا : جمع شاهد .
وقوله : ( ^ إذ تفيضون فيه ) قال ابن الأنباري : إذ تندفعون فيه ، والإفاضة هي الدفع بالكثرة . وقوله : ( ^ وما يعزب عن ربك ) معناه : وما يغيب عن ربك ( ^ من مثقال ذرة ) من وزن ذرة ؛ والذرة : هي النملة الصغيرة ، وقيل : ما يظهر في شعاع الشمس . والأول هو المعروف .
____________________

( ^ الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ( 61 ) ألا إن ) * * * *
وقوله : ( ^ في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ) يعني : أصغر من الذرة . ( ^ ولا أكبر ) معناه : ولا أكبر من الذرة إلى ما لا يعلم قدره إلا الله تعالى . قوله : ( ^ إلا في كتاب مبين ) معناه : إلا هو مبين في الكتاب ، يعني : اللوح المحفوظ .
وفي الأخبار المشهورة : ' أن الله تعالى لما خلق القلم قال : اكتب ، قال : وما أكتب ؟ قال : اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة ' . وقد ثبت برواية عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي قال : ' إن الله قدر المقادير قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ' . خرجه مسلم في ' صحيحه ' . < < يونس : ( 62 ) ألا إن أولياء . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ألا إن أولياء الله ) اختلفوا في أولياء الله على أقوال :
أحدهما : أنهم الذين آمنوا وكانوا يتقون ، والآخر : أنهم الذين يرضون بالقضاء ، ويشكرون عند الرخاء ، ويصبرون على البلاء ، والثالث : هم المتحابون في الله تعالى .
وقد روى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن النبي قال : ' إن من عباد الله عبادا ليسوا بأنبياء ، يغبطهم النبيون والشهداء لمكانهم عند الله . فقال رجل : يا رسول الله ، ومن هم ؟ فقال رسول : قوم تحابوا بروح الله من غير أرحام يصلونها ، ولا أموال يتعاطونها ، وإن على وجوههم لنورا ، وإنهم على منابر من نور ، لا يخافون إذا خاف الناس ، ولا يحزنون إذا حزن الناس ، ثم قرأ : ( ^ ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ) ' . ذكره أبو داود في ' سننه ' قريبا من هذا .
____________________

( ^ أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( 62 ) الذين آمنوا وكانوا يتقون ( 63 ) لهم ) * * * *
والرابع : هو أن أولياء الله من إذا رؤوا [ ذكر ] الله .
وفي بعض الأخبار المرفوعة إلى النبي : ' سئل من أولياء الله ؟ فقال الذين إذا رؤوا [ ذكر ] الله ' . وفي رواية : ' الذين [ يذكر ] الله برؤيتهم ' .
وقوله : ( ^ لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) الخوف : انزعاج في النفس من توقع مكروه ، والحزن : هم يقع في القلب لنوع عارض . < < يونس : ( 63 ) الذين آمنوا وكانوا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ الذين آمنوا وكانوا يتقون ) ظاهر المعنى . < < يونس : ( 64 ) لهم البشرى في . . . . . > >
ثم قال تعالى : ( ^ لهم البشرى ) اختلفوا في هذه البشرى على أقوال :
الأول : روى ( أبو الدرداء ) - رضي الله عنه - عن النبي أنه قال : ' هي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أوترى له ' .
ورواه - أيضا - عبادة بن الصامت أبو الوليد - رضي الله عنه - .
وقد ثبت عن النبي أنه قال : ' الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من
____________________

( ^ البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم ( 64 ) ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم ( 65 ) ألا إن لله من في السموات ومن في الأرض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا ) * * * * النبوة ' .
والقول الثاني : روى أبو ذر - رضي الله عنه - عن النبي : ' إن البشرى في الحياة الدنيا : هو الثناء الحسن ، وفي الآخرة : الجنة ' .
والثالث : البشرى : هي نزول نزول ملائكة الرحمة بالبشارة من الله تعالى عند الموت .
والرابع : البشرى : هي علم المؤمن بمكانه من الجنة قبل أن يموت . قاله قوم من التابعين .
وقوله تعالى : ( ^ لا تبديل لكلمات الله ) معناه : لا خلف لوعد الله . وقوله : ( ^ ذلك هو الفوز العظيم ) أي : النجاة العظيمة . < < يونس : ( 65 ) ولا يحزنك قولهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولا يحزنك قولهم ) وقف تام . ثم قال : ( ^ إن العزة لله جميعا ) يعنى : إن الغلبة لله جميعا ( ^ هو السميع العليم ) معلوم المعنى . < < يونس : ( 66 ) ألا إن لله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ألا إن لله من في السموات ومن في الأرض ) معناه معلوم .
وقوله : ( ^ وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء ) معناه : وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء على الحقيقة ؛ لأنه ليس لله شريك . وقيل : معناه : وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء علما ويقينا ؛ بل يتبعون على الظن كما قال : ( ^ إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون ) ومعنى قوله : ( ^ يخرصون ) : يكذبون ؛ لقوله : ( ^ قتل الخراصون ) أي : الكذابون .
____________________

( ^ الظن وإن هم إلا يخرصون ( 66 ) هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون ( 67 ) قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السموات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون ( 68 ) قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون ( 69 ) متاع في الدنيا ثم إلينا ) * * * * < < يونس : ( 67 ) هو الذي جعل . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه ) معناه معلوم . قوله : ( ^ والنهار مبصرا ) أي : مبصرا فيه . وقيل : معناه : والنهار ذا إبصار ، وهذا مثل قوله تعالى : ( ^ في عيشة راضية ) يعني : ذات رضا . وقوله : ( ^ إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون ) ظاهر المعنى . < < يونس : ( 68 ) قالوا اتخذ الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه ) فإن قال قائل : أيش الفرق بين اتخاذ الولد واتخاذ الخليل ؟
الجواب عنه : أن الحقيقة الخلة مقصورة على الله تعالى ؛ لأن الخلة : تصفية الود ، وهذا يجوز على الله تعالى . وأما حقيقة الولد : لا يجوز على الله تعالى ؛ فاتخاذه لا يجوز ، ولأنه إنما يتخذ الولد ليرثه ملكه أو ليسر به ، أو ليعنه على أمر ، أو ليخلفه في أموره ، والله تعالى منزه عن هذا كله ، ولا يجوز عليه ، فلم يجز اتخاذ الولد له .
وقوله تعالى : ( ^ هو الغني ) إشارة إلى ما قلنا من عدم الحاجة . وقوله : ( ^ له ما في السموات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا ) أي : من حجة بهذا ؟ .
وقوله : ( ^ أتقولون على الله ما لا تعلمون ) ظاهر المعنى . < < يونس : ( 69 ) قل إن الذين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون ) أي : لا ينجون . < < يونس : ( 70 ) متاع في الدنيا . . . . . > >
وقوله ( ^ متاع في الدنيا ) معناه : إن الذين يفترون على الله حاصلهم متاع في الدنيا .
وقوله : ( ^ ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون ) معناه معلوم .
____________________

( ^ مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون ( 70 ) واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون ) * * * * < < يونس : ( 71 ) واتل عليهم نبأ . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ واتل عليهم نبأ نوح ) معناه : واتل عليهم خبر نوح ( ^ إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري ) معناه : إن كان ثقل عليكم مقامي أي : طول مكثي فيكم وتذكيري ( ^ بآيات الله ) وتحذيري إياكم بآيات الله ( ^ فعلى الله توكلت ) قالوا هذا اعتراض في الكلام وفي المعنى . قوله : ( ^ فأجمعوا أمركم ) هو متصل بما سبق كأنه قال : إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فأجمعوا أمركم . وفي الشاذ : ' فاجمعوا أمركم ' قرأه عاصم الجحدري .
قوله : ( ^ فاجمعوا ) قال الفراء : فاعزموا على أمركم وادعوا ( ^ شركاءكم ) وقال الزجاج : فاجمعوا أمركم مع شركائكم ، إلا أنه لما ترك كلمة ' مع ' فانتصب ، قال الشاعر :
( يا ليت شعري والمنى لا تنفع ** حتى أرى أمري وأمري مجمع )
أي : معزم عليه . وقوله : ( ^ ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ) أي : ملتبسا ، ومنه الغمام ، والغم . وقوله تعالى : ( ^ ثم اقضوا إلي ) قرىء في الشاذ : ' ثم أفضوا إلي ' بالفاء ، والمعروف بالقاف . قال مجاهد معناه : ثم اعلموا ما في أنفسكم . وقيل معناه : توجهوا إليَّ بالقتل والمكروه ، وهذا على طريق التعجيز ، فإنه قال هذه المقالة وعجزوا عن إيصال مكروه إليه ، فهذا كان ( نوع ) معجزة له ، ومنهم من قال : قوله : ( ^ اقضوا إليَّ ) أي : ثم اقضوا ما أنتم قاضون ، واعملوا ما أنتم عاملون ، وهذا مثل قول السحرة : ( ^ فاقض ما أنت قاض ) ، معناه : فاعمل ما أنت عامل . وحقيقة
____________________

( ( 71 ) فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين ( 72 ) فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين ( 73 ) ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب ) * * * * القضاء : هو إحكام الأمر والفراغ عنه ، ومنه يقال للرجل إذا مات : قد قضى فلان ، أي : فرغ من أمره .
قوله تعالى : ( ^ ولا تنظرون ) أي : لا تمهلون . < < يونس : ( 72 ) فإن توليتم فما . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فإن توليتم فما سألتكم من أجر ) معناه : فإن أعرضتم فما سألتكم من ثواب على تبليغ الرسالة . قوله : ( ^ إن أجري إلا على الله ) أي : إن ثوابي إلا على الله ( ^ وأمرت أن أكون من المسلمين ) أي : من الموحدين . ومنهم من قال : معنى قوله : ( ^ من المسلمين ) أي : من المستسلمين لأمر الله . < < يونس : ( 73 ) فكذبوه فنجيناه ومن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك ) قال أهل التفسير : كان معه في الفلك ثمانون رجلا ، وكان أول من حمله : الذرة ، وآخر من حمله : الحمار ، وتعلق الشيطان بذنب الحمار ، وجعل يقول : نوح للحمار ، ادخل فلا يدخل حتى قال : ادخل يا شيطان فدخل وإبليس معه .
وقوله تعالى : ( ^ وجعلناهم خلائف ) أي : وجعلنا الذين معه في الفلك خلفاء القوم الذين أغرقناهم في دورهم ومساكنهم ومنازلهم . وقوله تعالى : ( ^ وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين ) الغرق : هلاك بالماء والغامر . ويقال : إن مدة الإغراق كانت أربعين يوما ، وكان من وقت إرسال الماء من السماء إلى أن ( نضب ) الماء ستة أشهر وعدة أيام . < < يونس : ( 74 ) ثم بعثنا من . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات ) يعني : من بعد نوح رسلا إلى قومهم ( ^ فجاءهم بالبينات ) أي : بالدلالات الواضحات ( ^ فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل ) أي : فما كانوا ليؤمنوا بما كذب به قوم نوح من
____________________

( ^ المعتدين ( 74 ) ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين ( 75 ) فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين ( 76 ) قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ولا يفلح الساحرون ( 77 ) قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين ( 78 ) وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم ( 79 ) فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون ( 80 ) فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن ) * * * * قبل ( ^ كذلك يطبع الله على قلوب المعتدين ) يعني : يختم على قلوب المعتدين . < < يونس : ( 75 ) ثم بعثنا من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين ) معناه ظاهر . والآية التي تليها كذا معلوم المعنى . < < يونس : ( 78 ) قالوا أجئتنا لتلفتنا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا ) معناه : لتصرفنا . وقال قتادة : لتلفتنا : لتلوينا ، وقاله ثعلب من المتأخرين . وقوله : ( ^ وتكون لكما الكبرياء في الأرض ) قال مجاهد : الكبرياء : الملك ؛ وإنما سمي الملك الكبرياء ؛ لأنه أكبر ما يطلب في الدنيا . وقيل : معنى الكبرياء : هو العظمة . وقيل : معناه : الغلبة .
قوله : ( ^ وما نحن لكما بمؤمنين ) أي : بمصدقين . < < يونس : ( 79 ) وقال فرعون ائتوني . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم ) في القصص : أنه جمع سبعين ألف ساحر . < < يونس : ( 80 ) فلما جاء السحرة . . . . . > >
وقوله : ( ^ فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون ) أي : اطرحوا ما أنتم طارحون . < < يونس : ( 81 ) فلما ألقوا قال . . . . . > >
وقوله : ( ^ فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر ) وقد بينا معنى السحر من قبل . ( ^ إن الله سيبطله ) أي : سيذهبه ( ^ إن الله لا يصلح عمل المفسدين ) معناه معلوم . وفي القصص أنهم كانوا سبعين ألفا ، مع كل واحد منهم حبل وعصا ، فألقوا تلك الحبال والعصي ، فجعلت تخيل في أعين الناس كأنها ثعابين وحيات .
____________________

( ^ الله لا يصلح عمل المفسدين ( 81 ) ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون ( 82 ) فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين ( 83 ) وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين ( 84 ) فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم ) * * * * < < يونس : ( 82 ) ويحق الله الحق . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ ويحق الله الحق بكلماته ) معناه : يعلي الله الحق بآياته ( ^ ولو كره المجرمون ) . < < يونس : ( 83 ) فما آمن لموسى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه ) معناه : فما آمن لموسى إلا قليل في قومه ، واختلفوا في الذرية هاهنا ، قال بعضهم : إنهم قوم كانت آباؤهم في القبط وأمهاتهم من بني إسرائيل . وقال بعضهم : إنهم قوم نجوا من قتل فرعون ، فإن فرعون لما أمر بقتل أبناء بني إسرائيل كانت المرأة من بني إسرائيل إذا ولد لها ابن سلمته إلى امرأة قبطية ، وتقول : وهبته لك خوفا عليه من القتل ، فنشأ أولئك الأولاد عند القبط ، وأسلموا في ذلك اليوم ، يعني : يوم السحرة الذين غلبوا . وقوله : ( ^ على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم ) قال بعض أهل المعاني : في الآية حذف ؛ كأنه قال : على خوف من آل فرعون وملئهم ، وهذا مثل ( قوله ) : ( ^ واسأل القرية ) أي : أهل القرية .
ومنهم من قال : لما ذكر فرعون دخل قومه معه كالرجل يقول : قدم الخليفة أو الأمير بكذا وكذا ، فضاقت المنازل على الناس ، معناه : قدم الخليفة ومن معه .
ثم قال : ( ^ أن يفتنهم ) معناه : أن يعذبهم . وقوله : ( ^ وإن فرعون لعال في الأرض ) أي : لطاغ في الأرض ( ^ وإنه لمن المسرفين ) معلوم . < < يونس : ( 84 ) وقال موسى يا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين ) التوكل : هو الثقة بالله والاعتماد عليه في الأمور . وقوله : ( ^ إن كنتم
____________________

( ^ الظالمين ( 85 ) ونجنا برحمتك من القوم الكافرين ( 86 ) وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين ( 87 ) وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن ) * * * * مسلمين ) أي : إذا كنتم مسلمين . < < يونس : ( 85 ) فقالوا على الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فقالوا على الله توكلنا ) أي : على الله اعتمدنا . وقوله : ( ^ ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ) فيه قولان :
أحدهما : لا تهلكنا بأيدي الظالمين فيفتتنوا أو يظنوا أنا لم نكن على الحق ، قاله أبو مجلز .
والثاني : لا تعذبنا بعذاب من عندك فيظنوا أنهم خير منا ، فيصير ذلك فتنة لهم < < يونس : ( 86 ) ونجنا برحمتك من . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ ونجنا برحمتك من القوم الكافرين ) ظاهر المعنى . < < يونس : ( 87 ) وأوحينا إلى موسى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا ) معنى قوله : ( ^ تبوءا ) اتخذا .
قال الشاعر :
( نحن بنو عدنان ليس شك ** تبوأ المجد بنا والملك )
وقوله ( ^ لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة ) ذكر أهل التفسير أن فرعون أمر بتخريب كنائس بني إسرائيل وبيعهم لما جاء موسى ودعاه إلى الله ، فأمرهم الله تعالى أن يأمرا بني إسرائيل أن يتخذوا في بيوتهم المساجد ، فهذا معنى قوله : ( ^ واجعلوا بيوتكم قبلة ) يعني : مسجدا .
وحكي عن ابن عباس أنه قال أمرهم الله تعالى أن يتوجهوا إلى الكعبة . ومنهم من قال : إنهم خافوا من إظهار الصلاة ، فأمرهم الله تعالى أن يقيموا الصلاة في البيوت . وقوله تعالى : ( ^ وبشر المؤمنين ) ظاهر المعنى . < < يونس : ( 88 ) وقال موسى ربنا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه ) الآية . قوله : ( ^ زينة
____________________

( ^ سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ( 88 ) قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون ( 89 ) ) * * * * وأموالا في الحياة الدنيا ) قيل في التفسير : إنه كان من فسطاط مصر إلى العريش إلى قريب من الحبشة معادن الذهب والفضة والياقوت والزبرجد ، فهذا معنى قوله : ( ^ زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ) قال أهل التفسير : هذه ' اللام ' لام الصيرورة ، ويقال : هي لام العاقبة ، وهذا كما قال الشاعر :
( وللموت ما تلد الوالدة ** )
فلما كانت عاقبة أمرهم الضلال والكفر قال : ليضلوا عن سبيلك ( ^ ربنا اطمس على أموالهم ) الطمس : تغيير صورة الشيء ، وقيل : هو الإنمحاء ، ودروس الأثر . قال قتادة : صارت أموالهم وحروثهم وزروعهم وجواهرهم حجارة كلها . وفي بعض الروايات : إن عبيدهم وإماءهم صاروا حجارة .
وقوله : ( ^ واشدد على قلوبهم ) قال مجاهد : بالضلالة . وقال السدي : أمتهم على الكفر .
وقوله : ( ^ فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ) قيل : هذا بمعنى الدعاء ( كأنه ) قال : فلا آمنوا حتى يروا العذاب الأليم . وقيل : معناه معنى الخبر . < < يونس : ( 89 ) قال قد أجيبت . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال قد أجيبت دعوتكما ) في القصص : أنه كان بين دعاء موسى وإجابته أربعون سنة ، وكذلك كان بين دعاء يعقوب وإجابته أربعون سنة . فإن قال قائل : إن الداعي كان موسى ، وقال : ( ^ قد أجيبت دعوتكما ) .
الجواب المروي : أن موسى كان يدعو وهارون يؤمن ، والتأمين : دعاء ؛ فإن معنى التأمين : اللهم استجب .
قوله : ( ^ فاستقيما ) يعني : على الطاعة والدين . وقوله : ( ^ ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون ) معلوم المعنى .
____________________

( ^ وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين ( 90 ) آلآن وقد ) * * * * < < يونس : ( 90 ) وجاوزنا ببني إسرائيل . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وجاوزنا ببني إسرائيل البحر ) الآية ، معناه : عبرنا ببني ببني إسرائيل البحر . وقوله : ( ^ فأتبعهم فرعون وجنوده ) قال الأصمعي : يقال : اتبعه إذا سار في أثره ، وأتبعه إذا أدركه ولحقه . وقوله : ( ^ بغيا وعدوا ) ظلما واعتداء ، قرىء : ' عدوا ' و ' عدوا ' والمعنى واحد .
وقوله : ( ^ حتى إذا أدركه الغرق ) يعني : حتى إذا غمره الماء وقرب هلاكه ( ^ قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت بن بنو إسرائيل ) ومعناه : آمنت بالإله الذي آمنت به بنو إسرائيل ( ^ وأنا من المسلمين ) . < < يونس : ( 91 ) آلآن وقد عصيت . . . . . > >
وقوله : ( ^ آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ) في القصص ' أن جبريل كان واقفا حين قال هذا القول ، فقال له : آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ، وقال له هذا القول بأمر الله تعالى ، آلآن وقد عصيت .
وروى يوسف بن مهران ، عن ابن عباس - رضي الله عنه - عن النبي ' أن جبريل - عليه السلام - قال : يا محمد ، لو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر ، وأدسه في فم فرعون خشية أن تدركه الرحمة ' . وفي رواية أخرى : ' أن جبريل قال : يا محمد ، ما أبغضت أحدا من خلق الله مثل ما أبغضت فرعون لما قال لقومه : ما علمت لكم من ، إله غيري ، فلما قال ما قال حين غرق فجعلت أدس الطين في فمه لئلا يقول
____________________


( ^ عصيت قبل وكنت من المفسدين ( 91 ) فاليوم تنجيك ببدنك لتكون لمن خلقك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون ( 92 ) ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ) * * * * لا إله إلا الله ' . وفي رواية : ' لئلا يثنى مخافة أن يغفر الله له ' .
قال أبو عيسى : والحديث صحيح في الجملة . < < يونس : ( 92 ) فاليوم ننجيك ببدنك . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ فاليوم ننجيك ببدنك ) في البر ، قرىء : ' ننحيك ببدنك ' بالحاء [ من التنحية ] ، والمعروف بالجيم أي : نلقيك على نجوة من الأرض . والنجوة : المكان المرتفع . في القصص : أن فرعون لما غرق قالت بنو إسرائيل : هو أجل من أن يغرق ، فلم يصدقوا موسى أنه قد غرق ، فأمر الله تعالى الماء حتى ألقاه على وجهه ؛ وهذا معنى قوله : ( ^ ننجيك ببدنك ) وقوله : ( ^ ببدنك ) فيه قولان :
أحدهما : بدرعك ، وكان له درع مشهور من اللؤلؤ مرصع من الجواهر ، فرأوه في درعه فصدقوا .
والقول الثاني : ببدنك يعني : بجسد لا روح فيه .
قوله : ( ^ لتكون لمن خلفك آية ) أي : عبرة . وقوله : ( ^ وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون ) ظاهر المعنى . < < يونس : ( 93 ) ولقد بوأنا بني . . . . . > >
وقوله تعالى ( ^ ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ) أي : أنزلنا بني إسرائيل مبوأ صدق أي : أنزلنا بني إسرائيل منازل صدق . وقيل : إن تلك المنازل هي مصر . وقيل : إنها الشام . وقوله : ( ^ مبوأ صدق ) يعني : بصدقهم وإيمانهم . وقوله : ( ^ ورزقناهم من الطيبات ) معلوم . وقوله : ( ^ فما اختلفوا حتى جاءهم العلم ) يعني : التوراة ، فإنهم اختلفوا بعد نزول التوراة وذهاب موسى اختلافا شديدا . ثم قال : ( ^ إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ) ظاهر المعنى .
____________________


( ^ ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ( 93 ) فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسئل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ( 94 ) ولا تكونن ) * * * * < < يونس : ( 94 ) فإن كنت في . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك ) في الآية سؤال معروف ، وهو : أنه قال : ( ^ فإن كنت في شك ) كيف يجوز أن يكون الرسول في الشك حتى يقول له : فإن كنت في شك ؟ .
الجواب من وجوه : أحدها : أن الخطاب معه والمراد منه قومه ، وهذا مثل قوله تعالى : ( ^ يا أيها النبي إذا طلقتم النساء ) وأمثالها كثيرة .
وقال بعضهم : تقديره : فإن كنت في شك أيها الشاك فأسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك .
والوجه الثاني : أن معنى الآية : ما كنت في شك .
وقوله : ( ^ فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك ) زيادة تثبيت ؛ والذين يقرءون الكتاب : هم الذين أسلموا من اليهود ، مثل عبد الله بن سلام ، وابن يامين وغيرهما .
والوجه الثالث : هذا على عادة كلام العربي ، فإن الرجل يقول لابنه : افعل كذا إن كنت ابني ، ولا يكون هذا على الشك ، وكذا يقول لغلامه : أطعمني إن كنت عبدي ، ولا يكون على الشك .ٍ
وقوله : ( ^ فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك ) فقال : مرهم ( ^ فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ) من الشاكين ، ومعناه : دم على اليقين الذي أنت عليه .
الوجه الأول اختيار الزجاج وغيره من أهل المعاني . < < يونس : ( 95 ) ولا تكونن من . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله ) إلى آخر الآية ظاهر
____________________

( ^ من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين ( 95 ) إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون ( 96 ) ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم ( 97 ) فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة ) * * * * المعنى . < < يونس : ( 96 - 97 ) إن الذين حقت . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن الذين حقت عليهم كلمة ربك ) معناه : وجب عليهم عذاب ربك .
ويقال : معنى الكلمة : هو قوله تعالى : ' هؤلاء في الجنة ولا أبالي ، وهؤلاء في النار ولا أبالي ' كما روي في الأخبار .
وقوله : ( ^ لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم ) يعني : الإيمان عن البأس . < < يونس : ( 98 ) فلولا كانت قرية . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس ) معناه : فلم تكن قرية آمنت - أي أهل قرية آمنت - فنفعهم إيمانهم إلا قوم يونس ، وهذا الإيمان هو عند نزول العذاب . والمنقول في القصص : أن يونس - صلوات الله عليه - أنذر قومه بالعذاب وخرج من بينهم ، فلما رأوا العذاب شبه النيران في السماء خرجوا من بلدهم إلى الصحراء ، وفرقوا بين الأولاد والأمهات والبهائم والأجنة ، وضجوا إلى الله تعالى ضجة واحدة ، فكشف الله عنهم العذاب بعد أن رأوه عيانا ، ولم يفعل هذا بأحد غيرهم ، فهذا معنى قوله تعالى : ( ^ إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين ) أي : إلى أجل معلوم .
وفي بعض التفاسير : أن الدعاء الذي دعا به قوم يونس هو : يا حي حين لا حي ، يا حي يا محيي الموتى ، يا حي لا إله إلا أنت .
____________________


( ^ الدنيا ومتعناهم إلى حين ( 98 ) ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ( 99 ) وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل ) * * * *
واختلف القول في أنهم هل رأوا العذاب عيانا أو رأوا دليل العذاب ؟ فالأكثرون على أنهم رأوا العذاب عيانا . قال قتادة : تدنى عليهم العذاب حتى صار بينهم وبين العذاب قدر ميل . وقال بعضهم : رأوا دليل العذاب ، ولم يروا عين العذاب .
والقول الأول أصح ؛ بدليل قوله : ( ^ كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ) والكشف إنما يكون بعد وقوع العذاب أو قرب العذاب . فإن قال قائل : كيف قبل إيمانهم عند المعاينة ، ولم يقبل إيمان غيرهم ، وقد قال في موضع آخر : ( ^ يؤمنون بالغيب ) دل أن الإيمان المقبول هو الإيمان بالغيب ؟
الجواب : أن قوم يونس استثنوا من هذا الأصل بنص القرآن ، والله تعالى يفعل ما يشاء ولا سؤال عليه فيما يفعل . وزعم الخليل وسيبويه : أن الاستثناء هاهنا منقطع ، ومعنى الآية : لكن قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا .
وعن علي - رضي الله عنه - قال : الحذر لا يرد القدر ، والدعاء يرد القدر ؛ فإن الله تعالى كشف العذاب عن قوم يونس بالدعاء . وعن علي - أيضا - أنه قال : كان كشف العذاب يوم عاشوراء .
وقيل في تقدير ابتداء الآية : ' فهلا ' كانت قرية آمنت حين ينفعها إيمانها ؛ لكن قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم العذاب ، ومعنى قرية : أهل قرية . وقيل : اسم تلك القرية كان نينوى ، من بلاد الجزيرة . < < يونس : ( 99 ) ولو شاء ربك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا ) في الآية رد على القدرية ؛ فإنه تعالى أخبر أنه لم يشأ إيمان جميع الناس ، وعندهم أنه شاء إيمان جميع الناس . وقوله : ( ^ أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) هذا تسلية للنبي
____________________

( ^ الرجس على الذين لا يعقلون ( 100 ) قل انظروا ماذا في السموات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ( 101 ) فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين ( 102 ) ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقا ) * * * * أنى لو أردت لأكرهتهم على الإيمان ، ولم أرد ، فلا ترد أنت - أيضا - أن تكرههم على الإيمان . < < يونس : ( 100 ) وما كان لنفس . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ) قال عطاء : إلا بتوفيق الله . وقال غيره : إلا بعلم الله . وقيل : إلا بإطلاق الله ذلك بدفع الموانع ، وهذا مثل قوله تعالى : ( ^ وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله ) منهم من قال : ' بإذن الله ' أي : بقضائه وتقديره وحكمه ، والمعاني كلها صحيحة . وقوله تعالى : ( ^ ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون ) قال الفراء : الرجس بمعنى الرجز ، والرجز هو العذاب . وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - إن الرجس هو السخط . وقيل : إنه الإثم . وقيل : إنه الهلاك . وأما قوله : ( ^ على الذين لا يعقلون ) معناه : لا يؤمنون . وقيل : معنى قوله : ( ^ لا يعقلون ) أي : لا يعقلون عن الله أمره ونهيه . < < يونس : ( 101 ) قل انظروا ماذا . . . . . > >
قوله : ( ^ قل انظروا ماذا في السموات والأرض ) معناه : قل انظروا ماذا في السموات والأرض من الدلائل والعبر والحجج . وقوله : ( ^ وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ) هذا في قوم بأعيانهم علم الله تعالى أنهم لا يؤمنون وإن نظروا في الآيات . < < يونس : ( 102 ) فهل ينتظرون إلا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم ) الانتظار هو الثبات لتوقع أمر . وقوله : ( ^ إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم ) يعني : مثل أيام الهلاك في الذين خلوا من قبلهم من الأمم المكذبة . قوله : ( ^ قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين ) ظاهر المعنى . < < يونس : ( 103 ) ثم ننجي رسلنا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا ) قوله : ' ننجي ' مستقبل بمعنى
____________________

( ^ علينا ننج المؤمنين ( 103 ) قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم وأمرت أن أكون من المؤمنين ( 104 ) وأن أقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من المشركين ( 105 ) ولا تدع من دون ) * * * * الماضي ، ومعناه : أنجينا رسلنا والذين آمنوا . قوله ( ^ كذلك حقا علينا ننجي المؤمنين ) يعني : محمدا وأصحابه . < < يونس : ( 104 ) قل يا أيها . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني ) فإن قال قائل : كيف قال : إن كنتم في شك من ديني ، وهم كانوا يعتقدون بطلان ما جاء به على بصيرة ؟
الجواب : أنه قد كان فيهم قوم شاكوك ، فالمراد من الآية أولئك القوم .
والثاني : أنهم لما رأوا الآيات اضطربوا وشكوا في أمرهم وأمر النبي .
قوله : ( ^ فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم ) ظاهر المعنى . فإن قال قائل : ما معنى قوله : ( ^ إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ) وهو لا يعبد الذين من دون الله شكوا أو لم يشكوا ؟ وما معنى قوله : ( ^ ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم ) ولأي شيء خص الوفاة بالذكر ؟
الجواب : أما الأول معناه : إن كنتم في شك فلست في شك ، ولا أعبد إلا الله على يقين وبصيرة . وأما ذكر الوفاة في قوله : ' يتوفاكم ' بمعنى التهديد ، فإن العذاب يقع على الكافر حتى تدركه الوفاة .
( ^ وأمرت أن أكون من المؤمنين ) أي : من المخلصين . < < يونس : ( 105 ) وأن أقم وجهك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وأن أقم وجهك للدين حنيفا ) معناه : وأمرت أن أستقيم لله على الدين مخلصا . ويقال معناه : واستقم على الدين الذي أمرت به بوجهك . قوله تعالى : ( ^ حنيفا ) قد بينا من قبل ، ويقال : إن الآية في التوجه إلى القبلة ، وهي الكعبة ؛ وهي في معنى قوله تعالى : ( ^ فول وجهك شطر المسجد الحرام ) . وقوله : ( ^ ولا تكونن من المشركين ) ظاهر المعنى .
____________________


( ^ الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين ( 106 ) وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم ( 107 ) قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل ( 108 ) واتبع ما يوحى ) * * * * < < يونس : ( 106 ) ولا تدع من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك ) الدعاء يكون بمعنيين : أحدهما : بمعنى النداء ، كقولك : يا زيد ، ويا عمرو ، والآخر : بمعنى الطلب .
وقوله : ( ^ ما لا ينفعك ولا يضرك ) معناه : لا ينفعك إن دعوته ، ولا يضرك إن تركت دعاءه . وقوله : ( ^ فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين ) يعني : ممن وضع الدعاء في غير موضعه . < < يونس : ( 107 ) وإن يمسسك الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو ) معناه : إن يصبك الله بضر ، والضر : هو الخوف والمرض والجوع ونحوه .
وقوله : ( ^ فلا كاشف له إلا هو ) أي : لا كاشف لذلك الضر إلا الله .
وقوله : ( ^ وإن يرك بخير ) أي : يصبك بخير ، والخير : هو الخصب والسعة والعافية ونحوه .
وقوله : ( ^ فلا راد لفضله ) أي : لا مانع لفضله .
قوله : ( ^ يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم ) ظاهر المعنى . < < يونس : ( 108 ) قل يا أيها . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم ) الحق هاهنا : هو ما ينجو به الإنسان ، وضده : الباطل ، وهو الذي يهلك به الإنسان . وقيل : معناه : الإسلام . وقيل : معناه : القرآن . وقوله : ( ^ فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ) ' يعني ' : يحتاط لنفسه . ( ^ ومن ضل فإنما يضل عليها ) يعني : من كفر وترك الإيمان ؛ فإنما وباله وضلاله عليه .
قوله : ( ^ وما أنا عليكم بوكيل ) أي : بمسلط ، ومعناه : أنكم تسألون عن
____________________


( ^ إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين ( 109 ) ) * * * * أعمالكم ولا أسأل أنا عن أعمالكم ، كما يسأل من وكل بالشيء . < < يونس : ( 109 ) واتبع ما يوحى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ واتبع ما يوحي إليك ) الوحي : إلقاء الشيء في قلب الإنسان على الخفية . وقوله : ( ^ واصبر ) الصبر : تجرع المرارة بالامتناع عن الشيء المشتهى لتوقع المحبوب في العاقبة ، ومما يعين الإنسان على الصبر علمه بحقيقة الأمر ، وما ينال من الثواب ، والثقة بموعود الله تعالى . وقوله ( ^ حتى يحكم الله ) أي : حتى يقضي الله ( ^ وهو خير الحاكمين ) أي : خير القاضين .
____________________

<
> بسم الله الرحمن الرحيم <
>
( ^ آلر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ( 1 ) ألا تعبدوا إلا الله ) * * * * <
> تفسير سورة هود <
>
سورة هود مكية ، إلا قوله تعالى : ( ^ وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل ) إلى آخر الآية ؛ فإنها مدنية . < < هود : ( 1 ) الر كتاب أحكمت . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ الر ) معناه : أنا الله أرى . وقوله : ( ^ كتاب ) أي : هذا كتاب .
وقوله : ( ^ أحكمت آياته ) فيه أقوال :
قال قتادة : معناه : أحكمها الله فليس فيها اختلاف ولا تناقض .
والثاني : أن معنى قوله : ( أحكمت آياته ) يعني : هي محكمة غير منسوخة .
والثالث : ( ^ أحكمت أياته ) يعني : بالأمر والنهي ، والحلال والحرام .
وقوله : ( ^ ثم فصلت ) فيه أقوال : أحدها : ثم فصلت بالوعد والوعيد . وقال مجاهد : فصلت أي : فسرت وبينت . والثالث : ثم فصلت أي : أنزلها الله شيئا فشيئا .
وقيل : أحكمت آياته للمعتبرين ، ثم فصلت أحكامه للمتقين .
وقيل : أحكمت آياته للقلوب ، ثم فصلت أحكامه على الأبدان .
وقرئ في الشاذ : ' ثم فصلت ' ومعناه : أنها جاءت .
( ^ من لدن حكيم خبير ) أي : من عند حكيم خبير . < < هود : ( 2 ) ألا تعبدوا إلا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ألا تعبدوا إلا الله ) فيه قولان :
أحدهما : بأن لا تعبدوا إلا الله .
والقول الثاني : أمركم أن لا تعبدوا إلا الله .
وقوله : ( ^ إنني لكم منه نذير وبشير ) معناه : نذير للعاصين ، وبشير للمطيعين .
____________________


( ^ إنني لكم منه نذير وبشير ( 2 ) وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا ) * * * * < < هود : ( 3 ) وأن استغفروا ربكم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ) قال أهل المعاني : إنما قدم المغفرة على التوبة ؛ لأنها هي المطلوبة بالتوبة .
وفي بعض الأخبار : ' ما أصر من استغفر وإن عاد سبعين مرة ' . وفي بعض الأخبار : ' لا صغيرة مع الإصرار ، ولا كبيرة مع الاستغفار ' .
وفي الآية قول آخر : أن معنى قوله : ( ^ وأن استغفروا ربكم ) يعني : في الماضي ( ^ ثم توبوا إليه ) يعني : في المستأنف .
قوله : ( ^ يمتعكم متاعا حسنا ) معناه : يعيشكم عيشا حسنا . وقيل : يعمركم عمرا حسنا . وأما العيش الحسن : قال بعضهم : هو الرضا بالميسور ، والصبر على ( المقدر ) . وقيل : العيش الحسن : هو طيب النفس وسعة الرزق . ويقال : العيش الحسن : هو الكفاية بالحلال . وقوله ( ^ إلى أجل مسمى ) أي : إلى حين الموت .
وقوله : ( ^ ويؤت كل ذي فضل فضله ) فيه قولان :
____________________


( ^ إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير ( 3 ) إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير ( 4 ) ألا إنهم يثنون صدورهم ) * * * *
أحدهما : أن معناه يؤت كل ذي عمل حسن في الدنيا ثوابه في الآخرة .
والقول الثاني : أن قوله : ( ^ يؤت كل ذي فضل فضله ) يعني : من عمل لله تعالى وفقه الله تعالى فيما يستقبل على طاعته ويهديه إليها .
وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال : كل ما يحتسب الإنسان فيه من قول أو عمل هو داخل فيها ، حتى الكلمة الواحدة يقولها .
قوله : ( وإن تولوا ) أي : فإن أعرضوا . قوله : ( ^ فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير ) أي : يوم القيامة . < < هود : ( 4 ) إلى الله مرجعكم . . . . . > >
ثم قال الله تعالى : ( ^ إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير ) ظاهر المعنى . < < هود : ( 5 ) ألا إنهم يثنون . . . . . > >
قوله تعالى ( ^ ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ) الآية ، قال عبد الله بن شداد : كان الرجل الكافر يمر بالنبي فيثني صدره ، ويستغشي بثوبه بغضا للنبي حتى لا يراه النبي ولا يرى هو النبي . وعن بعضهم : أن الرجل من الكفار كان يدخل بيته ويرخي ستره ، ويتغشى بثوبه ويحني ظهره ويقول : هل يعلم الله ما في قلبي ؟ وعن أبي رزين قريبا من القول الأول ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
ومعنى قوله : ( ^ يثنون صدورهم ) أي : يعطفون ويطوون ، ومنه ثني الثوب ، قال الشاعر في التغشي :
( أرعى النجوم ولم أؤمر برعيتها ** وتارة أتغشى فضل أطمار )
وقوله : ( ^ ليستخفوا منه ) أي : ليستخفوا من الله تعالى . وقيل : ليستخفوا من النبي . وفي الشاذ أن ابن عباس - رضي الله عنهما - قرأ : ' ألا إنهم يثنوني صدورهم ' على وزن يفعوعل ، وكما يقال : يحلولي .
( ^ ألا حين يستغشون ثيابهم ) يعني : يتغشون بثيابهم . قوله تعالى : ( ^ يعلم ما
____________________


( ^ ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثبابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور ( 5 ) وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين ( 6 ) وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه ) * * * * يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور ) قال الأزهري وغيره : معنى الآية من أولها إلى آخرها : إن الذين أضمروا عداوة النبي لا يخفى علينا حالهم . وفي بعض التفاسير : أن رجلا كان يبطن عداوة النبي وكان يختلف إليه ويظهر المحبة له ، فأنزل الله تعالى فيه هذه الآية . < < هود : ( 6 ) وما من دابة . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ) الآية . الدابة : كل ما يدب على الأرض من الحيوانات . وقوله : ( ^ إلا على الله رزقها ) أي : إن الله يسبب ويسهل رزقها .
قال أهل المعاني : هذا على المشيئة ، لأنه قد يرزق وقد لا يرزق . وقوله : ( ^ ويعلم مستقرها ومستودعها ) في الآية أقوال :
روى مقسم عن ابن عباس أنه قال : المستقر : هو المكان الذي يأوي إليه ، والمستودع : هو المكان الذي يدفن فيه .
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال : المستقر : هو أرحام الأمهات ، والمستودع : هو الموضع الذي يدفن فيه .
وقال بعضهم : المستقر : هو الذي يستقر عليه عمله ، والمستودع : هو الذي يصير إليه أمره في العاقبة .
ويقال : المستقر : أرحام الأمهات ، والمستودع : هو أصلاب الآباء . وهذا مروي عن ابن عباس أيضا .
وقوله : ( ^ كل في كتاب مبين ) في اللوح المحفوظ . < < هود : ( 7 ) وهو الذي خلق . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ) قد بينا من قبل .
____________________


( ^ على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ( 7 ) ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحسه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون ) * * * *
وقوله : ( ^ وكان عرشه على الماء ) قال ابن عباس : كان العرش على الماء ، والماء على متن الريح ، أي : صلب الريح . وروى يزيد بن هارون ، عن حماد بن سلمة ، عن وكيع ابن حدس ، عن أبي رزين العقيلي أنه قال : ' يا رسول الله ، أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه ؟ قال : في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء ، وكان عرشه على الماء ' . قال يزيد بن هارون : معنى قوله : ' في عماء ' أي : ليس معه غيره . أورده ابو عيسى في كتابه على هذا الوجه .
قوله : ( ^ ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) معناه : ليختبركم أيكم أعمل بطاعة الله تعالى ، وأسرع إلى طلب مرضات الله ، وأورع عن محارم الله ، ومعناه : الابتلاء من الله وقد بينا من قبل .
وقوله : ( ^ ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ) أي : إلا خدع ظاهر . < < هود : ( 8 ) ولئن أخرنا عنهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ) معناه : إلى أجل معدودة . قوله : ( ^ ليقولن ما يحبسه ) معناه : ليقولن الذين كفروا : أي شيء يحبسه ؟ يعني : العذاب . وقوله : ( ^ ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم ) معناه : ألا يوم يأتيهم العذاب لا يكون العذاب مصروفا عنهم .
وقوله ( ^ وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون ) معناه : ونزل بهم جزاء استهزائهم . < < هود : ( 9 ) ولئن أذقنا الإنسان . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ) الرحمة هاهنا : هي سعة الرزق .
____________________


( ( 8 ) ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور ( 9 ) ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور ( 10 ) إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير ( 11 ) فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت ) * * * *
وقوله : ( ^ ثم نزعناها منه ) يعني أخذناها منه ، قوله : ( ^ إنه ليئوس كفور ) أي : قنوط من رحمة الله تعالى ، كفور بنعمة الله . < < هود : ( 10 ) ولئن أذقناه نعماء . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني ) يعني : يقول الإنسان : ذهب السيئات عني باستحقاقي لذلك ، ولا يراه من الله تعالى .
وقوله : ( ^ إنه لفرح فخور ) الفرح : لذة في القلب بنيل المشتهى ، والفخر : هو التطاول على الناس بتعديد المناقب ، وهو منهي عنه في القرآن في مواضغ كثيرة . < < هود : ( 11 ) إلا الذين صبروا . . . . . > >
وقوله : ( ^ إلا الذين صبروا ) قال الفراء والزجاج : هذا استثناء منقطع ، ومعناه . ولكن الذين صبروا ( ^ وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير ) معناه ظاهر . < < هود : ( 12 ) فلعلك تارك بعض . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك ) قال أهل التفسير : سبب نزول الآية : أن الكفار لما قالوا : يا محمد ، أئت بقرآن غير هذا أو بدله ، يعنون : ائت بقرآن ليس فيه سب آلهتنا - على ما ذكرنا في سورة يونس - همّ النبي أن يدع سب آلهتهم ظاهرا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية : ( ^ فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك ) يعني : سب الآلهة ظاهرا ( ^ وضائق به صدرك ) يعني : ولعلك يضيق صدرك ( ^ أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك ) أي : هلاّ أنزل عليه كنز أوجاء معه ملك . وقوله : ( ^ إنما أنت نذير ) معناه : إن عليك الإنذار والإبلاغ ، وليس عليك أن تأتي بالآيات التي يقترحونها .
وقوله ( ^ والله على كل شيء وكيل ) أي : حافظ . < < هود : ( 13 ) أم يقولون افتراه . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ أم يقولون افتراه ) معناه : بل يقولون : افتراه ، وافتراه : اختلقه ( ^ قل
____________________


( ^ نذير والله على كل شيء وكيل ( 12 ) أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ( 13 ) فإن لم يستجيبوا ) * * * * فأتوا بعشر سور مثله مفتريات ) ومعني مثله : أي : مثله في البلاغة .
قال علي بن عيسى النحوي : البلاغة على ثلاث مراتب : المرتبة العليا : معجزة ، والوسطى والأدنى ممكنه . والقرآن في المرتبة العليا من البلاغة .
فإن قيل : قد قال في سورة يونس : ( ^ فأتوا بسورة مثله ) وقد عجزوا عن أن يأتوا بسورة ، فكيف يصح أن يقول لهم ( ^ فأتوا بعشر سور مثله ) ، وما هذا إلا كرجل يقول لغيره : أعطني درهما ، فيعجز عنه فيقول : أعطني عشرة دراهم ، وأيضا فإنه قال : ( ^ مفتريات ) وهل يجوز أن يأمر الله تعالى أن يأتوا بالافتراء ؟
الجواب عنه : عنه منهم من قال : إن سورة هود نزلت أولا وإن كانت في الترتيب آخرا ، وأنكر المبرد هذا ، وقال : لا ، بل نزلت سورة يونس أولا . وأجاب عن السؤال وقال : معنى قوله : ( ^ فأتوا بسورة مثله ) في سورة يونس يعني مثله في الخبر عن الغيب والأحكام . والوعد والوعيد ، فعجزوا ، فقال لهم في سورة هود : إن عجزتم عن الإتيان بسورة مثل القرآن في أخباره وأحكامه ووعده ووعيده ، فأتوا بعشر سور مثله مفتريات يعني : مختلقات من غير خبر عن غيب ولا حكم ولا وعد ولا وعيد ، وإنما هي مجرد البلاغة . وهذا جواب صحيح .
وأما السؤال الثاني فالجواب : قلنا : الله سبحانه وتعالى لم يأمرهم بالإفتراء ، وإنما تحدى ، ومعناه : أن إصراركم في تكذيب محمد وزعمكم أنه افترى القرآن يوجب عليكم أن تأتوا بمثله افتراء ، ليظهر كذب محمد كما زعمتموه ، فلما عجزتم دل أنه صادق .
وقوله : ( ^ وادعوا من استطعتم من دون الله ) معناه : واستعينوا بمن استطعتم من دون الله ( ^ إن كنتم صادقين ) .
____________________


( ^ لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون ( 14 ) من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون ( 15 ) أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون ( 16 ) أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولئك ) * * * * < < هود : ( 14 ) فإن لم يستجيبوا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله ) يجوز أن يكون قوله : ( ^ فاعلموا ) خطاب للمؤمنين ، ويجوز أن يكون خطابا للمشركين . وقوله ( ^ بعلم الله ) بمعنى أنزله وفيه علمه ، وهذا رد على المعتزلة حيث قالوا : لا علم لله .
وقوله : ( ^ وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون ) يعني : فاعلموا أن لا إله إلا هو ، فهل أنتم مسلمون ؟ أي : مخلصون . < < هود : ( 15 ) من كان يريد . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها ) قال الضحاك : نزلت الآية في المشركين . وقال مجاهد وجماعة : نزلت الآية في كل من عمل عملا وأراد به غير الله . وقوله : ( ^ نوف إليهم أعمالهم فيها ) يعني : نجازيهم على أعمالهم في الدنيا ، وذلك بسعة الرزق ودفع المكاره وما أشبه ذلك . وقوله : ( ^ وهم فيها لا يبخسون ) فيها أي : في الدنيا ، لا يبخسون يعني : لا ينقص حظهم . ثم قال : < < هود : ( 16 ) أولئك الذين ليس . . . . . > > ( ^ أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها ) وبطل ما صنعوا فيها . وقوله : ( ^ وباطل ما كانوا يعملون ) أي : وما حق ما كانوا يعملون . < < هود : ( 17 ) أفمن كان على . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ أفمن كان على بينة من ربه ) في الآية حذف ، ومعناه : أفمن كان على بينة من ربه كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها . وعامة أهل التفسير على أن المراد به النبي ، وقيل : إن المراد منه : النبي وكل مؤمن في العالم . والأول هو الصحيح .
وقوله : ( ^ على بينة من ربه ) أي : على بيان من ربه . وقوله ( ^ ويتلوه شاهد منه ) فيه أقوال :
الأول : عليه أكثر أهل التفسير : أن المراد منه : جبريل - عليه السلام - وهذا قول
____________________

ابن عباس ، ومجاهد ، ومنصور بن المعتمر تلميذ النخعي ، والنخعي ، وغيرهم .
والقول الثاني : أن قوله : ( ^ ويتلوه شاهد منه ) يعني : لسان محمد . حكى هذا عن الحسن البصري ، ورواه بعضهم عن [ الحسين ] بن علي رضي الله عنهما .
والثالث : أن قوله ( ^ ويتلوه شاهد منه ) هو علي - رضي الله عنه - روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال : ما من قرشي إلا ونزلت فيه آية من القرآن ، فقيل له : وهل نزل فيك شيء ؟ فقال : ( ^ وتيلوه شاهد منه ) .
والرابع : ( ^ ويتلوه شاهد منه ) ملك من الملائكة نزل يحفظه ويسدده ويشهد له .
وقيل : إن قوله : ( ^ شاهد منه ) هو الإنجيل ، ومعناه : يتبعه مصدقا له ، يعني : وهو مصدقه . وقوله : ( ^ ومن قبله كتاب موسى إماما ) أراد به : التوراة ، وقوله ( ^ إماما ورحمة ) يعني : كانت إماما ورحمة لمن اتبعها ، وهي مصدقة للقرآن ، شاهدة للنبي . وقوله : ( ^ أولئك يؤمنون به ) قال بعضهم : أراد به المهاجرين والأنصار . وقال بعضهم : أراد به الذين أسلموا من أهل الكتاب . وقوله : ( ^ ومن يكفر به ) يعني : بالرسول ( ^ من الأخزاب ) وهم تحزبوا على النبي أي : تفرقوا من قبائلهم واجتمعوا عليه من قريش وغيرهم . وفي بعض التفاسير : أنهم بنو أمية وبنو المغيرة وبنوأبي طلحة بن عبد العزى ، والمراد هو : الكفار منهم دون المسلمين .
والقول الثاني في الآية : أن الأحزاب أهل الملل كلها . روى أبو موس الأشعري - رضي الله عنه - أن النبي قال : ' ما من أحد يسمع بي فلا يؤمن إلا أدخله الله النار ' . قال سعيد بن جبير : طلبت مصداق هذا من القرآن فوجدته في قوله تعالى ( ^ ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ) .
____________________


( ^ يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ( 17 ) ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين ( 18 ) الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون ) * * * *
وقوله : ( ^ فلا تك في مرية منه ) يعني : فلا تك في شك منه . وقيل معناه : فلا تك في شيء منه أيها الشاك . قوله : ( ^ إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ) ظاهر المعنى . < < هود : ( 18 ) ومن أظلم ممن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته ) معناه : لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا . ثم قال : ( ^ أولئك يعرضون على ربهم ) العرض : هو إظهار الشيء ليرى ويوقف على حاله ، ومنه قولهم : عرض السلطان الجند . وقوله : ( ^ ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ) اختلف القول في الأشهاد ، روي عن ابن عباس أنه قال : هم الأنبياء والمرسلون . وقال مجاهد : هم الملائكة . وقال بعضهم : الخلائق كلهم . وقوله : ( ^ هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين ) ظاهر المعنى .
وروى ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي قال : ' يدنى المؤمن ربه يوم القيامة حتى يضع كنفه عليه ، فيقرره بذنوبه ويقول : هل تعرف كذا ؟ فيقول : أعرف . هل تعرف كذا ؟ فيقول : أعرف . فيسأله ما سأله ، ثم يقول : سترته عليك في الدنيا ، وأنا أغفره لك اليوم ، ثم يعطى كتابه بيمينه ، وأما الكفار فينادى على رءوس الأشهاد : هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ، ألا لعنة الله على الظالمين ' .
وهذا الحديث هو حديث النجوى ، اتفقوا على صحته عن النبي . < < هود : ( 19 ) الذين يصدون عن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ الذين يصدون عن سبيل الله ) معناه : الذين يمنعون عن دين الله .
وقوله : ( ^ ويبغونها عوجا ) يعني : ويطلبون الأعوجاج في دين الله . وقوله ( ^ وهم
____________________


( ( 19 ) أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض وما كان لهم من دون الله من أولياء يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ( 20 ) أولئك ) * * * * بالآخرة هم كافرون ) قال ثعلب : تكرير ' هم ' على طريق التأكيد لدخول الآخرة بينهما . < < هود : ( 20 ) أولئك لم يكونوا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض ) معناه : أولئك لم يكونوا فائتين ، وقيل : أولئك لم يكونوا هاربين من عذابنا ؛ فإن من هرب عن الشيء وقع العجز عنه . وقوله : ( ^ وما كان لهم من دون الله من أولياء ) يعني : من ناصرين وحافظين عن عذابنا . وقوله : ( ^ يضاعف لهم العذاب ) فإن قيل : ما معنى تضعيف العذاب وقد قال في موضع آخر : ( ^ ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها ) ؟
الجواب من وجهين :
أحدهما : أن مضاعفة العذاب بمضاعفة الجرم .
والآخر : أن الآية في رؤساء أهل الشرك ، وتضعيف العذاب عليهم بتضليل الإتباع ودعائهم إياهم إلى شركهم .
وقوله : ( ^ ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ) قال ابن عباس : حال الله بينهم وبين اإيمان . وذكر الفراء عن بعض أهل المعاني : أن معنى الآية : يضاعف لهم العذاب بما كانوا يستطيعون السمع فلا يستمعون .
وسائر النحاة أنكروا تقدير ' الباء ' هاهنا . والاستطاعة : قوة تنطاع بها الجوارح للعمل .
وفي الآية قول ثالث : وهو أنهم لما يسمعوا استماع ( التفهم ) والانتفاع به ، ولم يبصروا بصر الحقيقة ؛ جعلهم كمن لا يستطيع السمع والبصر . < < هود : ( 21 ) أولئك الذين خسروا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ أولئك الذين خسروا أنفسهم ) معناه : غبنوا أنفسهم . وقيل إن
____________________


( ^ الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون ( 21 ) لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون ( 22 ) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ( 23 ) مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل ) * * * * أعظم الخسران ، خسران النفس ، وأعظم الربح : ربح النفس . وقوله : ( ^ وضل عنهم ما كانوا يفترون ) يعني : فات عنهم ما كانوا يزعمون من شفاعة الملائكة والأصنام . < < هود : ( 22 ) لا جرم أنهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ لا جرم ) فيه قولان :
أحدهما : لاجرم يعني : حقا ( ^ أنهم في الآخرة هم الأخسرون )
والقول الثاني : أن قوله : ( ^ لا ) رد لما قالوا ، وقوله : ( ^ جرم ) ابتداء كلام ، وجرم بمعنى : كسب ، قال الشاعر :
( ولقد طعنت أبا عيينة طعنة ** جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا )
يعني : كسبتهم الغضب . وقال آخر :
( نصبنا رأسه في رأس جذع ** بما جرمت يداه وما اعتدينا . )
فمعنى الآية : جرم أي : كسب لهم كفرهم التباب والخسران . < < هود : ( 23 ) إن الذين آمنوا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم ) قال مجاهد : يعني : خشعوا . وقال بعضهم : اطمأنوا . وروي عن ابن عباس : خافوا . وقوله : ( ^ إلى ربهم ) أي : لربهم ، مثل قوله تعالى ( ^ بأن ربك أوحى لها ) أي : إليها ، فكذلك هاهنا : إلى ربهم .
وقوله : ( ^ أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ) ظاهر المعنى . < < هود : ( 24 ) مثل الفريقين كالأعمى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع ) الآية ، الفريقان هاهنا : فريق الكفار ، وفريق المؤمنين . وقوله : ( ^ كالأعمى والأصم ) فيه قولان :
أحدهما : أن ' الواو ' صلة ، ومعناه : كالأعمى الأصم ، كما يقول القائل : رأيت العاقل والظريف أي : رأيت العاقل الظريف .
____________________


( ^ يستويان مثلا أفلا تذكرون ( 24 ) ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير جين ( 25 ) أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم ( 26 ) فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما ) * * * *
والقول الثاني : أن ' الواو ' لتعميم التشبيه ، ومعناه : حال الكافر كحال الأعمى ، وحاله كحال الأصم ، وحاله كحال الأعمى والأصم .
وقوله : ( ^ والبصير والسميع ) الكلام فيه مثل هذا ، والمراد منه : حالة المؤمن . وقوله ( ^ هل يستويان مثلا ) روي أن الكفار لما سمعوا هذا قالوا : لا يستويان ، فأنزل الله تعالى : ( ^ أفلا تذكرون ) يعني : أفلا تتعظون ؟ { < هود : ( 25 ) ولقد أرسلنا نوحا . . . . . > >
قوله : ( ^ ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين ) قرئ بقراءتين ؛ بالنصب والخفض ؛ فمعنى النصب : بأني لكم نذير مبين . < < هود : ( 26 ) أن لا تعبدوا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ألا تعبدوا إلا الله ) معناه : آمركم ألا تعبدوا إلا الله ، والعبادة : التوحيد ، وإنما بدأ بالتوحيد لأنه من أهم الأمور .
وقوله : ( ^ إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم ) أي : مؤلم ، والمؤلم : الموجع . < < هود : ( 27 ) فقال الملأ الذين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فقال الملأ الذين كفروا من قومه ) الملأ هم الأشراف والرؤساء .
وقوله : ( ^ ما نراك إلا بشرا مثلنا ) ظاهر المعنى . وقوله : ( ^ وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي ) والأراذل : جمع الرذل ، والرذل : الخسيس الدون . وقيل : الأراذل : الأسافل ، والرذل : السفلة ، وفي السفلة أقوال كثيرة لأهل العلم .
قال مالك بن أنس : السفلة : هو الذي يسب أصحاب النبي . وروى عن الحسن بن زياد اللؤلؤي أنه قال : السفلة : الذي لا دين له .
وعن الأصمعي أنه قال : السفلة : الذي لا يبالي ما قال وما قيل له .
وعن ابن المبارك قال : هم الذين يتقلسون ويأتون أبواب القضاة يطلبون الشهادات .
وروى ثعلب عن ابن الأعرابي قال : السفلة : هو الذي يأكل بدينه ، وسفلة السفلة هو
____________________


( ^ نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين ( 27 ) قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ( 28 ) ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ) * * * *
الذي يسوي دنيا غيره بدينه . وفي بعض الآثار : أشقى الأشقياء من باع دينه بدنيا غيره . وقيل : إن السفلة هم أصحاب الصناعات الدنية مثل : الكناسين ، والدباغين ، والسماكين ، والحجامين ، والحاكة ، وغيرهم . وروي أن بعض العلماء ببغداد سئل عن امرأة قالت لزوجها : يا سفلة ، فقال : إن كنت سفلة فأنت طالق ، فقال له ذلك العالم : ما صناعتك ؟ فقال : سماك ، فقال : سفلة والله سفلة .
وروي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال : هم الذين إذا اجتمعوا غلبوا ، وإذا تفرقوا لم يعرفوا .
وقوله : ( ^ بادي الرأي ) قرئ بقراءتين : بالهمز ، وترك الهمز فأما بالهمز فمعناه : أول الرأي ؛ كأنهم قالوا : إنهم اتبعوك في أول الرأي ولم يتفكروا ولو تفكروا ، لم يتبعوك . وأما بادي الرأي بترك الهمز فمعناه : ظاهر الرأي . قال الزجاج : يعني : اتبعوك ظاهرا لا باطنا .
وقوله : ( ^ وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين ) ظاهر المعنى . < < هود : ( 28 ) قال يا قوم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ) يعني : على بيان من ربي . وقوله : ( ^ وآتاني رحمة من عنده ) الرحمة هاهنا هي النبوة والهدى . قوله ( ^ فعميت عليكم ) أي : فخفيت عليكم ؛ لأن من عمي عن الشيء فقد خفى ذلك الشيء عليه . وقرئ : ' فعميت عليكم ' معناه : فأخفيت عليكم . وقوله : ( ^ أنلزمكموها ) معناه : أنلزمكم الدعوة ( ^ وأنتم لها كارهون ) قال قتادة : لو قدر الأنبياء أن يلزموا قومهم لألزموا [ قومهم ] ؛ ولكن لم يقدروا . < < هود : ( 29 ) ويا قوم لا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله ) معناه : ما
____________________


( ^ ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون ( 29 ) ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون ( 30 ) ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين ( 31 ) قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من ) * * * * ثوابي إلا على الله . وقوله : ( ^ وما أنا بطارد الذين آمنوا ) فيه دليل أنهم طلبوا منه أن يطرد المؤمنين . وقوله : ( ^ إنهم ملاقوا ربهم ) يعني : إنهم صائرون إلى ربهم فيجزي من طردهم . وقوله : ( ^ ولكني أراكم قوم تجهلون ) ظاهر المعنى . < < هود : ( 30 ) ويا قوم من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم ) معناه : من يمنعني من عذاب الله إن طردتهم ( ^ أفلا تذكرون ) أي : أغلا تتعظون ؟ . < < هود : ( 31 ) ولا أقول لكم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولا أقول لكم عندي خزائن الله ) معناه : ليس عندي خزائن الله فآتي ما تطلبون . وقوله : ( ^ ولا أعلم الغيب ) يعني : لا أعلم الغيب فأخبركم بما تريدون . وقوله : ( ^ ولا أقول إني ملك ) هذا جواب لقولهم : ( ^ ما نراك إلا بشرا مثلنا ) . وقوله : ( ^ ولا أقول للذين تزدري أعينكم ) تزدري أي : تحتقر وتستخس ، هذا جواب لقولهم : ( ^ وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي ) .
وقوله ( ^ لن يؤتيهم الله خيرا ) أي : لن يؤتيهم أجرا ( ^ الله أعلم بما في أنفسهم ) . [ يعني : في صدورهم ، في أن يأتيهم الله خيرا ]
وقوله : ( ^ إني إذا لمن الظالمين ) يعني : إني إذا لمن الظالمين لو قلت هذا أو طردتهم . < < هود : ( 32 ) قالوا يا نوح . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا ) روي عن ابن عباس أنه قرأ : ' فأكثرت جدالنا ' بالفتح ؛ والمجادلة خصومة على وجه المبالغة ، وأصل الجدل : هو الفتل ، والعرب تسمى الصقر : الأجدل ؛ لشدته في الجوارح .
والفرق بين الحجاج والمجادلة : أن المطلوب من الحجاج ظهور الحق في المطلوب ، ومن المجادلة هو رجوع الخصم إلى قوله .
____________________


( ^ الصادقين ( 32 ) قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين ( 33 ) ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون ( 34 ) أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا بريء مما تجرمون ( 35 ) ) * * * *
والفرق بين المراء والمجادلة : أن المرء مذموم ؛ لأنه خصومة بعد ظهور الحق ، والجدال غير مذموم ، اللهم إلا أن يبالغ فيه من غير قصد طلب الحق .
وقوله تعالى : ( ^ فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ) هذا دليل على أنه كان وعدهم العذاب إن لم يؤمنوا . < < هود : ( 33 ) قال إنما يأتيكم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال إنما يأتيكم به الله إن شاء ) يعني : بالعذاب . وقوله : ( ^ وما أنتم بمعجزين ) أي : بفائتين ولا هاربين . < < هود : ( 34 ) ولا ينفعكم نصحي . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولا ينفعكم نصحي ) والنصح : إخلاص العمل عن الفساد . وقيل : إنه بيان موضع الغي ليجتنب ، وبيان موضع الرشد ليطلب . وقوله : ( ^ إن أردت أن أنصح لكم ) أراد موافقة لأمر الله . وقوله : ( ^ إن كان الله يريد أن يغويكم ) أكثر المفسرين على أن معناه : يضلكم . وقيل : يخلق الغي في قلوبكم ، والغي ضد الرشد . وذكر محمد بن جرير الطبري أن معنى قوله : ( ^ يغويكم ) : يهلككم . ولم يرض ابن الأنباري هذا من حيث اللغة ، وقال : لا يستقيم في اللغة أن يذكر الإغواء بمعنى الإهلاك . وقال بعضهم : يخيبكم من رحمته .
وقوله : ( ^ هو ربكم وإليه ترجعون ) ظاهر المعنى ، وفي الآية رد على القدرية . < < هود : ( 35 ) أم يقولون افتراه . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ أم يقولون افتراه ) بل يقولون : افتراه أي : اختلقه . وقوله : ( ^ قل إن افتريته فعلي إجرامي ) قرئ في الشاذ : ' قعلي أجرامي ' بالفتح ، والأجرام : جمع الجرم ، والإجرام : هو كسب الذنب ، ومعنى الآية : فعلي وبال ذنبي وجرمي . وقوله : ( ^ وأنا برئ مما تجرمون ) يعني : أنا برئ مما تكتسبون من الذنب . < < هود : ( 36 ) وأوحي إلى نوح . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وأوحى إلى نوح ) روى الضحاك عن ابن عباس : أن قوم نوح كانوا يضربون نوحا حتى [ يسقط ] ، فيلقونه في لبد ويلقونه في بيته ويظنون أنه قد
____________________


( ^ وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون ( 36 ) واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ( 37 ) ) * * * *
مات ، فيخرج في اليوم الثاني ويدعوهم إلى الله ؛ فروي أن شيخا جاء يتوكأ على عصا ومعه ابنه فقال : يا بني لا يغرنك هذا الشيخ المجنون ، فقال : يا ابة ، أمكني من العصا ، فدفع إليه العصا ، فضرب نوحا على رأسه وشجمة شجة منكرة حتى سالت الدماء منه ، وهو يدعوهم إلى الإيمان ، فأنزل الله تعالى : ( ^ أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن ) فحينئذ استجار بالدعاء وقال : ( ^ رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ) . وقوله : ( ^ فلا تبتئس بما كانوا يفعلون ) قال مجاهد وقتادة : فلا تحزن . قال أهل اللغة : الابتئاس : حزن مع استكانة ، قال الشاعر :
( ما يقسم الله فاقبل غير مبتئس ** منه واقعد كريما ناعم البالي ) < < هود : ( 37 ) واصنع الفلك بأعيننا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ واصنع الفلك بأعيننا ) عن ابن عباس قال : بمرأى منا .
وعن الضحاك : بمنظر منا . وقيل : برؤيتنا وحفظنا . وفي القصة : أن جبريل - عليه السلام - أتى نوحا - عليه السلام - فقال : إن ربك يأمرك أن تصنع الفلك . قال : كيف أصنع ولست بنجار ؟ ! فقال : إن ربك يقول : اصنع الفلك فأنت بعيني . فأخذ القدوم وجعل يصنع الفلك فلا يخطيء موضعا .
وقوله : ( ^ ووحينا ) أي : وأمرنا . وقوله : ( ^ ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ) فيه قولان :
أحدهما : ولا تخاطبني في إمهال الكفار ، فإني قد حكمت بإغراقهم .
والثاني : لا تخاطبني في ابنك ؛ فإنه هالك مع القوم . < < هود : ( 38 ) ويصنع الفلك وكلما . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ويصنع الفلك ) روي عن زيد بن أسلم أنه قال : مكث نوح مائة سنة يغرس الأشجار ويقطع ، ومكث مائة سنة يعمل الفلك . وعن كعب الأحبار أنه قال : إن نوحا عمل السفينة في ثلاثين سنة . وروي عن سلمان الفارسي : أن نوحا
____________________


( ^ ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون ( 38 ) فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب ) * * * * عمل السفينة في أربعمائة سنة . ذكر في بعض التفاسير ، والمعروف الأول .
وقوله : ( ^ وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه ) قال أهل التفسير : كانوا إذا مروا عليه قالوا : إن هذا الذي كان يزعم أنه نبي قد صار نجارا .
وروي أنهم كانوا يقولون له : يا نوح ، ما تصنع ؟ فيقول : أصنع بيتا يمشي على الماء ، فيضحكون ويتعجبون منه .
وفي بعض التفاسير عن ابن عباس : أنهم لم يكونوا رأوا بحرا قط ولا سفينة ، وإنما البحار الآن من بقايا الطوفان .
وقوله : ( ^ قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون ) فإن قيل : كيف يجوز أن يسخر نبي من الأنبياء من قومه ؟
الجواب : إن هذا على وجه ازدواج الكلام ، ومعناه : إن تستجهلوني فإني أستجهلكم إذا نزل العذاب . وقيل معناه : إن تسخروا مني فسترون عاقبة سخريتكم . < < هود : ( 39 ) فسوف تعلمون من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ) هذا متصل بقوله : ( ^ فسوف تعلمون ) ومعناه : فسوف تعلمون أينا ( ^ يأتيه عذاب يخزيه ) وقيل : فسوف تعلمون الذي يأتيه عذاب يخزيه ، هذا ومعنى قوله : ' يخزيه ' : يهلكه ، وقيل : يذله . وقوله ( ^ ويحل عليه عذاب مقيم ) معناه : ينزل عليه عذاب دائم ، وهو الغرق . < < هود : ( 40 ) حتى إذا جاء . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور ) اختلفوا في التنور على أقوال : الأكثرون على أنه تنور الخابزة ، هذا قول ابن عباس ، ومجاهد ، وجماعة .
وعن عكرمة قال : هو وجه الأرض . وحكي هذا عن ابن عباس أيضا . وقالوا : كأن الله تعالى جعل بينه وبين نوح علامة ، وقال : إذا رأيت الماء قد فار على وجه الأرض فاركب السفينة .
____________________


( ^ مقيم ( 39 ) حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك ) * * * *
والقول الثالث : ما روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال : ' وفار التنور ' يعني : انفجر الصبح ؛ وهو من قولهم : نور الصبح تنويرا . وقال بعضهم : التنور هاهنا : تنور من حجارة كانت حواء تخبز فيه فورثه نوح ، وقال الله تعالى لنوح : إذا فار الماء من آخر موضع في دارك فهو العلامة ، واسم التنور اسم وافقت العربية فيه العجمية .
واختلفوا في موضع التنور :
روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال : كان بالكوفة ، وأشار إلى باب كندة للمسجد ، ومثله عن الشعبي أن التنور فار من ناحية الجانب الأيمن من مسجد الكوفة . وحكي أن رجلا جاء إلى علي - رضي الله عنه - وقال : يا أمير المؤمنين ، إني اشتريت راحلة وأعددت زادا لأذهب وأصلي في مسجد بيت المقدس ، فقال : بع راحلتك ، وكل زادك ، وصل في هذا المسجد - يعني : مسجد الكوفة - ؛ فإنه صلى فيه سبعون نبيا ، ومنه فار التنور .
وقال بعضهم : كان التنور بالشام . وقال بعضهم كان بأرض الهند .
وقال بعضهم : التنور عين بالجزيرة تسمى عين الوردة .
وقوله : ( ^ قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين ) ' فيها ' ينصرف إلى الفلك ، واختلفوا في قدر الفلك :
روي عن الحسن البصري أنه قال : كان طول السفينة ألفا ومائتين ذراع ، وعرضها ستمائة ذراع . والمعروف أن طولها كان ثلثمائة ذراع ، وعرضها كان ( خمسين ) ذراعا ، وارتفاعها إلى السماء كان ثلاثين ذراعا ، وقد قيل غير هذا ، والله أعلم .
قال قتادة : وكان بابها في عرضها . قالوا : وكانت ثلاث طبقات : الطبقة العليا للطير ، والطبقة السفلى للسباع والوحوش ، والوسطى للنساء والرجال ، والحاجز بين النساء والرجال جسد آدم ؛ فإنه كان حمله مع نفسه في السفينة .
____________________


( ^ إلا من سبق عليه القول ومن آمن معه إلا قليل ( 40 ) وقال اركبوا فيها بسم الله ) * * * *
وقوله : ( ^ من كل زوجين اثنين ) الزوج كل واحد لا يستغني عن مثله ، يقال : زوج خف ، وزوج نعل ، والمراد من الزوجين هاهنا : الذكر والأنثى ، ومعناه : من كل ذكر وأنثى اثنين .
وفي القصة : أن نوحا - عليه السلام - قال : يا رب ، كيف أحمل من كل زوجين اثنين ؟ فحشر الله تعالى السباع والطير إليه ، فجعل يضرب بيديه في كل جنس ، فيقع الذكر في يده اليمنى والأنثى في يده اليسرى فيحملها في السفينة . وذكر وهب بن منبه أن الناس شكوا الفأر إلى نوح في السفينة ، فأمره الله تعالى أن يمسح جبهة الأسد ، فخرج من منخريه سنوران فأكلا الفأر ، وشكوا إليه أيضا كثرة العذرة فأمره أن يمسح على مؤخر الفيل ، فخرج منه خنزيران فأكلا العذرة .
وقوله تعالى : ( ^ وأهلك ) معناه : واحمل أهلك ( ^ إلا من سبق عليه القول ) يعني : ابنه وامرأته . وقوله : ( ^ ومن آمن ) معناه : وأحمل من آمن .
وقوله : ( ^ وما آمن معه إلا قليل ) اختلفوا في عددهم ، روي عن ابن عباس أنه قال : كانوا ثمانين نفرا . وعن بعضهم : كانوا اثنين وسبعين نفرا . وعن الأعمش قال : كانوا سبعة نفر : ثلاثة بنين لنوح وهم : سام ، وحام ، ويافث وثلاث كنائنهم - يعني : نساؤهم - ، ونوح . وقال قتادة : كانوا ثمانية نفرا . < < هود : ( 41 ) وقال اركبوا فيها . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وقال اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرسيها ) بفتح الميمين ، وقرأ أبو رجاء العطاردي : ' مجريها ومرسيها ' بالرفع .
أما معنى قوله : ( ^ مجريها ومرسيها ) يعني : بسم الله إجراؤها وإرساؤها ، ومعنى مجريها ومرسيها بالنصب يعني : بسم الله جريها ورسوها . وقال بعضهم : كان إذا قال نوح : بسم الله وأراد الجري جرت ، وإذا قال : بسم الله وأراد الرسو رست .
وأما مدة لبث نوح في السفينة : قالوا : استقلت السفينة على وجه الماء لعشر خلون من رجب ، وجرت مائة وخمسين يوما ، وأرست لعشر خلون من ذي الحجة ، وهبطوا
____________________


( ^ مجريها ومرساها إن ربي لغفور رحيم ( 41 ) وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين ( 42 ) قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج ) * * * * يوم عاشوراء إلى الأرض ، فصام ذلك اليوم وأمر القوم بصومه .
وفي القصص : أن السفينة طافت جميع الدنيا ، وحين وصلت إلى الكعبة طافت بها أسبوعا ، وكانت الكعبة قد رفعت وبقي الموضع .
وقوله : ( ^ إن ربي لغفور رحيم ) معناه ظاهر . < < هود : ( 42 ) وهي تجري بهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وهي تجري بهم في موج كالجبال ) معنى الموج : قطعة من البحر ترتفع عند شدة الريح .
وقوله : ( ^ ونادى نوح ابنه وكان في معزل ) قيل : في معزل من السفينة ، وقيل : في معزل من قومه .
وقوله : ( ^ يا بني اركب معنا ) قرىء بقراءتين : ' يا بني ' و ' يابني ' ، ومعناهما واحد . وقوله : ( ^ ولا تكن مع الكافرين ) أي : من الكافرين ، معناه ظاهر .
واختلفوا في أنه هل كان ابنه من صلبه أولا ؟
فروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، وجماعة أنهم قالوا : كان ابنه من صلبه . قال ابن عباس رضي الله عنهما : ما بغت امرأة نبي قط . وكان عكرمة بحلف أنه كان ابن نوح لصلبه . وأما الحسن ومجاهد : فإنهما قالا : كان ابن امرأته ، ولم يكن ابنه ، واستدلا بقوله سبحانه وتعالى ( ^ فلا تسألن ما ليس لك به علم ) ، قالا : كان يظن أنه ابنه ولم يكن ابنه . والأول هو الأصح . وقيل : إن اسمه كان كنعان . وقيل : إن اسمه كان ' يام ' . < < هود : ( 43 ) قال سآوي إلى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء ) يعني : ألتجىء إلى الجبل يمنعني من الغرق . ف ( ^ قال ) له نوح : ( ^ لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم )
____________________


( ^ فكان من المغرقين ( 43 ) وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين ( 44 ) ونادى نوح ربه فقال رب ) * * * * ففيه قولان :
أحدهما : أن العاصم بمعنى المعصوم ، ومعناه : لا معصوم اليوم من أمر الله إلا من رحم .
والقول الثاني : لا عاصم اليوم من أمر الله إلا الله .
قوله تعالى : ( ^ إلا من رحم ) هو الله تعالى . وقوله ( ^ وحال بينهما الموج فكان من المغرقين ) أي : صار من المغرقين .
وفي القصة : أن الماء علا على رءوس الجبال بقدر أربعين ذراعا . وقيل : دونه ، والله أعلم . < < هود : ( 44 ) وقيل يا أرض . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وقيل يا أرض ابلعي ماءك ) معناه : اشربي ماءك ، ويقال : ابلعي أي : غيبي ماءك في جوفك . وقوله : ( ^ ويا سماء أقلعي ) أي : أمسكي . وقوله : ( ^ وغيض الماء وقضى الأمر ) معناه : ونقص الماء ونضب . وقوله : ( ^ وقضي الأمر ) أي : فرغ من الأمر ، وهو هلاك القوم . وقوله : ( ^ واستوت على الجودى ) معناه : واستقرت على الجودى ، قيل : إنه جبل بناحية آمد . وقال الفراء : جبل بناحية نصيبين . وقوله : ( ^ وقيل بعدا للقوم الظالمين ) أي : هلاكا للقوم الظالمين .
وفي مصحف ابن مسعود - رضي الله عنه - : ' وغيض الماء واستوت على الجودي وقضي الأمر ' .
وروي أن نوحا - صلوات الله عليه - بعث بالغراب ليأتيه بخبر الأرض ، فوقع على جيفة ولم يرجع ، فبعث بالحمامة فجاءت بورق زيتونة في منقارها ولطخت رجليها بالطين ؛ ليعلم نوح أن الماء قد نضب ، فأعطيت الطوق [ وخضاب ] الرجلين من ذلك الوقت .
وهذه الآية تعد من فصيحات القرآن ، وحكي أنها قرئت عند أعرابي فقال : هذا
____________________


( ^ إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين ( 45 ) قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من ) * * * * كلام قادر . < < هود : ( 45 ) ونادى نوح ربه . . . . . > >
قوله سبحانه وتعالى : ( ^ ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين ) يعني : أنت وعدتني أن تنجي أهلي وأنت أحكم الحاكمين يعني : وأنت أحكم الحاكمين بالعدل . < < هود : ( 46 ) قال يا نوح . . . . . > >
قال الله تعالى : ( ^ يا نوح إنه ليس من أهلك ) معناه : ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم . وعلى قول الحسن ، ومجاهد يعني : ليس بابنك .
وقوله : ( ^ إنه عمل غير صالح ) معناه : إنه ذو عمل غير صالح .
والقول الثاني : أن سؤالك إياي إنجاءه ؛ عمل غير صالح .
وفي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه - ' إنه عمل غير صالح ' .
( ^ فلا تسألن ما ليس لك به علم ) وهذا يؤيد المعنى الثاني . وقرىء : ' إنه عمل غير صالح ' ومعناه : إن ابنك عمل غير صالح .
وقوله تعالى : ( ^ فلا تسألن ما ليس لك به علم ) فيه قولان :
أحدهما : أن نوحا كان يظن أنه مسلم وهو يبطن الكفر من أبيه ، فهذا معنى قوله : ( ^ لا تسألن ما ليس لك به علم )
والثاني : معناه : أنه ليس بابن لك على ما ذكرنا .
وقوله : ( ^ إني أعظك أن تكون من الجاهلين ) معناه : إني أحذرك أن تكون من الآثمين ، وذنب المؤمن جهل ، وذنب الكافر كفر .
والقول الثاني : ( ^ إني أعظك أن تكون من الجاهلين ) - يعني : أن تدعو بهلاك الكفار ثم تطلب نجاة كافر .
____________________


( ^ الجاهلين ( 46 ) قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين ( 47 ) قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم ( 48 ) تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين ( 49 ) وإلى عاد أخاهم هودا ) * * * * < < هود : ( 47 ) قال رب إني . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال ) أي : قال نوح : ( ^ رب إني أعوذ بك أن أسألك ) . . .
غير أني أمتنع بك أن أسألك ( ^ ما ليس لي به علم ) ومعناه : سؤال العصمة .
وقوله : ( ^ وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين ) ظاهر المعنى . < < هود : ( 48 ) قيل يا نوح . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قيل يا نوح اهبط بسلام منا ) معناه : انزل بسلامة لك من قبلنا .
وقوله : ( ^ وبركات عليك ) البركة : ثبوت الخير ، ومنه بروك البعير . وقيل : إن البركة هاهنا هو أن الله سبحانه وتعالى جعله آدم الأصغر ، فأهلك سائر من معه من غير نسل ، وجعل النسل من ذريته إلى قيام الساعة . وقوله : ( ^ وعلى أمم ممن معك ) معناه : على ذرية أمم ممن معك . قال محمد بن كعب القرظي : دخل فيه كل مؤمن إلى قيام الساعة كان في صلب نوح . وقوله ( ^ وأمم سنمتعهم ) ابتداء كلام ، ومعناه : وأمم سنمتعهم وهم الكفار . وقوله ( ^ ثم يمسهم منا عذاب أليم ) ظاهر المعنى . < < هود : ( 49 ) تلك من أنباء . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ) أي : نلقيها إليك . قوله : ( ^ ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا ) يعني : من قبل انزال القرآن . قوله : ( ^ فاصبر إن العاقبة للمتقين ) ظاهر المعنى . < < هود : ( 50 ) وإلى عاد أخاهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإلى عاد أخاهم هودا ) عاد قوم كانوا بالأحقاف ، وهي رمال بين اليمن والشام . وقيل : إنهم كانوا بنفس اليمن ، وكانوا أعطوا زيادة في الجسم والقوة على سائر الخلق . وقوله : ( ^ أخاهم ) يعني : أخاهم في النسب لا في الدين ، ومعنى الآية : وأرسلنا إلى عاد أخاهم وأرسلنا إلى عاد أخاهم هودا .
____________________


( ^ قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون ( 50 ) يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون ( 51 ) ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين ( 52 ) قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين ) * * * *
قوله : ( ^ قال يا قوم اعبدوا الله ) أي : وحدوا الله . قوله : ( ^ مالكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون ) والافتراء : الكذب ، وكان كذبهم على الله تعالى . < < هود : ( 51 ) يا قوم لا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يا قوم لا أسألكم عليه أجرا ) أي : ثوابا ، يعني : لا أسألكم على الإبلاغ أجرا . وقوله : ( ^ إن أجري إلا على الذي فطرني ) معناه : إن ثوابي إلا على الذي فطرني ، أي : خلقني ( ^ أفلا تعقلون ) ظاهر [ المعنى ] . < < هود : ( 52 ) ويا قوم استغفروا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ) قدم الاستغفارعلى التوبة لما بينا من المعنى . وقوله : ( ^ يرسل السماء عليكم مدرارا ) معناه : يرسل السماء عليكم مدرارا بالمطر مرة بعد أخرى في أوقات الحاجة ، والمدرار على طريق المبالغة ، يقال : امرأة معطار مذكار . وقوله : ( ^ ويزدكم قوة إلى قوتكم ) روي أن الله تعالى حبس عنهم المطر ثلاث سنين ، وأعقم أرحام الأمهات فلم يلدن ، فمعنى قوله : ( ^ يزدكم قوة إلى قوتكم ) يعني : يرسل عليكم المطر فتزدادون مالا ، ونعيد أرحام الأمهات إلى ما كان فيلدن فتزدادون قوة بالأموال والأولاد . وقيل : ' ويزدكم قوة إلى قوتكم ' أي : شدة إلى شدتكم . وقيل : يزدكم قوة في دينكم إلى قوتكم في أبدانكم . وقوله : ( ^ ولا تتولوا مجرمين ) أي : ولا تعرضوا . < < هود : ( 53 ) قالوا يا هود . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قالوا يا هود ما جئتنا ببينة ) أي : بحجة واضحة . وقوله : ( ^ وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك ) أي : بسبب قولك : ( ^ وما نحن لك بمؤمنين ) أي : بمصدقين . < < هود : ( 54 - 55 ) إن نقول إلا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن نقول إلا اعتراك ) معناه : إلا أصابك ، قال الشاعر :
( أتيتك عاريا خلقا ثيابي ** على خوف تظن بي الظنونا )
____________________


( ( 53 ) إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون ( 54 ) من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون ( 55 ) إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم ( 56 ) فإن ) * * * *
والعاري هاهنا هو السائل ؛ سمي عاريا لأنه يطلب الإصابة .
وقوله : ( ^ بعض آلهتنا بسوء ) أي : بلمم وخبل ، كأنهم قالوا : إنك سببت آلهتنا فانتقموا منك بالتخبيل واللمم . وقوله : ( ^ قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه ) فإن قيل : كيف قال للمشركين : ( ^ واشهدوا ) ولا شهادة لهم ؟ قلنا : هذا مذكور على طريق المبالغة في الحجة ، لا على طريق إثبات الشهادة لهم .
وقوله : ( ^ فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون ) الكيد : احتيال بشر . وهذا القول معجزة لهود صلوات الله عليه فإنه أمرهم أن يحتالوا بكل حيلة لإيصال مكروه إليه ، ومنعهم الله تعالى عن ذلك فلم يقدروا عليه ، وهذا مثل قول نوح في سورة يونس : ( ^ فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون ) وقد بينا تفسيره . < < هود : ( 56 ) إني توكلت على . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إني توكلت على الله ربي وربكم ) معناه : اعتمدت على الله ربي وربكم . وقوله : ( ^ ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ) معناه : ما من دابة إلا وهي في قبضته وتنالها قدرته ، وخص الناصية بالذكر ؛ لأن الإذلال والإقماء في أخذ الناصية .
وقوله : ( ^ إن ربي على صراط مستقيم ) فيه أقوال :
أحدها : أن معناه : إن ربي يعمل بالعدل ، وإن كان قادرا على كل شيء ، فلا يعمل إلا بالإحسان والعدل .
والثاني : ( ^ إن ربي على صراط مستقيم ) معناه : إن دين ربي على صراط مستقيم .
والثالث : قوله ( ^ إن ربي على صراط مستقيم ) هو في معنى قوله : ( ^ إن ربك لبالمرصاد ) يعني : إنه على طريق الخلق أجمع .
____________________


( ^ تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا إن ربي على كل شيء حفيظ ( 57 ) ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ ( 58 ) وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد ( 59 ) وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عادا ) * * * * < < هود : ( 57 ) فإن تولوا فقد . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ) معناه : فإن أعرضوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم . وقوله : ( ^ ويستخلف ربي قوما غيركم ) معناه : إن أعرضتم يهلككم ويستخلف قوما غيركم هم أطوع لله منكم . وقوله ( ^ ولا تضرونه شيئا ) يعني : ولا تنقصونه شيئا . وقوله : ( ^ إن ربي على كل شيء حفيظ ) أي : حافظ لأمور خلقه على ما دبر وقدر . < < هود : ( 58 ) ولما جاء أمرنا . . . . . > >
قوله تعالى ( ^ ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه ) الآية . قوله : ( ^ أمرنا ) أي : عذابنا ، ( ^ نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ) أي : بما هديناهم وبيناهم طريق الهدى حتى آمنوا . وقوله : ( ^ ونجيناهم من عذاب غليظ ) العذاب الغليظ : هو العذاب الذي أهلك به عادا وقومه وهو الريح العقيم ، فكانت الريح تدخل في مناخرهم وأفواههم ، وتخرج من أدبارهم فتقطعهم تقطيعا أي : قطعة قطعة . < < هود : ( 59 ) وتلك عاد جحدوا . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم ) معناه : أنكروا آيات ربهم . وقوله : ( ^ وعصوا رسله ) أي : بالتكذيب . وقوله : ( ^ واتبعوا أمر كل جبار عنيد ) قيل : الجبار هو الذي يقتل على الغضب ، والعنيد هم هو المعاند . قال الشاعر :
( إني لشيخ لا أطيق العندا ** ولا أطيق البكرات الشردا ) < < هود : ( 60 ) وأتبعوا في هذه . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وأتبعوا في هذه الدنيا لعنه ) اللعنة : هي الإبعاد عن الرحمة . قال أهل العلم : ولا يجوز لعن البهائم ؛ لأنها غير مستحقة للبعد من رحمة الله . وقد ثبت ' أن رجلا لعن بعيره في سفره فأمره النبي أن ينزل عنه ويخليه وقال : لا يصحبنا ملعون ' . وهذا على طريق الزجر والردع للاعن . وقوله : ( ^ ويوم القيامة ألا إن عادا
____________________


( ^ كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود ( 60 ) وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا ) * * * * كفروا ربهم ) أي : كفروا بربهم . وقوله : ( ^ ألا بعدا لعاد قوم هود ) معناه : ألا سحقا وخزيا وهلاكا لعاد قوم هود . < < هود : ( 61 ) وإلى ثمود أخاهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإلى ثمود أخاهم صالحا ) معناه : وأرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا ، وقوله : ( ^ أخاهم ) على ما قدمنا ، وثمود قوم كانوا بحجر بين الحجاز والشام .
وقوله : ( ^ قال يا قوم اعبدوا الله ) أي : وحدوا الله ( ^ مالكم من إله غيره ) أي : مالكم من معبود غيره .
وقوله : ( ^ هو أنشأكم من الأرض ) فيه قولان :
أحدهما أنشأكم في الأرض ، والآخر وهو : أنه أنشأكم من الأرض ؛ لأنه خلقهم من آدم ، وخلق آدم من الأرض .
وقوله ( ^ واستعمركم فيها ) ] فيه [ قولان :
أحدهما : أطال عمركم فيها وكان الواحد منهم يعيش من ثلثمائة سنه إلى ألف سنة ، وهكذا قوم عاد .
والقول الثاني : جعلكم عمارا فيها ، ببناء المساكن وغرس الأشجار . ذكره الفراء والزجاج .
وقوله : ( ^ فاستغفروه ثم توبوا إليه ) قد بينا المعنى . وقوله : ( ^ إن ربي قريب
____________________

( ^ إليه إن ربي قريب مجيب ( 61 ) قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب ( 62 ) قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير ( 63 ) ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا ) * * * * مجيب ) قريب من المؤمنين ، مجيب لدعائهم . < < هود : ( 62 ) قالوا يا صالح . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا ) أي : قد كنا نرجوا فيك الخير ، والآن قد يئسنا من خيرك وفلاحك . وقوله : ( ^ أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا ) ظاهر المعنى . وقوله : ( ^ وإننا لفي شك ) لفي ريب ( ^ مما تدعونا إليه مريب ) أي : مرتاب . وهذا على طريق التأكيد . < < هود : ( 63 ) قال يا قوم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ) أي : على حجة من ربي . وقوله تعالى : ( ^ وآتاني منه رحمة ) الرحمة هاهنا : بمعنى النبوة .
وقوله : ( ^ فمن ينصرني من الله إن عصيته ) أي : فمن يمنع مني عذاب الله إن عصيته .
وقوله : ( ^ فما تزيدونني غير تخسير ) فيه قولان :
أحدهما : إن اتبعتكم ما كنت إلا كمن يزداد خسارا وهلاكا .
والقول الثاني : فما تزيدونني غير تخسير لكم ، وحقيقته : أني أطلب منكم الرشد ، وأنتم تعطونني الخسار والهلاك ، يعني : لأنفسكم .
هذا كله جواب عن سؤال من سأل في هذه الآية : كيف قال ( ^ فما تزيدونني غير تخسير ) ولم يك صالح في خسار ؟ < < هود : ( 64 ) ويا قوم هذه . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية ) روى أن قومه طلبوا منه أن يخرج ناقة عشراء من هذه الصخرة الصماء ، وأشاروا إلى صخرة أمامهم ، قال : فدعا صالح ربه فتمخضت الصخرة وسمع لها أنين كأنين الناقة ، ثم خرجت منها ناقة كأعظم ما
____________________

( ^ تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب ( 64 ) فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب ( 65 ) فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز ( 66 ) وأخذ الذين ظلموا الصيحة ) * * * * يكون من النوق ، وولدت في الحال ولدا مثالها ، فهذا معنى قوله : ( ^ هذه ناقة الله لكم آية ) .
وقوله : ( ^ فذروها تأكل في أرض الله ) أي : فدعوها تأكل في أرض الله . وقوله : ( ^ ولا تمسوها بسوء ) أي : بإهلاك . وقوله ( ^ فيأخذكم عذاب قريب ) معناه : قريب من إهلاك الناقة . < < هود : ( 65 ) فعقروها فقال تمتعوا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فعقروها ) العقر ها هنا : جراحة تؤدي إلى الهلاك .
وقوله ( ^ فقال تمتعوا في داركم ) معناه : عيشوا في داركم ، والدار بمعنى الديار .
وقوله : ( ^ ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب ) فروي أنه قال لهم : يأتيكم العذاب بعد ثلاثة أيام ، فتصبحون اليوم الأول ووجوهكم مصفرة ، ثم تصبحون اليوم الثاني ووجوهكم محمرة ، ثم تصبحون اليوم الثالث ووجوهكم مسودة ؛ فكان كما قال ، وأتاهم العذاب اليوم الرابع . < < هود : ( 66 ) فلما جاء أمرنا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ) في بعض التفاسير : أنه آمن معه أربعة آلاف نفر . وقوله : ( ^ ومن خزي يومئذ ) معناه : ومن هلاك يومئذ . وقوله : ( ^ إن ربك هو القوي العزيز ) قد بينا معنى القوي والعزيز من قبل . < < هود : ( 67 ) وأخذ الذين ظلموا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وأخذ الذين ظلموا الصيحة ) المعروف انه صاح بهم جبريل صيحة واحدة فهلكوا عن آخرهم ، وقال بعضهم : خلق الله تعالى صياحا في جوف بعض الحيوانات فأهلكهم ، فإن قيل : الصيحة مؤنثة ، وقد قال : ( ^ وأخذ الذين ظلموا الصيحة ) ؟
والجواب عنه : أن الصيحة ها هنا بمعنى الصياح ، وهو جائز في اللغة .
____________________

( ^ فأصبحوا في ديارهم جاثمين ( 67 ) كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمود كفروا ربهم إلا بعدا لثمود ( 68 ) ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن ) * * * *
وقوله : ( ^ فأصبحوا في ديارهم جاثمين ) أي : ميتين . ويقال : إنهم سقطوا على وجوههم موتى عن آخرهم ، ومنه جثم الطائر . ومنه الخبر المروي : ' نهى عن المجثمة ' . < < هود : ( 68 ) كأن لم يغنوا . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ كأن لم يغنوا فيها ) معناه : كأن لم يقيموا فيها منعمين مسرورين .
وقوله : ( ^ ألا إن ثمودا كفروا ربهم ) أي : بربهم . وقوله : ( ^ ألا بعدا لثمود ) معناه كما قدمنا من قبل . < < هود : ( 69 ) ولقد جاءت رسلنا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى ) قال السدي : كانوا اثنى عشر ملكا . وقال غيره : كانوا تسعة من الأملاك .
ويقال : إنهم ثلاثة : جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل . وقيل : جاءوا على صورة البشر .
وفي القصة : أن إبراهيم - صلوات الله عليه - كان لا يأكل إلا مع الضيف ، ومكث خمس عشرة ليلة ولم يأته ضيف ، ثم جاءه هؤلاء الملائكة . وقوله : ( ^ بالبشرى ) فيه قولان :
أحدهما : بالبشرى بإسحاق ، والآخر : بالبشرى بإهلاك قوم لوط .
وقوله : ( ^ قالوا سلاما ) معناه : قالوا سلمنا سلاما ( ^ قال سلام ) قرئ بقراءتين : إحداهما : ' سلام ' وهو المعروف ، والآخر : ' سلم ' قراءة حمزة والكسائي . أما قوله : ( ^ سلام ) معناه : جوابي سلام ، أو قولي سلام . أما قوله : ' سلم ' قيل : إن السلم والسلام بمعنى واحد ، كالحل ، والحلال ، والحرم والحرام . ويقال : إن ' السلم ' بمعنى
____________________

( ^ جاء بعجل حنيذ ( 69 ) فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط ( 70 ) وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن ) * * * * الصلح ، فمعناه : أنا أطلب السلامة منكم .
وقوله : ( ^ فما لبث أن جاء بعجل حنيذ ) فهذا دليل على ان الضيف ينبغي أن يعجل له [ بشيء ] يأكله ، وهو سنة إبراهيم - صلوات الله عليه - وقوله : ( ^ أن جاء بعجل حنيذ ) العجل : ولد البقرة ، والحنيذ : هو المحنوذ ، وهو المشوي على الحجارة المحماة يخد له في الأرض خدا فيشوى فيه . وروي أنه كان سمينا يسيل دسما . < < هود : ( 70 ) فلما رأى أيديهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فلما رأى أيديهم لا تصل إليه ) أي : لما رآهم لا يأكلون ؛ فإن الملائكة لا تأكل . قوله : ( ^ نكرهم ) أي : أنكرهم ، قال الشاعر :
( فأنكرتني وما كان الذي نكرت ** من الحوادث إلا الشيب والصلعا )
وقوله : ( ^ وأوجس منهم خيفة ) كان إبراهيم - صلوات الله عليه - نازلا على طرف من الناس ، فلما دخل عليه هؤلاء القوم ولم يأكلوا خاف انهم جاءوا لبلية وقصد مكروه ، وعادة العرب أن القوم إذا أكلوا من الطعام أمنوا منهم ، وإذا لم يأكلوا استشعروا خوفا ، فهذا معنى قوله : ( ^ وأوجس منهم خيفة ) وقوله : ( ^ وأوجس ) أي : فاضمر منهم خوفا . وقوله : ( ^ قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط ) معناه : إنا ملائكة أرسلنا ربنا إلى قوم لوط . < < هود : ( 71 ) وامرأته قائمة فضحكت . . . . . > >
وقوله : ( ^ وامرأته قائمة ) في مصحف ابن مسعود : ' وامرأته قائمة وهو قاعد ' وهي سارة بنت هاران ، فيقال : إن سارة كانت تخدمهم وإبراهيم يتحدث معهم . ويقال : إن سارة كانت قائمة وراء الستر .
قوله : ( ^ فضحكت ) الأكثرون على أن الضحك هاهنا هو الضحك المعروف ، وقال مجاهد وعكرمة : فضحكت ، أي : حاضت . يقال : ضحكت الأرنب ، إذا حاضت .
____________________

( ^ وراء إسحاق يعقوب ( 71 ) قالت يا ويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا ) * * * *
وأما الضحك المعروف فاختلف القول في أنها لم ضحكت ؟
فالأكثرون على أنها ضحكت سرورا بما زال من الخوف عنها وعن إبراهيم . وقيل : ببشارة إسحاق . وعلى هذا القول : الآية على التقديم والتأخير ، فكأنه قال : وامرأته قائمة فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب فضحكت .
والقول الثالث : ضحكت تعجبا من غفلة قوم لوط ، وقد نزلت الملائكة بعذابهم .
وقوله ( ^ فبشرناها بإسحاق ) ظاهر المعنى . وقوله ( ^ ومن وراء إسحاق يعقوب ) أي : من بعد إسحاق يعقوب . قال أبو عبيدة : الوراء : ولد الولد .
وقوله ( ^ يعقوب ) قرئ بقراءتين : ' يعقوب ' و ' يعقوب ' بالرفع والنصب أما الرفع معناه : ويحدث يعقوب من بعد إسحاق . وأما النصب فمعناه : بشرناها بإسحاق وبشرناها بيعقوب . وأنشد الشاعر في الوراء :
( حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ** وليس وراء الله للمرء مذهب )
وهذا شعر الأعشى . < < هود : ( 72 ) قالت يا ويلتى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قالت يا ويلتي أألد وانا عجوز وهذا بعلي شيخا ) قالوا : أصل قوله : ( ^ يا ويلتي ) : يا ويلتي ؛ إلا أن ها هنا أبدل الألف عن الياء . ومعنى قوله : ( ^ يا ويلتي ) هاهنا : ا عجبا ؛ وهذه كلمة يقولها الإنسان عند رؤية ما يتعجب منه ، وليس على حقيقة الدعاء بالويل .
وقوله تعالى : ( ^ أألد وأنا عجوز ) اختلفوا في سن إبراهيم وسارة في ذلك الوقت .
قال محمد بن إسحاق : كان سن إبراهيم مائة وعشرين سنة ، وسن سارة تسعين سنة . وقال بعضهم : كان سن إبراهيم مائة سنة ، وسن سارة تسعة وتسعين سنة . وقيل غير هذا ، والله أعلم .
____________________

( ^ لشيء عجيب ( 72 ) قالوا أتعجبين من أمر الله رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد ( 73 ) فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم ) * * * *
قوله تعالى ( ^ وهذا بعلي ) يعني : هذا زوجي ( ^ شيخا ) نصب على القطع ، وقيل : على الحال .
وفي قراءة ابن مسعود : ' وهذا بعلي شيخ ' على الخبر . قوله تعالى ( ^ إن هذا لشيء عجيب ) يعني : إن هذا لشيء مستعجب بخلاف العادة . < < هود : ( 73 ) قالوا أتعجبين من . . . . . > >
قوله : ( ^ قالوا أتعجبين من أمر الله ) معناه : لا تعجبي من أمر الله ؛ فإن الله إذا أراد شيئا كان .
وقوله تعالى : ( ^ رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت ) فيه معنيان :
أحدهما : أن هذا على معنى الدعاء من الملائكة .
والآخر : أنه على معنى الخبر ، و ( ^ رحمة الله ) أي : نعمة الله ( ^ وبركاته ) والبركات : جمع البركة ، والبركة : ثبوت الخير . وقيل : وبركاته : سعاداته .
وقوله : ( ^ عليكم أهل البيت ) هذا دليل على أن الأزواج يجوز أن يسمين أهل البيت .
وزعمت الشيعة في قوله تعالى : ( ^ إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ) أن الأزواج لا يدخلن في هذا . وهذه الآية دليل على أنهن يدخلن فيها .
قوله : ( ^ إنه حميد مجيد ) الحميد : هو المحمود في أفعاله ، والمجيد : هو الكريم ، وأصل المجد هو الرفعة والشرف . < < هود : ( 74 ) فلما ذهب عن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فلما ذهب عن إبراهيم الروع ) قال قتادة : الروع : الفزع ؛ وأما الروع بالرفع هو النفس ، ومنه قوله : ' ألقى روح القدس في روعي : ( أن لن ) تموت
____________________

( ^ لوط ( 74 ) إن إبراهيم لحليم أواه منيب ( 75 ) يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء ) * * * * نفس حتى تستكمل رزقها ، فاتقوا الله واجملوا في الطلب ' . وقوله : ( ^ وجاءته البشرى ) قيل : إن البشرى بإسحاق ويعقوب . وقيل : إنها بإهلاك قوم لوط . وقوله : ( ^ يجادلنا ) معناه : جعل إبراهيم يجادلنا ، والمجادلة هاهنا كما قال في سور الذاريات والحجر : ( ^ قال فما خطبكم أيها المرسلون ) فإن قيل : كيف يجوز أن يجادل إبراهيم ربه في شيء قضاه وأمر به ؟
الجواب : أن هذه المجادلة كانت مع اللائكة لا مع الرب ، وإنما قال : ( ^ يجادلنا ) على توسع الكلام . وفي التفسير : أن مجادلته كانت أنه قال للملائكة : أرأيتم لو كان في مدائن قوم لوط خمسون من المؤمنين أتهلكونهم ؟ قالوا : لا . قال : أفرأيتم إن كان فيهم أربعون أتهلكونهم ؟ قالوا : لا ، فما زال ينقص عشرة عشرة حتى بلغ خمسة نفر وكان عند إبراهيم أن امرأة لوط مؤمنة . وكانت هي الخامسة ، ولم يعلم أنها كافرة ، فما بلغ عدد المؤمنين خمسة ( ^ في قوم لوط ) . < < هود : ( 75 ) إن إبراهيم لحليم . . . . . > >
وقوله تعالى ( ^ إن إبراهيم لحليم أواه منيب ) قد بينا من قبل . وروي عن بكر بن عبد الله المزني قال : المنيب هو الذي يكون قلبه مع الله تعالى . وحقيقة الإنابة : هي الرجوع ، يقال : ناب وآب وأناب ، إذا رجع . < < هود : ( 76 ) يا إبراهيم أعرض . . . . . > >
قوله تعالى ( ^ يا إبراهيم أعرض عن هذا ) معنى الآية : أن الملائكة قالوا : يا إبراهيم أعرض عن المجادلة .
قوله : ( ^ إنه قد جاء أمر ربك ) أي : قضاء ربك وحكم ربك . وقوله : ( ^ وإنهم
____________________

( ^ أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود ( 76 ) ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب ( 77 ) وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا ) * * * * آتيهم عذاب غير مردود ) أي : غير مصروف عنهم . < < هود : ( 77 ) ولما جاءت رسلنا . . . . . > >
قوله : ( ^ لما جاءت رسلنا لوطا ) هؤلاء الرسل هم الذين كانوا عند إبراهيم جاءوا لوطا على صورة غلمان مرد ، حسن وجوههم ، نظيف ثيابهم ، طيب [ روائحهم ] .
وفي القصة : أنهم لقوا لوطا وهو يحتطب واستضافوه ، فحمل الحطب وتبعه الملائكة ، فمر معهم على جماعة من قومه فغمزوا فيما بينهم ، فقال لوط لهم : إن قومي شر خلق الله ، ثم إنه مر معهم على قوم آخرين منهم ، فغمزوا - أيضا - فيما بينهم ، فقال لوط - ثانيا - : إن قومي شر خلق الله تعالى ، ثم إنه مر معهم على قوم آخرين ، فتغامزوا فيما بينهم - أيضا - فقال لوط - ثالثا - : إن قومي شر خلق الله ، وكان الله تعالى قال لجبريل : لا تهلكهم حتى يشهد لوط عليهم ثلاث مرات ، فكان كلما قال لوط هذا القول قال جبريل للملائكة الذين معه : اشهدوا .
وقوله : ( ^ سيء بهم ) معناه : ساءه مجيئهم . وقوله : ( ^ وضاق بهم ذرعا ) يقال : ضاق ذرعاً فلان بكذا إذا وقع في مكروه لا يطيق الخلاص عنه .
ومعنى الآية هاهنا : أنه ضاق ذرعا في حفظهم ومنع القول منهم .
قوله تعالى ( ^ وقال هذا يوم عصيب ) أي : شديد . قال الشاعر :
( فإنك إن لم ترض بكر بن وائل ** يكن لك يوم بالعراق عصيب )
أي : شديد . وقال آخر :
( يوم عصيب يعصب الأبطالا ** عصب القوى السلم الطوالا ) < < هود : ( 78 ) وجاءه قومه يهرعون . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وجاءه قومه يهرعون إليه ) الآية ، يهرعون إليه معناه : يسرعون ويهرولون ؛ وقد بينا أن لوطا قد مر معهم بهم . وفي رواية أخرى : أن الملائكة جاءوا إلى بيت لوط - عليه السلام - وكان لوط في داره ، فذهبت امرأته السوء الكافرة إلى قومه وأخبرتهم مجيء هؤلاء فلما سمعوا جاءوا لقصد الفاحشة .
____________________

( ^ يعملون السيئات قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد ( 78 ) قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما ) * * * *
وقوله : ( ^ ومن قبل كانوا يعملون السيئات ) يعني : الفواحش ؛ وهي : إتيان الرجال .
وقوله : ( ^ قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم ) فيه قولان :
أحدهما : أنه عرض عليهم بنات نفسه تزويجا ونكاحا ؛ فإن قال قائل : كيف يجوز للمشرك أن يتزوج بمسلمة ؟
والجواب : أن ذلك كان جائزا في شريعتهم . ومنهم من قال : عرض عليهم بشرط الإسلام .
والقول الثاني - وهو قول مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وغيرهما - : أنه عرض عليهم نساءهم ، وسماهن بنات نفسه ؛ لأن النبي للأمة بمنزلة الأب ؛ وفي قراءة أبي بن كعب : ' النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم ' . ومنهم من قال : إنما قال هذا على طريق الدفع ، لا على طريق التحقيق ، ولم يرضوا هذا القول ؛ لأنه كان معصوما من الكذب . وقوله : ( ^ هن أطهر لكم ) معناه : أحل لكم .
قوله : ( ^ فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي ) معناه : خافوا الله ولا تفضحوني في أضيافي . ( ^ أليس منكم رجل رشيد ) معناه : أليس منكم رجل يأمر بالمعروف ويدفع القوم عن أضيافي . وروي عن عكرمة أنه قال : معنى قوله : ( ^ أليس منكم رجل رشيد ) معناه : أليس فيكم رجل يقول : لا إله إلا الله . < < هود : ( 79 ) قالوا لقد علمت . . . . . > >
قوله : ( ^ قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق ) فيه معنيان : أحدهما : ما لنا في بناتم من حق ، أي : حاجة وشهوة .
والثاني : ما لنا في بناتك من حق ، أي : من نكاح . وقوله ( ^ وإنك لتعلم ما نريد ) معناه : إنا نريد أدبار الرجال .
____________________

( ^ نريد ( 79 ) قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد ( 80 ) قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه ) * * * * < < هود : ( 80 ) قال لو أن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد ) القوة هاهنا : هي القوة في البدن ، أو القوة بالأتباع . والركن الشديد : المنعة بالعشيرة .
وقد ثبت عن النبي أنه قال : ' رحم الله أخي لوطا ؛ لقد كان يأوي إلى ركن شديد ' أي : إلى الله . رواه أبو هريرة .
وعن أبي هريرة أنه قال : ما بعث الله بعد ذلك نبيا إلا في منعة من قومه . < < هود : ( 81 ) قالوا يا لوط . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك ) . روى أنهم جاءوا وكسروا باب لوط وقصدوا الدخول . وفي رواية أخرى : أنهم كانوا ينازعون مع لوط على الباب ، فقال جبريل : يا لوط ، افتح الباب ودعهم يدخلوا ، فلما دخلوا ضرب بجناحه وجوههم فعموا كلهم ، وهذا معنى قوله تعالى : ( ^ ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم ) فقالوا : يا لوط ، لقد جئتنا بقوم سحرة ، سترى ما تلقى منا غدا ، وكانوا جاءوا مساء . وقوله : ( ^ لن يصلوا إليك ) معناه معلوم . وقوله : ( ^ فأسر بأهلك بقطع من الليل ) قرئ : ' فسر ' من السرى ، و ' فأسر ' من الإسراء ؛ والسرى : هو السير بالليل . وقال الشاعر :
( عند الصباح يحمد القوم السرى ** وتنجلي عني غيابات الكرى )
وقوله : ( ^ أسر ) من الإسراء ، والمعنيان واحد . وقوله : ( ^ بقطع من الليل ) أي : بآخر الليل . وقيل : إنه السحر الأول . قال الشاعر :
( ونائحة تنوح بقطع ليل ** على ميت بقارعة الصعيد )
____________________

( ^ مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب ( 81 ) فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود ) * * * *
وقوله تعالى : ( ^ ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك ) بالرفع ، وقرئ : ' إلا امرأتك ' بالنصب ؛ فقوله بالنصب معناه : فأسر بأهلك إلا امرأتك . ومن قرأ بالرفع معناه : ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك ؛ فإنها تلتفت ؛ فروي أنها لما سمعت الهدة في هلاك القوم التفتت وراءها فأصابها حجر فماتت ، وقد كان الله أمر لوطا وأهله أن لا يلتفتوا . وقوله : ( ^ إنه مصيبها ما أصابهم ) ظاهر المعنى . قوله : ( ^ إن موعدهم الصبح ) روي أن لوطا - عليه السلام - لما سمع هذا من جبريل قال : يا جبريل ، أريد أن تهلكهم الآن فقال له مجيبا : ( ^ أليس الصبح بقريب ) ؟ < < هود : ( 82 ) فلما جاء أمرنا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فلما جاء أمرنا ) أي : عذابنا . وقوله : ( ^ جعلنا عاليها سافلها ) روي أن جبريل جعل جناحه تحت مدائ لوط ، وهي خمس مدائن ، وفيها أربعمائة ألف ، وقيل : فيها أربعة آلاف ألف - ثم رفع المدائن حتى قربت من السماء وسمع أهل السماء صياح الديكة ونباح الكلاب ، وروي أنه لم يكفأ لهم إناء ولا انتبه لهم نائم ، ثم قلبها وأتبعهم الله تعالى بالحجارة ، هذا معنى قوله تعالى : ( ^ جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل ) .
وقوله : ( ^ من سجيل ) قال ابن عباس : سنك وكل ؛ وكلمة سجيل فارسية معربة .
وقيل : إنه كان طينا مطبوخا كالآجر .
والقول الثاني : أن السجيل هو السماء الدنيا .
والقول الثالث : أن السجيل هو السجين ؛ أبدلت النون باللام . وقيل : إن السجيل : مأخوذ من السجل ؛ وهو سجل الدلو . قال الشاعر :
( وأنا الأخضر من يعرفني ** أخضر الجلدة من بيت العرب )
____________________

( ^ مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد ( 83 ) وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم ) * * * *
( من يساجلني يساجل ماجدا ** يملأ الدلو إلى عقد الكرب )
ومعنى السجيل في الآية : هو الإرسال ، يعني : إرسال الحجارة .
وقوله : ( ^ منضود ) معناه : يتبع بعضها بعضا . < < هود : ( 83 ) مسومة عند ربك . . . . . > >
وقوله : ( ^ مسومة ) أي : معلمة . وفي القصة : أنه كان عليها خطوط حمر في سواد .
والقول الثاني : ' مسومة ' أي : عليها أسماء القوم . وعن الحسن البصري : أنه كان عليها شبه الخواتيم .
قوله : ( ^ عند ربك ) ظاهر المعنى .
وقوله : ( ^ وما هي من الظالمين ببعيد ) يعني : من ظالمي أهل مكة ببعيد .
وقد روي في بعض الآثار : أن على رأس كل ظالم حجرا معلقا في السماء ينتظر أمر الله تعالى . وهذا من الغرائب ، والله أعلم .
وفي بعض القصص : أنه كان منهم رجل في الحرم ، فبقي الحجر معلقا في السماء أربعين يوما حتى خرج الرجل [ وأصابه الحجر ] . وروي أن الحجر اتبع شرادهم ومسافريهم أين كانوا في البلاد حتى هلكوا .
وأورد بعضهم أن الله تعالى أهلك مدائن لوط سوى زعر ، فإنه أبقاها للوط وأهله . < < هود : ( 84 ) وإلى مدين أخاهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإلى مدين أخاهم شعيبا ) قد بينا أن الأخوة هاهنا هي الأخوة في النسب لا في الدين . وقال بعضهم : إنه لم يكن بين شعيب وأهل مدين أخوة في النسب - أيضا - وكان غريبا فيهم ، وإنما أراد بالأخوة المجانسة في البشرية . والصحيح هو الأول .
____________________

( ^ اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ( 84 ) ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين ( 85 ) بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ ( 86 ) قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما ) * * * *
وقوله : ( ^ قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ) ظاهر المعنى . قول : ( ^ ولا تنقصوا المكيال والميزان ) معناه : ولا تبخسوا المكيال والميزان . وكانوا مع شركهم يطففون في المكيال والميزان . وروي عن عبد الله بن عمر أنه كان إذا مر بالسوق قال : أيها الباعة ، أوفوا الكيل وأوفوا الوزن ، وقد سمعتم ما فعل الله بقوم شعيب .
وعن ابن عباس قريب من هذا .
وقوله : ( ^ إني أراكم بخير ) قال مجاهد : أي : بخصب وسعة .
وقوله : ( ^ وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ) أي : محيط بكم فيهلككم . < < هود : ( 85 ) ويا قوم أوفوا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ) أي : بالعدل .
وقيل : تقويم لسان الميزان . وقوله : ( ^ ولا تبخسوا الناس أشياءهم ) أي : لا تنقصوا الناس أشياءهم . وقوله : ( ^ ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) . < < هود : ( 86 ) بقية الله خير . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين ) معناه : ما أبقى الله لكم من الحلال خير مما تأخذون بالبخس في المكيال والميزان . وقيل : بقية الله : طاعة الله . وقوله : ( ^ إن كنتم مؤمنين ) أي : إن كنتم مؤمنين أن ما عندكم من رزق الله تعالى وعطائه .
قوله : ( ^ وما أنا عليكم بحفيظ ) قيل معناه : لم أؤمر بقتالكم . وقيل : ما أنا عليكم بحفيظ أي : بوكيل . < < هود : ( 87 ) قالوا يا شعيب . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ) فيه قولان :
أحدهما : أدينك يأمرك ؟ ، والثاني : أقرآنك يأمرك أن نترك ( ^ ما يعبد آباؤنا أو أن
____________________

( ^ يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد ( 87 ) قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ( 88 ) ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم ) * * * * نفعل في أموالنا ما نشاء ) يعني : من النقصان والزيادة : وقيل : من قرض الدراهم والدنانير ، وكان قد نهاهم عن ذلك ، وزعم أنه محرم عليهم .
وقوله : ( ^ إنك لأنت الحليم الرشيد ) فيه قولان :
أحدهما : إنك لأنت الحليم الرشيد في زعمك ؛ قالوا ذلك استهزاء .
والثاني معناه : إنك لأنت السفيه الأحمق . < < هود : ( 88 ) قال يا قوم . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ) معناه : على بيان من ربي .
وقوله : ( ^ ورزقني منه رزقا حسنا ) معناه : رزقا حلالا . وفي القصة : أن شعيبا كان كثير المال . وقيل : الرزق الحسن هاهنا : هو النبوة .
وقوله تعالى : ( ^ وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ) معناه : ما أريد أن آمركم بشيء وأعمل خلافه .
وقوله : ( ^ إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت ) ظاهر المعنى .
وقوله : ( ^ وما توفيقي إلا بالله ) دليل على أن الطاعة لا يؤتى بها إلا بتوفيق الله ، والتوفيق من الله : هو التسهيل والتيسير والمعونة .
قوله تعالى : ( ^ عليه توكلت ) أي : عليه اعتمدت .
وقوله : ( ^ وإليه أنيب ) معناه : إليه أرجع . < < هود : ( 89 ) ويا قوم لا . . . . . > >
قوله : ( ^ ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي ) معناه : لا يكسبنكم ولا يحملنكم شقاقي أي : خلافي على فعل ( ^ أن يصيبكم ) فيصيبكم ( ^ مثل ما أصاب قوم نوح ) من
____________________

( ^ هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد ( 89 ) واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود ( 90 ) قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ) * * * * الغرق ( ^ أو قوم هود ) من الريح ( ^ أو قوم صالح ) من الصيحة الصعقة . وقوله ( ^ وما قوم لوط منكم ببعيد ) قيل : إنهم كانوا جيران قوم لوط في الديار ، وكانت مدائنهم قريبا بعضها من بعض . < < هود : ( 90 ) واستغفروا ربكم ثم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه ) قد بينا المعنى . وقوله : ( ^ إن ربي رحيم ودود ) في الودود معنيان :
أحدهما : أن الودود هو المحب لعباده .
والثاني : أو الودود بمعنى المودود أي : يحبه العباد لفضله وإحسانه .
وفي الخبر المعروف أن النبي قال : ' أحبوا الله بما يغذوكم به منه نعمه ، وأحبوني بحب الله ، وأحبوا أهل بيتي لحبي ' .
وفي بعض الأخبار عن النبي قال : ' كان شعيب خطيب الأنبياء ' . < < هود : ( 91 ) قالوا يا شعيب . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول ) معناه : ما نفهم كثيرا مما تقول . وقوله : ( ^ وإنا لنراك فينا ضعيفا ) في الضعيف أقوال ، أكثر المفسرين أن الضعيف هاهنا : هو ضرير بالبصر . ويقال : إنه لغة حمير .
والقول الثاني : أن الضعيف هو الضعيف في البدن .
والثالث : أنه قليل الأتباع .
____________________

( ^ ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز ( 91 ) قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا إن ربي بما تعملون محيط ( 92 ) ويا قوم اعملوا على ) * * * *
وقوله : ( ^ ولولا رهطك لرجمناك ) أي : ولولا عشيرتك لرجمناك ، والرجم أقبح القتلات . وقوله : ( ^ وما أنت علينا بعزيز ) يعني : ما أنت عندنا بعزيز ، وإنما نتركك لمكان رهطك . < < هود : ( 92 ) قال يا قوم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله ) معناه : أمكان رهطي عندكم أهيب وأمنع من الله تعالى ؟ وحقيقة المعنى : أنكم تركتم قتلي بمكان رهطي فأولى أن تحفظوني في الله تعالى .
وقوله : ( ^ واتخذتموه وراءكم ظهريا ) معناه : وألقيتم أمر الله تعالى وراء ظهوركم . يقال : فلان جعل كذا منه ظهريا أي : ألقاه وراء ظهره .
وقوله : ( ^ إن ربي بما تعملون محيط ) ظاهر المعنى .
وذكر الأزهري في تقدير الآية ومعناها قال : إنكم تزعمون أنكم تتركون قتلي لكرامة رهطي ، فأولى أن تكرموا أمر الله وتتبعوه ؛ وحقيقة المعنى : هو الإنكار على من اتقى الناس ولم يتق الله . قال : وقوله : ( ^ واتخذتموه وراءكم ظهريا ) تقول العرب : فلان جعل كذا بظهر إذا تركه ولم يلتفت إليه . قال الشاعر :
( تميم بن قيس لا تكونن حاجتي ** بظهر فلا يعيا على جوابها ) < < هود : ( 93 ) ويا قوم اعملوا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ويا قوم اعملوا على مكانتكم ) قيل : المكانة : هي الحالة التي يتمكن فيها المرء من الفعل ) .
ومعنى الآية : اعملوا على تمكنكم ومنزلتكم ( ^ إني عامل ) على تمكني ومنزلتي ( ^ سوف تعلمون ) من ينجو ومن يهلك .
والآية فيها تهديد ووعيد شديد ، وليس في القرآن ( ^ سوف تعلمون ) إلا في هذه الآية .
____________________

( ^ مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب ( 93 ) ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين ( 94 ) كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود ( 95 ) ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين ( 96 ) إلى ) * * * *
وقوله تعالى : ( ^ من يأتيه عذاب يخزيه ) يذله ويفضحه ( ^ ومن هو كاذب ) فيه حذف ، وتقدير الآية : سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ، ومن هو كاذب يخزى أيضا .
وقوله : ( ^ وارتقبوا إني معكم رقيب ) يعني : انتظروا إني معكم منتظر . < < هود : ( 94 ) ولما جاء أمرنا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولما جاء أمرنا ) معناه : لما جاء وقت عذابنا ( ^ نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة ) والصيحة : الهلاك ، تقول العرب : صاح فلان في مال فلان أي : أهلكه ، قال امرؤ القيس :
( فدع عنك نهبا صيح في حجراته ** ولكن حديثا ما حديث الرواحل )
روي أن عليا - رضي الله عنه - تمثل بهذا البيت في بعض أموره .
ويقال : إن الصيحة هاهنا صيحة جبريل - عليه السلام - صاح بهم صيحة واحدة فماتوا عن آخرهم ، فهذا معنى قوله : ( ^ فأصبحوا في ديارهم جاثمين ) أي : ميتين خامدين ، لا يتحركون . < < هود : ( 95 ) كأن لم يغنوا . . . . . > >
قوله : ( ^ كأن لم يغنوا فيها ) معناه : كأن لم يكونوا يقيمون فيها منعمين مسرورين .
وقوله : ( ^ ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود ) معناه : ألا خيبة وهلاكا لمدين كما خابت وهلكت ثمود . < < هود : ( 96 ) ولقد أرسلنا موسى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين ) معناه : بآياتنا التسع ، وسلطان مبين أي : حجة بينة ، وكل سلطان ذكر في القرآن فهو بمعنى الحجة . وقيل :
____________________

( ^ فرعون وملئه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد ( 97 ) يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود ( 98 ) وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود ( 99 ) ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد ( 100 ) وما ) * * * *
السلطان مأخوذ من السليط ، وهو الزيت الذي يستضاء به . < < هود : ( 97 ) إلى فرعون وملئه . . . . . > >
قوله : ( ^ إلى فرعون وملئه ) وملأه معلوم . قوله : ( ^ فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد ) معناه : اتبعوا أمر فرعون في اتخاذه إلها وترك الإيمان بموسى ( ^ وما أمر فرعون برشيد ) أي : بمرشد إلى خير وصلاح . < < هود : ( 98 ) يقدم قومه يوم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يقدم قومه يوم القيامة ) معناه : يتقدم قومه يوم القيامة ( ^ فأوردهم النار ) فأدخلهم النار . ( ^ وبئس الورد المورود ) معناه : بئس الداخل وبئس المدخل .
وفي بعض المسانيد : عن أبي بردة ، عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن النبي قال : ' إذا كان يوم القيامة جمع الله الخلائق في صعيد واحد ، ثم يرفع لكل قوم آلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله ، فيوردونهم النار ، ويبقى المؤمنون ، فيقول الله عز وعلا لهم : ماذا تنتظرون ؟ فيقولون : ننتظر ربا كنا نعبده بالغيب ، فيقول لهم : هل تعرفونه ؟ فيقولون : إن شاء عرفنا نفسه . قال : فيتجلى لهم ، فيخرون له سجدا ، فيقول الله سبحانه وتعالى : يا أهل التوحيد ، ارفعوا رءوسكم ؛ فقد أوجبت لكم الجنة ، وجعلت مكان كل واحد منكم يهوديا أو نصرانيا ' . < < هود : ( 99 ) وأتبعوا في هذه . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ وأتبعوا في هذه لعنة ) معناه : في الدنيا لعنة بعذاب التفريق ( ^ ويوم القيامة ) لعنة بعذاب النار . وقوله : ( ^ بئس الرفد المرفود ) يعني : بئست اللعنة بعد اللعنة . وقال أبو عبيدة : أي : بئس العون ( المعان ) ، ومعناه هاهنا : أن اللعنة جعلت لهم في موضع المعونة . وقيل : بئس العطاء المعطي . < < هود : ( 100 ) ذلك من أنباء . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ذلك من أنباء القرى نقصه عليك ) معناه : من أخبار القرى نقصه
____________________

( ^ ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب ( 101 ) وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ( 102 ) إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود ( 103 ) وما نؤخره إلا لأجل معدود ( 104 ) يوم ) * * * * عليك ( ^ منها قائم وحصيد ) أي : منها معمور وخراب . وقيل معناه : منها قائم أي : بقيت الحيطان ، وسقطت السقوف . ومنها حصيد : أي : انمحى أثره . < < هود : ( 101 ) وما ظلمناهم ولكن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم ) قد بيناه من قبل . وقوله : ( ^ فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر بك ) يعني : بالعذاب . وقوله : ( ^ وما زادوهم غير تتبيب ) أي : غي تخسير . وقيل : غير تدمير . < < هود : ( 102 ) وكذلك أخذ ربك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وكذلك أخذ ربك إذ أخذ القرى وهي ظالمة ) وجه التشبيه أن أخذه هؤلاء في حال الظلم والشرك كأخذه أهل القرى حين كانوا في مثل حالهم من الظلم والشرك . وقوله : ( ^ إن أخذه أليم شديد ) ظاهر المعنى .
وقد ثبت عن النبي أنه قال : ' إن الله بمهل الظالم - أو يملي الظالم - حتى إذا أخذه لم يفلته ' ثم قرأ قوله تعالى : ( ^ وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة ) والخبر في ' الصحيحين ' برواية أبي موسى الأشعري . < < هود : ( 103 ) إن في ذلك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن في ذلك لآية ) معناه : لعبرة ( ^ لمن خاف عذاب الآخرة ) ظاهر المعنى ( ^ ذلك يوم مجموع له الناس ) يعني : يوم القيامة يجمع الله فيه الأولين والآخرين ( ^ وذلك يوم مشهود ) يعني : يشهده جميع الخلق . وقيل : أهل السماء وأهل الأرض . < < هود : ( 104 ) وما نؤخره إلا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وما نؤخره إلا لأجل معدود ) يعني : إلا لوقت معلوم عند الله لا
____________________

( ^ يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد ( 105 ) ) عند الناس .
وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما أنه قال : مدة الدنيا سبعة آلاف سنة ، لا يدري أحدكم ما مضى منها وكم بقي . < < هود : ( 105 ) يوم يأت لا . . . . . > >
وقوله : ( ^ يوم يأت ) وقرئ : ' يوم يأتي ' بالياء . وحكى الخليل وسيبويه أن العرب تقول : لا أدر ، أي : لا أدري . وذكر الفراء أن العرب تجتزيء بالكسرة عن الياء بعدها . وقوله : ( ^ لا تكلم نفس إلا بإذنه ) في الآية سؤال معروف وهو : أن الله تعالى قد قال في ( موضع ) آخر : ( ^ وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ) وقال هاهنا : ( ^ لا تكلم نفس إلا بإذنه ) فكيف وجه التوفيق بينهما ؟
الجواب : قد ذكرنا أن في القيامة مواقف ؛ ففي موقف يتكلمون ويتساءلون ، وفي موضع يسكتون ولا يتكلمون ، وفي موقف يختم على أفواههم وتتكلم جوارحهم ، وقيل غير هذا ، وقد بينا .
وقوله : ( ^ فمنهم شقي وسعيد ) الشقاوة : قوة أسباب البلاء ، والسعادة : قوة أسباب النعمة . ومعنى الآية هاهنا عند أهل السنة : فمنهم شقي سبقت له الشقاوة ، ومنهم سعيد سبقت له السعادة .
وفي الأخبار المسندة : أن عبد الرحمن بن عوف لما حضرته الوفاة أغمي عليه ، فلما أفاق قال : أتاني ملكان فظان غليظان وجراني وقالا : تعال نحاكمك إلى العزيز الأمين ، قال : فلقيهما ملك وقال : أين تريدان به ؟ قالا : نحاكمه إلى العزيز الأمين ، فقال لهما : خليا عنه ، فإنه ممن سبقت له السعادة في الذكر الأول .
____________________

( ^ فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق ( 106 ) ) * * * *
وقد صح عن النبي أنه قال في خبر ملك الأرحام : ' إنه إذا كتب أجله وعمله ورزقه يقول : يا رب ، أشقي أم سعيد ؟ فيقول الله تعالى ، ويكتب الملك ' . خرجه مسلم .
وروى ابن عمر عن عمر - رضي الله عنهما - ' أنه لما نزل قوله تعالى : ( ^ فمنهم شقي وسعيد ) قال عمر : يا رسول الله : فيم العمل ؟ أنعمل في أمر قد فرغ منه وجرت به الأقلام ، أو في أمر لم يفرغ منه ؟ فقال : بل في أمر قد فرغ منه وجرت به الأقلام يا عمر ، ولكن كل ميسر لما خلق له ' . أورده أبو عيسى في جامعه .
وقال بعضهم : إن السعادة والشقاوة هاهنا في الرزق والحرمان . وقال بعضهم : الشقاوة : بالعمل السيء ، والسعادة : بالعمل الحسن . والمأثور الصحيح هو الأول . < < هود : ( 106 ) فأما الذين شقوا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق ) هذه الآية تعد من مشكلات القرآن ، وقد أكثر العلماء فيها الأقوال ، ونذكر ما يعتمد عليه :
أما الزفير : قيل : إنه صوت في الحلق ، والشهيق : صوت في الجوف . ويقال : إن الزفير : أول نهاق الحمير ، والشهيق : آخر نهاق الحمير . < < هود : ( 107 ) خالدين فيها ما . . . . . > >
وقوله : ( ^ خالدين فيها ما دامت السموات والأرض ) أما بالمعنى المأثور : روى الضحاك ، عن ابن عباس : أن الآية نزلت في قوم من المؤمنين يدخلهم الله تعالى النار ، ثم يخرجهم منها إلى الجنة ، ويسمون الجهنميين . وقد ثبت برواية جابر أن النبي
____________________

( ^ خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد ( 107 ) وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ) * * * * قال : ' يخرج الله قوما من النار قد صاروا ( حمما ) فيدخلهم الجنة ' .
وفي الباب أخبار كثيرة .
فعلى هذا القول معنى الآية : فأما الذين شقوا : هؤلاء الذين أدخلهم النار ( ^ لهم فيها زفير وشهيق ) ظاهر المعنى ( ^ خالدين فيها ) مقيمين فيها ( ^ ما دامت السموات والأرض ) عبر بهذا عن طول المكث .
وقوله : ( ^ إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد ) الاستثناء وقع على ما بعد الإخراج من النار بشفاعة الأنبياء والمؤمنين . < < هود : ( 108 ) وأما الذين سعدوا . . . . . > >
وأما قوله : ( ^ وأما الذين سعدوا ففي الجنة ) أراد به المؤمنين الذين أدخلهم الجنة من غير أن يدخلوا في النار . وقوله : ( ^ خالدين فيها ما دامت السموات والأرض ) أي : مقيمين فيها ما دامت السموات والأرض ، كنى بهذا عن طول المكث ، والعرب تقول مثل هذا وتريد به الأبد ، فإنهم يقولون : لا آتيك ما دامت السموات والأرض يعني : لا آتيك أبدا ، ولا آتيك ما كان لله في البحر قطرة يعني : لا آتيك أبدا . فخرج هذا الكلام على مخرج كلام العرب . وقوله : ( ^ إلا ما شاء ربك ) الاستثناء وقع على المدة التي كانوا في النار قبل إدخالهم الجنة .
وفي الآية قولان آخران معروفان سوى هذا عند أهل المعاني :
أحدهما : أن معنى قوله : ( ^ خالدين فيها ما دامت السموات والأرض ) هو على ظاهره ، أي : مدة بقاء السموات والأرض . وقوله : ( ^ إلا ما شاء ربك ) معناه : سوى ما شاء ربك من الزيادة على مدة بقائهما . وحكى الفراء عن العرب أنهم يقولون : لك علي ألف إلا الألفين يعني : سوى الألفين الذين تقدما .
____________________

( ^ ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ ( 108 ) فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص ( 109 ) ولقد آتينا )
والقول الثاني : أن معنى قوله : ( ^ خالدين فيها ما دامت السموات والأرض ) أي : ما دام سموات الجنة وأرضها . وقوله : ( ^ إلا ما شاء ربك ) الاستثناء واقف على زمان الوقوف في القيامة ومدة المكث في القبر .
وقيل في الاستثناء قول ثالث وهو : أنه قال : ( ^ إلا ما شاء ربك ) معناه : ولو شاء لقطع التخليد عليهم ، ولكن لا يشاء ، وهو مثل قوله تعالى : ( ^ وما [ يكون ] لنا ان نعود فيها إلا أن يشاء الله رب العالمين ، ولكن لا يشاء الله . وقوله : ( ^ إن ربك فعال لما يرد ) يعني : لا يمتنع عليه شيء ، وقال في الآية الثانية : ( ^ عطاء غير مجذوذ ) غير مقطوع .
وفي بعض التفاسير عن أبي هريرة أنه قال : يأتي على جهنم زمان لا يبقى فيها أحد . وعن الحسن البصري قريبا من هذا .
ومعنى هذا عند أهل السنة - إن ثبت - أن المراد منه الموضع الذي فيه المؤمنون من النار ، ثم يخرجون عنه فلا يبقى فيها أحد ، وأما مواضع الكفار فهي ممتلئة بهم أبد الأبد على ما نطق به الكتاب والسنة ، نعوذ بالله من النار . < < هود : ( 109 ) فلا تك في . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فلا تك في مرية ) في شك ( ^ مما يعبد هؤلاء ) يقال : إن الخطاب معه والمراد منه الأمة . وقوله : ( ^ ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل ) ظاهر المعنى . وقوله : ( ^ وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص ) قال ابن عباس معناه : لموفوهم نصيبهم من الخير والشر بلا نقصان .
____________________

( ^ موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب ( 110 ) وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعلمون خبير ( 111 ) فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير ( 112 ) ) * * * * < < هود : ( 110 ) ولقد آتينا موسى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ) المراد من الآية : تسلية النبي ، كأنه قال : إن اختلفوا عليك ولم يؤمنوا بك فقد اختلفوا على موسى ولم يؤمنوا به . وقوله : ( ^ ولولا كلمة سبقت من ربك ) يعني : لولا ما سبق من حكم الله بتأخير العذاب إلى يوم القيامة . وقوله : ( ^ لقضي بينهم ) أي : لعذبوا في الحال وأهلكوا . وقوله : ( ^ وإنهم لفي شك منه مريب ) ظاهر المعنى . < < هود : ( 111 ) وإن كلا لما . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإن كلا ) قرئ : ' وإن ' و ' إن ' - بالتخفيف والتشديد - ، أما ' إن ' و ' إن ' قالوا : هما بمعنى واحد ، قال الشاعر :
( ( ووجه ) حسن النحر ** كأن ثدييه حقان )
معناه : كأن ثدييه حقان .
وقوله : ( ^ لما ) بالتخفيف قيل : ' لما ' بمعنى ' لمن ' ، ويقال : إن اللام للقسم ، كأن الله تعالى قال : وإن كلا لمن الله ليوفينهم ربك أعمالهم . وأما قوله : ' لما ' بالتشديد قيل : معنى ' لما ' بالتشديد هو معناها بالتخفيف . ذكره المازني .
وقال الأزهري : أصح المعاني أن ' لما ' بمعنى ' إلا ' أي : وإلا ليوفينهم ربك أعمالهم ( ^ إنه بما يعملون خبير ) ظاهر المعنى . < < هود : ( 112 ) فاستقم كما أمرت . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ فاستقم كما أمرت ) معنى الاستقامة : هو المداومة على موجب الأمر والنهي . وقد روي عن النبي برواية أبي مسلم الخولاني ، عن عمر بن الخطاب - والصحيح عن أبي ذر - أنه قال : ' لو صليتم حتى تكونوا كالحنايا ، وصمتم حتى تكونوا كالحنائر - ومعناه : كالأوتاد - ثم كان الاثنان أحب إليكم
____________________

من الواحد لم تبلغوا حد الاستقامة ' . روى هذا الخبر جماعة من الزهاد ؛ رواه حاتم الأصم ، عن شقيق ، عن إبراهيم بن أدهم ، عن مالك بن دينار ، عن أبي مسلم بهذا الإسناد .
وفي الخبر المعروف : أن النبي قال : ' استقيموا ولن تحصوا ، ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن ' . وعن عمر - رضي الله عنه - أنه قال : الاستقامة : أن تستقيم على الأمر والنهي ، ولا تروغ روغان الثعالب . وهذا أثر مشهور .
وقد روي غير هذا في الاستقامة ، يذكر في موضعها .
وفي الخبر المعروف أيضا : أن النبي قال : ' شيبتني هود ' وفيه معنيان :
أحدهما : قال هذا لكثرة ما ذكر الله تعالى في هذه السورة من إهلاك القرون الماضية ( و ) الأمم السالفة .
والمعنى الثاني : أنه قال ؛ لقوله تعالى ( ^ فاستقم كما أمرت ) .
وقوله : ( ^ ومن تاب معك ) معناه : ومن أسلم معك . وقوله : ( ^ ولا تطغوا ) فيه معنيان :
____________________

( ^ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون ( 113 ) ) * * * *
أحدهما : ولا تطغوا في الاستقامة يعني : لا تزيدوا على ما أمرت ونهيت ، فتحرموا ما أحل الله ، وتكلفوا أنفسكم ما لم يشرعه الله ولم يفعله الرسول وأصحابه .
والمعنى الثاني : الطغيان هو البطر لزيادة النعمة . وقيل : الطغيان والبغي بمعنى واحد .
( ^ إنه بما تعملون بصير ) ظاهر المعنى . < < هود : ( 113 ) ولا تركنوا إلى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فمسكم النار ) الركون : هو المحبة والمودة والميل بالقلب . وعن أبي العالية الرياحي قال : هو الرضا بأعمالهم . وعن السدي قال : هو المداهنة معهم . وعن عكرمة قال : هو طاعتهم . وقوله : ( ^ فتمسكم النار ) أي : فتصيبكم النار .
وقوله : ( ^ وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون ) ظاهر المعنى . < < هود : ( 114 ) وأقم الصلاة طرفي . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وأقم الصلاة طرفي النهار ) قال الحسن البصري : طرفي النهار : الصبح والعصر ، ( ^ وزلفا من الليل ) : المغرب والعشاء .
وقال مجاهد : طرفي النهار : الصبح والظهر والعصر ، وزلفا من الليل : المغرب والعشاء .
وعلى هذا القول : الآية جامعة للصلوات الخمس . وعن بعضهم : طرفا النهار : الصبح والمغرب ، وزلفا من الليل : العتمة .
ومعنى قوله : ( ^ زلفا من الليل ) ساعات الليل . وقيل : ساعة من الليل . وقرأ مجاهد : ' وزلفى من الليل ' وقرأ ابن محيصن : ' وزلفا من الليل ' . والمعروف : زلفا من الليل . قال الشاعر :
( طي الليالي زلفا فزلفا ** سماوة الهلال حتى احقوقفا )
____________________

( ^ وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين ( 114 ) ) * * * *
وسبب نزول الآية : ما روي عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - ' أن رجلا أتى النبي فقال : يا رسول الله ، إني دخلت بستانا فأصبت امرأة ، فنلت منها ما ينال الرجل من امرأته ، إلا أني لم أجامعها ، وها أنا ذا بين يديك فاصنع ما شئت ، فأنزل الله تعالى هذه الآية : ( ^ وأقم الصلاة ) إلى ان قال : ( ^ إن الحسنات يذهبن السيئات ) . قال معاذ بن جبل : يا رسول الله - وفي رواية قال : جاء رجل من القوم فقال : يا رسول الله - هذا له خاصة أو للمسلمين عامة ؟ فقال رسول الله : بل للمسلمين عامة ' .
وروى أبو أمامة الباهلي : ' أن رجلا أتى رسول الله وقال : يا رسول الله : إني أصبت حدا فأقمه علي ، فقال : هل شهدت معنا هذه الصلاة وقد تطهرت ؟ فقال : نعم . قال عليه السلام : اذهب فقد غفر الله لك ما أصبت ' . وروت عائشة - رضي الله عنها - أن النبي قال : ' لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه خمس مرات في اليوم ، هل يبقى من درنه شيئا ؟ قالوا : لا يا رسول الله . قال : فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بها الخطايا ' . وهذا خبر صحيح .
وفي تكفير الخطايا بالصلوات الخمس خبر عثمان - رضي الله عنه - وذكر فيه : ' أن كل صلاة تكفر ما بينها وبين الصلاة الأخرى ' . وعن سلمان - رضي الله عنه
____________________

( ^ واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ( 115 ) ) * * * * - أنه كان قاعدا في ظل شجرة فأخذ منها غصنا يابسا وهزه فتحات عنه الورق ، ثم قال : هل تدرون لم فعلت هذا ؟ قالوا : لا . فقال : من تطهر وصلى الصلوات الخمس تحاتت عنه الذنوب كما تحات هذا الورق من هذا الغصن . وعن أبي اليسر - رجل من الأنصار - ' أن امرأة أتت إليه تطلب تمرا تشتريه ، فقال : في الدكان تمر أجود مما ترينه ، قال : فدخلت الدكان فقبلها والتزمها ، وأصاب منها ما يصيب الرجل من امرأته إلا أنه لم يجامعها ، ثم جاء إلى النبي - عليه السلام - وذكر له ذلك ، وقال : افعل بي ما شئت ، فسكت النبي ساعة ، فأنزل الله تعالى هذه الآية : ( ^ وأقم الصلاة طرفي النهار ) إلى أن قال : ( ^ إن الحسنات يذهبن السيئات ) .
وروي عن معاذ أنه قال : يا رسول الله ، أوصني ، فقال : ' اتق الله حيثما كنت ، وأتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن ' .
فهذه الأخبار كلها دالة على معنى الآية .
وفي بعض التفاسير : أن رجلا جلس إلى سعيد بن المسيب ، فسمعه ابن المسيب يقول : اللهم وفقني للباقيات الصالحات ، فقال له سعيد : وما الباقيات الصالحات ؟ قال : الصلوات الخمس ، فقال سعيد : لا ، إنما الباقيات الصالحات : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وإنما الصلوات الخمس هي الحسنات .
وقوله : ( ^ ذلك ذكرى للذاكرين ) يعني : ذلك عظة للمتعظين .
____________________

( ^ فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين ( 116 ) وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ( 117 ) ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين ( 118 ) ) * * * * < < هود : ( 115 ) واصبر فإن الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ) ظاهر المعنى ، حث على الصبر على هذه الصلوات ، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين . < < هود : ( 116 ) فلولا كان من . . . . . > >
قوله : ( ^ فلولا كان من القرون من قبلكم ) الآية ، قوله : ' فلولا ' معناه : فهلا ، وقيل : فلم لا ، والآية للتوبيخ والتعجيب . وقوله : ( ^ أولوا بقية ) قيل : أولوا طاعة . وقيل : أولوا تمييز . وقيل : أولو بقية من خير . ويقال : فلان على بقية من الخير إذا كان على طاعة ، أو مسكة من عقل ، أو على خصلة محمودة . وقوله : ( ^ ينهون عن الفساد في الأرض ) يعني : يقومون بالنهي عن الفساد . وقوله : ( ^ إلا قليلا ) هذا استثناء منقطع ، ومعناه : لكن قليلا ممن أنجينا من القرون ( نهوا ) عن الفساد .
وقوله : ( ^ ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه ) المترف : هو المتنعم . وقيل : هو المعود بالسعة واللذة . وقيل : المترف : هو الذي أبطره الغنى والنعمة .
فمعنى الآية : واتبع الذين ظلموا ما عودوا من ركوب الشهوات واللذات .
( ^ وكانوا مجرمين ) ظاهر . < < هود : ( 117 ) وما كان ربك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ) في الآية قولان :
أحدهما : أنه لا يهلكهم بمجرد الشرك إذا تعاطوا الإنصاف فيما بينهم ، ولم يظلم بعضهم بعضا .
والثاني : هو أن الله لا يظلم أهل قرية فيهلكهم بلا جناية . والأول أشهر . < < هود : ( 118 ) ولو شاء ربك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ) أي : ولو شاء ربك لجعل
____________________

( ^ إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ( 119 ) وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في ) * * * * الناس على دين واحد .
وقوله : ( ^ ولا يزالون مختلفين ) المراد منه : أهل الباطل كاليهود والنصارى والمجوس وأهل الشرك ، وكذلك من خالف السنة من أهل القبلة . < < هود : ( 119 ) إلا من رحم . . . . . > >
وقوله : ( ^ إلا من رحم ربك ) أي : لكن من رحم ربك ، وهم أهل الحق لا يختلفون . وقوله : ( ^ ولذلك خلقهم ) فيه أقوال :
أحدها : ما روي عن مجاهد أنه قال : وللرحمة خلقهم . وهو مروي عن ابن عباس . وقال الحسن البصري : وللاختلاف خلقهم . وهو أيضا مروي عن ابن عباس ، وعن الحسن البصري في رواية أخرى : خلق أهل الجنة للجنة ، وخلق أهل النار للنار ، وخلق أهل الشقاء للشقاء ، وخلق أهل السعادة للسعادة .
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام : إن الذي أختاره في معنى الآية : أنه خلق فريقا للرحمة وفريقا للعذاب . قال : وعليه أهل السنة .
وذكر بعضهم : أن مقصود الآية هو أن أهل الباطل مختلفون ، وأهل الحق متفقون ، وخلق أهل الباطل للاختلاف ، وخلق أهل الحق للاتفاق .
قال النحاس : وهذا أبين الأقوال وأسرحها .
واستدل أبو عبيد على ما زعم من المعنى بقوله تعالى : ( ^ وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ) قال : ومعناه : وتم حكم ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين .
وقد ثبت عن النبي أنه قال - حاكيا عن الله محاجة الجنة والنار ، فقال للجنة : ' أنت رحمتي أرحم بك من شئت من عبادي ، وقال للنار : أنت عذابي أعذب بك من شئت ، ولكل واحدة منكما ملؤها ' .
____________________

( ^ هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين ( 120 ) وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون ( 121 ) وانتظروا إنا منتظرون ( 122 ) ولله غيب السموات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون ( 123 ) ) * * * * < < هود : ( 120 ) وكلا نقص عليك . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ) معناه : وكل الذي تحتاج إليه من أنباء الرسل نقصها عليك ؛ لثبت بها فؤادك . فإن قيل : قد كان فؤاده ثابتا فأيش معنى قوله : ( ^ لنثبت به فؤادك ) ؟
قلنا معناه : لتزداد ثباتا ، وهذا مثل قوله تعالى في قصة إبراهيم : ( ^ ولكن ليطمئن قلبي ) .
وقوله : ( ^ وجاءك في هذه الحق ) الأكثرون أن معناه : وجاءك في هذه السورة الحق . وقال بعضهم : وجاءك في هذه الدنيا الحق .
فإن قيل : أي فائدة في تخصيص هذه السورة وقد جاءه الحق في كل سورة ؟
قلنا : فائدته : تشريف السورة ، وتشريفها بالتخصيص لا يدل على انه لم يأته الحق في غيرها ، ألا ترى أن الإنسان يقول : فلان في الحق إذا حضره الموت ، وإن كان في الحق قبله وبعده .
قوله : ( ^ وموعظة ) معناه : وجاءتك موعظة ( ^ وذكرى للمؤمنين ) أي : وتذكير للمؤمنين . < < هود : ( 121 ) وقل للذين لا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون ) معنى الآية : هو التهديد والوعيد على ما بينا من قبل . < < هود : ( 122 ) وانتظروا إنا منتظرون > >
وقوله : ( ^ وانتظروا إنا منتظرون ) في معنى الآية . < < هود : ( 123 ) ولله غيب السماوات . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولله غيب السموات والأرض ) أي : ولله علم ما غاب في السموات والأرض .
وقوله : ( ^ وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه ) معناه : إليه يرجع أمر العباد فيجازيهم على الخير والشر ( ^ وما ربك بغافل عما تعملون ) يعني : أنه لا يغيب عنه شيء من أعمال العباد وإن صغر ، والله أعلم .
____________________


____________________

تم بحمد الله تعالى المجلد الثاني من تفسير أبي المظفر السمعاني ويتلوه المجلد الثالث إن شاء الله تعالى وأوله تفسير سورة يوسف
____________________

<
> بسم الله الرحمن الرحيم <
> <
> تفسير سورة يوسف <
>
وهي مكية باتفاق القراء ، وفي الأخبار : أن الله تعالى أنزل ما أنزل من القرآن فقرأه المسلمون مدة ، ثم قالوا : يا رسول الله ، لو قصصت علينا ؛ فأنزل الله تعالى هذه السورة ، وفيها : ( ^ نحن نقص عليك أحسن القصص ) ثم قالوا بعد ذلك : لو حدثتنا يا رسول الله ، فأنزل ( ^ الله نزل أحسن الحديث ) ، ثم قالوا : ( لو ذكرتنا ) يا رسول الله ، فأنزل الله تعالى : ( ^ ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ) كل ذلك يحيلهم على القرآن .
وعن خالد بن معدان أنه قال : سورة يوسف وسورة مريم يتفكه ( بهما ) أهل الجنة في الجنة .
وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي قال : ' إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - عليهم السلام - ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف ثم دعيت إلى ما دعى إليه لأجبت ' - وعنى حين دعاه الملك من السجن . والخبر صحيح .
____________________

( ^ الر تلك آيات الكتاب المبين ( 1 ) إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ( 2 ) نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين ) * * * * < < يوسف : ( 1 ) الر تلك آيات . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ الر ) معناه : أنا الله أرى ؛ وقد بينا من قبل سوى هذا من المعنى في معنى [ الحروف ] المقطعة ، فلا نعيد .
وقوله : ( ^ تلك آيات الكتاب المبين ) يعني : هذه الآيات التي أنزلتها عليك هي تلك الآيات التي وعدت إنزالها في التوراة والإنجيل . وقوله : ( ^ المبين ) معناه : البين حلاله وحرامه . وقيل : البين رشده وغيه . < < يوسف : ( 2 ) إنا أنزلناه قرآنا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إنا أنزلناه قرآنا عربيا ) أكثر المفسرين على أن المراد منه : إنا أنزلنا القرآن عربيا . وفي مسانيد ابن عباس رضي الله عنهما ، عن النبي أنه قال : ' أحبوا العرب لثلاث : لأني عربي ، والقرآن عربي ، وكلام أهل الجنة بالعربية ' . وقوله ( ^ لعلكم تعقلون ) أي : تفهمون . < < يوسف : ( 3 ) نحن نقص عليك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ نحن نقص عليك أحسن القصص ) قال أهل التفسير : معناه : نحن نبين لك أخبار الأمم السالفة والقرون الماضية أحسن البيان ؛ والقاص : هو الذي يأتي بالخبر على وجهه . وقيل : إن المراد من الآية قصة يوسف خاصة ؛ سماها أحسن القصص لزيادة التشريف . ( وقيل ) : أعجب القصص . وقيل : أحكم القصص . والأول هو القول المشهور . وحكي عن ابن عطاء أنه قال : لا يسمع سورة يوسف محزون إلا استروح إليها
____________________

( ( 3 ) إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين ( 4 ) قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن ) * * * *
وقوله : ( ^ بما أوحينا إليك هذا القرآن ) معناه : بوحينا إليك هذا القرآن . وقوله : ( ^ وإن كنت من قبله لمن الغافلين ) أي : لمن الساهين عن هذه القصة وغيرها . < < يوسف : ( 4 ) إذ قال يوسف . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إذ قال يوسف لأبيه ) معناه : اذكر إذ قال يوسف لأبيه : ( ^ يا أبت ) قرىء بقراءتين : ' يا أبت ' و ' يا أبت ' بالكسر والفتح ؛ أما بالكسر فالأصل : ' يا أبتي ' ثم حذف الياء واجتزىء بالكسرة . وأما بالفتح : فالأصل : ' يا أبتا ' ثم أسقط الألف واكتفى بالنصب . قال الأعشى :
( فيا أبتا لا تزل عندنا ** فإنا نخاف بأن نخترم )
وقوله : ( ^ إني رأيت أحد عشر كوكبا ) في القصة : أن يوسف كان له اثنتا عشرة سنة حين رأى هذه الرؤيا . وقد قيل غير ذلك ، والله أعلم . وروى ( أنه رأى هذه ) الرؤيا ليلة الجمعة ليلة القدر . وقوله ( ^ أحد عشر كوكبا ) يعني : أحد عشر نجما من نجوم السماء ، وكان المراد منها إخوته ، وكانوا أحد عشر رجلا ، يستضاء بهم كما يستضاء بالكواكب . وقوله ( ^ والشمس والقمر ) تأويل الشمس : أبوه ، وتأويل القمر : أمه . هكذا قال قتادة وغيره . وقال بعضهم : كانت أمه في الموتى ، وهذه خالته راحيل . وقال ابن جريج : القمر : أبوه ، والشمس : أمه ؛ لأن الشمس مؤنثة والقمر مذكر . وقوله : ( ^ رأيتهم لي ساجدين ) قال بعضهم : عندي ساجدين لله . والأصح : أنهم سجدوا له تحية وكرامة . فإن قال قائل : ( قد قال ) : ( ^ ساجدين ) ولم يقل ' ساجدات ' وحق العربية في النجوم أن يقال : ' ساجدات ' .
الجواب : أن الله تعالى لما أخبر عنهم بفعل من يعقل وهو السجود ألحقهم بمن يعقل في إعراب الكلام فقال : ساجدين ، ولم يقل : ' ساجدات ' بهذا .
____________________

( ^ الشيطان للإنسان عدو مبين ( 5 ) وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم ( 6 ) لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين ( 7 ) إذ قالوا ) * * * * < < يوسف : ( 5 ) قال يا بني . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك ) قال أهل التفسير : إن رؤيا الأنبياء وحي ، فعلم يعقوب أن الإخوة لو سمعوا ( بهذه ) الرؤيا عرفوا أنها حق فيحسدونه ( فأمره بالكتمان ) لهذا المعنى . وقوله : ( ^ فيكيدوا لك كيدا ) معناه : فيحتالوا لك حيلة . ( ^ إن الشيطان للإنسان عدو مبين ) ومعناه : إن الشيطان يزين لهم ذلك ويحملهم عليه لعداوته . للعداوة القديمة . < < يوسف : ( 6 ) وكذلك يجتبيك ربك . . . . . > >
قوله تعالى ( ^ وكذلك يجتبيك ربك ) معناه : وكما رفع منزلتك وأراك هذه الرؤيا فكذلك يجتبيك أي : يصطفيك ربك . ( ^ ويعلمك من تأويل الأحاديث ) تأويل [ ما تؤول إليه عاقبة أمره ] . وأكثر المفسرين على أن المراد من هذا علم التعبير وما تؤول إليه الرؤيا ، قالوا : وكان يوسف أعلم الناس بالرؤيا وأعبرهم لها . وقوله : ( ^ ويتم نعمته عليك ) يعني : يجعلك نبيا ، وذلك تمام النعمة على الأنبياء ( ^ وعلى آل يعقوب ) وعلى أولاد يعقوب ؛ فإن أولاد يعقوب كلهم كانوا أنبياء . وقوله : ( ^ كما أتمها على أبوك من قبل إبراهيم وإسحاق ) يعني : كما جعلهما نبيين من قبل كذلك يجعلك نبيا .
وقوله : ( ^ إن ربك عليم حكيم ) ظاهر المعنى .
وقد قيل : إن المراد من تمام النعمة على إبراهيم : هو إنجاؤه من النار ، والمراد من تمام النعمة على إسحاق : هو إنجاؤه من الذبح . وهذا قول مشهور . وذكر الحسن البصري أنه كان بين هذه الرؤيا وبين هذا القول وبين تحقيقها ، ثمانون سنة . وذكر عبد الله بن شداد أنه كان بينهما أربعون سنة . وهذا أشهر القولين .
____________________

( ^ ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين ( 8 ) اقتلوا ) * * * * < < يوسف : ( 7 ) لقد كان في . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين ) وفي بعض المصاحف : ' عبرة للسائلين ' ، والآيات : جمع الآية ؛ والآية : هي الدلالة على أمر عظيم . وفي معنى الآية قولان :
أحدهما : أن اليهود سألوا رسول الله عن قصة يوسف - عليه [ الصلاة ] السلام - وفي بعض الروايات ( أنهم سألوه ) عن سبب انتقال ولد يعقوب من كنعنان إلى مصر ، فذكر لهم قصة يوسف فوجدوها موافقة لما في التوراة ؛ فهذا معنى قوله : ( ^ آيات للسائلين ) أي : دلالة على نبوة الرسول .
والقول الثاني : أن ( نعنى ) قوله : ( ^ آيات للسائلين ) يعني : أنها غبر للمعتبرين فإنها تشتمل على ذكر حسد إخوة يوسف له وما آل إليه أمرهم في الحسد ، وتشتمل على ذكر رؤياه وما حقق الله منها ، وتشتمل على ما صبر يوسف عن قضاء الشهوة ، وعلى العبودية في السجن ، وما آل إليه أمره من الملك ، وتشتمل أيضا على ذكر حزن يعقوب وما آل إليه أمره من الوصول إلى المراد ، وذهاب الحزن عنه ، وغير هذا مما يذكر في السورة ؛ فهذه عبر للمعتبرين . < < يوسف : ( 8 ) إذ قالوا ليوسف . . . . . > >
قوله : ( ^ إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ) الآية ، كان يوسف وأخوه بنيامين من أم واحدة ، وكان يعقوب شديد الحب ليوسف ، وكان إخوة يوسف يرون منه من الميل إليه ما لا [ يرونه ] لأنفسهم ، فقالوا هذه المقالة . وقوله : ( ^ ونحن عصبة ) قال الفراء : العصبة هي : العشرة فما زادت . ( قال القتيبي ) ومن العشرة إلى الأربعين . وقال غيرهما : ' ونحن عصبة ' أي : جماعة يتعصب بعضنا لبعض . وقوله : ( ^ إن أبانا لفي ضلال مبين ) معناه : إن أبانا لفي خطأ ظاهر . فإن قال قائل : كيف وصفوا رسولا من رسل الله مثل يعقوب بالضلالة ؟
الجواب عنه : ليس ( المعنى ) من الضلال هاهنا هو الضلال في الدين ، ولو
____________________

( ^ يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين ( 9 ) ) * * * * أرادوه صاروا كفارا ؛ وإنما المراد من الضلال هاهنا : هو الخطأ ( في تدبير ) أمر الدنيا ، وعنوا بذلك : أنا أولى بالمحبة في تدبير أمر الدنيا ؛ لأنا أنفع له وأكبر من يوسف ، ونصلح له أمر معايشه ، ونرعى له مواشيه ؛ فهو مخطىء من هذا الوجه . < < يوسف : ( 9 ) اقتلوا يوسف أو . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ اقتلوا يوسف ) القتل : تخريب البنية على وجه لا يصح معها وجود الحياة .
وقوله : ( ^ أو اطرحوه أرضا ) أي : اطرحوه في أرض تأكله السباع ، وقيل : اطرحوه إلى أرض يبعد عن أبيه ويبعد أبوه عنه . وقوله : ( ^ يخل لكم وجه أبيكم ) يعني : يخلص لكم وجه أبيكم . وقوله : ( ^ وتكونوا من بعده قوما صالحين ) يعني : توبوا بعد أن فعلتم هذا ، ودوموا على الصلاح يعف الله عنكم .
واستدل أهل السنة بهذه الآية على أن توبة القاتل عمدا مقبولة ؛ فإن الله تعالى ذكر عزم القتل [ منهم ] وذكر التوبة ولم ينكر عليهم التوبة بعد القتل ؛ دل أنها مقبولة .
قال ابن إسحاق - يعني : محمد بن إسحاق - : وقد اشتمل فعلهم على جرائم ، منها : قطيعة الرحم ، وعقوق ( الوالد ) ، وقلة الرأفة بالصغير الطريح الذي لا ذنب له ، والغدر بالأمانة ، وترك العهد بالحفظ ، والكذب الذي عزموا عليه مع أبيهم يعقوب عليه الصلاة والسلام ، ثم عفا الله عنهم مع هذا كله ؛ لئلا ييأس أحد من رحمته . وقال بعض أهل العلم : إنهم عزموا على قتله ؛ ولكن الله تعالى حبسهم عن قتله رأفة ورحمة بهم ، ولو مضوا على قتله لهلكوا أجمعين . < < يوسف : ( 10 ) قال قائل منهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال قائل منهم ) الأكثرون على أن هذا كان يهوذا ، وكان أكبرهم
____________________

( ^ قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم ) * * * *
في العقل لا أكبرهم في السن . هذا قول ابن عباس ، قال : وكان ابن خالة يوسف .
وقال قتادة : هو روبيل .
وقال سفيان بن عيينة : هو شمعون . وأصح الأقوال هو الأول .
وقوله : ( ^ لا تقتلوا يوسف ) أشار عليهم أن لا ترتكبوا هذه الكبيرة العظيمة . وقوله ( ^ وألقوه في غيابة الجب ) يعني : أسفل الجب ، والغيابة : كل موضع ستر عنك الشيء ( وغيبه ) . قال الشاعر :
( بني إذا ما غيبتني غيابتي ** فسيروا بسيري في العشيرة والأهل )
وعنى بالغيابة : القبر ؛ لأنه يغيب الميت ويستره . والجب : هو البئر التي لم تطو لأنه قطع قطعا ولم تطو بعد ، والجب : هو القطع .
قوله : ( ^ يلتقطه بعض السيارة ) أي : يجده بعض السيارة ، والالتقاط : هو أخذ الشيء من حيث لا يحتسبه ، والسيارة : هم المسافرون . قوله : ( ^ إن كنتم فاعلين ) يعني : إن عزمتم على فعلكم .
واختلف أهل العلم أنهم كانوا بالغين أو لم يكونوا بالغين حين عزموا على هذا وفعلوا ؟
فالأكثرون أنهم كانوا رجالا بالغين ، إلا أنهم لم يكونوا أنبياء بعد ، والدليل عليه : أنهم قالوا : وتكونوا من بعده قوما صالحين ؛ وهذا إنما يستقيم بعد البلوغ ويدل ( عليه ) أنهم قالوا : يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين ، والصغير لا ذنب له ، دل أنهم كانوا رجالا .
ومنهم من قال : كانوا صغارا . وهذا القول غير مرضي . واستدل من قال بهذا القول
____________________

( ^ فاعلين ( 10 ) قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون ( 11 ) أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون ( 12 ) قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف ) * * * * بأنهم قالوا : ' أرسله معنا غدا نرتع ونلعب ' ، واللعب فعل الصغار لا فعل الكبار .
وأجابوا عن هذا : أنهم لم يذكروا لعبا حراما ، وإنما عنوا لعبا مباحا .
وحكي عن أبي عمرو بن العلاء أنه سئل عن قوله : ( ^ نلعب ) فقيل له : كيف قالوا : ' نلعب ' وقد كانوا أنبياء ؟ فقال : هذا قبل أن نبأهم الله تعالى . < < يوسف : ( 11 ) قالوا يا أبانا . . . . . > >
قوله تعالى ( ^ قالوا يا أبانا مالك لا تأمنا على يوسف ) بدءوا أولا ( بالإنكار ) عليه في ترك إرساله معهم وحفظه مع نفسه من بينهم ، كأنهم قالوا له : إنك لا ترسله معنا أتخافنا عليه ؟ !
قوله : ( ^ وإنا له لناصحون ) النصح هاهنا : هو القيام بمصلحه ، وقيل : إنه البر والعطف ، ومعناه : إنا عاطفون عليه ، بارون به ، قائمون بمصلحته . < < يوسف : ( 12 ) أرسله معنا غدا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ أرسله معنا غدا نرتع ونلعب وإنا له لحافظون ) قوله : ( ^ نرتع ) الرتع : هو الاتساع في الملاذ في طلب وجوهها يمينا وشمالا . وقيل معنى الآية : نأكل ونشرب وننشط ونلهو . وقرىء : ' يرتع ويلعب ' بالياء ، وهو في معنى الأول ، إلا أنه ينصرف إلى يوسف خاصة ، وقرىء : ' يرتعي ' وهو يفتعل من الرعي ، ومعناه : إنه يرعى الماشية كما نرعى . وقوله : ( ^ وإنا له لحافظون ) . < < يوسف : ( 13 ) قال إني ليحزنني . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال إني ليحزنني أن تذهبوا به ) معناه : إني ليغمني أن تذهبوا به ؛ والحزن هاهنا : ألم القلب بفراق المحبوب . وقوله : ( ^ وأخاف أن يأكله الذئب ) في القصة : أن يعقوب صلوات الله عليه كان رأى في المنام كأن ذئبا شد على يوسف - وكان يخاف من ذلك - فقال ما قال بذلك الخوف . وقد قال بعضهم : إنه أراد بالذئب إياهم . وليس هذا بشيء ؛ لأنه لو خافهم عليه لم يدفعه إليهم ، وما كان يجوز له ذلك ، ولأنه معنى متكلف مستكره ، فلا يجوز أن يصار إليه . وقوله : ( ^ وأنتم عنه غافلون )
____________________

( ^ أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون ( 13 ) قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون ( 14 ) فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوا في غيابت الجب وأوحينا إليه ) * * * * أي : ساهون . < < يوسف : ( 14 ) قالوا لئن أكله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة ) أي : جماعة يتقوى بعضنا ببعض . وقوله : ( ^ إنا ذا لخاسرون ) يعني : إنا إذا لعاجزون . < < يوسف : ( 15 ) فلما ذهبوا به . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب ) الإجماع : هو العزم على الشيء ، والواو هاهنا مقحمة ، والمعنى : فلما ذهبوا به أجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب . قال الشاعر :
( أجمعوا أمرهم بليل فلما ** أصبحوا أصبحوا علي لصوصا )
وقوله ( ^ [ وأجمعوا ] أن يجعلوه في غيابة الجب ) معناه : بأن يلقوه في غيابة الجب . وذكر وهب بن منبه ، وغيره أنهم لما أخذوا يوسف أخذوه بغاية الإكرام وجعلوا يحملونه إلى أن أصحروا به ، فلما أصحروا به ألقوه وجعلوا يضربونه وهو يستغيث حتى كادوا يقتلونه ، ثم إن يهوذا منعهم منه . وذكروا أنه كان من أبناء [ اثنتى عشرة ] سنة . هذا هو المعروف .
وفي بعض الروايات : أنه كان ابن ست سنين . وفي بعض الروايات : أنه كان ابن سبع عشرة سنة . وهذا معروف أيضا .
ثم أنهم أجمعوا ( على أن ) يطرحوه في البئر ، فجاءوا إلى بئر على غير الطريق واسع الأسفل ، ضيق الرأس ، فطرحوه فيها ، فروي أنه كان يتعلق بجوانب البئر ، فشدوا
____________________

( ^ لتنبئهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون ( 15 ) وجاءوا أباهم عشاء يبكون ( 16 ) قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا ) * * * * يديه ثم ألقوه . وفي بعض الروايات : ( أنهم ) جعلوه في دلو وأرسلوه في البئر ، فلما بلغ الماء فإذا صخرة فقام عليها . وروي أنهم قالوا له : اقعد في ذلك الطاق من البئر ، فإذا جاء من يستقي فتعلق بالدلو حتى تخرج .
قال محمد بن مسلم الطائفي : لما صار يوسف في البئر دعا الله تعالى فقال : يا شاهدا غير غائب ، ويا غالبا غير مغلوب ، ويا قريبا غير بعيد ، اجعل لي مما أنا فيه فرجا ومخرجا .
ثم اختلفت الرواية أنه كم بات في البئر ؟ فالأكثرون : أنه بات فيها ثلاث ليالي والقول الآخر : أنه بات فيها ليلة .
وقوله تعالى : ( ^ وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا ) [ قول ] أكثر أهل التفسير على أن هذا الوحي إلى يوسف ، وبعث الله جبريل يؤنسه ويبشره بالخروج ويخبره : أنه ينبئهم بما فعلوا ويجازيهم عليه وهم لا يعرفون أنه يوسف ، وسيأتي بعد هذه القصة . وقيل : ( ^ وهم لا يشعرون ) أنه أوحى إليه .
وفي الآية قول آخر : وهو أن الوحي هاهنا هو الإلهام ؛ وهو مثل قوله تعالى : ( ^ وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه ) وأما إتيان جبريل كان بعد هذا . < < يوسف : ( 16 ) وجاؤوا أباهم عشاء . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وجاءوا أباهم عشاء يبكون ) قال أهل المعاني : جاءوا في ظلمة العشاء ليكونوا أجرأ على الاعتذار بالكذب ؛ فروي أن يعقوب سمع صياحهم وعويلهم فخرج وقال : ما لكم ؟ هل أصاب الذئب من غنمكم شيئا ؟ قالوا : لا ؛ وإنما الذئب أكل يوسف . وقرأ الحسن : ' غشاء يبكون ' ، ومعناه : قد غشيت أبصارهم من البكاء . < < يوسف : ( 17 ) قالوا يا أبانا . . . . . > >
وقوله : ( ^ قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق ) أي : ننتضل وننظر لمن السبق . وقيل :
____________________

( ^ صادقين ( 17 ) وجاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر ) * * * * نستبق على أقدامنا . وقد ثبت أن النبي سابق عائشة رضي الله عنها مرتين ، فسبقته عائشة في المرة الأولى ، وسبقها النبي في المرة الثانية ، فقال لها : ' هذه بتلك ' .
وقوله : ( ^ وتركنا يوسف عند متاعنا ) يعني : عند ثيابنا وأقمشتنا ( ^ فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ) يعني : بمصدق لنا ( ^ ولو كنا صادقين ) يعني : وإن كنا صادقين .
فإن قال قائل : كيف يجوز أن يقولوا لنبي الله : أنت لا تصدق الصادق ؟ !
الجواب معناه : أنا لو كنا صادقين عندك كنت تتهمنا في هذا الأمر بشدة حبك له وميلك إليه ، فكيف وقد خفتنا في الابتداء واتهمتنا في حقه ؟ !
وفيه معنى آخر : وهو أن معنى قوله ( ^ وما أنت بمؤمن لنا ) : أنك لا تصدقنا لأنه لا دليل لنا على صدقنا ، وإن كنا صادقين عند الله . < < يوسف : ( 18 ) وجاؤوا على قميصه . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وجاءوا على قميصه بدم كذب ) هذا دليل على أنهم نزعوا قميصه عنه حين ألقوه في البئر ، فروى أنه قال لهم : دعوا لي قميصي أتستر به ، فقالوا له : ادع الشمس والقمر والكواكب تسترك - يعنون : ما رأى من الرؤيا .
وقوله : ( ^ بدم كذب ) وقيل : بدم يعني : بدم ذي كذب . وقيل : مكذوب فيه . وعن الحسن البصري أنه قرأ : ' بدم كدب ' بالدال غير المعجمة وهو الدم المتغير .
وفي القصة : أنهم لطخوا القميص بالدم ولم يشقوه ، فقال يعقوب صلوات الله عليه : كيف أكله الذئب ولم يشق قميصه ؟ ! ما عهدت الذئب حليما . حكى عن الحسن البصري .
____________________

( ^ جميل والله المستعان على ما تصفون ( 18 ) وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بشرى هذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون ( 19 ) وشروه بثمن ) * * * *
وروي أن بعضهم قالوا : قتله اللصوص ، فاختلفوا على يعقوب فاتهمهم به و ( ^ قال بل سولت لكم أنفسكم ) يعني : كذبتم ، بل زينت لكم أنفسكم ( ^ أمرا ) والتسويل : التزيين ، وقوله : ( ^ فصبر جميل ) معناه : فأمري صبر جميل . وقيل : فصبر جميل أختاره . والصبر الجميل : هو الذي لا شكوى فيه ولا جزع . وقوله : ( ^ والله المستعان على ما تصفون ) معناه : والله المستعان على الصبر على ما تكذبون .
وفي القصة : أنهم ذهبوا وجاءوا بذئب وقالوا : هذا الذي أكل ولدك ، فقال له يعقوب : يا ذئب ! أكلت ولدي وثمرة فؤادي ؟ فأنطقه الله تعالى وقال : بالله ما رأيت وجه ابنك قط ، فقال : فكيف وقعت بأرض كنعان ؟ فقال : جئت لصلة قرابة . أورده النقاش في تفسيره ، والله أعلم .
واختلفوا في موضع البئر الذي أدلي فيها يوسف ؛ قال قتادة : هي بئر بيت المقدس . وقيل : إنها بئر بأرض الأردن ، وقال مقاتل : بئر معروفة ، كانت بين منزل يعقوب وبينها ثلاثة فراسخ ، والله أعلم . < < يوسف : ( 19 ) وجاءت سيارة فأرسلوا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه ) السيارة : هم القوم المسافرون ، سموا سيارة لأنهم يسيرون في الأرض . وقوله : ( ^ فأرسلوا واردهم ) والوارد : هو الذي يقدم القوم ليستقي الماء من البئر . قال الأصمعي : تقول العرب : أدليت الدلو إذا أرسلتها في البئر ، ودليتها إذا نزعتها من البئر . وقوله ( ^ قال ( يا بشراي ) هذا غلام ) فيه قولان : أحدهما - وهو أظهر القولين - : أن معنى قوله : ( ^ يا بشراي ) أي : أبشروا ، هذا غلام . ذكره الفراء والزجاج .
والقول الثاني : أنه نادى صاحبه - وكان اسمه بشرى - فقال : يا بشراي ، هذا غلام أي : يا فلان ، هذا غلام . ذكره الأعمش والسدي .
____________________


وفي القصة : أن البئر كانت على غير الطريق ، ولكن القوم ضلوا الطريق حتى وقعوا عليها ، فلما جاء الوارد وأرسل الدلو لطلب الماء ، تعلق به يوسف ، نزعوا على ظن أنه الماء . وروى ابن مجاهد ، عن أبيه أن جدران البئر كانت تبكي على يوسف حتى أخرج منها . وفي القصة أيضا أن صاحب السيارة كان مالك بن دعر ، رجل من خزاعة . وقوله : ( ^ وأسروه بضاعة ) معناه : أن الوارد ومن كان معه أسروه بضاعة عن أهل الرفقة ، مخافة أن يطلبوا المشاركة فيه .
وقوله : ( ^ بضاعة ) معناه : أنهم قالوا : نقول للقوم : إن أهل الماء استبضعونا هذا الغلام . والبضاعة : هي القطعة من المال ، والبضع : هو القطع . ومنه قوله في فاطمة رضي الله عنها : ' إنها بضعة مني ' أي : قطعة مني . وهذا خبر ثابت .
وقوله : ( ^ والله عليم بما يعملون ) ظاهر . < < يوسف : ( 20 ) وشروه بثمن بخس . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وشروه بثمن بخس دراهم معدودة ) أكثر أهل التفسير على أن الذين باعوه إخوته ، وهو قول ابن عباس وعامة المتقدمين . وقوله ' شروه ' هو بمعنى : باعوه .
قال الشاعر :
( وشريت بردا ليتني ** من بعد برد كنت هامة )
وفي القصة : أن القوم لما استخرجوا يوسف من البئر جاء إخوته وقالوا : هذا غلام أبق منا وهددوا يوسف حتى لم يعرف ( حاله ) وأقر ما قالوه ثم إنهم باعوه منهم .
والقول الثاني في الآية : أن الذين باعوا يوسف هم الذين استخرجوه من البئر . والصحيح هو الأول .
وقوله : ( ^ بثمن بخس ) البخس في اللغة : هو النقص ، ومعنى البخس هاهنا : هو الحرام ؛ سمي الحرام بخسا لأنه مبخوس البركة . هذا قول الشعبي وغيره . وقال بعضهم : ( ^ بثمن بخس ) أي : ذي ظلم . وعن ابن مسعود ، وابن عباس أنهما قالا :
____________________

( ^ بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين ( 20 ) وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه ) * * * * بثمن بخس : زيوف . وقيل : بثمن بخس أي : قليلا .
اختلفوا ، كم كان الثمن ؟ قال مجاهد : كان [ اثنين وعشرين ] درهما ، والإخوة أحد عشر رجلا ، فاقتسموا وأخذ كل واحد درهمين سوى يهوذا فإنه لم يأخذ شيئا . وعن ابن عباس قال : باعوه بعشرين درهما . وقيل : [ باعوه ] بأربعين .
قوله ( ^ دراهم معدودة ) يعني : أنهم عدوها عدا ولم يزنوها وزنا لقلتها . وقال : إنهم كانوا لا يزنون ما دون الأوقية وهو أربعون درهما .
وقوله : ( ^ وكانوا فيه من الزاهدين ) يعني : ( أنهم ) لم يكن لهم رغبة في يوسف ؛ لأنهم لم يعرفوا كرامته على الله . وقيل : إنهم كانوا في الثمن من الزاهدين على معنى أنه لم يكن قصدهم الثمن ؛ إنما قصدهم تبعيد يوسف عن أبيه . < < يوسف : ( 21 ) وقال الذي اشتراه . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه ) في القصص : أن مالك بن دعر قدم به مصر وعرضه على البيع فاشتراه قطيفير صاحب أمر الملك وخازنه ، وقيل : قنطور ، وكان يسمى العزيز ولم يك أحد بمصر يسمى باسمه كرامة وتشريفا ، فروى أنه اشتراه بعشرين دينارا ونعلين وحلة . وذكر وهب بن منبه أنه لما عرض على البيع تزايد الناس في ثمنه حتى بلغ ثمنه : وزنه ذهبا ووزنه فضة ووزنه مسكا ووزنه حريرا ، وكان وزنه أربعمائة رطل ومائتا ( من ) ' . قال وهب : وكان ابن ثلاث عشرة سنة في ذلك الوقت . وقد بينا أن على قول بعضهم : كان ابن سبع عشرة سنة . قال كعب وغيره : كان من أحسن الناس وجها ، كان على صورة آدم حين خلقه
____________________

( ^ عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من ) * * * * الله تعالى قبل أن يواقع المعصية . وفي بعض الآثار : ' أن يوسف أعطي شطر الحسن ' . وهو غريب ، وقيل : إنه انتزع إلى جدته سارة ، وكانت سارة أعطيت سدس الحسن .
وقوله : ( ^ لامرأته ) قيل : كان اسمها : راغيل . وقيل : كان اسمها : زليخة .
وقوله : ( ^ أكرمي مثواه ) معناه : أكرميه في المطعم والملبس والمقام . والمثوى في اللغة : موضع الإقامة ، ويقال : ثوى بالمكان إذا أقام .
وقوله ( ^ عسى أن ينفعنا ) يعني : نبيع بالربح إن أردنا البيع ، أو ينفعنا بالخدمة إن لم نبعه . وقوله ( ^ أو نتخذه ولدا ) يعني : أو نعتقه ونتبناه . وقد ثبت عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه برواية أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عنه أنه قال : أفرس الناس ثلاثة : العزيز في يوسف حين قال لامرأته : ' أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا ' وابنة شعيب في موسى - عليه السلام - حيث قالت : ' يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين ' [ وأبو بكر في عمر رضي الله عنهما ] حيث استخلفه .
وقوله : ( ^ وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ) معناه : كما خلصناه من الهلاك ونجيناه من ظلمة البئر كذلك مكناه في الأرض ؛ والأرض هاهنا : أرض مصر ، وقوله : ( ( ^ مكناه ) ) أي ( بالتهليل ) وبسط اليد ورفع المنزلة إلى أن بلغ ما بلغ .
وقوله : ( ^ ولنعلمه من تأويل الأحاديث ) قد بينا من قبل . وقوله : ( ^ والله غالب على أمره ) فيه قولان ؛ أحدهما : أن الله غالب على أمره لا يمنعه منه مانع ، ولا يرده عما يريد راد .
____________________

( ^ تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( 21 ) ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين ( 22 ) وراودته التي هو في بيتها عن ) * * * *
والقول الثاني : والله غالب على أمر يوسف بالتدبير والحياطة حتى يبلغه منتهى علمه فيه . وقوله : ( ^ ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) ظاهر . < < يوسف : ( 22 ) ولما بلغ أشده . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولما بلغ أشده ) الأكثرون على أن الأشد : ثلاث وثلاثون سنة وإليها تنتهي ، يعني : قوة الشباب . وقيل : ثلاثون سنة . وقيل : من تمام [ ثماني عشرة ] سنة إلى أربعين . وسئل مالك عن الأشد ، فقال : هو الحلم .
وقوله ( ^ آتيناه حكما وعلما ) أي : فقها وعقلا . وقيل : الحكم : النبوة ، والعلم : هو الفقه في الدين . والفرق بين الحكيم والعالم : أن العالم هو الذي يعلم الأشياء ، والحكيم : هو الذي يعلم بما يوجبه العلم . وقيل : هو الذي يمنع نفسه عما يجهله ويسفهه ، ومنه حكمة الدابة ؛ لأنها تمنع الدابة عن الفساد . قال الشاعر :
( أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم ** إني أخاف عليكم أن أغضبا )
يعني : امنعوا سفهاءكم .
وقوله : ( ^ وكذلك نجزي المحسنين ) ظاهر المعنى . < < يوسف : ( 23 ) وراودته التي هو . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وراودته التي هو في بيتها عن نفسه ) معنى المراودة : طلب الفعل ، والمراد هاهنا : هو الدعاء إلى الفاحشة . وقوله : ( ^ وغلقت الأبواب ) يعني : أطبقت الأبواب واستوثقت منها ، ويقال : إنها غلقت سبعة أبواب . وقوله : ( ^ وقالت هيت لك ) معناه : هلم ، وعلى هذا أكثر المفسرين . وقيل : معناه : تعال أنا لك . وقريء : ' هيت لك ' أي : تهيأت لك . وأنكر الكسائي هذه القراءة . قال الشاعر في قوله هيت :
( أبلغ أمير المؤمنين ** أخا العراق إذا أتينا )
( أن العراق وأهله ** عنق إليك فهيت هيتا )
____________________

( ^ نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون ( 23 ) ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه ) * * * *
وقوله : ( ^ قال معاذ الله ) معناه : قال : أعوذ بالله أي : أعتصم به إنه ربي .
[ و ] الأكثرون أنه أراد به العزيز ؛ ومعناه : إنه سيدي . وقوله : ( ^ إنه ربي أحسن مثواي ) أي : أكرم مثواي . وقوله : ( ^ إنه لا يفلح الظالمون ) أنه لا يسعد الزناة ولا العصاة . < < يوسف : ( 24 ) ولقد همت به . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولقد همت به وهم بها ) [ الآية ] ، الهم : هو المقاربة من الفعل من غير دخول فيه . وقوله : ( ^ ولقد همت به ) همها : هو عزمها على المعصية والزنا ، وأما هم يوسف : فاعلم أنه قد ثبت عن عبد الله بن عباس أنه سئل عن قوله ( ^ وهم بها ) قال : جلس منها مجلس الخاتن وحل هميانه . رواه ابن أبي مليكة ، وعطاء وغيرهما . وعن مجاهد أنه قال : حل سراويله وجعل يعالج ثيابه . وهذا قول أكثر المتقدمين ؛ منهم : سعيد بن جبير ، والحسن البصري ، والضحاك وغيرهم .
[ و ] قال أبو عبيد القاسم بن سلام : وقد أنكر قوم هذا القول ؛ والقول ما قاله متقدمو هذه الأمة وهم كانوا أعلم بالله أن يقولوا في الأنبياء من غير علم . وكذلك قال ابن الأنباري ، وزعم بعض المتأخرين أن الهم ( كان منها ) : هو العزيمة على المعصية ، وأما الهم منه : كان خاطر القلب وشدة المحبة بالشهوة .
وفي القصة : أن المرأة قالت له : ما أحسن عينيك ، فقال : هي أول ما تسيل من وجهي في قبري ، فقالت : ما أحسن شعرك ، فقال : هو أول ما ينشر في قبري ، فقالت إن فراش الحرير مبسوط فقم فاقض حاجتي ، فقال : إذا يذهب نصيبي من الجنة ، فقالت : إن الجنينة عطشة فقم فاسقها ، فقال : إن المفتاح بيد غيري ، قال : فجاء
____________________

الشيطان ودخل بينهما وأخذ يحنكه وحنكها حتى همت به وهم بها ، ثم إن الله تعالى تدارك عبده ونبيه بالبرهان الذي ذكره . وقال قطرب : معنى قوله : ( ^ وهم بها ) أي : وهم بها لولا أن رأى برهان ربه .
وأنكر سائر النحاة عليه هذا القول ، وقالوا إن العرب لا تؤخر لولا عن الفعل ، وإنما كلام العرب هو التقديم فحسب ، فإنهم يقولون : لولا كذا لفعلت كذا ، ولا يقولون ، فعلت كذا لولا كذا . وقال بعضهم : ' وهم بها ' أي : بضربها ودفعها عن نفسه ، وهو تأويل بعيد . وقال بعض أهل التفسير : يحتمل أن ذلك القدر الذي فعله يوسف من الهم كان في تلك الشريعة من الصغائر يجوز على الأنبياء . قال الحسن البصري : إن الله تعالى لم يذكر ذنوب الأنبياء في القرآن ليعيرهم بها ؛ ولكن ذكرها ليبين موقع النعمة عليهم بالعفو ، ولئلا ييأس أحد من رحمته وقيل : إنه ابتلاهم بالذنوب ليتفرد بالطهارة والعزة ، ويلقاه جميع الخلق يوم القيامة على انكسار المعصية . وقوله : ( ^ لولا أن رأى برهان ربه ) أكثر أهل التفسير : أنه رأى يعقوب صلوات الله عليه [ صكه ] في صدره وهو يقول له : أتعمل عمل السفهاء وأنت في ديوان الأنبياء ؟ !
وروى ليث ، عن ابن عباس أنه قعد منها مقعد الرجل من امرأته فرأى كفا بلا معصم ولا عضد مكتوب عليها : : ( ^ وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين ) ففزع وهرب ، ثم إنه عاد ، فظهر ذلك الكف مكتوبا عليها : ( ^ ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا ) ففزع وهرب ، ثم إنه عاد فرأى ذلك الكف أيضا مكتوبا عليها : ( ^ واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ) ففزع وهرب ، ثم إنه عاد ؛ فقال الله لجبريل : أدرك عبدي قبل أن يواقع الخطيئة ، فجاء ومسحه بجناحه حتى خرجت شهوته من أنامله .
____________________

( ^ كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين ( 24 ) واستبقا الباب ) * * * *
وقال جعفر بن محمد الصادق : معنى البرهان : أنه كان في البيت صنم فقامت المرأة وسترته بثوب ، فقال لها يوسف : لم فعلت هذا ؟ فقالت : استحييت منه أن يراني وأنا أواقع المعصية ، فقال يوسف : أنا أحق أن أستحي من ربي ، وهرب .
وقال محمد بن كعب القرظي : البرهان : هو أن الله تعالى أخطر بقلب يوسف حرمة الزنا ، وشدة العقوبة عليه ، فهرب وترك . وأورد النقاش أنه لما قرب منها رأى شعرة بيضاء في أنفها فعافها وتركها . وهذا قول بعيد ؛ والأصح من هذه الأقوال : الأول .
وقد روي أن يعقوب صلوات الله عليه لما تمثل له صك في صدره وقال : يا يوسف أنت قبل أن تزني كالطير في جو السماء [ ولا تطاق ] ، فإذا زنيت فأنت كالطير يسقط ويموت ، وأنت قبل أن تزني كالثور لا يطاق ، فإذا زنيت صرت كالثور يهلك فيدخل النمل في ( أصول ) قرنه .
وقوله : ( ^ كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء ) السوء : هو الثناء القبيح ، والفحشاء : هو مواقعة الزنا . فإن قيل : هذا دليل على أنه لم يهم بالزنا ولم يقصده ، قلنا : لا ، هذا بعد الهم . فإن قيل : أليس قد قال في أثناء السورة : ( ^ ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب ) ؟ قلنا : قد ثبت عن النبي : ' أن يوسف لما قال هذا ، قال له جبريل : ولا حين هممت ؟ فقال : وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء ' .
قوله : ( ^ إنه من عبادنا المخلصين ) قرئ : ' المخلَصين ' و ' المخلِصين ' ومعنى المخلِص : هو الذي يخلص الطاعة لله ، ومعنى المخلَص : هو الذي أخلصه الله واختاره .
____________________

( ^ وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدا الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم ( 25 ) قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين ( 26 ) وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين ( 27 ) فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن ) * * * * < < يوسف : ( 25 ) واستبقا الباب وقدت . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ [ واستبقا ] الباب ) روي أن يوسف بادر الباب ليفتح ويخرج ، والمرأة بادرت الباب لتمسك الباب فلا يخرج يوسف ، فسبق يوسف وأدركته المرأة وأخذت بثوبه وشقته من دبر ؛ وهذا معنى قوله : ( ^ وقدت قميصه من دبر ) أي : شقت . وقوله : ( ^ وألفيا سيدها لدا الباب ) يعني : وجدا زوج المرأة عند الباب فبادرت المرأة ( ^ قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا ) ثم خافت عليه أن يقتل فقالت : ( ^ إلا أن يسجن أو عذاب أليم ) ضرب بالسياط ، فلما سمع يوسف مقالتها < < يوسف : ( 26 - 27 ) قال هي راودتني . . . . . > > ( ^ قال هي راودتني عن نفسي ) يعني : هي طلبت مني الفاحشة . وقوله : ( ^ وشهد شاهد من أهلها ) فيه قولان : أحدهما : أن الشاهد كان صبيا في المهد قال هذا القول ، وهذا قول أبي هريرة وسعيد بن جبير والضحاك ، وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس . قال أبو هريرة : ' تكلم ثلاثة من الصبيان في المهد : عيسى ابن مريم صلوات الله عليه ( وصاحب ) جريج وشاهد يوسف ' والقول الثاني أن الشاهد كان رجلا حكيما من قرابات المرأة وكان قائما مع زوجها فسمع الجلبة من وراء الباب ورأى شق القميص فقال القول وهو قوله تعالى : ( ^ إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين . . . ) الآية . < < يوسف : ( 28 ) فلما رأى قميصه . . . . . > >
وقوله : ( ^ فلما رأى قميصه قد من دبر ) عرف أن الذنب لها ( ^ قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم ) وفي القصة : أنه كان قليل الحمية والغيرة ، ثم قال ليوسف : < < يوسف : ( 29 ) يوسف أعرض عن . . . . . > > ( ^ يوسف أعرض عن هذا ) يعني : لا تذكر هذا حتى يشيع ، ثم قال للمرأة : ( ^ واستغفري لذنبك ) توبي إلى الله تعالى ( ^ إنك كنت من الخاطئين ) ظاهر المعنى .
____________________

( ^ كيدكن عظيم ( 28 ) يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين ( 29 ) وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا ) * * * * < < يوسف : ( 30 ) وقال نسوة في . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه ) المدينة هاهنا : مدينة مصر ، وقيل : إنها مدينة عين شمس .
وأما النسوة قالوا : هن خمس نسوة : امرأة حاجب الملك ، وامرأة صاحب الدواب ، وامرأة صاحب الطعام ، وامرأة صاحب الشراب ، وامرأة صاحب السجن . وقال بعضهم : هن نسوة من أشراف نسوة مصر .
وقوله : ( ^ امرأة العزيز ) قيل العزيز : هو الممتنع بقدرته عن أن يضام في أمره . وقوله : ( ^ تراود فتاها عن نفسه ) فتاها هاهنا بمعنى : عبدها ، والمعنى : أنها تطلب من عبدها [ أن ] يرتكب الفاحشة . وقوله ( ^ قد شغفها حبا ) روي عن ابن عباس - رضي الله عنها - أنه قال : ' شغفها حبا ' أي : غلبها . وروي عنه أيضا أنه قال : ' شغفها حبا ' أي : دخل الحب في شغاف قلبها ، وشغاف القلب : داخل القلب . وقيل : شغاف القلب : جلدة القلب ؛ كأن الحب خرق الجلدة وأصاب القلب وغلب عليه . وقيل : شغاف القلب : [ سويداء ] القلب . وقيل : حبة القلب . قال الشاعر :
( ولا [ وجد ] إلا دون وجد وجدته ** أصاب شغاف القلب فالقلب مشغف )
قرئ في الشاذ : ( شعفها ) حبا ' ومعناه : ذهب الحب بها كل مذهب ، ومنه : شعف الجبال أي : رءوسها .
وقوله : ( ^ إنا لنراها في ضلال مبين ) أي : في خطأ ظاهر . ويقال : في ضلال مبين يعني : أنها تركت ما يكون عليه أمثالها من الستر والعفاف .
____________________

( ^ لنراها في ضلال مبين ( 30 ) فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن ) * * * * < < يوسف : ( 31 ) فلما سمعت بمكرهن . . . . . > >
قوله : ( ^ فلما سمعت بمكرهن ) أي : بتدبيرهن . وقد روي أنها أفشت إليهن سرها واستكتمتهن فأفشين ذلك ؛ فلهذا سماه مكرا . وقوله : ( ^ وأرسلت إليهن ) أي : دعتهن . وقوله : ( ^ وأعتدت لهن متكئا ) قال ابن عباس ومجاهد : المتكأ يتكئون على الوسائد . وقد روي عن النبي أنه قال : ' أما أنا فلا آكل متكئا ' وهذا مما اختاره الله تعالى له من التواضع ، وأما الجبارون والعظماء فقد اعتادوا الأكل متكئين . وقيل : ' وأعتدت لهن متكئا ' أي : طعاما وشرابا واتكاء .
وقرىء في الشاذ : ' وأعتدت لهن متكا ' والمتك : هو الأترج . ذكره ابن عباس ومجاهد . وقيل : إنه البزماورد . أورده الضحاك . وقيل : هو كل ما يحز بالسكين . وفي القصة : أنها دعت أربعين امرأة من أشراف [ نساء ] مصر وزينت بيتا بألوان الفواكه والوسائد وفرشت البسط . وقوله : ( ^ وآتت كل واحدة منهن سكينا ) أي : وأعطت كل واحدة منهن سكينا ؛ وقد كانوا يأكلون اللحم جزا بالسكين ؛ والسنة هو النهش .
وقوله : ( ^ وقالت اخرج عليهن ) أمرت يوسف بأن يخرج عليهن فخرج وقد أخذن السكاكين ليقطعن المأكول . وقوله : ( ^ فلما رأينه أكبرنه ) فيه قولان : أحدهما : أعظمنه . والآخر : حضن . قال الشاعر :
( نأتي النساء لدى أطهارهن ولا ** نأتي النساء إذا أكبرن إكبارا )
يعني : إذا حضن . والأولى هو الأول . وأنكر أبو عبيدة أن يكون ' أكبرن ' بمعنى :
____________________

( ^ وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم ( 31 ) قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ) * * * * حضن .
وقوله ( ^ وقطعن أيديهن ) الأكثرون على أن هذا خدش وجرح بلا إبانة . وقال بعضهم : إنهن قطعن أيديهن على ( تحقيق ) قطع اليد جملة . والأول أصح . يقال : قطع فلان يده إذا خدشها وجرحها .
وفي القصة : أنهن بهتن وذهبت عقولهن [ و ] قطعن أيديهن ولم يعلمن بذلك حتى سالت الدماء منهن وقوله : ( ^ وقلن حاش الله ) وقرىء : ' حاشا لله ' ومعناه : [ معاذ ] الله أن يكون ( ^ ما هذا بشرا ) ومعناه : بشرا مثل سائر البشر . وقرىء : ' ما هذا مشتريا ' أي : بعبد مشترى . وقوله : ( ^ إن هذا إلا ملك كريم ) يعني : ملك كريم على ربه . وقد روى أنس ، عن النبي أنه قال : ' أعطي يوسف شطر الحسن ' . وعن ابن إسحاق - صاحب المعاني - قال : ذهب يوسف وأمه بثلثي الحسن .
وروى أبو سعيد الخدري ، عن النبي في قصة المعراج ' أنه رأى يوسف في السماء الثالثة ، قال : فرأيت وجهه كالقمر ليلة البدر ' . وروي أنه كان إذا مشى في سكك مصر رئي لوجهه ضوء على الجدران . وروي أنه لما ملك ، وكان إذا دخلت عليه امرأة غطى وجهه لئلا تفتتن به . < < يوسف : ( 32 ) قالت فذلكن الذي . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ) الملامة هو الوصف بالقبيح على وجه التحقير ، ومعنى قولها ' فذلكن الذي لمتنني فيه ' أن هذا هو الذي لمتنني فيه ،
____________________

( ^ ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين ( 32 ) قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب ) * * * * ثم صرحت بما فعلت ( وقالت ) : ( ^ ولقد راودته عن نفسه ) وإنما صرحت بذلك لأنها علمت أنه لا ملامة عليها منهن بعد ذلك وقد أصابهن ما أصابهن من رؤيته . وقوله تعالى : ( ^ فاستعصم ) أي : امتنع . وقوله : ( ^ ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن ) يعني : ليعاقبن بالحبس . وقوله : ( ^ وليكونا من الصاغرين ) أي : ( ليكونن ) من المستحقرين والمستذلين . وعن وهب بن منبه : أن أولئك النسوة عشقنه وماتت جماعة منهن من عشقه . < < يوسف : ( 33 ) قال رب السجن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال رب السجن أحب إلي ) وقرىء في الشاذ : ' رب السجن ' وهو الحبس ، والسجن موضع الحبس ( ^ مما يدعونني إليه ) يقال : لو لم يقل هذا لم يبتل بالسجن . وفي بعض الأخبار : ' البلاء موكل بالمنطق ' ، والأولى بالمرء أن يسأل الله العافية .
وقوله : ( ^ مما يدعونني إليه ) فيه قولان : أحدهما : أن الدعاء كان منها خاصة ؛ لكنه أضاف إلى جميع النسوة خروجا من التصريح إلى التعريض .
والقول الثاني : أنهن جميعا دعينه إلى أنفسهن .
وقوله : ( ^ وإلا تصرف عني كيدهن ) معناه : وإلا تصرف عنى شرهن ( ^ أصب إليهن ) أي : أمل إليهن . قال الشاعر :
( حتى متى تصبو ورأسك أشمط ** أظننت أن الموت باسمك يغلط )
وقوله : ( ^ وأكن من الجاهلين ) هذا دليل على أن المؤمن إذا ارتكب ذنبا يرتكب عن جهالة ، وقيل معناه : وأكن من المذمومين كما يذم الإنسان بفعل ما يقدم عليه جاهلا .
____________________

( ^ إليهن وأكن من الجاهلين ( 33 ) فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم ( 34 ) ثم بدا لهن من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين ( 35 ) ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق ) * * * * < < يوسف : ( 34 ) فاستجاب له ربه . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فاستجاب له ربه ) أي : أجاب له ربه . وقوله : ( ^ فصرف عنه كيدهن ) أي : شرهن ( ^ إنه هو السميع العليم ) ظاهر المعنى . < < يوسف : ( 35 ) ثم بدا لهم . . . . . > >
قوله : ( ^ ثم بدا لهم ) أي : ظهر لهم . وقوله : ( ^ من بعد ما رأوا الآيات ) هاهنا شق القميص ، وكلام الطفل ، وجز النساء أيديهن بالسكاكين ، وذهاب عقولهن بما رأين من جماله . وقوله : ( ^ ليسجننه حتى حين ) أي : ليحبسنه إلى مدة . قال عطاء : إلى حين : إلى أن تنقطع مقالة الناس . < < يوسف : ( 36 ) ودخل معه السجن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ودخل معه السجن فتيان ) في القصة : أن المرأة قالت لزوجها : قد فضحني هذا الغلام العبراني ( في الناس ) ، فإما أن تأذن [ لي ] أخرج وأعتذر من الناس ، وإما أن تحبسه ، فحبسه ، ولما حبس حبس الملك بعد ذلك رجلين من خاصته ؛ أحدهما : صاحب طعامه ، والآخر : صاحب شرابه ، ويقال : كان يسمى أحدهما : سرهم ، والآخر : شرهم . وكان سبب حبسهما : أن الملك اتهم صاحب الطعام [ أنه ] : قصد سمه ، وظن أيضا أن صاحب الشراب مالأه على ذلك ؛ وكان الملك هو الوليد بن مروان العمليقي ، وقيل غير هذا الاسم .
وقوله : ( ^ قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا ) وروي أن يوسف - عليه السلام - لما دخل السجن جعل يدعو إلى الله وينشر علمه ، فرأى هذين الرجلين وهما مهمومان فسألهما عن شأنهما فذكرا أنهما صاحبا الملك ، وأن الملك حبسهما ، وقد رأيا رؤيا وقد غمهما ذلك ، فقال لهما : قصا علي ما رأيتما ، فقصا عليه رؤياهما ؛ وهذا معنى قوله : ( ^ قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا ) . وفي القصة : أنه قال : رأيت حبلة عليها ثلاثة عناقيد فجنيتهن وعصرتهن خمرا وسقيت منه الملك .
____________________

( ^ رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين ( 36 ) قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة ) * * * *
وقوله : ( ^ أعصر خمرا ) العصر : هو الاعتماد باليد على ما فيه مائية ليحلب عنه الماء . وقوله ( ^ خمرا ) : قيل : عنبا ، قيل : هذا بلغة عمان ، قال المعتمر : لقيت أعرابيا معه سلة فيها [ عنب ] فقلت : ما معك ؟ قال : الخمر . وقال الشاعر :
( ينازعني به ندمان صدق ( شواء ) الطير والعنب الحقينا )
وأراد بالعنب : الخمر . ويقال : معنى قوله : ( ^ أعصر خمرا ) أي : عنب خمر . ويقال : معنى قوله : ( ^ أعصر خمرا ) أي : عنبا ؛ سماه خمرا باسم ما يؤول إليه ؛ تقول العرب : فلان يعصر الدبس ويطبخ الآجر يعني : يعصر العنب للدبس ، ويطبخ اللبن للآجر ، قال الشاعر :
( الحمد لله الجليل المنان ** صار الثريد في رءوس العيدان )
وقوله : ( ^ وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه ) روي أن الآخر قال : إني أراني كأني أحمل ثلاث سلال من الخبز على رأسي وسباع الطير ينهش منه .
وقوله : ( ^ نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين ) قال : كان يوسف عليه السلام إذا مرض في السجن مريض عاده وقام عليه ، وإذا افتقر إنسان جمع له شيئا ، وإذا رأى مظلوما نصره ، وإذا رأى حزينا سلاه ، وكان مع هذا يقوم الليل كله بالصلاة .
والقول الثاني : ( ^ إنا نراك من المحسنين ) يعني : من المحسنين لعبارة الرؤيا ، والإحسان بمعنى العلم ؛ يقال : فلان يحسن كذا ، أي : يعلمه . < < يوسف : ( 37 ) قال لا يأتيكما . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال لا يأتيكما طعام ) الآية ، بدأ يوسف - صلوات الله عليه - قبل تعبير الرؤيا بإظهار المعجزة والدعاء إلى توحيد الله ؛ فقوله : ( ^ لا يأتيكما طعام ترزقانه
____________________

( ^ قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون ( 37 ) واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى ) * * * * إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : لا تدعوان بطعام من منازلكما إلا نبأتكما بقدره ولونه وطعمه والوقت الذي يصل إليكما فيه قبل أن يصل إليكما ؛ وهذه المعجزة مثل معجزة عيسى - عليه السلام - وقوله : ( ^ وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم ) .
والقول الثاني : أنه كان من رسم الملك إذا أراد أن يقتل إنسانا يبعث إليه بطعام معروف عندهم ، وإذا أراد أن يكرم إنسانا بعث إليه بطعام معروف عندهم ؛ فهذا معنى قوله : ( ^ لا يأتيكما طعام ترزقانه ) .
والقول الثالث : لا يأتيكما طعام ترزقانه في المنام إلا نبأتكما بتأويله في اليقظة ، فقالوا : من أين لك ذلك ، أتتكهن أم تتنجم ؟ فقال : لا ؛ ولكن مما علمني ربي . فهذا معنى قوله ( ^ ذلكما مما علمني ربي ) . وقوله : ( ^ إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون ) ظاهر . < < يوسف : ( 38 ) واتبعت ملة آبائي . . . . . > >
ثم قال : ( ^ واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ) أظهر أنه نبي وأنه من ولد الأنبياء . وقوله : ( ^ ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ) معناه : أن الله قد عصمنا من الإشراك به . وقوله : ( ^ ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ) يعني به : ما أقام من الدليل وبين من الهدى . وقوله : ( ^ ولكن أكثر الناس لا يشكرون ) ظاهر المعنى .
ثم زاد في الدلالة على التوحيد فقال : < < يوسف : ( 39 ) يا صاحبي السجن . . . . . > > ( ^ يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون ) وسماهما : صاحبي السجن ؛ لأنهما كانا في السجن ، وقوله ( ^ أأرباب متفرقون ) أي : أملاك متباينون هذا [ من ] ذهب ، وهذا من فضة ، وهذا من نحاس ، وهذا من خشب ، وقيل : هذا أعلى ، وهذا أوسط ، وهذا أدنى ، وقوله : ( ^ خير أم الله الواحد القهار ) الواحد الغالب على كل شيء ، والمراد ، نفي الخيرية منهم أصلا ، وقد ذكرنا
____________________

( ^ الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون ( 38 ) يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ( 39 ) ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( 40 ) يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا وأما الآخر ) * * * * من قبل ثم زاد وقال : < < يوسف : ( 40 ) ما تعبدون من . . . . . > > ( ^ ما تعبدون من دونه ) أي : من دون الله ( ^ إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ) يعني : هذه الأصنام أسماء مجردة خالية عن المعنى . وقوله : ( ^ ما أنزل الله بها من سلطان ) أي : حجة ( ^ إن الحكم إلا لله ) ما الحكم إلا الله ( ^ أمر ألا تعبدوا إلا إياه ) ظاهر المعنى . قوله : ( ^ ذلك الدين القيم ) أي : الطريق المستقيم ( ^ ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) ظاهر المعنى .
وفي القصة : أن صاحب السجن لما سمع منه ما سمع ، ورأى منه ما رأى أحبه حبا شديدا وجعله على أهل السجن ، وكذلك أهل السجن أحبوه حتى كان الرجل يخلى من السجن فيعود إليه ، فروي أن صاحب السجن قال له : أنا أحبك فقال : أنشدك الله أن تحبني - يعني : أن لا تحبني - فإن من أحبني يوقعني في البلاء ، أحبتني عمتي فوقعت في بلاء ، وأحبني والدي فألقيت في الجب ، وأحبتني امرأة العزيز فحبست . وروي أن صاحبي الملك قالا له هذه المقالة فأجابهما بهذا . < < يوسف : ( 41 ) يا صاحبي السجن . . . . . > >
قوله : ( ^ يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا ) روي أنه قال لصاحب الشراب : أما تأويل رؤياك : فإنك تدعى بعد ثلاثة أيام وترد إلى منزلتك من الملك .
وقوله : ( ^ وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه ) قال : وأما أنت يا صاحب الطعام فتدعى بعد ثلاثة أيام وتصلب وتأكل الطير من رأسك ؛ فروي أنهما جميعا قالا : كذبنا ما رأينا شيئا ، فقال : ( ^ قضي الأمر الذي فيه تستفتيان ) يعني : فرغ من الأمر وما قلت كائن ؛ رأيتما أو لم ترياه . وقال أبو مجلز : الذي قال له : أنا لم أر شيئا هو صاحب الطعام خاصة . وقد روي أنهما قد رأيا ما قالا حقيقة . قوله : ( ^ قضي الأمر ) تتميم الكلام .
____________________

( ^ فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الأمر الذي فيه تستفتيان ( 41 ) وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين ) * * * * < < يوسف : ( 42 ) وقال للذي ظن . . . . . > > قوله تعالى : ( ^ وقال للذي ظن أنه ناج منهما ) معناه : أنه ( أيقن ) أنه ناج منهما ( ^ اذكرني عند ربك ) أي : عند سيدك ، فروي أنه قال له : قل للملك : إن في السجن رجلا مظلوما قد طال حبسه . وقوله : ( ^ فأنساه الشيطان ذكر ربه ) الأكثرون : معناه : فأنسى يوسف الشيطان ذكر ربه حتى استغاث بمخلوق مثله ، وهذا قول ابن عباس وغيره .
والقول الثاني : أن الشيطان أنسى الرجل الذي خلي من السجن ذكر يوسف لسيده .
وقوله : ( ^ فلبث في السجن بضع سنين ) الأكثرون : على أن بضع سنين هاهنا : سبع سنين وقد كان لبث من قبل خمس سنين ؛ فمكث فيه [ اثنتي عشرة ] سنة . وقال الأخفش : البضع : من الواحد إلى العشرة ، وقيل : من ثلاث إلى التسع ؛ فروي : أن الله تعالى بعث جبريل إليه ، فقال له : قل يا يوسف من حببك إلى أبيك ؟ فقال : أنت يا رب ، فقال : من خلصك من الجب ؟ قال : أنت يا رب ، قال : من صرف عنك السوء والفحشاء ؟ قال : أنت يا رب ، قال : فما استحييت مني أن استعنت بمخلوق ؟ ! وعزتي لأطيلن مكثك في السجن . وروي أنه قال : يا رب بحق آبائي اغفر لي ذنبي ، فجاء جبريل وقال له : وأي حق لآبائك علي ؟ ! أما جدك إبراهيم : فقد جعلت النار عليه بردا وسلاما ، وأما إسماعيل : ففديته بكبش عظيم ، وأما أبوك يعقوب : ( فأعطيته ) اثني عشر ابنا وأخذت منهم واحدا ، فما زال يبكي حتى ابيضت عيناه وجعل يشكوني ، فقال يوسف : إلهي بمنك القديم وفضلك العظيم وأياديك الكثيرة اغفر لي ذنبي ، فغفر له . وروي عن الحسن البصري أنه قال : دخل جبريل على
____________________

( ( 42 ) وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رءياي إن كنتم للرءيا تعبرون ( 43 ) قالوا ) * * * * يوسف عليهما السلام في السجن ، فقال له : يوسف ، يا أخ المنذرين ما تعمل بين المذنبين ؟ فقال [ له ] جبريل : يا طيب ابن الطيبين يقول لك ربك : أما ( استحييت ) مني أن استعنت بمخلوق مثلك ؟ ! وعزتي لأطيلن حبسك ، فقال له يوسف عليه السلام : أهو راض عني ؟ فقال : نعم . فقال : إذا لا أبالي . وروي أنه قال لجبريل : ما بلغ حزن أبي يعقوب ؟ فقال : حزن سبعين ثكلى ، فقال : وكيف أجره ؟ فقال : أجر مائة شهيد . < < يوسف : ( 43 ) وقال الملك إني . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان [ يأكلهن سبع عجاف ] ) الملك هاهنا : ملك مصر ، والملك هو القادر الواسع المقدور فيما يرجع إلى السياسة والتدبير . وقوله : ( ^ إني أرى ) معناه : إني أرى في المنام . وقوله : ( ^ بقرات ) : البقر : حيوان معروف يصلح للكراب ، ومنه ( المثل ) : الكراب على البقر ؛ لأنه أقوم به .
وقوله : ( ^ سمان ) معلوم المعنى .
وروي أن الملك رأى سبع بقرات سمان خرجن من البحر كأسمن ما يكون من البقر ، ثم خرج عقيبه سبع بقرات عجاف في غاية الهزال والعجف ، ثم إن العجاف ابتلعت السمان وأكلتها حتى لم يتبين على العجاف منها شيء ، ثم رأى [ ( ^ وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات ) أي : ] سبع سنبلات يابسة التوت على الخضر حتى غلبت عليها فلم يبق من خضرتها شيء . وقوله : ( ^ يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون ) الرؤيا ( هو ) ما يتخيله الإنسان في المنام ، وقد بينا أن النبي قال في الرؤيا الصادقة : ' تلك عاجل بشرى المؤمن ' وروي عن النبي أنه قال :
____________________

( ^ أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين ( 44 ) وقال الذي نجا منهما وادكر ) * * * * ' إذا تقارب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب ' وله معنيان : أحدهما : أن تقارب الزمان هو استواء الليل والنهار ؛ والطباع عند استواء الليل والنهار أصح ؛ فالرؤيا أصدق . والمعنى الثاني : أن تقارب الزمان هو تقارب الساعة . وقد روي في بدء وحي النبي : ' أنه كان إذا رأى الرؤيا جاءت مثل فلق الصبح ' .
وقوله : ( ^ إن كنتم للرؤيا تعبرون ) يقال : عبرت الرؤيا : إذا فسرتها ، والتعبير هو التفسير هاهنا . < < يوسف : ( 44 ) قالوا أضغاث أحلام . . . . . > >
قوله تعالى ( ^ قالوا أضغاث أحلام ) الضغث : كل ما قبض عليه من الأخلاط من الحشيش وغيره . ومعنى الآية : روي عن قتادة أنه قال : أضغاث أحلام أي : أخلاط أحلام . وعن مجاهد قال : أهاويل أحلام ، وقيل : أباطيل أحلام . وقوله : ( ^ وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين ) ( ومعناه ) : وما نحن بتأويل الأحلام ( التي ) وصفتها هذه بعالمين . < < يوسف : ( 45 ) وقال الذي نجا . . . . . > >
قوله : ( ^ وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة ) أي : مدة ، [ و ] في القصة : أن الملك جمع السحرة والكهنة والمعبرين وقص عليهم رؤياه ، فلما عجزوا عن تعبيرها اهتم هما شديدا ، فتذكر الغلام الساقي حال يوسف عليه السلام ، وقد كان فجىء بقوله ، فجثى بين يدي الملك وقال : إن في السجن رجلا محبوسا وهو يعبر الرؤيا ، وذكر قصته ؛ فهذا معنى قوله : ( ^ وقال الذي نجا منهما واذكر بعد أمة ) والأمة هاهنا بمعنى الحين ؛ وقد بينا أنه حبس سبع سنين بعد ما عبر رؤيا صاحب الملك . وعن وهب
____________________

( ^ بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون ( 45 ) يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون ( 46 ) قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا ) * * * * بن منبه قال : مكث يوسف في السجن سبع سنين ، ومكث أيوب في البلاء سبع سنين . وقرىء في الشاذ : ' وادكر بعد أمة ' بالهاء ؛ ومعناه : بعد نسيان . وقوله : ( ^ أنا أنبئكم بتأويله ) معناه : أنا آتيكم بتأويله ( ^ فأرسلون ) يعني : أرسلني أيها الملك إليه . < < يوسف : ( 46 ) يوسف أيها الصديق . . . . . > >
وقوله : ( ^ يوسف أيها الصديق ) في الآية اختصار ، ومعناه : أن الملك أرسله إلى يوسف ، وهو قال : يوسف أيها الصديق ، والصديق : ( الكثير للصدق ) . وقوله : ( ^ أفتنا ) معناه : أجبنا ( ^ في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات ) هذا ذكر تقصيص الرجل رؤيا الملك على يوسف .
وقوله : ( ^ لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون ) فيه قولان : أحدهما : لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون تأويل الرؤيا . والثاني [ معناه ] : لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون منزلتك ودرجتك في العلم . < < يوسف : ( 47 ) قال تزرعون سبع . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال تزرعون سبع سنين دأبا ) هذا خبر بمعنى الأمر ؛ ومعناه : ازرعوا سبع سنين ، يعني : على عادتكم ؛ والدأب : العادة . وقوله ( ^ فما حصدتم ) الحصاد معلوم . وقوله : ( ^ فذروه في سنبله ) أمرهم أن يتركوا الحنطة في السنابل ليكون أبقى على الزمان . وقوله : ( ^ إلا قليلا مما تأكلون ) يعني : مما تدرسون وتأكلون ؛ فكأنه أمرهم أن يحفظوا الأكثر ويأكلوا بقدر الحاجة . < < يوسف : ( 48 ) ثم يأتي من . . . . . > >
وقوله : ( ^ ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ) سمى السنين المجدبة شدادا لشدتها على الناس . وقوله : ( ^ يأكلن ما قدمتم لهن ) معناه : ( يفنين ) ويهلكن
____________________

( ^ مما تأكلون ( 47 ) ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون ( 48 ) ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون ( 49 ) وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي ) * * * * ما قدمتم لهن ، وهذا على طريق التوسع والمجاز ؛ فإن السنين لا تأكل شيئا ، وإن القوم في السنين يأكلون . وقوله : ( ^ إلا قليلا مما تحصنون ) يعني : تحرزون ؛ ومعناه : تحرزون للبذر . < < يوسف : ( 49 ) ثم يأتي من . . . . . > >
وقوله : ( ^ ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس ) الغياث هاهنا : هو الخصب والسعة . وقوله ( ^ وفيه يعصرون ) قرىء بقراءتين : ' يعصرون ' و ' تعصرون ' ومعناه : يعصرون الزيت من الزيتون ، ومن العنب العصير ، ومن السمسم الدهن . هذا قول ابن عباس ومجاهد .
وقيل : يعصرون : ينجون . قال الشاعر :
( وصاديا يستغيث غير مغاث ** ولقد كان عصرة المنجود )
ولقد كان عصرة المنجود يعني : المنجاة . وقيل : يعصرون : ينزل عليهم المطر من السحاب ، قال الله تعالى ( ^ وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا ) . < < يوسف : ( 50 ) وقال الملك ائتوني . . . . . > >
قوله تعالى ( ^ وقال الملك ائتوني به ) في الآية اختصار أيضا فإن الرجل رجع إلى الملك وقص عليه تأويل الرؤيا ثم قال الملك : ائتوني به . وقوله : ( ! ( فلما جاءه الرسول قال ) ! ارجع إلى ربك ) إلى سيدك ( ^ فاسأله ما بال النسوة اللاتي ) أي : ما حال النسوة اللاتي ( ^ قطعن أيديهن ) على ما بينا من قبل ، ولم يصرح بذكر امرأة العزيز أدبا واحتراما . وقوله : ( ^ إن ربي بكيدهن عليم ) أي : بحيلهن ومكرهن عليم .
واعلم أنه قد صح عن النبي أنه قال : ' لو لبثت في السجن مثل ما لبث يوسف ثم جاءني الداعي لأجبت ' وفي بعض الروايات أن النبي قال : ' رحم الله أخي يوسف ؛ لقد كان ذا حلم وأناة ، ولو كنت مكانه ثم دعيت لبادرت ' .
____________________

( ^ قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم ( 50 ) قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأت العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين ( 51 ) ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي ) * * * * فإن قيل : أيش قصد يوسف عليه السلام من رد الرسول وذكر النسوة ، وقد مضى على ذلك الزمان الطويل ؟
الجواب : المراد أنه أن لا ينظر إليه الملك بعين التهمة ويصير إليه وقد زال الشكوك عن أمره فقال ما قال هذا . < < يوسف : ( 51 ) قال ما خطبكن . . . . . > >
قوله ( تعالى ) ( ^ قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف ) روي أن الملك بعث إلى النسوة وفيهن امرأة العزيز فدعا بهن وقال لهن هذه المقالة ، وقوله : ( ^ ما خطبكن ) أي : ما ( حالكن ) ؟ وقيل : ما أمركن ؟ وقوله : ( ^ إذ راودتن يوسف عن نفسه ) خاطبهن بهذه المقالة ، والمراد : امرأة العزيز خاصة ، وقيل : إن امرأة العزيز راودته عن نفسه وسائر النسوة أمرنه بالطاعة لها ؛ فلهذا قال : إذ راودتن يوسف عن نفسه . وقوله : ( ^ قلن حاش لله ) معاذ الله ( ^ ما علمنا عليه من سوء ) يعني : ما علمنا عليه من تهمة ولا خيانة . وقوله : ( ^ قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه ) وفي القصة : أن النسوة لما أخبرن ببراءة يوسف عما قرن به أقبلن على امرأة العزيز يقرونها . وروي أنها خافت أن يقبلن عليها ويشهدن عليها فأقرت وقالت : الآن حصحص الحق . معناه : تبين الحق . وقيل : معناه : الآن ظهر الأمر بعد الانكتام . قال الشاعر :
( ألا مبلغ عني خداشا بأنه ** كذوب إذا ما حصحص الحق ظالم )
( ^ أنا راودته عن نفسه ) ظاهر المعنى .
قوله : ( ^ وإنه لمن الصادقين ) < < يوسف : ( 52 ) ذلك ليعلم أني . . . . . > > قوله تعالى : ( ^ ذلك ليعلم ) اختلفوا على أن هذا قول من ؟ الأكثرون أنه قول يوسف ؛ ومعناه : ذلك ليعلم العزيز ( ^ أني لم أخنه بالغيب
____________________

( ^ كيد الخائنين ( 52 ) وما أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم ( 53 ) وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم ) * * * * وأن الله لا يهدي كيد الخائنين ) ومعناه : إنه لا يوضح ولا يرشد كيد الخائنين . فإن قال قائل : كيف دخل قول يوسف في وسط هذا الكلام ، وإنما المذكور كلام جرى بين الملك والنسوة ؟ !
قلنا : اعتراض كلام آخر بين كلام . جائز على لغة العرب ؛ قال الله تعالى في قصة سليمان حكاية عن بلقيس : ( ^ قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون ) كلام الله تعالى اعتراض في الوسط ومنهم من قال : وفي [ الآية ] تقدير من التقديم والتأخير ، معناه : ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم ؛ ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين ، ثم يرتب على هذا في المعنى قوله : ( ^ ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه ) . < < يوسف : ( 53 ) وما أبرئ نفسي . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وما أبرىء نفسي ) الآية . روي : ' أن جبريل عليه السلام قال ليوسف حين قال : ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب . [ فقال له ] : ولا حين هممت ' . وروي أنه قال : حين حللت التكة . فقال يوسف : ( وما أبرىء نفسي ) ( ^ إن النفس لأمارة بالسوء ) يعني : إن النفس كثيرة الأمر بالسوء : السوء هاهنا هو المعصية . وقوله : ( ^ إلا ما رحم ربي ) قيل : إلا من رحم ربي ، وفيه معنيان ؛ أحدهما : أنه أشار إلى حالة العصمة عند رؤية البرهان . والقول الثاني : إلا من رحم ربي : هم الملائكة ؛ فإن الله تعالى لم يركب فيهم الشهوة وخلقهم على العصمة من الهم وغيره .
____________________

( ^ لدينا مكين أمين ( 54 ) قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ( 55 ) وكذلك )
وقوله : ( ^ إن ربي غفور رحيم ) ظاهر . < < يوسف : ( 54 ) وقال الملك ائتوني . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي ) معناه : أجعله خاصا لنفسي لا يشركني فيه أحد ( ^ فلما كلمه ) في الآية اختصار أيضا فروي أنه ذهب الرسول ودعاه فقام واغتسل ولبس ثيابا ( نضافا ) وجاء إلى الملك . وقوله : ( ^ فلما كلمه ) في القصة أن الملك طلب منه أن يعيد تعبير الرؤيا ليسمع منه شفاها ، فقص عليه ، فهذا معنى قوله : ( ^ فلما كلمه ) وقيل : إن الملك كان يعلم سبعين لغة من لغات الناس فكلم يوسف بتلك اللغات فأجابه يوسف بها كلها وزاد ( لسان ) العبرية والعربية ولم يكن الملك يعلم ذلك ، فقال : ( ^ إنك اليوم لدينا مكين أمين ) والمكانة : هي الجاه والحشمة والدرجة الرفيعة ، وقوله : ( ^ أمين ) أي : صادق . < < يوسف : ( 55 ) قال اجعلني على . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال اجعلني على خزائن الأرض ) اختلفوا أن يوسف عليه السلام لم طلب هذا ؟ قال ( بعضهم ) : إنما طلب ذلك لأنه عرف أن ذلك ؛ وصله إلى وصول أهله إليه من أبيه وإخوته وغيرهم ، ومنهم من قال : إنما طلب ذلك لأنه عرف أنه أقوم الناس بالقيام بمصالح الناس في السنين الشداد ، فطلب لهذا المعنى .
وقوله : ( ^ اجعلني على خزائن الأرض ) الأرض هاهنا : أرض مصر ، والخزائن : هي خزائن الطعام والأموال . وقال ربيع بن أنس : ' اجعلني على خزائن الأرض ' أي : على خراج مصر ودخلها .
( ^ إني حفيظ عليم ) أي : حفيظ للخزائن ، عليم بوجوه مصالحها . وفي بعض التفاسير : ' إني حفيظ عليم ' أي : كاتب حاسب . فإن قيل : هل يجوز أن يتولى المسلم من يد كافر عملا ؟
قلنا قد قالوا : إنه إذا علم أن الكافر يخليه والعمل بالحق يجوز أن يتولى . وقد
____________________

( ^ مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر ) * * * * روي أن ملك مصر لم يكن طاغيا ظالما ، وإنما كان رجلا عفيفا في دينه ، وإنما الطاغي الظالم كان فرعون موسى . وفي القصة : أن الملك مكث سنة لا يوليه ثم ولاه . وفي بعض الغرائب من الأخبار برواية أنس عن النبي : ' أن يوسف لو لم يطلب يوليه في الحال ، ولكنه لما طلب أخر الملك سنة ' . فإن قال قائل : أيجوز للإنسان أن يزكي نفسه وقد قال يوسف عليه السلام : ' إني حفيظ عليم ' ؟
قلنا : يجوز إذا كان في ذلك مصلحة عامة . وقيل : إنه يجوز ( إذا عرف أنه ) لا يلحقه بذلك آفة وأمن العجب على نفسه . وعن بعض الأئمة : لا يضر المدح من عرف نفسه . وقد قال عليه السلام : ' أنا سيد ولد آدم ولا فخر ' والخبر بطوله . < < يوسف : ( 56 ) وكذلك مكنا ليوسف . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وكذلك مكنا ) روي أن الملك ولاه ما طلب بعد سنة وتوجه بتاج مرصع بجواهر وأجلسه على سرير الذهب واعتزل الأمر كله ، وفوض إليه ، ودانت له الملوك وسمي بالعزيز . وفي القصة أيضا أن امرأة العزيز مات زوجها فزوجها الملك من يوسف - عليه السلام - وولدت له ولدين . وفي بعض الروايات : أنها وقفت على طريق يوسف عليه السلام ونادت : سبحان من جعل الملوك عبيدا بمعصيتهم ، وجعل العبيد ملوكا بطاعتهم .
قوله تعالى : ( ^ [ مكنا ] ) ومعناه : ملكنا وبسطنا ( ^ ليوسف في الأرض ) يعني : أرض مصر ( ^ يتبوأ منها حيث يشاء ) أي : ينزل منها حيث يشاء ( ^ نصيب
____________________

( ^ المحسنين ( 56 ) ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون ( 57 ) وجاء إخوة يوسف ) * * * * برحمتنا ) معناه : ( نصيب بنعمتنا ) ( ^ من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين ) ظاهر المعنى . < < يوسف : ( 57 ) ولأجر الآخرة خير . . . . . > >
قوله : ( ^ ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا ) معناه : ثواب الآخرة خير للذين آمنوا . وقوله : ( ^ وكانوا يتقون ) ظاهر المعنى . < < يوسف : ( 58 ) وجاء إخوة يوسف . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه ) قال أصحاب الأخبار : لما نصب الملك يوسف - عليه السلام - للقيام بالأمر ، وتدبير مال مصر دبر في جمع الطعام أحسن التدبير بنى الحصون والبيوت الكبيرة ، وجمع فيها طعاما للسنين المجدبة ، وأنفق منها بالمعروف حتى مضت السنون المخصبة ودخلت سنون القحط ، فروي أنه كان دبر في [ طعام ] الملك وحاشيته مرة واحدة وهو نصف النهار ، فكلما دخلت سنة القحط كان أول من أخذ الجوع هو الملك فنادى بنصف الليل : يا يوسف ، الجوع ، الجوع . وفي بعض الأخبار أنه كان يقدر لكل اثنين طعام اثنين وكان يقدم جميعه بين يدي الواحد فلا يأكل إلا نصفه ، فلما دخلت سنة القحط ( قدم طعام اثنين بين يدي واحد فقدم فأكل جميعه وطلب زيادة فعرف يوسف عليه السلام أنه دخلت سنة القحط ) ، والله أعلم . قالوا : ودخلت السنة الأولى بهول وشدة لم يعهد الناس مثله ، وكان كلما جاءت سنة أخرى كانت أهول وأشد ، فلما كانت السنة الثانية وصل القحط إلى كنعان - وهو منزل يعقوب وأولاده - فاحتاجوا إلى الطعام حاجة شديدة فدعا بنيه وقال لهم : بلغني أن بمصر ملكا صالحا يبيع الطعام فتجهزوا واذهبوا إليه لتشتروا منه الطعام ، قال : فأرسلهم وهم عشرة نفر وحبس [ ابنه بنيامين ] عنده فقدموا مصر ، فهذا معنى قوله : ( ^ وجاء إخوة يوسف ) . وقوله : ( ^ فعرفهم )
____________________

( ^ فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون ( 58 ) ولما جهزهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين ( 59 ) فإن لم ) * * * *
قال ابن عباس ومجاهد : عرفهم بأول ما نظر إليهم ، وقال الحسن : لم يعرفهم حتى تعرفوا إليه . ومعنى الآية : فعرفهم بالتعريف ؛ والمعرفة : تبين الشيء بما لو شوهد لميز بينه وبين غيره . وقوله : ( ^ وهم له منكرون ) يعني : أنهم لم يعرفوه ؛ والإنكار إبطال المعرفة بالقول ، فإن قال قائل ، كيف عرفهم ولم [ يعرفوه ] وهم إخوة ؟ !
والجواب من وجوه : قال عطاء بن أبي رباح : كان عليه تاج الملك وكان قاعدا على سرير الملك فلم يعرفوه . وذكر الكلبي أنه كان على زي ملوك مصر والأعاجم .
والقول الثاني : أنه كلمهم من وراء ستر فلم يعرفوه لهذا وعرفهم ؛ لأنه أبصرهم ولم يعرفوه ؛ لأنهم لم يبصروه ، وهذا أضعف الأقوال .
والقول الثالث : أنهم كانوا تركوه صغيرا ، وكان بين أن باعوه وبين أن دخلوا عليه أربعون سنة فلم يعرفوه لهذا . وهذا قول حسن . وأما هو فكان تركهم رجالا .
والقول الرابع : أن يوسف كان يتوقع قدومهم عليه فلما [ جاءوا ] عرفهم ، وأما الإخوة ما ظنوا أنه يصل إلى ما وصل إليه [ فأنكروه ] لهذا . < < يوسف : ( 59 ) ولما جهزهم بجهازهم . . . . . > >
قوله ( ^ ولما جهزهم بجهازهم ) الآية ، الجهاز : هو فاخر المتاع الذي ينقل من بلد إلى بلد ؛ ومعنى التجهيز هاهنا : هو أنه باع منهم الطعام وسلمه إليهم وسهل لهم الرجوع إلى بلدهم .
وقوله : ( ^ قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ) في القصة : أنهم لما دخلوا عليه خلا بهم في البيت وقال : إني استربت بحالكم فأخبروني من أنتم ؟ فقالوا : نحن بنو رجل صديق ، فقال : ومن هو ؟ قالوا : يعقوب ، فاستخبرهم عن حاله ، فذكروا أنه كان له اثنا
____________________

( ^ تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون ( 60 ) قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون ( 61 ) وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا * * * * عشر ابنا وأنه هلك واحد منهم في البرية ( وحبس ) واحدا وهو أخوه لأمه ليستأنس به ، فقال : أنا مستريب بكم ، فإن كنتم صادقين فاحملوا ذلك الأخ معكم لتزول الريبة عن حالكم . وقيل : إنه قال لهم لما قصت القصة عليه ، قصتي مثل قصتكم أيها القوم وقد فقدت أخا لي من أمي وأنا شديد الحزن عليه وقد نغص فراقه علي ملكي فأحب أن تحملوه إلي لأشكو إليه حزني ويشكو إلي حزنه ، فبهذا الطريق قال : ائتوني بأخ لكم من أبيكم .
وفي بعض ( التفاسير ) : أنهم ذكروا إيثار يعقوب بنيامين ) و ( أخاه ) في المحبة فأحب أن يرى بنيامين لينظر هل هو موضع الإيثار ؟
وقوله : ( ^ ألا ترون أني أوفي الكيل ) يعني : أتم الكيل ولا أبخسه . وقوله : ( ^ وأنا خير المنزلين ) قال مجاهد : أنا خير المضيفين ، وكان قد أحسن ضيافتهم . < < يوسف : ( 60 ) فإن لم تأتوني . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ) قال الحسن : إن لم تأتوني به فلا طعام لكم عندي إن جئتم . وقوله : ( ^ ولا تقربون ) أي : لا تقربوا بلادي ولا داري . < < يوسف : ( 61 ) قالوا سنراود عنه . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قالوا سنراود عنه أباه ) معناه : سنطلب إلى أبيه أن يرسله معنا . وقوله : ( ^ وإنا لفاعلون ) أي : مجتهدون . < < يوسف : ( 62 ) وقال لفتيانه اجعلوا . . . . . > >
قوله : ( ^ وقال لفتيته ) قرىء بقراءتين : ' لفتيانه ' و ' لفتيته ' والفتى : هو الشباب الكامل في القوة ، والفتية والفتيان هاهنا : الغلمان . وقوله : ( ^ اجعلوا بضاعتهم في رحالهم ) يقال : إن بضاعتهم كانت دارهم حملوها لشراء الطعام . وعن بعضهم : أن بضاعتهم كانت ثمانية جرب من سويق المقل . والأصح هو الأول . وقوله : ( ^ في رحالهم ) الرحل هاهنا : وعاء المتاع . وقيل : في جواليقهم . وقوله : ( ^ لعلهم يعرفونها
____________________

( ^ انقلوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون ( 62 ) فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له لحافظون ( 63 ) قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين ( 64 ) ) * * * * إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون ) فيه قولان : أحدهما : لعلهم يعرفون كرامتهم علينا ، وإحساننا إليهم فيحملهم ذلك على الرجوع .
والقول الثاني : لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم - يعني : البضاعة - فيرجعون لرد البضاعة نفيا للغلط . واختلف القول في أنه لم رد بضاعتهم عليهم ؟
فأحد الأقوال : ما بينا ، وهو أن يكون ذلك حثا لهم على الرجوع . والثاني : أنه عرف أن الدراهم كانت قليلة عندهم فرد الدراهم عليهم ليكون عونا لهم على شراء الطعام . والثالث : أنه استحيا أن يعطي أباه وإخوته بالثمن مع شدة حاجتهم وسعة الأمر عليه . < < يوسف : ( 63 ) فلما رجعوا إلى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل ) إن لم نحمل أخانا معنا . والثاني : أنه كان أعطى باسم كل واحد منهم وقرا ، ولم يعط باسم بنيامين شيئا ، وقال : احملوه لأعطي باسمه ؛ فهذا معنى قوله : ( ^ منع منا الكيل ) أي : منع منا الكيل لبنيامين ؛ والمعنى بالكيل هو الطعام ؛ لأنه يكال . وقوله : ( ^ فأرسل معنا أخانا نكتل ) أي : نكيل الطعام ، وقيل : نكتل له . وقوله : ( ^ وإنا له لحافظون ) ظاهر . < < يوسف : ( 64 ) قال هل آمنكم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال هل ءآمنكم عليه ) الآية ، معنى هذا : كيف آمنكم عليه وقد فعلتم بيوسف ما فعلتم . وقوله : ( ^ فالله خير حافظا ) قرىء : ' حفظا ' و ' حافظا ' ومعناه : حفظ الله خير من حفظكم ، وحافظ الله خير من حافظكم .
قوله : ( ^ وهو أرحم الراحمين ) ظاهر . < < يوسف : ( 65 ) ولما فتحوا متاعهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم ) يعني : ما حملوا من الدراهم ( ^ قالوا يا أبانا ما نبغي ) فيه قولان : أحدهما : أي شيء نطلب ؟ على طريق الاستفهام ؛ قاله قتادة . وحقيقته : أنهم ذكروا ليعقوب عليه السلام إحسان الملك
____________________

( ^ ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير ( 65 ) قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط ) * * * * إليهم وإكرامه إياهم ، [ وحثوه ] بذلك على إرسال بنيامين ، فلما فتحوا المتاع ووجدوا البضاعة قالوا : أي شيء نطلب بالكلام ، هذا هو العيان في الإحسان والإكرام .
والقول الثاني : أن ' ما ' هاهنا للنفي ؛ ومعناه : لا نطلب منك مالا لنشري به الطعام ( ^ هذه بضاعتنا ردت إلينا ) هذا المال قد رد إلينا فنحمله ونشتري به الطعام . والقول الأول أصح .
وقوله : ( ^ ونمير أهلنا ) يقال : مار أهله إذا حمل لهم الطعام من بلد إلى بلد ؛ والميرة : هو الطعام المحمول . وقوله : ( ^ ونحفظ أخانا ) يعني : مما تخاف عليه . وقوله : ( ^ ونزداد كيل بعير ) قال مجاهد : البعير هاهنا : هو الحمار ، قال : هو لغة ، وكانوا أصحاب حمر ولم يكن لهم إبل . والأصح أنه البعير المعروف . وقوله : ( ^ ونزداد ) إنما قالوا هذا لأنه كان يعطى حمل بعير باسم كل رجل ولا يزيد ؛ فهذا معنى قوله : ( ^ ونزداد كيل بعير ) . قوله : ( ^ ذلك كيل يسير ) فيه معنيان : أحدهما : ذلك كيل قليل ؛ يعني : ما حملناه قليل لا يكفينا وأهلنا ، فأرسل معنا أخانا [ نكتل ] ليكثر ما نحمله من الطعام . والمعنى الثاني : ذلك كيل يسير أي : هين على من يكتاله . < < يوسف : ( 66 ) قال لن أرسله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال لن أرسله معكم ) في القصة : أن الإخوة جهدوا أشد الجهد وضاق الأمر على يعقوب وقومه في الطعام فلم يجد بدا من إرسال [ بنيامين ] معهم فقال : ( ^ لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله ) الموثق : هو العهد المؤكد بالقسم ، وقيل : المؤكد بإشهاد الله على نفسه . وقوله : ( ^ لتأتنني به إلا أن يحاط بكم ) فيه قولان ، أحدهما : إلا أن تهلكوا جميعا . والآخر : إلا أن يأتيكم أمر من السماء ليس لكم به قوة .
____________________

( ^ بكم فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل ( 66 ) وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من ) * * * *
وقوله : ( ^ فلما آتوه موثقهم ) يعني : أعطوه ( ^ قال الله ) تعالى ( ^ على ما نقول وكيل ) قال يعقوب : الله على ما نقول وكيل ؛ والوكيل هو القائم بالتدبير ، وقيل : وكيل أي : شاهد [ وقيل : شهيد ، أي : شاهد ] وقيل : حفيظ . < < يوسف : ( 67 ) وقال يا بني . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد ) أكثر المفسرين [ على ] أنه خاف العين : لأنه كانوا أعطوا جمالا وقوة وامتداد قامة ، هذا قول ابن عباس وغيره من المفسرين ؛ والعين حق . وقد روي عن النبي أنه كان يعوذ الحسن والحسين فيقول : ( أعيذكما بكلمات الله [ التامة ] من كل شيطان [ و ] هامة ، ومن كل عين لامة ' ( 3 ) .
وفي الباب أخبار كثيرة ، وفي بعض الآثار . ' العين حق ، تدخل الجمل القدر والرجل القبر ' .
وفي الآية قول آخر : وهو أنه خاف عليهم ملك مصر إذا رأى قوتهم واجتماعهم أن يحبسهم أو يقتلهم . وحكي عن إبراهيم النخعي أنه قال : كان يرجو يعقوب أن يروا يوسف ويجدوه فقال : ( ^ وادخلوا من أبواب متفرقة ) لعلكم ( تجدون ) يوسف [ أو ] تلقونه . والصحيح هو الأول .
وقوله : ( ^ وما أغنى عنكم من الله من شيء ) معناه : إن كان الله قضى فيكم [ قضاء ] فيصيبكم [ قضاؤه ] مجتمعين كنتم أو متفرقين ؛ ومعنى ' أغنى '
____________________

( ^ شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون ( 67 ) ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها وإنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( 68 ) ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما ) * * * * أي : أدفع . وفي الخبر : الحذر لا يرد القدر . وقوله : ( ^ إن الحكم إلا لله ) هذا تفويض يعقوب عليه السلام أموره إلى الله ؛ والحكم : هو الفصل بين الخصوم بموجب العلم من البشر ، ومن الله صنع بموجب الحكمة ( ^ عليه توكلت ) يعني : به وثقت وعليه اعتمدت .
( ^ وعليه فليتوكل المتوكلون ) معناه : وبه يثق الواثقون . < < يوسف : ( 68 ) ولما دخلوا من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ) يعني : من الأبواب المتفرقة قيل : إن المدينة مدينة الفرما ، و ( كانت ) لها أربعة أبواب ، كانت مدينة العريش . وقوله ( ^ ما كان يغني عنهم من الله من شيء ) معناه : ما كان يدفع عنهم من الله من شيء ، وهذا الحق تحقيق لما ذكره يعقوب من قوله : ( ^ وما أغنى عنكم من الله من شيء ) . وقوله : ( ^ إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها ) يعني : إلا مرادا ليعقوب عليه السلام ذكره وجرى الأمر على ذلك . وقوله : ( ^ وإنه لذو علم لما علمناه ) قال أهل التفسير : معناه : وأنه كان يعمل ما يعمل عن علم ، لا عن جهل . ومنهم من قال : وإنه لذو علم بسبب تعليمنا إياه ( ^ ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) لأنهم لم يسلكوا طريق العلم . < < يوسف : ( 69 ) ولما دخلوا على . . . . . > >
قوله : ( ^ ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه ) آوى إليه : ضم إليه ، ومعناه : أنزله مع نفسه . وفي القصة : أنه أنزل كل أخوين من أم بيتا ، فبقي بنيامين وحده فقال : انزل معي ، وكان كل أخوين من أم على حدة . وقوله : ( ^ قال إني أنا أخوك )
____________________

( ^ كانوا يعملون ( 69 ) فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون ( 70 ) قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون ) * * * * فيه قولان : أحدهما : أنه أسر إليه أنه أخوه . والآخر : أنه قال : أنا لك مكان أخيك الهالك . ذكره وهب وغيره . وقوله : ( ^ فلا تبتئس بما كانوا يعملون ) معناه : فلا تحزن بما عملوا مع أخيك ، فإني لك بدل أخيك ، فروي أنه قال له بنيامين : ومن يجد أخا مثلك أيها الملك ؛ ولكنك لست من يعقوب ؛ فحينئذ ذكر أنه أخوه حقيقة . < < يوسف : ( 70 ) فلما جهزهم بجهازهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فلما جهزهم بجهازهم ) قد ذكرنا . وقوله : ( ^ وجعل السقاية ) السقاية : هي الإناء الذي يشرب به . واختلفوا أنها من أيش كانت ؟ قال ابن عباس : كانت من زبرجد . وقال مجاهد : كانت من فضة مرصعة بالجوهر ، وقيل : كان من ذهب . وعن بعضهم : أنه كان ( إناء ) مستطيلا شبه المكوك وله رأسان وفي وسطه مقبض ، فكان يكال من أحد الرأسين ويشرب من ( الرأس ) الآخر ، وكان لا يكال إلا به لعزة الطعام ، وكان يسمع لها صوت : قد كيل في كذا .
وقوله : ( ^ في رحل أخيه ) أي : في وعاء أخيه بين طعامه . وقوله : ( ^ ثم أذن مؤذن ) روي أنه تركهم حتى ذهبوا منزلا ، وقيل : حتى أصحروا وخرجوا من العمارة ، ثم بعث من خلفهم من استوقفهم وقال : ( ^ أيتها العير إنكم لسارقون ) والعير : هم أصحاب الحمير . وقيل : قد يذكر ويراد به الإبل . فإن قال قائل : كيف استجاز يوسف أن ينسبهم إلى السرقة ولم يسرقوا ؟
الجواب عنه من وجوه : أحدها معناه : إنكم لسارقو يوسف من أبيه ، وعملتم كما يعمل السراق . والثاني : أن الرجل قال من غير أمر يوسف ، فإنه حين فقد الصاع ظن أنهم سرقوا . والثالث : أن هذه هفوة من يوسف عليه السلام . وقد قالوا : إنه عير ثلاث عيرات : الأولى : حين هم بامرأة العزيز إلى أن رأى البرهان ، والثاني حين قال للساقي : اذكرني عند ربك ، والثالث : هذا ؛ وهو أنه نسب إخوته إلى السرقة .
والقول الأول أجود الأقاويل ، ويقال : إنه كان واضع مع بنيامين ، وقال ما قال بالمواضعة ، والله أعلم .
____________________

( ( 71 ) قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم ( 72 ) قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين ( 73 ) قالوا فما ) * * * * < < يوسف : ( 71 ) قالوا وأقبلوا عليهم . . . . . > >
قوله : ( ^ قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون ) روي أنهم وقفوا وقالوا للقوم : ماذا تطلبون ؟ < < يوسف : ( 72 ) قالوا نفقد صواع . . . . . > >
قوله : ( ^ قالوا نفقد صواع الملك ) قرأ يحيى بن يعمر : ' صوغ الملك ' بالغين المعجمة [ و ] الصوغ من الذهب أو الفضة ، والصواع يذكر ويؤنث ، [ و ] الصواع : هو السقاية التي ذكرها في الآية الأولى . وقيل : إنه كان يكون بين يدي الملك ، فإذا احتيج إليه أخذ .
وقوله : ( ^ ولمن جاء به حمل بعير ) يعني : ولمن رده حمل بعير من الطعام .
وقوله : ( ^ وأنا به زعيم ) أي : كفيل ، والزعيم والكفيل والضمين بمعنى واحد ، ويسمى الرئيس زعيما ؛ لأنه كفل أمور القوم زعيم يقوم بمصالحهم ويتكلم عنهم . فإن قيل : أتجوز الكفالة بالمجهول عندكم وهذه كفالة بالمجهول ؟ قلنا : لا تجوز ، ويحتمل أن حمل البعير كان معلوما قدره عندهم . والثاني : أن هذه جعالة ولم تكن كفالة ، وعندنا تجوز مثل هذه الجعالة . < < يوسف : ( 73 ) قالوا تالله لقد . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض ) يعني : والله ما جئنا لنفسد في الأرض أي : لنسرق في ملك مصر ( ^ وما كنا سارقين ) في بلادنا فنسرق في بلادكم . فإن قال قائل : كيف قالوا : لقد علمتم وكان ( من جوابهم ) أن يقولوا : نحن لا نعلم ؟ ( قلنا ) : إنما قالوا ذلك ؛ لأنهم كانوا جماعة لهم قوة وشدة ولم يكونوا يظلمون أحدا من الطريق ولا يتركون دوابهم تدخل في حرث أحد ، وروي أنهم دخلوا مصر حين دخلوا وقد جعلوا الأكمة على رءوس دوابهم لئلا تفسد شيئا .
وجواب آخر : أنهم إنما قالوا هذا لأنهم ردوا البضاعة المحمولة في رحالهم قالوا : فلو
____________________

( ^ جزاؤه إن كنتم كاذبين ( 74 ) قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين ( 75 ) فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من ) * * * * كنا سارقين ما رددنا البضاعة ؛ لأن من يطلب شيئا ليسرقه لا يخلي شيئا وقع في يده .
فإن قيل : كيف جاز في العربية أن يقول القائل : ( تالله ، ولا يجوز أن يقول : تالرحمن وتالرحيم ) ؟ قلنا : لأن التاء بدل الباء ؛ فإن الأصل في القسم حرف الباء ثم أبدلت الواو بالتاء فلما كانت بدل البدل ضعفت عن التصرف واقتصرت على الاسم الذي هو الأصل في القسم عادة ولسانا وهو ' الله ' . < < يوسف : ( 74 ) قالوا فما جزاؤه . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين ) معناه : فما جزاء السارق إن كنتم كاذبين بقولكم إنا لم نسرق ؟ < < يوسف : ( 75 ) قالوا جزاؤه من . . . . . > >
قوله : ( ^ قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه ) استعباد السارق من وجد في رحله ( فهذا ) الجزاء جزاؤه ؛ فيكون الثاني تأكيدا للأول . وفي الأول حذف على عادة كلام العرب ، والقول الثاني : قالوا : جزاؤه من وجد في رحله فالسارق جزاؤه ؛ فهو كناية عن السارق ، ومعنى جعله جزاء : أنه يسترق ويستعبد . واعلم أنه كان من سنة يعقوب : أن من سرق شيئا استرق سنة ، وكان حكم ملك مصر أن يضرب ويغرم ضعفي قيمته ، [ فمراد ] يوسف أن يحبس أخاه عنده فرد الحكم في السرقة إليهم فذكروا من حكم السرقة بما عرفوه في شريعة يعقوب عليه السلام ، فأخذ يوسف عليه السلام بذلك وحصل مراده من حبس أخيه .
وقوله : ( ^ كذلك نجزي الظالمين ) يعني : أن إخوة يوسف قالوا : كذلك نجزي السراق عندنا . < < يوسف : ( 76 ) فبدأ بأوعيتهم قبل . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه ) روي أن المؤذن فتش عن أوعيتهم ، وروي أنه رد جماعتهم إلى يوسف - عليه السلام -
____________________

( ^ وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم ( 76 ) قالوا إن يسرق ) * * * * فأمر بتفتيش أوعيتهم بين يديه . وفي القصة : أن ذلك الرجل كان كلما فتش وعاء ولم يجد الصاع استغفر الله وأظهر التوبة فلما بقي رحل بنيامين قال : ما أظن أن هذا أخذ شيئا قالوا : والله لا نتركك حتى تفتش وعاءه فتطيب أنفسنا ونفسك ، ففتش وعاءه واستخرج الصاع فبقوا منكسرين مستحيين ونكسوا رءوسهم خجلا وقالوا لبنيامين : ما هذا يا ابن راحيل ؟ ! فقال : والله ما سرقت ، فقالوا : كيف وقد وجد الصاع في رحلك ؟ ! فقال : وضع الصاع في رحلي من وضع البضاعة في رحالكم . قال : وأخذوا بنيامين رقيقا عبدا . وفي القصة : أن ذلك الرجل أخذ برقبته ورده إلى يوسف كما يرد السراق . وقوله : ( ^ كذلك كدنا ليوسف ) معناه : دبرنا ليوسف ، وقيل : صنعنا ليوسف . وقال ابن الأنباري : أردنا ليوسف ؛ وأنشد قول الشاعر
( كادت وكدت وذاك خير إرادة ** لو عاد من لهو الصبابة ما مضى )
فإن قيل : ما معنى قوله : ( ^ كذلك ) وأيش هذه الكاف ، والكاف للتشبيه ؟ الجواب عنه : أن هذا منصرف إلى قول يعقوب في أول السورة : ( ^ فيكيدوا لك كيدا ) وكان كيدهم : أنهم أخذوه من أبيه بحيلة وألقوه في الجب فقال الله تعالى : كما كادوا في أمر يوسف : ( ^ كدنا ليوسف ) في أمرهم ؛ والكيد من الخلق هو : الحيلة ، ومن الله : التدبير بالحق . وقوله : ( ^ ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك ) معناه : ما كان يوسف ليجازي أخاه في حكم الملك ، وقيل : في عادة الملك . قال الشاعر :
( أقول وقد درأت لها وضيني ** أهذا دينه أبدا وديني )
و ' ما ' هاهنا للنفي . وقوله : ( ^ إلا أن يشاء الله ) معناه : إلا بمشيئة الله يعني : فعل ما فعل بمشيئة الله تعالى . وقوله : ( ^ نرفع درجات من نشاء ) قال هذا في هذا الموضع ؛ لأنه رفع درجة يوسف على درجتهم في العلم والملك والعقل وغيره . وقيل :
____________________

( ^ فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون ( 77 ) قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا ) * * * * نرفع درجات من نشاء بالتوفيق والعصمة . وقوله : ( ^ وفوق كل ذي علم عليم ) قال ابن عباس : وفوق كل عالم عالم إلى أن ينتهي العلم إلى الله . وقرأ ابن مسعود : وفوق كل عالم عليم ' . < < يوسف : ( 77 ) قالوا إن يسرق . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل ) أرادوا بأخيه من قبل : يوسف - عليه السلام - واختلف القول في أنه أيش سرق ؟
قال سعيد بن جبير وقتادة : كان عند جده إلى أمه صورة تعبد فأخذها سرا وألقاها لئلا تعبد . والقول الثاني : أنه كان يأخذ الطعام من مائدة أبيه سرا فيعطيه المساكين .
والقول الثالث : أنه كان عند عمته تربيه ، فأراد يعقوب أن ينتزعه منها فشدت عمته تحت ثيابه منطقة ، وادعت أنه سرقها لتحبسه عند نفسها ويترك عندها ؛ فإنها كرهت أن يؤخذ منها وكانت أحبته حبا شديدا ، ذكره ابن إسحاق .
وقوله : ( ^ فأسرها يوسف في نفسه ) فإن قال قائل : إلى أين يرجع قوله : ( ^ فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم ) ؟ قلنا : ليس لهذا مذكور سابق ، ومعناه : أسر الكلمة في نفسه ، وتلك الكلمة أنه قال : ( ^ أنتم شر مكانا ) ، ولم يصرح بهذا القول . وقوله : ( ^ شر مكانا ) يعني : شر صنيعا . وحقيقة معناه : أنه لم يكن من يوسف سرقة صحيحة ، وقد كانت منكم سرقة صحيحة ؛ وهو سرقتكم يوسف من أبيه .
وقوله : ( ^ والله أعلم بما تصفون ) يعني : والله أعلم أن أخاه قد سرق أو لم يسرق < < يوسف : ( 78 ) قالوا يا أيها . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا ) في القصة : أنهم غضبوا غضبا شديدا لهذه الحالة ، وكان يهوذا إذا غضب لم يقم لغضبه شيء ، وإذا صاح [ فكل ] امرأة حامل سمعت صياحه ألقت ولدها ، وكان مع هذا إذا مسه أحد من
____________________

( ^ فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين ( 78 ) قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون ( 79 ) فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا قال ) * * * * ولد يعقوب [ سكن ] غضبه ، وقيل : إن هذا كان صفة شمعون من أولاد يعقوب ؛ فروي أنه قال لإخوته : كم يكون من عدد الأسواق بمصر ؟ فقالوا : عشرة أسواق ، فقال : اكفوني أنتم الأسواق وأنا أكفكم الملك ، أو قال : اكفوني أنتم الملك وأنا أكفكم الأسواق ، قال : فدخلوا على يوسف فقال له يهوذا : أتردن علينا أخانا أو لأصيحن صيحة تلقي كل حامل ولدها في هذه البلدة ، وكان عند يوسف ابن له صغير قائم عنده فقال : اذهب وخذ بيد ذلك الرجل وائتني به ، فذهب وأخذ بيده فسكن غضبه ، فقال لإخوته : والله إن هاهنا بذرا من بذر يعقوب ، فقال له الابن الصغير : ومن يعقوب وأنا لا أدري يعقوب ولا ولده ؟ . وروي أنه غضب ثانيا فقام إليه يوسف وركضه برجله وأخذ بتلابيبه فوقع على الأرض وقال : معشر العبرانيين تظنون أن لا أحد أشد منكم ، ذكر هذا كله السدي وغيره ، فلما صار أمرهم إلى هذا خضعوا وذلوا وقالوا : ( ^ يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا ) .
والعز : منع الضيم أو الضير بسعة السلطان والقدرة ، والعزيز : هو المنيع بما حصل له من واسع المقدور .
قوله : ( ^ إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه ) معناه : خذ أحدنا بدله ، ونصب شيخا على نعت قوله : ( ^ أبا ) .
وقوله : ( ^ إنا نراك من المحسنين ) يعني : إنا نراك من المحسنين إلينا ، وإحسانه إليهم بتوفية الكيل ، وحسن الضيافة ، ورد البضاعة ، وغيره . < < يوسف : ( 79 ) قال معاذ الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال معاذ الله ) أعتصم بالله ( ^ أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون ) معلوم المعنى ، ومعناه : أن نأخذ البرىء بدل الجاني ، فإن أخذنا فإنا ظالمون . < < يوسف : ( 80 ) فلما استيأسوا منه . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فلما استيأسوا منه ) في القصة : أنه لما استخرج الصاع وعاد الإخوة إليه دعا بالصاع ونقره بقضيب في يده فطن الصاع .
____________________

( ^ كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير ) * * * *
فقال : يا قوم إن هذا الصاع ليخبرني بخبر ، قالوا : وما يخبرك أيها الملك ؟ فقال : إنه يخبرني أنكم كنتم ( اثنى ) عشر إخوة وأنكم أخذتم أخا لكم من أبيكم وألقيتموه في الجب وبعتموه من بعد ، قال : فجعل ينظر بعضهم إلى بعض فقام بنيامين وسجد له ، وقال : صدق صاعك ( أيها الملك ) ، سله : أحي أخي أو لا ؟ ، فنقر الصاع ثانيا وطن فقال : إنه يقول : هو حي ، وستراه . فقال : سله من سرق الصاع ؟ فقال : هو غضبان - يعني الصاع - ويقول كيف تسألني وقد رأيت في يد من كنت ؟ ! أورده النقاش وأبو الحسن بن فارس وغيرهما ، والله أعلم .
ومعنى قوله : ( ^ فلما استيأسوا منه ) أي : تيأسوا منه ، وقال أبو عبيدة : استيأسوا استيقنوا أن الأخ لا يرد إليهم ، وأنشد :
( أقول لهم بالشعب إذ يأسرونني ** ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم )
يعني : ألم تعلموا . وقوله ( ^ خلصوا نجيا ) يعني : انفردوا يتناجون ، ويتشاورون في أمر أخيهم ، ومعنى ( ^ خلصوا ) : أنه لم يكن معهم غيرهم . تقول العرب : قوم نجى . قال الشاعر :
( حتى إذا ما القوم كانوا أنجية ** واختلطت أحوالهم كالأرشية )
وقوله : ( ^ قال كبيرهم ) قال ابن عباس : هو يهوذا ولم يكن أكبرهم في السن ، ولكن كان في العقل أكبرهم ، وقال مجاهد : هو شمعون وكانت له الرئاسة على إخوته ، وقال قتادة : هو الروبيل وكان أكبرهم في السن .
وقوله : ( ^ ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ) قد بينا معنى الموثق . وقوله : ( ^ ومن قبل ما فرطتم في يوسف ) يعني : قصرتم وتركتم عهد أبيكم .
____________________

( ^ الحاكمين ( 80 ) ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين ( 81 ) واسأل القربة التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون ( 82 ) قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر ) * * * * وقوله : ( ^ فلن أبرح الأرض ) يعني : لن أبرح أرض مصر ( ^ حتى يأذن لي أبي ) يعني : يدعوني أبي ( ^ أو يحكم الله لي ) أي : يرد أخي إلي ، وقيل : يحكم الله لي بالسيف فأقاتلهم وأسترد أخي ( ^ وهو خير الحاكمين ) يعني : وهو خير الفاصلين . < < يوسف : ( 81 ) ارجعوا إلى أبيكم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ارجعوا إلى أبيكم ) الآية : امضوا إلى أبيكم ( ^ فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق ) وحكي عن ابن عباس أنه قرأ : ' أنه إن ابنك سرق ' وفيه معنيان : أحدهما : اتهم بالسرقة . والآخر : علم منه السرقة . وقوله : ( ^ وما شهدنا إلا بما علمنا ) يعني : إلا بما رأينا فإنا رأينا إخراج الصاع من متاعه . وقوله : ( ^ وما كنا للغيب حافظين ) فيه قولان : أحدهما : ما كنا لليله ونهاره وذهابه ومجيئه حافظين ، وإنما كنا نعلم من حاله مادام عندنا ، والقول الثاني يعني : أنا لو علمنا أنه سيسرق ما حملناه مع أنفسنا فنحن لم نعلم هذا الغيب . < < يوسف : ( 82 ) واسأل القرية التي . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ واسأل القرية التي كنا فيها ) يعني : أهل القرية التي كنا فيها . ( ^ والعير التي أقبلنا فيها ) يعني : وأهل العير التي أقبلنا فيها ، أي : كنا فيها .
وقوله : ( ^ وإنا لصادقون ) ظاهر . فإن قال قائل : كيف استجاز يوسف - عليه السلام - أن يعمل كل هذا بأبيه ولم يخبره بمكانه ولم يرسل إليه أحدا ، ثم حبس أخاه عنده وقد عرف شدة وجده عليه ، وهذا أعظم من كل عقوق ، وفيه قطع الرحم وقلة الشفقة ؟ الجواب عنه : قد أكثر الناس في هذا ، والصحيح أنه عمل ما عمل بأمر الله تعالى ، وأمره الله تعالى بذلك ليزيد في بلاء يعقوب ويضاعف له الأجر ، ويرفع درجته [ فيلحقه ] في الدرجة بآبائه الماضين . وقيل : إنه لم يظهر نفسه للإخوة ؛ لأنه لم يأمن عليهم أن يدبروا ، في ذلك تدبيرا ويكتموا عن أبيهم ، والصحيح هو الأول . < < يوسف : ( 83 ) قال بل سولت . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا ) في الآية اختصار ؛ لأنهم رجعوا
____________________

( ^ جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العلم الحكيم ( 83 ) وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم ( 84 ) ) * * * * وذكروا لأبيهم بما علمهم كبيرهم ، ثم إن يعقوب قال ما قال ، ومعنى التسويل هاهنا : أن زينت لكم أنفسكم حمل أخيكم إلى مصر لتطلبوا نفعا عاجلا .
قوله تعالى : ( ^ فصبر جميل ) أي : فصبري صبر جميل . والصبر : حبس النفس عما تنازع إليه النفس وقد بينا معنى الجميل . وقوله : ( ^ عسى الله أن يأتيني بهم جميعا ) يعني : يوسف وأخاه بنيامين ويهوذا . وفي القصة : أن ملك الموت - عليه السلام - زار يعقوب فقال له : أيها الملك الطيب ريحه ، الحسن صورته هل قبضت روح ولدي في الأرواح ؟ فقال : لا . فسكن يعقوب على ذلك ، وعلم أنه حي وطمع في رؤيته . وقوله : ( ^ إنه هو العليم الحكيم ) معناه : العليم بمكانهم ، الحكيم في تدبيرهم . < < يوسف : ( 84 ) وتولى عنهم وقال . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف ) الآية . روي أن بنيامين لما حبسه يوسف اشتد الأمر على يعقوب غاية الشدة وبلغ الحزن [ به نهايته ] ، ولم يملك بعد ذلك الصبر ، فجزع ، فهذا معنى قوله : ( ^ وتولى عنهم ) أي : أعرض عنهم ( ^ وقال يا أسفى ) وروى أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي : ' أن بعض إخوان يعقوب زاره فقال له : يا يعقوب ، ما الذي أعمى عينيك وقوس ظهرك ؟ فقال : أعمى عيني كثرة البكاء على يوسف ، وقوس ظهري شدة الحزن على بنيامين ، فبعث الله تعالى إليه جبريل - عليه السلام - وقال : يا يعقوب أتشكوني إلى خلقي ؟ ! فبعد ذلك دخل بيته ورد بابه ، و ( ^ قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ) ' ومعنى
____________________

( ^ قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين ( 85 ) قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون ( 86 ) يا بني ) * * * * قوله : ( ^ يا أسفى ) يا حزن على يوسف ، والأسف : شدة الحزن . وقوله : ( ^ وابيضت عيناه من الحزن ) يعني : غلب البياض على الحدقة وذهبت الرؤية . ونسبه إلى الحزن ؛ لأنه كان يبكي لشدة الحزن وعمي لشدة البكاء . وقوله : ( ^ فهو كظيم ) أي : ممسك على حزنه لا يبثه ولا يذكره للناس . فهذا بعد أن نهاه الله عن ذلك على ما بينا . < < يوسف : ( 85 ) قالوا تالله تفتأ . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف ) يعني : لا تزال تذكر يوسف ، و ' لا ' محذوفة ، وقوله : ( ^ حتى تكون حرضا ) قال ثعلب - أحمد بن يحيى - الحرض : كل شيء لا ينتفع به ، قال مجاهد : الحرض ما دون الموت ، وقال الفراء : الحرض هو الذي فسد جسمه وعقله ، وقال أبو عبيدة : الحرض هو الذي أذابه الحزن . وقيل : هو المدنف البال ، والأقوال متقاربة .
وعن أنس بن مالك أنه قرأ : ' حتى تكون حرضا ' والحرض : الأشنان ، ومعناه : حتى تصير كعود [ الأشنان ] ، وقوله : ( ^ أو تكون من الهالكين ) أي : من الميتين . < < يوسف : ( 86 ) قال إنما أشكو . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون ) قد بينا الخبر [ الوارد ] في هذا برواية أنس . والبث : الهم ، ( ^ وحزني إلى الله ) ، وروى أنه قال : يا رب ، أما ترحمني ، قد أخذت مني كذا وكذا - وجعل يعدد - رد إلي ريحانتي ( فأشمها شمة ثم افعل ) بي ما أردت ولا أبالي ، فأوحى الله - تعالى - إليه : أن اسكن وفرغ روعك فسأردهما إليك . وفي الآثار المسندة عن الحسن البصري أنه قال : بكى يعقوب ثمانين سنة وما جف له دمع ، ولم يكن على وجه الأرض أحد أكرم على الله منه . قوله : ( ^ وأعلم من الله ما لا تعلمون ) يعني : أعلم من حياة يوسف ما لا تعلمون ، وقيل : أعلم من تحقيق رؤيا يوسف ما لا تعلمون ، فإن قال قائل :
____________________

كيف بكى يعقوب كل هذا البكاء وحزن هذا الحزن ، وهل أصيب إلا بفقد ولد واحد ، أفما كان عليه أن يسلم الأمر إلى الله تعالى ويصبر ؟ الجواب عنه : أنه امتحن في هذا بما لم يمتحن به غيره ، ولم يسأل عن يوسف مع طول الزمان ، وكان [ ابتلاؤه ] فيه أنه لم يعلم حياته فيرجو رؤيته ، ولم يعلم موته فيسأل عنه ، وكان يوسف من بين سائر الإخوة خص بالجمال الكامل ( والعقل ) وحسن الخلق وسائر ما يميل القلب إليه . وروي عن الحسن البصري أنه مات أخوه فبكى عليه بكاء شديدا فسئل عن ذلك ؟ فقال : سبحان من لم يجعل الحزن عارا على أهله ، وقرأ قوله تعالى : ( ^ إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ) . وروى حبيب بن أبي ثابت قال : لما كبر يعقوب وطال عليه الحزن سقط حاجباه على عينيه من الكبر فكان يرفعهما بخرقة ، فدخل عليه بعض جيرانه وقال : ما الذي بلغ بك ما بلغ ولم تبلغ سن أبيك بعد ؟ قال : طول الزمان وكثرة [ الأحزان ] ، فبعث الله إليه جبريل - عليه السلام - وقال : يا يعقوب ، شكوتني إلى خلقي ؟ ! فقال : خطيئة فاغفرها لي يا رب . فغفرها الله له ، وكان بعد ذلك إذا سئل عن حاله قال : ' إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ' وعن وهب بن منبه : أن الله تعالى أوحى إلى يعقوب - عليه السلام - فقال : أتدري لم عاقبتك وفرقت بينك وبين ولدك ؟ قال : يا رب لا ، فقال : لأنك ذبحت شاة وشويتها وقترت على جارك وأكلت ولم تطعمه ؛ وقد روى أنس ، عن النبي قريبا من هذا أورده الحاكم أبو عبد الله . وفي خبر أنس : ' أن الله تعالى قال ليعقوب : اتخذ طعاما وادع إليه المساكين ، ففعل وكان بعد ذلك إذا تغد أمر من ينادي : من أراد الغداء فليأت يعقوب ، وإذا أفطر أمر من ينادي : من أراد أن يفطر فليأت يعقوب ، فكان يتغدى معه القوم الكثير ، ويتعشى معه القوم الكثير من المساكين ' .
وفي القصة : أن سبب ابتلاء يعقوب أنه ذبح عجلا بين يدي أمها وهي تخور . وعن عبد الله بن يزيد وابن أبي فروة : أن يعقوب - عليه السلام - كتب كتابا إلى
____________________

( ^ اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ( 87 ) فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا ) * * * * يوسف حين حبس بنيامين : بسم الله الرحمن الرحيم من يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله إلى ملك مصر أما بعد : فإنا أهل بيت ( وكل ) بنا البلاء ، أما جدي إبراهيم فشدت يداه ورجلاه وألقي في النار فجعلهما الله عليه بردا وسلاما ؛ وأما أبي إسحاق فشدت يداه ورجلاه ووضع السكين على حلقه ففداه الله بكبش ، وأما أنا فابتليت بفراق أحب أولادي إلي وكنت أتسلى بأخيه من أمه وقد حبسته وزعمت أنه سرق ، والله ما أنا بسارق ولم ألد سارقا فإن رددته إلي وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك . فلما بلغ ( إليه الكتاب ) بكى بكاء شديدا وأظهر نفسه على ما يرد . < < يوسف : ( 87 ) يا بني اذهبوا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف ) التحسس : طلب الشيء بالحاسة ، ومعناه : اطلبوا وابحثوا عن خبر يوسف وأخيه .
وقوله : ( ^ ولا تيأسوا من روح الله ) في الشاذ قرىء : ' من روح الله ' ( وعن أبي بن كعب أنه قرأ : ' من رحمة الله ' والروح مأخوذ من الريح ، وهو في الحقيقة ما يستراح به . وقيل : من روح الله ) أي : من فرج الله ، قاله أبو عمرو بن العلاء ، وقيل : من رحمة الله ، وقيل : من فضل الله .
وقوله : ( ^ إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ) ظاهر المعنى . < < يوسف : ( 88 ) فلما دخلوا عليه . . . . . > >
قوله تعالى : ( ( فلما دخلوا عليه ) قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر ) يعني : الجوع والحاجة . وقوله : ( ^ وجئنا ببضاعة مزجاة ) قال ابن عباس : كانت دراهمهم زيوفا في هذه الكرة ، ولم تك تنفق في الطعام فهذا معنى المزجاة ، وعن مجاهد وقتادة : مزجاة : قليلة يسيرة ، وقال مقاتل : كانت بضاعتهم حبة الخضراء ، وعن الكلبي قال : كانت بضاعتهم الحبال وخلق الغرائر ، وقيل : كانت سويق المقل .
____________________

( ^ وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين ( 88 ) قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون ( 89 ) قالوا أئنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه ) * * * *
وقال ( كعب : كانت عشرة دنانير . وقيل : كان متاع الأعراب من الصوف والأقط وغيره . وقوله : ( ^ فأوف لنا الكيل ) معناه : أتم كما كنت تتم كل مرة . وقوله : ( ^ وتصدق علينا ) أي : بما بين النافق والكاسد . وقيل : تصدق علينا بالتجوز . قال الشاعر :
( تصدق علينا يا ابن عفان واحتسب ** وأمر علينا الأشعري لياليا )
يعنون : أبا موسى الأشعري ، وقيل : وتصدق علينا بإطلاق أخينا ، وعن مجاهد قال : يكره أن يقول الرجل : اللهم تصدق علي ؛ لأن الصدقة إنما تكون ممن يبتغي الثواب . فإن قال قائل : كيف قالوا : وتصدق علينا ، والصدقة لا تحل للأنبياء ؟ الجواب : أن سفيان ابن عيينة قال : قد كانت حلالا لهم ، ولأنا بينا أن المراد منه التجوز والمحاباة ، وهذا جائز بالاتفاق . وقوله : ( ^ إن الله يجزي المتصدقين ) لم يقولوا : يجزيك ؛ لأنهم لم يثقوا بإيمانه ، فقالوا : إن الله يجزي المتصدقين على الإطلاق لهذا . < < يوسف : ( 89 ) قال هل علمتم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه ) روي أنهم [ لما ] قالوا هذا وسمعه يوسف أدركته الرقة ، فقال لهم هذا القول : هل [ علمتم ] ما فعلتم أي : ما صنعتم بيوسف وأخيه ، والذي فعلوا بأخيه هو التفريق بينهما ولم يذكر ما فعلوا بيعقوب دفعا لحشمته وتعظيما له . وقوله : ( ^ إذ أنتم جاهلون ) معناه : إذ أنتم آثمون عاصون ، وعن ابن عباس قال : إذ أنتم صبيان ، وعن الحسن قال : إذ أنتم شبان ومعكم جهل الشبان ، وفي القصة : أنه لما قال هذا القول تبسم فرأوا ثناياه منظوما كاللؤلؤ فعرفوه وقالوا : < < يوسف : ( 90 ) قالوا أئنك لأنت . . . . . > > ( ^ أئنك لأنت يوسف ) وقال بعضهم : قالوا هذا على التوهم ولم يكونوا تيقنوا بعد حتى قال لهم : أنا يوسف . وقوله : ( ^ أنا يوسف وهذا أخي )
____________________

( ^ من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ( 90 ) قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين ( 91 ) قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ( 92 ) اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا وأتوني بأهلكم ) * * * *
حكى الضحاك أن في قراءة ابن مسعود : ' وهذا أخي بيني وبينه قربى ' . وقوله : ( ^ قد من الله علينا ) أي : أنعم الله علينا ( ^ إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ) معناه : من يتق عن المعاصي ويصبر على الطاعات والمصائب . وعن إبراهيم النخعي قال : من يتق الزنا ويصبر على العزوبة . < < يوسف : ( 91 ) قالوا تالله لقد . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قالوا تالله لقد آثرك الله علينا ) يعني : فضلك الله علينا ( ^ وإن كنا لخاطئين ) وما كنا إلا خاطئين ، وقيل : وقد كنا خاطئين ، والفرق بين خطأ وأخطأ أن خطأ : خطأ إذا تعمد ، وأخطأ : خطأ إذا كان غير متعمد . < < يوسف : ( 92 ) قال لا تثريب . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال لا تثريب عليكم اليوم ) التثريب هو التعيير ذكره ثعلب وغيره ، وقيل : لا تثريب عليكم اليوم أي : لا عقوبة عليكم اليوم بعد اعترافكم بالذنب ، قال الشاعر :
( فعفوت عنكم عفو غير مثرب ** وتركتكم لعقاب يوم سرمد )
وقوله : ( ^ اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ) ظاهر المعنى . < < يوسف : ( 93 ) اذهبوا بقميصي هذا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ اذهبوا بقميصي هذا ) روي أن الله تعالى لما جعل النار على إبراهيم بردا وسلاما أنزل عليه قميصا من حرير الجنة فأعطاه إبراهيم إسحاق ، وأعطاه إسحاق يعقوب فجعله يعقوب في ( قصبة ) وشد رأسها وعلقها في عنق يوسف - عليه السلام - وكان يكون في عنقه ، فلما كان هذا الوقت بعث الله جبريل - عليه السلام - أن افتح القصبة : وابعث إليه بالقميص فإنه لا يمسه مبتلى إلا عوفي ، ولا سقيم إلا صح وبرأ ، فبعث بذلك القميص إلى يعقوب ، فهذا معنى قوله تعالى : ( ^ اذهبوا بقميصي هذا ) وفي القصة أن يهوذا قال : أنا أذهب بالقميص إليه فإني
____________________

( ^ أجمعين ( 93 ) ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون ) * * * * ذهبت بالقميص ملطخا بالدم إليه ، فأعطاه وخرج حافيا [ حاسرا ] يعدو ومعه سبعة أرغفة فلم يستوفها حتى بلغ كنعان ، وقيل : إنه بعث على يد غيره ، [ وقال ] : ( ^ فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا ) قال الفراء : يرجع بصيرا ، وقال غيره : يعد بصيرا ؛ قال الحسن : لم يعلم أنه يعود بصيرا إلا بعد أن أعلمه الله ذلك .
وقوله : ( ^ وأتوني بأهلكم أجمعين ) أي : جيئوني بأهلكم أجمعين . < < يوسف : ( 94 ) ولما فصلت العير . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولما فصلت العير ) يعني : انفصلت من مصر وخرجت . قوله : ( ^ قال أبوهم إني لأجد ) في القصة : أن ريح الصبا استأذنت من ربها أن تأتي بريح يوسف إلى يعقوب - عليهما السلام - فهي التي جاءت بريح يوسف ، والصبا : ريح تأتي من قبل المشرق إذا هبت على الأبدان لينتها ونعمتها وطيبتها ، وهيجت الأشواق إلى الأحباب والحنين إلى الأوطان ، قال الشاعر :
( أيا جبلي نعمان بالله خليا ** سبيل الصبا يخلص إلى نسيمها )
( فإن الصبا ريح إذا ما تنسمت ** على قلب محزون تجلت همومها )
وقد ثبت عن النبي أنه قال : ' نصرت بالصبا ، وأهلكت عاد بالدبور ' وروي أن القميص لما نشر هاجت منه ريح الجنة [ فشمها ] يعقوب - عليه السلام - فعلم أنها جاءت من قبل قميص يوسف ؛ لأنه لم يكن في الأرض شيء من الجنة سواه .
وقوله : ( ^ لولا أن تفندون ) معناه : لولا أن تضعفوا رأي ، وقيل : لولا أن تسفهوني ، وقيل : لولا أن تنسبوني إلى الخوف والجهل .
قال الشاعر :
____________________

( ^ قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم ( 95 ) فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون ( 96 ) قالوا يا أبانا استغفر ) * * * *
( يا صاحبي دعا الملامة واقصرا ** طال الهوى وأطلتما التفنيدا ) < < يوسف : ( 95 ) قالوا تالله إنك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم ) هذا قول بني بنيه ، فإن بنيه كانوا بمصر ، ومعناه : تالله إنك لفي خطئك القديم ، والخطأ : هو الذهاب عن طريق الصواب ؛ فإنه كان عندهم أن يوسف قد مات ، وكانوا يرون يعقوب قد لهج بذكره فإنه كان يخرج من بيته فيلقاه الرجل ومعه شيء يحمله فيقول : ضعه واسمع مني حديثي ، وكان يلقاه الخادم والجارية فيقول معه مثل هذا القول ؛ وكانوا يظنون به خرفا وخطأ عظيما ، فهذا معني قولهم : إنك لفي ضلالك القديم ، وقيل : إنك لفي [ شقائك ] القديم ، والشقاء هاهنا بمعنى التعب ، وقيل : في غفلتك القديمة ، وقيل : في محبتك القديمة ؛ قال الحسن البصري : فكان هذا عقوقا ( عظيما ) منهم . < < يوسف : ( 96 ) فلما أن جاء . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه ) ومعناه : ألقى القميص على وجهه . وقوله : ( ^ فارتد بصيرا ) أي : عاد بصيرا ورجع بصيرا ، فروي أنه عادت قوته في الحال ، وذهبت [ الغشاوة ] وزال البياض الذي كان بعينه ، وفتح عينيه كأحسن ما يكون ، و ( ^ قال ) لبنيه وبني بنيه : ( ^ ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون ) وهذا دليل على أنه قد كان قال لهم : إن يوسف حي ، وإني أرجو رؤيته . ( وقيل ) : ( ^ إني أعلم من الله ما لا تعلمون ) يعني : من تحقيق رؤيا يوسف ما لا تعلمون ، وفي بعض الأخبار أنه قال للبشير : ليس عندي شيء أعطيك ولكن هون الله عليك سكرات الموت . وروي أنه لما جاءه خبر يوسف قال للبشير : على أي دين تركت يوسف ؟ قال : على دين الإسلام ، قال : الآن تمت النعمة . < < يوسف : ( 97 ) قالوا يا أبانا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين ) هذا دليل على أنهم عملوا ما عملوا وكانوا بالغين .
____________________

( ^ لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين ( 97 ) قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم ( 98 ) فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين ) * * * * < < يوسف : ( 98 ) قال سوف أستغفر . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال سوف أستغفر لكم ربي ) روي عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - وجماعة من التابعين أنهم قالوا : أخر الدعاء إلى السحر وهو الوقت الذي يقول الله تعالى : هل من داع ( فيستجاب ) له ؟ هل من سائل فيعطى سؤله ' ؟ ( الخبر ) ' هل من مستغفر فيغفر له ؟ ' والقول الثاني : أنه أخر إلى ليلة الجمعة حكى هذا عن ابن عباس ، وقد روي في بعض الأخبار مرفوعا إلى النبي . وعن عطاء بن ميسرة الخراساني قال : الحاجة إلى الشباب أسرع إجابة من الحاجة إلى الشيوخ ، فإن يوسف - عليه السلام - قال : لا تثريب عليكم اليوم ، يغفر الله لكم ولم يؤخر ، وحين طلبوا من يعقوب سوف وأخر . وفي القصة : أن يعقوب كان يصلي من الليل ويقوم يوسف خلفه ويقوم بنوه خلف يوسف ويستغفرون لهم هكذا عشرين سنة إلى أن نزل الوحي بمغفرتهم ، وقوله : ( ^ إنه هو الغفور الرحيم ) ظاهر المعنى . < < يوسف : ( 99 ) فلما دخلوا على . . . . . > >
قوله تعالى ( ^ فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه ) روي أن يوسف بعث بمائتي راحلة وجهاز كثير ليأتوا بيعقوب وقومه ، قال مسروق : كانوا ثلاثة وتسعين من بين رجل وامرأة ، وروي : اثنان وسبعين وهو الأشهر . قال أهل الأخبار : ولما خرج موسى ببني إسرائيل من مصر كان قد ( بلغ ) عددهم ستمائة ألف مقاتل وسبعين ألفا ، والذرية ألف ألف وسبعمائة ألف وكذا في القصة أنهم جاءوا فلما قربوا من مصر
____________________

( ^ ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رءياي من قبل ) * * * * خرج يوسف ليلقاهم مع الجند ، وروي أنه حمل الملك الأكبر مع نفسه ، فلما وصلوا إلى يعقوب قالوا ليعقوب : هذا ابنك قد جاء ، قال : فأراد يوسف أن يبدأه بالسلام ، فقال جبريل : لا حتى يبدأ يعقوب بالسلام ، فقال ( يعقوب : ) السلام عليك يا مذهب الأحزان ، وقد روي أنهما نزلا وتعانقا ، وفي بعض القصص أنهما مشيا فتقدمه يوسف بخطوة فجاء جبريل وقال له : أتتقدم على أبيك لا أخرج من ذريتك نبيا أبدا ، وفي بعض القصص : أن يوسف كان في أربعة آلاف من الجند ، وقد قيل غيره . وقوله : ( ^ آوى إليه أبويه ) أي : ضم إليه أبويه ، والأكثرون أن أبويه أي : أباه وخالته ، وقال الحسن البصري : هو أبوه وأمه وقد كانت حية ، وفي بعض التفاسير : أن الله تعالى بعث أمه وأحياها حتى جاءت مع يعقوب إلى مصر ، والله أعلم .
وقوله : ( ^ وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين ) اختلفوا في [ معنى ] المشيئة هاهنا ، قال بعضهم : ادخلوا آمنين من الجواز ( ^ إن شاء الله ) ، وقد كانوا لا يدخلون قبل ذلك لمصر إلا بجواز ، وقيل : في الآية تقديم وتأخير ومعناه : سوف أستغفر لكم ربي إن شاء الله وقال : ادخلوا مصر آمنين . < < يوسف : ( 100 ) ورفع أبويه على . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ورفع أبويه على العرش ) الرفع : هو النقل إلى العلو ، وضده الوضع ، والعرش : سرير الملك ، وقد روي عن النبي أنه قال : ' اهتز العرش لموت سعد بن معاذ ' قيل : أراد به سريره ( الذي حمل عليه وليس بشيء ؛ لأن الكلام خرج على وصف التكريم ، ولا كرامة في اهتزاز سريره الذي حمل عليه ) ، وفي بعض الروايات : ' اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ ' فالعرش في هذا الخبر هو العرش المعروف واهتزازه استبشاره لإقبال روح سعد بن معاذ . ويجوز أن يكون المراد==

4. مجلد 4.  تفسير القرآن
أبو المظفر منصور بن محمد بن عبد الجبار السمعاني سنة الولادة 426هـ/ سنة الوفاة 489هـ


(  قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد ) * * * * بذكر العرش أهل العرش من الملائكة ، والله أعلم .
وقوله : ( ^ وخروا له سجدا ) معناه : وقعوا له ساجدين ، واختلفوا في هذه السجدة فالأكثرون أنهم سجدوا له ، [ و ] كانت السجدة سجدة المحبة لا سجدة العبادة ، وهو مثل سجود الملائكة لآدم - عليه السلام - قال أهل العلم : وكان ذلك جائز في الأمم السالفة ، ثم إن الله تعالى نسخ ذلك في هذه الشريعة وأبدل بالسلام ، وقال بعضهم : أنهم سجدوا لله لا ليوسف ، وإنما خروا له سجدا ؛ لأنه كان قدامهم فحصل سجودهم إليه كما يسجد إلى المحراب والجدار ، والصحيح هو الأول ، هكذا قاله أهل العلم ، والدليل عليه أنه كان في رؤياه : ( ^ إني رأت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين ) ، فالشمس والقمر أبواه ، وأحد عشر كوكبا هم إخوته .
فإن قال قائل : كيف جاز السجود لغير الله ؟ وإذا جاز السجود لغير الله فلم لا تجوز العبادة لغير الله ؟ والجواب : أن العبادة نهاية التعظيم ، ونهاية التعظيم لا تجوز إلا لله ؛ وأما السجود : نوع تذلل وخضوع بوضع الخد على الأرض وهو دون العبادة ، فلم يمتنع جوازه للبشر كالانحناء .
وقال بعضهم : ( ^ وخروا له سجدا ) السجود هاهنا هو الانحناء وعبر عنه بالسجود ، وأما حقيقة السجود فلم تكن . وأولى الأقاويل هو الأول والله أعلم .
قوله : ( ^ وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل ) [ تفسير ] رؤياي من قبل ( ^ قد جعلها ربي حقا ) أي : صدقا ( ^ وقد أحسن بي ) أي : أنعم علي ( ^ إذ أخرجني من السجن ) فإن قال قائل : كيف لم يقل : إذ أخرجني من الجب ، وكانت المحنة عليه والبلية في الجب أكثر منها في السجن ؟ الجواب عنه : أنه أعرض عن ذكر
____________________

( ^ أن نزغ الشيطان يبني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم ( 100 ) رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين ( 101 ) ذلك من أنباء الغيب ) * * * * الجب تكرما لأن لا يخجل الإخوة عنه ، وكان قد قال : ( ^ لا تثريب عليكم اليوم ) وفي إعادته تثريب وملامة ، ولأن النعمة عليه في الإخراج من السجن كانت أكثر ؛ لأنه أخرج من الجب وجعل عبدا ، وأخرج من السجن وجعل ملكا . قوله : ( ^ وجاء بكم من البدو ) البدو : بسيط من الأرض يسكنه أهل الماشية بماشيتهم ، وقد كان يعقوب وأولاده أهل مواشي وعمد ، والعمد : الخيام ، فلهذا قال : وجاء بكم من البدو . وقوله : ( ^ من بعد أن نزغ الشيطان ) معناه : من بعد أن أفسد الشيطان ( ^ بيني وبين إخوتي ) بالحسد . وقوله : ( ^ إن ربي لطيف لما يشاء ) اللطيف هو : الرفيق ، ويقال معنى الآية : إن ربي لطيف ( بمن ) يشاء . وحقيقة اللطيف هو الذي يوصل الإحسان إلى غيره برفق . وقوله : ( ^ إنه هو العليم الحكيم ) ظاهر المعنى . < < يوسف : ( 101 ) رب قد آتيتني . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ رب قد آتيتني من الملك ) الملك هو : اتساع المقدور لمن له السياسة والتدبير ، وأدخل كلمة ' من ' وهي للتبعيض ؛ لأنه كان من يد ملك مصر ، وقيل : ' من ' للتجنيس هاهنا ، قال محمد بن علي الباقر : ملك يوسف اثنتين وسبعين سنة . وقال غيره : ثمانين سنة . وقوله : ( ^ وعلمتني من تأويل الأحاديث ) يعني : علم الرؤيا . وقوله ( ^ فاطر السموات والأرض ) معناه : يا فاطر السماوات والأرض . وقوله : ( ^ أنت ولي في الدنيا والآخرة ) يعني : أنت تلي أمري في الدنيا والآخرة . وقوله : ( ^ توفني مسلما ) معناه : ثبتني على الإسلام عند الوفاة .
قال قتادة : ولم يسأل نبي من الأنبياء الموت سوى يوسف عليه السلام ، وقد ثبت عن النبي أنه قال : ' لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به ولكن ليقل : اللهم
____________________

أحيني ما دامت الحياة خيرا لي ، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي ' وفي القصة : أن يوسف لما جمع له شمله وأوصل الله إليه أبويه وأهله اشتاق إلى ربه فقال هذا القول . وقد قال الحسن البصري : عاش بعد هذا سنين كثيرة . وقال غيره : لما قال هذا القول لم يمض عليه أسبوع حتى توفي . وأما خبر وفاة يعقوب - صلوات الله عليه - فقد قال أصحاب الأخبار : إن يعقوب عاش عند يوسف أربعا وعشرين سنة بأغبط حال وأهنأ عيش ثم أدركته الوفاة فدعا بنيه وقال : يا بني ، ( ^ ما تعبدون من بعدي ) الآية ، وقد ذكرنا في سورة البقرة ، وأوصى يوسف - عليه السلام - أن يحمله إلى الأرض المقدسة ويدفنه بجنب أبيه إسحاق ففعل ذلك . وقالوا : عاش يعقوب مائة وسبعا وأربعين سنة ، وأما يوسف فإنه عاش بعد أبيه سنتين ، وقيل : أكثر من ذلك ، والله أعلم ، وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة فدفنوه في نيل مصر : ( لأن أهل مصر تشاحنوا عليه وطلب أهل كل محلة أن يدفن في محلتهم رجاء بركته ، ثم اتفقوا أن يدفن في نيل مصر ) ليجري الماء عليه وتصل بركته إليهم كلهم . وعن عكرمة : أنه دفن في [ الجانب ] الأيمن من النيل فأخصب ذلك الجانب وأجدب الجانب الآخر فاتفقوا على أن جعلوه في تابوت من حديد - وقيل : من رخام - ودفنوه في وسط النيل ، وقدروا ذلك بسلسلة عندهم فأخصب الجانبان ، وكان يوسف أوصى إخوته أنهم إذا خرجوا من مصر أخرجوه مع أنفسهم ، فلما كان زمن موسى أخرجه موسى مع نفسه إلى الأرض المقدسة ودفته بقرب آبائه ؛ وفي القصص أن عجوزا دلتهم على قبر يوسف وأن تلك العجوز سألت موسى مرافقته في الجنة به حتى دلت ، فنزل الوحي على موسى بأن يعطيها ذلك .
وروى الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس : أن الله تعالى لما جمع بين يعقوب ويوسف قال له يوسف : يا أبتاه حزنت علي حتى انحنى ظهرك ، وبكيت علي حتى
____________________

( ^ نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون ( 102 ) وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ( 103 ) وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين ( 104 ) ) * * * * عمى بصرك ، أما علمت أنا كنا نلتقي يوم القيامة ؟ فقال : يا بني ، خشيت أن يسلب دينك فلا نلتقي يوم القيامة . وقوله : ( ^ وألحقني بالصالحين ) يعني : من آبائي وهم : إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب . < < يوسف : ( 102 ) ذلك من أنباء . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ذلك من أنباء الغيب ) يعني : من أخبار الغيب .
قوله : ( ^ نوحيه إليك ) أي : نلقيه إليك بالوحي . وقوله : ( ^ وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون ) هذا منصرف إلى إخوة يوسف ومكرهم حين أخذوه من أبيه ، وفائدة الآية : أنك إذا علمت هذا بتعليمنا إياك ووحينا إليك . < < يوسف : ( 103 ) وما أكثر الناس . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ) روي أن قريشا واليهود سألوا النبي عن قصة يوسف ، فلما أخبرهم بها على ما كان يوافق التوراة ، ولم يكن في نفسه قارئا طمع أن يسلموا فلم يسلموا ؛ فحزن لذلك فقال الله تعالى : ( ^ وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ) معناه : وما أكثر الناس بمؤمنين وإن حرصت على إيمانهم . < < يوسف : ( 104 ) وما تسألهم عليه . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وما تسألهم عليه ) أي : على التبليغ ( ^ من أجر ) أي : من جعل وقوله : ( ^ إن هو إلا ذكر للعالمين ) أي : عظة للعالمين . < < يوسف : ( 105 ) وكأين من آية . . . . . > >
قوله - تعالى - : ( ^ وكأين من آية ) معناه : وكم من آية . وقوله : ( ^ في السموات ) السموات : سقوف الأرض بعضها على بعض طبقا طبقا ( ^ والأرض ) هي موضع سكنى الآدميين ، وأما الآيات في السموات ( كما ) بينا من قبل ، وذلك من شمسها وقمرها ونجومها ودوران الفلك بها ، واستوائها من غير عمد وغير ذلك ، وقد زعم بعض أهل العلم أنه يجوز للإنسان أن يتعلم علم النجوم بقدر ما يعرف به
____________________

( ^ وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون ( 105 ) وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ( 106 ) أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون ( 107 ) قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن ) * * * * من آيات السماء ، وأما آيات الأرض معلومة أيضا [ وهي ] : شجرها ونباتها وجميع ما فيها وما يخرج منها . وقوله : ( ^ يمرون عليها وهم عنها معرضون ) معناه : أنهم يعرضون عنها مع مشاهدتها ولا يستدلون بها على وحدانية الله . < < يوسف : ( 106 ) وما يؤمن أكثرهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ) فإن قيل : كيف يجوز اجتماع الإيمان مع الشرك في الواحد ؟ الجواب من وجوه : أحدها : أن معناه ( ^ وما يؤمن أكثرهم بالله ) أي : وما يقر أكثرهم بالله إلا وهم مشركون بقلوبهم وضمائرهم .
والثاني : أن مشركي مكة كانوا إذا قيل لهم : من خلقكم ؟ قالوا : الله ، وإذا قيل لهم : من يرزقكم ؟ قالوا : الله ، وإذا قيل لهم : من خلق السموات والأرض ؟ قالوا : الله ثم مع ذلك يعبدون الأصنام ، وبعضهم يقولون : إن الملائكة بنات الله ، وبعضهم يقول : الأصنام شفعاؤنا عند الله ، فالقول الأول : هو الإيمان ، [ وليس ] المراد من الإيمان هو حقيقة الإيمان الذي يصير به الإنسان مؤمنا ، وإنما المراد ما بينا .
والقول الثالث : أن معنى شركهم هو شركهم في التلبية ، فإنهم كانوا يقولون : لبيك اللهم لبيك ، لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك . < < يوسف : ( 107 ) أفأمنوا أن تأتيهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله ) قيل : قطعة من عذاب الله ، وقيل : عقوبة محللة من عذاب الله . وقوله : ( ^ أو تأتيهم الساعة بغتة ) أي : فجأة ، والبغتة : وقوع الشيء من غير توقع سابق . قال الشاعر :
( ولكنهم باتوا ولم أدر بغتة ** وأفظع شيء حين يفجؤك البغت )
وقوله : ( ^ وهم لا يشعرون ) أي : لا يعلمون
____________________

( ^ اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين ( 108 ) وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون ( 109 ) حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم ) * * * * < < يوسف : ( 108 ) قل هذه سبيلي . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قل هذه سبيلي أدعو إلى الله ) أي : طريقي ، والسبيل يذكر ويؤنث ، قال الشاعر :
( تمنى رجال أن أموت وإن مت ** فتلك سبيل لست فيها بأوحد )
وقوله : ( ^ على بصيرة ) أي : على ( يقين ) ، والبصيرة هي المعرفة التي يميز بها بين الحق والباطل . وقوله : ( ^ أنا ومن اتبعني ) معناه : أدعو إلى الله أنا ، ومن اتبعني يدعون أيضا إلى الله ، وقال بعضهم : تم الكلام عند قوله ( ^ أدعو إلى الله ) ثم استأنف وقال : ( ^ على بصيرة أنا ومن اتبعني ) . وقوله : ( ^ وسبحان الله وما أنا من المشركين ) يعني أقول : سبحان الله ، وما أنا من المشركين . < < يوسف : ( 109 ) وما أرسلنا من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى ) قال الحسن البصري : لم يبعث الله نبيا من بدو ، وإنما بعث الله الأنبياء من الأمصار والقرى . وقال أيضا : لم يبعث الله نبيا من الجن ولا من النساء ، وقيل : لم يبعث الله نبيا من البادية لغلظهم وجفائهم ، وأما أهل الأمصار فهم [ أحن ] قلوبا وأذكى وأفطن في الأمور ؛ فلهذا بعث الله الأنبياء منهم . وقوله : ( ^ أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ) ظاهر المعنى .
وقوله : ( ^ ولدار الآخرة ) معناه : والحال في الدار الآخرة ، وللإنسان حالان : الحال الأولى ، والحال الآخرة ، وقيل : ' ولدار الآخرة ' هذا إضافة الشيء إلى نفسه كقولهم : ( ^ خير للذين اتقوا ) يوم الخميس ، ويوم الجمعة ، قال الشاعر :
( أتمدح فقعسا وتذم عبسا ؟ ! ** ألا لله أمك من هجين ! ! )
( ولو فزت عليك ديار عبس ** عرفت الذل عرفان اليقين )
____________________

( ^ قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين ( 110 ) لقد ) * * * *
أضاف العرفان إلى اليقين : وقوله : ( ^ أفلا تعقلون ) أفلا تفقهون . < < يوسف : ( 110 ) حتى إذا استيأس . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ حتى إذا استيأس الرسل وظنوا انهم قد كذبوا ) قرىء بقراءتين بالتشديد والتخفيف ، قرأ أهل الكوفة بالتخفيف ، والآية مشكلة إذا قرئت بالتخفيف ؛ لأن القائل يقول : كيف ظن الرسل أنهم قد كذبوا ، ولا يجوز هذا على الأنبياء . وكانت عائشة تنكر هذه القراءة ، وتقول : إنما هو ' كذبوا ' بالتشديد ، يعني : أن الرسل ظنوا أن من آمن بهم كذبوهم لشدة المحنة والبلاء عليهم ، وتطاول المدة بهم ، هذا رواه الزهري عن عروة عن عائشة . وعن قتادة : أن الظن هاهنا بمعنى اليقين ، ومعناه : وأيقن الرسل أن القوم كذبوهم تكذيبا لا يرجى بعده إيمانهم ، وهو تأكيد لقوله : ( ^ حتى إذا استيأس الرسل ) لأن معناه : حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم ، أي : أيسوا ، وأما القراءة بالتخفيف هذه قراءة صحيحة ، وهي منقولة عن علي وعن عبد الله بن مسعود وابن عباس وكثير من الصحابة .
وفي معناه قولان : أحدهما : ما روي عن ابن عباس أنه قال : ضعفت قلوب الرسل - وقد كانوا بشرا - بتطاول الزمان وكثرة الإمهال ، وقد قال الله تعالى في موضع آخر : ( ^ وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ) وقوله : ( ^ متى نصر الله ) : استبطاء ، أو قالوا هذا من ضعف البشرية .
والقول الثاني - وهو الصحيح - وهو منقول أيضا عن ابن عباس أن معنى الآية : وظن من آمن بالرسل ، أن الرسل قد كذبوا بالتخفيف ، أو ظن القوم الذين بعث إليهم أن الرسل قد كذبوا بالتخفيف ، وقرأ مجاهد : ' وظنوا أنهم قد كذبوا ' ومعناه كما ذكرنا في القول الثاني : أن ظن القوم أن الرسل قد كذبوا .
وقوله : ( ^ [ جاءهم ] نصرنا ) ظاهر المعنى . وقوله : ( ^ فنجي من نشاء ) المشيئة واقعة على المؤمنين . وقوله : ( ^ ولا يرد بأسنا ) أي : عذابنا ( ^ عن القوم المجرمين ) أي :
____________________

( ^ كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ( 111 ) ) * * * * عن القوم الكفار . < < يوسف : ( 111 ) لقد كان في . . . . . > > قوله - تعالى - : ( ^ لقد كان في قصصهم عبرة ) أي : دلالة وآية .
قوله : ( ^ لأولي الألباب ) أي : لأولي العقول .
وقوله : ( ^ ما كان حديثا يفترى ) أي : [ يختلق ] يعني : قصة يوسف .
وقوله : ( ^ ولكن تصديق الذي بين يديه ) يعني : من التوراة والإنجيل .
وقوله : ( ^ وتفصيل كل شيء ) يعني : من الحلال والحرام ، والأمر والنهي ، والوعد والوعيد . وقوله : ( ^ وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ) ( معناه : بيان ونعمة لقوم يؤمنون ) . والله أعلم بالصواب .
____________________

<
> بسم الله الرحمن الرحيم <
> ( ^ المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ( 1 ) الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر ) * * * * <
> سورة الرعد <
>
تفسير سورة الرعد ، وهي مكية إلا آيتين : قوله تعالى : ( ^ ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة ) وقوله تعالى : ( ^ ويقول الذين كفروا لست مرسلا ) الآية ، فإنهما مدنيتان . < < الرعد : ( 1 ) المر تلك آيات . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ المر ) قالوا : معناه أنا الله أعلم وأرى ، وقيل : إن الألف من الله ، واللام من جبريل ، والميم من محمد ، والراء من إرسال الله إياه - يعني محمدا - وقد بينا من قبل غير هذا .
وقوله : ( ^ تلك آيات الكتاب ) قد بينا في سورة يوسف . وقوله : ( ^ والذي أنزل إليك من ربك الحق ) الإنزال هو النقل من العلو إلى الأسفل ، ومعنى الآية أن ما أهبط الله به جبريل عليك هو الحق ، والحق ضد الباطل ، وقيل : وضع الشيء في موضعه على ما توجبه الحكمة . وقوله : ( ^ ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ) يعني من اليهود والنصارى والمشركين . < < الرعد : ( 2 ) الله الذي رفع . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ الله الذي رفع السموات بغير عمد ) العمد : جسم مستطيل يمنع المرتفع من الميلان ، وفي معنى قوله : ( ^ بغير عمد ) قولان : أحدهما ، وهو الأصح : أن معناه : رفع السموات بغير عمد ( ^ ترونها ) كذلك .
وقد قال أهل المعاني : لو كان للسموات عمد لرأيناها ؛ لأن عمد الجسم الغليظ يكون بالجسم الغليظ ، فلا بد أن ترى ، وهذا قول مجاهد وقتادة وأكثر المفسرين .
وروي عن ابن عباس أنه قال : معنى الآية رفع السموات بغير عمد ترونها .
____________________

( ^ الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون ( 2 ) وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ( 3 ) وفي ) * * * *
وقوله : ( ^ ترونها ) راجع إلى العمد ، كأنه قال : لها عمد لا ترونها ، وزعم أن لها عمدا على جبل قاف ، وأن السماء عليها مثل القبة ، وجبل قاف محيط بالدنيا ، وهو من زبرجدة خضراء ، والصحيح ما بينا .
وقوله : ( ^ ثم استوى على العرش ) قد بينا المعنى . وقوله : ( ^ وسخر الشمس والقمر ) معناه : ذلل الشمس والقمر فهما مذللان مقهوران يجريان على ما يريد الله . وقوله : ( ^ كل يجري لأجل مسمى ) أي : لمدة مضروبة . وقوله : ( ^ يدبر الأمر ) التدبير من الله تعالى فعل الأشياء على ما يوجب الحكمة . وقوله : ( ^ يفصل الآيات ) معناه يبين الدلالات . وقوله : ( ^ لعلكم بلقاء ربكم توقنون ) تؤمنون . < < الرعد : ( 3 ) وهو الذي مد . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وهو الذي مد الأرض ) الآية قد كانت الأرض مدرة مدورة ، فبسطها الله تعالى ومدها . وقوله : ( ^ وجعل فيها رواسي ) أي : جبالا ثوابت .
وقوله : ( ^ وأنهارا ) الأنهار : مجاري الماء الواسعة . وقوله : ( ^ ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين ) أي : صنفين اثنين أحمر وأصفر وحلو وحامض ، وقيل : إن قوله ( ^ اثنين ) تأكيد لقوله : ( ^ زوجين ) .
وقوله : ( ^ يغشي الليل النهار ) معناه : يلبس النهار بظلمة الليل ، ويلبس ظلمة الليل بضوء النهار . وقوله : ( ^ إن في ذلك لآيات ) لدلالات ( ^ لقوم يتفكرون ) التفكر تصرف القلب في طلب معاني الأشياء . < < الرعد : ( 4 ) وفي الأرض قطع . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وفي الأرض قطع متجاورات ) فيه قولان : أحدهما : أن فيه حذفا ؛ فكأنه قال : ' وفي الأرض قطع متجاورات وغير متجاورات ، وهذا مثل قوله تعالى : ( ^ وسرابيل تقيكم الحر ) يعني : وسرابيل تقيكم الحر والبرد .
____________________

( ^ الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ( 4 ) ) * * * *
والقول الثاني : أنه ليس في الآية حذف ، وهو صحيح المعنى ، وفي المتجاورات قولان : أحدهما : أن معناه أنها متجاورة في الظاهر مختلفة في المعنى ، هذه سبخة وهذه عذبة ، وهذه قليلة الريع ، وهذه كثيرة الريع ، وهذه مزرعة ، وهذه مغرسة ، وهذه لا مزرعة ولا مغرسة .
والقول الثاني : أن معناه : هذه عامرة ، وهذه غامرة ، وهذه صحاري وبراري ، وهذه جبال وأودية ، فعلى هذا إذا قدرنا في الآية متجاورات وغير متجاورات ، فالمتجاورات هي الأرض العامرة المتصل بعضها ببعض ، وغير المتجاورات هي الأرض الخربة التي فيها الأودية والدكادك .
وقوله : ( ^ وجنات من أعناب ) يعني : بساتين من أعناب . وقوله : ( ^ وزرع ونخيل ) معلوم المعنى . وقوله : ( ^ صنوان وغير صنوان ) قرىء : ' صنوان ' بالضم : والمعروف ' صنوان ' بالكسر ، وفي الآثار المسندة عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - أنه قال : الصنوان هو النخل المجتمع ، وغير الصنوان هو المتفرق ، والمعروف في اللغة أن الصنوان هي النخلات أصلها واحد ، وغير صنوان هي النخلة الواحدة بأصلها .
وقوله : ( ^ يسقى بماء واحد ) الماء جسم رقيق مائع يشرب ، به حياة كل نام ، قال الله تعالى : ( ^ وجعلنا من الماء كل شيء حي ) وفي الآية رد على أصحاب الطبيعة ، فإن الماء واحد ، والهواء واحد ، والتراب واحد ، والحرارة واحدة ، والثمار مختلفة في اللون والطعم ، وقلة الريع وكثرة الريع ، والطبيعة واحدة يستحيل أن توجب شيئين مختلفين ؛ فدل هذا أن الجميع من الله تعالى .
في جامع أبي عيسى الترمذي برواية أبي هريرة عن النبي في قوله : ( ^ ونفضل
____________________

( ^ وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ( 5 ) ) * * * * بعضها على بعض في الأكل ) قال : ' هذا حلو وهذا حامض ، وهذا دقل وهذا فارسي ' .
وقوله : ( ^ إن في ذلك لآيات ) يعني : الدلالات ( ^ لقوم يعقلون ) يفهمون . وأنشدوا في الصنوان :
( العلم والحلم خلتا كرم ** للمرء زين إذا هما اجتمعا )
( صنوان لا يستتم حسنهما ** إلا بجمع ذا وذاك معا )
وقد روي عن النبي أنه قال : ' عم الرجل صنو أبيه ' . معناه : أنه وأبوه من أصل واحد . < < الرعد : ( 5 ) وإن تعجب فعجب . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإن تعجب فعجب قولهم ) العجب : تغير النفس برؤية المستبعد في العادات ، والخطاب للرسول ومعناه : أنك تعجب ؛ فعجب من إنكارهم النشأة الآخرة مع إقرارهم ابتداء الخلق من الله ، وقد تقرر في القلوب أن الإعادة أهون من الابتداء ؛ فهذا موضع التعجب . وفي الأمثال : لا خير فيمن لا يتعجب من العجب ، وأرذل منه من يتعجب من غير عجب .
وقوله : ( ^ أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد ) هذا هو المعنى في إنكارهم البعث .
وقوله : ( ^ أولئك الذين كفروا بربهم ) جحدوا بربهم .
وقوله : ( ^ وأولئك الأغلال في أعناقهم ) الغل طوق تجمع به اليد إلى العنق وهذه الأغلال من نار . وقوله : ( ^ وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) ظاهر المعنى . < < الرعد : ( 6 ) ويستعجلونك بالسيئة قبل . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة ) الاستعجال طلب تعجيل الأمر قبل مجيء ( وقته ) ، وقد كان الله تعالى أخر عقوبة الاصطلام عن المشركين
____________________

( ^ ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب ( 6 ) ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه إنما أنت منذر ولكل قوم هاد ( 7 ) الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض ) * * * * كرامة للنبي . والسيئة هاهنا هي العقوبة ، والحسنة : العافية ، ومعناه : أنهم يطلبون العقوبة بدلا من العافية ، وقد دل على هذا قوله تعالى : ( ^ وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ) وقوله تعالى : ( ^ سأل سائل بعذاب واقع ) .
وقوله : ( ^ وقد خلت من قبلهم المثلات ) روي عن مجاهد أنه قال : المثلات الأمثال ، والأكثرون أن المثلات العقوبات ، وقرأ الأعمش : ' المثلات ' بفتح الميم وكسر التاء ، وحكي عنه أنه قرأ : ' المثلات ' بضم الميم وتسكين الثاء ، والمعاني متقاربة .
وقوله : ( ^ وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم ) معناه : لذو تجاوز عن الناس على ظلمهم ( ^ وإن ربك لشديد العقاب ) وفي بعض المسانيد عن سعيد بن المسيب ' أن النبي قال لما نزلت هذه الآية : لولا فضل الله وتجاوزه ما هنىء أحد العيش ، ولولا وعيده وعقوبته لا تكل كل أحد ' . < < الرعد : ( 7 ) ويقول الذين كفروا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه ) معناه : لولا أنزل عليه آية مما نقترحها ، وإلا فالآيات قد كانت نازلة عليه .
وقوله : ( ^ إنما أنت منذر ) مخوف أو مبلغ للوحي بالإنذار .
وقوله : ( ^ ولكل قوم هاد ) فيه أقوال ، الأكثرون أن معناه : ولكل قوم نبي يدعوهم إلى الله ، والقول الثاني : ولكل قوم هاد ، يعني : محمدا وقيل : الهادي هو الله . < < الرعد : ( 8 ) الله يعلم ما . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ الله يعلم ما تحمل كل أنثى ) معناه : الله يعلم ما تحمل كل أنثى
____________________

( ^ الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار ( 8 ) عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال ( 9 ) سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار ) * * * * من ذكر أو أنثى ، أو سوى الخلق أو غير سويه ، أو واحد أو اثنين أو أكثر .
قوله : ( ^ وما تغيض الأرحام وما تزداد ) الغيض هو النقصان ، هكذا قال مجاهد وغيره ، وفي بعض الأخبار أن النبي قال : ' إذا كان المطر قيظا ، والولد غيضا ، وغاض الكرام غيضا ، وفاض اللئام فيضا ' الخبر .
وفي غيض الأرحام وزيادتها ثلاثة أقوال : الأول : أنه النقصان عن سبعة أشهر ، والزيادة على تسعة أشهر ، والثاني أنه : النقصان بإسقاط السقط ، والزيادة بتمام الخلق ، والثالث : أنه النقصان بالحيض على الحمل ، والزيادة بعدم الحيض على الحمل ؛ فإن الولد ينتقص إذا أهراقت المرأة الدم على الحمل وتتم إذا لم تهرق . وعن مكحول أنه قال : دم الحيض غذاء الولد في الرحم .
وقوله : ( ^ وكل شيء عنده بمقدار ) أي : بتقدير . < < الرعد : ( 9 ) عالم الغيب والشهادة . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال ) يعني : المتعال عما يقوله المشركون . < < الرعد : ( 10 ) سواء منكم من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ) الآية معناه : يستوي في علم الله المسر بالقول والجاهر به .
وقوله : ( ^ ومن هو مستخف بالليل ) أي : مستتر بظلمة الليل وقوله : ( ^ وسارب بالنهار ) أي : ظاهر ذاهب بالنهار ، والسرب : الطريق ، تقول العرب : خل له سربه أي :
____________________

( ( 10 ) له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله إن الله لا يغير ما بقوم ) * * * * طريقه ، وزعم بعض أهل المعاني أن قوله : ( ^ ومن هو مستخف بالليل ) أي : ظاهر بالليل ، يقال : خفيت إذا ظهرت ، وأخفيت إذا كتمت ، قال الشاعر :
( خفاهن من أنفاقهن كأنما ** خفاهن ودق من سحاب مركب )
وقوله : ( ^ وسارب بالنهار ) أي مستكن بالنهار ، يقال : أسرب الوحش إذا استكن ، والقول الأول هو الأصح . < < الرعد : ( 11 ) له معقبات من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ له معقبات من بين يديه ومن خلفه ) الآية ، في الآية أقوال ، أظهرها : أن المعقبات : الملائكة ، والمعقبات المتداينات ، يعني : يذهب بعضها ويأتي البعض في عقبها ، وقد صح برواية أبي هريرة عن النبي أنه قال : إن لله ملائكة يتعاقبون بينكم ، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر فيعرج الذين باتوا فيكم ؛ فيقول الله لهم : كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون : أتيناهم وهم يصلون ، وتركناهم وهم يصلون .
القول الثاني هو ما روي عن عكرمة قال : الآية في الأمراء وحرسهم .
والقول الثالث : ما روي عن ابن جريج أنه قال : الآية في الذي يقعد عن اليمين والشمال يكتب ، وذلك في قوله تعالى : ( ^ إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ) .
وقوله : ( ^ يحفظونه من أمر الله ) الأكثرون على أن قوله : ( ^ من أمر الله ) ومعناه : أنهم يحفظونه بإذن الله ، فإذا جاء القدر خلوا بينه وبينه ، وفي بعض الآثار : أن الله تعالى يوكل ملائكة بالنائم يحفظونه من الحي والهوام فإذا قصده شيء ، قالوا : وراءك وراءك إلا شيئا قدر أن يصيبه .
____________________

( ^ حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال ( 11 ) هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشىء السحاب الثقال ( 12 ) ويسبح الرعد ) * * * *
وروي عمرو بن أبي جندب : كنا عند سعيد بن قيس الهمداني ، فجاء علي يتوكأ على عنزة له ، فقلنا له : يا أمير المؤمنين ، أما تخاف أن يغتالك أحد ؟ فقال : إن الله تعالى قد وكل بابن آدم ملائكة يحفظونه ، فإذا جاء القدر خلوا بينه وبينه .
وفي قوله : ( ^ من أمر الله ) قول آخر ، وهو أنه على المعنى التقديم والتأخير ، وكأن الله تعالى قال : له معقبات من أمره يحفظونه من بين يديه ومن خلفه وقيل : من أمر الله : مما أمر الله به من الحفظ عنه . وعن ابن عباس أنه قرأ : ' له معقبات من بين يديه ورقباء من خلفه ' . وقرى في الشاذ : ' له معاقيب من بين يديه ومن خلفه ' .
وقوله : ( ^ إن الله لا يغير ما بقوم ) معناه : لا يغير شيئا بقوم من النعمة ( ^ حتى يغيروا ما بأنفسهم ) بالمعصية .
وقوله : ( ^ وإذا أراد الله بقوم سوءا ) في الآية رد على القدرية صريحا ، ومعناه : بلاء وعذابا ( ^ فلا مرد له ) أي : لا راد له . ( ^ وما لهم من دونه من وال ) أي : من ولي يمنعهم وينصرهم ، قال الشاعر :
( ما في السماء سوى الرحمن من وال ** ) < < الرعد : ( 12 ) هو الذي يريكم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا ) البرق : نور مضىء شبه عمود من نار من اتقاد السحاب ، والتفسير المعروف عن السلف أن البرق مخاريق بأيدي الملائكة من نار يسوقون بها السحاب إلى حيث شاء الله تعالى .
وقوله ( ^ خوفا وطمعا ) فيه أقوال : أحدها أن الخوف من الصاعقة ، والطمع في نفع المطر .
والثاني : أن الخوف للمسافر ، فإن عادة المسافر أن يتأذى بالمطر ، والطمع للمقيم ، لأن المقيم يرجو الخصب بالمطر .
____________________

( ^ بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في ) * * * *
والثالث : أن الخوف من المطر في غير إبانة ، وفي غير مكانه ، والطمع إذا كان في إبانه ومكانه من البلدان [ فمنهم ] إذا مطروا قحطوا ، مثل مصر وغيره ، وإذا لم يمطروا أخصبوا .
وفي بعض الأخبار عن النبي ' أن الله تعالى يقول : لو أن عبادي أطاعوني أسقيتهم المطر بالليل ، وأطلعت عليهم الشمس بالنهار ، ولم أسمعهم صوت الرعد ' .
وقوله : ( ^ وينشىء السحاب الثقال ) يعني : الثقال بالماء ، وعن علي رضي الله عنه أنه قال : السحاب غربال السماء . وعن ابن عباس أنه قال : إن الله تعالى خلق السحاب كل سبع سنين مرة . < < الرعد : ( 13 ) ويسبح الرعد بحمده . . . . . > >
وقوله : ( ^ ويسبح الرعد بحمده ) أكثر المفسرين أن الرعد ملك ، والمسموع من الصوت تسبيحه ، وهذا مروي عن النبي حين سأله اليهود عن الرعد ، وذكر فيه أن الصوت هو زجره للسحاب ، وقد حكي هذا عن ابن عباس وعلي ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن . وعن قتادة قال : هذا عبد لله تعالى سامع مطيع .
____________________


وفي الآثار : أن الإنسان إذا سمع الرعد ينبغي أن يقول : سبحان من سبحت له . روي هذا عن ابن الزبير وغيره ، وعن عبد الله بن عباس قال : من قال إذا سمع صوت الرعد : سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته وهو على كل شيء قدير ؛ فإن أصابته صاعقة فعلى ديته .
وعن محمد بن علي الباقر قال : الصاعقة تصيب المسلم وغير المسلم ولا تصيب الذاكر .
وفي الرعد قول آخر ، وهو أنه صوت اصطكاك الأجرام العلوية . والصحيح هو الأول ، وقيل أيضا : إن الرعد نطق السحاب ، والبرق ضحكه .
وقوله ( ^ والملائكة من خيفته ) يعني : وتسبح الملائكة من خيفته . وعن ابن عباس أن لله تعالى ملائكة يبكون من خشيته من يوم خلقهم ، وملائكة في الركوع ، وملائكة في السجود ، وملائكة في التسبيح لا يشغلهم عن ذلك شيء .
وقوله : ( ^ ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء ) الصاعقة : هي العذاب المهلك ، وهي تنزل من البرق في بعض الأحوال فتحرق ما تصيبه ، والآية نزلت في شأن أربد بن ربيعة حين جاء إلى النبي فقال : مم ربك ؟ أمن در أو ياقوت أو من ذهب [ أو من فضة ] ؟ فنزلت صاعقة من السماء فأحرقته ، ورثاه أخوه لبيد بن ربيعة ، فقال :
( أخشى على أربد الحتوف ولا ** أرهب نوء السماك والأسد )
( فجعني البرق والصواعق بالفارس ** يوم الكريهة النجد )
ويقال : إنه جاء مع عامر بن طفيل ، وقصد الفتك بالنبي فجفت يده على قائمة السيف ، فلما خرج من عند رسول الله أصابته صاعقة في يوم صحو قائظ ، فأما عامر فأصابته غدة ، ومات في بيت سلولية ، وجعل يقول : أغدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية .
وروي ' أن يهوديا أتى النبي وسأله : مم ربك ؟ فنزلت صاعقة وأحرقته ' .
____________________

( ^ الله وهو شديد المحال ( 13 ) له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ) * * * *
وقوله : ( ^ وهم يجادلون في الله ) يعني : يخاصمون ويقولون في الله ما لا يعلمون وقيل : وهم يجادلون في الله : يكذبون بعظمة الله .
وقوله : ( ^ وهو شديد المحال ) قال ابن عباس : شديد الحول ، ومنه قوله : لا حول ولا قوة إلا بالله ، وقيل : شديد المحال شديد الانتقام . وعن علي - رضي الله عنه - شديد الأخذ . وقيل : شديد الإهلاك . وقيل : شديد المكر . وقال الشاعر :
( فرع نبع يهتز في غصن المجد ** عزيز الندى شديد المحال )
وقرىء في الشاذ : ' شديد المحال ' بنصب الميم . < < الرعد : ( 14 ) له دعوة الحق . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ له دعوة الحق ) هي شهادة أن لا إله إلا الله ، هذا روي عن ابن عباس وغيره ، وقيل : دعوة الحق هو الدعاء بالإخلاص ، والدعاء بالإخلاص لا يكون إلا لله ، ألا ترى أن الله تعالى قال : ( ^ [ فادعوا ] الله مخلصين له الدين ) .
قوله : ( ^ والذين يدعون من دونه ) يعني : الأصنام ( ^ لا يستجيبون لهم بشيء ) يعني : لا يجيبون لهم شيئا . وقوله : ( ^ إلا كباسط كفيه إلى الماء ) . فيه قولان : أحدهما : أنه كالقابض على الماء ، ومن قبض على الماء لم يبق في يده شيء . قال الشاعر :
( فأصبحت ( فيما ) كان بيني وبينها ** من الود مثل القابض الماء باليد )
والقول الثاني - وهو المعروف - أن قوله : ( ^ كباسط كفيه إلى الماء ) يعني : كالعطشان المشير بكفه إلى الماء ، وبينه وبين الماء مسافة لا يصل إليه ؛ فهو يشير بكفه ويدعو بلسانه ، ولا يصل إليه ؛ فكذلك من يدع الأصنام بدفع أو نفع لا يصل إلى شيء بدعائه . وقوله : ( ^ ليبلغ فاه ) يعني : ليناله فاه ( ^ وما هو ببالغه ) وما هو بنائله .
____________________

( ^ ضلال ( 14 ) ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال ( 15 ) قل من رب السموات والأرض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات ) * * * *
وقوله : ( ^ وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ) يعني : إلا في خطأ وبطلان . < < الرعد : ( 15 ) ولله يسجد من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها ) يعني : يسجد من في السموات طوعا ، ويسجد من في الأرض بعضهم طوعا وبعضهم كرها . والسجود هو الخضوع بالتذلل ، وقيل : إن سجود الأشياء [ هو ] تذللها وتسخيرها لما أريد له وسخر له . وقوله : ( ^ وظلالهم ) قالوا : ظل الكافر يسجد طوعا ، والكافر يسجد كرها ، وظل المؤمن يسجد طوعا ، وكذا المؤمن يسجد طوعا ، هذا هو القول المنقول عن السلف . وقيل : إن سجود الظل هو تسخيره وتذليله لما أريد له . وقيل : إن معنى قوله : ( ^ وظلالهم ) أشخاصهم ( ^ بالغدو والآصال ) بالبكر والعشايا . < < الرعد : ( 16 ) قل من رب . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قل من رب السموات والأرض ) معناه : قل يا محمد : من رب السموات والأرض ؟ ثم أمره بالإجابة ، وقال : ( ^ قل الله ) وروي أنه إنما قال هذا للمشركين ، عطفوا عليه ، وقالوا : أجب أنت ، فأمره الله ، وقال : ( ^ قل الله ) وإنما صحت هذه الإجابة معهم ؛ لأنهم كانوا يقرون أن الله خالقهم وخالق السموات والأرض .
وقوله : ( ^ قل أفاتخذتم من دونه أولياء ) معناه : أنكم مع إقراركم أن الله خالقكم وخالق السموات والأرض اتخذتم من دونه أولياء يعني : الأصنام . ( ^ لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ) يعني : أنهم عجزة ، فإذا لم يملكوا لأنفسهم نفعا ولا ضرا ، فكيف يملكون لكم ؟ .
وقوله : ( ^ قل هل يستوي الأعمى والبصير ) ضرب مثلا للمؤمن والكافر والإيمان والكفر ؛ فقال : ( ! ( قل هل يستوي الأعمى والبصير ) ! أم هل تستوي الظلمات
____________________

( ^ والنور أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار ( 16 ) أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله ) * * * * والنور ) أي : كما لا يستوي الأعمى والبصير والظالمات والنور ؛ فكذلك لا يستوي المؤمن والكافر والإيمان والكفر .
وقوله : ( ^ أم جعلوا لله شركاء ) يعني : أجعلوا لله شركاء ( ^ خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم ) أي : اشتبه ما خلقوه بما خلقه الله ، ومعنى الآية : أنهم كما عرفوا أن الأصنام لا تخلق كخلق الله ؛ فلا ينبغي أن تعبد كعبادة الله .
وقوله : ( ^ قل الله خالق كل شيء ) ظاهر المعنى . وقوله ( ^ وهو الواحد القهار ) الواحد : هو الشيء الذي لا ينقسم ، وقد يكون شيئين لا ينقسم في معنى ، ويسمى واحد ، مثل قولهم : دينار واحد ؛ لأنه لا ينقسم في الدينارية . والقهار : الغالب الذي لا يغلبه شيء ، وفي بعض الأخبار : ' سبحان من تعزز بقدرته وقهر عباده بالموت ' . < < الرعد : ( 17 ) أنزل من السماء . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ أنزل من السماء ماء ) هذا مثل ضربه الله في القرآن ، وضرب الأودية مثلا للقلوب ، فقوله : ( ^ أنزل من السماء ماء ) أي : مطرا ( ^ فسالت أودية بقدرها ) قرئ : ' بقدرها ' ، قرأها أبو الأشهب العقيلي ، والمعنى : بقدرها من الصغر والكبر ، وكذلك القلوب تحمل القرآن بقدرها من الضيق والسعة .
وقوله : ( ^ فاحتمل السيل زبدا رابيا ) الزبد : هو الخبث الذي يظهر على وجه الماء ، وكذلك على وجه القدر ، وكذلك على فم البعير . وقوله : ( ^ رابيا ) أي : طافيا عاليا تم المثل الأول هاهنا . ثم ذكر مثلا ثانيا ، وهو قوله تعالى ( ^ ومما يوقدون عليه في النار ) ومن الذي توقدون عليه ، الإيقاد : جعل النار تحت الشيء ليذوب .
وقوله : ( ^ ابتغاء حلية ) معناه : لطلب الحلية ، والذي أوقد عليه هاهنا هو الذهب والفضة ؛ لأن الحلية تطلب منهما . وقوله : ( ^ أو متاع ) معناه : أو طلب متاع ، وذلك من الصفر والنحاس وغيره يوقد عليها ، والمتاع : هو الأواني المتخذة من هذه الأشياء .
____________________

( ^ الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال ( 17 ) للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم ) * * * *
وقوله : ( ^ زبد مثله ) أي : زبد مثل زبد الماء ( ^ كذلك يضرب الله الحق والباطل ) أي : كذلك يبين الله الحق والباطل بضرب المثل ، ثم قال : ( ^ فأما الزبد فيذهب جفاء ) يعني ضائعا باطلا ، يقال : أجفأت القدر ، إذا زبدت من جوانبها ، وذهب الزبد . وذكر أبو زيد اللغوي أن رؤبة بن العجاج قرأ : ' فأما الزبد فيذهب جفالا ' والمعنى قريب من الأول .
وقوله : ( ^ وأما ما ينفع الناس فيمكث ) يعني : الماء والذهب والفضة والحديد والرصاص والصفر والنحاس . قوله : ( ^ فيمكث في الأرض ) أي : يبقى ولا يذهب .
وقوله ( ^ كذلك يضرب الله الأمثال ) جعل هذا مثلا للحق والباطل في القلوب ، يعني : أن الباطل كالزبد يذهب ويضيع ويهلك ، والحق كالماء وكهذه الأشياء يمكث ويبقى في القلوب ، وقال بعضهم : هذا تسلية للمؤمنين ، يعني أن أمر المشركين كذلك الزبد ، يرى في الصورة شيئا ثابتا وليس له حقيقة . وأمر المؤمنين كالماء المستقر في مكانه ، فله الثبات والبقاء ، يقال : للباطل جولة ، وللحق دولة . < < الرعد : ( 18 ) للذين استجابوا لربهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ للذين استجابوا لربهم الحسنى ) الآية ، قد بينا أن الاستجابة والإجابة بمعنى واحد . وقوله : ( ^ الحسنى ) الأكثرون أنها الجنة ، وقيل : هو الرزق والعافية في الدنيا والنعيم في الآخرة ، والحسنى فعلى من الحسن .
وقوله : ( ^ والذين لم يستجيبوا له ) أي : لم يجيبوا له . وقوله : ( ^ لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به ) يعني : لبذلوا ذلك افتداء من النار .
وقوله : ( ^ أولئك لهم سوء الحساب ) روي عن إبراهيم النخعي أنه قال لفرقد : يا فريقد ، أتدري ما سوء الحساب ؟ هو أن يحاسب على جميع الذنوب ولا يغفر منها شيئا . وقد صح عن النبي برواية عائشة - رضي الله عنها - : ' من نوقش الحساب
____________________

( ^ جهنم وبئس المهاد ( 18 ) أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب ( 19 ) الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق ( 20 ) والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب ( 21 ) والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ) * * * * عذب ' وفي رواية ' هلك ' وقيل : إن سوء الحساب هو أن لا يقبل حسنة ، ولا يعفو عن سيئة . وقوله : ( ^ ومأواهم جهنم ) أي : مستقرهم جهنم .
وقوله : ( ^ وبئس المهاد ) أي : بئس ما مهدوا لأنفسهم أي : بئس ما مهد لهم . < < الرعد : ( 19 ) أفمن يعلم أنما . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى ) نزلت الآية في حمزة بن عبد المطلب وأبي جهل بن هشام ، فالأول حمزة والثاني أبو جهل ، وقيل : في عمار بن ياسر وأبي جهل .
وقوله : ( ^ إنما يتذكر أولو الألباب ) أي : يتعظ أولو الألباب ، ومعنى الآية : أن من يبصر الحق ويتبعه ، ومن لا يبصر الحق ولا يتبعه لا يستويان أبدا . < < الرعد : ( 20 ) الذين يوفون بعهد . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ الذين يوفون بعهد الله ) ظاهر المعنى ، وقيل : عهد الله تعالى ما أخذه الله تعالى من العهد على ذرية آدم حين أخذهم من صلبه .
وقوله : ( ^ ولا ينقضون الميثاق ) هو تحقيق الوفاء السابق . < < الرعد : ( 21 ) والذين يصلون ما . . . . . > >
وقوله : ( ^ والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ) يعني : يؤمنون بجميع الأنبياء ، وقيل : يصلون الرحم ولا يقطعونه .
وقوله : ( ^ ويخشون ربهم ) أي : يخافون ربهم ( ^ ويخافون سوء الحساب ) أي : يرهبون سوء الحساب ، وسوء الحساب قد بينا . < < الرعد : ( 22 ) والذين صبروا ابتغاء . . . . . > >
وقوله : ( ^ والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم ) يعني : صبروا على أمر الله [ طلبا لرضا ] ربهم ، وقيل : صبروا على الفقر ، وعلى المصائب والبلايا ، وقيل : صبروا عن
____________________

( ^ ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار ( 22 ) جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب ( 23 ) ) * * * * المعاصي وقيل : صبروا عن شهوات الدنيا ولذاتها .
وقوله : ( ^ يدرءون بالحسنة السيئة ) يعني : يدفعون السيئة بالحسنة ، وهو معنى قوله : ( ^ إن الحسنات يذهبن السيئات ) ومعنى قوله عليه السلام : ' إذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة تمحها ' . وفي الآية قول آخر وهو أن السيئة : الذنب . والحسنة : التوبة . ومعناه : يدفعون الذنب بالتوبة وفي الخبر : ' ما من شيء أدرك لشيء من توبة حديثة لذنب قديم ' .
قوله : ( ^ أولئك لهم عقبى الدار ) أي : الجنة ، ومعناه : لهم عاقبة دار الثواب . < < الرعد : ( 23 ) جنات عدن يدخلونها . . . . . > > قوله : ( ^ جنات عدن يدخلونها ) أي : بساتين [ للإقامة ] .
وقوله : ( ^ يدخلونها ) معناه معلوم . وقوله : ( ^ ومن صلح من آبائهم ) أي : ويدخلها من صلح من آبائهم ( ^ وأزواجهم وذرياتهم ) وفي الخبر : أن المؤمن يدخل الجنة ، فيرى ذريته فيها ، فيقول : متى دخلتم فيها ؟ فيقولون : نحن منذ قديم ننتظرك ، والله أعلم .
وقوله : ( ^ والملائكة يدخلون عليهم من كل باب ) يعني : من أبواب الجنة ، وقيل : من أبواب القصور . < < الرعد : ( 24 ) سلام عليكم بما . . . . . > > وقوله : ( ^ سلام عليكم ) يعني : يسلمون عليهم سلاما ، وقيل : يقولون : قد سلمكم الله من الآفات التي كنتم تخافونه منها ، وفي الآثار أنهم - يعني : الملائكة - يأتون بالتحف والهدايا من الله تعالى بقدر كل يوم من أيام الدنيا [ ثلاث ] عشرة مرة . وقوله : ( ^ بما صبرتم ) قد بينا . وقوله : ( ^ فنعم عقبى الدار ) أي : نعم عاقبة الدار .
____________________

( ^ سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ( 24 ) والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أو يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار ( 25 ) الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع ( 26 ) ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن ) * * * * < < الرعد : ( 25 ) والذين ينقضون عهد . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ) ظاهر ، وهذا وارد في الكفار . وقوله تعالى : ( ^ ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ) يعني : يؤمنون ببعض الأنبياء ، ويكفرون بالبعض ، وقيل : يقطعون الرحم .
وقوله : ( ^ ويفسدون في الأرض ) يعني : يعملون فيها بالمعاصي . وقوله : ( ^ أولئك لهم اللعنة ) أي : البعد من رحمة الله . وقوله : ( ^ ولهم سوء الدار ) أي : سوء المنقلب لأن المنقلب : منقلب الناس إلى الدار . < < الرعد : ( 26 ) الله يبسط الرزق . . . . . > >
قوله : ( ^ الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ) يعني : يوسع على من يشاء ، ويضيق على من يشاء . وقوله : ( ^ وفرحوا بالحياة الدنيا ) الفرح : لذة في القلب بنيل المشتهى ، وهذا دليل على أن الفرح بالدنيا حرام منهي عنه .
قوله : ( ^ وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع ) يعني : إلا قليل ، ويقال : كمتاع الراكب ، وقد صح عن النبي أنه قال : ' ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع ' . < < الرعد : ( 27 ) ويقول الذين كفروا . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه ) يعنون الآية المقترحة ؛ فإن قال قائل : لم لا يجوز أن يجيبهم إلى الآية المقترحة ، ولعلها تكون سببا لإيمانهم ؟ والجواب : أن الآية المقترحة لا نهاية لها ، وإن وجب في المصلحة أن يجيب واحدا ، وجب أن يجيب آخر ، إلى ما يتناهى .
وقوله : ( ^ قل إن الله يضل من يشاء ) ظاهر المعنى . وقوله : ( ^ ويهدي إليه من أناب ) معناه : ويهدي إليه من يشاء بالإنابة ، وفي الآية رد على القدرية ، والله الهادي إلى الصواب بمنه .
____________________

( ^ الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب ( 27 ) الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب ( 28 ) الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن ) * * * * < < الرعد : ( 28 ) الذين آمنوا وتطمئن . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ) أي : تسكن قلوبهم بذكر الله ، وقيل : تستأنس قلوبهم بذكر الله ، والسكون باليقين ، والاضطراب بالشك ، قال الله تعالى في شأن المشركين : ( ^ إذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة ) أي : اضطربت ، وقال في المؤمنين ( ^ الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ) .
وقوله : ( ^ ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) معناه : ألا بذكر الله تسكن القلوب ، وطمأنينة القلب بزوال الشك منه واستقرار اليقين فيه ، فإن قال قائل : أليس الله تعالى قال : ( ^ وجلت قلوبهم ) فكيف توجل وتطمئن في حالة واحدة ؟ والجواب : أن الوجل بذكر الوعيد والعقاب ، والطمأنينة بذكر الوعد والثواب ، فكأنها توجل إذا ذكر عدل الله وشدة حسابه ، وتطمئن إذا ذكر فضل الله وكرمه . < < الرعد : ( 29 ) الذين آمنوا وعملوا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) معناه : وعملوا الطاعات . وقوله : ( ^ طوبى لهم ) فيه أقوال : روي عن أبي هريرة وأبي أمامة وأبي الدرداء وعن ابن عباس برواية الكلبي أنهم قالوا : طوبى شجرة في الجنة تظلل الجنان كلها .
وفي بعض الأخبار أن أصلها في منزل النبي وقصره ، وفي كل قصر من قصور الجنة غصن منها ، وعليها من جميع أنواع الثمر ، وتقع عليها طيور كالبخت إذا رآها المؤمن واشتهى منها سقطت بين يديه ، فيأكل منها ما شاء ثم تطير ، وفي بعض الأخبار : أن رجلا لو ركب حقا أو جذعا ، وجعل يطوف بأصلها لقتله الهرم ، ولم يبلغ إلى الموضع الذي ابتدأ منه .
والقول الثاني : أن طوبى اسم الجنة ، قال مجاهد : هي اسم الجنة بالحبشية . وعن عكرمة : طوبى لهم أي نعماء لهم ، وعن إبراهيم النخعي : أي خير وكرامة لهم ، وعن
____________________

( ^ مئاب ( 29 ) كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب ( 30 ) ) * * * * الضحاك : طوبى لهم أي : غبطة لهم . والأقوال متقاربة في المعنى ، قال الزجاج : طوبى فعلى من الطيب ، ومعناها : العيش الطيب لهم .
وقوله : ( ^ وحسن مآب ) أي : حسن منقلب . < < الرعد : ( 30 ) كذلك أرسلناك في . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ كذلك أرسلناك في أمة ) الآية . معنى كاف التشبيه هاهنا : إنا كما أرسلنا الأنبياء إلى سائر الأمم ؛ كذلك أرسلناك إلى هذه الأمة .
قوله : ( ^ قد خلت من قبلها أمم ) أي : قد مضت من قبلها أمم . قوله : ( ^ لتتلوا عليهم الذي أوحينا إليك ) أي . لتقرأ عليهم الذي أوحينا إليك .
وقوله : ( ^ وهم يكفرون بالرحمن ) فيه قولان : أحدهما : قال ابن جريج : الآية مدنية في قصة الحديبية فإن سهيل بن عمرو لما جاء واتفقوا على أن يكتبوا كتاب الصلح ، كتب علي رضي الله عنه بسم الله الرحمن الرحيم ، فقالوا : لا نعرف الرحمن ، اكتب كما نكتب نحن : باسمك اللهم . . . القصة ، فهذا معنى قوله : ( ^ وهم يكفرون بالرحمن ) .
والقول الثاني - وهو المعروف - أن الآية مكية ، وسبب نزولها أن أبا جهل سمع النبي وهو في الحجر يدعو ويقول : ' يا الله ، يا رحمن ' . فرجع إلى المشركين ، وقال : إن محمدا يدعو إلهين يدعو الله ، ويدعو آخر يسمى الرحمن ولا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة ؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وأنزل أيضا قوله تعالى : ( ^ قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن ) .
وقوله : ( ^ قل هو ربي ) يعني قل : الرحمن ربي ( ^ لا إله إلا هو عليه توكلت ) عليه اعتمدت وبه وثقت ( ^ وإليه متاب ) يعني : وإليه التوبة ، والتوبة هي الندم على ما سلف من الجرائم مع الإقلاع عنها في المستقبل .
____________________

( ^ ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا أفلم ييئس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ولا يزال الذين كفروا ) * * * * < < الرعد : ( 31 ) ولو أن قرآنا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولو أن قرآنا سيرت به الجبال ) روي أن المشركين قالوا لرسول الله : سل ربك أن يسير هذه الجبال التي بمكة فتتسع أرضنا ونتخذ فيها المزارع ، وسل ربك أن يقرب إلينا الشام ، فإن إليه متاجرنا وقد أبعد عنا ، وقالوا أيضا : سل ربك أن يخرج لنا الأنهار ويشق العيون في الأرض لنغرس الأشجار ، ونتخذ البساتين ، وسل ربك أن يبعث لنا جماعة من الموتى فنسألهم عن أمرك ، وأحى لنا قصيا ؛ فإنه كان شيخا مباركا حتى نسأله عن أمرك . وفي بعض الروايات أنهم قالوا : سل ربك بالقرآن الذي أنزل عليك أن يفعل هذا فأنزل الله تعالى هذه الآية : ( ^ ولو أن قرآنا سيرت به الجبال ) معناه : ولو قضيت أن أسير الجبال بكتاب أو أقطع الأرض به أو أحيي به الموتى لفعلت بهذا القرآن .
فإن قيل : هذا الجواب الذي تقولون غير مذكور في القرآن ، وهذا زيادة ؟
الجواب عنه ، أن الجواب محذوف ، والعرب تفعل مثل هذا ، قال الشاعر :
( فلو أنها نفس تموت سوية ** ولكنها نفس تساقط أنفسا )
ومعناه : ولو أنها نفس واحدة لتسليت بها ، ولكنها أنفس كثيرة . وذكر الفراء أن الجواب هو : ( ^ ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى ) لم يؤمنوا ؛ لما سبق في علمنا من تركهم الإيمان .
معناه : أنا لو فعلنا بالقرآن الذي أنزل إليك ما سألوا ، لم يؤمنوا أيضا . وقوله : ( ^ بل لله الأمر جميعا ) معناه : بل لله الأمر جميعا في هذه الأشياء ؛ إن شاء فعلها وإن شاء لم يفعلها .
وقوله : ( ^ أفلم ييئس الذين آمنوا ) أكثر أهل المعاني على أن معناه : أفلم يعلم الذين آمنوا ، وفي قراءة ابن عباس هكذا : ' أفلم يتبين للذين آمنوا ' وقد ورد هذا اللفظ بمعنى العلم في لغة العرب ، قال الشاعر :
____________________

( ^ تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد ( 31 ) ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف ) * * * *
( أقول لهم بالشعب إذ يأسرونني ** ألم تيئسوا أني ابن فارس زهدم )
وقال آخر :
( ألم ييئس الأبطال أني أنا ابنه ** وإن كنت عن أرض العشيرة تائيا )
وأنكر الكسائي أن يكون هذا بمعنى العلم ، وقال : إن العرب لا تعرف اليأس بمعنى العلم ، قال : وإنما معنى الآية : أن أصحاب رسول الله لما سمعوا هذا من المشركين طمعوا في أن يفعل الله ما سألوا ويؤمنوا ؛ فأنزل الله هذه الآية : ( ^ أفلم ييئس الذين آمنوا ) يعني : من الصحابة من إيمان هؤلاء القوم ، وكل من علم شيئا فقد يئس عن خلافه وضده ، وبعضهم قال معناه : أفلم يعلم الذين آمنوا من حال هؤلاء الكفار علما يوجب يأسهم عن إيمانهم ، وقوله : ( ^ أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ) ظاهر المعنى .
وقوله : ( ^ ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة ) أي نازلة وبلية ، وقيل : إن القارعة هاهنا : سرايا رسول الله ( ^ أو تحل قريبا من دارهم ) يعني : أو تحل السرية قريبا من دارهم ، وقيل : أو تنزل أنت قريبا من دارهم .
( ^ حتى يأتي وعد الله ) فيه قولان : أحدهما : أنه يوم القيامة ، والقول الثاني : أنه يوم بدر .
وقوله : ( ^ إن الله لا يخلف الميعاد ) ظاهر المعنى . < < الرعد : ( 32 ) ولقد استهزئ برسل . . . . . > >
قوله : ( ^ ولقد استهزئ برسل من قبلك ) الاستهزاء : طلب الهزء ، وقد كان الكفار يسألون هذه الأشياء عن طريق الاستهزاء ، فأنزل الله تعالى هذه الآية تسلية للنبي ، معناه : ولقد استهزئ برسل من قبلك يعني : كما استهزءوا بك ، فقد استهزئ برسل من قبلك . ( ^ فأمليت للذين كفروا ) معناه : فأمهلت وأطلت المدة لهم ، ومنه الملوان وهو الليل والنهار . وقوله : ( ^ ثم أخذتهم فكيف كان عقاب ) معناه : ثم أخذتهم في الدنيا بالقتل ، وفي الآخرة بالنار فكيف كان [ عقابي ] لهم .
____________________

( ^ كان عقاب ( 32 ) أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت وجعلوا لله شركاء قل سموهم أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر من القول بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل ومن يضلل الله فما له من هاد ( 33 ) لهم عذاب في الحياة ) * * * * < < الرعد : ( 33 ) أفمن هو قائم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت ) أكثر المفسرين أن قوله : ( ^ أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت ) هو الله ، والله تعالى لا يجوز أن يسمى قائما على الإطلاق ؛ لأن الشرع لم يرد به ، ولأن القائم هو المنتصب ، ويجوز أن يوصف بالقيام على التقييد ، وهو أنه قائم على كل نفس بما كسبت ، ومعنى قوله : ( ^ قائم على كل نفس ) : أنه المتولي لأحوالها وأعمالها وأرزاقها ، وغير ذلك ، وكذلك هو المتولي للمجازاة بكسب الخير والشر .
وقال بعضهم : معنى قوله : ( ^ أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت ) أي : عالم بكسب كل نفس ، قال الشاعر :
( فلولا رجال من قريش أعزة ** سرقتم ثياب البيت والله قائم )
أي : عالم . وقوله : ( ^ أفمن ) معناه : أفمن كان هكذا كمن ليس بهذا الوصف . وقوله : ( ^ وجعلوا لله شركاء ) أي : وصفوا لله شركاء ، وقوله : ( ^ قل سموهم ) معناه : قل صفوهم بالصفات التي هي مستحقة لها ، ثم انظروا هل هي أهل أن تعبد أو لا ؟
قوله : ( ^ أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض ) معناه : أم أنتم تنبئون الله بما لا يعلم . يعني : تذكرون له شريكا وإلها آخر ، وهو لا يعلمه .
وقوله : ( ^ أم بظاهر من القول ) يعني أم تتعلقون بظاهر من القول لا معنى له ، شبه المتجاهل الذي لا يطلب حقيقة الأمر ، وقيل : بظاهر من القول بباطل من القول : قال الشاعر :
( وعيرني الواشون أني أحبها ** وتلك شكاة ظاهر عنك عارها )
أي : زائل ، وحكي أن عبد الله بن الزبير أنشد هذا حين قيل له : يا ابن ذات النطاقين ، وقصد القائل تعبيره وذمه ؛ فقال عبد الله بن الزبير :
( وتلك شكاة ظاهر عنك عارها ** ) .
قوله : ( ^ بل زين للذين كفروا مكرهم ) أي : كفرهم . وقوله : ( ^ وصدوا عن السبيل ) وقرئ : ' وصدوا ' برفع الصاد ، أي : فعل بهم ذلك . وقوله : ( ^ وصدوا )
____________________

( ^ الدنيا ولعذاب الآخرة أشق وما لهم من الله من واق ( 34 ) مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار ( 35 ) والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب من ) * * * * معناه : فعلوا هم ذلك ، وقوله : ( ^ ومن يضلل الله فما له من هاد ) ظاهر المعنى . < < الرعد : ( 34 ) لهم عذاب في . . . . . > >
وقوله : ( ^ لهم عذاب في الحياة الدنيا ) قد بينا العذاب في الدنيا .
( ^ ولعذاب الآخرة أشق ) يعني : أشد . وقوله : ( ^ وما لهم من الله من واق ) أي : من يقي . < < الرعد : ( 35 ) مثل الجنة التي . . . . . > >
وقوله : ( ^ مثل الجنة التي وعد المتقون ) قرئ في الشاذ : ' أمثال الجنة التي وعد المتقون ' [ و ] المعروف : ( ^ مثل الجنة ) وفيه قولان : أحدهما : صفة الجنة التي وعد المتقون ، والقول الثاني : مثل الجنة التي وعد المتقون جنة ( ^ تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم ) أي : لا ينقطع ثمرها ونعيمها .
فإن قال قائل : قد قال هاهنا : ( ^ أكلها دائم ) وقال في موضع آخر : ( ^ ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا ) فكيف التوفيق بين الآيتين ؟
الجواب : أن الدوام بمعنى عدم الانقطاع ، فإذا لم ينقطع ورزقوا بكرة وعشيا ، فهو دائم . وقوله : ( ^ وظلها ) هذا في معنى قوله تعالى : ( ^ وظل ممدود ) .
وفي الأخبار : ' أن ظل شجرة واحدة في الجنة يسير الراكب فيها مائة عام لا يقطعه ' . وقوله تعالى : ( ^ تلك عقبى الذين اتقوا ) معناه : تلك عاقبة الذين اتقوا . وقوله : ( ^ وعقبى الكافرين النار ) أي : عاقبة الكافرين النار .
____________________

( ^ ينكر بعضه قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو وإليه مئاب ( 36 ) وكذلك أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق ( 37 ) ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية وما كان ) * * * * < < الرعد : ( 36 ) والذين آتيناهم الكتاب . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ) الآية . روي أن [ اليهود ] الذين أسلموا كانوا يستقلون ذكر الرحمن في القرآن مع كثرة ذكره في التوراة ، فلما كرر الله ذكر الرحمن في القرآن فرحوا فأنزل الله تعالى هذه الآية : ( ^ والذين آتيناهم الكتاب يفرحون . . . ) الآية .
وقوله : ( ^ ومن الأحزاب من ينكر بعضه ) الأحزاب : هم الذين تحزبوا على النبي . وقوله : ( ^ من ينكر بعضه ) يعني : ذكر الرحمن ؛ لأنهم كانوا لا ينكرون ذكر الله ، وقوله : ( ^ قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو وإليه مآب ) ظاهر المعنى . < < الرعد : ( 37 ) وكذلك أنزلناه حكما . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وكذلك أنزلناه حكما عربيا ) فيه قولان : أحدهما : قرآنا عربيا ؛ لأن فيه الأحكام ، والآخر نبيا عربيا ؛ لأن النبي كان منهم ، والقرآن نزل بلغتهم .
وقوله : ( ^ ولئن اتبعت أهواءهم ) الهوى : ميل الطبع لشهوة النفس . وأكثره مذموم . قوله : ( ^ بعد ما جاءك من العلم ) يعني : من القرآن ( ^ مالك من الله من ولي ولا واق ) يعني : من ناصر ولا حافظ . < < الرعد : ( 38 ) ولقد أرسلنا رسلا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولقد أرسلنا رسلا من قبلك ) الآية ، روي أن اليهود ذموا النبي باستكثاره من النساء ، وقالوا : هذا الرجل ليس له همة إلا في النساء ، فأنزل الله تعالى هذه الآية : وقيل : إن المشركين قالوا هذا ؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية ( ^ ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية ) ويقال : إنه كان لداود مائة امرأة ، وقد صح الخبر فيه عن النبي ، ودل عليه الكتاب . وكان لسليمان [ ألف ] امرأة
____________________

( ^ لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب ( 38 ) يمحو الله ما يشاء ويثبت ) * * * * في الصحيح ، ثلثمائة امرأة ، وسبعمائة سرية ؛ فهذا معنى قوله : ( ^ وجعلنا لهم أزواجا وذرية ) وكذلك عامة الأنبياء تزوجوا وولد لهم .
وقوله : ( ^ وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله ) أي : إلا بأمر الله ( ^ لكل أجل كتاب ) معناه : لكل أجل أجله الشرع كتاب أثبت فيه . وقيل : هذا على التقديم والتأخير ، ومعناه : لكل كتاب أجل ومدة ، ومعناه الكتب المنزلة وقيل : لكل أجل كتاب ، أي : لكل قضاء قضاه الله تعالى وقت يقع فيه ، وكتاب أثبت فيه . < < الرعد : ( 39 ) يمحو الله ما . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يمحو الله ما يشاء ويثبت ) فيه أقوال : روي عن ابن عباس أنه يمحو الله ما يشاء من الشريعة ، أي : ينسخ . ويثبت ما يشاء ، فلا ينسخ . وحكي عنه أيضا برواية سعيد بن جبير قال : ( ^ يمحو الله ما يشاء ويثبت ) إلا الشقاوة والسعادة والحياة والموت ، وعن عمر وعبد الله بن مسعود - رضي الله عنهم - أنهما قالا : يمحو الشقاوة والسعادة أيضا ، ويمحو الأجل والرزق ، ويثبت ما يشاء . وكان عمر يقول : اللهم إن كنت كتبتني شقيا فامحه واكتبني ما تشاء سعيدا ، فإنك قلت : ( ^ يمحو الله ما يشاء ويثبت ) . وفي بعض الآثار أن الرجل يكون قد بقي له من عمره ثلاثون سنة فيقطع رحمه ، فيرد إلى ثلاثة أيام ، والرجل يكون قد بقي له من عمره ثلاثة أيام فيصل رحمه فيمد إلى ثلاثين سنة . وقد ورد خبر يؤيد قول ابن عباس في أنه لا يمحى الشقاوة والسعادة والأجل والرزق ، روى حذيفة بن أسيد عن النبي أنه قال : ' إذا وقعت النطفة في الرحم ، ومضى عليها خمس وأربعون ليلة ، قال الملك : يا رب ، أذكر أم أنثى ؟ فيقضي الله ، ويكتب الملك ، فيقول : يا رب ، أشقي أم سعيد ؟ فيقضي الله تعالى ، ويكتب الملك ، فيقول : يا رب ما الأجل ؟ وما الرزق ؟ فيقضي الله تعالى ويكتب الملك ثم لا يزاد فيه ولا ينقص . ذكره مسلم في الصحيح .
____________________

( ^ وعنده أم الكتاب ( 39 ) وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ( 40 ) أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله ) * * * *
وفي الآية قول آخر ، وهو قول الحسن : ( ^ يمحو الله ما يشاء ) أي : يمحو من حضر أجله ويثبت ما يشاء من لم يحضر أجله ، وفي الآية قول رابع : أن المراد منه أن الحفظة يكتبون جميع أعمال بني آدم ، فيمحو الله منها ما يشاء ، وهو ما لا ثواب عليه ولا عقاب ، ويثبت ما يشاء وهو الذي يستحق عليه الثواب والعقاب ، وقيل : ( ^ يمحو الله ما يشاء ) أي : يمحو ما يشاء لمن عصاه فختم أمره بالطاعة ، ويثبت بالمعصية لمن أطاع ، وختم أمره بالمعصية . والمنقول عن السلف هي الأقوال التي ذكرناها قبل هذا القول .
وقوله : ( ^ وعنده أم الكتاب ) معناه : وعنده أصل الكتاب ، وأصل الكتاب : هو اللوح المحفوظ . وفي بعض الأخبار ' أن الله تعالى ينظر في الكتاب الذي عنده لثلاث ساعات يبقين من الليل ؛ فيمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء ، ويبدل ما يشاء ويقرر ما يشاء ' . < < الرعد : ( 40 ) وإما نرينك بعض . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ وإما نرينك بعض الذي نعدهم ) الآية . بعض الذين نعدهم ، أي : قبل وفاتك ( ^ أو نتوفينك ) وقبل أن نريك ذلك ( ^ فإنما عليك البلاغ ) أي : التبليغ ( ^ وعلينا الحساب ) يوم القيامة . < < الرعد : ( 41 ) أو لم يروا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها ) أكثر المفسرين على أن المراد من هذا هو فتح ديار الشرك ، وسمي ذلك نقصانا ؛ لأنه إذا زاد في دار الإسلام فقد نقص من دار الشرك ، وهذا قول ابن عباس وقتادة وجماعة . وعن ابن عباس - في رواية أخرى - قال : هو موت الأخيار والعلماء . وحكي ذلك عن مجاهد . وقيل : ننقصها من أطرافها بخرابها ، والساعة تقوم وكل الأرض خربة ، ويقال في منثور
____________________

( ^ يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب ( 41 ) وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعا يعلم ما تكسب كل نفس وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار ( 42 ) ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ( 43 ) ) * * * * الكلام : الأشراف على الأطراف ليقرب منهم الأضياف . وقوله : ( ^ والله يحكم لا معقب لحكمه ) أي : لا راد ولا ناقص لحكمه ( ^ وهو سريع الحساب ) معلوم . < < الرعد : ( 42 - 43 ) وقد مكر الذين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وقد مكر الذين من قبلهم ) المكر : إيصال المكروه إلى الإنسان من حيث لا يشعر . قوله ( ^ فلله المكر جميعا ) أي عند الله جزاء مكرهم جميعا . وقيل إن الله خالق مكرهم جميعا . وقوله : ( ^ يعلم ما تكسب كل نفس ) ظاهر المعنى ( ^ وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار ) لمن عاقبة الدار ، والآية تهديد ووعيد . وقوله : ( ^ ويقول الذين كفروا لست مرسلا ) ظاهر المعنى . وقوله : ( ^ قل كفى بالله شهيدا ) أي : شاهدا ( ^ بيني وبينكم ) .
وقوله : ( ^ ومن عنده علم الكتاب ) قال قتادة : هو عبد الله بن سلام ، وقيل : عبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وتميم الداري ، وعلى هذا جماعة من التابعين ، وأنكر الشعبي وعكرمة وجماعة هذا القول ، وقالوا : السورة مكية ، وعبد الله بن سلام أسلم بالمدينة ، وأيضا فإن الله تعالى كيف يستشهد بمخلوق ، وإنما المراد منه هو الله تعالى . وقد قرأ ابن عباس : ' ومن عنده علم الكتاب ' وهذا يبين أن المراد [ منه ] هو الله تعالى .
وعنى عبد الله بن سلام نفسه ، قال : أنا المراد بالآية .
وعن الحسن ومجاهد أن المراد هو الله .
وسعيد بن جبير قال : هو جبريل - عليه السلام - والصحيح أحد القولين الأولين ، والله أعلم .
____________________

<
> بسم الله الرحمن الرحيم <
> ( ^ الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد ( 1 ) الله الذي له ما في السموات وما في الأرض وويل للكافرين من ) * * * * <
> تفسير سورة إبراهيم <
>
وهي مكية إلا قوله تعالى : ( ^ ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا ) إلى قوله : ( ^ فإن مصيركم إلى النار ) والله أعلم . < < إبراهيم : ( 1 ) الر كتاب أنزلناه . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ الر ) معناه : أنا الله أرى ، وقيل معناه : أنا الله الرحمن .
وقوله : ( ^ كتاب أنزلناه إليك ) معناه : هذا كتاب أنزلناه إليك .
وقوله : ( ^ لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ) معناه : من الضلالة إلى الهدى ، ومن الكفر إلى الإيمان ومن الغواية إلى الرشد ، وقيل : من البدعة إلى السنة .
والظلمة اسوداد الجو بما يمنع من البصر ، والنور : بياض شعاعي يحصل به الإبصار . قوله : ( ^ بإذن ربهم ) أي : بأمر ربهم ، وقيل : بعلم ربهم .
وقوله ( ^ إلى صراط العزيز الحميد ) الصراط هو الدين ، والعزيز الحميد هو الله تعالى . ومعنى العزيز : الغالب ، ومعنى الحميد : هو المستحق للحمد في أفعاله ؛ لأنه إنما متفضل أو عادل . < < إبراهيم : ( 2 ) الله الذي له . . . . . > >
وقوله : ( ^ الله الذي ) قرئ بالرفع والخفض ، فمن قرأ بالخفض فهو مسبوق على قوله : ( ^ العزيز الحميد ) ، ومن رفع فعلى تقدير هو الله .
وقوله : ( ^ له ما في السموات وما في الأرض ) يعني : له ملك السموات والأرض . وقوله : ( ^ وويل للكافرين ) الويل : واد في جهنم ، وقيل : إنه دعاء الهلاك . ( ^ من
____________________

( ^ عذاب شديد ( 2 ) الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا أولئك في ضلال بعيد ( 3 ) وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين ) * * * * عذاب شديد ) أي : عذاب عظيم . < < إبراهيم : ( 3 ) الذين يستحبون الحياة . . . . . > >
قوله : ( ^ الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ) معناه : الذين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة ، ومعنى الإيثار : هو طلب الدنيا من غير نظر للآخرة ، وذلك بأن يأخذ من حيث يجد ، ولا يبالي أنه حرام أو حلال . وقد روي عن النبي أنه قال : ' يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء أخذ الدنيا بحلال أو بحرام ' .
وقوله : ( ^ ويصدون عن سبيل الله ) يعني : يمتنعون عن قبول دين الله ، ويمنعون الناس عن قبوله . ( ^ ويبغونها عوجا ) العوج في الدين ، والعوج في الرمح والحائط ، ومعنى الآية : ويطلبون دين الله زيغا ، وقيل : ويطلبون سبيل الله جائرين عن القصد ، وقيل : يطلبون لمحمد الهلاك ، ويقال : إن الكناية راجعة إلى الدنيا ، ومعناه : يطلبون الدنيا على طريق الميل عن الحق ، وذلك هو بجهة الحرام على ما قلناه .
وقوله : ( ^ أولئك في ضلال بعيد ) أي : في خطأ طويل . < < إبراهيم : ( 4 ) وما أرسلنا من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ) والحكمة في هذا : هو أنه إذا أرسله بلسان قومه عقلوا قوله ، وفهموا عنه ، فإن قال قائل : إن الله تعالى بعث النبي إلى كل الخلق على ما قال : ' بعثت إلى الأحمر والأسود ' ولم يبعث بلسان كل الخلق ؟ .
والجواب عنه : أن سائر الخلق تبع العرب في الدعوة ، وقد بعث بلسانهم ثم إنه بعث بالرسل إلى الأطراف يدعونهم إلى الله ، وترجم لهم قوله .
____________________

( ^ لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم ( 4 ) لقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ( 5 ) وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ) * * * *
وقوله : ( ^ ليبين لهم ) معناه ما بينا . وقوله : ( ^ فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء ) ظاهر المعنى .
وقوله : ( ^ وهو العزيز الحكيم ) قد بينا . < < إبراهيم : ( 5 ) ولقد أرسلنا موسى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور ) يعني : من الكفر إلى الإيمان .
وقوله : ( ^ وذكرهم بأيام الله ) روي عن أبي بن كعب أنه قال : معناه : بنعم الله . وفي بعض المسانيد نقل هذا مرفوعا إلى النبي . والقول الثاني : بأيام الله أي : بنقم الله . وقال بعضهم : بوقائع الله ، يعني : بما أوقع بالأمم الماضية ، يقال : فلان عارف بأيام العرب ، أي : بوقائعهم .
وقوله : ( ^ إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ) الصبار : كثير الصبر ، والصبر : حبس النفس عما تنازع إليه النفس ، وقد روي عن الشعبي أنه قال : الصبر نصف الإيمان ، والشكر نصفه ، واليقين هو الإيمان كله . والشكور : هو الكثير الشكر . < < إبراهيم : ( 6 ) وإذ قال موسى . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم ) الآية أي : منة الله عليكم .
قوله : ( ^ إذ نجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ) قد بينا في سورة البقرة .
وقوله تعالى : ( ^ ويذبحون أبناءكم ) قال في موضع بغير الواو ، وقال هاهنا بالواو ، وذكر الواو يقتضي أنه سبق الذبح عذاب آخر ، وترك ذكر الواو يقتضي أن
____________________

( ^ ذلكم بلاء من ربكم عظيم ( 6 ) وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ( 7 ) وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد ( 8 ) ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من ) * * * * العذاب هو الذبح .
وقوله : ( ^ ويستحيون نساءكم ) يعني : يتركون قتل النساء ، وفي الخبر : ' اقتلوا شيوخ المشركين ، واستحيوا شرخهم ' . ( ^ وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ) قيل : إن البلاء هو المحنة ، وقيل : إن البلاء هو النعمة ، وموضع النعمة في الإنجاء من البلاء ، وقيل معناه : اختبار من الله عظيم . < < إبراهيم : ( 7 ) وإذ تأذن ربكم . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ وإذ تأذن ربكم ) أي : أعلم ربكم ، والتأذين : الإعلام ، والأذين والمؤذن هو المعلم ، قال الشاعر :
( ولم ( تشعر ) بضوء الصبح حتى ** سمعنا في مساجدنا الأذينا )
وقوله : ( ^ لئن شكرتم لأزيدنكم ) الشكر هو الاعتراف بالنعمة على وجه الخضوع للمنعم . وقد حكي عن داود صلى الله عليه وسلم أنه قال : يا رب ، كيف أشكرك ولم أؤد شكرك إلا بنعمة جديدة علي . فقال : يا داود ، الآن شكرتني .
وروي أن النبي قال له رجل : أوصني يا رسول الله ، فقال : ' عليك بالشكر فإنه زيادة ' . ومعنى الآية : لئن شكرتموني بالتوحيد لأزيدنكم نعمة الآخرة على نعمة الدنيا . وقيل : لئن شكرتم بالطاعة لأزيدنكم في الثواب .
وقوله : ( ^ ولئن كفرتم ) جحدتم . ( ^ إن عذابي لشديد ) لعظيم . < < إبراهيم : ( 8 ) وقال موسى إن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد ) أي : غني عن خلقه ، حميد في فعله . < < إبراهيم : ( 9 ) ألم يأتكم نبأ . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم ) أي : خبر الذين من قبلكم .
____________________

( ! ( بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا ) ! قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله ) روي عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه قرأ هذه الآية ، ثم قال : كذب النسابون ، ونقل بعضهم هذا مرفوعا إلى النبي ' . وعن عبد الله بن عباس أنه قال : بين إبراهيم وبين عدنان جد الرسول ثلاثون قرنا لا يعلمهم إلا الله . وعن عروة بن الزبير قال : وما وراء عدنان إلى إبراهيم - عليه السلام - لا يعلمهم إلا الله ، وعن مالك بن أنس أنه كره أن ينسب الإنسان نفسه أبا أبا إلى آدم ، وكذلك في حق الرسول كان يكره ؛ لأنه لا يعلم أولئك الآباء أحد إلا الله .
وقوله : ( ^ جاءتهم رسلهم بالبينات ) أي : بالدلالات الواضحات . وقوله : ( ^ فردوا أيديهم في أفواههم ) روي عن عمرو بن ميمون عن عبد الله بن مسعود قال : عضوا أيدهم غيظا ، قال الشاعر :
( لو أن سلمى أبصرت التخددي ** ورقة في عظم ساقي ويدي )
( وبعد أهلي وجفاء عودي ** عضت من الوجد أطراف اليد )
وقال آخر :
( قد أفنى أنامله غيظه ** فأمسى يعض على الوظيفا )
والقول الثاني في الآية : أن الأنبياء لما قالوا : نحن رسل الله ، وضع الكفار أيديهم على أفواههم أن اسكتوا ، نقله الكلبي وغيره .
والقول الثالث : أن معنى الآية أنهم كذبوا الرسل في أقوالهم ، يقال : رددت قول فلان في فيه إذا كذبته .
والقول الرابع : أن الأيدي هاهنا هي النعم ، ومعناه : ردوا ما لو قبلوا كانت آيادي ونعما .
____________________

( ^ كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب ( 9 ) قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السموات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين ( 10 ) قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) * * * *
وقوله : ( ^ في أفواههم ) يعني : بأفواههم ، ومعناه : بألسنتهم تكذيبا . وأشرق الأقاويل هو القول الأول ، والقول الثالث محكي عن ابن عباس .
وقوله : ( ^ وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به ) أي : جحدنا بما أرسلتم به .
وقوله : ( ^ وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب ) أي : مرتاب ، والشك هو التردد بين طرفي نقيض . < < إبراهيم : ( 10 ) قالت رسلهم أفي . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قالت رسلهم أفي الله شك ) معناه : ليس في الله شك ، وهذا استفهام بمعنى نفي ما اعتقدوه . وقوله : ( ^ فاطر السموات والأرض ) خالق السموات والأرض . وقوله : ( ^ يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ) قال أبو عبيدة : ' من ' صلة ، ومعناه : ليغفر لكم ذنوبكم .
وقوله : ( ^ ويؤخركم إلى أجل مسمى ) إلى حين استيفاء آجالكم . وقوله : ( ^ قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا ) أي : تمنعونا . ( ^ عما كان يعبد آباؤنا ) ظاهر المعنى . وقوله : ( ^ فأتونا بسلطان مبين ) أي : بحجة [ ومعجزة ] بينة ، والسلطان هاهنا : هو البرهان الذي يرد المخالف إلى الحق . < < إبراهيم : ( 11 ) قالت لهم رسلهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ) أي : ما نحن إلا بشر مثلكم . ( ^ ولكن الله يمن على من يشاء من عباده ) يعني : ينعم على من يشاء من عباده بالنبوة ، وقيل : بالتوفيق والهداية .
وقوله : ( ^ وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان ) أي : بحجة ومعجزة . ( ^ إلا بإذن الله )
____________________

( ( 11 ) وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون ( 12 ) وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ( 13 ) ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد ( 14 ) واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد ( 15 ) من ) * * * * أي : بأمر الله . ( ^ وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) ظاهر المعنى . < < إبراهيم : ( 12 ) وما لنا ألا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وما لنا ألا نتوكل على الله ) معناه : وأي شيء لنا في ألا نتوكل على الله ؛ وقد عرفنا أنه لا ينال شيء بجهد إلا بعد أن يقضيه الله تعالى ويقدره . وقوله : ( ^ وقد هدانا سبلنا ) أي : أرشدنا إلى سبل الحق .
وقوله : ( ^ ولنصبرن على ما آذيتمونا ) والآية تعليم المؤمنين وإرشادهم إلى الصبر على أذى مخالفي الحق . قوله : ( ^ وعلى الله فليتوكل المتوكلون ) ظاهر المعنى . < < إبراهيم : ( 13 ) وقال الذين كفروا . . . . . > >
وقوله : ( ^ وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا ) قد بينا هذا في سورة الأعراف ، وهو في قوله تعالى : ( ^ أو لتعودن في ملتنا ) .
وقوله : ( ^ فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ) أي : المشركين . < < إبراهيم : ( 14 ) ولنسكننكم الأرض من . . . . . > >
وقوله : ( ^ ولنسكننكم الأرض من بعدهم ) يعني : نجعل ديارهم موضع سكناكم ، وهذا في معنى قوله تعالى : ( ^ وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم ) .
وقوله : ( ^ ذلك لمن خاف مقامي ) الفرق بين المقام والمُقام : أن المقام موضع الإقامة ، والمُقام فعل الإقامة . فإن قيل : كيف يكون لله مقام ، وقد قال : ( ^ ذلك لمن خاف مقامي ) ؟ قلنا : أجمع أهل التفسير أن معناه : ذلك لمن خاف مقامه بين يدي ، وهو مثل قوله تعالى : ( ^ ولمن خاف مقام ربه جنتان ) .
وقوله : ( ^ وخاف وعيد ) أي : عقابي . < < إبراهيم : ( 15 ) واستفتحوا وخاب كل . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ واستفتحوا ) معناه : واستنصروا ، وفي الخبر : ' أن النبي يستفتح بصعاليك المهاجرين ' أي : يستنصر من الله بحقهم .
____________________

( ^ ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد ( 16 ) يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من ) * * * *
وقوله : ( ^ وخاب كل جبار عنيد ) وخاب أي : خسر ، وقيل : وهلك كل جبار . والجبار هو الذي لا يرى فوقه أحد ، والجبرية طلب العلو بما لا غاية وراءه ، وهو وصف لا يصح إلا لله ، وأما في وصف الخلق فهو مذموم ، وقيل : الجبار هو الذي يجبر الخلق على مراده . وأما العنيد : هو المعاند للحق .
قوله تعالى : ( ^ من ورائه جهنم ) الأكثرون معناه : من أمامه جهنم . قال الشاعر :
( ومن ورائك يوم أنت بالغه ** لا حاضر معجز عنه ولا باد )
يعني : من أمامك ، وقال أبو عبيدة : < < إبراهيم : ( 16 ) من ورائه جهنم . . . . . > > قوله : ( ^ ومن ورائه جهنم ) يعني : من بعده جهنم . وقوله : ( ^ ويسقى من ماء صديد ) معناه : من ماء هو صديد . والصديد ما يسيل من الكفار من القيح والدم ، والأصل في الصديد هو الماء الذي يخرج من الجرح مختلطا بالدم والقيح ، وقيل : من ماء صديد أي : من ماء كالصديد . < < إبراهيم : ( 17 ) يتجرعه ولا يكاد . . . . . > >
وقوله : ( ^ يتجرعه ) أي : يشربه جرعة جرعة من مرارته وشدته . وفي الحديث أن النبي قال : ' إذا أدناه من وجهه شوى وجهه وسقطت فروة رأسه ، وإذا شربه تقطعت أمعاؤه ، وخرجت الأمعاء من دبره ' .
وقوله : ( ^ ولا يكاد يسيغه ) يعني : لا يسيغه ، وقيل معناه : يكاد لا يسيغه ، ويسيغه ؛ ليغلي في جوفه . وقوله : ( ^ ويأتيه الموت من كل مكان ) قال إبراهيم التيمي : من كل شعرة من جسده ، وقيل : يأتيه الموت من قدامه ومن خلفه ، ومن فوقه ومن تحته ، وعن يمينه وعن شماله .
وقوله : ( ^ وما هو بميت ) يعني : عليه شدة الموت ولا يموت ، وهو في معنى قوله
____________________

( ^ كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ ( 17 ) مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصم لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد ( 18 ) ألم تر أن الله خلق السموات والأرض بالحق إن يشأ يذهبكم ) * * * * تعالى : ( ^ لا يموت فيها ولا يحيى ) . وقوله : ( ^ ومن ورائه عذاب غليظ ) أي : شديد ، والعذاب الغليظ هو الخلود في النار . < < إبراهيم : ( 18 ) مثل الذين كفروا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم ) وموضع المثل في قوله : ( ^ كرماد اشتدت به الريح ) يعني : ذهبت الريح المشتدة به .
وقوله : ( ^ في يوم عاصف ) فيه معنيان .
أحدهما : أنه وصف اليوم بالعاصف ؛ لأن فيه العصوف ، كما يقال : يوم حار ويوم بارد ، أي : فيه الحر والبرد ، قال الشاعر :
( يومين غيمين ويوما شمسا ** )
والمعنى الثاني : في يوم عاصف أي : في يوم عاصف الريح ، قال الشاعر :
( ويضحك عرفان الدروع جلودنا ** إذا جاء يوم مظلم الشمس ( كاسف ) )
أي : كاسف الشمس .
وقوله ( ^ لا يقدرون مما كسبوا على شيء ) لأن أعمالهم قد ذهبت وبطلت كالرماد الذي ذهبت به الريح العاصف .
وقوله : ( ^ ذلك هو الضلال البعيد ) الخطأ الطويل . < < إبراهيم : ( 19 ) ألم تر أن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ألم تر أن الله خلق السموات والأرض بالحق ) معنى خلق السموات والأرض بالحق : ما نصب فيها من الدلائل على وحدانيته وسائر صفاته .
وقوله : ( ^ إن يشأ يذهبكم ) يعني : إن يشأ يهلككم . ( ^ ويأت بخلق جديد ) أي : بقوم آخرين ، وهو في معنى قوله تعالى : ( ^ وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ) .
____________________

( ^ ويأت بخلق جديد ( 19 ) وما ذلك على الله بعزيز ( 20 ) وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص ( 21 ) وقال ) * * * *
قيل في التفسير : قوما أطوع لله منكم . < < إبراهيم : ( 20 ) وما ذلك على . . . . . > > وقوله : ( ^ وما ذلك على الله بعزيز ) أي : شديد ؛ وذلك لأن الأشياء كلها سهلة هينة في القدرة ، ولا يصعب على الله شيء من الأشياء وإن جل وعظم . < < إبراهيم : ( 21 ) وبرزوا لله جميعا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وبرزوا لله جميعا ) أي : خرجوا من قبورهم إلى الله جميعا .
وقوله : ( ^ فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا ) معنى الذين استكبروا : يعني تكبروا على الناس ، وتكبروا عن الإيمان ، وهم القادة والرؤساء .
وقوله : ( ^ إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون ) كنا لكم تبعا ، أي : أتباعا ( ^ فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء ) أي : دافعون عنا من عذاب الله من شيء . وقوله : ( ^ قالوا لو هدانا الله لهديناكم ) معناه : لو هدانا الله لدعوناكم إلى الهدى ، فلما أضلنا دعوناكم إلى الضلالة .
وقوله : ( ^ سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ) في الآثار أنهم يقولون : قد جزع أقوام في الدنيا ؛ فنجوا فنحن نجزع لننجوا ، فيجزعون مدة مديدة فلا يرون نجاة ، فيقولون : قد صبر أقوام في الدنيا ، فنحن نصبر للنجوا ، فيصبرون مدة مديدة ، فلا يرون نجاة فيقولون بعد ذلك : سواء علينا أجزعنا أم صبرنا .
قوله : ( ^ ما لنا من محيص ) أي : منجي ومخلص ، ويقال : يجزعون مائة سنة ، ويصبرون مائة سنة ، ويقال : فلان وقع في حيص بيص ، وحاص وباص إذا وقع في أمر لا مخلص عنه . < < إبراهيم : ( 22 ) وقال الشيطان لما . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وقال الشيطان لما قضى الأمر ) قوله : ( ^ لما قضى الأمر ) دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار . وفي بعض الآثار : ' أنه يوضع لإبليس منبر من نار فيصعد عليه ويخطبهم ' وذلك حين يتعلقون به ، ويقولون : أنت فعلت بنا هذا .
____________________

( ^ الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتموني من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم ( 22 ) وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها ) * * * *
وقوله : ( ^ إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم ) ووعد الحق هو الذي يقع الوفاء [ به ] . وقوله : ( ^ ووعدتكم فأخلفتكم ) هو ما لا يقع به الوفاء ، وقيل : إنه يقول لهم : قلت لكم لا بعث ولا جنة ولا نار ، وغير ذلك .
وقوله : ( ^ وما كان لي عليكم من سلطان ) معناه : أني لم آتكم بحجة فيما دعوتكم إليه . وقوله : ( ^ إلا أن دعوتكم ) هذا استثناء منقطع ، ومعناه : ولكن دعوتكم أي : زينت لكم . قوله : ( ^ فاستجبتم لي ) أي : أجبتم لي . وقوله : ( ^ فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ) يعني : لا تعودوا باللائمة علي ، وعودوا باللائمة على أنفسكم .
وقوله : ( ^ ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي ) معناه : ما أنا بمعينكم وما أنتم بمعيني ، وقيل [ معناه ] : ما أنا بمنجيكم وما أنتم بمنجي ، وقرأ حمزة : ' وما أنتم بمصرخي ' بكسر الياء ، وأهل النحو لا يرضون هذه القراءة ، وذكر الفراء شعرا يدل على قراءة حمزة . قيل : إنه لغة بني يربوع . والشعر :
( قال لها هل أنت يا باغي ** قالت له ما أنت بالمرضي )
وقوله : ( ^ إني كفرت بما أشركتمون من قبل ) فيه قولان : أحدهما : إني كفرت بجعلكم إياي شريكا في عبادة الله وطاعته ، والقول الثاني : إني كفرت قبل أن أشركتموني في عبادته ، يعني : كفرت قبل كفركم .
وقوله : ( ^ إن الظالمين لهم عذاب أليم ) أي : وجيع .
____________________

( ^ الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم تحيتهم فيها سلام ( 23 ) ألم تر كيف ضرب الله مثلا ) * * * * < < إبراهيم : ( 23 ) وأدخل الذين آمنوا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار ) قد بينا . ( ^ خالدين فيها ) مقيمين فيها أبدا . ( ^ بإذن ربهم ) بأمر ربهم .
قوله : ( ^ تحيتهم فيها سلام ) وفي المحيي بالسلام ثلاثة أقوال :
أحدها : أن المحيي بالسلام هو الله تعالى ، والآخر : هم الملائكة ، والثالث : أن المحيي بالسلام بعضهم على بعض . < < إبراهيم : ( 24 ) ألم تر كيف . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة ) المثل قول سائر لتشبه شيء بشيء في المعنى . وقوله : ( ^ كلمة طيبة ) أجمع المفسرون على أن الكلمة الطيبة هاهنا : لا إله إلا الله .
وقوله : ( ^ كشجرة طيبة ) أكثر أهل التفسير على أن الشجرة الطيبة هاهنا : هي النخلة ، وقد بينت برواية ابن عمر عن النبي أنه قال لأصحابه : ' أخبروني عن شجرة هي مثل المؤمن ؟ فوقعت الصحابة في شجر البوادي . قال ابن عمر : ووقع في نفسي أنها النخلة ، ثم إن النبي قال : هي النخلة . قال ابن عمر : فذكرت لأبي أنه كان وقع في نفسي كذا ، فقال : لو كنت قلته كان أحب إلي من حمر النعم ' .
وفي بعض الأخبار عن النبي أنه قال : ' أكرموا النخلة فإنها عمتكم ' .
ومعناه : أنها خلقت من فضل طينة آدم .
____________________

( ^ كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ( 24 ) تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ( 25 ) ومثل كلمة خبيثة كشجرة ) * * * *
والقول الثاني : أن الشجرة الطيبة شجرة في الجنة ، وقد حكي هذا عن ابن عباس ، وقيل : إن الشجرة الطيبة شجرة جوز الهندي .
وقوله : ( ^ أصلها ثابت ) أي : ثابت في الأرض . وقوله : ( ^ وفرعها في السماء ) أي : أعلاها في السماء . < < إبراهيم : ( 25 ) تؤتي أكلها كل . . . . . > >
وقوله : ( ^ تؤتي أكلها كل حين ) الحين في اللغة هو الوقت ، وفي معنى الحين أقوال : قال ابن عباس : ستة أشهر ؛ لأنها من حين ضرابها إلى حين إطلاعها ، وقال مجاهد : الحين هاهنا هو سنة كاملة ؛ لأن النخلة تثمر كل سنة .
وعن سعيد بن المسيب قال : أربعة أشهر لأنها من حين ظهورها إلى حين إدراكها ، وقال بعضهم : شهران ؛ لأنه من حين يؤكل إلى حين يصرم .
والقول الخامس : أنه غدوة وعشية ؛ لأن ثمر النخلة يؤكل منها أبدا ، إما رطبا ، وإما تمرا وإما بسرا .
وقوله : ( ^ بإذن ربها ) أي : بأمر ربها . وقوله : ( ^ ويضرب الله الأمثال للناس ) موضع المثل أن الإيمان ثابت في القلب ، والعمل صاعد إلى السماء ، كالنخلة ثابت أصلها في الأرض ، وفروعها مرتفعة إلى السماء ، موضع المثل في قوله : ( ^ تؤتي أكلها كل حين ) لأن فائدة الإيمان وبركته لا تنقطع أبدا ، بل تصل إلى المؤمن في كل وقت ، كما أن نفع النخلة وبركتها تصل إلى حاجتها في كل وقت .
واستدل بعضهم على أن النخلة تشبه الآدمي ؛ لأنها محتاجة إلى اللقاح ، كالآدمي لا يولد له حتى يلقح . قوله : ( ^ لعلهم يتذكرون ) أي : يتعظون . < < إبراهيم : ( 26 ) ومثل كلمة خبيثة . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ومثل كلمة خبيثة ) الكلمة الخبيثة هي الشرك . وقوله : ( ^ كشجرة خبيثة ) اختلفوا فيها ، قال أنس بن مالك : هي الحنظلة ، وعن ابن عباس قال : هي الثوم ، وقيل : إنها الكشوثا ، وهي العشقة .
____________________

( ^ خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار ( 26 ) يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت ) * * * *
وقوله : ( ^ اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار ) أي : اقتلعت من فوق الأرض . وقوله : ( ^ ما لها من قرار ) أي : ما لها من ثبات ، وحقيقة المعنى أنه ليس لها أصل ثابت في الأرض ، ولا فرع يصعد إلى السماء ، وموضع المثل معلوم . < < إبراهيم : ( 27 ) يثبت الله الذين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت ) القول الثابت : كلمة التوحيد وهي لا إله إلا الله ، وقال : ( ^ يثبت الله ) لأنه هو المثبت للإيمان في قلوب المؤمنين .
وقوله : ( ^ في الحياة الدنيا ) يعني : قبل الموت . وقوله ( ^ [ و ] في الآخرة ) أي : في القبر ، وعليه أكثر أهل التفسير ، وقد ثبت ذلك عن النبي برواية البراء بن عازب ، وهو قول عبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن عباس ، وجماعة من الصحابة .
واعلم أن سؤال القبر ثابت في السنة ، والإيمان به واجب ، وقد وردت فيه الأخبار الكثيرة ، روى أبو سعيد الخدري : ' أن النبي كان في جنازة ، فذكر لأصحابه أنه يدخل على الرجل في قبره ملكان ويسألانه ، فيقولان : من ربك ؟ وما دينك ؟ ومن نبيك ؟ قال : فأما المؤمن فيقول : ربي الله ، وديني الإسلام ، ونبي محمد . فيفتح له باب إلى النار ، فيقال له : هذا كان مكانك لو قلت غير هذا ، ثم يفتح له باب إلى الجنة ، ويفسح له في قبره مد البصر . وأما الكافر فيقول الملكان له : من ربك ؟ وما دينك ؟ ومن نبيك ؟ فيقول : لا أدري ، فيقولان : لا دريت ولا تليت ، ثم يفتح له باب إلى الجنة ، فيقولان : هذا مكانك لو أجبت ، ثم يفتح له باب إلى النار ، ويضيق عليه القبر حتى تختلف أضلاعه ، ويضربانه بمطرقة من نار فيصيح صيحة يسمعها كل الخلائق إلا الثقلين ' .
____________________

( ^ في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء ( 27 ) ألم تر إلى ) * * * *
وفي بعض الأخبار : ' أن النبي قال : لو نجا أحد من عذاب القبر لنجا سعد بن معاذ ، ولقد ضمه القبر ضمة أو ضمتين ' وروي أن النبي قال لعمر : ' كيف بك إذا أتاك ملكان . . . ' الخبر . فقال : يا رسول الله ، ومعي عقلي ؟ قال : نعم . قال : أكفيهما إذا ' .
وقيل : إن عذاب القبر ثلاثة أثلاث : ثلث من ترك الاستنزاه من البول ، وثلث من الغيبة ، وثلث من المشي بالنميمة . والله أعلم .
وفي الآية قول آخر : أن الحياة الدنيا هي القبر ، وفي الآخرة هي القيامة ، والقول الأول أصح .
وقوله : ( ^ ويضل الله الظالمين ) معناه : أنه لا يهدي المشركين إلى هذا الجواب ، ولا يلقنهم إياه . وقوله : ( ^ ويفعل الله ما يشاء ) من التوفيق والخذلان والتثبيت وترك التثبيت . < < إبراهيم : ( 28 ) ألم تر إلى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا ) الآية [ فيها ] ثلاثة
____________________

( ^ الذين بدلوا نعمت الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار ( 28 ) جهنم يصلونها وبئس القرار ( 29 ) وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار ) * * * * أقوال : أحدها : أنهم كفار قريش ، والآخر : أنهم قادة المشركين ببدر ، قاله ابن عباس ، والثالث : روي عن علي - رضي الله عنه - أنه سئل عن هذه الآية فقال : هم الأفجران بنو المغيرة وبنو أمية : فأما بنو المغيرة فقتلوا يوم بدر ، وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين .
وقوله : ( ^ وأحلوا قومهم دار البوار ) أي : دار الهلاك ، وهي جهنم قال الشاعر :
( إن لقيما وإن قتلا ** وإن لقمان حيث باروا )
يعني : هلكوا . < < إبراهيم : ( 29 ) جهنم يصلونها وبئس . . . . . > > وقوله : ( ^ جهنم يصلونها [ وبئس ] القرار ) ظاهر المعنى . < < إبراهيم : ( 30 ) وجعلوا لله أندادا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وجعلوا لله أندادا ) أي : شركاء وأمثالا ، قال حسان بن ثابت : شعرا :
( أتهجوه ولست له بند ** فشركما لخير كما الفداء )
واعلم أن الله ليس له ضد ولا ند . أما الند الذي هو المثل فمعلوم ، وأما الضد فلأن فيه معنى من المثلية ، والله ليس له مثل بوجه ما .
وقوله : ( ^ ليضلوا عن سبيله ) إنما نسب إليهم الضلالة ، لأنهم سبب في ( الضلال ) ، وهذا كما يقول القائل : فتنتني الدنيا ؛ نسب الفتنة إلى الدنيا ، لأنها سبب في الفتنة . وقوله : ( ^ ليضلوا عن سبيله ) ظاهر المعنى .
وقوله : ( ^ قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار ) قال ابن عباس : لو أن كافرا كان في أشد بؤس وضر لا يهدأ ليلا ولا نهارا ، كان ذلك نعيما في جنب ما يصير إليه في الآخرة ، ولو أن مؤمنا كان في أنعم عيش ، كان ذلك بؤسا في جنب ما يصير إليه في الآخرة .
وقوله : ( ^ فإن مصيركم إلى النار ) أي : مرجعكم إلى النار .
____________________

( ( 30 ) قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال ( 31 ) الله الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار ( 32 ) وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار ) * * * * < < إبراهيم : ( 31 ) قل لعبادي الذين . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة ) هذا خبر بمعنى الأمر ، أي : أقيموا الصلاة . وقوله : ( ^ وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ) يعني : جهرا وغير جهر . وقيل : نفلا سرا ، وفرضا جهرا .
وقوله : ( ^ من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ) قال أبو عبيدة : يعني لا فداء فيه ( ^ ولا خلال ) أي : لا مخالة ولا صداقة ، وهذا معنى قوله تعالى : ( ^ الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ) . < < إبراهيم : ( 32 ) الله الذي خلق . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ الله الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم ) ظاهر المعنى .
وقوله : ( ^ وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره ) أي : بعلمه وإذنه .
وقوله : ( ^ وسخر لكم الأنهار ) أي : ذلل لكم الأنهار تجرونها حيث شئتم .
وقوله : ( ^ وسخر لكم الشمس والقمر دائبين ) وذلك لكم ، وتسخير الشمس والقمر هو جريانهما على وتيرة واحدة فيما يعود إلى مصالح العباد .
وقوله : ( ^ دائبين ) معناه : أنهما لا يفتران ولا يقفان ، والدأب في الشيء هو الجري على عادة واحدة . < < إبراهيم : ( 33 ) وسخر لكم الشمس . . . . . > >
وقوله : ( ^ وسخر لكم الليل والنهار ) ظاهر المعنى . < < إبراهيم : ( 34 ) وآتاكم من كل . . . . . > > وقوله : ( ^ وآتاكم من كل ما سألتموه ) قرىء بقراءتين ، المعروف : ( ^ من كل ما سألتموه ) ، ويقرأ : ' من كل ما سألتموه ' بالتشديد والتنوين ، فالقول المعروف معناه : يعني من كل الذي سألتموه .
فإن قال قائل : نحن نسأله أشياء ولا يعطينا ؟ والجواب : أن جنسه يعطي الآدميين
____________________

( ( 33 ) وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار ( 34 ) وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ) * * * * وإن لم يعطه على التعيين ؛ فاستقام الكلام على هذا ، وقيل معناه : من كل ما سألتموه ، ولم تسألوه . وأما القراءة الثانية ، فمعنى ' ما ' هو النفي ، ومعناه : أعطاكم أشياء لم تسألوها ، فإن الله تعالى أعطانا الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم والرياح ، وما أشبه ذلك ولم نسأله شيئا منها .
وقوله : ( ^ وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) قال أبو العالية : معناه : لا تطيقوا عدها ، وقيل : لا تطيقون شكرها .
وقوله : ( ^ إن الإنسان لظلوم كفار ) يعني : ظالم لنفسه كافر بربه ، ويقال : إن هذه الآية نزلت في أبي جهل خاصة ، ويقال : إنها نزلت في جنس الكفار ، ويجوز أن يذكر الإنسان ويراد به جنس الناس ، قال الله تعالى : ( ^ والعصر إن الإنسان لفي خسر ) وقيل : [ الظالم ] هو الذي يشكر غير من أنعم عليه ، والكافر هو الذي يجحد منعمه . < < إبراهيم : ( 35 ) وإذ قال إبراهيم . . . . . > >
قوله : ( ^ وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا ) أجمعوا أن البلد هو مكة ، وقوله : ( ^ آمنا ) أي : ذا أمن .
وقوله : ( ^ واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ) معناه : بعدني وبني من عبادة الأصنام ، فإن قال قائل : قد كان إبراهيم معصوما عن عبادة الأصنام ، فكيف يستقيم سؤاله لنفسه ، وقد عبد كثير من بنيه الأصنام ، فأين الإجابة ؟
الجواب : أما في حق إبراهيم ، فالدعاء لزيادة العصمة والتثبيت ، وأما في حق البنين فيقال : إن الدعاء لبنيه من الصلب ، ولم يعبد أحد منهم الصنم ، وقيل : إن دعاءه لمن كان مؤمنا من بنيه .
____________________

( ( 35 ) رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ( 36 ) ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم ) * * * * < < إبراهيم : ( 36 ) رب إنهن أضللن . . . . . > >
وقوله : ( ^ رب إنهن أضللن كثيرا من الناس ) نسب الضلالة إليهن لما بينا من المعنى . وقوله : ( ^ فمن تبعني فإنه مني ) أي : من أهل ديني .
وقوله : ( ^ ومن عصاني فإنك غفور رحيم ) يحتمل وجهين :
أحدهما : أنه قال هذا قبل أن يعلمه الله أنه لا يغفر الشرك .
والآخر : أن المراد من العصيان هو ما دون الشرك . < < إبراهيم : ( 37 ) ربنا إني أسكنت . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ربنا إني أسكنت ) يعني : أنزلت . قوله تعالى : ( ^ من ذريتي ) الذرية هاهنا إسماعيل عليه السلام وأمه هاجر .
وفي القصة : أنه حمل هاجر وإسماعيل وهو طفل يرضع ، وكانوا ثلاثتهم على البراق ، فجاء بهم إلى موضع البيت ، وهي مدرة حمراء ، فقال له جبريل : هاهنا أمرت . فأنزل إسماعيل وأمه في موضع الحجر ، ومضى راجعا إلى الشام ، فنادته هاجر ، يا خليل الله ، إلى من تكلنا ؟ قال : إلى الله تعالى . قالت : قد قبلنا ذلك ، والقصة في هذا معروفة .
وقوله : ( ^ بواد غير ذي زرع ) قال هذا لأن مكة بين جبلين ، وهي واد .
وقوله : ( ^ عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة ) سماه محرما ؛ لأنه يحرم عنده ما لا يحرم عند غيره .
وقوله : ( ^ فاجعل أفئدة من الناس ) الأفئدة جمع الفؤاد ، قال ابن عباس : لو قال ' أفئدة الناس ' لزاحمتكم [ فارس ] والروم ، وفي رواية : الترك والديلم ، وفي رواية عن غيره : لحجت اليهود والنصارى والمجوس .
وقوله : ( ^ تهوي إليهم ) أي : تحن إليهم ، قال السدي معناه : أمل قلوبهم إلى هذا
____________________

( ^ يشكرون ( 37 ) ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء ( 38 ) الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء ( 39 ) رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء ) * * * * لموضع ؛ فإن الإنسان يميل مع قلبه حيث مال .
وقوله : ( ^ وارزقهم من الثمرات ) في بعض الأخبار : أن الله تعالى قلع قرية من الشام بأشجارها وأرضها فوضعها بمكان الطائف . وقوله : ( ^ لعلهم يشكرون ) ظاهر المعنى . < < إبراهيم : ( 38 ) ربنا إنك تعلم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء ) ظاهر المعنى . < < إبراهيم : ( 39 ) الحمد لله الذي . . . . . > >
وقوله : ( ^ الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق ) . في القصة : أن إسماعيل ولد له وهو ابن تسع وتسعين سنة ، وإسحاق ولد له بعد ذلك بثلاث عشرة سنة . ويقال : إن إسماعيل ولد له بعد أن بلغ سنة مائة [ وسبع ] عشرة سنة . وقوله : ( ^ إن ربي لسميع الدعاء ) ظاهر المعنى . < < إبراهيم : ( 40 ) رب اجعلني مقيم . . . . . > >
قوله : ( ^ رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ) يعني : ممن يقيم الصلاة بحدودها وأركانها ، ويحافظ عليها . قوله : ( ^ ومن ذريتي ) معناه : واجعل من ذريتي من يقيمون الصلاة . قوله : ( ^ ربنا وتقبل دعاء ) أي : واستجب دعائي . < < إبراهيم : ( 41 ) ربنا اغفر لي . . . . . > >
قوله : ( ^ ربنا اغفر لي ولوالدي ) قرأ سعيد بن جبير : ( ^ ولوالِديّ ) ، وقرأ إبراهيم النخعي ويحيى بن يعمر : ' ولوالدتي ' ، والمعروف : ( ^ ولوالدي ) .
فإن قال قائل : كيف استغفر لوالديه ولم يكونا آمنا ؟
والجواب عنه : قد قيل : إن أمه قد أسلمت ، وأما الوالد فإنما استغفر له قبل أن يتبين له أنه مقيم على الشرك ، وقد بينا هذا من قبل ، وقيل : ولوالدي آدم وحواء ، وقيل : نوح وأم إبراهيم .
____________________

( ( 40 ) ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب ( 41 ) ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار ( 42 ) مهطعين مقنعي ) * * * *
وفي تفسير الدمياطي : أن قوله : ( ^ ولوالدي ) أي : لولدي ، قال ابن فارس : ويجوز هذا في اللغة ، وهو أن يذكر الوالد بمعنى المولود ، كما يقال : ماء دافق أي : مدفوق . وقوله : ( ^ وللمؤمنين ) ظاهر المعنى .
وقوله : ( ^ يوم يقوم الحساب ) أي : يوم يحاسب الله الخلق . < < إبراهيم : ( 42 ) ولا تحسبن الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون ) الآية . الغفلة معنى يمنع الإنسان من الوقوف على حقيقة الأمور . وروي عن ابن عباس أنه قال : هذه الآية تعزية للمظلوم وتسلية له ، وتهديد للظالم .
وقوله : ( ^ إنما يؤخرهم ) معناه : إنما يمهلهم . وقوله : ( ^ ليوم تشخص فيه الأبصار ) يعني : من الدهش والحيرة وشدة الأمر ، ومعنى تشخص أي : ترتفع وتزول عن أماكنها . < < إبراهيم : ( 43 ) مهطعين مقنعي رؤوسهم . . . . . > >
وقوله ( ^ مهطعين ) الأكثرون أن معناه مسرعين ، وقال أبو العباس أحمد بن يحيى الثعلب : الإهطاع هو النظر في ( الذل والخضوع ) . وقيل : مهطعين أي : مديمي النظر لا يطرفون . ومعنى الإسراع الذي ذكرنا هو أنهم لا يلتفتون يمينا ولا شمالا ، ولا يعرفون مواطن أقدامهم ، وليس لهم همة ولا نظر إلى ما يساقون إليه .
وقوله : ( ^ مقنعي رءوسهم ) يقال : أقنع رأسه أي : رفعه ، وأقنع رأسه إذ خفضه ، فإن كان المراد هو الرفع فمعناه : أن أبصارهم إلى السماء ينظرون ماذا يرد عليهم من الله تعالى ، وإن حمل الإقناع على خفض الرأس فمعناه : مطرقون ناكسون ، قال الشاعر :
( نغض رأسي نحوه وأقنعا ** كأنما يطلب شيئا أطمعا )
وقال المؤرج : رفعوا رءوسهم حتى كادوا يضعونها على أكتافهم .
____________________

( ^ رءوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء ( 43 ) وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال ( 44 ) وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم ) * * * *
وقوله ( ^ لا يرتد إليهم طرفهم ) يعني : لا يرجع إليهم طرفهم ، فكأنه ذهلهم ما بين أيديهم فلا ينظرون لشيء سواه .
وقوله : ( ^ وأفئدتهم هواء ) قال أبو عبيدة : متخرقة لا تعي شيئا ، وقال قتادة : خرجت قلوبهم عن صدورهم حتى بلغت الحناجر من شدة ذلك اليوم وهوله فهذا معنى قوله : ( ^ وبلغت القلوب الحناجر ) ، فعلى هذا قوله : ( ^ وأفئدتهم هواء ) أي : خالية ، ومنه سمي الجو هواء لخلوه ، وقيل : خالية عن العقول ؛ فكأنها ذهبت من الفزع والخوف .
وقال سعيد بن جبير : ' وأفئدتهم هواء ' أي : مترددة لا تستقر في مكان ، وقيل : هواء أي : متخربة من الجبن والفزع . قال حسان بن ثابت :
( ألا أبلغ أبا سفيان عني ** فأنت مجوف نخب هواء )
حقيقة المعنى من الآية أن القلوب زائلة عن أماكنها ، والأبصار شاخصة من هول ذلك اليوم . < < إبراهيم : ( 44 ) وأنذر الناس يوم . . . . . > >
وقوله : ( ^ وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب ) يعني : خوف الناس .
قوله : ( ^ فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب ) معناه : أمهلنا .
وقوله : ( ^ إلى أجل قريب ) هذا سؤال الرجعة ، كأنهم سألوا ردهم إلى الدنيا .
وقوله : ( ^ نجب دعوتك ونتبع الرسل ) ظاهر المعنى . وقوله : ( ^ أو لم تكونوا أقسمتم ) أي حلفتم في الدنيا . وقوله : ( ^ من قبل ما لكم من زوال ) يعني : ليس لكم بعث ولا جزاء ولا حساب . < < إبراهيم : ( 45 ) وسكنتم في مساكن . . . . . > >
وقوله : ( ^ وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم ) أي : ظلموا أنفسهم
____________________

( ^ وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال ( 45 ) وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ( 46 ) فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله ) * * * * فأهلكناهم . وقوله : ( ^ وتبين لكم كيف فعلنا بهم ) يعني : عرفتم عقوبتنا إياهم .
وقوله : ( ^ وضربنا لكم الأمثال ) أي : الأشباه ، ومعناه : بينا أن مثلكم كمثلهم . < < إبراهيم : ( 46 ) وقد مكروا مكرهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وقد مكروا مكرهم ) أي : كادوا كيدهم .
وقوله : ( ^ وعند الله مكرهم ) أي : عند الله جزاء مكرهم .
وقوله : ( ^ وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ) قرئ بقرائتين : ' لتزول ' و ' لتزول ' قرأه الكسائي وحده بنصب اللام .
أما قوله : ( ^ لتزول ) - بكسر اللام وعليه الأكثرون - معناه : وما كان مكرهم لتزول منه الجبال ، يعني : أن مكرهم لا يزيل أمر محمد الذي هو ثابت كثبوت الجبال .
وقيل : إن معنى الآية بيان ضعف كيدهم ومكرهم ، وأنه لا يبلغ هذا المبلغ ، وأما قوله : ' وإن كان مكرهم لتزول ' بنصب اللام الأول ورفع الثاني معناه : أن مكرهم لو بلغ في العظم بمحمد يزيل الجبال لم يقدروا على إزالة أمر محمد . وقرأ عمر وابن مسعود وابن عباس وجماعة : ' وإن كاد مكرهم لتزول منه الجبال : . وعن أبي بن كعب أنه قرأ : ' ولولا كلمة الله لزال بمكرهم الجبال ' .
وعن علي رضي الله عنه في معنى الآية : وهو أنها نزلت في نمروذ حين قال : لأصعدن السماء ، واتخذ النسور وجوعها ثم اتخذ تابوتا ، ونصب خشبات في أطرافها ، وجعل على رءوسها اللحم ، ثم ربط قوائم النسور على الخشبات وخلاها ، فاستعلت النسور ، وقد جلس نمروذ في التابوت مع حاجبه ، وقيل : مع غلام له ، وللتابوت بابان : باب من أعلى ، وباب من أسفل ، وقال : فلما صعدت النسور في السماء ، ومضى على ذلك يوم ، قال لغلامه : افتح الباب السفلى ، فإذا الأرض
____________________

( ^ إن الله عزيز ذو انتقام ( 47 ) يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله ) * * * * كاللجة ، فقال : افتح الباب الأعلى فإذا السماء كما هي ، ثم مر [ يوم ] آخر فقال : افتح الباب الأسفل ففتح فإذا الأرض كالدخان ، فقال : افتح الباب الأعلى ففتح فإذا السماء كما هي ، فأمر غلامه حتى يصوب رءوس النسور والخشبات ، فجاء التابوت إلى جانب الأرض وله هدة عظيمة ، فخافت الجبال أنه جاء من السماء أمر ، وكادت تزول عن أماكنها ، فهذا معنى قوله : ( ^ وإن كان مكرهم لتزول ) - بنصب اللام الأولى ورفع الثاني - ( ^ منه الجبال ) .
وفي الآية قول آخر - وهو قول قتادة - أن معناها : وإن كان شركهم لتزول منه الجبال ، وهو معنى قوله تعالى ( ^ تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا ) . < < إبراهيم : ( 47 ) فلا تحسبن الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله ) قيل : هذا من المقلوب ومعناه : مخلف رسله وعده . قوله : ( ^ إن الله عزيز ذو انتقام ) قد بينا المعنى . < < إبراهيم : ( 48 ) يوم تبدل الأرض . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا ) قال ابن مسعود : تبدل هذه الأرض بأرض بيضاء كالفضة لم يسفك عليها دم ، ولم يعمل فيها بخطيئة ، وأما السماء تبدل بسماء من ذهب .
والقول الثاني : قاله أبو جعفر محمد بن علي الباقر ومحمد بن كعب : أنه تبدل الأرض بأرض من خبزة يأكلون منها ، وقرأ أبو جعفر : ( ^ وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام ) والقول المعروف في الآية أن تبديل الأرض هو تغييرها من هيئة إلى هيئة ، كالرجل يقول لغيره : تبدلت بعدي ، أي : تغيرت هيئتك وحالك . وتغيير الأرض بتسيير جبالها ، وطم أنهارها ، وتسوية أوديتها ، وقلع أشجارها وجعلها قاعا
____________________

( ^ الواحد القهار ( 48 ) وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد ( 49 ) سرابيلهم من ) * * * * صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ، وأما تبديل السموات بتغيير حالها ، وذلك بتكوير شمسها وقمرها ، وانتثار نجومها ، وكونها مرة كالدهان ، وهو الأديم الأحمر ، ومرة كالمهل ، وقيل : إن معنى التبديل هو أنه يجعل السموات جنانا والأرضين نيرانا ، وقد صح عن النبي برواية مسروق عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : ' يا رسول الله ، قوله تعالى : ( ^ يوم تبدل الأرض غير الأرض ) أين يكون الناس حينئذ ؟ فقال عليه السلام : على الصراط ' وإذا ثبت هذا فالأولى هو هذا القول .
أخبرنا بهذا الحديث أبو علي الحسن بن عبد الرحمن الشافعي ، قال أبو الحسين بن فارس ، قال أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن يزيد المقريء قال : حدثنا جدي محمد بن عبد الله ، قال : نا سفيان بن عيينة ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، عن مسروق ، عن عائشة عن النبي . . . الخبر .
وقوله : ( ^ وبرزوا لله الواحد القهار ) معناه : وخرجوا من قبورهم لله الواحد القهار يحكم فيهم بما أراد . < < إبراهيم : ( 49 ) وترى المجرمين يومئذ . . . . . > >
قوله : ( ^ وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد ) يقال : صفده إذا قيده ، وأصفده إذا أعطاه ، قال الأعشى :
( تضيفته يوما فأكرم مقعدي ** وأصفدني على الزمانة قائدا )
أصفدني أي : أعطاني . وقوله : ( ^ مقرنين ) أي : مجعولين بعضهم مع بعض في السلاسل والأقياد ، وقيل : إنه يقرن كل كافر مع شيطان في كل سلسلة وقيد ، ذكره الكلبي ، ويقال : تجمع رجلاه إلى عنقه ويغل ، فهو معنى قوله : ( ^ مقرنين في الأصفاد ) .
____________________

( ^ قطران وتغشى وجوههم النار ( 50 ) ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب ( 51 ) هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب ( 52 ) ) * * * * < < إبراهيم : ( 50 ) سرابيلهم من قطران . . . . . > >
وقوله : ( ^ سرابيلهم من قطران ) أي : قميصهم من قطران ، والقطران ما تهنأ به الإبل ، وقرأ ابن عباس وعكرمة : ' من قطرآن ' أي : من صفر مذاب ، ( قال ) : انتهى حره . وقيل : من نحاس مذاب قد انتهى حره . قال أهل المعاني : وإنما ذكر أن قميصهم من قطران ؛ لأن النار إليه أسرع اشتعالا .
وقوله : ( ^ وتغشى وجوههم النار ) معناه : وتعلو وجوههم النار ، وقيل : تصلى . < < إبراهيم : ( 51 ) ليجزي الله كل . . . . . > >
وقوله : ( ^ ليجزي الله كل نفس بما كسبت ) يعني : ما كسبت من خير وشر .
وقوله : ( ^ إن الله سريع الحساب ) معناه : سريع المجازاة ، وحقيقة الحساب إحصاء ما عمله الإنسان من خير أو شر ليجازي عليه . < < إبراهيم : ( 52 ) هذا بلاغ للناس . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ هذا بلاغ للناس ) يعني : هذا القرآن ، وهذا الذي أنزلته عليك بلاغ للناس ، أي : فيه تبليغ للناس . قوله : ( ^ ولينذروا به ) أي : [ و ] ليخوفوا به .
وقوله : ( ^ وليعلموا أنما هو إله واحد ) أي : ليستدلوا بهذه الآيات على وحدانية الله تعالى .
وقوله : ( ^ وليذكر أولو الألباب ) معناه : وليتعظ أولو الألباب - أي أولو العقول - ، وفي بعض التفاسير : أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه . والله أعلم .
____________________

<
> بسم الله الرحمن الرحيم <
> ( ^ الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين ( 1 ) ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ) <
> * * * * <
> تفسير سورة الحجر وهي مكية <
> < < الحجر : ( 1 ) الر تلك آيات . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ الر ) معناه : أنا الله أرى ، وقيل : ' الر ' ، و ' حم ' و ' ن ' هو الرحمن . ( ^ تلك آيات الكتاب ) معناه : هذه آيات الكتاب .
( ^ وقرآن مبين ) معناه : أنه يبين الحلال من الحرام ، والحق من الباطل ، فإن قال قائل : القرآن هو الكتاب ، والكتاب هو القرآن ، فأيش فائدة الجمع بينهما ؟
الجواب : أن كل واحد منهما يفيد معنى لا يفيده الآخر ، فإن الكتاب هو ما يكتب ، والقرآن هو ما يجمع بعضه إلى بعض ، وقيل : إن المراد من الكتاب هو التوراة والإنجيل ، والقرآن هو الذي أنزله الله تعالى على محمد . < < الحجر : ( 2 ) ربما يود الذين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ) اعلم أن كم للتكثير ، ورب للتقليل ، ويقال : ربما للتشديد ، وربما بالتخفيف ، وربتما بالتاء بمعنى واحد . قال الشاعر :
( ماوي يا ربتما غارة ** شعواء كاللذعة بالميسم )
وقد فصل بعضهم بين رب وربما ، قال : رب تدخل على الاسم ، وربما على الفعل ، فقال : رب رجل جاءني ، ويقال : ربما جاءني .
واختلف القول في الحال الذي يتمنى الكفار هذا ، - والود هو التمني - [ فالقول ] الأول : أنه في حال المعاينة ، وهذا قول الضحاك .
والقول الثاني : أنه يوم القيامة ، والقول الثالث - وهو الأشهر - : أنه حين يخرج
____________________

( ^ ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون ( 3 ) وما أهلكنا من قرية ) * * * * الله المؤمنين من النار . وفي الأخبار المسندة برواية أبي موسى الأشعري عن النبي قال : ' يدخل الله قوما - من أهل القبلة النار مع الكفار فيمكثون فيها ما شاء الله ؛ فيقول الكفار لهم : أنتم مسلمون ، فيقولون : نعم ، فيقول الكفار : ما أغنى عنكم إسلامكم شيئا ، وأنتم معنا في النار ، فيقولون : نحن أذنبنا ذنوبا فأخذنا بها ، فيسمع الله تعالى ذلك كله ، فيقول : أخرجوا من النار من كان مسلما - وفي رواية : من قال لا إله إلا الله - فيخرجون ، فحينئذ يتمنى الكفار لو كانوا مسلمين ' . وفي بعض الروايات : ' أن الكفار إذا قالوا للمسلمين هذه المقالة ؛ يغضب الله تعالى لقولهم ، فيقول : أخرجوا . . . ، على ما بينا .
فإن قال قائل : إذا كانت ربما للتقليل ، فكيف يقل تمنيهم هذا ، ونحن نعلم حقيقة أن كلهم يتمنون هذا ، وأن هذا التمني منهم يكثر ؟
والجواب : أن العرب قد تذكر هذا اللفظ وتريد به التكثير ، يقول القائل لغيره : ربما تندم على هذا الفعل ، وهو يعلم أنه يكثر منه الندم عليه ، ويكون المعنى : إنك لو ندمت قليلا لكان القليل من الندامة يكفيك للاجتناب عنه ، فكيف الكثير ؟ ! .
والجواب الثاني : أن شغلهم بالعذاب لا يفرغهم للندامة ، وفي بعض الآحايين ربما يقع لهم هذا الندم ، ويخطر ببالهم . < < الحجر : ( 3 ) ذرهم يأكلوا ويتمتعوا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ) الآية . هذا تهديد ووعيد ، والأكل معلوم ، وأما التمتع هو التلذذ بطلبه حالا بعد حال ( كالتعرب ) هو طلبه حالا بعد حال . قوله : ( ^ ويلههم الأمل ) أي : يشغلهم الأمل عن الآخرة .
____________________

( ^ إلا ولها كتاب معلوم ( 4 ) ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون ( 5 ) وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون ( 6 ) لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين ( 7 ) ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين ( 8 ) إنا نحن نزلنا الذكر ) * * * *
قوله : ( ^ فسوف يعلمون ) تهديد آخر ، وقد قال بعض أهل العلم : ' ذرهم ' تهديد . وقوله : ( ^ فسوف يعلمون ) تهديد آخر ، فمتى يهنأ العيش بين تهديدين ؟ . < < الحجر : ( 4 ) وما أهلكنا من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم ) أي : أجل مضروب لا يتقدم عليه ولا يتأخر عنه . < < الحجر : ( 5 ) ما تسبق من . . . . . > > وقوله : ( ^ ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون ) معناه : أن العذاب المضروب لا يتقدم على وقته ، ولا يتأخر عن وقته ، وقيل : هذا في الموت أنه لا يتقدم ولا يتأخر عن وقته . < < الحجر : ( 6 ) وقالوا يا أيها . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون ) الذكر هو القرآن . وقوله : ( ^ إنك لمجنون ) خطابهم مع النبي .
وقوله ' ( ^ يا أيها الذي نزل عليه الذكر ) إنما قالوه على طريق الاستهزاء ؛ لأنهم لو قالوا ذلك على طريق التحقيق لآمنوا به . < < الحجر : ( 7 ) لو ما تأتينا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ لو ما تأتينا بالملائكة ) أي : هلا تأتينا بالملائكة ، قال الشاعر :
( تعدون ( قعر ) النيب أفضل مجدكم ** بنى ( طوطبري ) لولا الكمي المقنعا )
أي : هلا تعدون الكمي المقنعا .
وقوله : ( ^ إن كنت من الصادقين ) معناه : أنك نبي . < < الحجر : ( 8 ) ما ننزل الملائكة . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ما ننزل الملائكة إلا بالحق ) الحق الذي تنزل به الملائكة هو الوحي ، وقبض [ أرواح ] العباد ، وإهلاك الكفار ، وكتبة الأعمال ، وما أشبه ذلك .
وقوله : ( ^ وما كانوا إذا منظرين ) أي : مؤخرين ، وقد كان الكفار يطلبون إنزال
____________________

( ^ وإنا له لحافظون ( 9 ) ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين ( 10 ) وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزءون ( 11 ) كذلك نسلكه في قلوب المجرمين ( 12 ) لا ) * * * * الملائكة عيانا ، فأجابهم الله تعالى بهذا ، ومعناه : أنهم لو نزلوا عيانا زال الإمهال عن الكفار وعذبوا في الحال . < < الحجر : ( 9 ) إنا نحن نزلنا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إنا نحن نزلنا الذكر ) يعني : القرآن ( ^ وإنا له لحافظون ) فيه قولان : أحدهما : أنا نحفظ محمدا ، والآخر : أنا نحفظ القرآن ، وهو الأليق بظاهر اللفظ ، ومعنى حفظ القرآن أنه يمنع من الزيادة فيه أو النقصان عنه ، قال الله تعالى ( ^ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ) والباطل هو إبليس ، ومعناه : أن إبليس لا يقدر أن يزيد فيه ما ليس منه ، ولا أن ينقص عنه ما هو منه . < < الحجر : ( 10 ) ولقد أرسلنا من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين ) الشيعة : هم القوم المجتمعة المتفقة كلمتهم ، ومعناه هاهنا : في أمم الأولين . < < الحجر : ( 11 ) وما يأتيهم من . . . . . > >
وقوله : ( ^ وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون ) هذا تسلية للنبي ، ومعناه : أنهم كما استهزءوا بك فقد استهزىء بالأنبياء من قبلك . < < الحجر : ( 12 ) كذلك نسلكه في . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ كذلك نسلكه في قلوب المجرمين ) قال الحسن : كذلك نسلك الشرك في قلوب المجرمين ، ونسلك ، أي : ندخل ، وقال مجاهد : نسلك التكذيب ، ومعنى كاف التشبيه ، أي : كما فعلنا بالكفار من قبل هؤلاء ، كذلك نفعل بهؤلاء الكفار . وقد قال بعضهم : إن معنى قوله : ( ^ كذلك نسلكه ) أي : نسلك القرآن ، ومعناه : أنه لما أعطاهم ما يفهمون به القرآن ، فكأنه سلك القرآن في قلوبهم . والمنقول عن السلف هو القول الأول ، وهو رد على القدرية صريحا . < < الحجر : ( 13 ) لا يؤمنون به . . . . . > >
وقوله : ( ^ لا يؤمنون به ) يعني بالنبي والقرآن . ( ^ وقد خلت سنة الأولين ) أي : مضت سنة الأولين ، وسنة الأولين : هو الإهلاك عند تكذيب الأنبياء .
____________________

( ^ يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين ( 12 ) ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون ( 14 ) لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون ( 15 ) ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين ( 16 ) وحفظناها من كل شيطان رجيم ( 17 ) إلا من ) * * * * < < الحجر : ( 14 ) ولو فتحنا عليهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولو فتحنا عليهم بابا من السماء ) ظاهر المعنى . وقوله : ( ^ فظلوا فيه يعرجون ) يقال : ظل يفعل كذا إذا فعله نهارا ، وبات يفعل كذا إذا فعله ليلا .
وقوله : ( ^ يعرجون ) يصعدون ، يقال : عرج يعرج إذا صعد ، وعرج يعرج إذا صار أعرج ، واختلف القول في المعنى بقوله : ( ^ فظلوا ) الأكثرون على أنهم الملائكة ، والقول الآخر أنهم المشركون . < < الحجر : ( 15 ) لقالوا إنما سكرت . . . . . > > وقوله : ( ^ لقالوا إنما سكرت أبصارنا ) قرىء بقراءتين ' سُكِّرت ' ' سُكِرت ' مخفف ، فمعنى التخفيف أي : سحرت ، ومعنى التشديد أي : سدت وأخذت ، وقيل : عميت ، قال عمرو بن العلاء : هو مأخوذ من السكر ، يعني : كما أن السكر يغطي على عقولنا ، كذلك هذا غطي على أبصارنا . وقوله : ( ^ بل نحن قوم مسحورون ) أي : مخدوعون ، وقيل معناه : عمل فينا السحر . < < الحجر : ( 16 ) ولقد جعلنا في . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولقد جعلنا في السماء بروجا ) البروج : هي النجوم الكبار ، وهو مأخوذ من الظهور ، يقال : تبرجت المرأة إذا ظهرت . ويقال : إنها المنازل ، ويقال : إنها البروج الإثنا عشر ، ويقال : إنها السبع السيارة ، وعن عطية العوفي : أنها قصور في السماء عليها الحرس . قوله : ( ^ وزيناها للناظرين ) ظاهر المعنى . < < الحجر : ( 17 ) وحفظناها من كل . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وحفظناها من كل شيطان رجيم ) ذكر الكلبي أن السموات لم تكن محفوظة من الشياطين قبل عيسى ، فلما بعث عيسى - عليه السلام - حفظت ثلاثة من السموات ، فلما بعث محمد حفظت السموات كلها . وقوله : ( ^ رجيم ) أي : مرجوم ، وقيل : أي : ملعون ، وقيل : شتيم . < < الحجر : ( 18 ) إلا من استرق . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ إلا من استرق السمع ) في الأخبار : أن الشياطين يركب بعضهم بعضا إلى السماء الدنيا ، ويسترقون السمع من الملائكة ؛ فترجمهم الكواكب فتقتل
____________________

( ^ استرق السمع فأتبعه شهاب مبين ( 18 ) والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها ) * * * * البعض وتخبل البعض ' . واختلف القول في أنهم متى يسترقون السمع ؟ فأحد القولين : أنهم يسترقون السمع من الملائكة في السماء ، والقول الآخر : أنهم يسترقون السمع من الملائكة في الهواء . وأما معرفة ملائكة السماء بالأمر فباستخبارهم ملائكة أهل السماء الثانية ، هكذا يستخبر أهل كل سماء من أهل السماء [ التي ] فوقهم ، حتى يصلوا إلى حملة العرش فيخبرون بما قضاه الله تعالى من الأمر ، ويرجع الخبر من سماء إلى سماء حتى يصل إلى السماء الدنيا ، ثم الشياطين يسترقون على ما قلنا من قبل .
وقوله : ( ^ فأتبعه شهاب مبين ) الشهاب هو الشعلة من النار ، فإن قال قائل : نحن لا نرى نارا ، وإنما نرى نورا أو نجما ينقض .
والجواب : أنه يحتمل أنه ينقض نورا ، فإذا وصل إليه صار نارا ، أو يحتمل أنه يرى من بعد المكان أنه نجم وهو نار ، وقيل : إن النجم ينقض فيرمي الشيطان ثم يعود إلى مكانه . واعلم أن هذا لم يكن ظاهرا في زمن الأنبياء قبل الرسول ، ولم يذكره شاعر من العرب قبل زمان النبي ، وإنما روي هذا في ابتداء أمر النبي ، وكان ذلك أساسا لنبوته ، وإنما ذكر الشعراء ذلك في زمانه ، قال الشاعر :
( كأنه كوكب في إثر عفرية ** مسوم في سواد الليل منقضب ) < < الحجر : ( 19 ) والأرض مددناها وألقينا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ والأرض مددناها ) معناه : بسطناها ، ويقال : إنها مسيرة خمسمائة سنة في مثلها ، دحيت من تحت الكعبة .
وقوله : ( ^ وألقينا فيها رواسي ) أي : جبالا ثوابت ، وقد كانت الأرض تميل إلى أن أرساها الله بالجبال .
____________________

( ^ من كل شيء موزون ( 19 ) وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين ( 20 ) وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم ( 21 ) وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا ) * * * *
وقوله : ( ^ وأنبتنا فيها من كل شيء موزون ) أي : معلوم ، ويقال : من كل شيء موزون معناه : من الحديد والرصاص والنحاس والذهب والفضة وكل ما يوزن . < < الحجر : ( 20 ) وجعلنا لكم فيها . . . . . > >
وقوله : ( ^ وجعلنا لكم فيها معايش ) قيل : إنها المطاعم والمشارب والملابس ، وقيل : إنها ما يعش به المرء في الدنيا ، قال جرير شعرا :
( تطالبني معيشة آل زيد ** ومن لي ( بالمرقق والصناب ) )
الضباب من الآجار ، وغير ذلك من ( اللوامخ ) ( ^ ومن لستم له برازقين ) معناه : جعلنا فيها معايش لكم ، وجعلنا فيها من لستم ( فيها ) برازقين ، وهي الدواب والطيور والوحوش . وفي الآية قول آخر : وهو أنا جعلنا لكم فيها معايش ، وجعلنا لكم أيضا الدواب والطيور والأنعام ، وكفيناكم رزقها ، فإن قال قائل : قد قال : ' ومن لستم له برازقين ' ، و ' من ' إنما تقال فيمن يعقل لا فيمن لا يعقل ؟ .
والجواب عنه : أن العبيد والمماليك قد دخلوا في هؤلاء ، والعرب إذا جمعت بين من يعقل وبين من لا يعقل غلبت من يعقل . < < الحجر : ( 21 ) وإن من شيء . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإن من شيء إلا عندنا خزائنه ) يعني : مفاتيح خزائنه ، وقيل : إنها نفس الخزائن ، ومعنى الخزائن أنه إذا قال : كن كان .
قوله : ( ^ وما ننزله إلا بقدر معلوم ) أي : إلا بقدر معلوم في وقت معلوم ، ويقال : إنه لا تنزل قطرة من السماء إلا ومعها ملك يسوقها حيث يريد الله ، والله أعلم .
____________________

( ^ من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين ( 22 ) وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن ) * * * * < < الحجر : ( 22 ) وأرسلنا الرياح لواقح . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وأرسلنا الرياح لواقح ) قال أبو عبيدة : ملاقح واحدتها ملقحة ، وقال غيره : هي لواقح واحدها لاقح ، ومعنى اللاقح أنها تحمل الماء ، ومعنى الملقح أنها تمر على السحاب والأرض فتلقحه ، وإلقاح السحاب هو أن يلقي إلى السحاب ما يحمل به الماء ، وقيل : إنها تلقح الأشجار أيضا .
وقال ابن مسعود : إن الريح تحمل الماء فتجريه السحاب ؛ فتدر السحاب ، كما تدر اللقحة ، وعن عبيد بن عمير أنه قال : تجىء الريح المبشرة فتقم الأرض قما ، ثم تجىء الريح المنشأة فتنشىء السحاب نشئا ، ثم تجيء الريح المؤلفة فتؤلف السحاب بعضه إلى بعض ، ثم تجيء الريح اللاقحة فتلقح السحاب . ( وفى ) : أن لقح الرياح ؛ الجنوب .
وفي بعض الآثار : ' ما هبت ريح الجنوب إلا وأنبعت عينا غرقة غدقة ' ، وأما الريح العقيم هي التي لا تلقح وتأتي بالعذاب .
وقوله : ( ^ وأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه ) يعني : أعطينا لكم بها سقيا ، يقال : أسقى فلانا إذا جعل له سقيا ، وسقى فلانا إذا أعطاه ما يشرب .
وقوله : ( ^ وما أنتم له بخازنين ) يعني : أنه في خزائننا ، وليس في خزائنكم ، وقيل : وما أنتم له بمانعين ولا دافعين ( أي : أردتموه ) . < < الحجر : ( 23 ) وإنا لنحن نحيي . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون ) ظاهر المعنى . وقوله : والوارث في صفات الله أنه الباقي بعد هلاك الخلق أجمعين ، وقيل معناه : أن مصير
____________________

( ^ الوارثون ( 23 ) ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين ( 24 ) وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم ( 25 ) ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون ) * * * * الخلق إليه . < < الحجر : ( 24 ) ولقد علمنا المستقدمين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين ) قال الشعبي : معناه : ولقد علمنا الأولين منكم والآخرين ، ويقال معناه : علمنا المتقدمين منكم بالطاعة ، والمتأخرين منكم بالمعصية ، وقيل : علمنا من خلقنا منكم ومن سنخلقه من بعد . وعن الربيع بن أنس ' أن النبي حض الناس على الجماعة فتقدم بعضهم ، وتأخر البعض لكثرة الجمع ؛ فأنزل الله تعالى : ( ^ ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين ) ' .
ويقال معناه : ولقد علمنا المستقدمين منكم في حق القتال ، وعلمنا المستأخرين عنه . وفي الآية خبر مسند برواية أبي الجوزاء عن ابن عباس : ' أن امرأة كانت تحضر الجماعة ، وهي من أحسن النساء وجها ، فكان قوم يتقدمون لئلا يرونها ، وقوم يتأخرون . فإذا ركعوا نظروا إليها من تحت آباطهم ؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية ' . أورده أبو عيسى الترمذي في جامعه . < < الحجر : ( 25 ) وإن ربك هو . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإن ربك هو يحشرهم ) يعني : يحشرهم إلى القيامة . وقوله : ( ^ إنه حكيم عليم ) أي : حكيم في تدبيره ، عليم بخلقه . < < الحجر : ( 26 ) ولقد خلقنا الإنسان . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون ) الصلصال هو
____________________

( ( 26 ) والجان خلقناه من قبل من نار السموم ( 27 ) وإذ قال ربك للملائكة إني خالق ) * * * * الطين اليابس الذي إذا حرك صلصل أي : صوت ، قال الشاعر :
( وقاع ترى الصلصال فيه ودونه ** بقاع تلال بالعرى والمناكب )
ويقال : الصلصال المنتن ، يقال : صل اللحم إذا أنتن ، وذكر الكلبي عن ابن عباس : أن الصلصال هو الطين الرطب ، ويقال : إذا جرى الماء على الأرض الطينة ، ثم انحسر الماء وتشققت الأرض حتى يرى مثل الخزف ، فهو صلصال .
وقوله : ( ^ من حمأ مسنون ) الحمأ : الحمأة ، وهي الطين الأسود ، والمسنون : المتغير المنتن ، كذلك قاله مجاهد . وقال بعضهم : المسنون المصبوب ، وهذا يشبه القول الذي بينا أن الصلصال هو الطين الرطب ، وفي الآثار : أن الحسن كان يسن الماء على وجهه سنا ، أي : يصب .
وفي الآية قول ثالث : وهو أن المسنون هو المصبوب على قالب وصورة ، وفي بعض ( التفاسير ) : أن الله تعالى خمر طينة آدم ، وتركه حتى صار متغيرا أسود منتنا ، ثم خلق آدم منها . < < الحجر : ( 27 ) والجان خلقناه من . . . . . > >
قوله : ( ^ والجآن خلقناه من قبل من نار السموم ) يقال : الجآن هو إبليس ، ويقال : الجآن أبو الجن ، كما أن آدم أبو البشر ، وأما إبليس هو أبو الشياطين ، وفي الجن مؤمنون وكافرون ، ويحيون ويموتون .
وأما الشياطين فليس فيهم مسلم ، ويموتون إذا مات إبليس ، وذكر وهب بن منبه : أن من الجن من يولد لهم ، ويأكلون ويشربون بمنزلة الآدميين ، ومن الجن من هم بمنزلة الريح لا يتوالدون ، ولا يأكلون ، ولا يشربون ، والله أعلم .
وقوله : ( ^ من نار السموم ) أي : من الريح الحارة ، والسموم : ريح حارة تدخل في مسام الإنسان فتقتله ، ويقال : إن السموم بالنهار والحرور بالليل ، ويقال : إن السموم
____________________

( ^ بشرا من صلصال من حمأ مسنون ( 28 ) فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ( 29 ) فسجد الملائكة كلهم أجمعون ( 30 ) إلا إبليس أبى أن يكون مع ) * * * * بالليل والنهار جميعا ، وقيل : نار السموم لهيب النار .
وفي بعض الآثار عن عبد الله بن مسعود : أن هذا السموم الذي نراه جزء من سبعين جزءا من سموم جهنم . ويقال : من نار السموم أي : من نار جهنم . < < الحجر : ( 28 ) وإذ قال ربك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإذا قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون ) قد ذكرنا . < < الحجر : ( 29 ) فإذا سويته ونفخت . . . . . > > قوله تعالى : ( ^ فإذا سويته ) أي : صورته . وقوله : ( ^ ونفخت فيه من روحي ) الروح : جسم لطيف يحيا به الإنسان ، [ وأضافها ] إلى نفسه تشريفا وتكريما .
وقوله : ( ^ فقعوا له ساجدين ) أي : أسقطوا له ساجدين . < < الحجر : ( 30 ) فسجد الملائكة كلهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فسجد الملائكة كلهم أجمعون ) في بعض التفاسير : أنه قال لجماعة من الملائكة : اسجدوا لآدم فلم يفعلوا ؛ فجاءت نار وأحرقتهم جميعا ، ثم قال لجماعة آخرين : اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس .
وقوله : ( ^ كلهم أجمعون ) فيه سؤال معروف ، وهو أنه يقال : لما قال ( ^ فسجد الملائكة ) ؟ فأيش فائدة قوله : ( ^ كلهم أجمعون ) ؟ .
والجواب : أن الخليل وسيبويه زعما أن هذا تأكيدا بعد تأكيد ، ( وذكر ) المبرد أن قوله : ( ^ فسجد الملائكة ) كان من المحتمل أن بعضهم سجد ؛ فذكر كلهم ليزيل هذا الإشكال ، ثم كان يحتمل أنهم سجدوا في أوقات مختلفة ؛ فذكر أجمعون ليزيل الالتباس . < < الحجر : ( 31 ) إلا إبليس أبى . . . . . > >
وقوله : ( ^ إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين ) ظاهر المعنى . < < الحجر : ( 32 ) قال يا إبليس . . . . . > > قوله تعالى :
____________________

( ^ الساجدين ( 31 ) قال يا إبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين ( 32 ) قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون ( 33 ) قال فاخرج منها فإنك رجيم ( 34 ) وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين ( 35 ) قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون ( 36 ) ) * * * * ( ^ قال يا إبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين ) معناه : لم لم تسجد وقد أمرتك ؟ < < الحجر : ( 33 ) قال لم أكن . . . . . > > قوله : ( ^ قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون ) معناه : أني أفضل منه ؛ لأنه طيني ، وأنا ناري ، والنار تأكل الطين .
وفي بعض الآثار : ' أن الله تعالى خلق الملائكة من نور العزة ، وخلق الجآن من النار ، وخلق آدم من التراب ' .
فإن قال : إذا كان عندكم أن إبليس من الملائكة ، وقد خلقوا من النور ، فكيف قال إبليس خلقتني من نار ؟
الجواب عنه : أن إبليس كان من قبيلة من الملائكة خلقوا من النار ، وقد ذكرنا في سورة البقرة . < < الحجر : ( 34 - 35 ) قال فاخرج منها . . . . . > >
قوله : ( ^ قال فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين ) ظاهر المعنى ، ويقال : إن إبليس ملعون السماء والأرض ، وإن أهل السماء يلعنونه ، كما أن أهل الأرض يلعنونه . < < الحجر : ( 36 ) قال رب فأنظرني . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون ) أي : فأمهلني إلى يوم البعث ، وأراد الملعون ألا يموت ؛ فأجابه الله تعالى وقال : < < الحجر : ( 37 - 38 ) قال فإنك من . . . . . > > ( ^ إنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم ) أي : الوقت الذي يموت فيه الخلائق ، ويقال : إن مدة موت إبليس أربعون سنة ، وهو ما بين النفختين . وقال أهل المعاني : إن إبليس لما سأل الإمهال لم تكن إجابة الله إياه كرامة له ، بل كانت زيادة له في شقائه وبلائه .
____________________

( ^ قال فإنك من المنظرين ( 37 ) إلى يوم الوقت المعلوم ( 38 ) قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين ( 39 ) إلا عبادك منهم المخلصين ( 40 ) قال هذا صراط علي مستقيم ( 41 ) إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من ) * * * * < < الحجر : ( 39 ) قال رب بما . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال رب بما أغويتني ) الأكثرون على أن معناه : بما أضللتني ، وقيل : بما خيبتني من رحمتك ، وقيل : بما أهلكتني ، ويقال : بما نسبتني إلى الغواية ، وهو تأويل باطل عند أهل السنة .
وقوله : ( ^ لأزينن لهم في الأرض ) معناه : لأزينن لهم حب الدنيا والغواية . وقوله : ( ^ ولأغوينهم أجمعين ) أي : لأضلنهم أجمعين ، والمراد من إغواء إبليس تسببه إلى الغواية . < < الحجر : ( 40 ) إلا عبادك منهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إلا عبادك منهم المخلصين ) والمخلصين : ظاهر المعنى ، وقد بينا من قبل . < < الحجر : ( 41 ) قال هذا صراط . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال هذا صراط علي مستقيم ) أكثر أهل المعاني على أن الآية للتهديد والوعيد ، كالرجل يقول لغيره : طريقك علي ، مسيرك إلي ، أي : لا تفلت مني . وهذا في معنى قوله تعالى : ( ^ إن ربك لبالمرصاد ) أي : على طريق الخلق .
والقول الثاني في الآية : أن معنى قوله : ( ^ هذا صراط علي ) أي : إلي .
وقوله ( ^ مستقيم ) أي : بأمري وإرادتي .
والقول الثالث : صراط علي مستقيم أي : علي استقامته بالبيان والبرهان والتوفيق والهداية ، وقرأ الحسن وابن سيرين : ' هذا صراط علي مستقيم ' أي : رفيع ، وعبروا عنه : رفيع من أن ينال ، مستقيم من أن يمال ، وقال الشاعر في الصراط بمعنى الطريق :
( أمير المؤمنين على صراط ** إذا اعوج الموارد مستقيم ) < < الحجر : ( 42 ) إن عبادي ليس . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين ) هذا تحقيق لقوله تعالى فيما سبق : ( ^ إلا عبادك منهم المخلصين ) .
____________________

( ^ الغاوين ( 42 ) وإن جهنم لموعدهم أجمعين ( 43 ) لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم ( 44 ) إن المتقين في جنات وعيون ( 45 ) ادخلوها بسلام آمنين ( 46 ) ) * * * * < < الحجر : ( 43 ) وإن جهنم لموعدهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإن جهنم لموعدهم أجمعين ) يعني : موعد إبليس ومن تبعه للخلود فيها . < < الحجر : ( 44 ) لها سبعة أبواب . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ لها سبعة أبواب ) روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال : سبعة أبواب بعضها فوق بعض ، وقال ابن جريج : النار سبعة دركات : أولاها جهنم ، ثم لظى ، ثم الحطمة ، ثم السعير ، ثم سقر ، ثم الجحيم ، ثم الهاوية .
وقوله : ( ^ لكل باب منهم جزء مقسوم ) أي : لكل دركة قوم يسكنونها بقدر ذنوبهم . وفي بعض الآثار : أن في الدركة الأولى [ المسلمين ] - يعني : الذين أدخلوا النار بقدر ذنوبهم ثم يخرجون منها - وفي الثانية النصارى ، وفي الثالثة اليهود ، وفي الرابعة [ الصابئين ] ، وفي الخامسة المجوس ، وفي السادسة أهل الشرك ، وفي السابعة [ المنافقين ] . < < الحجر : ( 45 ) إن المتقين في . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن المتقين في جنات وعيون ) أي : في بساتين وأنهار . < < الحجر : ( 46 ) ادخلوها بسلام آمنين > >
قوله : ( ^ ادخلوها بسلام أمنين ) يعني : يقال لهم : ادخلوها بسلام آمنين ، والسلام هو السلامة ، والأمن من الموت والخروج . < < الحجر : ( 47 ) ونزعنا ما في . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ونزعنا ما في صدورهم من غل ) في الأخبار المسندة عن النبي قال : ' يحبس المؤمنون على قنطرة بين النار والجنة فيقتص لبعضهم من بعض ، حتى إذا هذبوا ونقوا ، وخرج الغل من قلوبهم ، أمر بهم إلى الجنة ' . وأما الغل فقد قيل : إنه الشحناء والعداوة ، وقيل : إنه الحقد والحسد والخيانة ، قال الشاعر :
( جزى الله عنا جمرة ابنة نوفل ** جزاء مغل بالأمانة كاذب )
____________________

( ^ ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين ( 47 ) لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين ( 48 ) نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم ( 49 ) وأن عذابي هو ) * * * * أي : خائن . وفي بعض الآثار : أن أهل الجنة يصلون إلى باب الجنة والغل في صدورهم ، فإذا دخلوا يذهب الغل كله عن صدورهم . ومن المعروف عن علي - رضي الله عنه - أنه قال : إني أرجو أن أكون وطلحة والزبير من الذين قال الله تعالى : ( ^ ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين ) .
وقوله : ( ^ على سرر متقابلين ) أي : لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض ، وفي بعض الأخبار عن النبي : ' أن المؤمن في الجنة إذا ود أن يلقاه أخاه المؤمن سار سرير كل واحد منهما إلى صاحبه ، ويلتقيان ويتحدثان ، ثم ينصرف كل واحد منهما إلى منزله ' . < < الحجر : ( 48 ) لا يمسهم فيها . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ لا يمسهم فيها نصب ) أي : تعب . قوله : ( ^ وما هم منها بمخرجين ) هذا أنص آية في القرآن على الخلود ؛ هكذا قال أهل العلم . < < الحجر : ( 49 - 50 ) نبئ عبادي أني . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم ) روي أن النبي خرج على الصحابة ، وهم يضحكون ، فقال لهم : ' أتضحكون ، وبين أيديكم النار ؛ فجاء جبريل بهذه الآية وقال : يقول لك ربك : يا محمد ، لم تقنط عبادي ؟ '
____________________

( ^ العذاب الأليم ( 50 ) ونبئهم عن ضيف إبراهيم ( 51 ) إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون ( 52 ) قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم ( 53 ) قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون ( 54 ) قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين ) * * * *
وقوله : ( ^ أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم ) ظاهر المعنى . وروى أبو هريرة عن النبي أنه قال : ' لو يعلم المؤمن ما عند الله من الرحمة ما تورع عن ذنب ، ولو يعلم الكافر ما عند الله من العقوبة لنخع نفسه ' . وأورد مسلم في صحيحه ما هو قريب من هذا . < < الحجر : ( 51 ) ونبئهم عن ضيف . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ونبئهم عن ضيف إبراهيم ) قيل معناه : عن أضياف إبراهيم ، وقد بينا عدد الملائكة الذين كانوا أضيافه . < < الحجر : ( 52 ) إذ دخلوا عليه . . . . . > > وقوله : ( ^ إذا دخلوا عليه فقالوا سلاما ) أي : سلموا سلاما .
وقوله : ( ^ قال إنا منكم وجلون ) وسبب وجل إبراهيم منهم ؛ أنه قرب إليهم الطعام فلم يأكلوه ، وقد كانوا إذا لم يأكل الضيف استرابوا به . < < الحجر : ( 53 ) قالوا لا توجل . . . . . > > ( ^ قالوا لا توجل ) أي : لا تخف ، قال الشاعر :
( لعمرك لا أدري وإني لأوجل ** على أينا تعدو المنية أول )
وقوله : ( ^ إنا نبشرك بغلام عليم ) معناه : غلام في صغره ، عليم في كبره ، وهو إسحاق . < < الحجر : ( 54 ) قال أبشرتموني على . . . . . > > وقوله تعالى : ( ^ قال أبشرتموني ) الأصل : أبشرتمونني ؛ فأسقط إحدى النونين واكتفى بالكسرة . وقوله : ( ^ على أن مسني الكبر ) يعني : على حال الكبر ، وهذا على طريق التعجب ، وكذلك قوله : ( ^ فبم تبشرون ) على طريق التعجب ، وليس على طريق الشك والإنكار . < < الحجر : ( 55 ) قالوا بشرناك بالحق . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القاطنين ) الحق : وضع الشيء في موضعه على ما تدعو إليه الحكمة ، والقنوط هو اليأس ، ومعنى الحق هاهنا هو الصدق .
____________________

( ( 55 ) قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون ( 56 ) قال فما خطبكم أيها المرسلون ( 57 ) قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين ( 58 ) إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين ( 59 ) إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين ( 60 ) فلما جاء آل لوط المرسلون ( 61 ) قال إنكم قوم منكرون ( 62 ) قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون ( 63 ) وأتيناك بالحق وإنا ) * * * * < < الحجر : ( 56 ) قال ومن يقنط . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون ) يعني : إلا الكافرون ، والقنوط من رحمة الله كبيرة من الكبائر كالأمن من مكر الله . < < الحجر : ( 57 ) قال فما خطبكم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال فما خطبكم أيها المرسلون ) قد ذكرنا معناه في سورة هود . < < الحجر : ( 58 ) قالوا إنا أرسلنا . . . . . > > قوله تعالى : ( ^ قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين ) أراد به قوم لوط . < < الحجر : ( 59 - 60 ) إلا آل لوط . . . . . > > وقوله : ( ^ إلا آل لوط ) المراد منه لوط وبناته ومن آمن به ، وقد ذكرنا . وقوله : ( ^ إنا لمنجوهم أجمعين ) هذا استثناء من الاستثناء ، فالاستثناء الأول من المهلكين ، والثاني من المنجين ، فبقي المستثنى بالاستثناء الثاني في المهلكين وهو امرأته ، وهذا مثل ما يقول الرجل لك : على عشرة إلا أربعة إلا ثلاثة ، فالمستثنى بالاستثناء الثاني ( بقي ) في المقر به بالإقرار الأول ، فيصير كأنه استثنى درهما ، ويجب تسعة دراهم .
وقوله : ( ^ قدرنا ) أي : حكمنا . وقوله : ( ^ إنها لمن الغابرين ) أي : من الباقين في العذاب ، قال الشاعر :
( لا تكسع الشول بأغبارها ** إنك لا تدري من الناتج )
أي : ببقاياها ، وفي الأحاديث : ' يذهب أهل العلم وتبقى غبرات في أوعية سوء ' أي : بقايا . < < الحجر : ( 61 ) فلما جاء آل . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فلما جاء آل لوط المرسلون ) ظاهر المعنى . < < الحجر : ( 62 ) قال إنكم قوم . . . . . > > قوله تعالى : ( ^ قال إنكم قوم منكرون ) لأنه لم يعرفهم . < < الحجر : ( 63 ) قالوا بل جئناك . . . . . > > قوله تعالى : ( ^ قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون ) أي : يشكون ، وفي القصة : أن لوطا كان يتوعدهم بالعذاب ، فلا يصدقونه فهو في معنى قوله : ( ^ بما كانوا فيه يمترون ) .
____________________

( ^ لصادقون ( 64 ) فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون ( 65 ) وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين ( 66 ) وجاء أهل المدينة يستبشرون ( 67 ) قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون ( 68 ) واتقوا الله ولا تخزون ( 69 ) قالوا أولم ننهك عن العالمين ( 70 ) قال هؤلاء بناتي إن ) * * * * < < الحجر : ( 64 ) وأتيناك بالحق وإنا . . . . . > >
وقوله : ( ^ وآتيناك بالحق وإنا لصادقون ) ظاهر المعنى . < < الحجر : ( 65 ) فأسر بأهلك بقطع . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فأسر بأهلك ) سرى وأسرى بمعنى واحد . وقوله : ( ^ بقطع من الليل ) أي : بقطعة من الليل . وقوله : ( ^ واتبع أدبارهم ) هذا دليل على أن الله تعالى أمره أن يقدم أهله ، ثم يمضي في إثرهم .
وقوله : ( ^ ولا يلتفت منكم أحد ) أمرهم بترك الإلتفات حتى لا يرتاعوا من العذاب إذا نزل بقومهم ، وقيل : إن الله تعالى جعل ذلك علامة لمن ينجو من آل لوط ، فإن المرأة التفتت لما سمعت الهدة فهلكت .
وقوله : ( ^ وامضوا حيث تؤمرون ) يقال : أمروا أن يمضوا إلى ' زغر ' ، وهي بلدة بالشام ، وقيل : إلى أرض الأردن وفلسطين . < < الحجر : ( 66 ) وقضينا إليه ذلك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وقضينا إليه ذلك الأمر ) قد ذكرنا أن القضاء بمعنى الفراغ ومعناه : أنا حكمنا وأبرمنا الأمر الذي أمرناه في قوم لوط . وقوله : ( ^ أن دابر هؤلاء ) أي : أصل هؤلاء ، وقيل : آخر هؤلاء ( ^ مقطوع مصبحين ) يعني : حين يدخلون في الصبح . < < الحجر : ( 67 ) وجاء أهل المدينة . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وجاء أهل المدينة يستبشرون ) يعني : يبشر بعضهم بعضا لما يرجون من ارتكاب الفاحشة . < < الحجر : ( 68 ) قال إن هؤلاء . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون ) الفضيحة : فعل يفعل بالمرء يلزمه به العار ( والأنفة ) < < الحجر : ( 69 ) واتقوا الله ولا . . . . . > > ( ^ فاتقوا الله ولا تخزون ) فالخزي بمعنى الفضيحة . < < الحجر : ( 70 ) قالوا أو لم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قالوا أولم ننهك عن العالمين ) معناه : أولم ننهك أن تضيف
____________________

( ^ كنتم فاعلين ( 71 ) لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون ( 72 ) فأخذتهم الصيحة مشرقين ( 73 ) فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل ( 74 ) إن في ذلك لآيات ) * * * * أحدا ، وقيل : أولم ننهك عن العالمين ، يعني : إدخال الغرباء في المدينة ، فإنك إن أدخلتهم ( نركب منهم ) الفاحشة . < < الحجر : ( 71 ) قال هؤلاء بناتي . . . . . > > ( ^ قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين ) قد بينا . < < الحجر : ( 72 ) لعمرك إنهم لفي . . . . . > >
وقوله : ( ^ لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون ) قال ابن عباس : وعيشك ، وقيل : وحياتك . وعن ابن عباس أنه قال : ما خلق الله خلقا أكرم عليه من محمد ، فإن الله تعالى لم يقسم بحياة أحد إلا بحياة محمد . وقوله : ( ^ لفي سكرتهم يعمهون ) أي : في ضلالتهم يترددون . < < الحجر : ( 73 ) فأخذتهم الصيحة مشرقين > >
قوله تعالى : ( ^ فأخذتهم الصيحة مشرقين ) يقال : أشرقت الشمس إذا طلعت ، فإن قيل : قد قال قبل هذا : ( ^ مصبحين ) ، وقال هاهنا : ( ^ مشرقين ) فكيف وجه الجمع ؟
الجواب من وجهين : أحدهما : أن ابتداء العذاب كان من الصبح ، وتمامه عند الإشراق .
والجواب الثاني : أن الإشراق هاهنا بمعنى الإصباح ، وهو جائز في كلام العرب . < < الحجر : ( 74 ) فجعلنا عاليها سافلها . . . . . > >
وقوله : ( ^ فجعلنا عاليها سافلها ) قد بينا .
وقوله : ( ^ وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل ) قد بينا . < < الحجر : ( 75 ) إن في ذلك . . . . . > >
وقوله : ( ^ إن في ذلك لآيات للمتوسمين ) أي : للناظرين المعتبرين .
وقيل للمتفرسين ، وهم الذين يعلمون الناس [ بسيماهم ] على ما يريهم الله منها .
____________________

( ^ للمتوسمين ( 75 ) وإنها لبسبيل مقيم ( 76 ) إن في ذلك لآية للمؤمنين ( 77 ) وإن كان ) * * * * وقد روي عن النبي : ' اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ' رواه عطية عن أبي سعيد الخدري عن النبي ، ذكره أبو عيسى الترمذي في جامعه .
وروى ثابت عن أنس عن النبي أنه قال : ' من أمتي قوم يعلمون الناس بالتوسم ' < < الحجر : ( 76 ) وإنها لبسبيل مقيم > >
وقوله : ( ^ وإنها لبسبيل مقيم ) أي : بطريق واضح لا يخفى ولا يندرس ، وسماه مقيما لثبوت الآيات فيه ، وقد كانوا يمرون عليها عند مضيهم إلى الشام ورجوعهم . < < الحجر : ( 77 ) إن في ذلك . . . . . > > وقوله : ( ^ إن في ذلك لآية للمؤمنين ) ظاهر المعنى . < < الحجر : ( 78 - 79 ) وإن كان أصحاب . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين ) قال أهل المعاني : ' إن ' للتأكيد ، وكذا اللام في قوله ( ^ لظالمين ) ومعنى الآية : وقد كان أصحاب الأيكة ظالمين . والأيكة هي الغيضة ، وقيل : هي الشجر الملتف ، وقال قتادة : كان شجرهم دوما ، وقال بعضهم : كانت أشجارهم مثمرة يأكلون منها رطبا بالصيف ويابسا بالشتاء ، وقد قال في موضع آخر : ( ^ ليكة ) فيه قولان : أحدهما : أن الأيكة وليكة بمعنى واحد .
والآخر : أن الأيكة اسم البلاد ، وليكة اسم القرية ، قال أهل التفسير : وكان رسولهم شعيب النبي ، وبعث إلى أهل مدين وإلى أهل الأيكة ، فأما أهل مدين
____________________

( ^ أصحاب الأيكة لظالمين ( 78 ) فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين ( 79 ) ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين ( 80 ) وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين ( 81 ) وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين ( 82 ) فأخذتهم الصيحة مصبحين ( 83 ) فما أغنى عنهم ) * * * * أهلكوا بالصيحة ، وأما أهل الأيكة فأهلكوا بعذاب [ الظلة ] .
وفي القصة : أنه أصابهم حر شديد في منازلهم ، ومنع الله تعالى الريح عنهم ، وشدد الحر عليهم ، وكانوا كذلك أياما ، ثم اضطرم عليهم الوادي نارا فهلكوا أجمعين . ويقال : إنهم هلكوا غما ؛ وهذا معنى قوله : ( ^ فانتقمنا منهم ) .
وقوله : ( ^ وإنهما لبإمام مبين ) أي : بطريق واضح ، وسمى الطريق إماما ؛ لأنه يؤتم به وتبع ، والكناية في قوله : ( ^ وإنهما ) تنصرف إلى قرية قوم لوط وقرية أصحاب الأيكة ، وهذه البلاد بين الحجاز والشام ، وقد كانت قريش يمرون عليها في أسفارهم . < < الحجر : ( 80 ) ولقد كذب أصحاب . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين ) ' الحجر ' : ديار ثمود . وقوله : ( ^ المرسلين ) المراد به صالح - عليه السلام - < < الحجر : ( 81 ) وآتيناهم آياتنا فكانوا . . . . . > > وقوله : ( ^ وآتيناهم آياتنا ) قال ابن عباس : الآيات في الناقة : خروجها من الصخرة ، وكبرها وقرب ولادتها وغزارة لبنها ، فقد كانوا يحلبونها ما يكفيهم يوما . وقوله : ( ^ فكانوا عنها معرضين ) ظاهر المعنى . < < الحجر : ( 82 ) وكانوا ينحتون من . . . . . > >
قوله : ( ^ وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين ) أي : آمنين من الوقوع عليهم ، وقيل : ( عليهم ) آمنين من الخراب ، وقيل : آمنين من العذاب . < < الحجر : ( 83 ) فأخذتهم الصيحة مصبحين > >
وقوله : ( ^ فأخذتهم الصيحة مصبحين ) أي : حين دخلوا في الصبح . < < الحجر : ( 84 ) فما أغنى عنهم . . . . . > >
وقوله : ( ^ فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون ) أي : ما دفع عنهم ما كانوا يكسبون .
____________________

( ^ ما كانوا يكسبون ( 84 ) وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل ( 85 ) إن ربك هو الخلاق العليم ( 86 ) ولقد آتيناك سبعا ) * * * * < < الحجر : ( 85 ) وما خلقنا السماوات . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق ) أي : لإظهار الحق ، ووجه اتصال هذا بما قبله في المعنى أنهم لما كذبوا بالحق أهلكناهم ؛ لأنا ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق ، وقيل : معنى الحق هو جزاء المحسن بإحسانه ، وجزاء المسيىء بإساءته .
قوله تعالى : ( ^ وإن الساعة لآتية ) أي : فيظهر الجزاء بالإحسان والإساءة .
وقوله : ( ^ فاصفح الصفح الجميل ) أي : أعرض عنهم من غير جزع ولا شكوى .
قال ابن عباس : هذا قبل نزول آية السيف ، ثم نسخ بآية السيف . < < الحجر : ( 86 ) إن ربك هو . . . . . > > وقوله : ( ^ إن ربك هو الخلاق العليم ) يعني : الخالق العليم بخلقه . < < الحجر : ( 87 ) ولقد آتيناك سبعا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم ) اختلف القول في هذا ، فروي عن عمر وعلي وعبد الله بن مسعود - في إحدى الروايتين - ومجاهد وقتادة أنهم قالوا : هي فاتحة الكتاب ، وقد ثبت هذا عن النبي برواية آدم بن أبي إياس عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة أن النبي قال : ' الحمد لله : أم الكتاب ، والسبع المثاني ، والقرآن العظيم ' .
قال الشيخ الإمام الأجل شيخ الإسلام أبو المظفر : أخبرناه المكي بن عبد الرزاق الكشميهني قال : أنا جدي أبو الهيثم محمد بن المكي ، قال : أنا الفربري ، قال : أنا محمد بن إسماعيل البخاري عن آدم بن أبي إياس . . . ' الخبر .
وقد اختلفوا في بسم الله الرحمن الرحيم ، فقال علي وابن عباس : إنها الآية السابعة ، وقال أبو هريرة ومجاهد وقتادة : إنها ليست بآية منها ، والآية السابعة قوله : ( ^ صراط الذين أنعمت عليهم ) .
وروى أبي بن كعب أن النبي قال : ' أنزلت علي سورة ما أنزلت في التوراة
____________________

والإنجيل مثلها ، وهي أم القرآن ، والسبع المثاني ، والقرآن العظيم الذي أعطيته ' ذكره أبو عيسى الترمذي في جامعه .
والقول الثاني في الآية : أن السبع المثاني هي السبع ( الطول ) وواحدة الطول طولى ، وهي البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف ويونس وهذا هو المنقول ، وهو قول عبد الله بن عباس - في رواية سعيد بن جبير - وهو قول الحسن البصري وجماعة من التابعين .
وفي الآية قول ثالث : وهو أن السبع المثاني : الأمر ، والنهي ، والبشارة ، والنذارة ، وضرب الأمثال ، وتعداد النعم ، وأنباء القرون السالفة .
وأما معنى المثاني : فإذا حملنا الآية على الفاتحة ، فمعناه : أنها تثنى في كل ركعة ، وقيل : لأن فيها الثناء على الله تعالى ، فهنا تكون ' من ' للتجنيس لا للتبعيض ، فهذا مثل قوله تعالى : ( ^ فاجتنبوا الرجس من الأوثان ) وذكر بعضهم أن معنى الآية : ولقد آتيناك سبعا من القرآن الذي هو مثاني ، وسمي القرآن مثاني ؛ لأنه تثنى [ فيه ] الأحكام والقصص والأمثال والعبر ؛ فتكون على هذا ' من ' للتبعيض ، وأما على القول الذي قلنا أن سبع المثاني هي السبع ( الطول ) فإنما سماها مثاني ؛ لأنه يثني فيها الأخبار والأمثال والعبر والقصص .
وأما قوله : ( ^ والقرآن العظيم ) المراد منه سائر القرآن سوى الفاتحة ، وفي هذا شرف عظيم للفاتحة ؛ لأنه خصها بالذكر والإمتنان عليه بها ، ثم ذكر سائر القرآن ، وعلى القول الثاني : القرآن العظيم هو السبع ( الطول ) وغيرها ، وخص السبع
____________________

( ^ من المثاني والقرآن العظيم ( 87 ) لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا ) * * * * ( الطول ) بالذكر تشريفا لها ، قال الشاعر :
( نشدتكم بمنزل الفرقان ** أم الكتاب السبع من المثاني )
( ( ثنتين ) من آي من القرآن ** ) < < الحجر : ( 88 ) لا تمدن عينيك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ لا تمدن عينيك إلا ما متعنا به أزواجا منهم ) وجه اتصال هذا بما قبله أنه لما من عليه بالقرآن ، نهاه عن الرغبة في الدنيا والنظر إلى زينتها ، ومزاحمة أهلها عليها ، وروى أبو عبيد أن سفيان بن عيينة قال في معنى قوله : ' ليس منا من لم يتغن بالقرآن ' أي : لم يستغن بالقرآن ، ثم تأول هذه الآية ( ^ ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم ، لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ) على هذا .
وفي الخبر عن النبي أنه قال : ' من أوتي القرآن فظن أن أحدا أعطى أفضل مما أعطى فقد صغر عظيما وعظم صغيرا ' .
وقوله : ( ^ أزواجا منهم ) معناه : أصنافا منهم ، وهم اليهود والنصارى وسائر المشركين ، وقيل : إنهم الأغنياء .
وقوله : ( ^ ولا تحزن عليهم ) يعني : لا تغتم على ما فاتك من مشاركتهم في الدنيا ،
____________________

( ^ تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين ( 88 ) وقل إني أنا النذير المبين ( 89 ) كما ) * * * * وفي بعض التفاسير عن أبي رافع : ' أن رسول الله أتاه ضيف فلم يك عنده ما يقدمه إليه ؛ فبعث إلى يهودي يستقرض منه طعاما إلى هلال رجب ، فقال اليهودي : والله لا أعطينه إلا برهن ، فقال رسول الله : أنا أمين الله في السماء والأرض ، ولو باعني أو أسلفني لقضيته ثم بعت بدرعه فرهنها منه ؛ فأنزل الله تعالى : ( ^ لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به ) .
وقوله : ( ^ واخفض جناحك للمؤمنين ) أي : ألن جانبك للمؤمنين . < < الحجر : ( 89 ) وقل إني أنا . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ وقل إني أنا النذير المبين ) للحق . < < الحجر : ( 90 ) كما أنزلنا على . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ كما أنزلنا على المقتسمين ) فإن قال قائل : ما معنى الكاف هاهنا ، وهي للتشبيه ؟ والجواب عنه : أن معناه أنذركم عذابا ينزل بكم ، كما أنزلنا على المقتسمين من العذاب ، ويقال : إن الكاف صلة ، ومعناه : وقل إني أنا النذير المبين ما أنزلنا على المقتسمين .
وأما معنى المقتسمين فيه أقوال : أحدها : أنهم اليهود والنصارى ، ومعنى الاقتسام منهم أنهم آمنوا ببعض الكتب وكفروا بالبعض ، وهذا قول ابن عباس .
والقول الثاني : أنهم قريش ، ومعنى الاقتسام أنهم فرقوا القول في رسول الله فقال بعضهم : هو كاهن ، وقال بعضهم : هو ساحر ، وبعضهم : هو شاعر .
والقول الثالث : ذكر الفراء أن أهل مكة بعثوا بقوم في طرق الواردين إلى مكة أيام الموسم حتى يقولوا لمن لقيهم من الواردين إلى مكة : لا تقربوا محمدا ، وكانوا يسألونهم عن حاله ؛ فيقول بعضهم : هو كاهن ، ويقول بعضهم : هو مجنون ، ويقول
____________________

( ^ أنزلنا على المقتسمين ( 90 ) الذين جعلوا القرآن عضين ( 91 ) فوربك لنسألنهم ) * * * * بعضهم : هو ساحر ، وبعضهم يقول : هو شاعر ، ومعنى الاقتسام : أنهم اقتسموا طرق مكة ، وهذا قول معروف ذكره مجاهد وقتادة وغيرهما . < < الحجر : ( 91 ) الذين جعلوا القرآن . . . . . > >
وقوله : ( ^ الذين جعلوا القرآن عضين ) قال أبو عبيدة : عضين مأخوذ من الإعضاء ، ( وزعم ) الفراء : أنه من العضاة . وقال الكسائي : يجوز أن يكون منهما ، ومعنى الآية أنهم جعلوا القرآن أبعاضا وأجزاء ، فقال بعضهم : إنه أساطير الأولين ، وقال بعضهم : إنه كهانة ، وما أشبه هذا .
وفي الآية قول آخر : وهو أن معنى قوله : ( ^ عضين ) يعني : سموه سحرا ، والعضة هي السحر ، فتكون العضة والعضين بمعنى واحد ، مثل عزة وعزين ، قال الشاعر :
( وليس دين الله بالمعضي ** )
أي : بالمتفرق . < < الحجر : ( 92 - 93 ) فوربك لنسألنهم أجمعين > >
قوله تعالى : ( ^ فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون ) روى أنس عن النبي أنه قال : ' هو قول لا إله إلا الله ' ، وعن أبي العالية الرياحي قال : إن جميع ( الخلق ) يسألون عن شيئين : عن التوحيد ، وعن إجابة المرسلين . وقيل : إن معنى قوله : ( ^ فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون ) يعني : جميع الأعمال التي يعملونها الداخلة تحت التكليف . < < الحجر : ( 94 ) فاصدع بما تؤمر . . . . . > >
قوله تعالى : [ ( ^ فاصدع بما تؤمر ) ] قال القتيبي معناه : اظهر بما تؤمر ، وأبن
____________________

( ^ أجمعين ( 92 ) عما كانوا يعملون ( 93 ) فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين ( 94 ) إنا كفيناك المستهزئين ( 95 ) ) * * * * غير مراقب لأحد ، وقد كان رسول الله مختفيا إلى [ أن ] أنزل الله تعالى هذه الآية ، وأمره بالظهور ، وقال بعضهم : معنى قوله : ( ^ فاصدع بما تؤمر ) أي : أفرق بالقرآن بين الحق والباطل ، وذكر مجاهد أن معنى قوله : ( ^ فاصدع ) أي : اجهر بالقرآن ، وقد كان يقرأ ( مسرا ) خوفا من المشركين ؛ فأمره الله تعالى بالجهر وألا يبالي بهم .
والصدع في اللغة مأخوذ من الظهور ، ومنه الصديع اسم للصبح ، قال الشاعر :
( كأنهن ربابة وكأنه ** يسر يفيض على القداح ويصدع )
قوله تعالى : ( ^ وأعرض عن المشركين ) أي : عن جوابهم ؛ لأن السفيه لا يسافه معه إلا سفيه . < < الحجر : ( 95 ) إنا كفيناك المستهزئين > >
قوله تعالى : ( ^ إنا كفيناك المستهزئين ) قال ابن عباس : المستهزئون خمسة نفر : وهم الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، والأسود بن عبد يغوث ، والأسود بن المطلب ، وعدي بن قيس ، وقد ضم بعضهم إلى هؤلاء الحارث بن الطلاطلة ، والحارث بن غيطلة ، والمروي عن ابن عباس ما بينا ، فروي : ' أن جبريل كان واقفا مع النبي فمر بهما هؤلاء القوم رجلا رجلا ، وكان جبريل يقول للنبي : ما قولك في هذا
____________________

( ^ الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون ( 96 ) ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون ( 97 ) فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين ( 98 ) واعبد ربك حتى يأتيك ) * * * * الرجل ؟ فيقول النبي : بئس عبد الله هذا ، فيقول جبريل : كفيناكه فهلكوا ، أما الوليد بن المغيرة فمر بسهم فتعلق بردائه فذهب يجلس فقطع أكحله فنزف فمات ، وأما العاص بن وائل فمر على شوكة فخدشت ساقه ، فتساقط من ذلك لحمه ومات ، وأما الأسود بن عبد يغوث فضرب بغصن من شوك على وجهه فسالت حدقتاه ومات ، وجعل يقول : استجيبت في دعوة محمد ، وأما عدي بين قيس ، والأسود بن المطلب ، فإن أحدهما قام من الليل فلسعته حية فمات ، وأما الآخر فأصابه عطش ، فما زال يشرب حتى انشق بطنه وهلك ' ؛ فهذا هو معنى كفاية المستهزئين . < < الحجر : ( 96 ) الذين يجعلون مع . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ الذين يجعلون مع الله إلها آخر ) وصفهم بالشرك وعبادة الأوثان . وقوله : ( ^ فسوف يعلمون ) تهديد ووعيد . < < الحجر : ( 97 ) ولقد نعلم أنك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون ) فهذا تسلية [ للنبي ] ، قد روي في بعض التفاسير : أن الله تعالى لما أنزل في القرآن سورة العنكبوت وسورة النمل وسورة الذباب وسورة النحل ، وكانوا يجتمعون ويقولون
____________________

( ^ اليقين ( 99 ) ) * * * * استهزاء : يقول هذا إلى سورة النمل ، ويقول هذا إلى سورة الذباب ، ويقول هذا إلى سورة العنكبوت ، ويقول هذا إلى سورة النحل ، وما أشبه ذلك ؛ فأنزل الله تعالى ( ^ ولقد نعلم أنه يضيق صدرك بما يقولون ) وهذا هو الاستهزاء المذكور في الآية المتقدمة . < < الحجر : ( 98 ) فسبح بحمد ربك . . . . . > >
وقوله : ( ^ فسبح بحمد ربك ) والتسبيح : هو الثناء على الله بالتبرئة والتنزيه من العيوب ، وقيل : فصل بأمر ربك ، وفي رواية عائشة - رضي الله عنها - : ' أن النبي كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ' . وقوله : ( ^ وكن من الساجدين ) أي : من المصلين . < < الحجر : ( 99 ) واعبد ربك حتى . . . . . > > قوله تعالى : ( ^ واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ) أي : الموت .
فإن قال قائل : أما كان يكفي قوله : ( ^ واعبد ربك ) فما فائدة قوله : ( ^ حتى يأتيك اليقين ) ؟ .
قلنا : لو اقتصر على قوله : ( ^ واعبد ربك ) لكان إذا عبد مرة خرج عن موجب الأمر ، فقال : ( ^ حتى يأتيك اليقين ) ليدوم عليها إلى أن يموت ، وهذه الآية في معنى الآية التي ذكرها من بعد ، وهي في مريم ، وهي قوله تعالى : ( ^ وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا ) .
____________________

وفي الأخبار المسندة برواية جبير بن نفير عن النبي أنه قال : ' ما أمرني الله بجمع المال ، وأن أكون من التاجرين ، ولكن أمرني بالصلاة ، وأن أكون من الساجدين ، وأن أعبد ربي حتى يأتيني اليقين ' .
____________________

<
> بسم الله الرحمن الرحيم <
> ( ^ أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون ( 1 ) ينزل الملائكة بالروح ) * * * * <
> تفسير سورة النحل <
>
وهي مكية سوى ثلاث آيات من آخرها ، وهي قوله تعالى : ( ^ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ) إلى آخر السورة ، وقيل : إن قوله : ( ^ ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد فتنوا ) الآية مدنية أيضا ، وهذه السورة تسمى سورة النعم ، وقيل : سورة الآلاء . < < النحل : ( 1 ) أتى أمر الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ أتى أمر الله ) أي : دنا وقرب ، كالرجل يقول لغيره : أتاك الخبر ، أو أتاك الغوث إذا دنى منه ، ويقال : إن معناه سيأتي أمر الله ، وهذا مثل ما يقول القائل : إذا أكرمتني أكرمتك أي : أكرمك . واختلفوا في معنى قوله : ( ^ أمر الله ) فالأكثرون على أن المراد منه عقوبته وعذابه للمكذبين الجاحدين .
والقول الثاني : أن المراد من أمر الله هو الفرائض والأحكام ، ذكره الضحاك ، وهذا قول ضعيف . وزعم الكلبي وغيره أن المراد منه القيامة .
وقوله : ( ^ فلا تستعجلوه ) الاستعجال طلب الشيء قبل حينه ، ومعناه : لا تطلبوه قبل وقته ، وروي عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنه قال : لما نزل قوله : ( ^ أتى أمر الله ) رفع الكفار رءوسهم ، وظنوا أنها قد أتت حقيقة ، لما قال : ( ^ فلا تستعجلوه ) خفضوا رءوسهم . وفي بعض الأخبار : ' أنه لما نزل قوله تعالى : ( ^ أتى أمر الله ) قام رسول الله فزعا ، فقال جبريل : فلا تستعجلوه ' ، قد ذكره مقاتل في تفسيره .
وقوله : ( ^ سبحانه وتعالى عما يشركون ) معناه : تعاظم بالأوصاف الحميدة عما يصفه به ( المشركون ) . < < النحل : ( 2 ) ينزل الملائكة بالروح . . . . . > > قوله تعالى : ( ^ ينزل الملائكة بالروح من أمره ) روى
____________________

( ^ من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون ( 2 ) خلق السموات والأرض بالحق تعالى عما يشركون ( 3 ) خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين ( 4 ) والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ( 5 ) ولكم ) * * * * مجاهد عن ابن عباس : أن الروح خلق من خلق الله تعالى على صور بني آدم ، وليسوا بالملائكة ، لا ينزل الله ملكا إلا ومعه روح ، والقول الثاني : أن الروح هو الوحي ؛ لأنه تقع به حياة القلوب ، كالروح تقع بها حياة الأبدان ، وقيل : إنها النبوة ، وقيل : إنها الرحمة .
وقوله : ( ^ على من يشاء من عباده ) يعني : من النبيين والمرسلين .
وقوله : ( ^ أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون ) معناه : مروهم بقول لا إله إلا الله منذرين ومخوفين لهم بالعذاب ؛ يقولوا أو لم يقولوا . فقوله : ( ^ فاتقون ) أي : فخافون . < < النحل : ( 3 ) خلق السماوات والأرض . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ خلق السموات والأرض بالحق ) أي : لإظهار الحق . وقوله تعالى : ( ^ تعالى عما يشركون ) أي : ارتفع عما يشركون . < < النحل : ( 4 ) خلق الإنسان من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ خلق الإنسان من نطفة ) يقال : إنه نزلت هذه الآية في أبي بن خلف ، والصحيح أنها عامة في الكل . وقوله : ( ^ من نطفة فإذا هو خصيم مبين ) أي : مخاصم مفصح عما في ضميره بالخصومة ، والخصومة : قد تكون حسنة ، وقد تكون قبيحة ؛ فالحسن منها ما كان لإظهار الحق ، والقبيح ما كان لدفع الحق ، ومعنى الآية بيان القدرة ، وهي أن الله تعالى خلق النطفة من كائن بهذه الحالة ، وقيل : إن المراد من الآية بيان النعمة ، وقيل : إن المراد من الآية كشف قبيح ما فعلوا من جحدهم نعمة الله مع ظهورها عليهم . < < النحل : ( 5 ) والأنعام خلقها لكم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ والأنعام خلقها لكم فيها دفء ) الدفء هو الحر المعتدل الذي يكون في بدن الإنسان من الدثار . وأما معنى الآية : قال ابن عباس : الدفء هو اللباس ، وقال قتادة : ما يستدفأ به من الأصواف والأوبار ، وما أشبه ذلك .
وقال بعضهم : الدفء هو النسل ، وذكر الآمدي أن هذا من كلام العرب .
____________________

( ^ فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون ( 6 ) وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرءوف رحيم ( 7 ) والخيل والبغال والحمير ) * * * *
وقوله : ( ^ ومنافع ) المنافع هي الركوب والنتاج ، وسائر ما ينتفع به . وقوله : ( ^ ومنها تأكلون ) هو التناول من لحمها ولبنها . < < النحل : ( 6 ) ولكم فيها جمال . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولكم فيها جمال ) أي : زينة ، قال السدي : الجمال : أنها إذا خرجت ورئيت قيل : هذه إبل فلان .
وإنما خص [ بقوله ] : ( ^ حين تريحون وحين تسرحون ) الرواح في الأنعام هو إذا جاءت من مراعيها إلى أفنية ملاكها عشيا ، والسراح هو إذا خرجت من الأفنية إلى المراعي بكرة ؛ فإن قال قائل : لم قدم الرواح ، والسراح هو المقدم ؟ قلنا : لأن المالك يكون أعجب بها إذا راحت ؛ ولأن المنافع منها إنما تؤخذ بعد الرواح . < < النحل : ( 7 ) وتحمل أثقالكم إلى . . . . . > >
وقوله : ( ^ وتحمل أثقالكم ) الثقل : هو المتاع الذي يثقل حمله . وقوله : ( ^ إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس ) أي : بجهد الأنفس ومشقتها ، وقرئ : ' بشق الأنفس ' . واختلفوا في البلد المذكور ، قال بعضهم : هي مكة ، وقال بعضهم : أي بلد كان في العالم ، فإن قال قائل : أي مشقة في أن يركب دابة وطية ويسير عليها من بلد إلى بلد مع الزاد التام وأمن الطريق ؟
والجواب أن السفر لا يخلو عن مشقة في الجملة ، والثاني : أن معنى الآية لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس ، لولا هذه الدواب .
وقوله : ( ^ إن ربكم لرءوف رحيم ) ظاهر المعنى . < < النحل : ( 8 ) والخيل والبغال والحمير . . . . . > > قوله تعالى : ( ^ والخيل والبغال والحمير ) الآية حكي أن أبا عمرو بن العلاء سئل : لم سميت الخيل خيلا ؟ فلم يذكر شيئا ، وكان ثم أعرابي حاضرا ، فقال : سميت الخيل خيلا لاختيالها .
وقوله : ( ^ لتركبوها ) زعم بعضهم أن ركوب الحمر الغرة الحسان أبلغ في الزينة من الخيل والبغال ؛ لأن الله تعالى قال : ( ^ لتركبوها وزينة ) عقيب ذكر الحمر ، وهذا
____________________

( ^ لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون ( 8 ) ) * * * * كقوله تعالى : ( ^ قالوا ادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها ) دل أن البصل أرذل من هذه الأشياء حيث ذكر قوله : ( ^ أتستبدلون الذي هو أدنى ) عقيب ذكر البصل ، وقيل : شر الحمر الأسود القصير .
والأولى أن يقال : إن الجمال في الخيل أكثر للحسن والعيان ؛ ولأن الله تعالى بدأ بها بالذكر .
وقيل لخالد بن صفوان : ما لك لا تركب الحمر ؟ قال : هي بطيئة الغوث كثيرة الروث ، إذا سار أبطأ وإذا وقف أدلى . ورؤي مرة على حمار ؛ فسئل عن ذلك فقال : أدب عليه دبيبا ، وألقى عليه حبيبا ، ويمنعني أن أكون جبارا عنيدا .
وقد ثبت أن رسول الله ركب الفرس والبغل والحمار . وفي الآثار : أن الأنبياء من بني إسرائيل كانوا يركبون الأتن . وعن ابن عباس أنه كره لحم الخيل ؛ قال : لأن الله تعالى قال : ( ^ لتركبوها وزينة ) . وقد ثبت برواية جابر أن النبي أذن في لحوم الخيل ' ، وثبت أيضا عن أسماء بنت أبي بكر الصديق أنها قالت : ' أكلنا لحم فرس على عهد رسول الله ' فالأولى هو الإباحة ، وعليه أكثر أهل العلم .
وقوله : ( ^ ويخلق ما لا تعلمون ) قيل معناه : ويخلق ما لا يخطر ببال أحد ،
____________________

( ^ وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين ( 9 ) هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ( 10 ) ينبت لكم به الزرع والزيتون ) * * * * والإنسان قل ما يخلو في يوم وليلة أن يرى شيئا من خلق الله تعالى لم يره من قبل . وروى ابن السدي عن أبيه أن معنى قوله : ( ^ ويخلق ما لا تعلمون ) أي : السوس في النبات والحبوب . وفي بعض التفاسير : أن النبي قال في هذه الآية : ' إن لله تعالى أرضا بيضاء خلقها ، ومسافتها قدر مسيرة الشمس ثلاثين ليلة ، وقد ملأها من خلق لم يعصوا الله طرفة عين ؛ فقيل له : أهم من بني آدم ؟
فقال : إنهم لا يعلمون أن الله تعالى خلق آدم ، فقيل له : فكيف لا يفتنهم إبليس ؟ قال : إنهم لا يعلمون أن لله في خلقه إبليس ' وهذا خبر غريب ، والله أعلم . < < النحل : ( 9 ) وعلى الله قصد . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وعلى الله قصد السبيل ) قيل معناه : وعلى الله بيان الهدى من الضلالة ، وقيل : بيان الحق بالآيات والبراهين ، وهذا بحكم الوعد ، ويقال : وعلى الله قصد السبيل أي : على الله الحكم بالعدل بين الخلق .
وقوله : ( ^ ومنها جائر ) معناه : ومن السبيل جائر ، وقرأ علي وابن مسعود : ' ومنكم جائر ' . أي : عادل عن الحق ، قال الشاعر :
( لما خلطت دماؤنا بدمائهم ** وقف الثقال بها ( وجار ) العادل )
الثقال : البطر .
وقوله : ( ^ ولو شاء لهداكم أجمعين ) ظاهر المعنى ، وفيه رد على القدرية . < < النحل : ( 10 ) هو الذي أنزل . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ) أي : لكم منه ما تشربون .
وقوله : ( ^ ومنه شجر فيه تسيمون ) أي : تسيمون المواشي فيها ، والإسامة هي
____________________

( ^ والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون ( 11 ) وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ( 12 ) وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون ( 13 ) وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها ) * * * * تخلية المواشي للرعي . < < النحل : ( 11 ) ينبت لكم به . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون ) الآية . ظاهر المعنى . < < النحل : ( 12 ) وسخر لكم الليل . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ وسخر لكم الليل والنهار ) أي : ذلل لكم الليل والنهار ، وقيل : سخر ضوء الشمس بالنهار ونور القمر بالليل .
وقوله : ( ^ والنجوم مسخرات بأمره ) أي : مذللات بأمره . وقوله : ( ^ إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ) ظاهر المعنى . < < النحل : ( 13 ) وما ذرأ لكم . . . . . > >
( ^ وما ذرأ لكم في الأرض ) أي : ما خلق لكم في الأرض . وقوله : ( ^ مختلفا ألوانه ) أي : صورته وهيئته . وقوله : ( ^ إن في ذلك لآية لقوم يذكرون ) أي : يعتبرون . < < النحل : ( 14 ) وهو الذي سخر . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وهو الذي سخر البحر ) أي : ذلل البحر ( ^ لتأكلوا منه لحما طريا ) أي : السمك . وقوله : ( ^ وتستخرجوا منه حلية تلبسونها ) يعني : درأ تتخذون منه لباسا للتحلي .
وقوله : ( ^ وترى الفلك مواخر فيه ) قال الحسن البصري : مواقر - أي مملوءة - ويقال : مواخر أي : مقبلة مدبرة بريح واحدة ، والمخر هو الشق ، والسفينة تمخر الماء أي : تشقه ، وفي الخبر أن النبي قال : ' إذا أراد أحدكم البول فليتمخر الريح ' أي :
____________________

( ^ وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ( 14 ) وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون ( 15 ) وعلامات وبالنجم هم يهتدون ( 16 ) أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون ( 17 ) وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم ( 18 ) والله يعلم ما تسرون وما تعلنون ( 19 ) والذين ) * * * * لينظر موضع هبوبها فليستدبرها ، والمخر : صوت هبوب الريح عند شدتها .
وقوله : ( ^ ولتبتغوا من فضله ) يعني : للتجارة . وقوله : ( ^ ولعلكم تشكرون ) يعني : إذا رأيتم صنع الله فيما سخر لكم ، وروي أن عمر - رضي الله عنه - كتب إلى عمرو بن العاص يسأله عن البحر ؛ فقال : خلق عظيم يركبه خلق ضعيف ، دود على عود ، ليس إلا السماء والماء ، إن مال غرق ، وإن نجا برق ، أي : دهش وتحير . < < النحل : ( 15 ) وألقى في الأرض . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وألقى في الأرض رواسي ) أي : جبالا ثوابت ، وفي الآثار : أن الله تعالى لما خلق الأرض كانت تكفأ ؛ فقالت الملائكة : إن هذه غير مقرة على ظهرها أحد ؛ فأصبحوا وقد خلق الجبال فاستقرت وثبتت .
وقوله : ( ^ أن تميد بكم ) أي : أن تميل بكم . وقوله : ( ^ وأنهارا وسبلا ) يعني : طرائق . وقوله : ( ^ لعلكم تهتدون ) أي : لعلكم تهتدون بالطريق والجبال . < < النحل : ( 16 ) وعلامات وبالنجم هم . . . . . > >
وقوله : ( ^ وعلامات ) أي : ودلالات ، وقيل : إن هذه العلامات هي الجبال . وقوله : ( ^ وبالنجم هم يهتدون ) قال الفراء : بالجدي والفرقدين ، وقيل : وبالنجوم هم يهتدون ، وعن قتادة قال : خلق الله النجوم لثلاثة أشياء : لزينة السماء الدنيا ، ولرجم الشياطين ، وليهتدي بها في البحر والبر ، فمن طلب منها علما غير هذا فقد أخطأ ، وهذه الأشياء الثلاثة مذكورة في القرآن . < < النحل : ( 17 ) أفمن يخلق كمن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ أفمن يخلق كمن لا يخلق ) قيل : أفمن ينعم كمن لا ينعم . وقوله : ( ^ أفلا تذكرون ) أي : أفلا تعتبرون . < < النحل : ( 18 ) وإن تعدوا نعمة . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) أي : تطيقوا عدها ، وقيل : لا تطيقوا شكرها . وقوله : ( ^ إن الله لغفور رحيم ) ظاهر المعنى .
____________________

( ^ يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ( 20 ) أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون ( 21 ) إلهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة ) * * * * < < النحل : ( 19 - 20 ) والله يعلم ما . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ والله يعلم ما تسرون وما تعلنون والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا ) أراد به الأصنام . وقوله : ( ^ وهم يخلقون ) معناه : أن المخلوق لا يكون إلها . < < النحل : ( 21 ) أموات غير أحياء . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ أموات غير أحياء ) فإن قيل : الصنم كيف يكون ميتا ولم يكن حيا قط ؟ الجواب : أن معناه : أنها كالأموات في أنها لا تعقل .
وقوله : ( ^ غير أحياء ) تأكيد للأول . وقوله : ( ^ وما يشعرون أيان يبعثون ) أي : متى يبعثون ؟ فإن قيل : هل للأصنام بعث ؟ والجواب : أنه قد ذكر في بعض التفاسير : أن الأصنام تبعث ، وتجعل فيها الحياة ، وتتبرأ من عابديها ، وقد دل على هذا القرآن في مواضع ، وقيل في معنى الآية : وما تشعر الأصنام متى يبعث الكفار ؟ وفي الآية قول ثالث : وهو أن معناها : وما يشعر الكفار متى يبعثون ؟ . < < النحل : ( 22 ) إلهكم إله واحد . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إلهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة ) أي : جاحدة ، وهذا دليل على أن العبرة بجحد القلب وإنكاره .
وقوله : ( ^ وهم مستكبرون ) أي : متكبرون ، ويقال : إنه لا ينكر الدين إلا متكبر .
قال الله تعالى : ( ^ إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ) وقد ثبت عن النبي أنه قال : ' لا يدخل الجنة أحد في قلبه ذرة من كبر ' . < < النحل : ( 23 ) لا جرم أن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ لا جرم ) معناه : حقا ( ^ أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه
____________________

( ^ وهم مستكبرون ( 22 ) لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين ( 23 ) وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين ( 24 ) ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون ( 25 ) ) * * * * لا يحب المستكبرين ) أي : المتكبرين . < < النحل : ( 24 ) وإذا قيل لهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم ) معناه : وإذا قيل للكفار الذين تقدم ذكرهم : ' ماذا أنزل ربكم ' ؟ ما الذي أنزل ربكم ؟
وقوله : ( ^ قالوا أساطير الأولين ) يعني : أكاذيب الأولين ، والأساطير واحدها أسطورة ، وقيل : أقاصيص الأولين . < < النحل : ( 25 ) ليحملوا أوزارهم كاملة . . . . . > >
وقوله : ( ^ وليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ) الأوزار هي الذنوب .
وقوله : ( ^ كاملة ) إنما ذكر الكمال ؛ لأن البلايا والمحن التي تلحقهم في الدنيا لا تكفر عنهم شيئا ، وكذلك ما يفعلونه بنية الحسنات .
وقوله : ( ^ ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ) ومن ذنوب الذين يضلونهم ، وهم الأتباع .
فإن قال قائل : كيف يحملون أوزار الأتباع ، والله تعالى يقول : ( ^ ولا تزر وازرة وزر أخرى ) ؟ والجواب عنه : يحملوا ذنوبهم بحكم الإغواء والدعاء إلى الضلال ؛ فإنه روي عن النبي أنه قال : ' أيما داع دعا إلى الهدى ( فاتبع ) ؛ فله أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، وأيما داع دعا إلى ضلالة فاتبع فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ' .
____________________

( ^ قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم ) * * * *
وقوله : ( ^ بغير علم ) معناه : أنهم رجعوا إلى محض التقليد من غير دليل ، ومنهم من قال معناه : أنهم دعوهم إلى الضلال من غير حجة . وقوله : ( ^ ألا ساء ما يزرون ) معناه : ألا بئس ما يحملون من الذنوب . < < النحل : ( 26 ) قد مكر الذين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قد مكر الذين من قبلهم ) معناه : قد أشرك الذين من قبلهم ، وقيل : المكر هو التدبير الفاسد .
وقوله : ( ^ فأتى الله بنيانهم من القواعد ) وهذا مذكور على طريق التمثيل ، يعني : قلع الله مكرهم من أصله ، ورد وبال مكرهم وضرره عليهم ، وإلا فليس ثم بنيان ولا أساس ولا سقف .
والقول الثاني في الآية : أن الآية نزلت في نمروذ بن كنعان لما بنى الصرح ليصعد إلى السماء ، وفي القصة : أنه بنى قصرا طوله في السماء فرسخان ، وقيل : كان خمسة آلاف ذراع وزيادة شيء ، وعرضه ثلاثة آلاف ذراع ؛ فبعث الله جبريل - عليه السلام - فرمى برأسه في البحر ، ثم خرب الباقي ؛ فسقط عليهم وهم تحته ، فهذا معنى قوله : ( ^ فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم ) وهذا محكي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - .
فإن قيل : قال : ( ^ فخر عليهم السقف من فوقهم ) فأيش معنى قوله : ( ^ من فوقهم ) وقد فهم المعنى بقوله : ( ^ فخر عليهم السقف ) ؟ والجواب : أن ذلك مذكور على طريق التأكيد مثل قوله تعالى : ( ^ يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ) ، ومثل قوله : ( ^ فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ) .
جواب آخر ذكره ابن الأنباري وغيره : أن العرب تقول : خر على فلان بيوته ، إذا سقطت ، وإن لم يكن تحتها ، فإذا قالت : خر على فلان بيته من فوقه يفهم أنه كان
____________________

( ^ وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ( 26 ) ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم قال الذين أوتوا العلم إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين ( 27 ) الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن ) * * * * تحته . وقوله : ( ^ وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ) معناه : من الجهة التي كانوا آمنين منها . < < النحل : ( 27 ) ثم يوم القيامة . . . . . > > قوله تعالى : ( ^ ثم يوم القيامة يخزيهم ) يعني : يذلهم ويهينهم فيها . وقوله : ( ^ ويقول أين شركاءي الذين كنتم تشاقون فيهم ) أي : تعادون المؤمنين فيهم .
فإن قيل : أين شركائي ؟ وليس لله شريك ، فكيف معنى الآية ؟ والجواب أن معناها : أين شكائي في زعمكم ؟ ! ومنهم من قال : أين الذين كنتم تدعونهم شركاء ؟ !
وقوله : ( ^ قال الذين أوتوا العلم ) يعني : المؤمنين .
وقوله : ( ^ إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين ) معناه : أن العذاب اليوم والهوان على الكافرين . < < النحل : ( 28 ) الذين تتوفاهم الملائكة . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ) قال أهل التفسير : هذه نزلت في قوم أسلموا بمكة ، فلما هاجر النبي لم يهاجروا ، ثم إن المشركين لما هاجروا إلى بدر أخرجوهم مع أنفسهم ، فلما رأوا النبي وقلة من معه ظنوا أنهم يهلكوا على أيدي المشركين ، فمكثوا مع الكفار فقتلوا يومئذ فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية : ( ^ الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ) معناه : في حال ظلمهم أنفسهم بتركهم المهاجرة مع النبي وخروجهم مع الكفار .
قوله : ( ^ فألقوا السلم ) أي : استسلموا وانقادوا لملك الموت .
وقوله : ( ^ ما كنا نعمل من سوء ) أي : ما كنا مشركين . وقوله : ( ^ بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون ) معناه : أن الله عليم بأنكم عملتم عمل الكفار - وعمل الكفار هو ترك المهاجرة والخروج مع المشركين - وقد كان في ابتداء الإسلام لا يقبل
____________________

( ^ الله عليم بما كنتم تعملون ( 28 ) فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين ( 29 ) وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين ( 30 ) جنات عدن يدخلونها تجري ) * * * * الإسلام إلا مع الهجرة ، فهؤلاء أسلموا ولم يهاجروا ، فلم يقبل إسلامهم . < < النحل : ( 29 ) فادخلوا أبواب جهنم . . . . . > >
وقوله : ( ^ فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها ) أي : مقيمين دائمين فيها ، وها هنا إضمار ، وهو أنه يقال لهم : ادخلوا أبواب جهنم . وقوله : ( ^ فلبئس مثوى المتكبرين ) يعني : منزل الكافرين . < < النحل : ( 30 ) وقيل للذين اتقوا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم ) فإن قيل : قد قال من قبل : ( ^ وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين ) بالرفع وقال ها هنا : ( ^ ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا ) بالنصب ، فكيف وجه الآيتين ؟
والجواب : أن معنى قوله : ( ^ أساطير الأولين ) أي : المنزل أساطير الأولين ، وقوله : ( ^ قالوا خيرا ) معناه : أنزل ربنا خيرا . وقوله : ( ^ للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ) إحسانهم هو قول : لا إله إلا الله ، وقوله : ( ^ حسنة ) اختلف القول فيها :
قال ابن عباس : هي تضعيف الأجر إلى العشر فما زاد ، وقال الضحاك : الحسنة هو النصر والفتح ، وقال مجاهد : هو الرزق الحسن ، وقال غيره : ما فتح الله على المسلمين من البلدان ، وأفاء عليهم من الغنائم .
وقوله : ( ^ ولدار الآخرة خير ) معناه : ولحال دار الآخرة خير .
وقوله : ( ^ ولنعم دار المتقين ) أكثر المفسرين على أن المراد [ منها ] الجنة ، وروي عن الحسن البصري أنه قال : هي الدنيا ، والدنيا دار المتقين ، ومنها يتزود إلى الآخرة ، [ و ] فيها يطلب رضا الله تعالى ، وروي عن عمر - رضي الله عنه - أنه كان إذا فرق العطايا بين المهاجرين والأنصار قال : هذا لكم في الدنيا وما ادخر الله لكم في الآخرة .
____________________

( ^ من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاءون كذلك يجزي الله المتقين ( 31 ) الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ( 32 ) هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك كذلك فعل الذين من قبلهم وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ( 33 ) فأصابهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به ) * * * * < < النحل : ( 31 ) جنات عدن يدخلونها . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاءون كذلك يجزي الله المتقين ) ظاهر . < < النحل : ( 32 ) الذين تتوفاهم الملائكة . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ الذين تتوفاهم الملائكة طيبين ) يعني : طاهرين زاكين من الشرك ، وقيل : معناه : أن وفاتهم تقع طيبة سهلة .
قوله : ( ^ يقولون سلام عليكم ) يقال : إن المراد منه تسليم الملائكة ، يبلغون سلام الله إليهم ، وفي الأخبار : ' أنهم يقولون لكل واحد منهم : السلام عليك يا ولي الله ' . وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - : أن الميت المؤمن يزف إلى الله كما تزف العروس . وقوله : ( ^ ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ) يعني : يقال لهم : ادخلوا الجنة بإيمانكم وطاعتكم . < < النحل : ( 33 ) هل ينظرون إلا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة ) معناه : هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة بالموت ؟ ( ^ أو يأتي أمر ربك ) القيامة .
وفي بعض الآثار : أن أعوان ملك الموت ستة أملاك : ثلاثة يقبضون أرواح المؤمنين ، وثلاثة يقبضون أرواح الكفار ، وقيل : هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة بالعذاب والقتل للكفار ، أو يأتي أمر ربك ؟ يعني : الموت . وقوله : ( ^ كذلك فعل الذين من قبلهم ) يعني : كذلك كفر الذي من قبلهم . وقوله : ( ^ وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) ظاهر المعنى . < < النحل : ( 34 ) فأصابهم سيئات ما . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فأصابهم سيئات ما عملوا ) معناه : فأصابهم وبال السيئات التي
____________________

( ^ يستهزءون ( 34 ) وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا ) * * * * عملوا ، وقيل : جزاء السيئات التي عملوا . وقوله : ( ^ وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ) معناه : نزل بهم ، وأحاط بهم ما كانوا به يستهزئون . < < النحل : ( 35 ) وقال الذين أشركوا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء ) .
ومعنى التحريم المذكور في الآية هو ما حرموا من البحيرة والوصيلة والسائبة والحام ، وقد احتجت القدرية بهذه الآية ، ووجه احتجاجهم أن المشركين قالوا : لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ، [ ( ^ ولا حرمنا من دونه من شيء ) ] ثم إن الله تعالى قال في آخر الآية : ( ^ كذلك فعل الذين من قبلهم ) ردا وإنكارا عليهم ، فدل على أن الله تعالى لا يشاء الكفر ، وأنهم فعلوا ما فعلوا بغير مشيئة الله .
والجواب عنه : ذكر الزجاج وغيره أنهم قالوا هذا القول على طريق الاستهزاء لا على طريق التحقيق ، ولو قالوا على طريق التحقيق لكان قولهم موافقا لقول المؤمنين ، وهذا مثل قوله تعالى في قصة شعيب : ( ^ إنك لأنت الحليم الرشيد ) فإنهم قالوا هذا على طريق الاستهزاء لا على طريق التحقيق ، وكذلك قوله تعالى في سورة يس ، ( ^ وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه ) وهذا إنما قالوه على طريق الاستهزاء ؛ لأنه في نفسه قول حق يوافق قول المؤمنين ، كذلك هاهنا قالوا ما قالوا على طريق الاستهزاء ؛ فلهذا أنكر الله تعالى عليهم ، ورد قولهم ، والدليل على أن المراد من هذا ما ذكر من بعد وسنبين .
وقوله : ( ^ فهل على الرسل إلا البلاغ المبين ) يعني : ليس إليهم الهداية والإضلال ، وإنما عليهم التبليغ .
____________________

( ^ البلاغ المبين ( 35 ) ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ( 36 ) إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين ( 37 ) وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه ) * * * * < < النحل : ( 36 ) ولقد بعثنا في . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) أي : وحدوا الله واجتنبوا الأصنام . وقوله : ( ^ فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة ) معناه : فمنهم من هداه الله للإيمان ، ومنهم من وجبت عليه الضلالة ، وتركه في الكفر بالقضاء السابق ، فهذه الآية تبين أن من آمن بمشيئة الله ، وأن من كفر ، كفر بمشيئة الله .
وقوله : ( ^ فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) معناه : مآل أمر المكذبين ومرجعهم . < < النحل : ( 37 ) إن تحرص على . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن تحرص على هداهم ) الحرص : طلب الشيء بالجد والاجتهاد : وقوله : ( ^ فإن الله لا يهدي من يضل ) قرأ بقراءتين : قرأ أهل الكوفة : ' لا يهدي من يضل ' بفتح الياء الأولى وضم الثانية ، وقرأ الباقون : ' لا يهدي من يضل ' بضم اليائين ، أما القراءة الأولى فمعناه : لا يهدي الله من أضله ، وأما القراءة الثانية فمعناه : فإن من يضله الله لا يهدى ، وقيل : لا يقدر أحد على هدايته ، قالوا : وهذا أولى القراءتين . وقوله : ( ^ وما لهم من ناصرين ) أي : مانعين من العذاب . < < النحل : ( 38 ) وأقسموا بالله جهد . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وأقسموا بالله جهد أيمانهم ) جهد اليمين هو أن يحلف بالله الذي لا إله غيره . وقوله : ( ^ لا يبعث الله من يموت ) هذا دليل على أنهم كانوا مستبصرين في كفرهم .
وقوله : ( ^ بلى وعدا عليه حقا ) معناه : ليس الأمر كما قالوا ، ولكن الله يبعثهم ، ثم قال : ( ^ وعدا عليه حقا ) أي : واجبا .
وقوله : ( ^ ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) يعني : أن وعد الله حق ؛ فإنه إنما يعلمه
____________________

( ^ حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( 38 ) ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين ( 39 ) إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ( 40 ) والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة ) * * * * المؤمنون دون الكفار . < < النحل : ( 39 ) ليبين لهم الذي . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ليبين لهم الذي يختلفون فيه ) يعني : ليظهر لهم الحق فيما يختلفون فيه . وقوله : ( ^ وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين ) يعني : في الدنيا . < < النحل : ( 40 ) إنما قولنا لشيء . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إنما قولنا لشيء إذا أردناه ) فإن قيل : قد قلتم بأن المعدوم ليس بشيء ، وقد جعل الله هاهنا المعدوم شيئا حيث قال : ( ^ إنما قولنا لشيء إذا أردناه ) ومعناه : أردنا تكوينه .
والجواب : أن الأشياء التي قدر الله كونها هي في علم الله كالكائنة ( القائمة ) ؛ فاستقام قوله : ( ^ إنما قولنا لشيء إذا أردناه ) وقيل : إن هذا على طريق المجاز ، ومعناه : إنما يكون شيئا إذا أردنا تكوينه .
وقوله : ( ^ أن نقول له ) معناه : أن نقول لأجله : ( ^ كن فيكون ) أي : كن فكان ، وقرىء بقرائتين . ' فيكون ' بالنصب ، ' ويكون ' بالرفع .
أما بالرفع معناه : فهو يكون ، وأما بالنصب فهو منسوق على قوله : ( ^ أن نقول ) وذلك يقتضي النصب . < < النحل : ( 41 ) والذين هاجروا في . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا ) قال أهل التفسير : نزلت الآية في عمار ، وبلال ، وصهيب بن سنان ، وخباب بن الأرت ، وسالم مولى أبي حذيفة . وقوله : ( ^ من بعد ما ظلموا ) يعني : من بعد ما عذبوا وأوذوا .
وقوله : ( ^ لنبوئنهم في الدنيا حسنة ) قال ابن عباس والشعبي والحسن : هي المدينة ، ويقال : هي قدم الصدق ، وقيل : التوفيق والهداية .
____________________

( ^ أكبر لو كانوا يعلمون ( 41 ) الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون ( 42 ) وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ( 43 ) بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون ( 44 ) أفأمن ) * * * *
وقوله : ( ^ ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون ) أي : أعظم لو كانوا يعلمون . وقوله : ( ^ لو كانوا يعلمون ) منصرف إلى المشركين دون هؤلاء النفر ، فإنهم كانوا يعلمون أن أجر الآخرة أكبر . < < النحل : ( 42 ) الذين صبروا وعلى . . . . . > >
وقوله : ( ^ الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون ) ظاهر المعنى ، وهي نازلة في هؤلاء الخمسة . < < النحل : ( 43 ) وما أرسلنا من . . . . . > > قوله تعالى : ( ^ وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم ) معناه : إلا رجالا من البشر نوحي إليهم ، فإن المشركين كانوا ينكرون إرسال الآدميين ، ويطلبون إرسال الملائكة على ما ذكر الله تعالى ذلك في غير موضع . وقوله : ( ^ فاسألوا أهل الذكر ) يعني : مؤمني أهل الكتاب ، وقيل : حملة أهل الكتابين ، فإنهم كانوا لا ينكرون هذا . وقوله : ( ^ إن كنتم لا تعلمون ) ظاهر المعنى . < < النحل : ( 44 ) بالبينات والزبر وأنزلنا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ بالبينات والزبر ) اختلفوا في أن قوله : ( ^ بالبينات والزبر ) إلى ماذا يرجع ؟
قال بعضهم معناه : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا بالبينات والزبر ، ومنهم من قال معناه : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم بالبينات والزبر . ثم قال : ( ^ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) .
قوله : ( ^ وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ) . وقد كان الرسول مبينا للوحي ، وقد قال أهل العلم : إن بيان الكتاب في السنة . وقوله : ( ^ ولعلهم يتفكرون ) يعني : يتدبرون ويعتبرون . < < النحل : ( 45 ) أفأمن الذين مكروا . . . . . > >
قوله سبحانه وتعالى : ( ^ أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض ) ' مكروا السيئات ' يعني : فعلوا السيئات ، وذلك جحدهم التوحيد وعبادتهم غير الله ، وعملهم بالمعاصي ، وقد قالوا : إن المكر في هذا الموضوع هو السعي بالفساد ، وما قلناه أفسد الفساد .
____________________

( ^ الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون ( 45 ) أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين ( 46 ) أو يأخذهم على تخوف ) * * * *
وقوله : ( ^ أن يخسف الله بهم الأرض ) الخسف معلوم المعنى ، وقد ثبت عن النبي أنه قال : ' بينما رجل يتبختر في حلة له فخسف به الأرض ، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة ' .
وحكى النقاش عن بعض أهل العلم مسندا : أن قوما تدافعوا الإمامة بعد ما أقيمت الصلاة فخسف الله بهم الأرض .
وفي بعض المسانيد عن أبي هريرة أن النبي قال : ' يفتح للناس معدن ، ويبدو من الذهب أمثال البخت ؛ فيميل الناس إليه فيخسف الله بهم وبالمعدن ، فهم يتجلجلون فيها إلى يوم القيامة ' .
وقوله : ( ^ أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون ) أي : لا يعلمون . < < النحل : ( 46 ) أو يأخذهم في . . . . . > > قوله تعالى : ( ^ أو يأخذهم في تقلبهم ) قال ابن جريج : في إقبالهم وإدبارهم ، وقيل : في ليلهم ونهارهم ، وقيل : في أسفارهم . وقوله : ( ^ فما هم بمعجزين ) أي : بفائتين . < < النحل : ( 47 ) أو يأخذهم على . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ أو يأخذهم على تخوف ) قال ابن عباس : على تنقص ، ومعنى التنقص في هذا الموضع أنه يأخذهم الأول فالأول حتى يهلكهم .
والقول الثاني : أن معنى التخوف هو أن يأخذ قوما ولا يأخذ آخرين ، وتخوفهم بأخذ هؤلاء ، قول الحسن والضحاك .
والقول الثالث : حكى عن الليث بن سعد أنه قال : سمعت أنه على عجل .
____________________

( ^ فإن ربكم لرءوف رحيم ( 47 ) أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله ) * * * *
وقوله : ( ^ فإن ربكم لرءوف رحيم ) رحمته للكفار هي إمهالهم في العذاب . < < النحل : ( 48 ) أو لم يروا . . . . . > >
قوله تعالى : ( أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله ) يتحول ظلاله ، وأما الفرق بين الفيء والظل : فيقال : إن الظل بالغداة ، والفيء بالعشي ، ويقال : إن معناهما واحد .
وقوله : ( ^ عن اليمين ) أي : عن الأيمان ؛ لأنه قد قال عقيبه : ( ^ والشمائل ) والظل دائر من جوانب الإنسان ، فمرة يكون عن يمينه ، ومرة يكون عن شماله ، ومرة يكون قدامه ، ومرة يكون خلفه .
وقوله : ( ^ سجدا لله ) أكثر السلف أن السجود هاهنا : هو الطاعة لله ، وأن كل الأشياء ساجدة لله مطيعة من حيوان وجماد ، وهذا محكي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والحسن البصري ، قال الحسن : يا ابن آدم ، ظلك يسجد لله تعالى ، وأنت لا تسجد ، فبئس ما صنعت .
وذكر أبو عيسى الترمذي في جامعه برواية ابن عمر عن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي قال : أربع بعد الزوال قبل الظهر يعدلن مثلهن من السحر ، وما من شيء إلا ويسجد لله في تلك الساعة ، ثم تلا قوله تعالى : ( ^ أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله ) الآية .
قال الضحاك : المراد من سجود الظلال سجود الأشخاص ، وذكر بعضهم أن معنى قوله : ( ^ سجدا لله ) أي : خاضعة ذليلة خادمة فيما أريد لها بأصل الخلقة ، والأشياء .
____________________

( ^ وهم داخرون ( 48 ) ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون ( 49 ) يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون ( 50 ) وقال الله ) * * * * كلها مجبولة على ما أريد لها في أصل الخلقة .
وذكر بعضهم : أنه إنما أضاف السجود إلى هذه الأشياء ؛ لأنها تدعو إلى السجود ، فكأنها في أنفسها ساجدة ، والأصح هو القول الأول ثم الثاني .
وقوله : ( ^ وهم داخرون ) أي : صاغرون . < < النحل : ( 49 ) ولله يسجد ما . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة ) المراد من الدابة هاهنا قالوا : هي الحيوان ؛ لأن الحيوان من شأنه الدبيب ، ويقال : ولله يسجد ما في السموات من الملائكة ، وما في الأرض من دابة .
فإن قال قائل : كيف يستقيم هذا المعنى ، وقد قال بعده : ( ^ والملائكة ) ؟
والجواب من وجهين : أحدهما : أنه خصهم بالذكر تشريفا لهم .
والآخر : أن المراد من الملائكة المذكورين أخيرا هم ملائكة الله في الأرض ، يعبدون الله تعالى ويسبحونه . وقوله : ( ^ وهم لا يستكبرن ) الاستكبار : طلب الكبر بترك الإذعان للحق . < < النحل : ( 50 ) يخافون ربهم من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يخافون ربهم من فوقهم ) قال بعضهم معناه : يخافون عذاب ربهم من فوقهم ، والقول الثاني - وهو الأصح - أن هذه صفة العلو [ التي ] تفرد الله بها ، وهو كما وصف به نفسه من غير تكييف .
وقوله : ( ^ ويفعلون ما يؤمرون ) يعني : أن الملائكة لا يعصونه . < < النحل : ( 51 ) وقال الله لا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وقال الله لا تتخذوا إليهن اثنين ) فإن قال قائل : أيش معنى قوله : ( ^ اثنين ) وقد قال : ( ^ إلهين ) ؟
الجواب من وجهين : أحدهما : على طريق التأكيد ، وهو مثل قوله تعالى : ( ^ فصيام
____________________

( ^ لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون ( 51 ) وله ما في السموات والأرض وله الدين واصبا أفغير الله تتقون ( 52 ) وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا ) * * * * ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا أرجعتم تلك عشرة كاملة ) .
والجواب الثاني : أن الآية على التقديم والتأخير ، ومعناها : وقال الله : لا تتخذوا إلهين اثنين ، إنما هو إله واحد . ( ^ فإياي فارهبون ) يعني : فخافون . < < النحل : ( 52 ) وله ما في . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وله ما في السموات والأرض ) معلوم المعنى . وقوله : ( ^ وله الدين واصبا ) أي : دائما ، هكذا قاله ابن عباس ، والدين بمعنى الطاعة .
وحقيقة المعنى أن [ طاعة ] غير الله تنقطع وتزول ، وطاعة الله لا تزول ولا تنقطع ، وقيل : واصبا أي : خالصا ، والوصب في اللغة هو التعب ، فيقال على هذا : أن معنى الآية أن الطاعات كلها لله ، وإن كان فيها الوصب والتعب .
وقوله : ( ^ أفغير الله تتقون ) أي : تخافون ، وهذا استفهام على طريق الإنكار . < < النحل : ( 53 ) وما بكم من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وما بكم من نعمة فمن الله ) معناه : وما يكن لكم من نعمة فمن الله ، وفي بعض المسانيد برواية ابن عمر عن النبي أنه قال : ' ما مس عبدا نعمة فعلم أنها من الله إلا وقد [ شكر ] الله ، وإن لم يحمده ' .
وقوله : ( ^ ثم إذا مسكم الضر ) قيل : القحط ، وقيل : المرض . وقوله : ( ^ فإليه تجأرون ) الجؤار هو الصوت على وجه الاستغاثة ، ومنه جؤار البقر ، ومعنى الآية أنكم تدعون الله مستغيثين . قال الشاعر :
____________________

( ^ مسكم الضر فإليه تجأرون ( 53 ) ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون ( 54 ) ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون ( 55 ) ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون ( 56 ) ويجعلون لله البنات ) * * * *
( يراوح في صلوات المليك ** فطورا سجودا وطورا وجؤارا ) < < النحل : ( 54 ) ثم إذا كشف . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ثم إذا كشف الضر عنكم ) يعني : ما يضركم . وقوله : ( ^ إذا فريق منكم بربهم يشركون ) أي : يكفرون . < < النحل : ( 55 ) ليكفروا بما آتيناهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ليكفروا بما آتيناهم ) معناه : أن حاصل أمرهم هو كفرهم بما آتيناهم من النعمة ، وهذه اللام وأمثالها تسمى لام العاقبة ، وقيل : إن النعمة هي الآيات التي أراها خلقه على وحدانيته .
وقوله : ( ^ فتمتعوا ) أي : عيشوا المدة التي ضرب لكم في طلب اللذة ( ^ فسوف تعلمون ) عاقبة أمركم . < < النحل : ( 56 ) ويجعلون لما لا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم ) معناه : ويجعلون للأصنام نصيبا مما رزقناهم ، وهو معنى قوله تعالى : ( ^ فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا ) . وقوله : ( ^ لا يعلمون ) يعني : لا يعلمون أنها تضرهم ولا تنفعهم .
وقوله : ( ^ تالله لتسألن عما كنتم تفترون ) معناه : والله لتسألن ، والسؤال سؤال إلزام الحجة ، لا سؤال الاستعلام والاستفهام . < < النحل : ( 57 ) ويجعلون لله البنات . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ويجعلون لله البنات ) هذا معنى قولهم : إن الملائكة بنات الله . وقوله : ( ^ سبحانه ) هو بيان تنزيهه عن قولهم .
وقوله : ( ^ ولهم ما يشتهون ) أي : البنين ، فإنهم كانوا يقولون له البنات ، ولنا البنون . < < النحل : ( 58 ) وإذا بشر أحدهم . . . . . > > وقوله : ( ^ وإذا بشر أحدهم بالأنثى ) كان أهل الجاهلية يودون الذكور من الأولاد ، ويكرهون الإناث ، ويقولون : إنهن لا يقاتلن ، ولا يركبن الخيل ، وكان الرجل منهم إذا دنت ولادة امرأته توارى من نادى قومه ، فإن بشر بالابن ظهر ، ويهنئه القوم ،
____________________

( ^ سبحانه ولهم ما يشتهون ( 57 ) وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم ( 58 ) يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ) * * * * وإن بشر بالأنثى تغير واستخفى وربما يئدها ؛ فهذا معنى < < النحل : ( 59 ) يتوارى من القوم . . . . . > > قوله : ( ^ يتوارى من القوم من سوء ما بشر به ) يعني : من كراهة ما بشر به .
وأما قوله : ( ^ ظل وجهه مسودا وهو كظيم ) معناه : تغير وجهه من الغم ، تقول العرب : اسود وجه فلان ، إذا تغير بما أصابه من الغم .
وقوله : ( ^ وهو كظيم ) أي : ممتلىء حزنا ، وقال ابن عباس : حزين ، وقال غيره : امتلأ حزنا ، فهو يكظمه ، أي : يمسكه ولا يظهره .
وأما قوله : ( ^ أيمسكه على هون ) قرأ الجحدري : ' على هوان ' ، وقال الكسائي : الهون والهوان بمعنى واحد ، وقالت الخنساء شعرا :
( نهين النفوس ووهن النفوس ** ليوم الكريهة أبقى لها )
وقرأ عيسى بن عمر : ' أم يدسها في التراب ' ويلزمه على هذه القراءة أن يقرأ : ' أيمسكها ' ، وأما على القراءة المعروفة فإنها تنصرف إلى لفظة ' ما ' وما بمعنى الذي .
وقوله : ( أم يدسه في التراب ) أي : يدفنه حيا ، وعن قتادة قال : رب أنثى خير لأهلها من غلام ، وفي بعض الأخبار عن النبي أنه قال : ' ما وضعت امرأة بنتا إلا وضع الملك يده على رأسها وقال : ضعيفة خرجت من ضعيفة ، المنفق عليها معان إلى يوم القيامة ' .
____________________

( ^ ساء ما يحكمون ( 59 ) للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم ( 60 ) ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن ) * * * *
وقوله : ( ^ ألا ساء ما يحكمون ) أي : بئس ما يحكمون ، وحكمهم : وأد البنات وترك البنين . < < النحل : ( 60 ) للذين لا يؤمنون . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ) أي : صفة السوء ، وقيل : عاقبة السوء . وقوله : ( ^ ولله المثل الأعلى ) أي : الصفة العليا ، وذلك مثل قولهم : عالم وقادر ورازق وحي ، وغير هذا .
وقال مجاهد : ' ولله المثل الأعلى ' شهادة أن لا إله إلا الله ، فإن قيل : قد قال في موضع آخر : ( ^ فلا تضربوا لله الأمثال ) وقال هاهنا : ( ^ ولله المثل الأعلى ) فكيف وجه الجمع ؟ والجواب أن معنى قوله : ( ^ فلا تضربوا لله الأمثال ) أي : الأمثال التي هي الأشباه فإن الله تعالى لا شبه له ، وأما قوله : ( ^ ولله المثل الأعلى ) أي : الصفة العليا ، وهذا جائز لكل أحد أن يقوله ، بل واجب . وقوله : ( ^ وهو العزيز الحكيم ) قد بينا . < < النحل : ( 61 ) ولو يؤاخذ الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ) أي : بكفرهم . وقوله : ( ^ ما ترك عليها من دابة ) روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : إن الجعل في جحره يعذب بذنب بني آدم ، وعن أبي هريرة أنه سمع رجلا يقول : إن الظالم لا يضر إلا نفسه ، فقال له : بئسما قلت ، إن الحبارى تموت هزلا من ظلم الظالم .
وقال بعض أهل المعاني معنى الآية : لو أخذ الظالمين فأهلك الآباء انقطع النسل ، ولم يوجد الأبناء فيهلك من في الأرض .
____________________

( ^ يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ( 61 ) ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون ( 62 ) تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم ) * * * *
وقوله : ( ^ ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى ) يعني : إلى يوم القيامة . وقوله : ( ^ فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ) ظاهر المعنى . < < النحل : ( 62 ) ويجعلون لله ما . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ويجعلون لله ما يكرهون ) يعني : البنات . وقوله : ( ^ وتصف ألسنتهم الكذب ) معنى الكذب المذكور هو قولهم : ( ^ أن لهم الحسنى ) .
وفي الحسنى قولان : أحدهما : أنها البنون ، والآخر : أنها الجنة . وقوله : ( ^ لا جرم أن لهم النار ) ' لا ' رد لقولهم . وقوله : ( ^ جرم ) أي : حقا ، وقيل : لا محالة أن لهم النار ، وقيل : لا بد ، وقد بينا أن رجم بمعنى كسب ، وذكرنا عليه الاستشهاد .
وقوله : ( ^ وأنهم مفرطون ) أكثر القراء قرأوا بفتح الراء ، وقرأ نافع : ' مفرطون ' بالكسر ، وقرأ أبو جعفر المدني : ' مفرِّطون ' بتشديد الراء .
واختلف القول في معنى قوله : ( ^ مفرطون ) بفتح الراء ، قال سعيد بن جبير ومجاهد : منسيون ، وعنهما : متروكون ، وقيل : مضيعون ، وعن الحسن البصري ، مقدمون إلى النار ، ومنه الفارط ، وهو الذي يتقدم إلى الماء ، قال الشاعر :
( استعجلونا فكانوا من صحابتنا ** كما تقدم فراط لوراد )
وقد ثبت عن النبي أنه قال : ' أنا فرطكم على الحوض ' أي : متقدمكم ، واختار الكسائي وأبو عبيدة والفراء معنى قول مجاهد .
وأما قوله : ' مفرطون ' بكسر الراء ، هو من الإفراط ، يعني : مبالغون في الإساءة ، وأما قوله : ' مفرطون ' هو من التفريط ، يعني : أنهم مقصرون . < < النحل : ( 63 ) تالله لقد أرسلنا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك ) يعني : والله لقد أرسلنا إلى أمم
____________________

( ^ فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم ( 63 ) وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ( 64 ) والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون ( 65 ) وإن لكم في الأنعام لعبرة ) * * * * من قبلك . وقوله : ( ^ فزين لهم الشيطان أعمالهم ) يعني : كفرهم وجحودهم . وقوله : ( ^ فهو وليهم اليوم ) سماه وليا لهم لطاعتهم إياه . وقوله : ( ^ ولهم عذاب أليم ) أي : مؤلم . < < النحل : ( 64 ) وما أنزلنا عليك . . . . . > >
قوله : ( ^ وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه ) الفرق بين التبيين والتمييز ، أن في التبيين طلب العلم ، وليس في التمييز طلب العلم ، فإن الرجل يميز بين الجيد والردىء ( مع علمه ) بهما .
وقوله : ( ^ اختلفوا فيه ) أي : في الكتاب . وقوله : ( ^ وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ) معناه : أن الكتاب هدى ورحمة للمؤمنين ، وقيل : إن الرسول هدى ورحمة للمؤمنين . < < النحل : ( 65 ) والله أنزل من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ والله أنزل من السماء ماء ) أي : المطر . وقوله : ( ^ فأحيا به الأرض بعد موتها ) أي : بالنبات . وقوله : ( ^ إن في ذلك لآية لقوم يسمعون ) يعني : يسمعون سماع التفهم . < < النحل : ( 66 ) وإن لكم في . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم ) قرىء بالنصب والرفع ، أما بالنصب فمعلوم المعنى ، وأما بالرفع فهو أن يجعل لكم سقيا ، قال الشاعر في الفرق بينهما :
( سقى قومي بني مجد وأسقي ** نميرا والقبائل من هلال )
قوله : ( ^ مما في بطونه ) فإن قيل : كيف لم يقل : مما في بطونها ، والأنعام جمع ؟ والجواب عنه : أن معناه : مما في بطون كل واحد منهما أو كل نوع منها ، والعرب قد تحذف مثل هذا ، قال الشاعر :
( ألا يا سهيل فالقطيخ قد فسد ** وطاب ألبان اللقاح فبرد )
____________________

( ^ نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين ( 66 ) ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا ) * * * *
أي بردت .
وقوله : ( ^ من بين فرث ودم ) الفرث هو ما يحصل في الكرش من الثقل ، ويقال : إن العلف الذي تأكله الدابة يتغير في الكرش فيتحول لبنا وفرثا ودما فأعلاه دم ، وأوسطه لبن ، وأسفله فرث ، ثم يميز الله تعالى بينهما ، فيجري كل واحد منهما في مجراه على حدة ، ( فيجعل ) اللبن في الضرع ، ويجعل الدم في العروق ، ويبقى الفرث في الكرش ، فهذا معنى قوله : ( ^ من بين فرث ودم ) .
وقوله : ( ^ لبنا خالصا ) أي : ليس عليه لون الدم ولا رائحة الفرث . وقوله : ( ^ سائغا ) السائغ : ما يجري في الحلق على السهولة ، وفي بعض الأخبار : ما غص أحد بلبن ؛ لقوله : ( ^ سائغا ) . وقوله : ( ^ للشاربين ) ظاهر المعنى . < < النحل : ( 67 ) ومن ثمرات النخيل . . . . . > >
قوله : ( ^ ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ) اختلفوا في السكر ، فالمروي عن ابن عباس : أن السكر ما حرم من الثمر ، والرزق الحسن ما حل من الثمر ، وعن مجاهد وقتادة وإبراهيم النخعي والشعبي : أن الآية منسوخة ، وهذا قبل تحريم الخمر ثم حرمت .
وروي عن الشعبي أنه قال : السكر هو النبيذ ، والرزق الحسن هو التمر والزبيب ، وهذا قول من يبيح ( النبيذ ) ، وأما على قول ابن عباس فالمراد من الآية هو الإخبار عنهم ، لا الإحلال لهم ، وأولى الأقاويل أن قوله : ( ^ تتخذون منه سكرا ) منسوخ .
وفي بعض المسانيد أن النبي قال : ' لكم من العنب خمسة حلال : العصير ، والزبيب ، والخل ، والرب ، وأن تأكلوه عنبا ' والله أعلم بصحته . وقال الشاعر في
____________________

( ^ إن في ذلك لآية لقوم يعقلون ( 67 ) وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون ( 68 ) ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك دللا ) * * * * السكر :
( بئس الضجيع وبئس الشرب شربهم ** إذا جرى فيهم المزاء والسكر )
أي : المسكر . وقوله : ( ^ إن في ذلك لآية لقوم يعقلون ) ظاهر المعنى . < < النحل : ( 68 ) وأوحى ربك إلى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وأوحى ربك إلى النحل ) الآية ، وأوحى ربك أي : ألهم ربك ، والوحي في اللغة هو إعلام الشيء في السترة ، وقد يكون ذلك بالكتابة ، وقد يكون بالإشارة وقد يكون بالإلهام ، وقد يكون بالكلام الخفي ، وقال بعضهم معنى قوله : ( ^ وأوحى ربك إلى النحل ) أي : جعل في غرائزها ذلك ، وقيل : أوحى بمعنى سخر ، وذلل ، وأصح الأقاويل هو الأول . وقوله : ( ^ إلى النحل ) والنحل : ذباب العسل ، وفي رواية ابن عمر عن النبي أنه قال : ' كل الذباب في النار إلا النحل ' والخبر غريب .
وقوله : ( ^ أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ) أي : خلايا ، وهي الأمكنة التي يضع النحل فيها العسل ، ويقال : إنما يضع العسل في أجواف الأشجار ، وقد يضع على أغصان الأشجار ، وقوله : ( ^ ومما يعرشون ) يعني : يبنون ، وقد جرت عادة أهلها أنهم يبنون لها الأماكن فهي تأوي إليها بتسخير الله إياها لذلك . < < النحل : ( 69 ) ثم كلي من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ) أي : طرق ربك ، قال مجاهد : هي تسلك سبلها لا يتوعر عليها مكان .
____________________

( ^ يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون ) * * * *
وقوله : ( ^ ذللا ) يحتمل وجهين :
يحتمل أنه راجع إلى الطرق ، يقال : سبيل ذلول ، وسبل ذلل ، إذا كانت سهلة المسلك ، ويحتمل أنه ينصرف إلى النحل ، ومعناه : أنها مطيعة منقادة لما خلقت له ، ويقال : إن للنحل يعسوبا - وهو سيد النحل - إذا وقفت وقفت ، وإذا سارت سارت ، ويقال : ' ذللا ' يعني لأربابها ؛ فإنه قد جرت العادة أن أربابها ينقلونها من مكان إلى مكان ، فهي مسخرة لذلك .
وقوله : ( ^ يخرط من بطونها ) . فإن قال قائل : إنما يخرج من أفواهها لا من بطونها ؟ ، والجواب عنه أنه إنما ذكر بطونها لأن الاستحالة تقع في بطونها ؛ ولأنه يخرج من بطونها إلى أفواهها ، ثم تسيل من أفواهها كهيئة الريق ، وروي أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - مر على عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد ، وهو مقتول يوم الجمل ؛ فقال : هذا يعسوب قريش شفيت نفسي ، وقتلت قومي ، أشكو إلى الله عجري وبجري ، أي : همومي وأحزاني .
وقوله : ( ^ شراب مختلف ألوانه ) يعني : أحمر ، وأصفر ، وأبيض . وقوله : ( ^ فيه شفاء للناس ) لا يشكل على أحد أن في العسل شفاء لبعض الأمراض ، وقد يجعل في المعجونات وكثير من الأدوية ، وروي عن ابن عباس أنه قال : فيه شفاء للناس ، أي : في القرآن ، والأظهر في الآية هو القول الأول .
وروى أبو سعيد الخدري : ' أن رجلا أتى النبي وذكر أن أخاه اشتكى بطنه فقال : اسقه عسلا ، فسقاه ، فزاد الوجع ، فعاد وذكر له ؛ فقال : اسقه عسلا ، فسقاه فازداد وجعا ، فعاد وذلك له ذلك ؛ فقال : اسقه عسلا ، فسقاه فبرأ ، فعاد وذكر ذلك للنبي فقال : صدق الله ، وكذب بطن أخيك ' .
وعن علي - رضي الله عنه - أنه قال : من اشتكى شيئا فليأخذ من امرأته أربعة
____________________

( ( 69 ) والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير ( 70 ) والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا ) * * * * دراهم من مهرها وليشتر بها عسلا ، وليخلطه بماء المطر وليشربه ؛ فإن فيه شفاء .
وكان ابن عمر إذا أصابه وجع طلى على موضع الوجع بالعسل حتى الدمل : وعن أبي حرة أنه كان يكتحل بالعسل . وقوله : ( ^ إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون ) أي : يتدبرون . < < النحل : ( 70 ) والله خلقكم ثم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر ) يعني : الهرم ، وعن علي - رضي الله عنه - أنه قال : إنه خمس وسبعون سنة ، وقيل : ثمانون سنة ، حكاه قطرب . وقيل : تسعون سنة ، وعن عكرمة قال : من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر ، ومعناه : أنه لا يذهب عقله ولا يخرف ، وقيل : إن الرد إلى أرذل العمر للكافرين ؛ فإن الله تعالى قال : ( ^ ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا ) .
وقوله : ( ^ لكيلا يعلم بعد علم شيئا ) يعني : ينتقص علمه وعقله ، وهذا دليل على أنه قد يذكر الشيء ، ويراد به الأغلب ، فإنه إذا رد إلى أرذل العمر لا يذهب جميع علمه إذا ، وإنما يذهب أكثر علمه . وقوله : ( ^ إن الله عليم قدير ) ظاهر المعنى . < < النحل : ( 71 ) والله فضل بعضكم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ والله فضل بعضكم على بعض في الرزق ) معناه : بسط لهذا وضيق على هذا ، وأكثر لهذا وقلل .
وقوله : ( ^ فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم ) في الآية رد على المشركين في اتخاذهم الأصنام آلهة مع الله ، ومعنى الآية : أن الأحرار المالكين منكم لا تسخو أنفسهم بدفع أموالهم إلى عبيدهم ليشاركوهم في الملك ، فيكونوا وهم سواء ؛ فإذا لم ترضوا هذا لأنفسكم ؛ فأولى أن تنزهوا ربكم عنه ، ونظير هذا ما ذكر في سورة الروم : ( ^ ضرب لكم مثلا من أنفسكم ) إلى قوله : ( ^ فأنتم فيه سواء ) .
____________________

( ^ برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون ( 71 ) والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمت الله هم يكفرون ( 72 ) ويعبدون من دون الله ما لا ) * * * *
وقوله : ( ^ أفبنعمة الله يجحدون ) يعني : بأن أنعم عليكم جحدتموه ، واتخذتم غيره إلها معه . < < النحل : ( 72 ) والله جعل لكم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا ) فيه قولان : أحدهما : أن هذا في آدم - عليه السلام - فإن الله تعالى خلق حواء من بعض أضلاعه .
والقول الثاني : خلق من أنفسكم أزواجا أي : من جنسكم أزواجا .
وقوله : ( ^ وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ) في الحفدة أقوال : روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : هم الأختان ، وعنه أيضا أنه قال : هم الأصهار ، ومعنى الآية على هذا القول : وجعل لكم من أزواجكم بنين وبنات تزوجونهم ؛ فيحصل لكم بسببهم الأختان والأصهار .
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - ومجاهد وغيرهما أنهم قالوا : الخدم ، وعن الحسن البصري قال : الأعوان ، وقيل : [ أولاد ] الأولاد ، وقيل : بنو المرأة من غيره .
والحفد في اللغة : هو الإسراع في العمل ، وفي دعاء القنوت : وإليك نسعى ونحفد أي : نسرع ، وقال الشاعر :
( حفد الولائد حولهن وأسلمت ** بأكفهن أزمة الأجمال )
وقيل : إن البنين هم الكبار ، والحفدة هم الصغار ، ويقال : في الآية تقديم وتأخير ، ومعناه : وجعل لكم حفدة ومن أزواجكم بنين . وقوله : ( ^ ورزقكم من الطيبات ) يعني : من النعم الحلال .
وقوله : ( ^ أفبالباطل يؤمنون ) وهذا على طريق الإنكار . وقوله : ( ^ وبنعمة الله هم
____________________

( ^ يملك لهم رزقا من السموات والأرض شيئا ولا يستطيعون ( 73 ) فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون ( 74 ) ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن ) * * * * يكفرون ) يعني : بالإسلام هم يكفرون ، وقيل : بمحمدهم يكفرون . < < النحل : ( 73 ) ويعبدون من دون . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السموات والأرض شيئا ولا يستطيعون ) المراد من الآية ذكر عجز الأصنام عن إيصال نفع أو دفع ضر . < < النحل : ( 74 ) فلا تضربوا لله . . . . . > > وقوله : ( ^ فلا تضربوا لله الأمثال ) أي : الأشباه ، ومعناه : فلا تجعلوا لله شبها . ولا مثلا ؛ فإنه لا شبه له ، ولا مثل له . وقوله : ( ^ إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون ) ظاهر المعنى . < < النحل : ( 75 ) ضرب الله مثلا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا ) قال مجاهد والضحاك : ضرب المثل لنفسه وللصنم الذي عبد من دونه ، فقوله : ( ^ عبدا مملوكا ) أراد به الصنم . وقوله : ( ^ ومن رزقناه منا رزقا حسنا ) ضرب مثلا لنفسه على معنى أنه الجواد الرازق الذي يعطي من حيث يعلمه العبد ومن حيث لا يعلمه .
وقال قتادة - وهو القول الثاني - هو ضرب مثلا للكافر والمؤمن ، فقوله : ( ^ عبدا مملوكا ) أراد به الكافر ، وقوله : ( ^ ومن رزقناه منا رزقا حسنا ) أراد به المؤمن ، وقيل : إن القول الأول أليق بظاهر الآية ؛ لأنه إنما سبق ذكر الأصنام ، ( وتأخر ذكر الأصنام ) .
ومن نصر القول الثاني استدل على صحته بقوله : ( ^ عبدا مملوكا ) والصنم لا يسمى عبدا ، وفي بعض الروايات عن ابن عباس أن الآية في رجلين بأعيانهما : أما الذي رزقه الله رزقا حسنا ، فهو ينفق منه سرا وجهرا ، هو عمرو بن هشام ، وأما [ العبد ] المملوك فهو هو مولاه أبو الجواب ، وكان يأمره بالإيمان ويمتنع ، أورده
____________________

( ^ رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون ( 75 ) وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو و من يأمر بالعدل وهو على صراط ) * * * * النحاس في تفسيره بإسناده .
وقوله : ( ^ هل يستوون ) فإن قال قائل : كيف قال : ( ^ هل يستوون ) ، وإنما ضرب المثل لاثنين ؟ والجواب عنه : أن المراد منه الجنس لا واحد بعينه . وقوله : ( ^ الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون ) ظاهر المعنى . أي : حمد نفسه على علمه وجهلهم ، وقيل : معناه : قل الحمد لله على ما أوضح من الدليل . وبين من الحق بل أكثرهم لا يعلمون ، ويقال : الحمد لي فإني أنا المستحق للحمد لا ما يشركون بي ، بل أكثرهم لا يعلمون أني أنا المستحق للحمد . < < النحل : ( 76 ) وضرب الله مثلا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم ) الأبكم : هو الذي لا ينطق ، ولا يعقل ، ولا يفهم . وقوله : ( ^ لا يقدر على شيء ) أي : لا يقدر على النطق .
وقوله : ( ^ وهو كل على مولاه ) أي : ثقل على مولاه . وقوله : ( ^ أينما يوجهه لا يأت بخير ) يعني : أينما يبعثه لا يهتدي إلى خير . وقوله : ( ^ هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل ) عنى به نفسه ، والله تعالى يأمر بالعدل ، ويفعل العدل .
وقوله : ( ^ وهو على صراط مستقيم ) أي : على طريق قويم ، والمراد من الآية : ضرب مثلا آخر لنفسه وللأصنام ، فالأول هو الصنم ، والمراد من قوله : ( ^ ومن يأمر بالعدل ) هو الله تعالى . وقوله : ( ^ على صراط مستقيم ) لأن الله تعالى على طريق الحق ، وليس عنه معدل .
وفي الآية قول آخر : وهو ما روى عن ابن عباس أنه قال : الآية في رجلين بأعيانهما : أما الأول : فهو أسيد بن أبي العيض . وقوله : ( ^ ومن يأمر بالعدل ) هو عثمان بن عفان ، وكان عثمان يأمره بالإسلام فلا يسلم . < < النحل : ( 77 ) ولله غيب السماوات . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولله غيب السموات والأرض ) يعني : علم غيب السموات
____________________

( ^ مستقيم ( 76 ) ولله غيب السموات والأرض وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شيء قدير ( 77 ) والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ( 78 ) ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ( 79 ) ) * * * * والأرض . وقوله : ( ^ وما أمر الساعة إلا كلمح البصر ) معناه : أنه إذا قال له : كن فيكون .
وقوله : ( ^ أو هو أقرب ) يعني : أدنى من لمح البصر ، فإن قيل : كيف قال : ( ^ أو هو أقرب ) ، و ' أو ' للشك ولا يجوز على الله هذا ؟
والجواب من وجهين : أحدهما : أن قوله : ( ^ أو هو أقرب ) يعني : بل هو أقرب قال الشاعر :
( بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى ** وبهجته أو أنت في العين أملح )
يعني : بل أنت في العين أملح .
والجواب الثاني : أن المراد منه : أو هو أقرب في علمكم . وقوله : ( ^ إن الله على كل شيء قدير ) ظاهر المعنى . < < النحل : ( 78 ) والله أخرجكم من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا ) يعني : لا تعلمون شيئا مما علمتم الآن .
وقوله : ( ^ وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ) أي : الأسماع والأبصار والأفئدة ، وهي جمع الفؤاد . وقوله : ( ^ لعلكم تشكرون ) أي : نعمتي عليكم . < < النحل : ( 79 ) ألم يروا إلى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ) أي : مذلالات في كبد السماء ، وعن كعب الأحبار أن الطير يرتفع اثنى عشر ميلا ولا يرتفع فوق هذا . وفوق الجو السكاك وفوق السكاك السماء .
وقوله : ( ^ ما يمسكهن إلا الله ) يعني : في حال طيرانهن وقبضهن وبسطهن .
____________________

( ^ والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين ( 80 ) والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر ) * * * * وقوله : ( ^ إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ) أي : لعبرا . < < النحل : ( 80 ) والله جعل لكم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ والله جعل لكم من بيوتكم سكنا ) أي : مواضع تسكنون فيها . وقوله : ( ^ وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا ) يعني : الفساطيط والخيم والقباب من الأدم .
وقوله : ( ^ تستخفونها ) يعني : يخف عليكم حملها . وقوله : ( ^ يوم ظعنكم ) يعني : يوم سفركم . وقوله : ( ^ ويوم إقامتكم ) أي : حال إقامتكم .
وقوله : ( ^ ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها ) الأصواف للغنم ، والأوبار للإبل ، والأشعار للمعز . وقوله : ( ^ أثاثا ) الأثاث : متاع البيت ، وهو ما يتأثث به أي : ينتفع به ، قال الشاعر :
( أهاجتك الظعائن يوم بانوا ** على الزي الجميل من الأثاث )
وقيل : الأثاث اللباس . وقوله : ( ^ ومتاعا إلى حين ) أي : متعة إلى حين آجالكم . < < النحل : ( 81 ) والله جعل لكم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ والله جعل لكم مما خلق ظلالا ) أي : ما يظلكم من الشمس من الأشجار والحيطان والسقوف والجبال وأشباه ذلك .
وقوله : ( ^ وجعل لكم من الجبال أكنانا ) أي : الغيران والأسراب ، والأكنان جمع الكن . وقوله : ( ^ وجعل لكم سرابيل ) أي : قمصا ، وقد تكون من الصوف ، وقد تكون من القطن ، وقد تكون من الكتان .
وقوله : ( ^ تقيكم الحر ) هاهنا حذف ، ومعناه : تقيكم الحر والبرد . قال الشاعر :
( ولا أدري إذا يممت أرضا ** أريد الخير أيهما يليني )
قال النحاس : أريد الخير وأتقي الشر ؛ لأن كل من يريد الخير فيتقي الشر ، وقوله : أيهما يليني أي : الخير والشر .
____________________

( ^ وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون ( 81 ) فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين ( 82 ) يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون ( 83 ) ) * * * *
وقوله : ( ^ وسرابيل تقيكم بأسكم ) أي : الدروع ، والبأس هو ما يقع به البأس ، وهو السلاح . وقوله : ( ^ كذلك يتم نعمته عليكم ) يعني : منته عليكم . وقوله : ( ^ لعلكم تسلمون ) أي : تؤمنون ، وعن ابن عباس أنه قرأ : ' لعلكم تسلمون ' والقراءة غريبة .
فإن قيل : كيف ذكر هذه النعم من الجبال والظلال والسرابيل والقمص والأوبار والأصواف ، ولله تعالى نعم كثيرة فوق هذا لم يذكرها ؟ فما معنى تخصيص هذه النعم وترك ما فوقها ؟
والجواب عنه : أن العرب كانوا أصحاب أنعام ، وكانوا أهل جبال ، وكانت بلادهم حارة ؛ فذكر من النعم ما يليق بحالهم ، وكانت هذه النعم عندهم فوق كل نعمة ؛ فخصها بالذكر لهذا المعنى ، وعن قتادة : أن هذه السورة تسمى سورة النعم . < < النحل : ( 82 ) فإن تولوا فإنما . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين ) هذه تسلية للنبي ومعناه : أنهم إن أعرضوا فلا يلحقك في ذلك عتب ولا سمة تقصيرا ؛ فإنما عليك البلاغ وقد بلغت . < < النحل : ( 83 ) يعرفون نعمة الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها ) قال السدي : هو محمد ، وعلى هذا جماعة من أهل التفسير ، ويقال : إن معناه الإسلام . وروي عن ابن عباس أن معنى الآية : أنه كان إذا قيل لهم : من أعطاكم هذه النعم ؟ فيقولون : الله ، فإذا قيل لهم : فوحدوه ؛ فيقولون : أعطينا بشفاعة آلهتنا .
وعن قتادة : أنهم يقرون أن النعم من الله ، ثم إذا قيل لهم : تصدقوا ، وامتثلوا فيها أمر الله تعالى ، قالوا : ورثناها من آبائنا .
وعن عون بن عبد الله قال : إنكار النعمة هو أن يقول : لولا كذا لأصبت كذا ، ولولا فلان لأصابني كذا . وعن الحسن البصري قال : النعم ستة : محمد ،
____________________

( ^ ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون ( 84 ) وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون ( 85 ) وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون ( 86 ) وألقوا إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون ) * * * * والقرآن ، والإسلام ، والعافية ، والستر ، والاستغناء عن الناس .
وقوله : ( ^ وأكثرهم الكافرون ) يعني : وكلهم الكافرون ؛ لأن الآية في الكفار . < < النحل : ( 84 ) ويوم نبعث من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ) هذا في معنى قوله تعالى : ( ^ فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ) .
وقوله : ( ثم لا يؤذن للذين كفروا ) يعني : في الاعتذار ، وقيل : في الكلام أصلا . وقوله : ( ^ ولا هم يستعتبون ) يعني : لا يردون إلى الدنيا ليتوبوا ، وحقيقة المعنى في الاستعتاب : هو التعريض لطلب الرضا ، وهذا الباب منسد على الكفار في الآخرة . < < النحل : ( 85 ) وإذا رأى الذين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإذا رأى الذين ظلموا العذاب ) يعني : جهنم . وقوله : ( ^ فلا يخفف عنهم ) أي : لا يسهل عليهم . وقوله : ( ^ ولا هم ينظرون ) أي : لا يمهلون . < < النحل : ( 86 ) وإذا رأى الذين . . . . . > > قوله تعالى : ( ^ وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم ) هذا في الوقت الذي يبعث الله الأصنام ويحضرها ، فإذا رآها الكفار ( ^ قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك ) .
وقوله : ( ^ فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون ) فيه قولان :
الأظهر أن هذا قول الأصنام يقولون للمشركين : إنكم لكاذبون ، يعني : في أنا دعوناكم إلى عبادتنا ، أو في قولكم : إن هؤلاء آلهة ، أو في قولكم : إنا نستحق العبادة .
والقول الثاني : أن الملائكة يقولون : إنكم لكاذبون . < < النحل : ( 87 ) وألقوا إلى الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وألقوا إلى الله يومئذ السلم ) أي : استسلم العابد والمعبود لله
____________________

( ( 87 ) الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون ( 88 ) ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ( 89 ) إن ) * * * * تعالى . وقوله : ( ^ وضل عنهم ما كانوا يفترون ) أي : بطل عنهم ما كانوا يكذبون ، وحقيقة المعنى : أنه فات عنهم ما زعموه ؛ فإنه كان فرية وكذبا . < < النحل : ( 88 ) الذين كفروا وصدوا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ) يعني : منعوا الناس من طريق الحق . وقوله : ( ^ زدناهم عذابا فوق العذاب ) روى مسروق عن عبد الله بن مسعود أنه قال : عقارب كالبغال ، وفي رواية أخرى عنه : أفاعي كالفيلة ، وعقارب كالنخيل الطوال ، وعن أبي الزاهرية قال : [ ما ] من عذاب يعرفه الناس ، أو لا يعرفونه إلا ويعذب الله به أهل النار . وروي أنهم يهربون من النار ، فيخرجون إلى زمهرير في جهنم ، هو أشد عليهم من النار ؛ فيعودون إلى النار مستغيثين بها ، وقوله : ( ^ بما كانوا يفسدون ) أي : [ يشركون ] . < < النحل : ( 89 ) ويوم نبعث في . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ) قد بينا المعنى .
وقوله : ( ^ ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ) أي : بيانا للثواب والعقاب ، والحلال والحرام . وعن الأوزاعي قال : تبيانا بالسنة .
وقوله : ( ^ وهدى ) أي : من الضلالة . وقوله : ( ^ ورحمة ) أي : عطفا على من أنزل عليهم . وقوله : ( ^ وبشرى ) أي : بشارة ( ^ للمسلمين ) . < < النحل : ( 90 ) إن الله يأمر . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن الله يأمر بالعدل والإحسان ) في الآية أقوال : أحدها : أن العدل هو شهادة أن لا إله إلا الله ، وهذا مروي عن ابن عباس وغيره ، وقيل : إنه التوحيد ، وهو في معنى الأول .
____________________

( ^ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ) * * * *
والقول الثاني : أنه الإنصاف وترك [ الجور [ ، وعن محمد بن كعب القرظي أنه دعاه عمر بن عبد العزيز حين ولي الخلافة ، فقال له : صف لي العدل ، فقال : كن للصغير أبا ، وللكبير ابنا ، ولمثلك أخا ، وعاقب الناس على قدر ذنوبهم ، وإياك أن تضرب أحدا ( بغضبك ) والقول الثالث : وهو أن العدل هو أن تستوي سريرة المرء وعلانيته .
وقوله تعالى : ( ^ والإحسان ) أن تكون سريرة المرء أفضل من علانيته عند الله ، وقوله : ( ^ والإحسان ) فيه أقوال :
أحدها : أن الإحسان هو العفو ، والآخر : هو أداء الفرائض والثالث : ( أنه ) أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ، والرابع : أنه التفضل ، وقيل : الإحسان أن تكون سريرة المرء أفضل من علانيته .
وقوله : ( ^ وإيتاء ذي القربى ) أي : صلة ذوي الأرحام ، وقيل : إنه يدخل في هذا جميع بني آدم ؛ لأن بينه وبين الكل وصلة بآدم - صلوات الله عليه - وأدنى ما يقع في الصلة ترك الأذى ، وأن يحب له ما يحبه لنفسه ، ويكره له ما يكره لنفسه .
وقوله : ( ^ وينهى عن الفحشاء ) الفحشاء : كل ما استقبح من الذنوب ، وقيل : إنه الزنا ، وقيل : إنه البخل ، وقيل الفحشاء : أن تكون علانية المرء أفظع من سريرته .
وقوله : ( ^ والمنكر ) يعني : كل ما يكون منكرا في الدين ، وقيل : إنه الشرك ، فإنه أعظم المناكير .
وقوله : ( ^ والبغي ) يقال : إنه الظلم والاستطالة على الناس ، وقيل : إنه الكبر ، وقيل : إنه الغيبة ، وعن قتادة قال : جمع الله تعالى كل ما يحب ، وكل ما يكره في هذه الآية .
____________________

( ^ يعظكم لعلكم تذكرون ( 90 ) وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون ( 91 ) ولا تكونوا كالتي ) * * * *
وفي بعض المسانيد : أن شتيرا جاء إلى مسروق ، فقال له : إما أن تحدثني عن عبد الله فأصدقك ، أو أحدثك عن عبد الله فتصدقني ، فقال : حدث أنت ، فقال : سمعت عبد الله يقول : أجمع آية في القرآن للخير والشر قوله تعالى : ( ^ إن الله يأمر بالعدل والإحسان ) فقال له مسروق : صدقت .
ويقال : إن العدل زكاة الولاية ، والعفو زكاة القدرة ، والإحسان زكاة النعمة ، والكتب إلى الإخوان زكاة الجاه ؛ يعني : كتب الوسيلة .
وقوله تعالى : ( ^ يعظكم لعلكم تذكرون ) يعني : تعتبرون . < < النحل : ( 91 ) وأوفوا بعهد الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ) الآية ، قال : العهد هاهنا هو اليمين ، وعن جابر بن زيد والشعبي أنهما قالا : العهد يمين ، وكفارته كفارة اليمين .
وعن عمر قال : الوعد من العهد ، ومثله عن ابن عباس .
وقوله : ( ^ ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها ) أي : بعد إحكامها ( ^ وقد جعلتم الله عليكم كفيلا ) أي : شهيدا ، وقيل : توثقتم باسمه كما يتوثق بالكفيل . وقوله : ( ^ إن الله يعلم ما تفعلون ) وعيد وتهديد . < < النحل : ( 92 ) ولا تكونوا كالتي . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها ) هذه امرأة كانت تسمى ريطة بنت سعد ، وكانت بها وسوسة ؛ فكانت تجلس بجانب الحجر ، وتغزل طول نهارها بمغزل كبير ، فإذا كان العشي نقضته .
وقيل : كانت تأمر جواريها بنقضه ، فشبه الله من نقض العهد بها ، ومعناه : أنها لم تكف عن العمل ، ولا حين عملت كفت عن النقض ، فكذلك أنتم لا كففتم عن العهد ، ولا حين عهدتم وفيتم .
وقوله : ( ^ من بعد قوة ) أي : بعد إحكام . وقوله : ( ^ أنكاثا ) أي : إنقاضا وقطعا .
____________________

( ^ نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون ( 92 ) ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم ) * * * * وقوله : ( ^ تتخذون أيمانكم دخلا بينكم ) أي : غشا وخديعة .
والدخل : ما تدخل في الشيء للفساد ، ويقال : إن ( الدغل ) هو أن يظهر الوفاء ، ويبطن النقض ، وكذلك الدخل .
وقوله : ( ^ أن تكون أمة هي أربى ) أي : أكثر ، وأما معناه : فروى عن مجاهد أنه قال : كانوا يعاهدون مع قوم ، فإذا رأوا أقواما أعز منهم وأكثر ، نقضوا عهد الأولين ، وعاهدوا مع الآخرين ؛ فعلى هذا قوله : ( ^ أن تكون أمة هي أربى من أمة ) يعني : طلبتم العز بنقض العهد بأن كانت أمة أكثر من أمة .
وفي الآية قول آخر : وهي نزلت في قوم عاهدوا مع النبي ثم نقضوا العهد معه ، وعاهدوا مع قوم من الكفار ، فظنوا أن قوتهم أكثر ، لأن عددهم أكثر ، ويقال : إن الآية نزلت في المؤمنين ، نهاهم الله تعالى عن نقض العهد ؛ فكأنه تعالى قال : إذا عاهدتم مع قوم لمخافة ، فإذا أمنتم فلا تنقضوا ، ليكون جانبكم أقوى وأكثر .
وقوله : ( ^ إنما يبلوكم الله به ) يعني : بالكثرة والقلة ، وقيل : يبلوكم الله به يعني : بالأمر بالوفاء بالعهد . وقوله : ( ^ وليبين لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون ) ظاهر المعنى . < < النحل : ( 93 ) ولو شاء الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ) أي : على دين واحد ، وهو الإسلام . وقوله : ( ^ ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ) والآية صريحة في الرد على القدرية .
وقوله : ( ^ ولتسألن عما كنتم تعملون ) يعني : يوم القيامة ، وحقيقة المعنى أني لا أسأل عما أفعل من الإضلال والهداية ، وأنتم تسألون عما تعملون من الخير والشر . < < النحل : ( 94 ) ولا تتخذوا أيمانكم . . . . . > > وقوله تعالى : ( ^ ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم ) أي : سبب فساد بينكم ، وقد
____________________

( ^ تعملون ( 93 ) ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم ( 94 ) ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون ( 95 ) ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ( 96 ) من عمل صالحا من ذكر ) * * * * بينا معنى الدخل .
وقوله : ( ^ فتزل قدم بعد ثبوتها ) يعني : تزل عن الإسلام بعد ثبوتها على الإسلام قال :
( النحو صعب وطويل سلمه ** إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه )
( زلت به إلى الحضيض قدمه ** )
وقوله : ( ^ وتذوقوا السوء ) بالعذاب . وقوله : ( ^ بما صددتم عن سبيل الله ) يعني : سهلتم طريق نقض العهد على الناس بنقضكم العهد . وقوله : ( ^ ولكم عذاب عظيم ) أي : كبير . < < النحل : ( 95 ) ولا تشتروا بعهد . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا ) يعني : شيئا يسيرا من عرض الدنيا . وقوله : ( ^ إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون ) ظاهر المعنى . < < النحل : ( 96 ) ما عندكم ينفد . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ما عندكم ينفد ) يعني : أن الدنيا وما فيها تفنى . وقوله : ( ^ وما عند الله باق ) يعني : الآخرة ، وعلى العاقل أن يؤثر ما يبقى ، وفي بعض الآثار : للدنيا بنون ، وللآخرة بنون ، فكونوا من أبناء الآخرة ، ولا تكونوا من أبناء الدنيا .
وقوله : ( ^ ولنجزين الذين صبروا أجرهم ) يعني : صبروا عن الدنيا . وقوله : ( ^ أجرهم ) أي : ثوابهم وجزاءهم . وقوله : ( ^ بأحسن ما كانوا يعملون ) أي : بأحسن الذي كانوا يعملون . < < النحل : ( 97 ) من عمل صالحا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ) اختلفوا في الحياة الطيبة على أقاويل :
____________________

( ^ أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ( 97 ) فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ( 98 ) ) * * * *
روي عن ابن عباس أنه قال : الحياة الطيبة هي الرزق الحلال . وعن مجاهد وعكرمة : أنها القناعة ، وفي بعض دعاء النبي : ' اللهم قنعني بما رزقتني ' وفي منثور الكلام : القناعة ملك خفي .
والقول الثالث : روي عن الحسن البصري قال : الحياة الطيبة في الجنة ، قال الحسن : وليس في الدنيا حياة طيبة ، وعنه أنه قال : الدنيا كلها بلاء ، فما كان فيها من خير فهو ريح ، وروي أنه سمع رجلا يقول لآخر : لا أراك الله مكروها أبدا ، فقال له : دعوت الله له بالموت ، فإن الدنيا لا تخلو عن المكروه .
وعن سعيد بن جبير قال : الحياة الطيبة رزق يوم بيوم ، وقيل : إنه حلاوة العبادة وأكل الحلال ، ويقال : إنها عيش الإنسان في بلده مع الكفاية والعافية ، وقيل : مطلق الكفاية والعافية .
وقوله : ( ^ ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) قد بينا المعنى . < < النحل : ( 98 ) فإذا قرأت القرآن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فإذا قرأت القرآن ) روي عن أبي هريرة أنه قال : فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم بعد القراءة ؛ لأن الله تعالى قال : ( ^ فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله ) وحكى بعضهم عن مالك مثل هذا .
والأصح أن الاستعاذة قبل القراءة ، وقد روي ذلك بروايات كثيرة عن النبي وقد روي عن النبي برواية أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري عن النبي أنه قال له : ' إذا افتتحت القراءة فقل : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ' . وثبت
____________________

( ^ إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ( 99 ) إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون ( 100 ) وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل ) * * * * أن النبي قال : ' اللهم إني أعوذ بك من الشيطان من همزه ونفثه ' .
وأما معنى الآية : إذا أردت قراءة القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ، وهذا مثل قوله تعالى : ( ^ يأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا ) يعني : إذا أردتم القيام إلى الصلاة ، وفي بعض الآثار : أنه لا شيء أشد على إبليس من الاستعاذة ، والاستعاذة بالله هي الاعتصام بالله .
وقوله : ( ^ من الشيطان الرجيم ) أي : الشيطان المرجوم . < < النحل : ( 99 ) إنه ليس له . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا ) أي : ليس له ولاية على الذين آمنوا . وقوله : ( ^ وعلى ربهم يتوكلون ) يقال معناه : أنه لا يقدر على إيقاعهم في ذنب ليس لهم منه توبة ، وقيل : إنه لا يقدر على إدخالهم في الشرك وإغوائهم . < < النحل : ( 100 ) إنما سلطانه على . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إنما سلطانه على الذين يتولونه ) يعني : الذين يدخلون في ولايته ويتبعونه .
وقوله : ( ^ والذين هم به مشركون ) قال بعضهم : برب العالمين مشركون ، وقال ثعلب : والذين هم به مشركون أي : لأجله مشركون أي : لأجل إبليس ، وهذا معنى صحيح ؛ لأن من يشرك بإبليس يكون مؤمنا بالله ، فالمعنى هذا . < < النحل : ( 101 ) وإذا بدلنا آية . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإذا بدلنا آية مكان آية ) قال أهل التفسير : كان النبي إذا نزلت عليه آية شدة ، ثم نسخت ، وأنزلت عليه آية لين ، قال المشركون : انظروا إلى
____________________

( ^ قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون ( 101 ) قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين ( 102 ) ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه ) * * * * هذا الرجل يبدل كلام الله من قبل نفسه ، وكانوا يقولون على طريق الاستهزاء : وتبدل الشيء بالشيء ؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية : ( ^ وإذا بدلنا آية مكان آية ) ' أي : وضعنا آية مكان آية .
وقوله : ( ^ والله أعلم بما ينزل ) يعني : والله أعلم بمنفعة العباد فيما ينزل .
وقوله : ( ^ قالوا إنما أنت مفتر ) أي : مختلق . وقوله : ( ^ بل أكثرهم لا يعلمون ) يعني : كلهم لا يعلمون أني أنا المنزل لجميع الآيات الناسخ والمنسوخ . < < النحل : ( 102 ) قل نزله روح . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قل نزله روح القدس ) أي : جبريل . وقوله : ( ^ من ربك بالحق ) أي : بالصدق وقوله : ( ^ ليثبت الذين آمنوا ) أي : ليثبت قلوب الذين آمنوا .
وقوله : ( ^ وهدى وبشرى للمسلمين ) قد بينا المعنى . < < النحل : ( 103 ) ولقد نعلم أنهم . . . . . > >
قوله : ( ^ ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر ) الآية ، اختلفت الأقاويل في معنى قوله : ( ^ بشر ) روي عن ابن عباس أنه قال : هو غلام لعامر بن الحضرمي ، وكان يقرأ الكتب ، وكان المشركون يزعمون أن رسول الله يتعلم منه ، وقال مجاهد : هو غلام لحويطب ، وقال غيره : كان اسمه جبر ، ومنهم من قال : غلامان من عين التمر يسمى أحدهما : جبر ، والآخر : يسار ، وكانا يقرآن الكتب بلسانهما ، وقال بعضهم : كان اسمه : أبو ( فكيهة ) ، وقيل : كان اسمه : عايش ، قالوا : كان النبي يجلس إليهما ، ويدعوهما ، إلى الإسلام ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
وقوله : ( ^ لسان الذي يلحدون إليه ) قرئ : ' يلحدون إليه ' و ' يلحدون ' ، والإلحاد : الميل ، والملحد هو الذي مال عن الحق إلى التعطيل ؛ فقوله : ( ^ يلحدون إليه ) أي : يميلون إليه .
وقوله : ( ^ يلحدون إليه ) أي : يميلون القول إليه ، وقال ابن قتيبة : يومئون إليه ،
____________________

( ^ بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ( 103 ) إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ولهم عذاب أليم ( 104 ) إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون ( 105 ) ) * * * * وقوله : ( ^ أعجمي ) الأعجمي : هو الذي لا يفصح بالعربية .
وقوله : ( ^ وهذا لسان عربي مبين ) أي : كلام عربي مبين ، ومعنى الآية : أنه كيف يأخذ منهم ، وهم لا يفصحون بالعربية ؟ وقد روي أن ذلك الرجل الذي كانوا يشيرون إليه أسلم ، وحسن إسلامه . < < النحل : ( 104 ) إن الذين لا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ) يعني : لا يرشدهم الله إلى الحق ، وقد قال في موضع آخر : ( ^ ومن يؤمن بالله يهد قلبه ) .
وقوله : ( ^ ولهم عذاب أليم ) أي : مؤلم . < < النحل : ( 105 ) إنما يفتري الكذب . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكذبون ) فإن قال قائل : قد قال : ( ^ إنما يفتري الكذب ) فأيش معنى قوله : ( ^ وأولئك هم الكاذبون ) ؟
والجواب عنه : أن قوله : ( ^ إنما يفتري الكذب ) هذا إخبار عن فعل الكذب ، وقوله : ( ^ وأولئك هم الكاذبون ) نعت لازم ، ومعناه : أن هذا صفتهم ونعتهم ، وهذا كالرجل يقول لغيره : كذبت ، وأنت كاذب أي : كذبت في هذا القول ، ومن صفتك الكذب . وفي بعض المسانيد عن يعلى بن الأشدق عن عبد الله بن جراد أنه قال : ' قلت يا رسول الله : المؤمن يزني ؟ قال : قد يكون ذلك ، فقلت : المؤمن يسرق ؟ قال : قد يكون ذلك ، فقلت المؤمن يكذب ؟ فقال : لا ، وقرأ قوله تعالى : ( ^ إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله ) ' وعن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنه قال
____________________

( ^ من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ( 106 ) ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين ( 107 ) أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون ( 108 ) لا جرم أنهم في الآخرة هم ) * * * * : الكذب مجانب للإيمان . < < النحل : ( 106 ) من كفر بالله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ من كفر بالله من بعد إيمانه ) نزلت الآية في عمار بن ياسر - رضي الله عنه - أخذه المشركون ، وأكرهوه على سب النبي فطاوعهم في بعض القول ، ثم جاء إلى النبي ، فقال له النبي : ' ما وراءك ؟ فقال : شر يا رسول الله ، لم يتركني الكفار حتى نلت منك ، وذكرت آلهتهم بخير ، فقال : وكيف وجدت قلبك ؟ فقال : مطمئنا بالإيمان ؛ فقال : إن عادوا فعد ؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية ' وتقدير الآية : من كفر بالله من بعد إيمانه فعليهم غضب من الله ولهم عذاب أليم إلا من أكره ، وقلبه مطمئن بالإيمان ( ^ ولكن من شرح بالكفر صدرا ) فحكمه ما بينا . وقوله : ( ^ شرح ) أي : فتح قلبه لقبول الكفر . < < النحل : ( 107 ) ذلك بأنهم استحبوا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة ) يعني : آثروا الحياة الدنيا على الآخرة . واعلم أن المؤمن يجوز أن يطلب الدنيا ، ويطلب الآخرة ، ولكن لا يؤثر الدنيا على الآخرة إلا الكافر . وقوله : ( ^ وأن الله لا يهدي القوم الكافرين ) لا يرشد القوم الكافرين . < < النحل : ( 108 ) أولئك الذين طبع . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون ) أي : عما يراد بهم . < < النحل : ( 109 ) لا جرم أنهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون ) أي : حقا أنهم في الآخرة هم المغبونون .
____________________

( ^ الخاسرون ( 109 ) ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ( 110 ) يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل ) * * * * < < النحل : ( 110 ) ثم إن ربك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد فتنوا ) نزلت الآية في قوم كانوا بقوا بمكة من المسلمين ، وعذبهم المشركون حتى ذكروا كلمة الكفر بلسانهم ، منهم عمار وخباب وصهيب وغيرهم .
وقوله : ( ^ من بعد ما فتنوا ) أي : عذبوا حتى وقعوا في الفتنة ، ثم إنهم بعد ذلك هاجروا ، ولحقوا بالنبي . وقوله : ( ^ ثم جاهدوا وصبروا ) يعني : على الجهاد والإيمان .
وقوله : ( ^ إن ربك من بعدها لغفور رحيم ) أي : من بعد فعلتهم التي فعلوها من إعطاء الكفار بعض ما أرادوا منهم .
فإن قال قائل : إذا كان ذلك رخصة ، فلا يحتاج إلى المغفرة والرحمة ؟ والجواب : أنه يحتمل أنهم فعلوا ما فعلوا ذلك قبل نزول الرخصة . < < النحل : ( 111 ) يوم تأتي كل . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها ) . فإن قيل : كيف قال : تجادل ، وقد سبق ذكر كل ، ولفظ كل مذكر ؟
والجواب عنه : أنه عاد كلمة كل على المؤنث ؛ فلهذا المعنى أنث ، وهذا كما يقال : كل امرأة قائمة ، وما أشبه هذا .
وقوله : ( ^ تجادل عن نفسها ) أي : تخاصم عن نفسها ، ومجادلتهم هي قولهم : والله ربنا ما كنا مشركين ، وقولهم : ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك ، وما أشبه هذا من الأقوال التي ذكرت في القرآن .
وقيل : تجادل عن نفسها : تدفع عن نفسها . وروي عن كعب الأحبار أنه قال : تزفر جهنم يوم القيامة زفرة ، فلا يبقى ملك مقرب ، ولا نبي مرسل إلا خر وجثى على ركبتيه ، ويقول : نفسي نفسي حتى إبراهيم خليل الرحمن فيقول : ربي لا أريد إلا نجاة نفسي ، قال كعب : وهو في كتاب الله تعالى : ( ^ يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها ) .
____________________

( ^ نفس ما عملت وهم لا يظلمون ( 111 ) وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا ) * * * *
وروي أنه قال هذا بين يدي عمر - رضي الله عنه - وقد كان عمر قال له : حدثنا ، ذكرنا . وقوله : ( ^ وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون ) ظاهر المعنى . < < النحل : ( 112 ) وضرب الله مثلا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة ) الآية . أكثر أهل التفسير : أن القرية ها هنا هي مكة - وقوله : ( ^ يأتيها رزقها رغدا من كل مكان ) هو معنى قوله تعالى : ( ^ وارزقهم من الثمرات ) .
وقوله : ( ^ فكفرت بأنعم الله ) الأنعم : جمع النعمة . وقوله : ( ^ فأذاقها الله لباس الجوع والخوف ) ذكر الذوق ، لأن المراد من لباس الجوع والخوف التعذيب ، ويستقيم أن يقال في التعذيب : ذق ، كما قال تعالى : ( ^ ذق إنك أنت العزيز الكريم ) .
والمعنى : أن العذاب يتجدد إدراكه كل ساعة كالذوق .
روي أن الله تعالى سلط عليهم القحط سبع سنين حتى أكلوا ( الطعام ) المحترقة والعلهز ، وهو الوبر بالدم ، حتى كان ينظر أحدهم إلى السماء فيرى كشبه الدخان من الجوع ' .
( ^ والخوف ) هو الخوف من القتل ، ومن سرايا النبي .
والمراد من القرية : أهل القرية ، وهو مثل قوله تعالى : ( ^ واسأل القرية ) وكذلك قوله : ( ^ آمنة ) أي : آمن أهلها ، وكذلك مطمئنة .
وفي الآية قول آخر : وهو أنه كل بلد من بلدان الكفار .
____________________

( ^ يصنعون ( 112 ) ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون ( 113 ) فكلوا مما رزقكم الله حلال طيبا واشكروا نعمت الله إن كنتم إياه تعبدون ( 114 ) إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم ( 115 ) ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا ) * * * *
وفي الآية قول ثالث : وهو أنها المدينة ، وكفران أهلها بأنعم الله هو ما فعلوا بعد النبي من قتل عثمان ، وما يعقبه من الأمور ، وهو قول ضعيف . وأما ذكر اللباس في الآية ، فلأن من جاع لحقه من الهزال والشحوب والتغير ما يزيد ظاهره عما كان من قبل ؛ فجعل ذلك كاللباس لجلوده .
وقوله : ( ^ بما كانوا يصنعون ) أي : يكفرون . < < النحل : ( 113 ) ولقد جاءهم رسول . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولقد جاءهم رسول منهم ) أي : محمد ، وقوله : ( ^ منهم ) أي : نسبهم ، وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان .
وقوله : ( ^ فكذبوه ) أي : كفروا به . وقوله : ( ^ فأخذهم العذاب وهم ظالمون ) أي : كافرون . < < النحل : ( 114 ) فكلوا مما رزقكم . . . . . > > قوله تعالى : ( ^ فكلوا مما رزقكم الله حلال طيبا واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون ) قد بينا المعنى . < < النحل : ( 115 ) إنما حرم عليكم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد ) معنى قوله : ( ^ باغ ) أي : طالب بذلك ليتقوى على المعصية ( ^ ولا عاد ) أي : لا يتعدى القدر الذي جوز له من التناول ، وهذا دليل على أن العاصي في السفر لا يترخص بهذه الرخصة .
وقوله : ( ^ فإن الله غفور رحيم ) ظاهر المعنى . < < النحل : ( 116 ) ولا تقولوا لما . . . . . > >
قوله : ( ^ ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب ) يعني : لوصف ألسنتكم الكذب . وقوله : ( ^ هذا حلال وهذا حرام ) المراد منه : ما ذكروه في البحيرة والسائبة
____________________

( ^ حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون ( 116 ) متاع قليل ولهم عذاب أليم ( 117 ) وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ( 118 ) ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ( 119 ) إن ) * * * * والوصيلة والحام ، وقد كانوا يحلونها لقوم ، ويحرمونها على قوم . وقوله : ( ^ لتفتروا على الله الكذب ) أي : لتختلقوا على الله الكذب . وقوله : ( ^ إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون ) أي : لا يفوزون . < < النحل : ( 117 ) متاع قليل ولهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ متاع قليل ولهم عذاب أليم ) أي : عيشهم في الدنيا متاع قليل ، ( ^ ولهم عذاب أليم ) أي : وجيع . < < النحل : ( 118 ) وعلى الذين هادوا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل ) معناه : ما ذكره في سورة الأنعام ، وهو قوله تعالى : ( ^ وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ) . وقوله : ( ^ وما ظلمناهم ) أي : ما نقصنا من حقهم ( ^ ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) أي : هم الذين نقصوا من حقوقهم . < < النحل : ( 119 ) ثم إن ربك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ) قال أهل العلم : وكل من عمل بمعصية ، فهو من داعي الجهالة . وقوله : ( ^ ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا ) شرط الصلاح هاهنا ، ومعناه : الاستقامة على التوبة . وقوله : ( ^ إن ربك من بعدها لغفور رحيم ) أي : من بعد الفعلة التي تابوا عنها . < < النحل : ( 120 ) إن إبراهيم كان . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن إبراهيم كان أمة ) في الأمة أقوال ، أحسن الأقاويل ما حكاه مسروق عن ابن مسعود أنه المعلم للخير ، وهو الذي يقتدى به ويؤتم ؛ وروي أن عبد الله بن مسعود قال بعد موت معاذ بن جبل : كان معاذ بن جبل أمة ، وأراد به هذا المعنى .
القول الثاني : كان أمة ، أي : إمام هدى ، والقول الثالث : كان أمة أي : كان مؤمنا
____________________

( ^ إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين ( 120 ) شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم ( 121 ) وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين ( 122 ) ثم أوحينا إليك أن ابتع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ( 123 ) إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما ) * * * * بالله ، وجميع الناس كافرون . وقوله : ( ^ قانتا لله ) قال ابن مسعود : مطيعا لله ، وقال غيره : قائما بأوامر الله ، وقيل : دائما على العبادة .
وقوله : ( ^ حنيفا ) أي : مخلصا ، وقيل : مستقيما على الدين .
قوله : ( ^ ولم يك من المشركين ) أي : ممن يعبد الأصنام ، وقال بعض أهل المعاني : كان يرى العطاء والمنع من الله . < < النحل : ( 121 ) شاكرا لأنعمه اجتباه . . . . . > >
قوله : ( ^ شاكرا لأنعمه ) أي : لنعمه . وقوله : ( ^ اجتباه وهداه ) أي : اختاره وأرشده . وقوله : ( ^ إلى صراط مستقيم ) أي : إلى دين الحق . < < النحل : ( 122 ) وآتيناه في الدنيا . . . . . > >
قوله : ( ^ وآتيناه في الدنيا حسنة ) قيل : هي النبوة ، وقيل : لسان الصدق ، وقيل : التنويه لذكره بطاعته لربه ، وقيل : قبول كل أهل الملل له ، وقيل : ضيافته ودعاء الناس له إلى يوم القيامة . وقوله : ( ^ وإنه في الآخرة لمن الصالحين ) ظاهر المعنى . < < النحل : ( 123 ) ثم أوحينا إليك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا ) هذا دليل على أنه يجوز للفاضل أن يتبع المفضول . وقوله : ( ^ وما كان من المشركين ) ظاهر المعنى .
وقد قال بعض أهل الأصول : إن النبي كان مأمورا بشريعة إبراهيم إلا ما نسخ في شريعته بدليل هذه الآية ، وقد قيل غير هذا ، والصحيح أنه كان مأمورا باتباع شريعته في بعض الأشياء ، وصار ذلك شريعة له . < < النحل : ( 124 ) إنما جعل السبت . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه ) معناه : إنما جعل السبت لعنة على الذين اختلفوا فيه . وقوله : ( ^ اختلفوا فيه ) أي : خالفوا فيه ، وقال
____________________

( ^ كانوا فيه يختلفون ( 124 ) ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ( 125 ) وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ) * * * * بعضهم : اختلفوا فيه أي : حرم بعضهم ، وأحل بعضهم يعني : السبت .
وقال مجاهد : كان الله تعالى أمرهم بالجمعة فأبوا ، وطلبوا السبت فشدد عليهم فيه ، وكذلك النصارى أمروا بالجمعة فأبوا ، وطلبوا الأحد ، وأعطى الله تعالى الجمعة لهذه الأمة فقبلوا ، وبورك لهم فيها ، وفي الباب خبر صحيح قد بيناه من قبل .
قوله : ( ^ وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ) ظاهر المعنى . < < النحل : ( 125 ) ادع إلى سبيل . . . . . > > قوله تعالى : ( ^ ادع إلى سبيل ربك ) إلى دين ربك . وقوله : ( ^ بالحكمة ) أي : بالقرآن ، وقيل : الحكمة معرفة الأشياء على مراتبها في الحسن والقبح ، وقيل : الدعاء بالحكمة هو الرد عن القبيح إلى الحسن بشرط العلم .
وقوله : ( ^ والموعظة الحسنة ) الموعظة هي الدعاء إلى الله بالترغيب والترهيب ، وقيل : الموعظة الحسنة هي القول اللين الرقيق من غير غلظة ولا تعنيف .
وقوله : ( ^ وجادلهم بالتي هي أحسن ) أي : مع الإعراض عن أذاهم لك والصبر على مكروههم ، وقد نسخ هذا بآية السيف .
وقوله : ( ^ إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ) ظاهر المعنى . < < النحل : ( 126 ) وإن عاقبتم فعاقبوا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ) أكثر أهل التفسير أن هذه الآية نزلت فيما فعله المشركون بحمزة وأصحابه ؛ فإنه يروى : ' أن النبي - - مر عليه ، وقد بقر بطنه ، وأخذ كبده ، وقطعت مذاكيره وجعلت في فيه ؛ فرأى أمرا فظيعا ؛ فقال : لئن قدرت عليهم لأمثلن بسبعين منهم ، وروي أن الصحابة قالوا قريبا
____________________

( ^ واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون ( 127 ) إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ( 128 ) ) * * * * من هذا القول فأنزل الله تعالى هذه الآية ' .
وقد قال زيد بن أسلم والضحاك : إن الآية مكية ، وليست في حمزة وأصحابه ، والأصح هو الأول .
وقوله : ( ^ ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ) يعني : لئن عفوتم ( ^ لهو خير للصابرين ) أي : خير للعافين ، وقد تحقق هذا العفو في حق وحشي قاتل حمزة بعدما أسلم ، وكذلك هذا في كل المشركين الذين أسلموا . < < النحل : ( 127 ) واصبر وما صبرك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ واصبر وما صبرك إلا بالله ) أي : بمعونة الله . وقوله : ( ^ ولا تحزن عليهم ) أي : لا تحزن على أفعالهم وإبائهم للإسلام .
وقوله : ( ^ ولا تك في ضيق مما يمكرون ) قرئ : ' في ضيق ' ومعنى القراءتين : لا يضيقن صدرك ( ^ مما يمكرون ) أي : يشركون ، وقيل : مما فعلوا من الأفاعيل . < < النحل : ( 128 ) إن الله مع . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ) يعني : اتقوا المناهي ( ^ والذين هم محسنون ) بأداء الفرائض ، [ وقوله ] : ( ^ مع ) بالحفظ والنصرة والمعونة ، والله أعلم .
____________________

<
> بسم الله الرحمن الرحيم <
> ( ^ سبحان الذي أسرى ) * * * * <
> تفسير سورة بني إسرائيل <
>
وهي مكية إلا خمس آيات ، سنذكرها في مواضعها .
وروي عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال : سورة بني إسرائيل والكهف ومريم وطه من تلادي ، وهن من العتاق الأول . < < الإسراء : ( 1 ) سبحان الذي أسرى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ سبحان الذي أسرى بعبده ) سبحان : تنزيه الله من كل سوء ، وحقيقته تعظيم الله بوصف المبالغة ، ووصفه بالبراءة من كل نقص .
وكلمة سبحان ؛ كلمة ممتنعة لا يحوز أن يوصف بها غير الله ؛ لأن المبالغة في التعظيم لا تليق لغير الله ، ولا تنصرف حسب ما ينصرف كثير من المصادر ؛ لأنه لما لم يستقم الوصف به لغير الله ، ولم تتصرف جهاته لزم أيضا منهاجا واحدا في الصرف .
وأما التسبيح في القرآن على وجوه : قد ورد بمعنى الصلاة ، قال الله تعالى : ( ^ فلولا أنه كان من المسبحين ) أي : من المصلين .
وورد بمعنى الاستثناء ، قال الله تعالى : ( ^ قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون ) أي : تستثنون .
وورد بمعنى التنزيه . وهو قوله تعالى : ( ^ سبحان الذي أسرى بعبده ) ، وورد في الخبر بمعنى النور ، وهو في الخبر الذي قال : ' لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره ' أي : نور وجهه ، وقد ورد في الخبر عن النبي ' أنه فسر سبحان الله
____________________

( ^ بعبده ليلا من المسجد الحرام ) * * * * بتنزيه الله من كل سوء ' .
وقوله : ( ^ أسرى بعبده ) يقال : أسرى به إذا سيره ليلا ، وكذا سرى به . قال الشاعر :
( وليلة ذات ندى سريت ** ولم يلتني عن سراها ليت )
وقوله : ( ^ بعبده ) أي : بمحمد ، وقد روي عن النبي أنه قال : ' إن الله اتخذني عبدا قبل أن يتخذني رسولا ' .
وقوله : ( ^ ليلا ) ذكر ليلا ؛ لينبه أنه كان في طائفة منه .
وقرأ ابن مسعود : ' أسرى بعبده من الليل ' . وقوله : ( ^ من المسجد الحرام ) اختلفوا في الموضع الذي أسري منه برسول الله ؛ فأحد القولين : أنه من المسجد الحرام ، وعليه يدل ظاهر الآية .
وعن محمد بن علي الباقر : أن النبي قال : ' كنت نائما في الحجر ، فأتاني جبريل - عليه السلام - وحركني حركة لطيفة ، وقال : يا محمد ، قم وافدا إلى ربك ' .
والقول الثاني : أنه أسرى به من بيت أم هانيء بنت أبي طالب ، وهذا في رواية أبي صالح عن ابن عباس .
____________________

( ^ إلى المسجد الأقصا الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير ( 1 ) ) * * * *
واختلف القول في الوقت الذي أسرى به ؛ قال مقاتل : كان قبل الهجرة بسنة ، ويقال : إنه كان في رجب ، ويقال : في رمضان . وقال بعضهم أسرى به وهو ابن إحدى وخمسين سنة وتسعة أشهر وثمانية وعشرين يوما ، والله أعلم .
وقوله ( ^ إلى المسجد الأقصى ) يعني : إلى مسجد بيت المقدس ، وسماه الأقصى لبعده من المسجد الحرام .
وقوله : ( ^ الذي باركنا حوله ) يعني : بالماء والشجر ، وقيل : باركنا حوله ؛ لأنه ( مواضع ) الأنبياء ومهبط الملائكة .
قوله : ( ^ لنريه من آياتنا ) أي : من عجائب قدرتنا ، وقد رأى هناك الأنبياء ، ورأى آثارهم .
وقوله : ( ^ إنه هو السميع البصير ) - ذكر السميع ها هنا لينبه على أنه المجيب لدعائه ، وذكر البصير لينبه على أنه كان الحافظ له في ظلمة الليل .
وأما الكلام في الإسراء فاختلف القول على أنه أسري بجسمه وروحه أم بروحه ؟ فالأكثرون على أنه أسري بجسمه وروحه جميعا . وعن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت : ما فقد جسم رسول الله وإنما أسري بروحه ؟
وقد تواترت الأخبار الصحيحة على ما يوافق القول الأول ، وأتمها حديث أنس عن مالك بن صعصعة ، عن النبي ، وفيه : أنه أسري به إلى بيت المقدس ثم منه إلى السماء ، واستفتح جبريل السماء الدنيا ، فقيل له : ومن معك ؟ فقال : محمد عليه السلام .
فقالوا : أوبعث ؟ قال : نعم .
____________________

قالوا : مرحبا به ، فنعم المجيء جاء ، وهكذا في كل سماء ، وذكر فيه : أنه رأى في السماء الدنيا آدم - عليه السلام - وفي السماء الثانية ابني الخالة عيسى ويحيى ، وفي السماء الثالثة يوسف ، وفي السماء الرابعة إدريس عليه السلام ، وفي السماء الخامسة هارون ، وفي السماء السادسة موسى ، وفي السماء السابعة إبراهيم ، وفيه أنه قال : ' رفعت إلى سدرة المنتهى ، فإذا أوراقها كآذان الفيلة ، وإذا نبقها كقلال هجر ، ورأيت أربعة أنهار يخرج من أصلها نهران باطنان ونهران ظاهران ؛ فأما الباطنان في الجنة ، وأما الظاهران : فالنيل والفرات وذكر فيه أن الله تعالى فرض عليه خمسين صلاة . . القصة بطولها إلى أن ردت إلى الخمس .
وقد روى شبها بهذه القصة جماعة من الصحابة منهم : ابن عباس ، وأبو موسى الأشعري ، وحذيفة بن اليمان ، وأبو هريرة ، وغيرهم .
وروى معمر عن قتادة عن أنس عن النبي ' أن جبريل عليه السلام جاء بالبراق مسرجا ملجما ، فأراد الرسول أن يركبها فاستعصت عليه ، فقال لها جبريل : والله ما ركبك أحد أكرم على الله منه فارفض به عرقا ' . ذكره أبو عيسى في جامعه .
وقد ثبت عن النبي أنه قال : ' أتيت بدابة دون البغلة وفوق الحمار ، خطوها عند منتهى بصرها ' . وثبت أيضا عن النبي أنه قال : ' رأيت موسى ليلة أسري بي ، كأنه من رجال شنوءة ، ورأيت عيسى ربعة أحمر ، كأنه خرج من ديماس ، ورأيت
____________________

( ^ وآتينا موسى الكتاب ) * * * * إبراهيم وصاحبكم أشبه الناس به ' .
وفي هذا الخبر أنه قال : ' أتيت بإناءين في أحدهما لبن ، وفي الآخر خمر ، فأخذت اللبن وشربته ، فقال جبريل : أصبت الفطرة ، أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك ' .
وفي القصة : أنه لما أصبح تحدث الناس بمسراه ، [ ففتن ] كثير من الناس ، وارتد جماعة ممن آمن به وصدق ، وجاء المشركون إلى أبي بكر - رضي الله عنه - وقالوا له : ألا ترى إلى صاحبك يحدث أنه أسري به إلى بيت المقدس ورجع من ليلته ، ونحن نضرب أكباد الإبل شهرا حتى نصل إليه ! فقال أبو بكر : إن كان قال ذلك فقد صدق ، فقالوا له : أتصدق بمثل هذا ؟ قال : نعم ، وأكثر منه ، فأنا أصدقه أنه يأتيه خبر السماء في غدوة أو روحة .
وقد ثبت عن النبي أنه قال : ' كنت قائما في الحجر ، فرفع لي بيت المقدس ( فجعلت أنعته ) لهم ' وهذا حين سألوه عن وصفه .
وفي القصة : أن المشركين سألوه عن ركب لهم في الطريق فقال : قد بلغ موضع كذا ، ويقدمه جمل أورق ، قالوا : ومتى يصل ؟ قال : مع طلوع الشمس ، فخرج بعضهم يرتقبون العير ، وبعضهم يرتقبون طلوع الشمس ، فقال أولئك : هذا العير قد أقبل ، وقال هؤلاء : هذه الشمس قد طلعت .
____________________

( ^ وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا ( 2 ) ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا ( 3 ) وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض ) * * * *
وروي أنه قال : ' مررت بإناء مغطى وهو ملآن ماء فشربت بعضه وتركته ' فسئل الركب عن ذلك فأخبروا بصورته . < < الإسراء : ( 2 ) وآتينا موسى الكتاب . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وآتينا موسى الكتاب ) الآية يعني : أعطينا موسى الكتاب ، وهو التوراة .
وقوله : ( ^ وجعلناه هدى لبني إسرائيل ) أي : يهتدي به بنو إسرائيل . وقوله : ( ^ ألا تتخذوا ) قرئ بقراءتين : بالتاء ، والياء ، فمن قرأ بالتاء فمعناه : وآتينا موسى الكتاب آمرين ألا تتخذوا ، ومن قرأ بالياء فمعناه : وعهدنا إليهم ألا يتخذوا . قوله : ( ^ من دوني وكيلا ) أي : شريكا ، وقيل معناه : أمرناهم أن لا يتوكلوا على غيري ، ولا يتخذوا أربابا دوني . < < الإسراء : ( 3 ) ذرية من حملنا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ذرية من حملنا مع نوح ) معناه : يا ذرية من حملنا مع نوح ، وقرأ مجاهد بنصب الذال . وعن زيد بن ثابت في بعض الروايات : ' ذرية من حملنا مع نوح ' بكسر الذال . وإنما قال : ( ^ ذرية من حملنا مع نوح ) لأن الخلق الآن من أولاد نوح على ما بينا من قبل .
وقوله : ( ^ من حملنا ) أي : في السفينة .
وقوله : ( ^ إنه كان عبدا شكورا ) سمي نوحا لكثرة نوحه على نفسه ، وقيل : كان اسمه عبد الغفار . ذكره النقاش في تفسيره .
وأما شكره : فروي أنه كان إذا أكل قال : الحمد لله ، وإذا شرب قال : الحمد الله ،
____________________

( ^ مرتين ولتعلن علوا كبيرا ( 4 ) فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس ) * * * * وإذا لبس قال : الحمد الله ، وفي بعض الروايات : أنه إذا دخل قال : الحمد الله ، وإذا خرج قال : الحمد الله ، وكذا في القيام والقعود .
وروي أنه لم يخط خطوة إلا ذكر الله تعالى ، فقال : ( ^ إنه كان عبدا شكورا ) أي : كثير الشكر . < < الإسراء : ( 4 ) وقضينا إلى بني . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب ) الآية . القضاء : فصل الأمر بالأحكام ، ومعنى قضينا ها هنا أي : أوحينا ، وأعلمنا .
وقيل معناه : وقضينا على بني إسرائيل في الكتاب .
وقوله : ( ^ لتفسدن في الأرض مرتين ) أي لتعصن في الأرض مرتين . وقوله : ( ^ ولتعلن ) أي : لتتعظمن وتبغن وتتكبرن .
وقوله : ( ^ علوا كبيرا ) أي : كبرا عظيما . < < الإسراء : ( 5 ) فإذا جاء وعد . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فإذا جاء وعد أولاهما ) يعني : أولى المرتين . وفي القصة : أن فسادهم في المرة الأولى وكان بقتل إشعيا النبي - عليه السلام - وارتكابهم المعاصي ، ورفضهم ما أمروا به . وفي بعض التفاسير : أنهم عبدوا الأوثان .
والأرض المذكورة : أرض الشام ، وأرض بيت المقدس . وقوله : ( ^ بعثنا عليكم عبادا لنا ) هذا البعث هو مثل قوله تعالى : ( ^ أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين ) فيجوز أن تكون بمعنى التسليط ، ويجوز أن تكون بمعنى التخلية بينهم وبين القوم ، [ واختلفت ] الأقاويل في أنهم من كانوا ؟
قال ابن عباس : هم جالوت وقومه ، وقال سعيد بين المسيب : بخت نصر الفارسي ،
____________________

( ^ شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ( 5 ) ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا ( 6 ) إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن ) * * * * وقال غيره : سنحاريب الملك ، وقال بعضهم : العمالقة . وأظهر الأقاويل أنه بخت نصر ، وروي عن مجاهد أنه قال : ملك الأرض أربعة : مؤمنان ، وكافران ؛ أما المؤمنان : فسليمان ، وذو القرنين - عليهما السلام - وأما الكافران : فنمروذ ، وبخت نصر .
قال الشيخ الإمام الأجل : أخبرنا بهذا أبو على الشافعي بمكة قال : أخبرنا أبو الحسن بن فراس قال : أنا أبو جعفر محمد بن إبراهيم الديبلي وقال : أنا سعيد بن عبد الرحمن المخزومي قال : أنا [ سفيان ] بن عيينة عن داود بن شابور عن مجاهد .
وقوله : ( ^ أولي بأس شديد ) أي : أولي قوة شديدة .
وقوله : ( ^ فجاسوا خلال الديار ) والجوس : طلب الشيء بالاستقصاء .
قال الزجاج : طلبوا خلال الديار هل بقي أحد فيقتل ؟ وخلال الديار وسط الديار .
وقوله : ( ^ وكان وعدا مفعولا ) أي : وعدا لا بد منه . قال الشاعر :
( في الجوس جسنا إليك الليل بالمطي ** ) < < الإسراء : ( 6 ) ثم رددنا لكم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ثم رددنا لكم الكرة عليهم ) أي : الدولة عليهم ، وفي القصة : أن هذا التخريب كان بعد ملك سليمان ، وأن بخت نصر قتل المقاتلة ، وسبى الذرية ، وخرب بيت المقدس ، وألقى الجيف في مسجده ، وكان من موت عزير النبي مائة سنة في هذا التخريب ، وما قص الله من أمره في سورة البقرة ، ثم إن الله تعالى رد الدولة إلى بني إسرائيل حتى عمروا ما خرب .
وفي بعض القصص : أن الله تعالى أرسل ملكا إليهم حتى رد العمارات ، واستنقذ
____________________

( ^ أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا ( 7 ) ) * * * * الأسارى ، وعاد البلد أفضل مما كان . فهذا معنى قوله : ( ^ ثم رددنا لكم الكرة عليهم ) وفي تعذيب بخت نصر ومسخه قصة طويلة ليس هذا موضعه .
وقوله : ( ^ وأمددناكم بأموال وبنين ) ظاهر المعنى . وقوله : ( ^ وجعلناكم أكثر نفيرا ) أي : أكثر عددا .
قال الشاعر :
( وأكرم بقحطان من معشر ** وحمير أكرم بقوم نفيرا ) < < الإسراء : ( 7 ) إن أحسنتم أحسنتم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم ) يعني : جلبتم النفع إليها .
وقوله : ( ^ وإن أسأتم فلها ) أي : فعليها .
وقوله : ( ^ فإذا جاء وعد الآخرة ) يعني : وعد الكرة الآخرة . وقوله : ( ^ ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة ) قرئ هكذا ، وقرئ : ' ليسوء وجوهكم ' مقصور ، وعن علي - رضي الله عنه - : ' لنسوء وجوهكم ' بالنون ، وهو اختيار الكسائي ، وفي الشاذ : ' لنسوء وجوهكم ' بفتح اللام . أما قوله : ( ^ ليسوء وجوهكم ) بالياء يعني : أولئك القوم يسوءوا وجوهكم : وقوله : ( ^ ليسوءوا وجوهكم ) أي : ليسوء الوعد وجوهكم .
وقوله : ' لنسوء ' بالنون ظاهر المعنى ، وسوء الوجه بإدخال الغم والحزن .
وقوله : ( ^ وليتبروا ما علو تتبيرا ) أي : ليخربوا ، ويدمروا ما علوا عليه - أي : ما ظهروا - تخريبا .
قال الشاعر :
( وما الناس إلا عاملان فعامل ** يتبر ما يبني وآخر رافع )
وفي القصة : أن فسادهم الثاني كان بقتل يحيى بن زكريا - عليهما السلام -
____________________

( ^ عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا ( 8 ) إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ) * * * * وكان سبب قتله ، أن بغية من بغايا بني إسرائيل طلبت من الملك أن يقتله فقتله ، فلما قتله ، ووقع دمه على الأرض ، جعل يغلي فلا يسكن بشيء ، وسلط الله عليهم عدوهم .
فقيل : إن العدو في الكرة الثانية كان بخت نصر ، وفي الأولى جالوت . وقيل : إن العدو في المرة الثانية كان ملكا من الروم ، جاء وخرب بيت المقدس ، وقتل المقاتلة ، وسبى الذرية .
فروي أنه استصعب عليه فتح المدينة ، فقالت عجوز : أيها الملك ، أتريد أن تفتح هذه المدينة ؟ فقال : نعم ، فقالت : قل اللهم إني أستفتحك هذه المدينة بدم يحيى بن زكريا ، فقال هذا القول ، فتساقطت حيطان المدينة ؛ فدخل بالسيف يقتل ، ووصل إلى المكان الذي يغلي فيه دم يحيى . فقال : لأقتلن عليه الناس حتى يسكن الدم ؛ فقتل عليه أربعين ألفا فلم يسكن ، فقتل خمسين ألفا فلم يسكن ، فقتل ستين ألفا فلم يسكن ، فقال : والله لا أزال أقتل عليه حتى يسكن ، فاستكمل سبعين ألفا فسكن ، وقيل : ثمانين ألفا . < < الإسراء : ( 8 ) عسى ربكم أن . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا ) قال مجاهد : عسى من الله واجب .
وقوله : ( ^ أن يرحمكم ) أي : يرد الدولة إليكم بعد زوالها . وفي القصة : أن الله تعالى رد إليهم الدولة ، وعمر بيت المقدس بعد ما خرب ، [ و ] عاد ملكم على ما كان .
وقوله : ( ^ وإن عدتم عدنا ) معناه : وإن عدتم إلى المعصية عدنا إلى الانتقام . فروي عن إبراهيم النخعي أنه قال : عادوا إلى المعصية ، فانتقم الله منهم بالعرب ، فهم مقهورون مستذلون إلى يوم القيامة ، وقيل : بمحمد . والقولان متقاربان في المعنى .
____________________

( ^ ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا ( 9 ) وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما ( 10 ) ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان ) * * * * وقوله : ( ^ وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا ) قال مجاهد : محبسا ، وقيل : حصيرا أي : حاصرا ، فعيل بمعنى فاعل ، قاله ابن قتيبة .
والحصر هو الحبس ، والسجن يسمى حصيرا في اللغة . < < الإسراء : ( 9 ) إن هذا القرآن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ) فيه قولان : أحدهما : للكلمة التي هي أقوم ، وأقوم أي : أعدل ، والكلمة هي شهادة أن لا إله إلا الله .
والقول الثاني : قاله الزجاج ( ^ يهدي للتي هي أقوم ) أي : للحال التي هي أقوم ، والحال التي هي أقوم : توحيد الله ، واتباع رسله ، وطواعيته في أوامره .
وقوله : ( ^ ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات ) يعني : القرآن يبشر الذين يعملون الصالحات .
وقوله : ( ^ أن لهم أجرا كبيرا ) أي : عظيما . < < الإسراء : ( 10 ) وأن الذين لا . . . . . > >
وقوله : ( ^ وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة ) معناه : ويبشر الذين لا يؤمنون بالآخرة أنا ( ^ أعتدنا لهم عذابا أليما ) أي : أعددنا . والبشارة هاهنا بمعنى الخبر ؛ لأن العرب لا تضع البشارة إلا في موضع السرور .
وحقيقة المعنى أي : ضع هذا الخبر لهم موضع البشارة . < < الإسراء : ( 11 ) ويدع الإنسان بالشر . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ويدعو الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا ) دعاء الإنسان بالشر هو أن يدعو على نفسه وأهله وولده حالة الغضب ، فيقول : اللهم أهلكهم ، اللهم العنهم ، وربما يقول لنفسه هذه المقالة .
وقوله : ( ^ دعاءه بالخير ) أي : كدعائه بالخير ، ويقال : إن هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث فإنه قال : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم .
____________________

( ^ الإنسان عجولا ( 11 ) ) * * * *
فاستجاب الله له ، وضربت عنقه صبرا يوم بدر .
وروي عن النبي أنه قال : ' اللهم إني بشر ، أغضب كما يغضب البشر ، وأيما مسلم لعنته ، أو سببته فاجعلها له صلاة ورحمة ' .
وفي بعض الأخبار : ' أتى النبي بأسير فسلمه إلى سودة بنت زمعة لتحفظه ، وكان الأسير أتى مشدودا فجعل جميع الليل يئن ، فقامت سودة ، وأرخت من وثاقه ؛ فهرب الأسير ، فلما دخل رسول الله قال لها : أين الأسير ؟ فذكرت له ذلك فقال : قطع الله يدك ، وبعث خلف الأسير من رده ، فأخرجت سودة يدها ؛ ليجيء من يقطعها بدعاء النبي ؛ فدخل عليها النبي ، ورآها على تلك الحالة ، فسألها : ممن هذا ؟ فقالت : لدعائك يا رسول الله ؛ فقال رسول الله : ' اللهم إني بشر أغضب كما يغضب البشر . . ' الخبر .
وقوله : ( ^ وكان الإنسان عجولا ) يعني : أنه يعجل بدعاء الشر ، والله لا يعجل بالإجابة .
وفي الآية قول وهو أن هذا في آدم صلوات الله عليه ، وفي القصة : أن الله تعالى أدخل الروح في رأسه ، فجعل ينظر إلى نفسه كيف يخلق ! فلما بلغ الروح وسطه أراد أن يقوم فلم يقدر ، فقال الله تعالى : ' وخلق الإنسان عجولا ' .
هذا محكي عن قتادة وغيره ، وعن سلمان الفارسي أن الله خلق آدم في آخر ساعة
____________________

( ^ وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب ) * * * * من يوم الجمعة ، فجعل الروح تجري في جسده ، ويحيى آدم فنظر إلى الشمس ، وهي تغرب ، فقال : يا رب ، قبل الليل - أي أتم خلقي قبل الليل - فقال الله تعالى : ' وخلق الإنسان عجولا ' .
وفي أصل الآية قول آخر ؛ وهو أن معنى قوله : ( ^ ويدعو الإنسان بالشر ) أي : يدعو بفعل المعصية كما يدعو بفعل الطاعة . قال الشاعر :
( عسى فارج الهم عن يوسف ** يسخر لي ربة المحمل )
والصحيح ما قدمنا من قبل . < < الإسراء : ( 12 ) وجعلنا الليل والنهار . . . . . > >
قوله : ( ^ وجعلنا الليل والنهار آيتين ) أي : علامتين دالتين على أن لهما إلها واحدا .
وقيل : علامتين على الليل والنهار ، والمراد من الليل والنهار : هو الشمس والقمر .
وقوله : ( ^ فمحونا آية الليل ) روي عن علي وابن عباس أنهما قالا : المحو هو السواد الذي في القمر .
وفي بعض الآثار أن ابن الكواء قام إلى علي فسأله عن هذا فقال : أعمى - أراد عمى القلب - يسأل عن عمياء ! ثم قال : هو السواد الذي في القمر ، وقيل : إن معنى قوله : ( ^ فمحونا آية الليل ) أي : جعلنا الليل بحيث لا يبصر فيه كما [ لا ] يبصر الكتاب إذا محي .
وقال قتادة وجماعة من المفسرين ، وهو محكي أيضا عن ابن عباس قالوا : إن الله تعالى خلق الشمس والقمر مضيئين نيرين كل واحد منهما مثل الآخر في الضياء ، فلم يكن يعرف الليل من النهار ، والنهار من الليل ، فأمر جبريل حتى مسح بجناحه
____________________

( ^ وكل شيء فصلناه تفصيلا ( 12 ) وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا ( 13 ) اقرأ كتابك ) * * * * وجه القمر .
قال مقاتل : انتقص مما كان تسعة وستون جزءا ، وبقي جزء واحد .
وقوله : ( ^ وجعلنا آية النهار مبصرة ) أي : مضيئة نيرة ، وقيل : ذات أبصار أي : يبصر بها .
وقوله : ( ^ لتبتغوا فضلا من ربكم ) بالنهار .
وقوله : ( ^ ولتعلموا عدد السنين والحساب ) أي : عدد السنين وحساب الشهور والأيام .
وقوله : ( ^ وكل شيء فصلناه تفصيلا ) أي : بيناه تبيينا . < < الإسراء : ( 13 ) وكل إنسان ألزمناه . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ) روى عطاء عن ابن عباس قال معناه : ما قدر له من خير وشر .
وعن مجاهد : عمله من خير وشر ، وعن الضحاك : أجله ورزقه وسعادته وشقاوته . وعن أبي عبيدة قال : حظه . وقيل : كتابه .
وعن مجاهد في رواية أخرى : ورقة ( متعلقة ) في عنقه مكتوب فيها شقي أو سعيد . والأقوال متقاربة ، وإنما سمي طائرا أي : ما طار له من خير أو شر ، وهذا على جهة التمثيل والتشبيه ، ومن ذلك السوانح والبوارح ، فالسانح : هو الذي يطير من قبل اليمين ، فيتبرك به الإنسان ، والبارح : هو الذي يطير من قبل الشمال ، فيتشاءم به الإنسان . قال الشاعر :
( تطير غدائر الإشراك شفعا ** ووترا والزعامة للغلام )
وقوله : ( ^ ونخرج له يوم القيامة ) وقرىء : ' ويخرج له ' بالياء أي : الطائر يخرج له ،
____________________

( ^ كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ( 14 ) من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ( 15 ) وإذا أردنا ) * * * * وقرىء : ' ويخرج له يوم القيامة كتاب ' على ما لم يسم فاعله ، وقرىء ' ويخرج ' بفتح الياء يعني : عمله يخرج ( ^ كتابا ) يوم القيامة ، كأنه يتحول العمل كتابا في القيامة .
وقوله : ( ^ يلقاه ) قرأ الحسن : ' يلقاه ' بضم الياء من التلقية ، وهذا في الشاذ .
وقوله : ( ^ منشورا ) في الآثار أن الله تعالى يأمر الملكين بطي الصحيفة ، إذا تم عمر العبد ، فلا ينشر إلى يوم القيامة ، وهذا في معنى قوله تعالى : ( ^ وإذا الصحف نشرت ) . < < الإسراء : ( 14 ) اقرأ كتابك كفى . . . . . > >
قوله : ( ^ اقرأ كتابك ) فيه إضمار ، وهو أنه يقال له : اقرأ كتابك . قال قتادة : يقرأ كل إنسان سواء كان قارئا في الدنيا ، أو لم يكن قارئا .
وقوله : ( ^ كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ) أي : شاهدا قال الحسن : عدل معك من جعلك حسيب نفسك .
وقال بعضهم : يقال له هذا كتاب كان لسانك قلمه ، وريقك مداده ، وجوارحك قرطاسه ، وكتب المملي على كاتبيك ، فاقرأ ما أمليت ، والله أعلم . < < الإسراء : ( 15 ) من اهتدى فإنما . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ) أي : نفع اهتدائه له .
وقوله : ( ^ ومن ضل فإنما يضل عليها ) أي : وبال ضلالته عليه .
وقوله : ( ^ ولا تزر وازرة وزر أخرى ) يقال : نزلت هذه الآية في الوليد بن المغيرة ، فإنه قال لمن أسلم : ارجعوا إلى دينكم القديم ، فإني أحمل أوزاركم ؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية ، ومعناه : أنه لا يؤاخذ أحد بذنب أحد ، وقيل : ليس لأحد أن يذنب ، فيقول : فلان قد أذنب فأنا أتبعه ، فإني لا آخذ أحدا بذنب أحد .
وقوله : ( ^ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) هذا دليل على أن ما وجب وجب
____________________

( ^ أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ( 16 ) ) * * * * بالسمع لا بالعقل ، فإن الله تعالى نص أنه لا يعذب أحدا حتى يبعث الرسول .
وفي بعض المسانيد عن أبي هريرة أنه قال : إن الله تعالى يبعث يوم القيامة أهل الفترة و [ المعتوه ] والأصم والأبكم والأخرس والشيوخ الذين لم يدركوا الإسلام ( فيؤجج ) لهم نارا ، فيقول : ادخلوها ، فيقولون : كيف ندخلها ، ولم تبعث إلينا رسولا ؟ ! ولو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما ، فيرسل الله إليهم رسولا ، فيطيعه من علم الله أنه يطيعه ، ويعصيه من علم الله أنه يعصيه ، فيفصل بينهم على ذلك . < < الإسراء : ( 16 ) وإذا أردنا أن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإذا أردنا أن نهلك قرية ) أي : أهل قرية ، وقرىء ( ^ أمرنا مترفيها ) والمعروف هذا ، وقرىء : ' آمرنا ' - بالمد - ، ' مترفيها ' وهذل محكي عن علي ، وقرئ ' أمرنا ' بالقصر والتشديد ، وقرئ : ' أمرنا - بكسر الميم - مترفيها ' وهذا محكي عن ابن عباس .
أما قوله : ( ^ أمرنا ) فيه قولان : أحدهما : معناه أمرناهم بالطاعة ففسقوا وعصوا .
وهكذا روي عن ابن عباس وجماعة من التابعين منهم ابن جريج وغيره .
والقول الثاني : أمرنا أي : أكثرنا ، يقال : أمر القوم : إذا كثروا ، قال الشاعر :
( إن يغبطوا يهبطوا وإن أمروا ** يوما يصيروا للهلك والنكد )
وأنكر الكسائي أن يكون أمرنا بمعنى أكثرنا ، وقال : هو آمرنا بمعنى أكثرنا ، وهذا هو اللغة الغالبة .
وأما أبو عبيدة فقال : تقول العرب : أمرنا بمعنى أكثرنا ، وإنما احتجنا إلى هذا التأويل ؛ لأن الله تعالى لا يأمر بالمعاصي .
وهذا باتفاق الأمة وفي الآية سؤال معروف ، وهو أنه يقال : كيف يأمر مترفيها بالفسق ، والله تعالى يقول : ( ^ إن الله يأمر بالعدل والإحسان ) ، ويقول : ( ^ إن الله
____________________

( ^ وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا ( 17 ) من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ( 18 ) ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا ( 19 ) ) * * * * لا يأمر بالفحشاء ) ؟ والجواب ما سبق .
وفي الآية قول ثالث وهو أنه معنى قوله : ( ^ أمرنا مترفيها ) أي : بعثنا ، وفي قراءة أبي بن كعب : ' وإذا أردنا أن نهلك قرية بعثنا مترفيها ' ، وأما قوله : ' أمرنا ' بالتشديد أي : سلطنا .
وقيل : أمرنا أي : جعلناهم أمراء ؛ فيجوز أن يكون بعثنا على هذا المعنى .
وأما ' أمرنا ' - بكسر - الميم فقد ذكروا أنه ضعيف في اللغة .
وقوله : ( ^ مترفيها ) أي : منعميها ، والمترف : الملك المنعم ، أورده ثعلب .
وقوله : ( ^ ففسقوا فيها ) أي : عصوا فيها . ( ^ فحق عليها القول ) أي : وجب عليها العذاب .
وقوله : ( ^ فدمرناها تدميرا ) أي : أهلكناها إهلاكا . < < الإسراء : ( 17 ) وكم أهلكنا من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح ) . اختلفوا في القرن ، فقال بعضهم : القرن مائة وعشرون سنة ، وقال بعضهم : مائة سنة ، وقال بعضهم : ثمانون سنة ، وقال بعضهم : أربعون سنة ، والمراد من القرون أهل القرون .
وقوله : ( ^ وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا ) ظاهر المعنى . < < الإسراء : ( 18 ) من كان يريد . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ من كان يريد العاجلة ) أي : الدنيا ، وهذا وصف الكفار ؛ لأنهم الذين يريدون الدنيا ، ولا يريدون الآخرة ، والآية في قوم أرادوا العاجلة فحسب .
وقوله : ( ^ عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ) يعني : لمن نريد إهلاكه .
وقوله : ( ^ ثم جعلنا له جهنم يصلاها ) أي : يدخلها ، وقيل : يقاسي حرها .
وقوله : ( ^ مذموما مدحورا ) والمذموم من الذم ، والمدحور هو المطرود والمبعد من
____________________

( ^ كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا ( 20 ) انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا ( 21 ) ) * * * * رحمة الله ، يقال : ( دحره ) عن كذا أي : أبعده . < < الإسراء : ( 19 ) ومن أراد الآخرة . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ومن أراد الآخرة ) أي : طلب الآخرة ( ^ وسعى لها سعيها وهو مؤمن ) أي : عمل لها عملها ، وهو مؤمن .
وقوله : ( ^ فأولئك كان سعيهم مشكورا ) أي : مقبولا .
ويقال : إن الشكر من الله هو قبول الحسنات ، والتجاوز عن السيئات ، وقيل معنى الآية : أنه وضع أعمالهم الموضع الذي يشكر عليها . < < الإسراء : ( 20 ) كلا نمد هؤلاء . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ كلا نمد هؤلاء وهؤلاء ) يعني : المؤمنين والكفار .
وقوله : ( ^ من عطاء ربك ) أي : من رزق ربك .
وقوله : ( ^ وما كان عطاء ربك محظورا ) أي : ممنوعا .
وأجمع أهل التفسير أن معنى عطاء ربك في هذه السورة هو الدنيا ، فإن الآخرة للمتقين ، وليس للكفار فيها نصيب .
وفي بعض المسانيد عن النبي أنه قال : ' إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم ، وإن الله تعالى يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ، ولا يعطي الدين إلا من يحب ' . < < الإسراء : ( 21 ) انظر كيف فضلنا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض ) يعني : الدنيا ، ومعنى
____________________

( ^ لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا ( 22 ) ) * * * * لتفضيل هو التقتير والتوسيع ، والتقليل والتكثير ، والقبض والبسط ، وقد روي في بعض الآثار أن الله تعالى عرض ذرية آدم على آدم فرأى فيهم تفاوتا شديدا ! فقال : رب هلا سويت بين خلقك ؟ فقال : يا آدم ، أردت أن أشكر .
وقوله : ( ^ وللآخرة أكبر درجات ) قد بينا أن الدرجة ما بين السماء والأرض .
وفي بعض المسانيد عن أبي هريرة عن النبي أنه قال : ' الجنة مائة درجة ؛ ما بين كل درجتين خمسمائة سنة ' .
وقوله : ( ^ وأكبر تفضيلا ) أي : أعظم تفضيلا .
وفي الأخبار أن النبي قال : ' إن المؤمنين يدخلون الجنة بإيمانهم ؛ ويقتسمون الدرجات بأعمالهم ' . < < الإسراء : ( 22 ) لا تجعل مع . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ لا تجعل مع الله إلها آخر ) فيه قولان : أحدهما : أن الخطاب مع الرسول ، والمراد فيه الأمة ، وقد بينا نظير هذا من قبل .
والقول الآخر : لا تجعل أيها الإنسان مع الله إلها آخر ، وهذا الخطاب مع كل أحد .
وقيل : إن المراد منه النبي على ما هو الظاهر ، وهو وإن كان معصوما ، فلم يسقط عنه الخطاب بالاحتراز والمباعدة عن الكفر .
وقوله : ( ^ فتقعد مذموما مخذولا ) أي : مذموما من غير حمد ، ومخذولا من غير نصر .
____________________

( ^ وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو ) * * * *
وقيل : مخذولا أي : متروكا من العصمة ، والله تعالى إذا ترك العبد فقد أهلكه .
ومعنى قوله : ( ^ فتقعد ) أي : فتكون مأفوكا ، وتبقى مخذولا . < < الإسراء : ( 23 ) وقضى ربك ألا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ) قرأ عبد الله بن مسعود : ' ووصى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ' ، وقال الضحاك : كان في الأصل ' ووصى ' إلا أنه اتصل الواو بالصاد في الكتابة فقرىء : ' وقضى ' . والمعروف هو قوله : ( ^ وقضى ) . وعليه اتفاق القراء ؛ ومعناه : وأمر ربك ؛ وحقيقة القضاء هو إحكام الشيء وإمضاؤه على وجه الفراغ منه ، ومنه قولهم : قضى القاضي بين الخصمين ، ومنه قوله تعالى : ( ^ ثم اقضوا إلي ولا تنظرون ) أي : أفرغوا ما في أنفسكم وامضوه ، فعلى هذا معنى قوله : ( ^ وقضى ربك ) أي : حكم عليهم ربك حكم تعبد .
ومعنى الفراغ هاهنا : هو إتمام التعبد . وفي بعض التفاسير : أن رجلا أتى الحسن البصري وقال : إني طلقت امرأتي ثلاثا ، فقال : عصيت ربك ، وبانت منك امرأتك ، فقال الرجل : كذلك كان قضاء الله ؟ فقال الحسن : كذبت ، ما قضى الله . أي : ما أمر الله ، وكان الحسن فصيحا فلم يفهم الناس قوله ؛ فذكروا أنه ينكر القدر .
وفي بعض الروايات أنه قيل له : إن بني أمية يقتلون الناس ، ويقولون : كذا قضاء الله ، فقال الحسن : كذب أعداء الله ؛ ومعناه ما بينا .
وقيل : إنه أنكر جعلهم ذلك علة لقتلهم ، ذكره ابن قتيبة في المعارف .
وقوله : ( ^ ألا تعبدوا إلا إياه ) يعني : أن توحدوه ولا تشركوا به . وقوله : ( ^ وبالوالدين إحسانا ) أي : أمر أن تحسنوا بالوالدين إحسانا .
وقد ثبت عن النبي برواية ابن مسعود ، أنه سأل رسول الله فقال : ' أي الذنوب أعظم ؟ فقال : الإشراك بالله . قال : ثم أي ؟ قال : عقوق الوالدين ' .
____________________

( ^ كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما ( 23 ) ) * * * *
وقوله : : ( ^ إما يبلغان ) وقرئ : ' إما يبلغن عندك الكبر ' فقوله : ( ^ يبلغان ) ينصرف إليهما ؛ فعلى هذا قوله : ( ^ أحدهما أو كلاهما ) على وجه الاستئناف .
وقوله : ( ^ يبلغن ) ينصرف إلى أحدهما ، فقوله : ( ^ أو كلاهما ) على البدل منه .
وقوله : ( ^ فلا تقل لهما أف ) قرئ : ' أف ' بكسر الفاء ، و ' أف ' بفتح الفاء ، و ' أف ' بكسر الفاء والتنوين . قالوا : وفيه ست لغات : أفًّا وأفٌّ وأفٍّ الثلاثة بالتنوين ، وأفَّ وأفُّ وأفِّ بغير التنوين .
قال الأصمعي : الأف وسخ الأذن ، والتف وسخ الأظفار ، وقيل : الأف وسخ الأظفار ، والتف الشيء الحقير ، وحقيقته أنه كلمة تقال عند الضجر من الشيء واستثقاله ، وقيل : الأف بأدنى ما يتبرم به ، فمنى الآية : لا يتبرم بهما ، ولا يستثقل معالجة أذاهما . وذكر مجاهد أنه عند الحدث وذكر البول وصاحبه أنه لا يستثقل معالجتهما في ذلك ؛ كما لم يستثقلا معالجته .
وقوله : ( ^ ولا تنهرهما ) الانتهار من النهر ، [ و ] هو الزجر بالإغلاظ والصياح .
وقوله : ( ^ وقل لهما قولا كريما ) أي : قولا لينا .
وعن محمد بن علي الباقر قال : شر الآباء من يحمله البر على الإفراط ، وشر الأبناء من يحمله التقصير على العقوق .
وعن علي - رضي الله عنه - قال : لو علم الله شيئا أبلغ في الزجر من قوله : ( ^ أف ) ، لنهى عن ذلك ، ثم قال علي : ليعمل البار ما شاء فلن يدخل النار ، وليعمل العاق ما يشاء فلن يدخل الجنة .
وفي الأخبار ، عن النبي أنه قال : ' البر يزيد في العمر ' . وذكر مسلم في
____________________

( ^ واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ( 24 ) ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين ) * * * * الصحيح برواية سهيل عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي قال : ' رغم أنفه . رغم أنفه ، رغم أنفه ! فقيل : من يا رسول الله ؟ قال : من أدرك أبويه على الكبر أو أحدهما فلم يدخل الجنة ' .
وروى عامر بن ربيعة أن رجلا أتي النبي فقال : ' إن أبوي قد توفيا ، فهل بقي شيء أبرهما به ؟ فقال : نعم ، إنفاذ عهدهما ، وإكرام صديقهما ، والاستغفار لهما ، والصدقة عنهما ' . < < الإسراء : ( 24 ) واخفض لهما جناح . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ واخفض لهما جناح الذل من الرحمة ) معناه : وألن جانبك لهما .
وعن عائشة - رضي الله عنها - أطعهما ما أمراك . والخفض هو التواضع ، وجناح الذل : ترك الاستعلاء . مأخوذ من استعلاء الطائر [ بجناحيه ] .
وقوله : ( ^ من الرحمة ) أي : من الشفقة والعطف .
وقرأ عاصم الجحدري ويحيى بن دثار : ' واخفض لهما جناح الذل ' - بكسر الذال - فالذل - بضم الذال - من التذلل ، أي : كن لهما كالذليل المقهور ، والذل - بكسر الذال - من الانقياد والطاعة .
وعن سعيد بن المسيب قال : كن بين يديهما كالعبد المذنب بين يدي السيد الفظ الغليظ .
____________________

( ^ فإنه كان للأوابين غفورا ( 25 ) وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا ( 26 ) ) * * * *
وقوله : ( ^ وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ) أي : كما رحماني بتربيتي صغيرا . < < الإسراء : ( 25 ) ربكم أعلم بما . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ربكم أعلم بما في نفوسكم ) أي : بما في قلوبكم . وقوله : ( ^ إن تكونوا صالحين ) أي : مطيعين .
وقوله : ( ^ فإنه كان للأوابين غفورا ) ووجه اتصال الآية بما قبلها ، هو أن الله تعالى قال : ( ^ ربكم أعلم بما في نفوسكم ) من العقوق والبر ، فإن بدرت من بار بدرة من العقوق ، فإن الله كان للأوابين غفورا يعني : [ للتوابين ] غفورا .
وفي الأواب أقوال كثيرة ، روي عن ابن عباس أنه قال : هو الذي يرجع من الشر إلى الخير ، وعن سعيد بن المسيب : هو الذي كلما أذنب تاب وإن كثر ، وعن عبيد بن عمير : هو الذي لا يقوم من مجلس حتى يستغفر الله من ذنوبه ، وقيل : إن الأواب هو المسبح ، قال الله تعالى : ( ^ يا جبال أوبي معه ) وعن محمد بن المنكدر قال : الأواب الذي يصلي بين المغرب والعشاء ، وتسمى الصلاة في ذلك الوقت صلاة الأوابين ، وعن عون العقيلي قال : الأواب هو الذي يصلي الضحى ، وعن السدي قال : هو الذي يذنب سرا ويتوب سرا .
وأصل الأواب : هو الراجع ، قال الشاعر :
( يومان يوم مقامات وتفدية ** ويوم سير على الأعداء تأويب ) < < الإسراء : ( 26 ) وآت ذا القربى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وآت ذا القربى حقه ) الأكثرون على أن ذا القربى ها هنا قرابة الإنسان ، ومعنى الآية : الأمر بصلة ذوي الأرحام .
وعن علي بن الحسين قال : ذا القربى ها هنا قرابة الرسول . وقوله : ( ^ والمسكين )
____________________

( ^ إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا ( 27 ) وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا ( 28 ) ) * * * * أي : السائل الطواف .
وقوله : ( ^ وابن السبيل ) قيل : المنقطع به ، وقيل : الضيف . وقوله : ( ^ ولا تبذر تبذيرا ) أي : لا تسرف إسرافا .
والتبذير : هو الإنفاق في غير طاعة الله تعالى . وعن عثمان بن الأسود قال : كنت أطوف مع مجاهد بالبيت فقال : لو أنفق عشرة آلاف درهم في طاعة الله ما كان مسرفا ، ولو أنفق درهما واحدا في معصية الله ، كان من المسرفين . < < الإسراء : ( 27 ) إن المبذرين كانوا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين ) أي : أشباه الشياطين ، وقيل : سماهم إخوان الشياطين ؛ لأنهم اتبعوا ما سول لهم الشياطين ، [ وقيل ] لمن اتبع إنسانا في شيء هو أخوه .
وقوله : ( ^ وكان الشيطان لربه كفورا ) أي : بربه كافرا . < < الإسراء : ( 28 ) وإما تعرضن عنهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإما تعرضن عنهم ) الإعراض صرف الوجه عن الشيء ( . . . . ) أو إلى من هو أولى منه ، أو لإذلال من يصرف عنه الوجه .
وقوله : ( ^ ابتغاء رحمة من ربك ) أي : طلب رزق من ربك .
وقوله : ( ^ ترجوها ) الرجاء : تعليق النفس بمن تطلب منه الخير . وعن علي رضي الله عنه قال : لا ترجون إلا ربك ، ولا تخافن إلا من ربك .
____________________

( ^ ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا ( 29 ) ) * * * *
وقوله : ( ^ فقل لهم قولا ميسورا ) اليسر : ضد العسر ، والميسور ها هنا هو العدة في قول أكثر المفسرين . وهو أن يقول : يأتينا شيء فنعطيه . وعن سفيان الثوري قال : عدة النبي دين ، وقيل : القول الميسور هو أن تقول : يرزقنا الله وإياك ، أو يقول : بارك الله فيك .
واعلم أن الآية خطاب مع النبي ، وقد كان هؤلاء القوم يسألونه ، وكان يكره الرد وليس عنده شيء يعطى ، فجعل يمسك من القول ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ( ^ فقل لهم قولا ميسورا ) . < < الإسراء : ( 29 ) ولا تجعل يدك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ) الآية . روى ابن مسعود : ' أن امرأة بعثت غلاما إلى رسول الله تسأله شيئا ، فقال النبي : ليس عندي شيء ، فرجع الغلام وذكر لها ؛ فردت الغلام وقالت : سله قميصه الذي هو لابسه ، فسأله فأعطاه ذلك ، وبقي في البيت بلا قميص ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ' .
وقوله : ( ^ ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ) أي : لا تبخل ، والكلام على وجه التمثيل فجعل البخيل الممسك كمن يده مغلولة إلى عنقه .
وقوله : ( ^ ولا تبسطها كل البسط ) أي : لا تسرف في الإعطاء .
وقوله : ( ^ فتقعد ملوما محسورا ) والملوم : هو الذي أتى بما يلوم به نفسه ويلومه غيره ، والمحسور هو المنقطع به الذي قد ذهب ماله ، وبقي ذا حسرة ، يقال : دابة حسير إذا أعيت من السير فقامت بالراكب . فمعنى الآية لا تحمل على نفسك كل الحمل في الإعطاء ، فتصير بمنزلة من بلغت به النهاية في التعب والإعياء .
قال قتادة : محسورا أي : نادما . وأنشدوا في الدابة الحسير :
____________________

( ^ إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا ( 30 ) ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقكم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا ( 31 ) ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا ( 32 ) ) * * * *
( له ديك حسري ** فأما عظامها فبيض ** وأما جلدها فصليب ) < < الإسراء : ( 30 ) إن ربك يبسط . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا ) ظاهر المعنى ، وقد بينا معنى البسط والقدر من قبل . < < الإسراء : ( 31 ) ولا تقتلوا أولادكم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق ) أي : خشية الفقر ، وقد كانوا يئدون البنات خشية الفقر .
وقوله : ( ^ نحن نرزقهم وإياكم ) أي : نحن المعطي للزرق لا أنتم .
وقوله : ( ^ إن قتلهم كان خطأ كبيرا ) المعروف : ' خطأ ' بالكسر والقصر . وقرأ ابن كثير ' خطاء كبيرا ' بالكسر والمد ، وقرأ ابن عامر : ' خطأ ' بفتح الخاء والطاء والقصر ، وقرئ : ' خطآء ' بالفتح والمد ، فأما قوله : ' خطأ ' بالكسر والقصر أي : إثما كبيرا . وأما قوله : ' خطأ ' بالكسر والمد ، وقال الأزهري : أهل اللغة لا يعرفون هذا ! ولعله لغة .
وأما قوله : ' خطاء ' بالفتح والقصر مصدر مثل قوله : أخطا ، والفرق بين الخِطأ والخَطأ كلاهما بالقصر أن الخطأ - بالكسر - ما يتعمد بالفعل وآثم فاعله . والخطأ - بالفتح - ما لم يتعمد . وأنشدوا :
( عباد يخطئون وأنت رب ** كريم لا يليق بك الذموم ) < < الإسراء : ( 32 ) ولا تقربوا الزنى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولا تقربوا الزنا ) ظاهر المعنى .
وقوله : ( ^ إنه كان فاحشة ) الفاحشة : فعل قبيح على أقبح الوجوه .
وقوله : ( ^ وساء سبيلا ) أي : ساء طريقا ، ومعناه بئس السلك هذا الفعل .
وفي بعض الأخبار برواية علي - رضي الله عنه - عن النبي أنه قال : ' في الزنا
____________________

( ^ ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا ( 33 ) ) * * * * ست خصال : ( ثلاث ) في الدنيا ، ( وثلاث ) في الآخرة ؛ أما الثلاث في الدنيا : يذهب نور الوجه ، ويورث الفقر ، وينقص العمر ، وأما الثلاث في الآخرة : فغضب الرب ، وسوء الحساب ، ودخول النار ' . < < الإسراء : ( 33 ) ولا تقتلوا النفس . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ) قد ثبت عن النبي أنه قال : ' لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : الكفر بعد الإيمان ، والثيب الزاني ، والقاتل نفسا بغير حق ' .
فقوله : ( ^ إلا بالحق ) فالقتل بالحق أن يقع بأحد هذه الأشياء الثلاثة .
وقوله : ( ^ ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا ) أي : سلطان القود ، هكذا قاله قتادة وغيره . وعن الضحاك أن السلطان ها هنا هو تخيير ولي القتيل بين أن يقتل أو يعفو ، أو يأخذ الدية .
وأصل السلطان هو الحجة ، فلما ثبت هذا لولي القتيل بحجة ظاهرة سماه سلطانا ، وقيل : معنى الآية أن الولي يقتل ؛ فإن لم يكن ولي ، قتله السلطان .
وقوله : ( ^ فلا يسرف في القتل ) أكثر المفسرين على أن السرف في القتل أن يقتل غير القاتل ، وقيل : إن السرف في القتل أن يمثل بالمقتول ، وعن سعيد بن جبير قال : السرف في القتل أن يطلب قتل الجماعة بالواحد ، وقد كانت الجاهلية لا يرضون بقتل القاتل وحده ؛ إذا كان المقتول شريفا ويطلبون قتل القاتل وجماعة معه من أقربائه وقومه .
____________________

( ^ ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا ( 34 ) ) * * * * وقرئ : ' فلا تسرف ' ' بالتاء ' على خطاب ولي القتيل ، وأما ' بالياء ' على المغايبة . وفي الآية قول آخر وهو أن معنى قوله : ( ^ فلا يسرف في القتل ) بالياء أي : القاتل الأول المتعدي .
وقوله : ( ^ إنه كان منصورا ) على هذا يعني أن القاتل الأول لو تعدى فولي القتيل منصور من قبلي ، وقد قال أهل المعاني : أن معنى قوله : ( ^ إنه كان منصورا ) معناه أي : القتيل منصور في الدنيا والآخرة ؛ أما النصرة في الدنيا ففي إيجاب القود له . وأما النصرة في الآخرة فبتكفير خطاياه ، وبإيجاب الثأر لقاتله ، وقيل : إنه كان منصورا ؛ أي : ولي القتيل .
وقرأ أبي بن كعب : ' فلا تسرفوا في القتل إن ولي القتيل كان منصورا ' . < < الإسراء : ( 34 ) ولا تقربوا مال . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ) معناه : إلا بالعفة التي هي أحسن . واختلفوا في معناه على أقاويل : أحدها : أن القربان بالأحسن هو حفظ الأصول ، وتثمير الفروع ، والآخر : أن القربان بالأحسن هو التجارة في ماله ، وهذا قريب من الأول ، والقول الثالث : أن القربان بالأحسن هو أن لا يخالط مال اليتيم بمال نفسه .
فروى سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أنه لما نزلت هذه الآية ميز الأوصياء طعامهم من طعام اليتامى ، وشرابهم من شراب اليتامى ، وكانوا يمسكون طعام اليتيم حتى يأكل أو يفسد ، فأنزل الله تعالى : ( ^ وإن تخالطوهم فإخوانكم ) .
وعن مجاهد أنه قال : القربان بالأحسن أن يستقرض من مال اليتيم إذا احتاج إليه ، فإذا استغنى رد .
____________________

( ^ وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا ( 35 ) ) * * * *
وقال سعيد بن المسيب : لا يقرب ماله أصلا ، ولا يشرب الماء من ماله .
وذهب بعض العلماء منهم أبو يوسف إلى أن قوله تعالى : ( ^ ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ) منسوخ بقوله تعالى : ( ^ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) . وقد ذكرنا في هذا المعنى من قبل ما هو أكثر من هذا .
وقوله : ( ^ حتى يبلغ أشده ) الأكثرون على أن الأشد هو الحلم ، ومنهم من قال : ( ثمان ) عشرة سنة ، ومنهم من قال : ثلاث وثلاثون سنة ، وهذا وقت منتهى القوة وتمام العقل بالحنكة والتجارب .
وقوله : ( ^ وأوفوا بالعهد ) قال قتادة : العهد : كل ما أمر الله تعالى به ونهى عنه .
وقوله : ( ^ إن العهد كان مسئولا ) فيه أقوال : أحدها : أنه كان مظلوما ، وهو قول السدي .
والآخر : كان مسئولا عنه ، وهو أحسن الأقاويل ، والثالث : أن العهد يسأل عن صاحب العهد . فيقال له : فيم نقضت ، كالموءودة تسأل فيم قتلت ؟ .
وفي معنى العهد قول آخر : وهو أنه كل ما يلتزمه الإنسان على نفسه . < < الإسراء : ( 35 ) وأوفوا الكيل إذا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وأوفوا الكيل إذا كلتم ) ظاهر المعنى .
وقوله : ( ^ وزنوا بالقسطاس المستقيم ) فيه قولان : أحدهما : أنه القبان ، والآخر : أنه كل ميزان يكون . ذكره الزجاج .
واختلفوا أن القسطاس رومي أو عربي ؟ قال مجاهد : هو رومي معرب ، وقال غيره :
____________________

( ^ ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد ) * * * * هو عربي مأخوذ من القسط ، والقسط هو العدل ، فعلى هذا معنى الآية وزنوا بالعدل المستقيم .
وقوله : ( ^ ذلك خير ) يعني : ذلك خير لكم في الدنيا بحسن الذكر . ( ^ وأحسن تأويلا ) وأحسن عاقبة في الآخرة . < < الإسراء : ( 36 ) ولا تقف ما . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولا تقف ما ليس لك به علم ) قالوا : معناه ولا تقل ما ليس لك به علم ، وقرئ : ' ولا تقف ما ليس لك به علم ' برفع القاف ؛ معناه ما ذكرنا ، ومنهم من قال : معنى قوله : ( ^ ولا تقف ) أي : لا ترم بالظن ما ليس لك به علم . وأصل القيافة اتباع الأثر ، يقال : قفوت فلانا ، إذا [ اتبعت ] أثره . وحقيقة المعنى : ولا تتبع لسانك ما ليس لك به علم فيتكلم بالحدس والظن .
وروي عن النبي أنه قال : ' نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفوا أمنا ، ولا ننتفي من أبينا ' .
وفي بعض الأخبار أن النبي قال : ' من تقوف ما ليس له به علم حبس في ردغة الخبال حتى يخرج مما قال ' .
وقوله : ( ^ إن السمع والبصر والفؤاد ) روي عن قتادة أنه قال : لا تقل سمعت ولم تسمع ، ولا رأيت ولم تر ، ولا علمت ولم تعلم . واختلف القول في سؤال السمع والبصر والفؤاد ؛ ففي أحد القولين : يسأل المرء عن سمعه وبصره وفؤاده .
____________________

( ^ كل أولئك كان عنه مسؤولا ( 36 ) ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا ( 37 ) كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها ( 38 ) ذلك مما ) * * * *
والقول الثاني : أن السمع والبصر والفؤاد يسأل عما فعله المرء . فإن قيل : قد قال : ( ^ كل أولئك كان عنه مسئولا ) ، وأولئك لا يقال إلا للعقلاء ؟ والجواب : قلنا : يجوز أن يقال لغير العقلاء . قال جرير :
( ذم المنازل بعد منزلة اللوى ** والعيش بعد أولئك الأيام ) < < الإسراء : ( 37 ) ولا تمش في . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولا تمش في الأرض مرحا ) المرح هو الفرح بالباطل ، ويقال : هو الأشر والبطر ، ويقال : هو البأو والعظمة ، وقيل : الخيلاء .
وقوله : ( ^ إنك لن تخرق الأرض ) أي : لن تثقب الأرض ، وقيل : لن تقطع الأرض بالسير .
وقوله : ( ^ ولن تبلغ الجبال طولا ) أي : لا يقدر أن يتطاول الجبال ، وفي المعنى وجهان : أحدهما : أن الإنسان إذا مشى مختالا ، فمرة يمشي على عقبيه ، ومرة يمشي على صدور قدميه . فقال : لن تثقب الأرض إن مشيت على عقبيك ، ولن تبلغ الجبال طولا إن مشيت على صدور قدميك .
والوجه الثاني : أن من أراد أن يخرق الأرض أو يطاول الجبال لا يحصل على شيء ، فكذلك من مشى مختالا لا يحصل باختياله على شيء . < < الإسراء : ( 38 ) كل ذلك كان . . . . . > >
وقوله : ( ^ كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروها ) قرى : ' سيئه ' وقوله : ' سيئة ' بالتنوين أي : كل ما نهيت عنه في هذه الآيات فهي سيئة مكروهة عند ربك ، ومن قرأ ' سيئه ' بالرفع فمعناه على التبعيض ؛ لأنه قد تقدم بعض ما ليس بسيئة مثل قوله : ( ^ وآت ذا القربى حقه ) ، وكذلك قوله : ( ^ واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما ) وغير ذلك . فمعناه أن ما تقدم في هذه الآيات من السيئة مكروهة عند ربك .
____________________

( ^ أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا ( 39 ) أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما ( 40 ) ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا ( 41 ) قل لو كان معه ) * * * * < < الإسراء : ( 39 ) ذلك مما أوحى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ) كل ما أمر الله به ونهاه فهي حكمة .
وقوله : ( ^ ولا تجعل مع الله إلها آخر ) قد بينا هذا من قبل ، وهو أن الخطاب معه ، والمراد منه الأمة .
وقوله : ( ^ فتلقى في جهنم ملوما مدحورا ) أي : مطرودا . < < الإسراء : ( 40 ) أفأصفاكم ربكم بالبنين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ أفأصفاكم ربكم ) معناه : أفجعل لكم الصفوة ، وجعل لنفسه ما ليس بصفوة ؟ وهذا على طريق الإنكار فإنهم كانوا يقولون : الملائكة بنات الله .
وقوله : ( ^ بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا ) هذا معناه .
وقوله : ( ^ إنكم لتقولون قولا عظيما ) أي : فظيعا كبيرا . < < الإسراء : ( 41 ) ولقد صرفنا في . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولقد صرفنا في هذا القرآن ) فيه قولان : أحدهما : تكرير الأمر والنهي والمواعظ والقصص ، والآخر : تبيين القول بجميع جهاته .
وقوله : ( ^ ليذكروا ) معناه : ليتعظوا .
وقوله : ( ^ وما يزيدهم إلا نفورا ) أي : ما يزيدهم التبيين إلا نفورا . وقيل : تصريف القول في الأمر والنهي . < < الإسراء : ( 42 ) قل لو كان . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قل لو كان معه ) أي : مع الله ( ^ آلهة ) .
وقوله : ( ^ كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا ) فيه قولان : أحدهما : إذا لطلبوا إلى ذي العرش سبيلا بالتقرب إليه ، والآخر : وهو الأصح إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا بالمفازة والمغالبة وطلب الملك ، وهذا مثل قوله تعالى : ( ^ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) .
____________________

( ^ آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا ( 42 ) سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا ( 43 ) تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح ) * * * * < < الإسراء : ( 43 ) سبحانه وتعالى عما . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا ) ظاهر المعنى . < < الإسراء : ( 44 ) تسبح له السماوات . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن ) قد بينا من قبل .
وقوله : ( ^ وإن من شيء إلا يسبح بحمده ) قال عكرمة : وإن من شيء حي إلا يسبح بحمده وعن عكرمة أيضا قال : الشجرة تسبحه .
وعن مجاهد قال : كل الأشياء تسبح لله حيا كان أو جمادا ، وتسبيحها ( بسبحان الله وبحمده ) .
وعن أبي صالح أنه سمع صرير باب فقال : هو تسبيحه .
وعن علي - رضي الله عنه - أنه قال : لا تضربوا الدواب على رءوسها فإنها تسبح الله ، وعن ابن عباس : إن تسبيح هذه الأشياء : يا حليم ، يا غفور .
وروى منصور بن المعتمر أبو غياث عن إبراهيم النخعي قال : ' وإن من شيء جماد أو حي إلا يسبح بحمده حتى صرير الباب ونقيض السقف .
واعلم أن لله في الجماد علما لا يعلمه غيره ، ولا يقف عليه غيره ، فينبغي أن يوكل علمه إليه . وقال بعض أهل المعاني : تسبيح السماوات والأرض والجمادات وسائر الحيوانات سوى العقلاء ، هو ما دلت بلطيف تركيبها وعجيب هيئاتها على خالقها ، فيصير ذلك بمنزلة التسبيح منها .
والمنقول عن السلف ما قلنا من قبل ، والله أعلم .
وقوله تعالى : ( ^ ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) أي : لا تعلمون تسبيحهم .
وعن الحسن البصري أن موضع هذه الآية في التوراة ألف آية كان الله تعالى قال :
____________________

( ^ بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا ( 44 ) وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا ( 45 ) وجعلنا على قلوبهم أكنة أن ) * * * * سبح لي كذا ، وسبح لي كذا ، وسبح لي كذا ، وعلى القول الأخير قوله : ( ^ ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) أي : لا تستدلون بمشاهدة هذه الأشياء على تعظيم الله . وهذا ليس بمعتمد ، والصحيح ما بينا .
وقوله : ( ^ إنه كان حليما غفورا ) قد بينا معنى الحليم والغفور . < < الإسراء : ( 45 ) وإذا قرأت القرآن . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا ) روي في الأخبار أنه لما نزلت سورة ( ^ تبت يدا أبي لهب ) جاءته امرأته أم جميل ، ومعها فهر ، وقصدت النبي وهي تقول : مذمما أبينا ، ودينه قلينا ، وأمره عصينا ، وكان النبي جالسا مع أبي بكر في الحجر ، فقال أبو بكر للنبي : هذه المرأة قد جاءت ، فقال النبي : إنها لا تراني ؛ وقرأ هذه الآية ؛ فجاءت المرأة ، وقالت : يا أبا بكر ، أين صاحبك ؟ فقد بلغني أنه هجاني ، وهجا أبا لهب ، وقد علمت قريش أني بنت سيدها . فلم يقل أبو بكر شيئا ، ورجعت وهي تقول : قد كنت جئت بهذا الحجر ؛ لأرضخ رأسه ' . روته عائشة رضي الله عنها .
ومنهم من قال : كان النبي يصلي ويقرأ القرآن ، وكان المشركون يقصدونه بالأذى ، فكانوا يجيئون ولا يرونه .
وقوله : ( ^ حجابا مستورا ) فيه قولان : أحدهما : حجابا ساترا ، والآخر : مستورا به . وقيل : إن الحجاب الذي جعله الله هو الأكنة التي خلقها على قلوبهم . < < الإسراء : ( 46 ) وجعلنا على قلوبهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وجعلنا على قلوبهم أكنة ) أي : أغطية ، وحكى بعض السلف أنه
____________________

( ^ يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا ( 46 ) نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون ) * * * * سمع رجلا يقرأ : ( ^ وما منع الناس أن يؤمنوا إذا جاءهم الهدى ) فقال : الأكنة .
وقوله : ( ^ أن يفقهوه ) معناه : كراهة أن يفقهوه ، وقيل : لئلا يفقهوه .
وقوله : ( ^ وفي آذانهم وقرا ) أي : ثقلا ، ومعناه : لئلا يسمعوه . وفي الآية رد على القدرية صريحا .
وقوله : ( ^ وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ) هو قوله : لا إله إلا الله .
وقوله : ( ^ ولوا على أدبارهم نفورا ) أي : نافرين .
ومثل هذا قوله تعالى : ( ^ وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة ) . < < الإسراء : ( 47 ) نحن أعلم بما . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ نحن أعلم بما يستمعون به ) قال أهل التفسير : ' به ' صلة ، ومعناه نحن أعلم بما يستمعون ، أي : يطلبون سماعه ، وهو في معنى قوله تعالى : ( ^ وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون ) .
وقوله تعالى : ( ^ إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى ) أي : ذووا نجوى . وفي القصة : أن النبي كان يقرأ ، والمشركون قد اجتمعوا ، وكانوا يتناجون فيما بينهم ، فيقول هذا : كاهن ، ويقول هذا : ساحر ، ويقول هذا : شاعر ، ويقول هذا : مجنون ؛ ويريدون به الرسول .
وقوله : ( ^ إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ) قال مجاهد : مخدوعا ، وقال أبو عبيدة : رجلا له سحر ، وهو الرئة ، يعني : أنه بشر . قال الشاعر :
( أرانا موضعين ( لحتم ) غيب ** ونسحر بالطعام وبالشراب )
____________________

( ^ إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ( 47 ) انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا ( 48 ) وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا ( 49 ) قل كونوا حجارة أو حديدا ( 50 ) ) * * * *
أي : نعلل ونخدع ، وهو على تأويل الخدع ، وهو الأصح .
وقيل : مسحورا أي : مصروفا عن الحق . < < الإسراء : ( 48 ) انظر كيف ضربوا . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ انظر كيف ضربوا لك الأمثال ) أي : الأشباه .
وقوله : ( ^ فضلوا فلا يستطيعون سبيلا ) أي : وصولا إلى طريق الحق . < < الإسراء : ( 49 ) وقالوا أئذا كنا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وقالوا أءذا كنا عظاما ورفاتا ) قال الفراء : رفاتا ، أي : ترابا ، وقال غيره : رفاتا : أي : حطاما . يعني : إذا تحطمنا .
وقوله : ( ^ أءنا لمبعوثون خلقا جديدا ) قالوا ذلك على طريق الإنكار . < < الإسراء : ( 50 ) قل كونوا حجارة . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قل كونوا حجارة أو حديدا ) فإن قيل : كيف يأمرهم بأن يكونوا حجارة أو حديدا ، وهم لا يقدرون عليه قطعا ؟ والجواب : أن هذا أمر تعجيز ، وليس بأمر إلزام ، ومعنى الآية أي : استشعروا في قلوبكم أنكم حجارة أو ( حديد ) ، فلو كنتم كذلك لم تفوتوني ، وقيل معناه : لو كنتم خلقتم من الحجارة والحديد بدل اللحم والعظم لمتم ثم بعثتم . قاله أبو جعفر محمد بن جرير الطبري . < < الإسراء : ( 51 ) أو خلقا مما . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ أو خلقا مما يكبر في صدوركم ) قال ابن عباس ، وابن عمر ، وعبد الله بن عمرو بن العاص : هو الموت . ومعناه : لو كنتم الموت بعينه لأدرككم الموت .
وقد ثبت الخبر عن النبي أنه قال : ' يجاء بالموت يوم القيامة على هيئة كبش أغبر ، فيوقف بين الجنة والنار ؛ فيعرفه كلهم ، فيذبح ، فيقال : يا أهل الجنة ، خلود لكم ولا موت ، ويا أهل النار ، خلود ولا موت ' .
____________________

( ^ أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك رءوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا ( 51 ) يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا ( 52 ) ) * * * *
وعن مجاهد أن معنى قوله : ( ^ أو خلقا مما يكبر في صدوركم ) هو السماوات والأرض والجبال . أي : لو كنتم كذلك لمتم وبعثتم .
وقال قتادة : هو كل ما يعظم في عين الإنسان وصدره . وعن الكلبي قال : هو القيامة .
وقوله : ( ^ فسيقولون من يعيدنا ) ظاهر المعنى .
وقوله : ( ^ قل الذي فطركم أول مرة ) أي : أنشأكم أول مرة ، ومن قدر على الإنشاء فهو على الإعادة أقدر .
وقوله : ( ^ فسينغضون إليك رءوسهم ) أي : يحركون إليك رءوسهم ، وهذا على طريق الاستهزاء .
وقوله : ( ^ ويقولون متى هو ) أي : متى الساعة ؟ وهذا أيضا قالوه استهزاء .
وقوله : ( ^ قل عسى أن يكون قريبا ) معناه : أنه قريب ، ' وعسى ' من الله واجب على ما بينا . < < الإسراء : ( 52 ) يوم يدعوكم فتستجيبون . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده ) أي : حامدين له . فإن قيل : كيف يصح هذا ؟ والخطاب مع الكفار ؛ والكافر كيف يبعث حامدا لربه ؟
والجواب من وجهين : أحدهما : أنه خطاب للمؤمنين ، وقد انقطع خطاب الكفار إلى هذه الآية .
والقول الثاني : أن الخطاب مع الكفار ، ومعنى قوله : ( ^ فتستجيبون بحمده ) أي : مقرين أنه خالقكم وباعثكم .
وقوله : ( ^ وتظنون إن لبثتم إلا قليلا ) هذا في جنب مدة القيامة ( والخلود ) فلو مكث الإنسان في قبره الألوف من السنين ، يعد ذلك قليلا في جنب ما يصل إليه من
____________________

( ^ وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا ( 53 ) ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم وما أرسلناك ) * * * * الخلود .
وعن قتادة قال : إنهم يستحقرون مدة الدنيا في جنب القيامة .
وعن سعيد بن أبي عروبة قال : يقومون فيقولون : سبحانك اللهم وبحمدك . والأولى أن يكون هذا في المؤمنين .
وقال الكلبي : إن الله تعالى يرفع العذاب عن الكفار بين النفختين ، وهو أربعون سنة ، فإذا حشروا وقد استراحوا تلك المدة قالوا : ما لبثنا إلا قليلا . < < الإسراء : ( 53 ) وقل لعبادي يقولوا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن ) في الآية قولان : الأشهر والأظهر أن قوله : ( ^ يقولوا التي هي أحسن ) أي : الكفار ، وهذا قبل نزوله آية السيف .
قال أهل التفسير : كان المشركون يؤذون المؤمنين ، وكان المؤمنون يستأذنون رسول الله في القتال فينهاهم عن ذلك ، ويأمرهم بالإحسان في القول ، والإحسان في القول هو قولهم للكفار : يهديكم الله . وفي بعض الروايات : أن عمر شتمه بعض الكفار ، فأراد أن يقاتله ، فأمره رسول الله بالصفح والعفو .
والقول الثاني : في الآية : أن المراد به المؤمنون ، وأراد به : أن يقولوا ويفعلوا التي هي أحسن . أي : الخلة التي هي أحسن .
وقيل : المراد منه الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر .
وقوله : ( ^ إن الشيطان ينزغ بينهم ) أي : يفسد بإيقاع العداوة . وقوله : ( ^ إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا ) أي : عدوا ظاهر العداوة . < < الإسراء : ( 54 ) ربكم أعلم بكم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم وإن يشأ يعذبكم ) قال : يرحمكم بالتوفيق والهداية ، ويعذبكم بالإضلال ، وقيل : يرحمكم بالإنجاء من النار ، أو يعذبكم بالإيقاع فيه . وقوله : ( ^ وما أرسلناك عليهم وكيلا ) أي : كفيلا . قال الشاعر :
( [ ذكرت ] أبا أروى فبت كأنني ** برد الأمور الماضيات وكيل )
____________________

( ^ عليهم وكيلا ( 54 ) وربك أعلم بمن في السموات والأرض ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا ( 55 ) قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا ( 56 ) أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم ) * * * * أي : كفيل .
ومنهم من قال معناه : لم يسلطك عليهم بمنعهم من الكفر . < < الإسراء : ( 55 ) وربك أعلم بمن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وربك أعلم بمن في السموات والأرض ) أي : وربك العالم بمن في السموات والأرض ، وهو العالم بأحوالهم وأفعالهم ومقاصدهم .
وقوله : ( ^ ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض ) معناه : أنه اتخذ بعضهم خليلا ، وكلم بعضهم ، وسخر الجن والإنس والطير والريح لبعضهم ، وأحيا الموتى لبعضهم ، فهذا معنى التفضيل .
وقوله : ( ^ وآتينا داود زبورا ) قالوا : الزبور كتاب يشتمل على مائة وخمسين سورة ، كلها تحميد وتمجيد وثناء على الله ، ليس فيها أمر ولا نهي ولا حلال ولا حرام . ومعنى الآية : أنكم لما لم تنكروا تفضيل سائر النبيين وإعطائهم الكتب ، فلا تنكروا فضل النبي وإعطائه القرآن . فيجوز أن يكون هذا الخطاب مع أهل الكتاب ، ويجوز أن يكون مع قوم كانوا مقرين بهذا من مشركي العرب . والزبور مأخوذ من الزبر ؛ والزبر هو الكتابة . < < الإسراء : ( 56 ) قل ادعوا الذين . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ قل ادعوا الذين زعمتم من دونه ) روي أن المشركين لما قحطوا حتى أكلوا الكلاب والجيف استغاثوا بالنبي ، ليدعو لهم ؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية : ( ^ قل ادعوا الذين زعمتم ) أنهم آلهة ( ^ من دونه ) أي : من دون الله .
وقوله : ( ^ فلا يملكون كشف الضر عنكم ) أي : كشف الجوع والقحط عنكم .
وقوله : ( ^ ولا تحويلا ) أي : لا يملكون نقل الحال ، وتحويلا من السقم إلى الصحة ، ومن الجدب إلى الخصب ، ومن العسر إلى اليسر . < < الإسراء : ( 57 ) أولئك الذين يدعون . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ أولئك الذين يدعون ) قرأ ابن مسعود : ' أولئك الذين تدعون '
____________________

( ^ أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا ( 57 ) وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتاب ) * * * * وعنه أنه قال : كان قوم من المشركين يعبدون قوما من الجن ، فأسلم الجنيون الذين كانوا يعبدون ، وبقي هؤلاء على شركهم ؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية . معناه : إن الذين كنتم تدعونهم وتعبدونهم ( ^ يبتغون ) أي : يطلبون ( ^ إلى ربهم الوسيلة ) والوسيلة هي الدرجة الرفيعة في الجنة ، وقيل : الوسيلة كل ما يتوسل به إلى الله تعالى أي : يتقرب .
وقوله : ( ^ أيهم أقرب ) معناه : ينظرون أيهم أدنى وسيلة ، وقيل : أيهم أقرب إلى الله فيتوسلون به ، وقيل : الآية في عزير والمسيح وغيرهما ، وقيل : الآية في الملائكة ؛ فإن المشركين كانوا يعبدون الملائكة ، والملائكة عبيد يطلبون إلى الله الوسيلة ، وهذا في نفر من المشركين دون جميعهم .
وقوله : ( ^ ويرجون رحمته ويخافون عذابه ) يعني : الجنيين الذين أسلموا والملائكة ، أو عزيرا والمسيح .
وفي بعض الأخبار عن النبي : ' لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا ' .
وقوله : ( ^ إن عذاب ربك كان محذورا ) أي : يطلب منه الحذر . < < الإسراء : ( 58 ) وإن من قرية . . . . . > > قوله تعالى : ( ^ وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة ) معناه : وما من قرية إلا نحن مهلكوها فإهلاك المؤمنين بالإماتة ، وإهلاك الكفار بالاستئصال والعذاب ، وقيل قوله : ( ^ مهلكوها ) هذا في حق المؤمنين بالإماتة .
قوله : ( ^ أو معذبوها عذابا شديدا ) في حق الكفار .
____________________

( ^ مسطورا ( 58 ) ) * * * *
وذكر النقاش في تفسيره بإسناده عن مقاتل بن سليمان قال : وجدت في كتاب ضحاك بن مزاحم - وهو الكتاب المخزون - وقد ذكر فيه ما يهلك الله به أهل كل بلدة ، أما مكة فيهلكها الحبشان ، وأما المدينة فالجوع ، وأما البصرة فالفرق ، وأما الكوفة فعدو [ سلطه ] الله عليهم ، وأما الشام ومصر فويل لها من عدوها ، وقيل : تخربها الرياح ، وأما أصفهان وفارس وكرمان فبالظلمات والصواعق ، وكذلك ذكر في أرمينية وأذربيجان ، وأما الري ، فيغلب عليهم عدوهم من الديلم ، وأما الهمذان فيهلكهم عدو لهم فلا همذان بعده ، وأما النيسابور فالرعود والبروق والريح ، وأما مرو فيغلب عليه الرمل وبهما العلماء الكثير ، وأما هراة فيمطرون حيات فتأكلهم ، وأما سجستان فتهلك بالريح ، وأما بلخ فيغلب عليه الماء فتهلك ، وأما بخارى فيغلب عليهم الترك ، وأما سمرقند وفرغانة والشاش وإسبيجاب وخوارزم فيغلب عليهم بنو قنطورا بن كركرى فيهلكون عن آخرهم ، والخبر غريب جدا . وفي بعض الروايات : ' ويل لأهل بغداد يخسف بهم ' والأثر غريب .
وفي بعض المسانيد عن عبد الله بن مسعود أنه قال : لا يهلك الله قوما حتى يظهر فيهم الزنا والربا .
وقوله : ( ^ كان ذلك في الكتب مسطورا ) أي : مكتوبا ، ومعنى الكتاب : هو اللوح المحفوظ .
وفي الأخبار المشهورة عن النبي أنه قال : ' أول ما خلق الله القلم فقال له : اكتب ، فقال : وما أكتب ؟ قال : اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة ' .
يقال : سطر إذا كتب .
____________________

( ^ وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا ( 59 ) وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا ) * * * * < < الإسراء : ( 59 ) وما منعنا أن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون ) الآية . فإن قال قائل : كيف يجوز ألا يرسل الله الآيات لأن الأولين كذبوا بها ؟ وما وجه الإمتناع عن إرسال الآيات بتكذيب الأولين ؟ والسؤال معروف ، وهو مشكل . والجواب من وجهين : أحدهما : أن ' إلا ' محذوف ، ومثله قول الشاعر :
( وكل أخ مفارقه أخوه ** لعمرو أبيك إلا الفرقدان )
ومعناه : وما منعنا من إرسال الآيات وإن كذب بها الأولون ، يعني : أن تكذيب الأولين لا يمنعنا من إرسال الآيات .
والجواب الثاني - وهو المعروف - وما منعنا أن نرسل بالآيات التي اقترحها الكفار ، فإنه قالوا للنبي : اجعل لنا الصفا ذهبا ، أو بعد عنا هذه الجبال لنزرع الأراضي .
وقوله : ( ^ إلا أن كذب بها الأولون ) معنى الاستثناء في إهلاك الأولين حين كذبوا بالآيات المقترحة ، وقد حكمنا أن هذه الأمة ممهلة في العذاب ، قال الله تعالى : ( ^ بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر ) وتلخيص الجواب : أن الأولين اقترحوا الآيات فلما أعطوا كذبوها فأهلكوا ، فلو أعطينا هؤلاء الآيات المقترحة وكذبوا بها عاجلناهم بالعذاب ، وقد حكمنا بإمهالهم ، والدليل على صحة هذا الجواب أنه قال : ( ^ وآتينا ثمود الناقة مبصرة ) أي : آية نيرة مضيئة ، أو آية يبصر بها الحق ، وقوله : ( ^ فظلموا بها ) أي : كذبوا بها ، فعوجلوا بالعقوبة . فهذا هو المراد ، وإن كان غير مذكور .
وقوله : ( ^ وما نرسل بالآيات إلا تخويفا ) أي : تحذيرا . < < الإسراء : ( 60 ) وإذ قلنا لك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس ) قال مجاهد أي هم في قبضته . قال الحسن : حال بينهم وبين أن يقتلوك أو يكيدوك بغير القتل . فهذا معنى الإحاطة .
____________________

( ^ الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا ( 60 ) ) * * * *
وقوله : ( ^ وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس ) الأكثرون أن هذه الرؤيا هي ليلة المعراج ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، وغيرهم .
فإن قال قائل : ليلة المعراج كانت رؤية عين لا رؤيا نوم ؟ والجواب : أنه قد صح عن عبد الله بن عباس أنه قال في هذه الآية : هي رؤيا عين ، أسرى بالنبي تلك الليلة .
( ^ والشجرة الملعونة ) هي شجرة الزقوم .
قال الشيخ الإمام الأجل أبو المظفر منصور بن محمد السمعاني : أخبرنا أبو علي الشافعي بمكة قال : أنا أبو الحسن بن فراس ، قال : أنا أبو جعفر الديبلي ، قال : أنا سعيد بن عبد الرحمن المخزومي عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس ، ذكره البخاري في صحيحه .
وأما ذكر الرؤيا بمعنى الرؤية هاهنا يجوز ؛ لأنهما أخذا من معنى واحد . ومنهم من قال : كان له معراجان : معراج رؤية ، ومعراج رؤيا .
وأما معنى الفتنة على هذا القول : أن قوما من الذين آمنوا ارتدوا حين سمعوا عن النبي هذا ، وفي أصل الآية قول آخر : ( وهو ) أن الرؤيا المذكورة في الآية هي ' أن النبي رأى في النوم أنه قد دخل مكة ، فاستعجل ، وسار إلى مكة عام الحديبية محرما بالعمرة ، وذكر الصحابة أنه رأى هذه الرؤيا ، فلما صد عن مكة حتى احتاج إلى الرجوع افتتن بذلك قوم .
____________________


وفي الخبر المشهور ، أن عمر قال لأبي بكر : أليس قد رأى أنه يدخل مكة ؟ فقال له أبو بكر : هل قال : إنه يدخل العام ؟ قال : لا . قال : سيدخلها . . الخبر إلى آخره .
والقول الثالث في الآية : ما حكاه الدمياطي في تفسيره عن ابن عباس قال : ' رأى النبي في منامه كأن أولاد الحكم بن أبي العاص ينزون على منبره نزو القرود - وفي رواية ( يتداولون منبره تداول الكرة ) - فساءه ذلك ، فدعا أبا بكر وعمر وأخبرهما بذلك ، ثم سمع أن الحكم بن أبي العاص يحكي الرؤيا ، فلم يتهم أبا بكر ، واتهم عمر فدعاه ، وقال له : لم أفشيت سري ؟ فقال : والله ما ذكرته لأحد ؟ فقال رسول الله ، كيف والحكم يحكي هذا للناس ؟ ! فقال عمر : نجتمع ثانيا حتى أخبرك من أفشاه . قال : فجاء هو وأبو بكر ، وقعدا مع الرسول في ذلك الموضع ، وجعلوا يذكرون هذا ، ثم إن عمر خرج مبادرا ، فإذا هو بالحكم يستمع ، فذكر ذلك للنبي ، فطرده رسول الله من المدينة ، ولم يأوه أبو بكر ولا عمر ، وما زال طريدا إلى زمن عثمان ' القصة إلى آخرها . هذا هو الرؤيا التي ذكر في الآية .
وقد روي ' أن النبي ما روى مستجمعا [ ضاحكا ] منذ رأى هذه الرؤيا إلى أن مات .
وأما الشجرة الملعونة فالأكثرون أنها شجرة الزقوم ، فإن قيل : أين لعنها في القرآن ؟ والجواب : أن المراد من الشجرة الملعونة ، أي : الملعون آكلها . وقال الزجاج : العرب تقول لكل طعام كريه : طعام ملعون . فعلى هذا تقدير الآية : ( ^ وما جعلنا الرؤيا التي
____________________

( ^ وإذ قلنا للملائكة اسجوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا ( 61 ) ) * * * * أريناك ) ، وكذلك ما جعلنا الشجرة الملعونة ( ^ في القرآن ) إلا فتنة للناس .
وأما الفتنة في شجرة الزقوم من وجهين : أحدهما : أن أبا جهل قال : إن النار تأكل الشجر ، وأن محمدا يزعم أن النار تنبت الشجرة . والوجه الثاني : أن عبد الله بن الزبعري قال : يا قوم ، إن محمدا يخوفنا بالزقوم ، وما نعرف الزقوم إلا الزبد والتمر ، فقال أبو جهل : يا جارية ، هلمي فزقمينا .
والقول الثاني : في شجرة الزقوم أنها شجرة الكشوثا التي تلتوي على الشجر فتجففه . والقول الثالث : أن الشجرة الملعونة في القرآن أولاد الحكم بن أبي العاص ، وهو مروان وبنوه .
ذكره سعيد بن المسيب ، وأنكر جماعة من أهل التفسير هذا القول ، والله أعلم .
وقوله : ( ^ ونخوفهم ) أي : نحذرهم ( ^ فما يزيدهم ) أي : ما يزيدهم التخويف ( ^ إلا طغيانا كبيرا ) أي : تمردا وعتوا عظيما . < < الإسراء : ( 61 ) وإذ قلنا للملائكة . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ) قد ذكرنا معنى السجود في سورة البقرة ، واختلاف الناس فيه . وقوله : ( ^ فسجوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا ) معناه : لمن خلقته طينا . وقوله : ( ^ طينا ) نصب على الحال أي : في حال طينته ، وفي الآية حذف ، ومعناه : أأسجد لمن خلقته من طين ، وخلقتني من نار ، وللنار فضل على الطين ، فإن النار تأكل الطين . ولم يعلم الخبيث أن الجواهر كلها من جنس واحد ؛ والفضل لما فضله الله تعالى . وفي الطين من المنافع ما يقادم منافع النار ، أو يرقى عليها ، وللطين من كرم الطبع ما ليس للنار .
____________________

( ^ قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا ( 62 ) ) * * * *
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس : أن الله بعث إبليس حتى أخذ من الأرض قبضة من التراب ، وكان فيها المالح والعذب فخلق منها آدم ، فمن خلقه من العذب كان سعيدا وإن كان من أبوين كافرين ، ومن خلقه من المالح كان شقيا ، وإن كان من صلب ( بني آدم ) .
قال ابن عباس فقوله : ( ^ أأسجد لمن خلقت طينا ) أي : أأخضع لمن خلقته من طين ، وأنا جئت به ؟ . < < الإسراء : ( 62 ) قال أرأيتك هذا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال أرأيتك هذا الذي ) قوله : ' أرأيت ' أي : أخبرني ، والكاف لتأكيد المخاطبة . وقوله تعالى : ( ^ هذا الذي كرمت علي ) أي : كرمته علي وفضلته .
وقوله : ( ^ لئن أخرتن ) أي : أمهلتني ( ^ إلى يوم القيامة ) فطمع الخبيث أن ينطر إلى يوم القيامة ، وينجو من الموت ، فأبى الله تعالى ذلك عليه ، على ما قال في سورة الحجر : ( ^ فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم ) .
وقوله : ( ^ لأحتنكن ذريته ) قالوا : لأستأصلنهم ؛ يقال : احتنك الجراد الزرع إذا استأصله . ومنهم من قال : هو مأخوذ من حنك الدابة إذا شد في حنكها الأسفل حبلا ( رسنا ) يسوقها به .
ومعناه : لأسوقنهم إلى المعاصي سوقا ، ولأميلنهم إليه ميلا ، وقيل : لأستولين عليهم بالإعواء ، وقيل : لأضلنهم .
وقوله : ( ^ ذريته ) أولاده ( ^ إلا قليلا ) والقليل هم الذين قال الله تعالى : ( ^ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ) فإن قيل : كيف عرف إبليس أن
____________________

( ^ قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا ( 63 ) واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال ) * * * * أكثر ذرية آدم يتبعونه ؟ قلنا : الجواب من وجهين : أنه لما رأى انقياد آدم لوسوسته طمع في ذريته .
والثاني : أنه رأى ذلك في اللوح مكتوبا ، وعرف كما عرف الملائكة حين قالوا : ( ^ أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) . < < الإسراء : ( 63 ) قال اذهب فمن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا ) أي : موفرا ومعنى موفرا أي : مكملا وقال الشاعر :
( ومن يجعل المعروف من دون عرضه ** يفسره ومن لا يتق الشتم يشتم ) < < الإسراء : ( 64 ) واستفزز من استطعت . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ واستفزز ) قال الأزهري معناه : وادعوهم دعاء تستفزهم إلى إجابتك ، أي : فتستخفهم .
وقيل : استفزز بهم أي : أسرع بهم ، وقيل : احملهم على الإغواء . وقوله : ( ^ من استطعت منهم ) بينا معنى الاستطاعة ، وأنشد الشاعر في معنى الاستفزاز :
( فقلت لها هي فلا تستفزي ** ذوات العيون والبيان المحصب )
وقوله : ( ^ بصوتك ) قال مجاهد : الغناء واللهو ، وقال الحسن : الدف والمزمار ، وقيل : كل صوت يدعو إلى غير طاعة الله ، وقيل : كل كلام يتكلم به في غير ذات الله .
وقوله : ( ^ وأجلب عليهم ) أي : اجمع عليهم مكائدك وحيلك ، يقال : جلب على العدو إذا جمع عليهم الجيش . وفي المثل : ' إذا لم تغلب فأجلب ' وقيل معناه : أجمع عليهم جيشك وجندك .
وقوله : ( ^ بخيلك ورجلك ) كل راكب في معصية فهو من خيل إبليس ، وكل ماشي في معصيته فهو في رجل إبليس . والخيل : الراكب ، والرجل : المشاة ، وفي الخبر :
____________________

( ^ والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ( 64 ) ) * * * * ' يا خيل الله ، اركبي ' .
وقوله : ( ^ وشاركهم في الأموال ) كل كسب من حرام ، وكل ما أنفق [ في ] معصية الله ، فهو الذي شارك فيه إبليس ، وقيل : ما زين لهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام .
وقوله : ( ^ والأولاد ) فيه أقوال : قال ابن عباس : الموءودة .
قال مجاهد : أولاد الزنا ، وقال غيره : هو تهويدهم وتنصيرهم وتمجيسهم .
وعن ابن عباس في رواية أخرى هو : تسميتهم الأولاد : عبد العزى ، وعبد الدار ، وعبد مناف ، وما أشبه ذلك .
وفي بعض المسانيد عن ابن عباس أن رجلا أتاه ، وقال : إن امرأتي استيقظت ، وكأن في فرجها شعلة نار ، قال : ذاك من وطىء الجن . قال : فمن أولادهم ؟ قال : هؤلاء المخنثون .
وعن جعفر بن محمد : إن الشيطان يقعد على ذكر الرجل ؛ فإذا لم يسم الله أصاب امرأته معه ، وأنزل في فرجها كما ينزل الرجل . وروي قريبا من هذا عن مجاهد . وفي بعض الأخبار عن النبي قال : ' إن فيكم مغربين . قيل : ومن المغربون ؟ قال : الذين شارك فيهم الجن ' .
وقوله : ( ^ وعدهم ) أي : قل لهم : لا جنة ولا نار ، وقيل : قل لهم : أن لا بعث .
وقوله : ( ^ وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ) الغرور : تزيين الباطل بما يظن أنه حق . وفي بعض التفاسير برواية أنس عن النبي : ' أن إبليس قال : يا رب ، لعنتني ، وأخرجتني من الجنة لأجل آدم ؛ فسلطني عليه وعلى ذريته ، فقال الله تعالى : أنت مسلط ، فقال : إني لا أستطيعه إلا بك فزدني ، فقال : ( ^ واستفزز من استطعت منهم )
____________________

( ^ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا ( 65 ) ) * * * * إلى آخر الآية . فقال آدم : يا رب ، أنت سلطت إبليس علي وعلى ذريتي ، وإني لا أستطيعه إلا بك فمالي ، فقال : لا يولد لك ولد إلا وكلت به من يحفظونه ، فقال : زدني ، فقال : الحسنة بعشر أمثالها ، والسيئة بمثلها ، فقال : زدني . فقال : التوبة معروضة مادام الروح في الجسد ، فقال : زدني ، فقال : ( ^ يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم . . . ) الآية ' . وفي هذا الخبر ' أن إبليس قال : يا رب ، بعثت أنبياء ، وأنزلت كتبا ، فما قرآني ؟ قال : الشعر . قال : فما كتابي ؟ قال : الوشم . قال : فما طعامي ؟ قال : كل طعام ما لم يذكر عليه اسم الله . قال : فما شرابي ؟ قال : كل مسكر . قال : فما حبائلي ؟ قال : النساء . قال : فما آذاني ؟ قال المزمار . قال : فما بيتي ؟ قال : الحمام . قال : فما منتصبي ؟ قال : السوق ' . والخبر غريب جدا ، والله أعلم .
فإن قال قائل : كيف يأمر الله تعالى بهذه الأشياء ، وهو يقول : ( ^ إن الله لا يأمر بالفحشاء ) والجواب : أن هذا أمر تهديد ووعيد ، وهو مثل قوله تعالى : ( ^ اعملوا ما شئتم ) وكالرجل يقول لغيره : افعل ما شئت فسترى ، ومثل هذا يكثر . < < الإسراء : ( 65 ) إن عبادي ليس . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ) قد بينا ، وقد قيل إن معناه : ليس لك عليهم سلطان في أن تحملهم على ذنب لا أقبل توبتهم منه .
وقوله : ( ^ وكفى بربك وكيلا ) أي : حافظا ، أو من يوكل إليه الأمر .
____________________

( ^ ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيما ( 66 ) وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا ( 67 ) أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم ) * * * * < < الإسراء : ( 66 ) ربكم الذي يزجي . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر ) أي : يسوق ويسير ، قال الشاعر :
( يا أيها الراكب المزجى مطيته ** سائل بني أسد ما هذه الصوت )
وقوله : ( ^ لكم الفلك في البحر ) أي : السفينة في البحر .
( ^ ولتبتغوا من فضله ) أي : لتطلبوا من رزقه .
وقوله : ( ^ إنه كان بكم رحيما ) ظاهر . < < الإسراء : ( 67 ) وإذا مسكم الضر . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإذا مسكم الضر في البحر ) أي : الشدة في البحر ، وإنما خص البحر بالذكر ؛ لأن اليأس عند وقوع الشدة فيه أغلب .
وقوله : ( ^ ضل من تدعون إلا إياه ) أي : بطل وسقط .
وقوله : ( ^ من تدعون ) أي : من تدعونه ( ^ إلا إياه ) أي : إلا الله ، وهذا في معنى قوله تعالى : ( ^ وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين ) .
وقوله : ( ^ فلما نجاكم إلى البر أعرضتم ) يعني : عن الإخلاص والالتجاء إلى الله .
وقوله : ( ^ وكان الإنسان كفورا ) أي : كافرا . < < الإسراء : ( 68 ) أفأمنتم أن يخسف . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر ) الخسف بالشيء : هو تغييبه في الأرض ، وقيل : هو ابتلاع الأرض إياه .
وقوله ( ^ جانب البر ) أي : طرفا من البر .
وقوله : ( ^ أو يرسل عليكم حاصبا ) أي : ريحا ذات حصباء ، والحصباء الحجارة . معناه : ريحا ترمي بالحجارة .
____________________

( ^ حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا ( 68 ) أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا ( 69 ) ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم ) * * * *
وقال بعض أهل اللغة الحاصب : البرد ، وقال بعضهم الحاصب : الثلج . قال الفرزدق :
( مستقبلين شمال الريح بطردهم ** ذو حاصب كنديف [ القطن ] منثور )
وقوله : ( ^ ثم لا تجدوا لكم وكيلا ) أي : من تكلون أمركم إليه فينجيكم ؟ . < < الإسراء : ( 69 ) أم أمنتم أن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى ) أي : في البحر كرة أخرى . وقوله : ( ^ فيرسل عليكم قاصفا من الريح ) القاصف : هو الريح التي تكسر كل شيء وصلت إليه .
وقوله : ( ^ فيغرقكم بما كفرتم ) أي : بكفركم .
وقوله : ( ^ ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا ) أي : ثائرا ، وهو طالب الثأر ، هكذا قاله الفراء ، وقيل : من يتبعنا بالإنكار . < < الإسراء : ( 70 ) ولقد كرمنا بني . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولقد كرمنا بني آدم ) فيه أقوال : روي عن ابن عباس أنه قال : هو أكلهم باليد ، وسائر الحيوانات يأكلون بأفواههم ، وقيل : امتداد القامة وانتصابها ، والدواب منكبة على وجوهها ، وقيل : بالعقل والتمييز ، وقيل : بأن سخر جميع الأشياء لهم ، وقيل : بأن جعل فيهم خير أمة أخرجت للناس ، وقيل : بالخط والقلم .
وقوله : ( ^ وحملناهم في البر والبحر ) أي : حملناهم في البر على الدواب ، وفي البحر على السفن .
وقوله : ( ^ ورزقناهم من الطيبات ) التي رزقها الله تعالى بني آدم في الدنيا معلومة ، وقيل : الحلال ، وقيل .
____________________

( ^ على كثير ممن خلقنا تفضيلا ( 70 ) يوم ندعو كل أناس بإمامهم ) * * * *
( ^ وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ) قال أبو النضر محمد بن السائب الكلبي : على كل الخلق سوى طائفة من الملائكة منهم جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل ، وفي تفضيل البشر على الملائكة أو الملائكة على البشر كلام كثير ليس هذا موضعه . وظاهر الآية أنه فضلهم على كثير من خلقه لا على الكل ، ويجوز أن يذكر الأكثر ، ويراد به الكل ، والأولى أن يقال : إن البشر أفضل من الملائكة على تفصيل معلوم ، وهو أن عوام المؤمنين الأتقياء أفضل من عوام الملائكة ، وخواص المؤمنين أفضل من خواص الملائكة . وقد قال الله تعالى : ( ^ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية ) والبرية كل من خلق الله على العموم . < < الإسراء : ( 71 ) يوم ندعوا كل . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ يوم ندعو كل أناس بإمامهم ) فيه أقوال : أحدها : بنبيهم ، والآخر : بكتابهم ، والثالث : بأعمالهم ، وعن ابن عباس : إمام هدى وإمام ضلالة ، وعن سعيد بن المسيب : كل قوم يجتمعون إلى رئيسهم في الخير والشر . وفي الخبر : ينادى يوم القيامة : قوموا يا متبعي موسى ، يا متبعي عيسى ، يا متبعي محمد ، يا متبعي شيطان ، يا متبعي كذا وكذا .
وفي جامع [ أبي ] عيسى الترمذي في هذه الآية : ' أن النبي قال : يعطى المؤمن كتابه بيمينه ، ويمد في جسمه ستون ذراعا ، ويبيض وجهه ، ويوضع على رأسه تاج من لؤلؤ ، فيقبل إلى أصحابه ، ويقول لهم : أبشروا ؛ فلكل رجل منكم مثل هذا . وأما الكافر فيعطى كتابه بشماله ، ويمد في جسمه ستون ذراعا ، ويسود وجهه ، ويوضع على رأسه تاج من نار ، فيقبل ( إلى ) أصحابه ويقول لهم : أبشروا ؛ فلكل رجل منكم مثل هذا ' .
____________________

( ^ فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا ( 71 ) ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ( 72 ) وإن كادوا ليفتنونك عن ) * * * *
وقوله تعالى : ( ^ فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ) والكتاب : هو صحيفة الحسنات والسيئات .
وقوله : ( ^ ولا يظلمون فتيلا ) أي : لا ينقص من حقهم بقدر الفتيل .
والفتيل : هو الذي في شق النواة ، وقيل : ما فتل بين الأصابع . < < الإسراء : ( 72 ) ومن كان في . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ) ليس العمى هاهنا هو عمى البصر ؛ لأن الناس يحشرون بأتم خلق مصححة الأجساد لخلود الأبد . وفي الخبر عن النبي قال : ' تحشرون يوم القيامة حفاة عراة غرلا بهما ' وقوله : بهما : أي : مصححة الأجساد للخلود . فعلى هذا معنى قوله : ( ^ ومن كان في هذه أعمى ) أي : أعمى القلب عن رؤية [ الحق ] ( ^ فهو في الآخرة أعمى ) أي : أشد عمى .
وقيل معناه : من كان في هذه الدنيا بعيدا عن الحق ، فهو في الآخرة أبعد ، وقيل : من كان في هذه الدنيا أعمى من الاعتبار ، فهو في الآخرة أعمى عن الاعتذار .
وقوله : ( ^ وأضل سبيلا ) أي : أخطأ طريقا . < < الإسراء : ( 73 ) وإن كادوا ليفتنونك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك ) معناه : ليصرفونك عن الذي أوحينا إليك . وسبب نزول الآية أن المشركين قالوا للنبي : اطرد هؤلاء الفقراء عنك حتى نجلس معك ونسلم ؛ فهم أن يفعل ثم يدعوهم من بعد ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . وعن سعيد بن جبير ومجاهد أنهما قالا : طلبوا من النبي أن يمس آلهتهم حتى يسلموا ويتبعوه ، فقال النبي في نفسه : وما علي أن أفعل ذلك إذا علم الله مني أني كاره له ، وكان ذلك خاطر قلب ، ولم يكن عزما - فأنزل
____________________

( ^ الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا ( 73 ) ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا ( 74 ) ) * * * * الله تعالى هذه الآية ' والقول الثالث : أن أهل الطائف لما جاءوا إلى النبي ليسلموا ، وكان استصعب عليه أمرهم ، وحاصرهم بضع عشرة ليلة ، ولم يفتح ، فلما جاءوا قالوا للنبي : نسلم بشرط أن لا نركع ، وأن تمتعنا باللات سنة من غير أن نعبدها ، وذكروا غير هذا ، فقال : ' أما ترك الركوع فلا خير في دين لا ركوع فيه ، وأما اللات فلا أترك وثنا بين المسلمين ؛ فراجعوه في أمر اللات ، وقالوا : لتتحدث العرب زيادة كرامتنا عليك ، فسكت النبي ، فطمع القوم عند سكوته ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ' وهذا قول معروف .
وقوله : ( ^ لتفتري علينا غيره ) أي : تقول علينا غير ما أنزلناه عليك . وقوله : ( ^ وإذا لاتخذوك خليلا ) أي : صاحبا ووديدا . < < الإسراء : ( 74 ) ولولا أن ثبتناك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهن شيئا قليلا ) معنى كاد أي : قرب ، وكدت أي : قربت من الفعل .
وقوله : ( ^ شيئا قليلا ) في موضع المصدر كأنه قال : لقد كدت تركن إليهم ركونا . فإن قيل : النبي كان معصوما من الشرك والكبائر ، فكيف يجوز أن يقرب مما طلبوه منه ؛ والذي طلبوه منه كفر ؟
الجواب من وجهين : أحدهما : أنا نعتقد أن الرسول معصوم من الشرك والكبائر ، ونحمل على أن ما وجد منه كان هما من غير عزم ، وقد قال النبي : ' إن الله تعالى وضع عن أمتي ما حدثت به نفسها ما لم تتكلم به أو تعمل ' وفي الجملة الله
____________________

( ^ إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا ( 75 ) ) * * * * أعلم برسوله من غيره ، وقد قال قتادة : لما وقع هذا كان رسول الله يقول بعد ذلك : ' اللهم ، لا تكلني إلى نفسي طرفة عين ' .
والجواب الثاني : وهو أنه قال : ( ^ ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن ) وقد ثبته ولم يركن ، وهذا مثل قوله تعالى : ( ^ ولولا فضل الله عليكم ورحمته ) إلى أن قال : ( ^ إلا قليلا ) وقد تفضل الله ، ورحم ، ولم يتبعوا الشيطان . < < الإسراء : ( 75 ) إذا لأذقناك ضعف . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ) قال ابن عباس : ضعف عذاب الحياة ، وضعف عذاب الممات .
وقيل : ضعف عذاب الدنيا ، وضعف عذاب الآخرة ، وقيل : إن الضعف بمعنى العذاب ، فكأنه قال : لأذقناك عذاب الحياة وعذاب الممات ، وإنما سمي العذاب ضعفا لتضاعف الألم فيه .
فإن قيل : لم يضاعف العذاب له ؟ قلنا : لعلو مرتبته كما يضاعف الثواب له عند الطاعة . وقد قال الله تعالى : ( ^ يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين ) والمعنى ما بينا .
وقوله : ( ^ ثم لا تجد لك علينا نصيرا ) أي : لا تجد من يمنعنا من عذابك . < < الإسراء : ( 76 ) وإن كادوا ليستفزونك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها ) الاستفزاز : هو الإزعاج بسرعة . واختلفوا في معنى هذه الآية ، فقال بعضهم : إنها نزلت بالمدينة ، وسبب نزولها أن يهود قريظة والنضير وبني قينقاع أتوا النبي ، وقالوا : يا أبا القاسم ، قد علمت أن بلاد الأنبياء هي الشام وهي الأرض المقدسة ، ومتى سمعت
____________________

( ^ وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا ( 76 ) سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا ( 77 ) ) * * * * بنبي من تهامة ؟ ! فاخرج معنا إلى الشام نؤمن بك وننصرك ؛ فهم النبي بالخروج معهم ، وضرب بقبته على ثلاثة أميال من المدينة ليخرج ؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية ، والأرض هاهنا هي المدينة ، وهذا قول معروف .
وعن قتادة قال : الآية مكية ، ومعنى الأرض : أرض مكة ، وكان المشركون قد هموا أن يخرجوه منها أو يقتلوه ، فأمره الله تعالى بالهجرة ، وأن يخرج بنفسه .
وقيل : الأرض جميع الأرض ، والإخراج منها هو القتل .
وقوله : ( ^ وإذا لا يلبثون خلفك ) وقرىء : ' خلافك ' ومعناه : بعدك ( ^ إلا قليلا ) ومعنى القليل على القول الثاني : ما بين خروج رسول الله إلى أن قتلوا ببدر ، وعلى القول الأول مدة الحياة . < < الإسراء : ( 77 ) سنة من قد . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ سنة من قد أرسلناك قبلك من رسلنا ) الآية . [ انتصبت ] السنة ؛ لأن معناه : [ هذه ] السنة كسنة من قد أرسلنا ، ثم حذفت الكاف فانتصبت السنة ، ومعنى سنة الله هو استئصال القوم بالهلاك إذا أخرجوا الرسول أو قتلوه .
وقوله تعالى : ( ^ ولا تجد لسنتنا تحويلا ) أي : تبديلا ، وقيل : لعادتنا ، ومعناه : ما أجرى الله تعالى من العادة في خلقه . < < الإسراء : ( 78 ) أقم الصلاة لدلوك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ أقم الصلاة لدلوك الشمس ) اختلفوا في الدلوك : قال ابن [ مسعود ] : هو الغروب ، وقال ابن عباس : هو الزوال ، وقد حكي عنهما كلا القولين ، وكذلك اختلف التابعون في هذا . وأصل الدلوك من الميل ، والشمس تميل إذا زالت أو غربت ، وقيل : من الدلك ، والإنسان عند الزوال يدلك عينيه لشدة ضوء
____________________

( ^ أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ( 78 ) ) * * * * الشمس ، ويدلك عينيه عند الغروب ، فتبين الشمس لمعرفة جرمها . قال الشاعر :
( مصابيح ليست باللواتي تقودها ** نجوم ولا بالآفلات الدوالك )
تقول العرب : طريق دوالك إذا كانت ذات شعب . وأولى القولين أن يحمل على الزوال لكثرة القائلين به ، فإن أكثر التابعين حملوه عليه ، ولأنا إذا حملنا عليه تناولت الآية جميع الصلوات الخمس ، فإن قوله : ( ^ لدلوك الشمس ) يتناول الظهر والعصر .
وقوله : ( ^ إلى غسق الليل ) يتناول المغرب والعشاء .
وغسق الليل : ظهور ظلمته ، وقيل : اجتماع سواده .
وقله : ( ^ وقرآن الفجر ) أي : صلاة الفجر ، واستدل العلماء بهذا على وجوب القراءة في الصلاة حيث سمى الصلاة قرآنا . وقوله : ( ^ إن قرآن الفجر كان مشهودا ) أي : تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار . ومعنى تشهده : تحضره . وقد صح برواية الأعمش رحمه الله عن أبي صالح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي قال في هذه الآية : ' إن قرآن الفجر - صلاة الفجر - تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار ' . وقيل معنى قوله : ( ^ مشهودا ) أي : أمر الناس بشهودها ليصلوها جماعة . والصحيح هو القول الأول . < < الإسراء : ( 79 ) ومن الليل فتهجد . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ومن الليل فتهجد به ) يقال : تهجد إذا قام بعد النوم للصلاة ، وهجد إذا نام . قال الأزهري : التهجد : إلقاء الهجور ، وهو النوم ، وعن علقمة والأسود وغيرهما : أنه لا يكون التهجد إلا بعد النوم .
وقوله : ( ^ نافلة لك ) أي : زيادة لك ، قيل : هي زيادة لكل أحد فما معنى
____________________

( ^ ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ( 79 ) ) * * * * تخصيص النبي بذلك ؟ قلنا : لأنه هي تكفير الذنوب لغيره وزيادة له ، لأن ذنوبه مغفورة ، وقيل : نافلة لك أي : فريضة عليك ، وقد كان عليه القيام بالليل فريضة ، وقيل : نافلة لك أي : فضيلة لك ، وخص بالذكر ، ليكون له السبق في هذه الفضيلة ؛ وليقتدي الناس به فيها .
وقوله : ( ^ عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) أجمع المفسرون أن هذا مقام الشفاعة ، وقد ثبت هذا عن النبي . وفي رواية أبي هريرة أن النبي قرأ قوله : ( ^ عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) قال : ' هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي ' وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال : ' أنا سيد الأنبياء إذا بعثوا ، وأنا وافدهم إذا تكلموا ، وأنا مبشرهم إذا أبلسوا ، وأنا إمامهم إذا سجدوا ؛ أقول فليسمع ، وأشفع فأشفع ، وأسأل فأعطي ' .
وعن مجاهد أنه قال : يجلسه على العرش ، وعن غيره : يقعده على الكرسي بين يديه ، وقال بعضهم : يقيمه عن يمين العرش .
وعن حذيفة أنه قال : يجمع الله الناس يوم القيامة في صعيد واحد يسمعهم الداعي ، وينفذهم البصر ، وهم حفاة عراة قيام ، لا يسمع منهم حس ، فيقول الله تعالى : يا محمد ، فيقول : لبيك وسعديك والخير في يديك ، والمهتدى من هديت ، تباركت وتعاليت ، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك ، وأنا عبدك بين يديك . قال : فهذا
____________________

( ^ وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا ( 80 ) ) * * * * هو المقام المحمود .
وعن بعضهم أن المقام المحمود : هو لواء الحمد الذي يعطى النبي وقد ثبت عن النبي ، أنه قال : ' شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ' . وقال : ' إن لكل نبي دعوة مستجابة ، وإني ادخرت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة ' . وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : ' لا أزال أشفع حتى يسلم إلي صكاك بأسماء قوم وجبت لهم النار ، وحتى يقول مالك خازن النار : ما تركت للنار في أمتك من نقمة ' . والأخبار في الشفاعة كثيرة ، وأول من أنكرها عمرو بن عبيد ، وهو ضال مبتدع بإجماع أهل السنة . < < الإسراء : ( 80 ) وقل رب أدخلني . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق ) فيه أقوال : أحدها : أدخلني المدينة مدخل صدق ، وأخرج من مكة مخرج صدق ، وذكر الصدق لمدح الإخراج ، كقوله : ( ^ وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق ) فالصدق لمدح القدم ، وكذلك قوله : ( ^ في مقعد صدق ) لمدح المقعد . وإنما مدح لما يؤول إليه الخروج والدخول من النصر والعز ودولة الدين .
والقول الثاني : أخرجني من مكة ، وأدخلني مكة ، قاله الضحاك . والقول الثالث : أدخلني في الدين ، وأخرجني من الدنيا ، والقول الرابع : أدخلني في الرسالة ، وأخرجني من الدنيا ، وقد قمت بما وجب على من حقها . والقول الخامس : أخرجني يعني من المناهي وأدخلني يعني في الأوامر .
والمشهور هو القولان الأولان . والمخرج بمعنى الإخراج ، والمدخل بمعنى الإدخال .
____________________

( ^ وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ( 81 ) ) * * * *
وقوله : ( ^ واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا ) قال مجاهد : حجة بينة ، وقال غيره : ملكا عزيزا ، والملك العزيز : هو المؤيد بالقدرة والحجة . < < الإسراء : ( 81 ) وقل جاء الحق . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وقل جاء الحق وزهق الباطل ) قال قتادة : الحق : القرآن ، والباطل : الشيطان . وقيل : الحق : عبادة الله ، والباطل : عبادة الأصنام . وقد ثبت برواية ابن مسعود : ' أن النبي دخل مكة ، وحول الكعبة ثلثمائة وستون صنما ، فجعل يطعنها ويقول : جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ' ذكره البخاري في الصحيح ، قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد أبو المظفر منصور بن محمد السمعاني : أخبرنا به المكي بن عبد الرزاق الكشميهني قال : أنا جدي أبي الهيثم قال : أخبرنا محمد بن يوسف الفربري قال : أخبرنا البخاري قال : أخبرنا علي بن [ المديني ] قال : أنا سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أبي معمر ، عن عبد الله بن مسعود الخبر ' .
وفي بعض التفاسير : أن النبي كان يشير بيده إلى الصنم فيستلقي الصنم من غير أن يمسه .
وقوله : ( ^ إن الباطل كان زهوقا ) أي : ذاهبا . يقال : زهقت نفسه إذا خرجت . < < الإسراء : ( 82 ) وننزل من القرآن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة ) الآية قيل : إن ' من ' ها هنا للتجنيس لا للتبعيض . ومعناه : وننزل القرآن الذي منه الشفاء ، وقيل : وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة أي : ما كله شفاء فيكون المراد من البعض هو الكل ، كما قال الشاعر :
( أو يعتلق بعض النفوس حمامها ** )
____________________

( ^ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا ( 82 ) وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر كان يئوسا ( 83 ) ) * * * *
أي : كل النفوس ، الحمام : هو الموت .
وأما المراد من الشفاء هو الشفاء من الجهل بالعلم ، ومن الضلالة بالهدى ، ومن الشك باليقين ، وقيل : المراد من الشفاء هو الشفاء من المرض بالتبرك به ، وقيل : إن معنى الشفاء هو ظهور دليل الرسالة منه بالإعجاز وعجيب النظم والتأليف .
وقوله : ( ^ ورحمة للمؤمنين ) أي : هو بركة وبيان وهدى للمؤمنين .
وقوله : ( ^ ولا يزيد الظالمين إلا خسارا ) معنى زيادة الخسار في القرآن للظالمين : ما كان يتجدد منهم بالتكذيب عند نزوله آية آية ، فذلك زيادة الخسار والكفر . < < الإسراء : ( 83 ) وإذا أنعمنا على . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإذا أنعمنا على الإنسان ) أي : بالصحة ، وسعة الرزق ، وطيب الحياة ، وما أشبه ذلك .
وقوله : ( ^ أعرض ) أي : تولى . وقوله : ( ^ ونأى بجانبه ) أي : تباعد بجانبه . وقرئ ' وناء بجانبه ' وهذا يقرب معناه من الأول . ومعنى الآية : هو ظهور التضرع والإخلاص في الدعاء والالتجاء إلى الله عند المحنة والشدة ، وترك ذلك عند النعمة والصحة . ومعنى التباعد : هو ترك التقرب إلى الله ، وما كان يظهره من ذلك عند الضر والشدة .
وقوله : ( ^ وإذا مسه الشر كان يؤسا ) أي : آيسا . ومعناه أنه يتضرع ويدعو عند الضر والشدة ، فإذا خرت الإجابة يئس ، ولا ينبغي للمؤمن أن ييئس من إجابة الله ، وإن تأخرت الإجابة مدة طويلة .
وعن بعض التابعين أنه قال : إني أدعو الله بدعوة منذ عشرين سنة ولم يجبني إليها وما آيست منها . قيل : وما تلك الدعوة ؟ قال : ترك ما لا يعنيني . < < الإسراء : ( 84 ) قل كل يعمل . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قل كل يعمل على شاكلته ) أي : على جديلته وطبيعته ، ومعناه : ما يشاكل خلقه . وصحف بعضهم كل يعمل على جديلته - وهو تصحيف قريب من المعنى - والتصحيف في التفسير .
____________________

( ^ قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا ( 84 ) ويسألونك عن ) * * * *
وقوله : ( ^ فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا ) أي : أوضح طريقا ، وأبين مسلكا . < < الإسراء : ( 85 ) ويسألونك عن الروح . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ويسألونك عن الروح ) الآية . روى علقمة عن عبد الله بن مسعود قال : ' كنت مع رسول الله في حرث ، وهو متوكئ على عسيب فجاءه قوم من اليهود ، وسألوه عن الروح فوقف رسول الله ينظر إلى السماء فعرفت أنه يوحى إليه ، وتنحيت عنه ، ثم قال : ( ^ ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) وهذا خبر صحيح ' .
وعن ابن عباس برواية عطاء ' أن قريشا اجتمعت وقالوا : إن محمدا نشأ فينا بالأمانة والصدق ، وما أتهمناه بكذب ، وقد ادعى ما ادعى ، فابعثوا بنفر إلى اليهود ، واسألوهم عنه ، فبعثوا بقوم إلى المدينة ؛ ليسألوا يهود المدينة عنه ، فذهبوا وسألوهم ، فقالوا : سلوه عن ثلاثة أشياء : إن أجاب عن اثنين ، ولم يجب عن الثالث ، فهو نبي ، وإن أجاب عن الثلاث ، أو لم يجب عن شيء من الثلاثة فليس بنبي ، سلوه عن ذي القرنين ، وعن فتية فقدوا في الزمن الأول ، وعن الروح ، - وأرادوا بالذي لا يجيب عنه الروح - فرجعوا وسألوا النبي عن ذلك ، وقد اجتمعت قريش فقال : سأجيبكم غدا . ولم يقل : إن شاء الله ، فتلبث الوحي أربعين يوما لما أراد الله تعالى ، ثم إنه نزل بعد أربعين يوما قوله تعالى : ( ^ ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله ) ونزل الوحي بقصة ( أصحاب ) الكهف وقصة ذي القرنين ، ونزل بالروح قوله تعالى : ( ^ ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي ) .
واختلفوا في الروح على أقاويل : فروي عن ابن عباس أنه جبريل عليه السلام . وقد قال في موضع آخر ( ^ نزل به الروح الأمين ) . وعنه أنه قال : خلق في السماء من
____________________

( ^ الروح قل الروح من أمر ربي ) * * * * جنس بني آدم لهم أيدي وأرجل ليسوا من الملائكة . . وذكره أبو صالح أيضا ، وروي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال : الروح ملك ذو سبعون ألف وجه ، لكل وجه سبعون ألف لسان - وفي رواية سبعون لسانا يسبح الله بألسنته كلها .
وعن الحسن البصري : إن الروح ها هنا : هو القرآن . وقيل : إنه عيسى عليه السلام . ومعناه أنه ليس كما قال اليهود ولا كما قال النصارى ، ولكنه روح الله وكلمته تكون بأمره .
وأصح الأقاويل : أن الروح ها هنا هو الروح الذي يحيا به الإنسان ، وعليه أكثر المفسرين . واختلفوا فيه : منهم من قال : هو الدم ؛ ألا ترى أن الإنسان إذا مات لم يغب منه إلا الدم ، ومنهم من قال : هو تنفس الإنسان من الهواء ؛ ألا ترى أن المخنوق يموت لاحتباس النفس عليه ، ومنهم من قال : إنه عرض ، وقال بعضهم : جسم لطيف يشبه الريح ، يجري في تجاويف الإنسان . واستدل من قال إنه جسم [ إن ] الله تعالى قال : ( ^ بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله ) وإنما يتصور رزق الأجسام لا رزق الأعراض وتدل عليه أن النبي قال : ' أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تعلف من ثمر الجنة أو تأكل ' .
وروي عن النبي أنه قال : ' إن الله تعالى خلق الأرواح قبل الأجساد بأربعة آلاف سنة ' وهذا كله دليل على أن الروح جسم وليس بعرض ، وهذا أولى القولين .
____________________

( ^ وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ( 85 ) ) * * * *
وذكر بعض أهل المعاني : أن الروح معنى اجتمع فيه النور والطيب والعلم والعلو والبقاء ، ألا ترى أنه إذا كان موجودا رأت العين وسمعت الأذن ، فإذا ذهب الروح فات السمع والبصر ، وإذا كان موجودا فالإنسان طيب فإذا خرج أنتن وإذا كان موجودا فيوجد في الإنسان العلم بالأشياء ، فإذا فات صار جاهلا ، وكذلك توجد فيه الحياة فإذا فات صار الإنسان ميتا ، ويوجد فيه العلو واللطافة فات تسفل وكنف .
وأولى الأقاويل في الروح أن يوكل علمه إلى الله .
ويقال : هو معنى يحيا به الإنسان لا يعلمه إلا الله . وذكر القرآن أن الله تعالى لم يخبر أحدا بمعنى الروح ، ولا يعلمه غيره . وعن عبد الله بن بريدة أنه قال : إن الله تعالى لم يطلع على معنى الروح ملكا مقربا ، ولا نبيا مرسلا ، وخرج رسول الله من الدنيا ، ولم يعلم معنى الروح ، والله أعلم .
وقوله : ( ^ قل الروح من أمر ربي ) معناه : من علم ربي ، وقد قال بعضهم : إن رسول الله علم معنى الروح إلا أنه لم يخبرهم به ؛ لأن ترك إخبارهم به كان علما على نبوته . وأيضا لم يخبرهم به ؛ لئلا يكون إخباره ذريعة إلى سؤالهم عما لا يعنيهم .
وقوله : ( ^ وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) يعني : في جنب علم الله ، ويقال : إن هذا خطاب لليهود على معنى أنه قال للنبي : قل لليهود .
وقيل : إنه خطاب للرسول . وقد روي أن اليهود قالوا : قد أوتينا التوراة ، وفيها العلم الكثير ؛ فأنزل الله تعالى : ( ^ قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي ) الآية معناه : أن ما أوتيتم من العلم الذي في التوراة قليل في جنب علم الله .
____________________

<
> بسم الله الرحمن الرحيم <
> ( ^ كهيعص ( 1 ) ذكر رحمت ربك عبده زكريا ( 2 ) إذ نادى ربه نداء خفيا ( 3 ) ) * * * <
> ( تفسير ) سورة مريم مكية <
>
( و ) قد روينا عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال : ' سورة بني إسرائيل والكهف ومريم وطه من تلادي ، وفي رواية : من العتاق الأول ' . < < مريم : ( 1 ) كهيعص > >
وقوله تعالى : ( ^ كهيعص ) . روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال : هذا اسم من أسماء الله تعالى ، وحكي عنه أنه قال : ( يا الله يا عين صاد ) ، اغفر لي . وعن الحسن وقتادة : اسم من أسماء السورة . وأما ابن عباس فالمروي عنه : أن كل حرف مأخوذ من اسم ، فالكاف مأخوذ من الكافي ، ومنهم من قال : من كبير ، ومنهم من قال : من كريم ، وأما الهاء قال ابن عباس : مأخوذ من الهادي ، وأما الياء مأخوذ من حليم ، ومنهم من قال : من يمين ، ومنهم من قال : من أمين ، وقال بعضهم : الياء من ياء النداء ، وأما العين فقال ابن عباس : من عليم ، وعن غيره : من عزيز . وأما الصادق ، قال ابن عباس : من الصادم . وقد بينا قبل هذا أقوالا في الحروف المهجاة في أوائل السور . < < مريم : ( 2 ) ذكر رحمة ربك . . . . . > >
وقوله : ( ^ ذكر رحمة ربك عبده زكريا ) يعني : هذا ذكر رحمة ربك عبده زكريا ، وقال بعضهم : في الآية تقديم وتأخير ؛ يعني : هذا ذكر ربك عبده زكريا بالرحمة . < < مريم : ( 3 ) إذ نادى ربه . . . . . > >
وقوله : ( ^ إذ نادى ربه نداء خفيا ) أي : دعا ربه دعاء خفيا . وفي بعض الأخبار : ' خير الدعاء الخفي ، وخير الرزق ما يكفي ' . وفي بعض الأخبار أيضا : ' دعوة السر
____________________

( ^ قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا ( 4 ) وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا ( 5 ) ) * * * * تفضل دعوة العلانية بسبعين درجة ' .
فإن قيل : لم أخفى ؟ والجواب من وجوه : أحدها : أنه أفضل ، والآخر : لأنه استحيا من الناس أن يدعو جهرا ، فيقولون : انظروا إلى هذا الشيخ يسأل على كبره الولد ! . ويقال : إنه أخفى ، لأنه دعا في جوف الليل ، وهو ساجد . < < مريم : ( 4 ) قال رب إني . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال رب إني وهن العظم مني ) يعني : رق وضعف من الكبر . قال قتادة : اشتكى سقوط الأضراس .
قوله : ( ^ واشتعل الرأس شيبا ) أي : شعر الرأس . والعرب تقول إذا كثر الشيب في الرأس : اشتعل رأسه ، وهذا أحسن استعارة ، لأنه يشتعل فيه كاشتعال النار في الحطب .
وقوله : ( ^ ولم أكن بدعائك رب شقيا ) فيه قولان : أحدهما : أنك عودتني الإجابة ، ولم تخيبني ، والآخر : ولم أكن بدعائك لي شقيا يعني : لما دعوتني إلى الإيمان آمنت ، ولم أشق بترك الإيمان . < < مريم : ( 5 ) وإني خفت الموالي . . . . . > >
وقوله : ( ^ وإني خفت الموالي من ورائي ) قال أبو صالح : المراد منه الكلالة . وعن أبي عبيدة : بنو العم .
وقوله : ( ^ ورائي ) أي بعدي ، وقال أبو عبيدة : ورائي أي : أمامي . والقول الأول أصح .
وفي الشاذ : ' وإني خفت الموالي من ورائي ' أي : قلت .
وقوله : ( ^ وكانت امرأتي عاقرا ) . العاقر : هي التي لا تلد .
وقوله : ( ^ فهب لي من لدنك وليا ) . < < مريم : ( 6 ) يرثني ويرث من . . . . . > > وقوله : ( ^ يرثني ) أي : ولدا يرثني . فإن
____________________

( ^ يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا ( 6 ) ) * * * * قيل : كيف يخاف نبي الله أن يرثه بنو العم والعصبة ؟ وأيش معنى هذا الخوف ؟ ! وعن قتادة قال : أي شيء كان على نبي الله زكريا أن يرثه غير ولده ؟
والجواب : أنه اختلف الأقوال في الإرث : فعن ابن عباس : أنه أراد به إرث المال ، وهو قول جماعة ، وعنه أيضا أن المراد منه : إرث العلم ، وهو قول الحسن البصري ، وفيه قول ثالث : أنه ميراث الحبورة ، فإنه كان رأس الأحبار .
قال الزجاج : والأولى أن يحمل على ميراث غير المال ؛ لأنه يبعد أن يشفق زكرياء عليه السلام - وهو نبي من الأنبياء - أن يرثه بنو عمه وعصبته مالا ، وقد ثبت عن النبي أنه قال : ' كان زكريا نجارا ' . قال الشيخ الإمام الأجل : أخبرنا به أبو الحسن أحمد بن محمد بن النقور ، قال أبو القاسم بن حبابة ، قال عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي ، قال هدبة بن خالد ، عن حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أبي رافع عن أبي هريرة عن النبي . . . الخبر . خرجه مسلم في الصحيح ، ولم يخرجه البخاري ؛ لأنه لا يروى عن حماد بن سلمة .
والمراد من الخوف أنه أراد أن يكون وارثه في النبوة والحبورة ولده ، وقد قال النبي : ' إذا مات ابن آدم انقطع [ عمله ] إلا من ثلاثة . . وقال فيها : ولد صالح يدعو له ' .
وقوله : ( ^ ويرث من آل يعقوب ) قيل : النبوة ، وقيل : الملك ؛ لأن زكريا كان من بيت الملك .
وقوله : ( ^ واجعله رب رضيا ) أي : مرضيا .
____________________

( ^ يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا ( 7 ) قال رب أنى ) * * * * < < مريم : ( 7 ) يا زكريا إنا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يا زكريا إنا نبشرك بغلام ) معناه : قلنا : زكريا إنا نبشرك .
وقوله : ( ^ بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا ) يعني : من تسمى باسمه . فإن قيل : وأي فضيلة له في هذا ؟ قلنا : فضيلة التخصيص ، وقيل : فضيلة تسمية الله إياه بهذا الاسم . وفي الآية قول آخر : هو أن قوله : ( ^ لم نجعل له من قبل سميا ) أي : شبها ومثلا ؛ فإنه لم يذنب ، ولم يهم بذنب ، وما من أحد إلا وقد أذنب أو هم بذنب . وقد روي هذا عن النبي في خبر مسند أنه قال : ' ما من أحد يأتي الله يوم القيامة إلا وقد أذنب أو هم بذنب غير يحيى بن زكريا ، ثم أخذ عودا صغيرا من الأرض وقال : ما كان له إلا مثل هذا ' والخبر غريب .
____________________

( ^ يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا ( 8 ) قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا ( 9 ) قال رب اجعل لي آية قال ) * * * *
وقيل في منع الشبهة : أنه لم تلد عاقر من النساء مثله . < < مريم : ( 8 ) قال رب أنى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا ) أي : يأسا وجفوفا ، كأنه شكى نحولة العظم والفحل .
وقرأ ابن مسعود : ' عسيا ' بالسين ، والمعنى واحد .
وقيل : كيف سأل الله الولد فلما أجيب قال : ( ^ أنى يكون لي غلام ) ؟
والجواب عنه من وجهين : أحدهما : أنه كان قال حال الشباب ، ثم إنه أجيب في حال الكبر . وهذا قول ضعيف .
القول الثاني : أن معناه : أنى يكون لي غلام ؟ يعني : كيف يكون لي غلام ؟ أفتردني إلى حال الشباب أو تهب لي الغلام وأنا شيخ ؟ وقيل : إنه سأل الولد مطلقا لا من هذه المرأة ، فقال : كيف يكون لي الغلام ؟ أمن هذه المرأة أو من غيرها ؟ < < مريم : ( 9 ) قال كذلك قال . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال كذلك قال ربك هو علي هين ) أي : يسير .
وقوله : ( ^ وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا ) قد بينا . < < مريم : ( 10 ) قال رب اجعل . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال رب اجعل لي آية ) أي : دلالة . فإن قيل : لم سأل الآية ؟ أما صدق الله تعالى حتى يسأل الآية ؟ . والجواب : أن في القصة : أن الشيطان تمثل له ، وقال : إن الذي يجبك ليس هو الله ، وإنما هو شيطان يستهزئ بك ، فحينئذ سأل الله
____________________

( ^ آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا ( 10 ) فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا ( 11 ) يا يحيى ) * * * * الآية ، وقد سأل الآية ليكون زيادة في سكون القلب .
وقوله : ( ^ قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا ) أي : متتابعات ، وقيل : فيه تقديم وتأخير ، ومعناه : ألا يتكلم الناس سويا يعني : وأنت سوي لا آفة بك ثلاث ليال .
وفي القصة : أنه لم يقدر أن يتكلم مع الناس ، وكان إذا أراد التسبيح وذكر الله يطلق لسانه . < < مريم : ( 11 ) فخرج على قومه . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فخرج على قومه من المحراب ) قد بينا معنى المحراب .
وقوله : ( ^ فأوحى إليهم ) أي : أومأ إليهم ( ^ أن سبحوا بكرة وعشيا )
وروي أنه كان يدور على الأحبار كل يوم بكرة وعشيا ، ويأمرهم بالعبادة والصلاة ، فلما كان في هذه الأيام جعل يشير ، ويقال : إنه كتب حتى قرءوا منه .
وقال بعض أهل العلم : إن أخذ لسانه عن الكلام كان عقوبة عليه لما سأل الله تعالى عن الآية بعد أن سمع وعد الله إياه ، والله أعلم . < < مريم : ( 12 ) يا يحيى خذ . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يا يحيى ) قيل : يحيى مأخوذ من قوله : ( يا ) حي ' . وحكى النقاش في تفسيره : أن ' سارة ' كان اسمها ' يسارة ' فسماها جبريل ' سارة ' ، فقالت : لم نقصت من اسمي حرفا ؟ فقال : هو لولد لك يأتي من بعدك ، وكان اسم يحيى : ' حي ' في اللوح المحفوظ على معنى أنه حي من كبيرين أيسا من الولد ، ثم زيد فيه الياء فصار ' يحيى ' . وفي الآية حذف ، ومعناه : وهبنا له الولد ثم قلنا : يا يحيى .
____________________

( ^ خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا ( 12 ) وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا ( 13 ) وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا ( 14 ) وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث ) * * * *
وقوله : ( ^ خذ الكتاب بقوة ) أي : بجد واجتهاد .
وقوله : ( ^ وآتيناه الحكم صبيا ) أي النبوة . هذا قول أكثر المفسرين ، وقال قتادة : أعطى النبوة وهو ابن ثلاث سنين . وقيل : المراد من الحكم هو العلم ، فقرأ التوراة ، وهو صغير . وعن بعض السلف قال : من قرأ القرآن قبل أن يبلغ ، فهو ممن أوتي الحكم صبيا . وفي الآية قول ثالث رواه أبو وائل : وهو أن يحيى قيل له وهو صغير : تعال نلعب ، فقال : ما للعب خلقت ' . فهو معنى قوله تعالى : ( ^ وآتيناه الحكم صبيا ) . < < مريم : ( 13 ) وحنانا من لدنا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وحنانا من لدنا ) أي : رحمة من عندنا ، قال الشاعر :
( أبا منذر ( أفنيت فاستبق بعضنا ) حنانيك بعض الشر أهون من بعض )
هو مأخوذ من التحنن وهو التعطف .
وقوله : ' وزكاة ' أي ' طهارة وتوفيقا ، وقيل : إخلاصا .
وقوله : ( ^ وكان تقيا ) . وصفه بالتقوى ؛ لأنه لم يذنب ، ولم يهم بذنب . < < مريم : ( 14 ) وبرا بوالديه ولم . . . . . > >
وقوله : ( ^ وبرا بوالديه ) أي : عطوفا .
وقوله : ( ^ ولم يكن جبارا عصيا ) الجبار هو الذي يقتل على < < مريم : ( 15 ) وسلام عليه يوم . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا ) خص هذه الأحوال بهذه الأشياء ، لأن هذه الأحوال أوحش شيء فإنه عند الولادة يخرج من بطن
____________________

( ^ حيا ( 15 ) واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا ( 16 ) فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا ( 17 ) قالت إني أعوذ ) * * * * الأم على وحشة شديدة ، ويموت على وحشة شديدة ، ويبعث على وحشة شديدة . ومعنى السلام هو : الأمان في هذه المواضع . < < مريم : ( 16 ) واذكر في الكتاب . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ واذكر في الكتاب مريم إذا انتبذت من أهلها ) أي : تنحت واعتزلت . وقوله : ( ^ من أهلها ) أي : من قومها .
وقوله : ( ^ مكانا شرقيا ) أي : من جانب المشرق ، ويقال : كان يوما شاتيا شديد البرد ، فذهبت إلى مشرقه تفلي رأسها . وروي أنها كانت طهرت من الحيض فذهبت لتغتسل . < < مريم : ( 17 ) فاتخذت من دونهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فاتخذت من دونهم حجابا ) اختلف القول في هذا الحجاب : أحد الأقوال : أنه وراء جدار ، وقيل : وراء جبل ، والقول الثالث : وراء ستر . وروي أنها كانت تجردت لتغتسل .
وقوله : ( ^ فأرسلنا إليها روحنا ) الأكثرون على أنه جبريل عليه السلام ، وفيه قول آخر : أن المراد من الروح عيسى عليه السلام ، جاء في صورة بشر ، وحملت به ، والصحيح هو القول الأول .
قوله تعالى : ( ^ فتمثل لها بشرا سويا ) في القصة : أنه جبريل جاء في صورة غلام أمرد وضىء الوجه ، ( له ) جعد قطط . < < مريم : ( 18 ) قالت إني أعوذ . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا ) يعني : أستجير بالرحمن منك إن كنت تقيا . فإن قيل : إنما يستعاذ بالرحمن من الشخص إذا كان فاجرا ، فأما إذا كان متقيا لا يكون محل الاستعاذة منه ؛ لأنه متقي لا يقدم على الفجور ، والجواب عنه : أن هذا كقول القائل : إن كنت مؤمنا فلا تظلمني ، يعني أنه ينبغي أن
____________________

( ^ بالرحمن منك إن كنت تقيا ( 18 ) قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا ( 19 ) قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا ( 20 ) قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا ( 21 ) فحملته فانتبذت به ) * * * * يكون إيمانك مانعا من الظلم . كذلك هاهنا معناه : ينبغي أن يكون تقواك مانعا من الفجور وقيل : إنها شكت في حاله ، فقالت ما قالت على الشك ، والقول الثالث : إن كنت متقيا يعني : ما كنت متقيا جئت دخلت علي في هذه الحالة ، وهذا مثل قوله تعالى : ( ^ قل إن كان للرحمن ولد ) أي : ما كان للرحمن ولد . وعن بعض السلف أنه قال : إن كنت متقيا علمت أن التقى ذو نهية أي : ذو عقل ؟ فلهذا قالت : إن كنت تقيا . < < مريم : ( 19 ) قال إنما أنا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك ) . وقرىء : ' ليهب لك ' فقوله : ( ^ لأهب ) أضاف إلى نفسه ، لأنه أرسل بالموهوب على يده ، وقوله : ' ليهب ' أي : ليهب الله لك . وقوله : ( ^ غلاما زكيا ) أي : طاهرا صالحا . < < مريم : ( 20 ) قالت أنى يكون . . . . . > >
قوله : ( ^ قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ) أي : زوج . ( ^ ولم أك بغيا ) أي : زانية ومعناه : إن الولد يكون من نكاح أو سفاح ، وليس هاهنا واحد منهما . < < مريم : ( 21 ) قال كذلك قال . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال كذلك قال ربك هو علي هين ) أي : يسير .
وقوله : ( ^ ولنجعله آية للناس ) أي : علامة للناس ودلالة .
قوله : ( ^ ورحمة منا ) أي : ونعمة منا .
وقوله : ( ^ وكان أمرا مقضيا ) أي : محكوما [ محتما ] لا يرد ولا يبدل . < < مريم : ( 22 ) فحملته فانتبذت به . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فحملته ) في القصة : أن جبريل عليه السلام نفخ في جيب درعها ، وفي رواية : في كم قميصها ، وفي رواية : في فيها ، فحملت بعيسى في الحال ، وأخذ يتحرك في البطن .
____________________

( ^ مكانا قصيا ( 22 ) فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت ) * * * *
وقوله : ( ^ فانتبذت ) أي : فتنحت وتباعدت ( ^ به مكانا قصيا ) أي : شاسعا بعيدا .
قال ابن عباس : كان الحمل والولادة في ساعة واحدة .
وقال غيره : حملت به ثمانية أشهر ، وولدت لها ، ولا يعيش ولد في العالم يود لثمانية أشهر ، وكان هذا معجزة لعيسى .
وفي القصة عن مريم أنها قالت : كنت إذا خلوت جعل عيسى يحدثني ، وأنا أحدثه وهو في بطني ، وإذا كنت مع الناس ، وتكلمت معهم أخذ يسبح وأسمع تسبيحه . < < مريم : ( 23 ) فأجاءها المخاض إلى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة ) وقال أهل اللغة : جاءها وأجاءها بمعنى واحد ، كما يقال : أذهبته وذهبت به . قال مجاهد : فأجاءها أي : فألجأها . وفي حرف ابن مسعود : ' فأداها المخاض إلى جذع النخلة ' . وفي بعض القراءة : ' فاجأها ' من المفاجئة ، قال الشاعر :
( وجار سار معتمدا عليكم ** فاجاءته المخافة والرجاء )
والمخاض : وجع الولادة . فإن قال قائل : لم التجأت إلى جذع النخلة ؟ والجواب عنه : لتستظل بها ، والأصح أنها التجأت إلى النخلة ، لتستند إليها ، أو لتتمسك بها ، فتستعين بذلك على وجع الولادة . والدليل على أن هذا القول أصح ، أو أنه من المشهور أن النخلة كانت يابسة لا رأس لها ، وقيل : كانت نخرة مجوفة ، ومثل هذا لا يستظل بها والصحيح هو القول الثاني . وعن السدي أنه قال : كانت النخلة يابسة ، فلما هزت النخلة حييت ، وأورقت وأطلعت ثم صار الطلع بلحا ، ثم زهوا ثم أرطبت ، وتساقطت عليها .
وقوله تعالى : ( ^ قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا )
____________________

( ^ نسيا منسيا ( 23 ) فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا ( 24 ) وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا ( 25 ) فكلي واشربي وقري عنيا فإما ترين ) * * * *
النسي في اللغة : كمل ما ( إذا ) ألقي لم يذكر ونسي ؛ لحقارته وخساسته . وقوله : ( ^ نسيا ) أي : متروكا . وعن ابن عباس قال : معناه : يا ليتني لم أخلق ، ولم أك شيئا . وعن قتادة : لم أعرف ولم أذكر . وعن مجاهد قال : دم حيضة ملقاة .
فإن قيل : لم تمنت الموت ؟ . والجواب : أنها تمنت الموت استحياء من قومها . ويقال : إنها تمنت الموت ، لأنها علمت أن الناس يكفرون بسبب ابنها وبسببها ، فتمنت الموت حتى لا يعصى الله بسببها وبسبب ابنها . < < مريم : ( 24 ) فناداها من تحتها . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فناداها من تحتها ) قرىء : ' من ' بالفتح والكسر ، فأما من قرأ بالفتح فحمل الآية على أن المنادي كان جبريل . وهذا قول ابن عباس وقتادة وجماعة ، وأما من قرأ بالكسر فحمل على أن المنادي هو عيسى . وهذا قول الحسن ومجاهد ، وأظهر القولين أن المنادي هو جبريل ، ويجوز أن تحمل القراءتان على ذلك .
وفي القصة : أن مريم كانت على أكمة ، فكان جبريل وراء الأكمة تحتها .
وقوله : ( ^ ألا تحزني ) . ألا تغتمي بالولادة من غير زوج وبالوحدة .
وقوله : ( ^ قد جعل ربك تحتك سريا ) أكثر المفسرين أن السري هاهنا هو : النهر ، ويسمى سريا ؛ لأنه يسري فيه الماء ، وقال إبراهيم النخعي : هو نهر صغير .
وفي القصة : أنه كان هناك نهر يابس فأجرى الله تعالى فيه الماء ، والدليل على صحة هذا القول أن الله تعالى قال في الآية الأخرى : ( ^ فكلي واشربي ) أي : كلي من الرطب ، واشربي من النهر ، وقال الشاعر في السري بمعنى النهر :
( سهل الخليفة ماجد ذي نائل ** مثل السري عدة الأنهار )
وفي السري قول آخر ، وهو أنه بمعنى : الشريف ، والمراد به . عيسى . قال بعض المتأخرين :
____________________

( ^ من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا ( 26 ) فأتت به ) * * * *
( إن السري إذا سرى بنفسه ** وابن السري إذا سرى أسراهما ) < < مريم : ( 25 ) وهزي إليك بجذع . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وهزي إليك بجذع الخلة ) قد بينا هذا من قبل ، وذكرنا أنها هزت وأورقت وأثمرت .
وقوله : ( ^ تساقط عليك رطبا ) أي : تتساقط ، فأدغمت إحدى التاءين في الأخرى .
والجني : هو الذي بلغ الغاية ، وجاء أوان اجتنائه .
قال الكلبي : رطبا بغباره . وعن ابن المسيب بن دارم قال : كان برنيا ، وهي أشبع التمر . وعن محمد بن كعب قال : كان عجوة . < < مريم : ( 26 ) فكلي واشربي وقري . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فكلي واشربي ) أي : كل من الرطب ، واشربي من النهر .
وقوله : ( ^ وقري عينا ) أي : طيبي نفسا . ومنه قولهم : أقر الله عينك ، وقيل : [ أن ] العين إذا بكت من السرور بالدمع يكون باردا ، وإذا بكت من الحزن يكون حارا ، فمن هذا : أقر الله عينك ، وأسخن الله عينه .
وقوله : ( ^ فإما ترين ) معناه : فإما ترين ، وذكر النون للتأكيد .
وقوله : ( ^ من البشر أحدا ) معلوم المعنى .
وقوله : ( ^ فقولي إني نذرت للرحمن صوما ) قرىء في الشاذ : ' صمتا ' . والمعروف : ' صوما ' ومعناه هو : صمت ، ويقال : إنها صامت عن الكلام والطعام جميعا ، وقيل : كان الرجل من بني إسرائيل إذا اجتهد في العبادة صام عن الكلام والطعام جميعا .
والنذر عقد على البر لو تم أمر .
وقوله : ( ^ فلن أكلم اليوم إنسيا ) أي : أحدا . فإن قيل : هي تكلمت بهذا ، فكيف تكون صائمة عن الكلام ؟
قلنا : أذن لها في هذا القدر من الكلام .
____________________

( ^ قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا ( 27 ) يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ ) * * * * < < مريم : ( 27 ) فأتت به قومها . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فأتت به قومها تحمله ) في القصة أنها ولدت ثم ( حملته ) في الحين إلى قومها ، وفي بعض الروايات : أنها حملته إلى قومها بعد أربعين يوما من ولادتها .
وقوله : ( ^ قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا ) قال مجاهد : عظيما منكرا ، وقال أبو عبيدة : عجبا . وقيل : مختلقا مفتعلا . وقد روي أنها لما أتت بعيسى إلى قومها وأهل بيتها حزنوا حزنا شديدا - وكانوا أهل بيت صالحين - وظنوا بها الظنون . < < مريم : ( 28 ) يا أخت هارون . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يا أخت هارون ) يا شبيهة هارون . قال قتادة : وكان هارون رجلا عابدا في بني إسرائيل ، وليس هو هارون أخو موسى ، فشبهوها به على معنى أنا ظننا وحسبنا ( أنك في ) الصلاح مثل هارون ، وهذا مثل قوله تعالى : ( ^ إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين ) أي : أشباه الشياطين .
وعن كعب : أن هارون كان من أعبد بني إسرائيل وأمثلهم ، قال : ولما توفي صلى على جنازته أربعون ألفا ، كلهم يسمون هارون سوى سائر الناس ، وكانوا يسمون أولادهم باسمه لحبهم إياه .
وروى المغيرة بن شعبة ' أن النبي لما ( بعثه ) إلى نجران قال له نصارى نجران : إنكم تقرءون : يا أخت هارون ! بين مريم وهارون كذا وكذا من السنين ، فلم يدر المغيرة كيف يجيب ، فلما رجع إلى النبي ذكر ذلك له ، فقال : ألا قلت لهم : كانوا يسمون باسم أنبيائهم وصالحيهم ' . رواه مسلم في صحيحه .
وفي الآية قول آخر : وهو أن المراد بهارون : أخو موسى ، وهذا كما يقول القائل :
____________________

( ^ سوء وما كانت أمك بغيا ( 28 ) فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا ) * * * * أخا تميم ، أو يا أخا ثعلب ، إذا كان من أولاده ، وقد كانت مريم من أولاد هارون . والقول الثالث : أن هارون كان رجلا فاسقا في بني إسرائيل عظيم الفسق ، فشبهوها به .
وفي الآية قول رابع : أن هارون كان أخا مريم لأبيها ، فعلى هذا المراد من الأخوة في النسب .
وقوله : ( ^ ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا ) أي : زانية . ومعناه : كيف جئت مفسدة زانية من أبوين صالحين ؟ < < مريم : ( 29 ) فأشارت إليه قالوا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فأشارت إليه ) معناه : فأشارت إليه أي : كلموه . قال ابن مسعود : لما لم يكن لها حجة أشارت إليه ؛ لتبرىء ساحتها ، ويكون كلامه حجة ( لها ) .
وفي القصة : أنها لما أشارت إليه غضب القوم ، وقالوا : مع ما فعلت تهزئين وتسخرين بنا .
وقوله تعالى : ( ^ قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا ) فإن قيل : أيش معنى قوله : ( ^ كان في المهد صبيا ) ، وما من رجل من العالم إلا كان في المهد صبيا ؟ ! والجواب عنه : قال أبو عبيدة : كان صلة ، ومعنى الآية : كيف نكلم صبيا في المهد ؟ . وقال الزجاج : هذا على طريق الشرط ، أي : من هو صبي في المهد كيف نكلمه ؟ .
ومعنى ' كان ' : هو ، أو معنى ' كان ' : صار ، وهذا اختيار [ ابن ] الأنباري . < < مريم : ( 30 ) قال إني عبد . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال إني عبد الله ) في التفسير : أن مريم لما أشارت إليه فكان يرتضع من ثديها فترك الثدي ، وأقبل على ( القوم ، واتكأ على ) يساره ، وجعل يشير بيمينه ، وقال هذا القول .
وقوله : ( ^ إني عبد الله ) أقر بالعبودية أولا ؛ لئلا يتخذ إلها .
____________________

( ( 29 ) قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا ( 30 ) وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا ( 31 ) وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا ) * * * *
وقوله : ( ^ آتاني الكتاب ) . أي : الإنجيل . والأكثرون على أنه أوتي الإنجيل وهو صغير طفل ؛ إلا أنهم قالوا : كان يعقل عقل الرجال . هذا قول الحسن وغيره من السلف ، وعن الحسن أنه قال : جعل نبيا ، وأوتي الإنجيل ، وهو في بطن أمه .
وقال بعضهم : ( ^ آتاني الكتاب ) أي : سيؤتيني الكتاب ، ويجعلني نبيا إذا صرت رجلا . والصحيح هو الأول . وقال بعضهم : كان في ذلك الوقت على وصف آدم في العقل والعلم دون القامة والجثة .
وعن سعيد بن جبير قال : أسلمته أمه إلى المعلم ، فقال المعلم : قل بسم . فقال : الله . فقال : قل : الرحمن . قال : الرحيم . فجعل كلما ذكر اسما ذكر هو الذي يليه ، فقال المعلم : هذا أعلم مني ، ثم جعل يخبر الصبيان بما خبأت أمهاتهم في البيوت ، فجعل الصبيان يرجعون إلى بيوتهم ويأخذونها ، فضجت الأمهات من ذلك . < < مريم : ( 31 ) وجعلني مباركا أين . . . . . > >
فقوله : ( ^ وجعلني مباركا ) أي : نفاعا معلما للخير ، وقال الضحاك : قضاء للحوائج .
وقال الثوري : آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر .
وقوله : ( ^ أينما كنت ) أي : حيث كنت .
وقوله : ( ^ وأوصاني بالصلاة والزكاة ) أي : أمرني بالصلاة والزكاة . فإن قيل : لم يكن لعيسى مال ، فكيف يؤمر بالزكاة ؟ والجواب : أن معناه أمرني بالزكاة لو كان لي مال ، وقيل : أمرني بالزكاة أي : بالطهارة من الذنوب ، ويقال : بالاستكثار من الخير .
وقوله : ( ^ مادمت حيا ) أي : ما حييت . < < مريم : ( 32 ) وبرا بوالدتي ولم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وبرا بوالدتي ) أي : رءوفا وعطوفا بوالدتي .
____________________

( ( 32 ) والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا ( 33 ) ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ( 34 ) ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ( 35 ) ) * * * *
وقوله : ( ^ ولم يجعلني جبارا شقيا ) الجبار : المتكبر ، والشقي هو الذي يعصي الله ، ويقال : الجبار هو الذي يقتل ، ويضرب على الغضب ، وهذا قول معروف ، ويقال : الجبار هو الذي يظلم الناس ، والشقي هو الذي يذنب ، ولا يتوب من الذنب . < < مريم : ( 33 ) والسلام علي يوم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ والسلام علي يوم ولدت ) معناه : التحية والحفظ من الله لي يوم ولدت ( ^ ويوم أموت ويوم أبعث حيا ) وقال بعضهم : السلام بمعنى السلامة عند الولادة ، هو السلامة من طعن الشيطان وهمزه ، والسلامة عند الموت هو من الشرك ، فإن أكثر الشرك يكون عند الموت ، والسلامة يوم القيامة من الأهوال .
وقيل : السلامة عند الموت من ضغطة القبر ، وقيل : سلامة عند الموت بالوصول إلى السعادة . < < مريم : ( 34 ) ذلك عيسى ابن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ذلك عيسى ابن مريم ) يعني : هذا عيسى ابن مريم ( ^ قول الحق الذي فيه يمترون ) . يعني : هذا القول هو القول الحق ، وقوله ( ^ الذي فيه يمترون ) أي : يختلفون . < < مريم : ( 35 ) ما كان لله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ما كان لله أن يتخذ من ولد ) معناه : ما يصلح لله ، وما ينبغي أن يتخذ من ولد . فإن قيل : هلا قال ولدا ؟ قلنا : قال من ولد للمبالغة ؛ فإن الرجل قد يقول : ما اتخذ فلان فرسا يريد العدد ، وإن كان قد اتخذ واحدا . فإذا قال : ما اتخذ فلان من فرس ، يكون ذلك نفيا للواحد والعدد . وقد بينا أن الولد يكون من جنس الوالد ، والله لا جنس له .
وقوله سبحانه : ( ^ إذا قضى أمرا ) قد بينا معنى القضاء .
وقوله : ( ^ فإنما يقول له كن فيكون ) قد ذكرنا أيضا .
____________________

( ^ وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم ( 36 ) فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم ( 37 ) أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن ) * * * * < < مريم : ( 36 ) وإن الله ربي . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإن الله ربي وربكم ) . أكثر المفسرين أن هذا بناء على قول عيسى عليه السلام ، ومعناه : قال إني عبد الله . . . إلى آخره ، وقال : إن الله ربي وربكم ، وأما أن بالفتح معناه : وأخبر بأن الله ربي وربكم ، وقيل تقديره : ولأن الله ربي وربكم ، فاعبده ، والعامل قوله : ( ^ فاعبدوه ) .
وقوله : ( ^ فاعبدوه هذا صراط مستقيم ) ظاهر المعنى . < < مريم : ( 37 ) فاختلف الأحزاب من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فاختلف الأحزاب من بينهم ) قال قتادة وابن جريج وغيرهما : لما رفع عيسى عليه السلام إلى السماء ، اختار بنو إسرائيل أربعة من رءوسهم ، وسألوهم عن عيسى ، فاختلفوا ، فقال أحدهم : كان هو الله نزل من السماء ، وصار في بطن مريم ، وأحيا وأمات ، ثم صعد إلى السماء . فقال الآخرون : كذبت ، وهذا قول اليعقوبية من النصارى .
وقال الثاني : كان هو ابن الله ، فقال الآخران : كذبت . وهذا قول النسطورية من النصارى .
وقال الثالث : كان ثالث ثلاثة : الله ومريم وعيسى ، فعيسى أحد الأقانيم الثلاثة ، وهذا قول الملكانية من النصارى ، قال الرابع : كذبت . ثم إن الرابع قال : هو عبد الله ورسوله ، وتبع كل واحد جماعة فاقتتلوا ، وظهر على المسلمين ، وبقي الأقوال الثلاثة من النصارى . فهذا معنى قوله تعالى : ( ^ فاختلف الأحزاب من بينهم ) .
وقوله : ( ^ فويل للذين كفروا ) . قد بينا معنى الويل .
وقوله : ( ^ من مشهد يوم عظيم ) يعني : يوم القيامة . < < مريم : ( 38 ) أسمع بهم وأبصر . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ أسمع بهم وأبصر ) يعني : ما أسمعهم وأبصرهم يوم القيامة . وإنما
____________________

( ^ الظالمون اليوم في ضلال مبين ( 38 ) وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة ) * * * * وصفهم بهذا ؛ لأنه تعالى كان وصفهم بالبكم والعمي والصمم في الدنيا ، فأخبر أنهم يسمعون ويبصرون في الآخرة ، ما لم يسمعوا ويبصروا في الدنيا . ويقال : وصفهم بشدة السمع والبصر في الآخرة بحصول الإدراك بغير رؤية ولا فكر .
وقوله : ( ^ يوم يأتوننا ) ظاهر المعنى .
وقوله : ( ^ لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين ) أي : خطأ بين .
ويقال قوله : ( ^ أسمع بهم وأبصر ) تهديد ووعيد ومعناه : أنهم يسمعون ما تصدع قلوبهم ، ويرون ما يهلكهم . < < مريم : ( 39 ) وأنذرهم يوم الحسرة . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ وأنذرهم يوم الحسرة ) معناه : يوم الندامة ، ويقال : كل الناس يندمون يوم القيامة ؛ أما المسيء فيندم هلا أحسن ، وأما المحسن فيندم هلا ازداد ( حسنا ) . وأما قول أكثر المفسرين في الآية : هذه الحسرة حيث يذبح الموت على الصراط ، وقد صح الخبر برواية أبي هريرة ، وأبي سعيد الخدري عن النبي ، أنه قال :
' إذا أدخل الله أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ينادي مناد : يا أهل الجنة ، فيشرفون وينظرون ، وينادي : يا أهل النار ، فيشرفون وينظرون ؛ فيؤتى بالموت على صورة كبش أملح ، فيقال لهم : هل تعرفون هذا ؟ فيقولون : نعرفه ، هذا هو الموت فيذبح ' . وفي رواية أبي هريرة : ' يذبح على الصراط ' ثم يقال : يا أهل الجنة خلود ( ولا موت ) ، ويا أهل النار ، خلود فلا موت ' . وفي بعض الروايات : ' لو مات أهل الجنة لماتوا فرحا ، ولو مات أهل النار لماتوا حزنا ، ثم قرأ النبي : ( ^ وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر ) . . الآية ' .
____________________

( ^ وهم لا يؤمنون ( 39 ) إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون ( 40 ) واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا ( 41 ) إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا ( 42 ) يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني ) * * * *
وقوله : ( ^ قضي الأمر ) أي : فرغ من الأمر .
وقوله : ( ^ وهم في غفلة ) معناه : وهم في غفلة في الدنيا عما يعمل بهم في الآخرة .
وقوله : ( ^ وهم لا يؤمنون ) أي : لا يصدقون . < < مريم : ( 40 ) إنا نحن نرث . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إنا نحن نرث الأرض ومن عليها ) الآية . معناه : إنا نميت سكان الأرض ، ونهلكهم ، فتكون الأرض ومن عليها لنا وفي حكمنا . ومعنى الإرث : هو أنه لا يبقى لأحد ملك ولا سبب سوى الله .
قوله : ( ^ وإلينا يرجعون ) أي : يردون . < < مريم : ( 41 ) واذكر في الكتاب . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا ) الصديق هو : الكثير الصدق ، القائم عليه . ويقال : من صدق الله في وحدانيته ، وصدق أنبياءه ورسله ، وصدق بالبعث ، وقام بالأوامر فعمل بها ؛ فهو صديق .
وقوله : ( ^ نبيا ) النبي هو : العالي في الرتبة بإرسال الله إياه ، وإقامة الدليل على صدقه . < < مريم : ( 42 ) إذ قال لأبيه . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إذ قال لأبيه يا أبت ) معناه : يا أبي ، فأقيمت التاء مقام ياء الإضافة .
وقوله : ( ^ لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا ) أي : لا يسمع إن دعوته ، ولا يبصر إن أتيته ( ^ ولا يغني عنك شيئا ) لا يدفع عنك ، ومعناه : لا يغيثك إن استغثت به . < < مريم : ( 43 ) يا أبت إني . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يا أبت إني قد جاءني ما لم يأتك ) أي : من العلم والمعرفة بالله ما لم يأتك .
____________________

( ^ أهدك صراطا سويا ( 43 ) يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا ( 44 ) يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا ( 45 ) قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا ( 46 ) قال سلام ) * * * *
( ^ فاتبعني أهدك ) أرشدك ( ^ صراطا سويا ) مستقيما . < < مريم : ( 44 ) يا أبت لا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يا أبت لا تعبد الشيطان ) معناه : لا تطع الشيطان فيما يزين لك من الكفر والشرك .
وقوله : ( ^ إن الشيطان كان للرحمن عصيا ) أي : عاصيا . < < مريم : ( 45 ) يا أبت إني . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يا أبت إني أخاف ) الخوف ها هنا بمعنى : العلم ، ومعناه : إني أعلم أنه ( ^ يمسك عذاب من الرحمن ) إن أقمت على الكفر .
( ^ فتكون للشيطان وليا ) يعني : يلزمك ولاية أي : موالاة الشيطان وتكون مثله . وقيل : فتوكل إلى الشيطان ، ويخذلك الله . < < مريم : ( 46 ) قال أراغب أنت . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم )
في القصة : أن أبا إبراهيم كان ينحت الصنم ويعبده ، وكان يعطي الأصنام بنيه يبيعونها ، فكان إذا أعطى إبراهيم صنما يبيعه ، فيقول إبراهيم : من يشتري مني ما يضره ولا ينفعه ؟ ! فيرجع وما باع ، ويرجع سائر البنين وقد باعوا .
وقوله : ( ^ قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم ) يقال : رغب عن الشيء إذا تركه ، ورغب ( في الشيء إذا طلبه ) .
وقوله : ( ^ لئن لم تنته ) يعني : عن عملك . ( ^ لأرجمنك ) . قال الحسن البصري : لأقتلنك بالحجارة ، وقال غيره : لأشتمنك ، ولأبعدنك عن نفسي بالشتم والقبح من القول ' ، وهذا أعرف القولين . وقوله : ( ^ واهجرني مليا ) قال الحسن : زمانا طويلا . وقال عكرمة : دهرا .
____________________

( ^ عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا ( 47 ) وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا ( 48 ) فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون ) * * * *
قال مهلهل شعرا :
( فتصدعت صم الجبال لموته ** وبكت عليه المرملات مليا )
ومنه : الملوان هو الليل والنهار . ويقال : مليا أي : سليما سويا من عقوبتي وإيذائي ، وحكي هذا عن ابن عباس ، ومنه : فلان ملي بأمر كذا ، إذا كان كاملا فيه . < < مريم : ( 47 ) قال سلام عليك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال سلام عليك ) .
قال بعضهم : هذا سلام هجران ومفارقة . وقال بعضهم : هو سلام بر ولطف ، وهو جواب حليم لسفيه ، قال الله تعالى : ( ^ وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ) .
ويقال : معنى قوله : ( ^ سلاما ) أي : سلامة لك مني ؛ لأنه لم يكن أمر بقتاله .
وقوله : ( ^ سأستغفر لك ربي ) . فيه قولان : أحدهما : سأستغفر لك ربي إن آمنت ، والقول الثاني : سأسأل الله لك التوبة التي توجب المغفرة ، وقد كانت توبته هي الإيمان . وقوله : ( ^ إنه كان بي حفيا ) أي : عودني الإجابة لدعائي . وقيل : محبا . < < مريم : ( 48 ) وأعتزلكم وما تدعون . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وأعتزلكم ) [ هذا الاعتزال ] هو : تركهم في مهاجرته إلى الشام على ما قال في موضع آخر : ( ^ وقال إني مهاجر إلى ربي ) .
وقوله : ( ^ وما تدعون من دون الله ) أي : تعبدون من دون الله .
وقوله : ( ^ وأدعو ربي ) أي : وأعبد ربي .
وقوله : ( ^ عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا ) عسى من الله واجب ، والدعاء بمعنى العبادة ، والشقاوة : الخيبة من الرحمة . < < مريم : ( 49 ) فلما اعتزلهم وما . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق )
____________________

( ^ الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا ( 49 ) ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا ( 50 ) واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا ) * * * * ( ^ ويعقوب ) هو ابن إسحاق .
ومعناه : أنا أعطيناه أولادا كراما بررة عوض الذين كان يدعوهم إلى عبادة الله فلم يجيبوا .
وقوله : ( ^ وكلا جعلنا نبيا ) يعني : إسحاق ويعقوب . < < مريم : ( 50 ) ووهبنا لهم من . . . . . > >
( ^ ووهبنا لهم من رحمتنا ) يعني : أنعمنا عليهم ، وأعطيناهم من كرامتنا ونعمنا .
وقوله : ( ^ وجعلنا لهم لسان صدق عليا ) أي : ثناء حسنا إلى يوم القيامة ، وقد بينا أن كل أهل الأديان يتولون : إبراهيم ، فهو الثناء الحسن إلى يوم القيامة . < < مريم : ( 51 ) واذكر في الكتاب . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا ) وقرئ : ' مخلصا ' ' مخلصا ' بالفتح والكسر ، فبالكسر أي : موحدا لله وبالفتح أي : مختارا من الله تعالى . وقيل : مخلصا أي : خالصا ، وهو مثل قوله تعالى : ( ^ ورجلا سلما لرجل ) أي : خالصا لرجل .
وقوله : ( ^ وكان رسولا نبيا ) . قيل : الرسول والنبي واحد ، وقد فرق بينهما ، وقد بينا من قبل . < < مريم : ( 52 ) وناديناه من جانب . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وناديناه من جانب الطور الأيمن ) الطور : جبل بين مصر ومدين ، ويقال : اسمه الزبير .
وقوله : ( ^ الأيمن ) وقيل : يمين الجبل ، وقيل : يمين موسى ، والأصح يمين موسى ؛ لأن الجبل ليس له يمين ولا شمال .
____________________

( ( 51 ) وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا ( 52 ) ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا ( 53 ) واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا ) * * * *
وقوله : ( ^ وقربناه نجيا ) قال ابن عباس : أدناه حتى سمع صرير القلم ، وقيل : صريف القلم . وفي رواية : رفعه على الحجب .
ويقال : قربناه نجيا أي : كلمناه ، والتقريب ها هنا هو التكلم ، وأما النجي فهو المناجي ، وكأن معناه على هذا القول : أن الله يكلمه ، وهو يكلم الله . < < مريم : ( 53 ) ووهبنا له من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا ) قال أهل التفسير : إنما سمى نبوة هارون هبة لموسى ؛ لأن موسى كان قال : ( ^ واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي ) . < < مريم : ( 54 ) واذكر في الكتاب . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ واذكر في الكتاب إسماعيل ) . الأكثرون أن هذا : إسماعيل بن إبراهيم أبو النبي ، وقال بعضهم : هو إسماعيل بن حزقيل ، نبي آخر ؛ فإن إسماعيل بن إبراهيم توفي قبل إبراهيم . والصحيح هو القول الأول ، وقد كان بعث إلى جرهم [ وهي ] قبيلة ، وأما وفاته قبل إبراهيم لا تعرف .
وقوله : ( ^ إنه كان صادق الوعد ) قال سفيان : لم يعد الله شيئا من نفسه إلا وفى به ، ومن المعروف أنه وعد إنسانا شيئا فأنتظره ثلاثة أيام في مكان واحد ، فسمي صادق الوعد ، ويقال : انتظره حولا .
وعن سفيان الثوري أنه قال : إن للكذاب أطرافا ، وأعظم الكذب إخلاف المواعيد ، واتهام الأبرياء .
وفي بعض الأخبار : ' أن النبي بايع رجلا قبل الوحي ، فقال له ذلك الرجل : مكانك يا محمد ، حتى أرجع إليك ، وذهب ونسي ، ثم مر بذلك المكان بعد ثلاثة أيام ، فوجد النبي جالسا ، فقال له النبي : أتعبتني أيها الرجل ، أنا أنتظرك
____________________

( ( 54 ) وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا ( 55 ) واذكر في الكتاب ) * * * * منذ ثلاث ' .
وقد ثبت عن النبي أنه جعل إخلاف الوعد ثلث النفاق .
وعن زيد بن أرقم ، أن من وعد إنسانا ومن نيته أن يفي به ، ثم لم يتفق الوفاء ، فإنه لا يدخل في هذا الوعيد .
وروى [ قباث ] بن أشيم أن النبي قال : ' العدة عطية ' . هو خبر غريب .
وقوله : ( ^ وكان رسولا نبيا ) قد بينا . < < مريم : ( 55 ) وكان يأمر أهله . . . . . > >
قوله : ( ^ وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة ) قرأ ابن مسعود : ' وكان يأمر قومه بالصلاة ' .
وقال أهل التفسير : إن معنى قوله : ( ^ وكان يأمر أهله ) أي : أمته ، وإن أمة كل نبي أهلوه .
وقوله : ( ^ وكان عند ربه مرضيا ) أي : مختارا ومعناه : رضيه الله لنبوته ورسالته .
____________________

( ^ إدريس إنه كان صديقا نبيا ( 56 ) ورفعناه مكانا عليا ( 57 ) أولئك الذين أنعم الله ) * * * * < < مريم : ( 56 ) واذكر في الكتاب . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ واذكر في الكتاب إدريس ) . قيل : إدريس هو أبو جد نوح . يسمى إدريس لكثرة درسه الكتب .
وقال محمد بن إسحاق : هو أول من خط بالقلم ، وأول من لبس الثياب ، وكان من قبله يلبسون الجلود ، وأول من اتخذ السلاح وقاتل الكفار .
قوله : ( ^ إنه كان صديقا نبيا ) قد بينا . < < مريم : ( 57 ) ورفعناه مكانا عليا > >
وقوله : ( ^ ورفعناه مكانا عليا ) قد ثبت برواية أنس أن النبي قال : ' رأيت إدريس ليلة المعراج في السماء الرابعة ' . فهو قوله تعالى : ( ^ ورفعناه مكانا عليا ) في الجنة يعني : رفعه .
وقيل : هي الرفعة بعلو المرتبة . واختلف القول في أنه في السماء الرابعة حي أم ميت : أحد القولين : أنه حي .
قال قوم من أهل العلم : أربعة من الأنبياء في الأحياء ، اثنان في السماء ، واثنان في الأرض ، أما اللذان في السماء : فإدريس ، وعيسى ، وأما اللذان في الأرض : فالخضر ، وإلياس .
والقول الثاني : إن إدريس ميت . قال كعب الأحبار : كان لإدريس صديق من الملائكة ، فقال له : إني أحب أن أعرف متى أموت ؛ لأزداد من العمل ، فهل لك أن تسأل ملك الموت ؟ فقال : أسأله وأنت تسمع ، ثم رفعه تحت جناحه إلى السماء ، وجاء إلى ملك الموت ، فقال : هل تعرف أن إدريس متى يموت ؟ فقال : حتى أنظر ، ثم
____________________

( ^ عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا ( 58 ) فخلف من ) * * * * استخرج كتابا ، ونظر فيه ، فقال : بقي من عمره ست ساعات - وفي رواية لحظة - وقبض روحه ثمة ، فهو معنى قوله : ( ^ ورفعناه مكانا عليا ) وهذا قول معروف . < < مريم : ( 58 ) أولئك الذين أنعم . . . . . > >
قوله : ( ^ أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم ) والمراد من ذرية آدم : إدريس .
وقوله : ( ^ وممن حملنا مع نوح ) . أي : ومن ذرية من حملنا مع نوح ، والمراد منه : إبراهيم ؛ لأنه كان من ولد سام بن نوح .
وقوله : ( ^ ومن ذرية إبراهيم ) المراد منه : إسماعيل وإسحاق ويعقوب .
وقوله تعالى : ( ^ وإسرائيل ) . أي : من ذرية إسرائيل ، والمراد منه : موسى وداود وسليمان ويوسف وعيسى ، وكل أنبياء بني إسرائيل .
وقوله : ( ^ وممن هدينا واجتبينا ) هذا يرجع إلى الأولين ، ومعناه : أنا هديناهم ، واختبرناهم ، وهؤلاء ذريتهم .
وقوله : ( ^ إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا ) أي : سقطوا ، وقيل : وقعوا بوجوههم ساجدين ، والسجد جمع ساجد .
وقوله : ( ^ وبكيا ) أي : باكين .
وروي أن النبي مر على رجل ، وهو ساجد يدعو ، فقال : ' هذا السجود وأين البكاء ' ؟ ! . < < مريم : ( 59 ) فخلف من بعدهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فخلف من بعدهم خلف ) الخلف : الرديء من القوم . والخلف
____________________


( بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا ( 59 ) إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا ( 60 ) جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب إنه كان وعده مأتيا ( 61 ) ) * * * * الصالح في القوم . والخلف هو الذي يخلف غيره ، وذكر الفراء والزجاج أنه يجوز أن يستعمل أحدهما مكان الآخر .
وقوله : ( ^ أضاعوا الصلاة ) . فيه قولان : أحدهما : أخروها عن وقتها ، والآخر : تركوها أصلا . وعن ابن شوذب : هو التأخير عن الوقت ، ولو تركوها أصلا لكفروا .
وقال عمر بن عبد العزيز : هو شربهم الخمر ، وتركهم الصلاة .
وقال مجاهد : هؤلاء قوم يظهرون في آخر الزمان ينزوا بعضهم على بعض في الأسواق والأزقة ، وقيل : هم الزناة . ويقال : أضاعوا الصلاة باتباع الشهوات .
وقوله : ( ^ فسوف يلقون غيا ) قيل : الغي واد في جهنم ، وقيل : غيا : هلاكا ، وقيل : غيا : جزءا غيهم . شعر :
( ومن يلق خيرا يحمد الناس أمره ** ومن يغو لا يعدم على الغي لائما ) < < مريم : ( 60 ) إلا من تاب . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا ) . أي : لا ينقصون شيئا . < < مريم : ( 61 ) جنات عدن التي . . . . . > >
قوله : ( ^ جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب ) معناه : جنات إقامة ، يقال : عدن بالمكان إذا أقام .
وقوله : ( ^ التي وعد الرحمن عباده بالغيب ) أي : بالمغيب .
وقوله : ( ^ إنه كان وعده مأتيا ) . مفعول في الإتيان ، وكل ما أتيته فقد أتاك ، والعرب لا تفرق بين أن يقول القائل : أتيت على خمسين سنة أو يقول : أتت على خمسون سنة ، وكذلك لا تفرق بين أن يقول القائل : وصل الخير إلي ، وبين أن يقول :
____________________

( ^ لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا ( 62 ) تلك الجنة التي ) * * * * وصل إلي الخير :
ويقال معنى قوله : ( ' آتيا ' أي : ' مأتيا ' ) مفعول بمعنى الفاعل . < < مريم : ( 62 ) لا يسمعون فيها . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما )
الغغو : هو الفاسد من الكلام ، وما لا معنى له ، وقيل : هو الهذر من القول ، وقيل : القبيح منه ، وقيل : هو الحلف الكاذبة .
وقوله : ( ^ إلا سلاما ) . معناه : لكن يسمعون سلاما . فإن قيل : أيجوز استثناء السلام من اللغو ؛ وهو ليس من جنسه ؟ قلنا : هو استثناء منقطع كما بينا . وذكر الأزهري أن تقديره : لا يسمعون فيها لغوا ، لا يسمعون إلا سلاما . وأما السلام فهو تسليم بعضهم على بعض ، وقيل : تسليم الله عليهم . ويقال : هو قول يسلمون منه . والسلام اسم لكلام جامع للخيارت ، ومنهم من قال : هو اسم لكلام يتصل به السلامة .
وقوله : ( ^ ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا ) فإن قيل : ما معنى قوله : ( ^ بكرة وعشيا ) ، وليس في الجنة ليل ولا نهار ؟ ! والجواب عنه أن معناه : بكرة وعشياء أي : على مقادير البكر والعشايا .
ويقال : إنه يعرف وقت النهار برفع الحجب وفتح الأبواب ، ووقت الليل بإسبال الحجب وغلق الأبواب .
والقول الثاني : أن معنى قوله : ( ^ بكرة وعشيا ) أي : لهم فيها رفاهة العيش ؛ الرزق الواسع من غير تضييق ولا تقتير .
وكان الحسن البصري إذا قرأ هذه الآية قال : لقد علمت العرب أن أرفه العيش هو الرزق بالبكرة والعشية ، ولا يعرفون من الرفاهية فوق هذا .
____________________

( ^ نورث من عبادنا من كان تقيا ( 63 ) وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا ) * * * * < < مريم : ( 63 ) تلك الجنة التي . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ تلك الجنة التي نورث من عبادنا ) فيه قولان : أحدهما : يعطى وينول ، والقول الآخر : أنه ما من أحد من الكفار إلا وله منزل في الجنة وأهل لو أسلم ، فإذا لم يسلم ورثه المؤمنون .
وقوله : ( ^ من كان تقيا ) قيل : مخلصا . < < مريم : ( 64 ) وما نتنزل إلا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وما نتنزل إلا بأمر ربك ) . قد ثبت برواية عمر بن ذر ، عن أبيه ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أن جبريل ، أبطأ على النبي ، فلما نزل ، قال : ' يا جبريل لو زرتنا أكثر مما تزورنا ، فقال جبريل : وما نتنزل إلا بأمر ربك ' .
وفي بعض الروايات أن النبي قال له : ' يا جبريل ، قد كنت مشتاقا إليك ، ( فقال : يا محمد ، وأنا والله قد كنت مشتاقا إليك ) ، ولكن ما نتنزل إلا بأمر ربك ' .
وروي أنه أبطا [ اثنتا عشرة ] ليلة ، وروي أكثر من هذا ، والله أعلم .
وقوله : ( ^ له ما بين أيدينا وما خلفنا ) . يعني : له علم ما بين أيدينا وما خلفنا . وفي الآية أقوال :
أحدها : ما بين أيدينا يعني : الآخرة ، وما خلفنا : ما مضى من الدنيا ، وما بين ذلك : من الساعة إلى النفخة .
والقول الثاني : ما بين أيدينا : ما قابلناه وواجهناه ، وما خلفنا : ما استدبرناه وجاوزناه
____________________

( ^ وما بين ذلك وما كان ربك نسيا ( 64 ) رب السموات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا ( 65 ) ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا ( 66 ) أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا ( 67 ) فوربك لنحشرنهم ) * * * * ( بين ) الوقت وما بين ذلك ، الحال .
والقول الثالث : ما بين أيدينا : الأرض ، وما خلفنا : السموات ، وما بين ذلك : الهواء .
والقول الرابع : ما بين أيدينا : بعد أن نموت ، وما خلفنا : قبل أن نخلق ، وما بين ذلك . مدة الحياة .
وقوله : ( ^ وما كان ربك نسيا ) . أي : ما نسيك ربك ، ومعنى نسيك أي : تركك . < < مريم : ( 65 ) رب السماوات والأرض . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ رب السموات والأرض وما بينهما ) ظاهر المعنى .
وقوله : ( ^ فاعبده ) أي : وحده .
وقوله : ( ^ واصطبر لعبادته ) أي : اصبر على عبادته .
وقوله : ( ^ هل تعلم له سميا ) قال ابن عباس : هل تعلم أحدا يسمى ' الرحمن ' غير الله ؟ وقيل : يسمى ' الله ' غير الله ، وقال قتادة : هل تعلم له سميا ؟ أي : مثلا ، وقال بعضهم : سميا أي : ولدا . < < مريم : ( 66 ) ويقول الإنسان أئذا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ويقول الإنسان أإذا ما مت ) قالوا : نزلت الآية في أبي بن خلف .
وقوله : ( ^ لسوف أخرج حيا ) أي : أسوف أخرج حيا ؟ < < مريم : ( 67 ) أولا يذكر الإنسان . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ أولا يذكر ) قرأ أبي بن كعب : ' أولا يتذكر الإنسان ' ومعناه : أولا يتفكر ، ولا ينظر ( ^ الإنسان ) .
وقوله : ( ^ أنا خلقناه من قبل ولم [ يك ] شيئا ) . ومعناه : أنا لما قدرنا على إنشاء خلقهم ، فنحن على الإعادة أقدر .
____________________

( ^ والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا ( 68 ) ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا ( 69 ) ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا ( 70 ) وإن منكم إلا واردها ) * * * * < < مريم : ( 68 ) فوربك لنحشرنهم والشياطين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فوربك لنحشرنهم والشياطين ) . في الخبر : أنه يحشر كل كافر مسلسلا مع شيطان .
وقوله : ( ^ ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا ) أي : جاثين على الركب . قال السدي : قاعين على الركب من ضيق المكان ، ' وحول جهنم ' هو عين جهنم . < < مريم : ( 69 ) ثم لننزعن من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ثم لننزعن من كل شيعة ) أي : لنستخرجن ونأخذن من كل شيعة ، أي : من كل أمة وأهل دين من الكفار .
وقوله : ( ^ أيهم أشد على الرحمن عتيا ) أي : الأعتى فالأعتى ، ومعنى الآية : أنا نقدم في إدخال النار من هو أكثر جرما ، وأشد أمرا ، وقال أهل اللغة : وقوله : ( ^ عتيا ) أي : افتراء بلغة تميم . ويقال : هؤلاء هم قادة الكفر ورؤساؤه ، وفي بعض الآثار : أنهم يحضرون جميعا حول جهنم مسلسلين مغلولين ، ثم يقدم الأكفر فالأكفر . < < مريم : ( 70 ) ثم لنحن أعلم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا ) أي : أحق دخولا . ويقال : الذين هم أشد عنوا أولى بها صليا ، فهذا تقدير الآية . < < مريم : ( 71 ) وإن منكم إلا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإن منكم إلا واردها ) معناه : وما منكم إلا واردها . واختلفوا فيما ينصرف إليه قوله : ( ^ واردها ) قال ابن عباس : هي النار ، قال : والورود هو الدخول ، وقال : يدخلها البر والفاجر ، ثم ينجو البر ، ويبقى الفاجر . وروى سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار قال : تمارا ابن عباس ونافع بن الأزرق في الورود ، فقال ابن عباس : هو الدخول ، وتلا قوله تعالى : ( ^ إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون ) ثم قال : يا نافع ، أنا وأنت داخلها ، وأرجو أن ينجيني الله منها ، ولا
____________________

ينجيك منها ، لأنك كذبت به .
قال الشيخ الإمام الأجل أبو المظفر السمعاني : أخبرنا أبو علي الشافعي بمكة ، قال : أخبرنا أبو الحسن بن [ فراس ] قال : أخبرنا أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد المقرىء قال : حدثنا جدي محمد بن عبد الله بن يزيد ، عن سفيان .
وروى قرة عن ابن مسعود أن الناس يردون النار ، ويصدر المؤمنون عنها بأعمالهم ، فأولهم كلمح البصر ، ثم كالريح ثم كحضر الفرس ، ثم كشد الرجل ، ثم كالماشي .
وعن ابن ميسرة أنه كان يدخل داره فيبكي ، فيقال له : ما يبكيك ؟ فيقول : الله تعالى أنبأنا أنا نرد النار ، ولم ينبئنا أنا صادرون عنها .
وعن الحسن البصري أنه قال : ' حق لابن آدم أن يبكي . . . وذكر نحوا من هذا ' .
والقول الثاني : أن المراد من الآية هم الكفار . هذا قول عكرمة وسعيد بن جبير . وقرىء في الشاذ : ' وإن منهم إلا واردها ' . وعلى هذا كثير من أهل العلم ، واستدلوا بقوله تعالى : ( ^ إن الذين سبقت لهم من الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها ) .
والقول الثالث : أن المراد من الورود هو الحضور والرؤية دون الدخول . وهذا قول الحسن وقتادة ، وقد يذكر الورود بمعنى الحضور ، قال الله تعالى : ( ^ ولما ورد ماء مدين ) أي : حضر . وقال زهير شعرا :
( ولما وردن الماء زرقا جمامه ** تركن عصي الحاضر المتخيم )
____________________


والقول الرابع ، وروي عن ابن مسعود قال : وإن منكم إلا واردها : القيامة . وقد استحسنوا هذا القول لتقدم ذكر القيامة .
والقول الخامس : أن الصراط .
وفي الآية قول سادس : روي عن مجاهد أنه قال : ورود النار هو الحمى في الدنيا .
وفي بعض المسانيد عن النبي أنه عاد رجلا من وعك - أبي : الحمى - به ، فقال : ' يقول الله تعالى : هي ناري أسلطها على من شئت من المؤمنين ، ليكون حظه من نار جهنم ' .
وفي بعض الأخبار : ' الحمى ( كي ) من جهنم ، وهي حظ المؤمن من النار ' .
وقد ثبت عن النبي أنه قال : ' الحمى من فيح جهنم ، فأبردوها بالماء ' .
وأولى الأقاويل هو القول الأول ، وقد صح عن النبي أنه قال : ' من قدم من الولد لم يلج النار ، إلا تحلة القسم ' .
وفي بعض الأخبار : ' أنها تستعر على الكفار ، وتخمد تحت أقدام المؤمنين ' .
روى خالد بن معدان عن النبي أنه قال : ' يدخل الله قوما من المؤمنين الجنة ،
____________________

( ^ كان على ربك حتما مقضيا ( 71 ) ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا ( 72 ) وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا ( 73 ) وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورءيا ( 74 ) قل من كان ) * * * * فيقولون : ألم تعدنا ربنا أن ندخل النار ؟ فقال لهم : قد وردتموها وهي خامدة ' .
وقوله : ( ^ كان على ربك حتما مقضيا ) أي : لازما يصيب به . < < مريم : ( 72 ) ثم ننجي الذين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ثم ننجي الذين اتقوا ) استدل بهذا من قال : إن الورود هو الدخول ؛ لأن التنجية إنما تكون بعد الدخول . وقال أيضا : ( ^ ونذر الظالمين فيها جثيا ) وهذا دليل على أن الكل قد دخلوها ، وأما من قال : إن الورود هو الحضور قال : يجوز أن تذكر التنجية لأجل الإشراف على الهلاك . < < مريم : ( 73 ) وإذا تتلى عليهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ) معناه : واضحات .
وقوله : ( ^ قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما ) أي : مكانا . وقوله : ( ^ وأحسن نديا ) قال ثعلب : مجلسا ، قال الكسائي : الندي والنادي بمعنى واحد ، ومنه دار الندوة ؛ لأنهم كانوا يجتمعون فيها .
وسبب نزول الآية : أن المشركين كانوا يقولون لفقراء المؤمنين : نحن أعز مجلسا ، وأحسن مكانا ، وأكثر مالا ؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية . والمقام : موضع الإقامة ، والمقام : فعل الإقامة . قال الشاعر :
( ومقام حسن فرقته ** بحسامي ولساني وجدل )
( لو يكون الفيل أو فياله ** زل عن مثل مقامي ورحل ) < < مريم : ( 74 ) وكم أهلكنا قبلهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا ) وقرىء : ' وريا ' بغير همز ، وفي الشاذ : ' وزيا ' بالزاء ، حكي هذا عن سعيد بن جبير . أما قوله
____________________

( ^ في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا ( 75 ) ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا ( 76 ) أفرءيت الذي كفر بآياتنا ) * * * * ( ^ ورئيا ) بالهمز هو المنظرة ، وأما بغير الهمز هو من النعمة . وأما الزي هو الهيأة . وعن الحسن البصري قال : [ وأحسن رئيا ] هو حسن الصورة . وقيل : الري من الارتواء ، والمتنعم يظهر فيه ارتواء النعمة ، والفقير يظهر عليه ذبول البؤس والفقر . < < مريم : ( 75 ) قل من كان . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا ) هذا أمر بمعنى الخبر ، ومعناه : أن الله تعالى يتركهم في الكفر ، ويمهلهم فيه .
وقوله : ( ^ حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة ) العذاب : هو القتل والأسر في الدنيا ، والساعة : القيامة . ومعناه : لو نصر عليهم المؤمنون في الدنيا فقتلوا وأسروا ، أو جاءتهم الساعة ، فأدخلوا النار ( ^ فسيعلمون ) عند ذلك ( ^ من هو شر مكانا ) أي : منزلا ( ^ وأضعف جندا ) أي : ناصرا .
وقوله : ( ^ وأضعف جندا ) يرجع إلى الدنيا ، وقوله : ( ^ شر مكانا ) يرجع إلى الآخرة . < < مريم : ( 76 ) ويزيد الله الذين . . . . . > >
( ^ ويزيد الله الذين اهتدوا هدى ) يعني : يقينا على يقينهم ، ورشدا على رشدهم .
وقوله : ( ^ والباقيات الصالحات ) قيل : إنها الصلوات الخمس ، وقيل : هي الأذكار التي قلناها ، وقد بينا .
وقوله : ( ^ خير عند ربك ثوابا ) أي : جزاء ( ^ وخير مردا ) أي : مرجعا . ونقل الكلبي عن ابن عباس [ أن ] زيادة الهدى هوالإيمان بالناسخ والمنسوخ . < < مريم : ( 77 ) أفرأيت الذي كفر . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا ) سبب نزول الآية ما روى مسروق عن خباب [ بن ] الأرت قال : ' كنت قينا وحدادا بمكة ، فعملت للعاص بن وائل السهمي ، فاجتمعت لي عليه دراهم ، فجئته أتقاضاه ، فقال : لا
____________________

( ^ وقال لأوتين مالا وولدا ( 77 ) أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا ( 78 ) كلا ) * * * * أقضيك حتى تكفر بمحمد ، فقلت : لا أكفر حتى تموت ثم تبعث . فقال العاص : أو مبعوث أنا ؟ ! فقلت : نعم . قال : فإذا بعثت فيكون لي هناك مال وولد ، فأقضيك حقك ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية .
قال الشيخ الإمام رضي الله عنه : أخبرنا بهذا المكي بن عبد الرزاق ، قال : أخبرنا جدي أبو الليث ، قال الفربري ، قال : ثنا البخاري ، قال : ثنا الحميدي ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق . . . الحديث . < < مريم : ( 78 ) أطلع الغيب أم . . . . . > >
وقوله : ( ^ أطلع الغيب ) أي : اللوح المحفوظ ، وقيل : علم الغيب ، فعلم أن له مالا وولدا بعلم الغيب ؟ .
وقوله : ( ^ أم اتخذ عند الرحمن عهدا ) قال سفيان : عملا صالحا ، وقال غيره : لا إله إلا الله .
وروى الأسود بن يزيد ، عن عبد الله بن مسعود ، أنه قال : إذا كان يوم القيامة يقول الله تعالى : ' من كان له عندي عهد ( فليقم ) . فقيل : يا أبا عبد الرحمن ، وما ذلك العهد ؟ فعلمنا ، فقال : قال : ' أيعجز أحدكم أن يتخذ كل صباح ومساء عهدا ؟ قالوا : وكيف ؟ قال : يقول : اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة ، إني أتخذ عندك عهدا في الحياة الدنيا ، وإنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر ، وتباعدني من الخير ، وإني لا أثق إلا برحمتك ، فاحفظ عهدي تؤديه إلي يوم القيامة ، إنك لا تخلف الميعاد ' .
____________________

( ^ سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا ( 79 ) ونرثه ما يقول ويأتينا فردا ( 80 ) واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا ( 81 ) كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون ) * * * * < < مريم : ( 79 ) كلا سنكتب ما . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ كلا سنكتب ما يقول ) قوله : ( ^ كلا ) يعني : ليس الأمر على ما زعم العاص بن وائل ، ثم قال : ( ^ سنكتب ما يقول ) أي : يأمر الملائكة حتى يكتبوا .
وقوله : ( ^ ونمد له من العذاب مدا ) أي : نطيل مدة عذابه . < < مريم : ( 80 ) ونرثه ما يقول . . . . . > >
وقوله : ( ^ ونرثه ما يقول ) قرأ ابن مسعود : ' ونرثه ما عنده ' فإن قيل : القول كيف يورث والمعروف ( ^ ونرثه ما يقول ) ؟ ! والجواب عنه قال ثعلب : معناه : ونرثه ما زعم أن له مالا وولدا ، أي : لا يعطيه ، ويعطي غيره ، فيكون الإرث راجعا إلى ما تحت القول ، لا إلى نفس القول .
ويجوز أن يكون معنى قوله : ( ^ ونرثه ما يقول ) أي : ونرثه ما عنده ، على ما قرأ ابن مسعود .
وفي الآية قول ثالث : وهو أن معنى قوله : ( ^ ونرثه ما يقول ) أي : نحفظ ما يقول حتى يجاز به .
وقوله : ( ^ ويأتينا فردا ) أي : فردا لا أنصار له ، ولا أعوان ، وقيل : هو في معنى قوله : ( ^ ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة ) الآية وحقيقته : أنه يأتينا ولا مال له ولا ولد . < < مريم : ( 81 ) واتخذوا من دون . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ واتخذوا من دون الله آلهة ) يعني : آلهة يعبدونها .
وقوله : ( ^ ليكونوا لهم عزا ) أي : منعة ، ومعنى المنعة : أنهم يمتنعون بها من العذاب . < < مريم : ( 82 ) كلا سيكفرون بعبادتهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ كلا ) أي : ليس الأمر كما زعموا .
وقوله : ( ^ سيكفرون بعبادتهم ) فيه قولان : أحدهما : أن الأصنام والملائكة
____________________

( ^ عليهم ضدا ( 82 ) ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا ( 83 ) فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا ( 84 ) * * * * يجحدون عبادتهم ، والقول الآخر : أن المشركين ينكرون عبادة الأصنام والملائكة .
فإن قيل : ما عرف في المشركين أحد كان يعبد الملائكة ؟ قلنا : ليس كذلك ، فإنه كان بطن من العرب يسمون : بني المليح ، كانوا يعبدون الملائكة .
وقوله : ( ^ ويكونون عليهم ضدا ) أي : بلاء . وقيل : أعداء . < < مريم : ( 83 ) ألم تر أنا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين ) فإن قيل : أتقولون : إن الشياطين مرسلون ، والله قال : ( ^ وسلام على المرسلين ) فإذا كانوا مرسلين وجب أن يدخلوا في جملتهم ؟ والجواب عنه : أنه ليس معنى الإرسال هاهنا هو الإرسال الذي يؤجد في الأنبياء ، ولكن معنى الإرسال هاهنا أحد الشيئين : إما التخلية بينهم وبين الكفار ، وإما التسليط على الكفار .
وقوله : ( ^ تؤزهم أزا ) قال ابن عباس : تزعجهم إزعاجا ، كأنه يحركهم ويحثهم ويقول : اقدموا على الكفر . والهز والأز : هو التحريك ، وفي الخبر : ' أن النبي كان يصلي ، وبجوفه أزيز كأزيز المرجل ' أي : حركة . < < مريم : ( 84 ) فلا تعجل عليهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فلا تعجل عليهم ) يعني : لا تعجل بطلب عقوبتهم .
وقوله : ( ^ إنما نعد لهم عدا ) قال الكلبي : هو عد الأيام . وقال غيره : عد الساعات .
وعن الحسن : عد الأنفاس . وقيل لبعض الصالحين : إنما أيامك أنفاس معدودة ، فقال : من صحة العدد أخاف .
وروى الأصمعي عن أبيه أنه قال : رأيت رجلا على باب البصرة أيام الطاعون يعد
____________________

( ^ يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ( 85 ) ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا ( 86 ) لا ) * * * * الموتى ، وقدامه كوز ، كلما مر عليه بميت ، يلقي فيه حصى . فعد في اليوم الأول ثمانين ألفا ، وفي اليوم الثاني مائة وعشرين ألفا . قال : فمررنا عليه بجنازة ، ثم عدنا ، فإذا عند الكوز غيره . قلنا له : أين ذهب الرجل ؟ قال : وقع في الكوز . < < مريم : ( 85 ) يوم نحشر المتقين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ) الحشر : جمع الأقوام من كل ( صقع ) في موضع واحد .
وقوله : ( ^ وفدا ) معناه : ركبانا ، وعن علي - رضي الله عنه - أنه قرأ هذه الآية ، وقال : يؤتون بنوق من نوق الجنة عليها أرحلة من الذهب ، ولها أزمة من الزبرجد ، فيركبون عليها حتى يقرعوا باب الجنة . وفي بعض الأخبار عن أبي هريرة أن النبي قال : ' يحشر الأنبياء على دواب في الجنة ، وأحشر على البراق ، ويحشر الحسن والحسين على العضباء والقصواء ، ويحشر بلال على ناقة من نوق الجنة فيؤذن ، فإذا بلغ قوله : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا رسول الله ، شهد بها جميع الخلق ، قبل ممن قبل ، ورد على من رد ' .
وقيل : ( ^ وفدا ) أي : مكرمين . وفي الآية قول ثالث : وهو ما روي في الأخبار عن النبي : ' أن المؤمن إذا بعث يؤتى بعمله على أحسن صورة ، فيقول : من أنت ؟ فيقول : أنا عملك الصالح طالما ركبتك فاركبني اليوم . وأما الكافر يؤتى بعمله على أقبح صورة ، فيقول : من أنت ؟ فيقول : أنا عملك الخبيث ، قال : طالما ركبتني ، وأنا أركبك اليوم ' . < < مريم : ( 86 ) ونسوق المجرمين إلى . . . . . > >
وقوله : ( ^ ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا ) أي : مشاة . وقيل : عطاشا .
____________________

( ^ يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا ( 87 ) وقالوا اتخذ الرحمن ولدا ( 88 ) لقد جئتم شيئا إدا ( 89 ) تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا ( 90 ) أن دعوا للرحمن ولدا ( 91 ) وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا ( 92 ) ) * * * * < < مريم : ( 87 ) لا يملكون الشفاعة . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا ) قال بعض أهل التفسير : هذا راجع إلى الملائكة . وقال بعضهم : هو راجع إلى المؤمنين .
وقوله : ( ^ إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا ) يعني : لا يشفعون إلا لمن اتخذ عند الرحمن عهدا ، فالعهد هو ' لا إله إلا الله ' . ويقال : لا يشفع إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا يعني : لا يشفع إلا مؤمن . < < مريم : ( 88 - 89 ) وقالوا اتخذ الرحمن . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا ) أي : منكرا عظيما ، ( والإد ) والاتخاذ إعداد الشيء لأمر في العاقبة . < < مريم : ( 90 ) تكاد السماوات يتفطرن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ تكاد السموات يتفطرن منه ) الانفطار : الانشقاق ، وتكاد أي : تقرب ، وفي التفسير : أن الكافرين لما قالوا : اتخذ الله ولدا غضبت السموات والأرض ، وتسعرت جهنم ، فطلب الجميع أن ينتقموا من القائلين بهذا القول ، فهذا معنى الآية .
وقوله : ( ^ وتنشق الأرض ) أي : تخسف بهم ، أما الانفطار في السماء فمعناه على هذا : أن [ تسقط ] عليهم .
وقوله : ( ^ وتخر الجبال هدا ) أي : تنكسر انكسارا ، ومعناه على ما ذكرنا أي : تنطبق عليهم . < < مريم : ( 91 ) أن دعوا للرحمن . . . . . > >
وقوله : ( ^ أن دعوا للرحمن ولدا ) أي : حين دعوا للرحمن ولدا . < < مريم : ( 92 ) وما ينبغي للرحمن . . . . . > >
وقوله : ( ^ وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا ) قد بينا .
____________________

( ^ إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا ( 93 ) لقد أحصاهم وعدهم عدا ( 94 ) وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ( 95 ) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل ) * * * * < < مريم : ( 93 ) إن كل من . . . . . > >
وقوله : ( ^ إن كل من في السموات والأرض ) أي : ما كل من في السموات والأرض .
وقوله : ( ^ إلا آت الرحمن عبدا )
وقد أجمع أهل العلم أن البنوة مع العبودية لا يجتمعان ، ومن اشترى ابنه يعتق عليه ؛ لأنه لا يصلح أن يكون ابنا وعبدا . < < مريم : ( 94 ) لقد أحصاهم وعدهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ لقد أحصاهم وعدهم عدا ) أي : يعلمهم ، وعلم عددهم . < < مريم : ( 95 ) وكلهم آتيه يوم . . . . . > >
وقوله : ( ^ وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ) قد بينا . < < مريم : ( 96 ) إن الذين آمنوا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا ) أي : محبة . قال مجاهد : يحبهم الله ، ويحببهم إلى المؤمنين . وقيل : يحب بعضهم بعضا . وفي بعض الآثار : أن الله تعالى جعل مع الإيمان المحبة [ والشفقة ] والألفة ' .
وقد ثبت عن النبي برواية أبي هريرة أنه قال : ' إذا أحب الله عبدا ينادي جبريل ، فيقول : أنا أحب فلانا فأحبه ، فينادي في أهل السماء : إن الله يحب فلانا فأحبوه ، ثم يوضع له المحبة في الأرض - وفي رواية ' القبول ' - وإذا أبغض عبدا ينادي جبريل فيقول : أنا أبغض فلانا فأبغضه ، فينادي في أهل السماء : إن الله يبغض فلانا فأبغضوه ، ثم يوضع له البغض في الأرض ' . خرجه مسلم في الصحيح .
وحكى الضحاك عن ابن عباس : أن الآية نزلت في علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، والمراد منه : مودة أهل الإيمان له .
____________________

( ^ لهم الرحمن ودا ( 96 ) فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا ( 97 ) وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا ( 98 ) ) * * * *
وقد روي عن النبي أنه قال لعلي : ' لا يحبك إلا مؤمن تقي ، ولا يبغضك إلا منافق شقي ' . خرج مسلم في الصحيح . < < مريم : ( 97 ) فإنما يسرناه بلسانك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فإنما يسرناه بلسانك ) يعني : سهلنا القرآن بلسانك .
وقوله : ( ^ لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا ) اللد جمع الألد ، والألد : المخاصم بالباطل . وقال أبو عبيدة : هو الذي لا ينقاد للحق ولا يقبله . وقال الحسن البصري : لدا أي : صما عن الحق . وقيل : الألد هاهنا هو الظالم . قال الشاعر :
( أبيت نجيا للهموم كأنني ** أخاصم أقوما ذوي جدل لدا ) < < مريم : ( 98 ) وكم أهلكنا قبلهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد ) معناه : هل ترى منهم من أحد ؟ .
وقوله : ( ^ أو تسمع لهم ركزا ) أي : صوتا . قال أهل اللغة : الركز : الصوت الخفي . قال الحسن : بادوا جميعا ، فلم يبق منهم عين ولا أثر .
____________________

<
> بسم الله الرحمن الرحيم <
> <
> تفسير سورة طه <
>
وهي مكية
وفي بعض الغرائب من الأخبار برواية أبي هريرة ، أن النبي : قال : ' إن الله تعالى قرأ سورة طه ويس قبل أن يخلق آدم بألفي عام ، فقالت الملائكة : طوبى لأمة نزلت عليهم هذا ، وطوبى لقلوب حملت هذه ، وطوبى لألسن تكلمت بهذا ' . < < طه : ( 1 ) طه > >
قوله تعالى : ( ^ طه ) روي عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن رجلا اقرأ عليه : ' طه ' - بالإمالة - فقال : اقرأ ( ^ طه ) ، فقال الرجل : أليس معناه طيء الأرض بقدميك ؟ فقال : ' هكذا أقرأنيه رسول الله ' .
واختلفت الأقاويل في معنى طه ، فروي عن ابن عباس أنه قال : هو بالسريانية : يا رجل . ونقل الكلبي : أنه يا إنسان بلغة عك . قال الشاعر :
( إن السفاهة طه من خليقتكم ** لا قدس الله أرواح الملاعين )
وقال آخر :
( هتفت بطه في القتال فلم يجب ** فخفت عليه أن يكون مواليا )
____________________

( ^ طه ( 1 ) ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ( 2 ) إلا تذكرة لمن يخشى ( 3 ) تنزيلا ) * * * *
ويقال : إن طه اسم للسورة ، وقيل : إنه قسم أقسم الله به .
ومن المعروف أن معناه : طىء الأرض بقدميك ، وهذا منقول عن ابن عباس أيضا ، وسببه أن النبي اجتهد في العبادة حتى جعل يراوح بين الرجلين ، فيقوم على واحد ، ويرفع واحدا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . ونقل بعضهم : أنه قام بمفرد قدم .
ومنهم من قال : إن الطاء من الطهارة ، والهاء من الهداية ، فالطاء : إشارة إلى طهارة قلبه من غير الله ، والهاء : إشارة إلى اهتداء قلبه إلى الله . < < طه : ( 2 ) ما أنزلنا عليك . . . . . > >
وقوله : ( ^ ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ) أي : لتتعب وتنصب ، وروي أنه لما اجتهد في العبادة ، قال المشركون : يا محمد ، ما أنزل القرآن إلا لشقاوتك ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . ومعناه : اجتهد ، ولا كل هذا التعب حتى تنسب إلى الشقاوة . < < طه : ( 3 ) إلا تذكرة لمن . . . . . > >
وقوله : ( ^ إلا تذكرة لمن يخشى ) معناه : لكن تذكرة ، أي : تذكيرا ووعظا لمن يخشى ، والخشية والخوف بمعنى واحد ، وفرق بعضهم بينهما ، فقال : الخشية ما لا يعرف سببه ، والخوف ما يعرف سببه ، وهو ضعيف .
وذكر الأزهري أن تقدير الآية : ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ما أنزلنا إلا تذكرة لمن
____________________

( ^ ممن خلق الأرض والسموات العلى ( 4 ) الرحمن على العرش استوى ( 5 ) له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما ) * * * * يخشى . < < طه : ( 4 ) تنزيلا ممن خلق . . . . . > >
وقوله : ( ^ تنزيلا ) أي : منزل تنزيلا من الله ( الذي ) ( ^ خلق الأرض والسموات العلى ) والعلى : جمع العليا . < < طه : ( 5 ) الرحمن على العرش . . . . . > >
وقوله : ( ^ الرحمن على العرش استوى ) اعلم أن مخارج الاستواء في اللغة كثيرة : وقد يكون بمعنى العلو ، وقد يكون بمعنى الاستقرار ، وقد يكون بمعنى الاستيلاء - على بعد - وقد يكون بمعنى الإقبال .
والمذهب عند أهل السنة أنه يؤمن به ولا يكيف ، وقد [ رووا ] عن جعفر بن عبد الله ، وبشر الخفاف قالا : كنا عند مالك ، فأتاه رجل وسأله عن قوله : ( ^ الرحمن على العرش استوى ) كيف استوى ؟ فأطرق مالك مليا ، وعلاه الرحضاء ، ثم قال : الكيف غير معقول ، والاستواء مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة ، وما أظنك إلا ضالا ، ثم أمر به فأخرج .
ونقل أهل الحديث عن سفيان الثوري ، والأوزاعي ، والليث بن سعد ، وسفيان بن عيينة ، وعبد الله بن المبارك أنهم قالوا في الآيات المتشابهة : أمروها كما جاءت .
وقال بعضهم : تأويله الإيمان به ، وأما تأويل الاستواء بالاستقبال ، فهو تأويل المعتزلة .
وذكر الزجاج ، والنحاس ، وجماعة [ من ] النحاة من أهل السنة : أنه لا يسمى الاستواء استيلاء في اللغة إلا إذا غلب غيره عليه ، وهذا لا يجوز على الله تعالى . < < طه : ( 6 ) له ما في . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما ) أي : علم ما في السموات ، وما في الأرض ، وما بينهما .
____________________

( ^ وما تحت الثرى ( 6 ) وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى ( 7 ) الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى ( 8 ) ) * * * *
وقوله : ( ^ وما تحت الثرى ) فيه أقوال : أحدها : أن الثرى هي الأرض السابعة ، والآخر : أن الثرى هو التراب المبتل ، وهذا معروف في اللغة .
وحكى سعيد بن جبير عن ابن عباس : أن الأرضين على ظهر الحوت ، والحوت على البحر ، والبحر على الصخرة ، والصخرة على قرن ثور ، والثور على الثرى ، وما تحت الثرى لا يعلمه إلا الله . < < طه : ( 7 ) وإن تجهر بالقول . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى ) معناه : إن جهرت أو أسررت فلا يغيب عن علمه . واختلف الأقوال في قوله : ( ^ وأخفى ) فروي عن ابن عباس أنه قال : ' السر ' ما تحدث به غيرك ، ' وأخفى ' ما تحدث به نفسك . وفي الآية تقدير ، ومعناه : وأخفى منه ، أي : من السر .
والقول الثاني : أن ' السر ' ما تحدث به نفسك ، ' وأخفى ' ما يلقيه الله تعالى في قلبك من بعد ولم تحدث به نفسك .
والقول الثالث : أن السر هو العزيمة ، وأخفى هو دون العزيمة ، كأنه ما يخطر على القلب ، ولم تعزم عليه .
والقول الرابع : يعلم السر وأخفى ، أي : والخفي . قال الشاعر :
( تمنى رجال أن أموت وإن أمت ** فتلك سبيل لست فيها بأوحد )
أي : بالواحد .
والقول الخامس : يعلم السر وأخفى ، أي : أخفى سره من عباده ، وهذا قول ابن زيد . < < طه : ( 8 ) الله لا إله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى ) قيل : فيه إضمار ، ومعناه : فادعوا الله بها . وقال : الحسنى للأسماء هو جمع ، والحسنى صفة الواحد ، وذلك لأن
____________________

( ^ وهل أتاك حديث موسى ( 9 ) إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى ) * * * * هذه تتناول الأسماء لأنها جمع ، كما تتناول الواحدة من المؤنثات ، يقال : هذه أسماء ؛ فلذلك صح أن يقال : حسنى ، ولم يقل : حسان ، وهكذا قوله تعالى : ( ^ مآرب أخرى ) ولم يقل : آخر . < < طه : ( 9 ) وهل أتاك حديث . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وهل أتاك حديث موسى ) معناه : وقد أتاك حديث موسى ، وهو استفهام بمعنى التقرير . < < طه : ( 10 ) إذ رأى نارا . . . . . > >
وقوله : ( ^ إذ رأى نارا ) في القصة : أن موسى عليه السلام كان رجلا غيورا ، فكان يصحب الرفقة بالليل ، ويتنحى عنهم بالنهار ؛ لئلا ترى امرأته ، فأخطأ مرة الطريق - لما كان في علم الله تعالى - فكان ليلا مظلما ، فرأى نارا من بعيد ( ^ فقال لأهله امكثوا ) أي : أقيموا .
وقوله : ( ^ إني آنست نارا ) أي : أبصرت نارا .
وقوله تعالى : ( ^ لعلي آتيكم منها بقبس ) القبس : كل ما في رأسه نار من شعلة أو فتيلة .
وقوله : ( ^ أو أجد على النار هدى ) أو أجد عند النار من يهديني ، ويدلني على الطريق ، فروي أنه لما توجه إلى النار رأى شجرة خضراء ، أطافت به النار ، والنار كأضوء ما يكون ، والشجرة كأخضر ما يكون ، فلا ضوء النار يغير خضرة الشجرة ، ولا خضرة الشجرة تغير ضوء النار .
ويقال : إن الشجرة كانت شجرة العناب ، ويقال : شجرة من عوسج ، وقيل : من العليق .
وفي القصة : أن موسى أخذ شيئا من الحشيش اليابس ، ودنا من الشجرة ، فكان كلما دنا من الشجرة نأت منه النار ، وإذا نأى هو دنت النار ، فبقي واقفا متحيرا ،
____________________

( ^ فلما أتاها نودي يا موسى ( 11 ) إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى ( 12 ) وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى ( 13 ) إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم ) * * * * فنودي : يا موسى . < < طه : ( 11 ) فلما أتاها نودي . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فلما أتاها نودي يا موسى ) قد بينا . < < طه : ( 12 ) إني أنا ربك . . . . . > >
وقوله : ( ^ إني أنا ربك ) روي أن موسى لما سمع قوله : ( ^ يا موسى ) قال : من الذي يكلمني ؟ قال : ( ^ إني أنا ربك ) .
فإن قيل : بم عرف كلام الله عز وعلا ؟ قلنا : سمع كلاما لا يشبه كلام المخلوقين ، وروي أنه سمع من جميع جوانبه .
وقوله : ( ^ فاخلع نعليك ) اختلف القول أنه لم أمره بخلع نعليه ؟ وروي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال : كانتا من جلد حمار ميت ، وهذا قول كعب .
والقول الثاني : أنه أمره بخلع نعليه : ليباشر الوادي بقدميه ، وهذا قول مجاهد ، وقد جرت عادة المسلمين أنهم يخلعون نعالهم إذا بلغوا المسجد الحرام للحج ، ويطوفون حفاة .
وقوله : ( ^ إنك بالوادي المقدس ) أي : المطهر ، قال الشاعر :
( وأنت وصول للأقارب مدرة ** تراءى من الآفات إني مقدس )
أي : مطهر .
وقيل : معنى المقدس ، أي : المبارك فيه .
وقوله : ( ^ طوى ) عامة المفسرين أنه اسم الوادي ، وقيل : طوى أي : قدس مرتين . < < طه : ( 13 ) وأنا اخترتك فاستمع . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وأنا اخترتك ) أي : اصطفيتك .
وقوله : ( ^ فاستمع لما يوحى ) أي : لما يوحى إليك . < < طه : ( 14 ) إنني أنا الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني ) أي : لا أحد يستحق العبادة سواي .
____________________

( ^ الصلاة لذكري ( 14 ) إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى ( 15 ) ) * * * *
وقوله : ( ^ وأقم الصلاة لذكري ) فيه أقوال : أحدها : لتذكرني فيها . والآخر : تذكرني ، وهو قوله : الله أكبر . والثالث : أقم الصلاة لذكري أي : صل إذا ذكرت الصلاة ، وهذا قول معروف . روى حماد بن سلمة ، عن قتادة ، عن أنس ، أن النبي قال : ' من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها ؛ فإن ذلك وقتها ، وقرأ قوله تعالى : ( ^ وأقم الصلاة لذكري ) ' .
قال الشيخ الإمام : أخبرنا بهذا الحديث أبو الحسين بن النقور ، قال : أخبرنا أبو القاسم بن حبابة ، قال : حدثنا ابن بنت منيع ، قال : حدثنا هدبة ، عن حماد بن سلمة . . الحديث . خرجه مسلم في الصحيح عن هدبة . < < طه : ( 15 ) إن الساعة آتية . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن الساعة آتية أكاد أخفيها ) في الآية أقوال ، وهي مشكلة .
روي عن عبد الله بن مسعود ، وأبي بن كعب أنهما قرآ : ' أكاد أخفيها من نفسي ' . وبعضهم نقل : ' فكيف أظهرها لكم ' فهذا هو أحد الأقوال في معنى الآية .
فإن قال قائل : كيف يستقيم قوله ' أكاد أخفيها من نفسي ' ؟ قلنا : هذا على عادة العرب ، والعرب إذا بالغت في الإخبار عن إخفاء الشيء ، قالت : كتمته حتى من نفسي . والقول الثاني : أن قوله : ( ^ أكاد ) أي : أريد ، ومعناه : إن الساعة آتية أريد أخفيها . وهذا قول الأخفش . والقول الثالث : أن قوله : ( ^ أكاد ) صلة ، ومعناه : إن الساعة آتية أخفيها . والقول الرابع : إن الساعة آتية أكاد ، ومعنى أكاد : تقريب الورود والإتيان ، كما قال ضبائي البرجمي :
( هممت ولم أفعل وكدت وليتني ** تركت على عثمان تبكي حلائله )
فقوله : كدت لتقريب الفعل ، ثم استأنف قوله : ( ^ أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى ) أي : تأتيكم بغتة ، لتجزى كل نفس بما عملت من خير وشر ، هذا اختبار
____________________

( ^ فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى ( 16 ) وما تلك بيمينك يا موسى ( 17 ) قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب آخرى ( 18 ) ) * * * * ابن الأنباري .
والقول الخامس : ( ^ أكاد أخفيها ) أي : أظهرها ، وقرئ : ' أخفيها ' بفتح الألف . ومعنى الإظهار في هذه القراءة أظهر في اللغة . قال الشاعر :
( فإن تدفنوا الداء لم نخفه ** وإن تأذنوا بحرب لا نقعد )
ومعنى لا نخفه : لم نظهره . < < طه : ( 16 ) فلا يصدنك عنها . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فلا يصدنك عنها ) أي : فلا يمنعنك عن التصديق بها . ( ^ من لا يؤمن بها ) أي : من لا يصدق بها .
وقوله : ( ^ واتبع هواه فتردى ) أي : تهلك . < < طه : ( 17 ) وما تلك بيمينك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وما تلك بيمينك يا موسى ) هذا سؤال تقرير ، وليس بسؤال استفهام ، والحكمة فيه تثبيته وتوثيقه على أنها عصا ، حتى إذا قلبها الله حية ، يعلم أنها معجزة عظيمة . وهذا قول على عادة العرب أيضا ؛ يقول الرجل لغيره : هل تعرف هذا ؟ وهو لا يشك أنه يعرفه ، ويريد به أن ينضم إقراره بلسانه إلى معرفته بقلبه . < < طه : ( 18 ) قال هي عصاي . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال هي عصاي أتوكأ عليها ) أي : أعتمد عليها .
وقوله : ( ^ وأهش بها على غنمي ) أي : أخبط بها ( ورق الشجر ؛ لترعاه غنمي ، وقرأ عكرمة : ' وأهش بها ) على غنمي ' بالسين غير المعجمة ، والفرق بين الهش والهس ؛ أن الهش هو خبط الشجر ، وإلقاء الورق عنه ، والهس زجر الغنم .
وقوله : ( ^ ولي فيها مآرب أخرى ) أي : حاجات أخر ، ومن تلك الحاجات ؛ قال
____________________

( ^ قال ألقها يا موسى ( 19 ) فألقاها فإذا هي حية تسعى ( 20 ) قال خذها ولا تخف ) * * * * أهل المعاني : كان يقتل بها الحيات ، ويحارب بها السباع ، ويحمل بها الزاد والنفقة ، ويصل الحبل إذا استقى من البئر ، ويستظل بها إذا قعد ، وعن الضحاك : كانت تضئ له بالليل بمنزلة السراج ، وقال وهب : كانت العصا من آس الجنة ، وطولها اثنا عشر ذراعا ، ولها شعبتان ، وعليها محجن . وعن سعيد بن جبير ، قال : كان اسم العصا ما شاء . وأنشدوا في الهش :
( أهش بالعصا على أغنامي ** من ناعم الأراك والبشام ) < < طه : ( 19 ) قال ألقها يا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال ألقها يا موسى ) أي : انبذها . < < طه : ( 20 ) فألقاها فإذا هي . . . . . > >
وقوله : ( ^ فألقاها ) أي : نبذها .
وقوله : ( ^ فإذا هي حية تسعى ) أي : تجئ وتذهب ، وذكر محمد بن إسحاق أن موسى عليه السلام نظر فإذا العصا صارت حية من أعظم ما يكون من الحيات ، وصارت شعبتاها شدقين ، والمحجن صار عرفا يهتز كالبتارك وعيناها تتقدان كالنار ، وهي تمر بالحجر كالجمل البارك فتبتلعه ، ولها أنياب تقصف الشجر ، فرأى موسى أمرا عظيما فهرب ، ثم تذكر أمر ربه ، فوقف مستحيا . < < طه : ( 21 ) قال خذها ولا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال خذها ولا تخف ) لما هرب موسى ، قال الله تعالى له : ( ^ أقبل ولا تخف ) ، فلما أقبل ، قال : ( ^ خذها ) .
وفي القصة : أنه كان على موسى مدرعة من صوف ، قد خللها بعيدان ، فلما قال الله له : ( ^ خذها ) ، لف طرف كم المدرعة على يده ، فأمره الله أن يكشف يده ، فكشف يده ، ووضعها في شدق الحية ، فإذا هي عصا كما كانت ، وإذا يده في شعبتها .
وذكر بعضهم : أنه لما لف كم المدرعة على يده ، قال له ملك : أرأيت لو أذن الله لمن تحذره ، أكانت تغني عنك مدرعتك ؟ فقال أنا ضعيف ، خلقت من ضعف .
____________________

( ^ سنعيدها سيرتها الأولى ( 21 ) واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى ( 22 ) لنريك من آياتنا الكبرى ( 23 ) اذهب إلى فرعون إنه طغى ( 24 ) قال ) * * * *
وقوله : ( ^ سنعيدها سيرتها الأولى ) . إلى هيئتها الأولى ، وإنما انتصب ؛ لأن معناه : إلى هيئتها الأولى ، فحذف إلى فانتصب . < < طه : ( 22 ) واضمم يدك إلى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ واضمم يدك إلى جناحك ) . فيه قولان : أحدهما : إلى جنبك ، والآخر : إلى عضدك . والجناح هو العضد إلى أصل الإبط ، قال الشاعر :
( خفضت لهم مني جناح مودة ** على كتف عطفاه أهل ومرحب )
وقوله : ( ^ تخرج بيضاء من غير سوء ) أي : نيرة مشرقة من غير مكروه وعيب ، السوء ها هنا بمعنى البرص .
وقال قتادة : كانت اليد لها نور ساطع كضوء الشمس والقمر ، تضئ بالليل والنهار .
وقوله : ( ^ آية أخرى ) أي : دلالة أخرى . < < طه : ( 23 ) لنريك من آياتنا . . . . . > >
وقوله : ( ^ لنريك من آياتنا الكبرى ) . أي : الكبيرة . قال ابن عباس : أكبر الآيتين يده ؛ فكان إذا أخرجها من تحت عضده ، رأوا لها شعاعا وضياء تحار الأعين فيها ، فإذا ردها إلى إبطه ، وأخرجها عادت إلى ما كانت . < < طه : ( 24 ) اذهب إلى فرعون . . . . . > >
وقوله : ( ^ اذهب إلى فرعون إنه طغى ) أي : جاوز الحد في العصيان والتمرد ، ويقال : كان اسمه : وليد بن مصعب ، وكان أغنى الفراعنة الذين كانوا بمصر . < < طه : ( 25 ) قال رب اشرح . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال رب اشرح لي صدري ) أي : وسعه للحق ، وكان موسى يخاف من فرعون خوفا شديدا ؛ لشدة شوكته ، وكثرة جنده ، فضاق قلبه لما بعث إلى فرعون من الخوف ؛ فسأل الله تعالى أن يوسع قلبه للحق ؛ فيعلم أنه لا يقدر أحد أن يعمل به شيئا إلا بإذن الله ، أو يناله بمكروه إلا بمشيئته . < < طه : ( 26 ) ويسر لي أمري > >
وقوله : ( ^ ويسر لي أمري ) أي : سهل علي الأمر الذي بعثتني له .
____________________

( ^ رب اشرح لي صدري ( 25 ) ويسر لي أمري ( 26 ) واحلل عقدة من لساني ( 27 ) يفقهوا قولي ( 28 ) واجعل لي وزيرا من أهلي ( 29 ) هرون أخي ( 30 ) اشدد به أزري ( 31 ) وأشركه في أمري ( 32 ) كي نسبحك كثيرا ( 33 ) ونذكرك كثيرا ( 34 ) إنك ) * * * * < < طه : ( 27 ) واحلل عقدة من . . . . . > >
قوله : ( ^ واحلل عقدة من لساني ) قال أهل التفسير : كانت على لسان موسى عقدة من أخذه الجمر ، ووضعه إياه في فمه ، وسببه أن أمرأة فرعون جاءت بموسى إلى فرعون ، فوضعته في حجره ، فأخذ بلحية فرعون ، وفي رواية : لطم وجه فرعون لطمة ، فغضب فرعون ، وقال : هذا هو عدوي ، وأراد أن يقتله ، فقالت امرأة فرعون : إنه صبي ، لا يعقل ولا يميز ، وهو لا يميز بين الجوهر والجمر ، فدعي له بطبق من جمر ، وطبق من جوهر ، فأخذ الجمر ، ووضعه في فيه ، فاحترق لسانه ، وصارت عليه عقدة . وذكر بعضهم : أنه أراد أن يأخذ الجوهر ، فصرف جبريل يده إلى الجمر . < < طه : ( 28 ) يفقهوا قولي > >
وقوله : ( ^ يفقهوا قولي ) أي : يفهموا قولي . < < طه : ( 29 ) واجعل لي وزيرا . . . . . > >
( ^ واجعل لي وزيرا من أهلي ) الوزير من يؤازرك على الشئ ، أي : يعينك ، ويتحمل عنك بعض ثقله ، ووزير الأمير من يتحمل عنه بعض ما عليه . < < طه : ( 30 ) هارون أخي > >
وقوله : ( ^ هارون أخي ) كان هارون أكبر منه بأربع سنين ، فكان أفصح منه لسانا ، وأجمل منه وجها ، وأوسم وأبيض ، وكان موسى أدم ، أقنى جعدا . < < طه : ( 31 ) اشدد به أزري > >
وقوله ( ^ اشدد به أزري ) أي : قو به ظهري ، ويقال : إنه لم يكن أحد على أخيه أسعد ولأخيه أنفع من موسى لهارون . < < طه : ( 32 ) وأشركه في أمري > >
وقوله : ( ^ وأشركه في أمري ) أي : النبوة وأداء الرسالة . < < طه : ( 33 ) كي نسبحك كثيرا > >
وقوله : ( ^ كي نسبحك كثيرا ) أي : نصلي لك كثيرا . < < طه : ( 34 ) ونذكرك كثيرا > >
( ^ ونذكرك كثيرا ) نتعاون على ذكرك . < < طه : ( 35 ) إنك كنت بنا . . . . . > >
( ^ إنك كنت بنا بصيرا ) أي : خبيرا عليما .
____________________

( ^ كنت بنا بصيرا ( 35 ) قال قد أوتيت سؤلك يا موسى ( 36 ) ولقد مننا عليك مرة أخرى ( 37 ) إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى ( 38 ) أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني ) * * * * < < طه : ( 36 ) قال قد أوتيت . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال قد أوتيت سؤلك يا موسى ) أي : أعطيت جميع ما سألت . < < طه : ( 37 ) ولقد مننا عليك . . . . . > >
وقوله : ( ^ ولقد مننا عليك مرة أخرى ) أي : أنعمنا عليك مرة أخرى سوى هذه المرة . < < طه : ( 38 ) إذ أوحينا إلى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى ) ذكر نعمه وعددها عليه ؛ ليعرفها ، ويزيد في شكره .
وقوله : ( ^ إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى ) أي : ألهمنا أمك ما يوحى ، أي : ما يلهم . < < طه : ( 39 ) أن اقذفيه في . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ أن اقذفيه ) أي : ألهمناها أن أقذفيه .
قوله تعالى : ( ^ في التابوت ) هو شيء يتخذ من الخشب .
وقوله : ( ^ فاقذفيه في اليم ) اليم : هو البحر ، ويقال : إن اليم ها هنا هو النيل ، والعرب تسمي الماء الكثير بحرا .
روي أن المسلمين لما وصلوا إلى دجلة يوم فتحوا المدائن ، فقالوا : كيف نفعل ، وهذا البحر بيننا وبينهم ؟ ثم إنهم ارتطموا دجلة بخيولهم ، وخاضوا القصة إلى آخرها .
وقوله : ( ^ فليلقه اليم بالساحل ) في القصة : أن الماء ألقاه إلى مشرعة دار فرعون ، وروي أنها ألقته في النيل ، وألقاه النيل في البحر ، ثم إن البحر ألقاه بالساحل .
وقوله : ( ^ وألقيت عليك محبة مني ) قال عكرمة : لم يره أحد إلا أحبه ، وقال قتادة : ملاحة في عينيه تأخذ ( بالقلوب ) .
وقوله : ( ^ ولتصنع على عيني ) أي : تربى وتغذى على نظر مني ، وهو مثل قوله
____________________

( ( 39 ) إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا ) * * * * تعالى : ( ^ واصنع الفلك بأعيننا ) فإن قيل : ما من أحد في العالم إلا وهو يربى ويغدى بمرأى من الله ونظر منه ، فأي معنى لتخصيص موسى ؟ والجواب : أن الله تعالى فعل في اللطف في تربية موسى ما لم يفعل في تربية غيره ، فالتخصيص إشارة إلى ذلك اللطف . < < طه : ( 40 ) إذ تمشي أختك . . . . . > >
وقوله : ( ^ إذ تمشي أختك ) سنذكر هذا في سورة القصص ، إن شاء الله تعالى .
وقوله : ( ^ فتقول هل أدلكم على من يكفله ) يعني : على امرأة ترضعه ، وتضمه إليها .
وقوله : ( ^ فرجعناك إلى أمك ) أي : فرددناك .
وقوله : ( ^ إلى أمك كي تقر عينها ) قد بينا معنى قرة العين ، وهو إشارة إلى فرحها وسرورها بوجوده .
وقوله : ( ^ ولا تحزن ) أي : يذهب عنها الحزن .
وقوله : ( ^ وقتلت نفسا ) أي : القبطي ، وسنذكره من بعد إن شاء الله تعالى .
وقوله : ( ^ فنجيناك من الغم ) أي : من القتل ، وقيل : من غم التابوت ، وغم البحر .
وقوله : ( ^ وفتناك فتونا ) أي : ابتليناك مرة بعد مرة ، وقيل : بلاء بعد بلاء ، ويقال : أخلصناك إخلاصا . من المشهور المعروف أن سعيد بن جبير ، سأل عبد الله بن عباس عن قوله : ( ^ وفتناك فتونا ) فقال : تغدو على غدا ، فلما جاءه من الغد ، أخذ معه في قصة موسى من أولها ، وجعل يعد عليه شيئا فشيئا من ولادته في سنة قتل الأبناء ، ومن إلقائه في الماء ، وجعله في التابوت ، ووقوعه في يد فرعون ، ولطمه وجهه ، وأخذه
____________________

( ^ فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى ( 40 ) واصطنعتك لنفسي ( 41 ) اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري ( 42 ) اذهبا إلى فرعون إنه طغى ( 43 ) ) * * * * الجمرة ، ثم من قتله القبطي ، ثم فراره إلى مدين . . . إلى آخر القصة على ما يرد ، وجعل يقول كلما ذكر شيئا من هذا : ذلك ( من ) الفتون يا ابن جبير ، حتى عد عليه الجميع .
وقوله : ( ^ فلبثت سنين في أهل مدين ) يعني : تراعي الأغنام .
وقوله : ( ^ ثم جئت على قدر يا موسى ) أي : على قدر النبوة والرسالة . قال ابن عباس : ولم يبعث الله نبيا إلا على رأس أربعين سنة ، وجاء موسى ربه ، وهو ابن أربعين سنة ؛ فنبأه الله وأرسله ، فهذا معنى قوله : ( ^ ثم جئت على قدر يا موسى ) . وقيل معناه : جئت على موعد يا موسى ، ولم يكن هذا الموعد مع موسى ، وإنما كان موعدا في تقدير الله تعالى . ويقال : وافيت في الوقت الذي قدرت أي : توافى فيه ، قال الشاعر :
( نال الخلافة إذ كانت له قدرا ** كمثل موسى الذي وافى على قدر ) < < طه : ( 41 ) واصطنعتك لنفسي > >
وقوله : ( ^ واصطنعتك لنفسي ) قال الزجاج معناه : اخترتك لأمري ، وجعلتك القائم بحجتي ، والمخاطب بيني وبين خلقي ، كأني الذي أقمت عليهم الحجة وخاطبتهم ، وقال بعضهم معناه : استكفيتك طلب كفاية أمر من خاص أمري ، وصنيعة الإنسان خاصته وتربيته إذا أعده لأمر من مهم أمره . < < طه : ( 42 ) اذهب أنت وأخوك . . . . . > >
وقوله : ( ^ اذهب أنت وأخوك بآياتي ) أي : بدلائلي .
وقوله : ( ^ ولا تنيا في ذكري ) . أي : ولا تضعفا في ذكري ، وقرأ ابن مسعود : ' ولا تهنا في ذكري ' . < < طه : ( 43 ) اذهبا إلى فرعون . . . . . > >
وقوله : ( ^ اذهبا إلى فرعون إنه طغى ) قد بينا . < < طه : ( 44 ) فقولا له قولا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فقولا له قولا لينا ) . معناه : دارياه [ بالرفق ] ، وارفقا معه ، ويقال
____________________

( ^ فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ( 44 ) قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن ) * * * * معناه : كنياه . واختلفوا في كنيته : منهم من قال : كنيته أبو الوليد ، ومنهم من قال : أبو مرة ومنهم من قال : أبو العباس ، والله أعلم .
وقوله : ( ^ لعله يتذكر أو يخشى ) . أي : يتعظ ويخاف . فإن قيل قوله ( ^ لعله ) تطميع ، فكيف يطمعهما في إسلامه ، وقد قدر أنه لا يسلم ؟ قلنا معناه : اذهبا على رجائكما وطمعكما ، وقضاء الله وراء أمركما ، وقال بعضهم : قد تذكر وخاف ، إلا أنه حين لم تنفعه التذكرة والخوف ، وقد بينا في سورة يونس .
وفي قوله : ( ^ فقولا له قولا لينا ) كلمات معروفة ؛ قال بعضهم : هذا رفقك بمن يقول : أنا الإله ، فكيف رفقك بمن يقول : أنت الإله ، وهذا رفقك بالكفار ، فكيف رفقك بالأبرار ؟ وهذا رفقك بمن جحدك ، فكيف رفقك بمن وحدك . وهذه تحببك إلى من تعاديه ، فكيف إلى من تواليه وتناديه ؟ . < < طه : ( 45 ) قالا ربنا إننا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى ) يعني : أن يبادر ويعجل بعقوبتنا قبل أن نريه الآيات . وحكي عن سعيد بن جبير أنه قال : كان موسى يخاف من فرعون خوفا شديدا ، وكان إذا دخل عليه ، يقول : اللهم إني أعوذ بك من شره ، وأدرأك في نحره ، فحول الله تعالى ذلك الخوف إلى فرعون ؛ فكان إذا رأى موسى بال في ثيابه كما يبول الحمار .
وفي بعض المسانيد برواية ابن مسعود ، عن النبي أنه قال : ' إذا دخل أحدكم على سلطان يخاف تغطرسه ، فليقل : اللهم إني أعوذ بك من شره ، وشر أحزابه ؛ أن يفرط أحد منهم علي أو يطغى ، عز جارك ، وجل ثناؤك ، ولا إله غيرك ' .
____________________

( ^ يطغى ( 45 ) قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى ( 46 ) فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى ( 47 ) إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى ( 48 ) قال فمن ربكما ) * * * * < < طه : ( 46 ) قال لا تخافا . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى ) أي : أسمع دعاءكما فأجيب ، وأرى أمركما مع فرعون فأدفعه عنكما . < < طه : ( 47 ) فأتياه فقولا إنا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ) أي : خلهم ، وأطلقهم من أعمالك ، وقد بينا أنه كان يكلفهم الأعمال الشاقة ، وقد ضرب عليهم الضرائب .
وقوله : ( ^ ولا تعذبهم ) قد بينا .
وقوله : ( ^ قد جئناك بآية من ربك ) بدلالة من ربك .
وقوله : ( ^ والسلام على من اتبع الهدى ) . ليس المراد منه تحية فرعون ، وإنما المراد منه أن من اتبع الهدى فقد سلم من عذاب الله ، ومنهم من قال : معناه : ( من ) أسلم سلم .
وفي بعض الآثار عن السدي : أن موسى عليه السلام قال لفرعون : ' آمن بالله ، ولك شباب لا تهرم فيه ، وملك لا ينزع منك ، ولذة في المطعم والمشرب والمنكح إلى أن تموت ، ثم إذا مت دخلت الجنة ، فأعجبه هذا الكلام ، وكان لا يقطع أمرا دون هامان ، فقال : حتى أنظر في ذلك ؛ فلما دخل عليه هامان ، قال له : ألم تر أن هذا الرجل الذي أتانا قال كذا وكذا ، وكان قبل ذلك يسميه الساحر ، فلم يسمه الساحر في ذلك اليوم ، فقال له هامان : كنت أظن أن لك رأيا وعقلا ! تريد أن تصير مربوبا بعد أن كنت ربا ، وعبدا بعد أن كنت معبودا ، فغلبه عن رأيه ، فأبى على موسى ما أراد منه . < < طه : ( 48 ) إنا قد أوحي . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى ) . أي : كذب بآيات الله ، وتولى عن طاعة الله .
____________________

( ^ يا موسى ( 49 ) قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ( 50 ) قال فما بال القرون الأولى ( 51 ) قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى ( 52 ) الذي ) * * * * < < طه : ( 49 ) قال فمن ربكما . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال فمن ربكما يا موسى ) ظاهر المعنى . < < طه : ( 50 ) قال ربنا الذي . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) قال الحسن : أعطى كل شيء ما يصلحه ، ثم هداه إليه . وقال مجاهد : معناه أعطى كل شيء صورة ، ثم هداه إلى منافعه من المطعم والمشرب والمنكح .
وفيه قول ثالث : وهو أنه أعطى كل حيوان زوجه ، ثم هداه إلى مأتاه ، وكل ذكر يهتدي كيف يأتي الأنثى . وروي عن أبس سابط أنه قال : أبهمت البهائم إلا عن أربع : تعرف خالقها ، وتطلب رزقها ، وتدفع عن نفسها ، وتعرف كيف يأتي ( أنثاه ) . < < طه : ( 51 ) قال فما بال . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال فما بال القرون الأولى ) معناه : فما حال القرون الأولى ، وأراد به ما حالهم فيما دعوتني إليه ؟
وقيل : لما دعاه موسى إلى الإقرار بالبعث سأل وقال : ما حال القرون الأولى في البعث ؟ ويقال : إنه انصرف إلى هذا الكلام تعنتا ، وعدولا عن الجواب . < < طه : ( 52 ) قال علمها عند . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال علمها عند ربي ) أي : علم القرون الأولى عند ربي .
[ قوله : ( ^ في كتاب ) قال الكلبي : هو اللوح المحفوظ ] .
وقوله : ( ^ لا يضل ربي ) أي : لا يخطىء ربي ، وقال ثعلب : لا يذهب عليه موضعه ، وقيل : لا يغيب عن ربي ، وقرأ الحسن : ' لا يضل ربي ' برفع الياء ، من الإضلال ، ويقال : لا يضل ربي : لا يغفل عنه ربي .
وقوله : ( ^ ولا ينسى ) أي : لا يتركه ، فينتقم من الكافر ، ويجازي المؤمن ، ويقال :
____________________

( ^ جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى ( 53 ) كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى ( 54 ) منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجم تارة أخرى ( 55 ) ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى ( 56 ) قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى ( 57 ) ) . * * * * هو النسيان حقيقة . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي : ' ولا ينسى ' على ما لم يسم فاعله . < < طه : ( 53 ) الذي جعل لكم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ الذي جعل لكم الأرض مهادا ) وقرىء : ' مهدا ' إلى هذا الموضع انتهى كلام فرعون مع موسى وجوابه إياه . وقوله : ( ^ الذي جعل لكم الأرض مهدا ) ابتداء كلام من الله ومعناه : مستقرا .
وقوله : ( ^ وسلك لكم فيها سبلا ) أي : سهل ووطأ لكم فيها طرقا .
وقوله : ( ^ وأنزل من السماء ماء ) أي : المطر .
وقوله : ( ^ فأخرجنا به أزواجا ) أي : أصنافا : الأحمر ، والأصفر ، والأخضر .
وقوله : ( ^ من نبات شتى ) أي : من نبات متفرقة . < < طه : ( 54 ) كلوا وارعوا أنعامكم . . . . . > >
وقوله : ( ^ كلوا وارعوا أنعامكم ) أي : كلوا ، وأسيموا أنعامكم ترعى .
وقوله : ( ^ إن في ذلك لآيات لأولي النهى ) قال ثعلب : لأولي العقول ، وقيل : للذين ينتهي إلى رأيهم ، وقيل : للذين يتناهون عن المعاصي وينزجرون عنها بعقولهم . < < طه : ( 55 ) منها خلقناكم وفيها . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ منها خلقناكم ) أي : من الأرض .
وقوله : ( ^ وفيها نعيدكم ) أي : عند الموت .
وقوله : ( ^ ومنها نخرجكم تارة أخرى ) أي : عند الحشر . فإن قيل : في الابتداء لم نخرج عن الأرض ، فكيف قال : ( ^ تارة أخرى ) ؟ . قلنا معناه : ومنها نخلقكم تارة أخرى ، فيصح المعنى على هذا . < < طه : ( 56 ) ولقد أريناه آياتنا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولقد أريناه آياتنا كلها ) هي الآيات التسع التي أعطيها موسى عليه السلام .
وقوله : ( ^ فكذب وأبى ) أي : كذب بالتوحيد ، وأبى عن الإيمان . < < طه : ( 57 ) قال أجئتنا لتخرجنا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى ) معناه : لتأخذ رمنا أرضنا ؛ فيكون لك الملك والسلطان ، وتخرج من تشاء ، وتدخل من تشاء .
____________________

( ^ فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى ( 58 ) قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى ( 59 ) فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى ( 60 ) قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب ) * * * * < < طه : ( 58 ) فلنأتينك بسحر مثله . . . . . > >
قوله : ( ^ فلنأتينك بسحر مثله ) يعني : مثل سحرك .
وقوله : ( ^ فاجعل بيننا وبينك موعدا ) أي : موعدا للاجتماع .
وقوله : ( ^ لا نخلفه نحن ولا أنت ) أي : لا نتخلف نحن ولا أنت .
وقوله : ( ^ مكانا سوى ) قرىء بالرفع ، وقرىء بالكسر . ومعناه : مكانا عدلا ، وقيل : منصفا ويقال : في مكان مستوى لا يغيب عن أحد فيها ما يفعل بعضنا ببعض .
قال ابن فارس : وهذا قول الحسن ، ويقال : مكانا سوى أي : يستوي في المسافة إليه . < < طه : ( 59 ) قال موعدكم يوم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال موعدكم يوم الزينة ) قال ابن عباس : يوم الزينة يوم عيد لهم ؛ كانوا يجتمعون له ، ويقال : يوم الفيروز . وعن عطاء : أنه كره الزينة للأعياد ؛ قال : هو من عمل الكفار .
وقوله : ( ^ وأن يحشر الناس ضحى ) أي : في صدر النهار ، وقد جرت العادة أن الأعياد تكون في أول النهار ، وكذلك اجتماع الناس في الأمور أكثر ما يكون في أول النهار . < < طه : ( 60 ) فتولى فرعون فجمع . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ فتولى فرعون ) معناه : فأعرض ، وقيل : ولى الأمر فرعون .
وقوله : ( ^ فجمع كيده ) أي : مكره وحيلته .
وقوله : ( ^ ثم أتى ) أي : ثم أتى بالموعد . < < طه : ( 61 ) قال لهم موسى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا ) قال الضحاك ، عن ابن عباس : جمع فرعون سبعين ألفا من السحرة ، وذكر مقاتل : حمس عشرة ألفا ، وذكر بعضهم : نيفا وسبعين رجلا ، وهو قول معروف .
____________________

( ^ وقد خاب من افترى ( 61 ) فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى ( 62 ) قالوا إن ) * * * *
وقوله : ( ^ ويلكم لا تفتروا علي كذبا ) أي : لا تختلقوا على الله كذبا ، معناه : لا تكذبوا على الله .
وقوله : ( ^ فيسحتكم بعذاب ) بنصب الياء ، وقرىء : ' فيسحتكم ' برفع الياء ، ومعناه : الاستئصال أي : يستأصلكم بالعذاب ، قال الفرزدق شعرا :
( وعض زمان يا بن مروان لم يدع ** من المال إلا مسحتا أو مجلف )
وفرق بعضهم بين الرفع والفتح ؛ فقال : هو بالنصب أن لا يبقى شيء ، وبالرفع أن يبقى بقية ، والأصح أن لا فرق . وقيل : فيسحتكم ، أي : ( شهد ) لكم .
وقوله : ( ^ وقد خاب من افترى ) أي : خسر وهلك من افترى . < < طه : ( 62 ) فتنازعوا أمرهم بينهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى ) قال قتادة : هذا ينصرف إلى السحرة ، وإسرارهم النجوى أنهم قالوا : إن كان ما يأتي به موسى سحرا ، فسنغلبه ، وإن غلبنا فله أمر ، وروي أنهم قالوا : إن غلبنا اتبعناه . < < طه : ( 63 ) قالوا إن هذان . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قالوا إن هذان لساحران ) اعلم أن هذه الآية مشكلة في العربية ، وفيها ثلاث قراءات :
قرأ أبو عمرو : ' إن هذين لساحران ' ، وقرأ حفص : ' إن هذان لساحران ' ، وقرأ الباقون : ' إن هذان لساحران ' .
أما قراءة أبي عمرو : فهي المستقيمة على ظاهر العربية ، وزعم أبو عمرو أن ' هذان ' غلط من الكاتب في المصحف .
____________________


وعن عثمان - رضي الله عنه - أنه قال : أرى في المصحف لحنا ، ( تستقيمه ) العرب بألسنتها . ومثله عن عائشة - رضي الله عنها - .
وأما قراءة حفص : فهي مستقيمة أيضا على العربية ؛ لأن إن مخففة يكون ما بعدها مرفوعا ، ومعناه : ما هذان إلا ساحران .
وأما قراءة الأكثرين - وهو الأصح - قال الزجاج : لا نرضى قراءة أبي عمرو في هذه الآية ؛ لأنها خلاف المصحف ، وأما وجه قوله : ( ^ إن هذان ) فله وجوه في العربية : أما القدماء من النحويين فإنهم قالوا : ' هو على تقدير : إنه هذان ، فحذف الهاء ، ومثله كثير في العربية ، والوجه الثاني : أن هذا لغة كنانة وخثعم ( وزبيد ) ، وقال الكسائي : لغة بلحارث بن كعب من كنانة ، وأنشد الكسائي شعرا :
( تزود مني بين أذناه ضربة ** دعته إلى هذه التراب عقيم )
وأنشد غيره :
( إن أباها وأبا أباها قد ** بلغا في المجد غايتاها )
وأنشدوا أيضا :
( أي قلوص راكب تراها ** طاروا علاهن فطر علاها )
أي : عليهن .
قال الكسائي : على هذه اللغة يقولون : أتاني الزيدان ، ورأيت الزيدان ، ومررت بالزيدان ، ولا يتركون ألف التثنية في شيء منها .
وأما الوجه الثالث ، هو أصح الوجوه ، فإن القرآن لا يحمل على اللغة البعيدة ؛ وهو أن معنى قوله : ( ^ إن هذان ) أي : نعم هذان ، قال الشاعر :
( بكر العواذل في الصباح ** يلمنني وألومهن )
( ويقلن شيب قد علاك ** وقد كبرت فقلت إنه )
____________________

( ^ هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى ( 63 ) فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا ) * * * *
أي : نعم
وروي أن أعرابيا أتى عبد الله بن الزبير يطمع شيئا ، فلم ( يحصل ) له طمعه ، فقال الأعرابي : لعن الله ناقة حملتني إليك ، فقال ابن الزبير : إن ، وصاحبها ، أي : نعم . وفي قراءة أبي بن كعب : ' إن ذاك إلا ساحران ' ، وهي شاذة .
وقوله : ( ^ يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ) قد بينا .
وقوله : ( ^ ويذهبا بطريقتكم المثلى ) أي : بالطريقة المستقيمة التي أنتم عليها ، وكانوا يظنون أنهم على دين مستقيم ، والمثلى تأنيث الأمثل . وأما ابن عباس قال : بطريقتكم المثلى أي : الرجال الأشراف .
وقال قتادة : أراد به بني إسرائيل ، وكانوا أهل يسار ( وعزة ) .
فقالوا : يريدان أن يذهبا بهؤلاء . والعرب تقول : هؤلاء طريقة القوم أي : أشرافهم .
ومنهم من قال : معناه أهل طريقتكم المثلى . < < طه : ( 64 ) فأجمعوا كيدكم ثم . . . . . > >
وقوله : ( ^ فأجمعوا كيدكم ) وقرىء بالوصل : ' فاجمعوا ' . أما قوله : ( ^ فأجمعوا ) بالقطع فمعناه : العزيمة والإحكام . قال الأزهري : تقديره : اعزموا كلكم على كيده مجتمعين له ، ولا تختلفوا فيختل أمركم . وأما قوله : ' فاجمعوا ' بالوصل ، معناه : جيئوا بكل كيد لكم ؛ لتعارضوا موسى .
وقوله : ( ^ ثم ائتوا صفا ) قال أبو عبيدة : مصطفين ، وقال غيره : الصف هو
____________________

( ^ وقد أفلح اليوم من استعلى ( 64 ) قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى ( 65 ) قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ( 66 ) فأوجس في نفسه خيفة موسى ( 67 ) * * * * [ المصلى ] ، ومعناه : ثم ائتوا المكان الموعود .
وقوله : ( ^ وقد أفلح اليوم من استعلى ) أي : سعد وفاز من كانت له الغلبة في اليوم . < < طه : ( 65 ) قالوا يا موسى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى ) معناه : اختر ، إما أن تلقي أنت أولا ، أو نلقي نحن أولا . < < طه : ( 66 ) قال بل ألقوا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال بل ألقوا ) يعني : ابتدءوا أنتم بالإلقاء . فإن قال قائل : إلقاؤهم كان كفرا وسحرا ، فهل يجوز أن يأمرهم موسى بالإلقاء الذي هو سحر وكفر ؟ الجواب عنه من وجهين : أحدهما : أن هذا أمر بمعنى الخبر ، ومعناه : إن كان إلقاؤكم عندكم حجة فألقوا ، والثاني : أنه أمرهم بالإلقاء على قصد إبطال سحرهم بما يلقى من عصاه ، وهذا جائز .
وقوله : ( ^ فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ) وقرىء بالياء والتاء ' تخيل ' ، فمن قرأ بالتاء ، فهو راجع إلى العصي والحبال ، فأنثت لأنها جمع ، وأما بالياء فينصرف إلى الإلقاء . وفي القصة : أنهم لما ألقوا الحبال والعصي رأى موسى والقوم كأن الأرض امتلأت حيات ، وهي تسعى أي : تذهب وتجيء . واعلم أن التخايل ما لا أصل له . ويقال : إنهم أخذوا بأعين الناس ، فظنوا وحسبوا أنها حيات ، وقيل : إن حبالهم وعصيهم أخذت ميلا من هذا الجانب ، وميلا من ذلك الجانب . < < طه : ( 67 ) فأوجس في نفسه . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فأوجس في نفسه خيفة موسى ) أي : وجد في نفسه خيفة ، واختلفوا في هذا الخوف على قولين :
____________________

( ^ قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى ( 68 ) وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى ( 69 ) فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب ) * * * *
أحدهما : أنه خوف البشرية ، والآخر : خاف على القوم أن يلتبس عليهم الأمر ، فلا يؤمنوا ، ويقال : خاف على قومه أن يشكوا ، فيرجعوا عن الإيمان . < < طه : ( 68 ) قلنا لا تخف . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى ) أي : الغلبة والظفر لك . < < طه : ( 69 ) وألق ما في . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا ) أي : تلتقم وتبتلع .
وفي القصة : أنها فتحت فاها ، فابتلعت كل ما كان يمر من العصي والحبال ، وفرعون يضحك ويظن أنه سحر ، ثم قصدت قبة فرعون ، وكان طولها في الهواء [ أربعين ] ذراعا ، ففتحت فاها على قدر ثمانين ذراعا ، وأرادت أن تلتقم القبة ، فنادى فرعون : يا موسى ، بحق التربية ، قال : فجاء فأخذها ، فعادت عصا على ما كانت .
وقوله : ( ^ إنما صنعوا كيد ساحر ) قرىء ' ساحر ' ، وقرىء ' سحر ' ، فقوله : ( ^ كيد ساحر ) أي : حيلة ساحر .
وقوله : ( ^ كيد سحر ) أي : حيلة من سحر .
وقوله : ( ^ ولا يفلح الساحر حيث أتى ) في التفسير أن معناه : أين وجد قتل .
وفي بعض المسانيد عن جندب بن عبد الله ، أن النبي قال : ' إذا أخذتم الساحر فاقتلوه ، وقرأ قوله تعالى : ( ^ ولا يفلح الساحر حيث أتى ) ' . < < طه : ( 70 ) فألقي السحرة سجدا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فألقي السحرة سجدا ) قد بينا من قبل .
وقوله : ( ^ قالوا آمنا برب هارون وموسى ) أي : بإله هارون وموسى ، وقدم هارون على موسى على وفق رءوس الآي .
____________________

( ^ هرون وموسى ( 70 ) قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى ( 71 ) قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت ) * * * * < < طه : ( 71 ) قال آمنتم له . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال آمنتم له قبل أن آذن لكم ) ظاهر المعنى .
وقوله : ( ^ إنه لكبيركم الذي علمكم السحر ) أي : معلمكم الذي علمكم السحر . وحكى الكسائي أن العرب تقول : رجعت من عند كبيري أي : معلمي .
وقوله : ( ^ فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ) ظاهر المعنى .
وقوله : ( ^ ولأصلبنكم في جذوع النخل ) معناه : على جذوع النخل ، وذكر كلمة في ؛ لأن المصلوب يصلب مستطيلا على الجذع ؛ فالجذع يشتمل عليه .
وقوله : ( ^ ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى ) أي : أنا أقوى أو رب موسى ؟ وذكر الكلبي : أن فرعون قطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم ، وذكر غيره : أنه لم يقدر عليهم ، واستدل بقوله تعالى : ( ^ لا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون ) . < < طه : ( 72 ) قالوا لن نؤثرك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قالوا لن نؤثرك ) أي : لن نختارك . ( ^ على ما جاءنا من البينات ) أي : الدلالات ؛ وكان استدلالهم أنهم قالوا : إن كان هذا سحر ، فأين حبالنا وعصينا ؟ وقيل : من البينات أي : اليقين والعلم .
وقوله : ( ^ والذي فطرنا ) . فيه قولان : أحدهما : ( وقوله ) ولن نؤثرك على الذي فطرنا ، والآخر : أنه قسم .
وقوله : ( ^ فاقض ما أنت قاض ) أي : فاصنع ما أنت صانع .
وقوله : ( ^ إنما تقضي هذه الحياة الدنيا ) أي : أمرك وسلطانك في هذه الحياة الدنيا ، وسيزول عن قريب .
____________________

( ^ قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا ( 72 ) إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى ( 73 ) إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ) * * * * < < طه : ( 73 ) إنا آمنا بربنا . . . . . > >
وقوله : ( ^ إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا ) أي : ذنوبنا .
وقوله : ( ^ وما أكرهتنا عليه من السحر ) فإن قيل : كيف يستقيم هذا وقد جاءوا مختارين ، وحلفوا بعزة فرعون أن لهم الغلبة على ما ذكر في موضع آخر ؟ والجواب عنه : أنه روي عن الحسن البصري أنه قال : كان فرعون يجبر قوما على تعلم السحر ؛ لكيلا يذهب أصله ، وكان قد أكرههم في الابتداء على تعلمه ، فأرادوا بذلك .
وقوله : ( ^ والله خير وأبقى ) قال محمد بن كعب معناه : والله خير ثوابا إن أطيع ، وأبقى عقابا إن عصي . يقال : إن أمر السلطان إكراه ؛ فلهذا قالوا : وما أكرهتنا عليه من السحر ، لما سجدوا أراهم الله تعالى مواضعهم في الجنة ، وما أعد لهم من الثواب والكرامة ، فلما رفعوا رءوسهم وقد [ رأوا ] قالوا ما قالوا .
وعن عكرمة : أصبحوا وهم سحرة ، وأمسوا وهم شهداء .
وروي أن الحسن كان إذا بلغ إلى هذه الآية قال : عجبا لقوم كافرين سحرة من أشد الناس كفرا ، رسخ الإيمان في قلوبهم حين قالوا ما قالوا ، ولم يبالوا بعذاب فرعون ، وترى الرجل من هؤلاء يصحب الإيمان ستين سنة ، ثم يبيعه بثمن يسير .
وفي القصة : أن امرأة فرعون كانت تستخبر في ذلك اليوم لمن الغلبة ، فلما أخبرت أن الغلبة كانت لموسى ، أظهرت الإيمان لله ، فذكر ذلك لفرعون ، فبعث قوما ، وقال : انظروا إلى أعظم صخرة ، فإن أصرت على قولها ، فألقوا عليها الصخرة ، فأراها الله تعالى موضعها من الجنة ، وقبض روحها ، فجاءوا وألقوا الصخرة على جسد ميت . < < طه : ( 74 ) إنه من يأت . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إنه من يأت ربه مجرما ) قال بعضهم : هذا من قول السحرة ، وقال بعضهم : هو ابتداء كلام من الله تعالى . قوله : ( ^ مجرما ) أي : مشركا .
وقوله : ( ^ فإن له نار جهنم لا يموت فيها ولا يحيى ) أي : لا يحيا حياة ينتفع بها ،
____________________

( ^ ولا يحيى ( 74 ) ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى ( 75 ) جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى ( 76 ) ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا ) * * * * ولا يموت فيستريح ، ويقال : إن أرواحهم تكون معلقة بحناجرهم ، لا تخرج فيموتون ، ولا تستقر في موضعها فيحيون ، قال الشاعر :
( ألا من لنفس تموت فينقضي ** شقاها ولا تحيا حياة لها طعم ) < < طه : ( 75 ) ومن يأته مؤمنا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات ) أي : أدى الفرائض . قال الحسن : من أدى الفراض فقد استكمل الإيمان ، ومن لم يؤد الفرائض فلم يستكمل الإيمان .
وقوله : ( ^ فأولئك لهم الدرجات العلى ) جمع العليا ، والعليا تأنيث الأعلى . < < طه : ( 76 ) جنات عدن تجري . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ جنات عدن ) قد بينا هذا من قبل ، وفي بعض التفاسير عن عمر - رضي الله عنه - قال : جنة عدن قصر له عشرة آلاف باب ، لا يعلم سعتها إلا الله ويقال : نهر في الجنة على حافتيه قصور الجنان .
وقوله : ( ^ تجري من تحتها الأنهار ) قد بينا .
وقوله : ( ^ خالدين فيها ) أي : مقيمين فيها .
وقوله : ( ^ وذلك جزاء من تزكى ) أي : تطهير من الذنوب ، وقيل : جزاء من قال : لا إله إلا الله . < < طه : ( 77 ) ولقد أوحينا إلى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي ) أي : سر بهم ليلا .
وقوله : ( ^ فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا ) أي : ذا يبس ، وقيل : يابسا ، أي : لا ندوة فيه ، ولا بلل .
____________________

( ^ تخاف دركا ولا تخشى ( 77 ) فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم ( 78 ) وأضل فرعون قومه وما هدى ( 79 ) يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن ونزلنا عليكم المن والسلوى ( 80 ) كلوا ) * * * *
وقوله تعالى : ( ^ لا تخاف دركا ولا تخشى ) روي أنهم لما بلغوا البحر قالوا : يا موسى ، هذا البحر أمامنا ، وفرعون وجنده وراءنا ، فقال الله تعالى : ( ^ لا تخاف دركا ولا تخشى ) . أي : لا تخاف أن يدركك فرعون من ورائك ، ولا تخشى أن يغرقك البحر أمامك ، وقرأ حمزة : ' ولا تخف ' على الأمر . < < طه : ( 78 ) فأتبعهم فرعون بجنوده . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فأتبعهم فرعون بجنوده ) قرىء : ' فأتبعهم ' ، وقرىء : ' فاتبعهم ' أما قوله : ( ^ فأتبعهم ) أي : بعث في إثرهم جنوده .
وقوله : ( ^ فاتبعهم ) أي : اتبعهم بجنده .
وقوله : ( ^ فغشيهم من اليم ما غشيهم ) معناه : غشيهم من البحر ما غرقهم ، ويقال : غشيهم من اليم ما غشي قوم موسى فنجا قوم موسى ، وغرقوا هم ، ويقال : غشيهم من اليم ما أهلكهم . < < طه : ( 79 ) وأضل فرعون قومه . . . . . > >
وقوله : ( ^ وأضل فرعون قومه وما هدى ) أي : وما أرشد ، وهو جواب لقول فرعون : ( ^ وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ) . < < طه : ( 80 ) يا بني إسرائيل . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم ) أي : من أعدائكم ، ويقال : أراد به فرعون وحده .
وقوله : ( ^ وواعدناكم جانب الطور الأيمن ) في التفسير : أن الله تعالى وعد موسى أن يؤتيه كتابا من عنده ، وهو التوراة ، فهو معنى قوله تعالى : ( ^ وواعدناكم جانب الطور الأيمن ) أي : لإعطاء الكتاب .
وقوله : ( ^ ونزلنا عليكم المن والسلوى ) قد بيناه في سورة البقرة . < < طه : ( 81 ) كلوا من طيبات . . . . . > > وقوله : ( ^ كلوا من طيبات ما رزقناكم ) أي : من حلال ما رزقناكم .
____________________

( ^ من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى ( 81 ) وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ( 82 ) وما أعجلك عن قومك يا موسى ( 83 ) قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب ) * * * * وقوله : ( ^ ولا تطغوا فيه ) . أي : لا تكفروا النعمة ، ويقال : لا تخلطوا الحرام بالحلال ، وعن ابن عباس : لا تدخروا ثم لا تدخروا فتدود ، ولولا ما صاموا لم يتود طعام .
وقوله : ( ^ فيحل عليكم غضبي ) قرىء بالكسر والرفع ، أما بالكسر فيجب ، وأما بالرفع فينزل .
وقوله : ( ^ ومن يحلل عليه غضبي ) أي : ينزل عليه ، وقرىء : ' ومن يحلل ' أي : يجب .
وقوله : ( ^ فقد هوى ) أي : هلك ، وعن شفي بن ماتع الأصبحي قال : هوى واد في جهنم يهوي فيه أربعين خريفا ، ومعنى الآية أي : وقع فيه . < < طه : ( 82 ) وإني لغفار لمن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإني لغفار لمن تاب ) أي : من الشرك . ( ^ وآمن ) أي : آمن بالله .
وقوله : ( ^ وعمل صالحا ) أي : أدى الفرائض .
وقوله : ( ^ ثم اهتدى ) فيه أقوال : قال ابن عباس : لم يشك في إيمانه وعن قتادة قال : مات على الإيمان . وعن سعيد بن جبير : لزم السنة والجماعة . وقال بعضهم : أخلص ، وقال بعضهم : عمل ( بعمله ) وعن ثابت البناني قال : تولى أهل البيت . < < طه : ( 83 ) وما أعجلك عن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وما أعجلك عن قومك يا موسى ) في القصة : أنه لما جاء مع السبعين الميعاد تعجل بنفسه ، وخلف السبعين وراءه ، فقال الله تعالى له : ( ^ وما أعجلك عن قومك يا موسى ) أي شيء حملك على العجلة ؟ < < طه : ( 84 ) قال هم أولاء . . . . . > >
وقوله : ( ^ قال هم أولاء على أثري ) أي : يأتوني خلفي .
وقوله : ( ^ وعجلت إليك رب لترضى ) أي : لتزداد رضا ، وعن بعض السلف : أنه
____________________

( ^ لترضى ( 84 ) قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري ( 85 ) فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي ( 86 ) قالوا ما ) * * * * تعجل شوقا . < < طه : ( 85 ) قال فإنا قد . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك ) أي : أوقعناهم في الفتنة .
قوله : ( ^ وأضلهم السامري ) أي : ضلوا بسببه ، وقد بينا طرفا من هذه القصة في سورة الأعراف . وحكي عن وهب بإسناده عن راشد بن سعد أن الله تعالى لما قال له هذا القول قال : يا رب ، من صاغ العجل ؟ قال : السامري ، قال : فمن أحياه وأظهر منه الخوار ؟ قال : أنا ، قال : فأنت أضللتهم يا رب ، فقال الله تعالى له : يا ( رأس ) النبيين ، أنا رأيت ذلك في قلوبهم فسهلته عليهم . < < طه : ( 86 ) فرجع موسى إلى . . . . . > >
وقوله : ( ^ فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا ) أي : شديد الحزن لما أصاب قومه من الفتنة .
قوله تعالى : ( ^ قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا ) معناه : ما وعد من إنزال الكتاب ، ومن التنجية من فرعون وقومه ، وغير هذا مما وعد وحقق .
وقوله : ( ^ أفطال عليكم العهد ) كان موسى وعد أن يعود بعد أربعين يوما ، فلما مضت عشرون يوما ، عدوا النهار عشرين ، والليل عشرين ، وقالوا قد مضى الوعد .
وقوله : ( ^ أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم ) . أي : أردتم أن تفعلوا فعلا يجب عليكم الغضب من ربكم .
وقوله : ( ^ فأخلفتم موعدي ) ( أو ) وعدي .
____________________

( ^ أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى ) * * * * < < طه : ( 87 ) قالوا ما أخلفنا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ) .
قرىء : ' بملكنا ' ، وقرىء : ' بمُلْكنا ' ؛ فقوله : ' بمِلْكنا ' أي : بطاقتنا ، وقوله : ' بمُلْكنا ' أي : بسلطاننا . وكذلك ' بمَلْكنا ' بفتح الميم . وأحسن ما قيل في هذا هو أن المرء إذا وقع في البلية والفتنة لم يملك نفسه . وقد ثبت عن النبي في بعض دعواته : ' اللهم إذا أردت بقوم فتنة فاقبضني إليك غير مفتون ' .
وقوله : ( ^ ولكنا ( حملنا ) ) وقرىء : ' حملنا ' . في القصة : أنهم استعاروا حلي نساء القبط ، ثم لم يردوا حتى خرجوا إلى جانب البحر ، فهو معنى قوله : ( ^ حملنا أوزارا من زينة القوم ) . أي : من حلي القوم ، والأوزار : الأثقال ، وسمى الحلي أوزارا ، لأنهم كانوا أخذوها على وجه العارية ، ولم يردوها ، فكانت بجهة الخيانة .
ويقال : إن الله تعالى لما أغرقهم نبذ البحر حليهم ، فأخذها ، ولم تكن الغنيمة حلالا لهم في ذلك الزمان ، فسماها أوزارا لهذا المعنى ، وقال الشاعر في الأوزار :
( وأعددت للحرب أوزارها ** رماحا طوالا وخيلا ذكورا )
وقوله تعالى : ( ^ فقذفناها ) ( روي أن ) هارون - عليه السلام - أمر أن يحفر حفرة ، ثم أمرهم أن يلقوا تلك الحلي فيها ، وأضرم عليها نارا ، وفي قول آخر : أن السامري أمرهم بذلك ، فهو معنى قوله : ( ^ فقذفناها ) .
وقوله : ( ^ فكذلك ألقى السامري ) يعني : ألقى السامري أيضا ما عنده من الحلي .
____________________

( ^ السامري ( 87 ) فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي ( 88 ) أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا ( 89 ) ) * * * * < < طه : ( 88 ) فأخرج لهم عجلا . . . . . > >
وقوله : ( ^ فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار ) في القصة : أن النار لما أخلصت الذهب والفضة جاء السامري ، وألقى فيه قبضة من التراب ، أخذها من تحت حافر فرس جبريل - عليه السلام - وقال : كوني عجلا له خوار ، فصار عجلا يخور .
وقوله : ( ^ جسدا ) قيل : جسدا لا رأس له ، وقيل : جسدا لا يضر ولا ينفع ، وقال الخليل : العرب تسمي كل ما لا يأكل ولا يشرب جسدا ، وكان العجل لا يأكل ولا يشرب ويصيح ، والقول الأول أضعف الأقوال ، واختلفوا في الخوار : فالأكثرون أنه صوت عجل حي ، وهو قول ابن عباس ، والحسن ، وقتادة وجماعة ، وقال مجاهد : هو صوت حفيف الريح ، كانت تدخل في جوفه وتخرج ، وهو قول ضعيف .
وقوله : ( ^ فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي ) فيه قولان : أحدهما : أن هذا إلهكم وإله موسى ، تركه موسى هاهنا ، وذهب يطلبه .
والثاني : معناه : فنسي السامري الإيمان بالله ، أي : ترك . وقيل : فنسي موسى أن يذكر لكم أن هذا هو الإله . < < طه : ( 89 ) أفلا يرون ألا . . . . . > >
وقوله : ( ^ أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ) في بعض التفاسير : أن العجل خار خوارا واحدا ، ولم يعد ، فهو معنى قوله : ( ^ ألا يرجع إليهم قولا ) وقال بعضهم : لا يجيبهم إذا دعوه .
وقوله : ( ^ ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا ) ظاهر المعنى .
فإن قيل : السامري كان كافرا ، وهذا الذي ظهر على يده معجزة ، فكيف يجوز أن تظهر المعجزة على يد كافر ؟ والجواب : أن ذلك كان لفتنة بني إسرائيل وابتلائهم .
وعند أهل السنة هذا جائز ، ولا نقول : هو معجزة ، ولكنه محنة وفتنة .
وفي بعض الآثار : أن هارون مر على السامري ، وهو يصوغ العجل ، فقال له :
____________________

( ^ ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري ( 90 ) قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى ( 91 ) قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ( 92 ) ألا تتبعن أفعصيت أمري ( 93 ) قال يا ) * * * * ما هذا ؟ فقال : هو [ شي ] ينفع ولا يضر فادع لي . فقال هارون : اللهم أعطه على ما في نفسه ، فألقى التراب في فم العجل ، وقال : كن عجلا يخور ، فكان كذلك بدعوة هارون .
وقد قال أهل العلم : إنه ليس من عجل من ذهب يخور بشبهة تقع في أنه إله ومعبود . < < طه : ( 90 ) ولقد قال لهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به ) أي : ابتليتم به .
( ^ وإن ربكم الرحمن ) أي : معبودكم الرحمن ، لا ما اتخذتموه معبودا .
وقوله : ( ^ فاتبعوني ) أي : اتبعوني في عبادة الله . ( ^ وأطيعوا أمري ) في ترك عبادة العجل . < < طه : ( 91 ) قالوا لن نبرح . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قالوا لن نبرح عليه عاكفين ) أي : لن نزل مقيمين على عبادته ( ^ حتى يرجع إلينا موسى ) . < < طه : ( 92 - 93 ) قال يا هارون . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال يا هارون ) فيه تقدير ، وهو أن موسى رجع ، وقال : يا هارون .
وقوله : ( ^ ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن ) لا زائدة ، ومعناه : أن تتبعني .
وقوله : ( ^ أفعصيت أمري ) أي : خالفت أمري . فإن قال قائل : هل تقولون إن هارون خالف موسى فيما طلب منه ، وأنه داهن عبدة العجل ، ولم يشدد في منعهم عنها ؟ والجواب : أن موسى لم يطلب من هارون إلا أن يخلفه في قومه ، وأن يرفق بهم ، فرأى هارون أن لا يقاتلهم ، وأن الإمساك عن قتالهم أصلح ، ورأى موسى أن يقاتلهم ، ورأى أن القتال أصلح ، فهذا رأي مجتهد خالف رأي مجتهد ، ولا عيب فيه ، وإنما
____________________

( ^ بنؤم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بين إسرائيل ولم ترقب قولي ( 94 ) ) * * * * عاتبه موسى في تركه القتال ، يعني : لو كنت أنا مكانك كنت أقاتلهم ، فهلا فعلت مثل ذلك . < < طه : ( 94 ) قال يا ابن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال يابن أم ) . قرىء : ' يا بن أم ' بالنصب و ' يابن أم ' بالكسر ، وقد بينا هذا من قبل .
وقوله : ( ^ لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي ) قال ابن عباس : أخذ رأسه بيمينه ، وأخذ لحيته بيساره ، ويقال : إن المراد من الرأس شعر الرأس ، ويقال : أراد بالرأس الأذن ، فإن قال قائل : هذا تهاون بنبي من أنبياء الله ، فتكون كبيرة من الكبائر ، فكيف وجه فعل هذا من موسى ؟ والجواب عنه : أنه يحتمل أنه لم يكن مثل هذا الفعل تهاونا في عادتهم ، فكان الأخذ باللحية شبه الأخذ بالكف عندهم ، وقال بعضهم : أنه أخذ بلحيته كما يأخذ الإنسان بلحية نفسه عند الغضب فجعله كنفسه ، وقد روي أن عمر - رضي الله عنه - كان إذا غضب جعل يفتل شاربه ، وأولى الأجوبة أن هذا فعل الإنسان بمثله وشكله عند الغضب ، فتكون صغيرة لا كبيرة ، والصغائر جائزة على الأنبياء ، وإنما ذكر هارون ' الأم ' ، ولم يذكر ' الأب ' ، ليرققه على نفسه .
وقوله : ( ^ إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ) هذا بيان ما رأي من الرأي ، يعني : خشيت أن تقول : جعلتهم أحزابا ، فحزب عبدوا العجل ، وحزب قاتلوا ، وحزب أمسكوا عن القتال ، والتبس عليهم أنه هل يجوز القتال أو لا ؟ ، وحزب أنكروا لم يقاتلون ؟ فكل هذا التفرق كان جائزا لو قاتل هارون .
وقوله : ( ^ ولم ترقب قولي ) أي : لم تحفظ قولي ، وهذا منصرف إلى قوله : ( ^ واخلفني في قومي وأصلح ) ( وقد بينا أن معنى قوله : ( ^ وأصلح ) ) أي : ارفق ، فرأى أن الرفق أن يكف يده .
____________________

( ^ قال فما خطبك يا سامري ( 95 ) قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي ( 96 ) قال فاذهب فإن لك في ) * * * * < < طه : ( 95 ) قال فما خطبك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال فما خطبك يا سامري ) قال أهل التفسير : لما اعتذر هارون بما اعتذر به أقبل موسى على السامري ، فقال : ( ^ ما خطبك يا سامري ) والخطب هو : الجليل من الأمر ، ومعنى الآية : ما هذا الأمر العظيم الذي جئت به ؟ < < طه : ( 96 ) قال بصرت بما . . . . . > >
وقوله : ( ^ قال بصرت بما لم يبصروا به ) رأيت بما لم يروا ، ويقال : فطنت بما لم يفطنوا به .
وقوله : ( ^ فقبضت قبضة من أثر الرسول ) المعروف : بالضاد المعجمة ، وقرأ الحسن البصري : ' فقبصت ' بالصاد غير المعجمة ، والفرق بينهما أن القبض : هو الأخذ بملء الكف ، والقبص هو الأخذ بأطراف الأصابع .
وقوله : ( ^ من أثر الرسول ) يعني : من تراب حافر فرس جبريل ، فإن قال قائل : كيف عرف هذا ؟ وكيف رأى جبريل من بين سائر الناس ؟ والجواب عنه من وجهين : أحدهما : أن أمه لما ولدته في السنة التي كان يقتل فيها الأنبياء ، وضعته في كهف حذرا عليه ، فبعث الله جبريل ليربيه ويغذيه لما قضى الله على يده من الفتنة ، فلما رآه عرفه وأخذ التراب ، والوجه الثاني : أن جبريل كان على فرس حصان أبلق ، وكان ذلك الفرس تسمى فرس الحياة ، وكان كلما وضع ( الفرس ) حافره على موضع أخضر ما تحت حافره ، فعرف أنه فرس الحياة ، وكان سمع بذكره ، وأن الذي عليه جبريل ، فأخذ القبضة .
وقوله : ( ^ فنبذتها ) أي : ألقيتها في فم العجل ، وقد قال بعضهم : إنما خار العجل لهذا ؟ وهو أن التراب كان مأخوذا من تحت فرس الحياة .
وقوله : ( ^ وكذلك سولت لي نفسي ) أي : زينت لي نفسي . < < طه : ( 97 ) قال فاذهب فإن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس ) أي : لا أمس لا
____________________

( ^ الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا ( 97 ) إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما ( 98 ) كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا ( 99 ) من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا ( 100 ) خالدين ) * * * * أمس ، وفي القصة : أن موسى دعا عليه فصار يهيم مع الوحش ، وروي أنه كان إذا مس أحدا أو مسه أحد حما جميعا ، قال الشاعر : ( ^ تميم كرهط السامري وقوله ** ألا لا يريد السامري مساسا )
وقال سعيد بن جبير : كان السامري رجلا من أهل كرمان ، ويقال : من باجرما ، والأكثرون أنه كان من بني إسرائيل من رهط يقال لهم : السامري .
وقوله : ( ^ وإن لك موعدا لن تخلفه ) أي : لن تكذبه ، ومعناه : أن الله يكافئك على فعلك ولا تفوته ، وقرئ : ' لن تخلفه ' بكسر اللام أي : توافى يوم القيامة لميعاد العذاب ولا تخلف .
وقوله : ( ^ وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا ) أي : ظلت عليه مقيما .
وقوله : ( ^ لنحرقنه ) وقرئ : ' لنحرقنه ' من الإحراق ، وهما في المعنى واحد ، وهو التحريق بالنار ، وعن علي وابن عباس - رضي الله عنهما - أنهما قرآ : ' لنحرقنه ' وهي قراءة أبي جعفر ، ومعناه : لنبردنه بالمبرد ، وفي قراءة أبي بن كعب : ' لنذبحنه ثم لنحرقنه ' .
وقوله : ( ^ ثم لننسفنه في اليم نسفا ) يعني : لنذرينه في البحر تذرية . < < طه : ( 98 ) إنما إلهكم الله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما ) أي : وسع علمه كل شيء ، وقالوا هذا من فصيح القرآن . < < طه : ( 99 ) كذلك نقص عليك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق ) أي : من أخبار من تقدم .
وقوله : ( ^ وقد آتيناك من لدنا ذكرا ) الذكر ها هنا هو : القرآن . < < طه : ( 100 ) من أعرض عنه . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ من أعرض عنه ) أي : عن القرآن .
وقوله : ( ^ فإنه يحمل يوم القيامة وزرا ) أي : ثقلا ، ومعناه : إثما يثقله .
____________________

( ^ فيه وساء لهم يوم القيامة حملا ( 101 ) يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا ( 102 ) يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا ( 103 ) نحن أعلم بما يقولون ) * * * * < < طه : ( 101 ) خالدين فيه وساء . . . . . > >
وقوله : ( ^ خالدين فيها ) أي : مقيمين في عذاب الوزر .
وقوله : ( ^ وساء لهم يوم القيامة حملا ) أي : بئس الوزر حملهم يوم القيامة . < < طه : ( 102 ) يوم ينفخ في . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ يوم ينفخ في الصور ) وقرأ أبو عمرو : ' ويوم ننفخ في الصور ' واستدل بما عطف عليه من قوله : ( ^ ونحشر المجرمين ) وقرأ الباقون : ( ^ يوم ينفخ في الصور ) وهذا هو الأولى ، وقد بينا معنى الصور من قبل .
وقوله تعالى : ( ^ ونحشر المجرمين يومئذ زرقا ) قال الحسن وقتادة وجماعة : عميا . فإن قال قائل : كيف يستقيم هذا ، وقد قال الله تعالى : ( ^ ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة ) والله تعالى إنما خلقهم بصرا ؛ والجواب : أنه حكي عن ابن عباس أن في القيامة تارات وحالات فيحشرون بصرا ثم يعمون . والقول الثاني في قوله : ( ^ زرقا ) : أنه خضرة العين ، فيحشر الكفار زرق الأعين سود الوجوه ، والقول الثالث : عطاشا ، ومعناه : وقد تغيرت أعينهم من شدة العطش ، والقول الرابع : ( ^ زرقا ) أي : شاخصة أبصارهم من عظم الخوف ، قال الشاعر :
( لقد زرقت عيناك يابن مكعبر ** كذا كل ضبي من اللؤم أزرق )
والقول الخامس : ( ^ زرقا ) أي : أحد البصر ؛ لأن الأزرق يكون أحد بصرا . < < طه : ( 103 ) يتخافتون بينهم إن . . . . . > >
وقوله : ( ^ يتخافتون بينهم ) أي : يتساررون ، ويتكلمون خفية .
وقوله : ( ^ إن لبثتم إلا عشرا ) أي : ما لبثتم إلا عشرا ، وقد قال بعضهم : هذا في ' القبر ' ، وقال بعضهم : في الدنيا ، فإن قال قائل : هذا كذب صريح ، وقد لبثوا في الدنيا والقبر سنين كثيرة ! ، والجواب عنه : أن من شدة هول القيامة يظنون أنهم ما
____________________

( ^ إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما ( 104 ) ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا ( 105 ) فيذرها قاعا صفصفا ( 106 ) لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ( 107 ) يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا ) * * * * لبثوا إلا هذا القدر ، وقال بعضهم : إن الله تعالى يرفع العذاب عنهم بين النفختين فيستريحون ، فقولهم : ( ^ إن لبثتم إلا عشرا ) راجع إلى هذا . < < طه : ( 104 ) نحن أعلم بما . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ نحن أعلم بما يقولون ) معناه : أني عالم بقولهم وإن خافتوا .
وقوله : ( ^ إذ يقول أمثلهم طريقة ) تقول العرب : فلان أمثل قومه أي : أعدل قومه ، ومعنى الآية ها هنا : أعقلهم وخيرهم طريقة في نفسه .
وقوله : ( ^ إن لبثتم إلا يوما ) أي : ما لبثتم إلا يوما . < < طه : ( 105 ) ويسألونك عن الجبال . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ويسألونك عن الجبال ) قال الحسن البصري : سأل المشركون رسول الله ما يفعل الله بهذه الجبال يوم القيامة ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية .
وقوله : ( ^ فقل ينسفها ربي نسفا ) النسف هو القلع من الأصل ، ومعنى النسف في الآية : هو تسيير الجبال أو جعلها هباء جعلها رملا سائلا . < < طه : ( 106 ) فيذرها قاعا صفصفا > >
وقوله : ( ^ فيذرها قاعا صفصفا ) أي : يذر أماكن الجبال قاعا صفصفا ، والقاع هو المكان الواسع المستوي ، والصفصف هو الأملس الذي لا نبات فيه . < < طه : ( 107 ) لا ترى فيها . . . . . > >
وقوله : ( ^ لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ) أي : حدبا ونبكا ، ومعناه : انخفاضا وارتفاعا . < < طه : ( 108 ) يومئذ يتبعون الداعي . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يومئذ يتبعون الداعي ) قال أهل التفسير : الداعي ها هنا هو إسرافيل يضع الصور في فيه ، ويقول : أيتها العظام البالية ، والجلود المتمزقة ، واللحوم المتفرقة ، هلموا إلى عرض الرحمن ، أو لفظ هذا معناه .
وقوله : ( ^ لا عوج له ) أي : لا يزيغون يمينا ولا شمالا ، وقيل : لا يمكنهم ألا يتبعوه .
وقوله : ( ^ وخشعت الأصوات للرحمن ) أي : سكنت وخضعت ، وقال قتادة :
____________________

( ( 108 ) يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا ( 109 ) يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما ( 110 ) وعنت الوجوه للحي القيوم ) * * * * ذلت . قال الشاعر :
( ( فما ) أتى خبر الزبير تصدعت ** سور المدينة والجبال الخشع )
وقوله : ( ^ فلا تسمع إلا همسا ) الهمس هو الصوت الخفي ، ويقال : صوت وطء الأقدام كهمس الإبل ، قال الشاعر :
( فباتوا يذبحون وبات يسري ** بصير بالدجى هار هموس ) < < طه : ( 109 ) يومئذ لا تنفع . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يومئذ لا تنفع الشفاعة ) أي : لا تنفع الشفاعة لأحد .
وقوله : ( ^ إلا من أذن له الرحمن ) أي : إلا لمن أذن الرحمن في الشفاعة له .
وقوله : ( ^ ورضي له قولا ) أي : قول لا إله إلا الله ، وهو القول المرضي عند الله . < < طه : ( 110 ) يعلم ما بين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ) أي : يعلم ما بين أيديهم من الآخرة ، وما خلفهم من الأعمال ، ويقال : يعلم ما بين أيديهم أي : ( لم يخلقهم وهو يريد أن يخلقهم ) .
وقوله : ( ^ وما خلفهم ) أي : الذين خلفهم من قبلهم فخلفوهم .
وقوله : ( ^ ولا يحيطون به علما ) أي : لا يحيطون بالله علما ، والله يحيط بالأشياء ، ولا يحاط به ؛ لأن الإحاطة بالشيء هي العلم بالشيء من كل جهة يجوز أن يعلم ، والله تعالى لا يقدر قدره ، ولا يبلغ كنه عظمته ، وأما سائر الأشياء فإن الله يعلم كل شيء بكل جهة يجوز أن تعلم . < < طه : ( 111 ) وعنت الوجوه للحي . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وعنت الوجوه للحي القيوم ) أي : ذلت الوجوه ، وقال طلق بن أبي حبيب : خرت الوجوه للسجود .
وقوله : ( ^ للحي القيوم ) هو الدائم الذي لم يزل ، والقيوم هو القائم بتدبير الخلق ،
____________________

( ^ وقد خاب من حمل ظلما ( 111 ) ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما ( 112 ) وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا ( 113 ) فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرآن من ) * * * * والقائم على كل نفس بما كسبت .
وقوله : ( ^ وقد خاب من حمل ظلما ) أي : هلك من حمل شركا ، وحمل الشرك هو نفس الإشراك . < < طه : ( 112 ) ومن يعمل من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن ) ظاهر المعنى .
وقوله : ( ^ فلا يخاف ظلما ولا هضما ) قوله : ( ^ ظلما ) أي : يحمل عليه ذنب غيره . ( ^ ولا هضما ) أي : لا يخاف أن ينقص من حقه ، وقيل : ظلما أي : لا يقبل طاعته ، و ( ^ هضما ) أي : ينقص من ثوابه . < < طه : ( 113 ) وكذلك أنزلناه قرآنا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا ) أي : بلسان العرب . وقوله : ( ^ وصرفنا فيه من الوعيد ) أي : صرفنا القول فيه بذكر الوعيد . قال قتادة : هو ذكر وقائع الله في الأمم الخالية .
وقوله : ( ^ لعلهم يتقون ) أي : يتقون الشرك والمعاصي .
وقوله : ( ^ أو يحدث لهم ذكرا ) أي : يحدث لهم القرآن اعتبارا ؛ فيعتبرون به ، وقال بعضهم : يحدث لهم الوعيد ذكر العذاب ؛ فينزجرون عن المعاصي . وقال بعضهم : أو يحدث لهم ذكرا أي : شرفا لإيمانهم به . < < طه : ( 114 ) فتعالى الله الملك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فتعالى الله الملك الحق ) ارتفع الملك الحق ذو الحق .
وقوله : ( ^ ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه ) فيه أقوال : المشهور ما ذكره ابن عباس وغيره ، أن النبي كان إذا نزل عليه جبريل بالقرآن ، تلا أول الآية قبل أن يفرغ جبريل من الإبلاغ مخافة التفلت منه والنسيان ؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية ' ومعناها : لا تعجل بقراءة القرآن قبل أن يفرغ جبريل من الإبلاغ . والقول
____________________

( ^ قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما ( 114 ) ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما ( 115 ) وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس ) * * * * الثاني : معناها : ولا تطلب الإنزال من الله تعالى ، واصبر حتى يأتيك جبريل بما ينزله الله تعالى . والقول الثالث : معناها : ولا تبين للناس ما لم يصلي إليك تأويله ، ومعناه : ولا تبين من قبل نفسك . والقول الأول هو المعروف .
وقوله : ( ^ وقل رب زدني علما ) أي : علما إلى ما علمت ، فكان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية قال : اللهم زدني إيمانا ويقينا . وعن مالك بن أنس قال : من شأن ابن آدم ألا يعلم كل شيء ، ومن شأن ابن آدم أن يعلم ثم ينسى ، ومن شأن ابن آدم أن يطلب من الله علما إلى علمه . < < طه : ( 115 ) ولقد عهدنا إلى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولقد عهدنا إلى آدم من قبل ) العهد ها هنا هو الأمر .
وقوله : ( ^ فنسي ) معناه : فترك ، وعن ابن عباس : أن الإنسان سمي إنسانا ؛ لأنه ينسى .
وقوله : ( ^ ولم نجد له عزما ) معناه : صبرا ، وقيل : حزما ، وقال عطية : حفظا لما أمر به والعزم هو توطين النفس على الفعل .
وعن الحسن البصري قال : لو قوبل عقل آدم بعقل جميع ولده لرجحهم ، وقد قال الله تعالى : ( ^ ولم نجد له عزما ) . وعن أبي أمامة الباهلي قال : لو وزن حلم آدم بحلم جميع ولده لرجح حلمه ، وقد قال الله تعالى : ( ^ ولم نجد له عزما ) فإن قيل : أتقولون أن آدم - عليه السلام - كان ناسيا لأمر الله تعالى حين أكل من الشجرة ؟ قلنا : يجوز أنه نسي ، ومنهم من قال : نسي عقوبة الله تعالى ، وظن أنه نهي تنزيه ، لا نهي تحريم ، ومنهم من قال : ظن أنه إنما نهى عن شجرة بعينها ، ولم ينه عن جنس الشجرة . < < طه : ( 116 ) وإذ قلنا للملائكة . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى ) ظاهر المعنى .
____________________

( ^ أبى ( 116 ) فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى ( 117 ) إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى ( 118 ) وأنك لا ظمأ فيها ولا تضحى ) * * * * < < طه : ( 117 ) فقلنا يا آدم . . . . . > > وقوله : ( ^ فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى ) أي : تتعب وتنصب . وقال السدي : بالحرث والحصد والطحن والخبز . وعن سعيد بن جبير : أن الله تعالى أنزل عليه ثورا أحمرا ، فجعل يحرث ، ويرشح العرق عن جبينه ، فذلك شقاؤه . وروي عن سعيد أنه قال : جعل آدم يسوق الثور ، وقد تعب ، وعرق ، فقال : يا حواء ، هذا من قبلك ، فبقي ذلك في ولده إلى يوم القيامة ، فيقولون عند الحراثة : حوحو . ذكره ابن فارس في تفسيره .
قال أبو الحسين بن فارس في تفسيره . وعليه الخبر المعروف برواية أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عن النبي قال : ' لقي آدم موسى - صلوات الله عليهما - فقال : يا آدم ، أنت الذي أشقيتنا ، وأخرجتنا من الجنة ، فقال له آدم : يا موسى ، أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن أخلق . . الخبر بطوله . إلى أن قال : فحج آدم موسى ثلاثا ' . وفي بعض الحديث : أن الله تعالى لما أهبط آدم إلى الأرض قال : ' لأطعمنك حتى يعرق جبينك ، ويتعب بدنك ، وفهو معنى قوله : ( ^ فتشقى ) . فإن قال قائل : كيف لم يقل : فتشقيا ، وقد قال من قبل : ( ^ فلا يخرجنكما ) ؟
والجواب من وجهين : أحدهما : أن معناه : فتشقيا ، ولكنه اكتفى بذكر أحدهما عن الآخر ، ونظير هذا قوله تعالى : ( ^ عن اليمن وعن الشمال قعيد ) أي : قعيدان .
والآخر : أنه قال : ( ^ فتشقى ) ؛ لأنه هو الكاد والساعي على المرأة ، فالتعب عليه . < < طه : ( 118 ) إن لك ألا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى ) ظاهر المعنى . < < طه : ( 119 ) وأنك لا تظمأ . . . . . > >
وقوله : ( ^ وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى ) . أي : لا تعطش ، ولا يصيبك أذى
____________________

( ( 119 ) فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى ( 120 ) فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى ( 121 ) ) * * * * الشمس . فإن قيل : ليست في الجنة شمس ، فكيف يستقيم هذا الكلام ؟ والجواب : أنه مستقيم ؛ لأن أهل الجنة في ظل ممدود ، فلا يصيبهم أذى الشمس مثل ما يصيبهم في الدنيا ، وقيل معناه : لا يصيبك حر يؤذيك ، ولا تضحى : لا تعرق ، والعرب تقول : أضحى فلان إذا بدر للشمس . وفي بعض الآثار : اضح لمن أخدمت له . وقال عمر بن أبي ربيعة المخزومي أبو الخطاب - وولد ليلة مات عمر - رضي الله عنه - :
( رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت ** فيضحى وأما بالعشي فيخصر ) < < طه : ( 120 ) فوسوس إليه الشيطان . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى ) أي : لا يخلق ولا يفنى ، وقد بينا معنى [ شجرة ] الخلد من قبل . < < طه : ( 121 ) فأكلا منها فبدت . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما ) أي : عوراتهما . وقال بعض أهل المعاني : بدت عورتهما لهما دون غيرهما ؛ لأن الله تعالى قال : ( ^ فبدت لهما سوءاتهما ) .
وقوله : ( ^ وطفقا يخصفان ) أي : طلبا . يقال : طفق يفعل كذا ، إذا جعل يفعله .
وقوله : ( ^ يخصفان ) أي : يلصقان الورق بالورق للباسهما .
وقوله : ( ^ عليهما من ورق الجنة ) أي : للباسهما .
وقوله : ( ^ وعصى آدم ربه ) قال ابن قتيبة : يجوز أن يقال : عصى آدم ، ولكن لا يقال : آدم عاص ؛ لأنه إنما يقال : عاص إذا اعتاد فعل المعصية ؛ وهذا كالرجل يخيط ثوبه ، يقال : خاط ثوبه ، ولا يقال : خياط إلا إذا اعتاد الخياطة .
وأما قوله : ( ^ فغوى ) معناه : ضل وخاب ، والضلال ها هنا بمعنى : أخطأ طريق الحق ، والخيبة : فوات ما طمع فيه من الخلود .
____________________

( ^ ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى ( 122 ) قال اهبطا منها جميعا بعضهم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ( 123 ) ومن أعرض عن ذكري فإنه له معيشة ضنكا ) * * * *
وقال ابن الأعرابي : غوى أي : فسد عيشه ، وصار من العز إلى الذل ، ومن الراحة إلى التعب . < < طه : ( 122 ) ثم اجتباه ربه . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى ) أي : اختاره ربه وتاب عليه ، أي : قبل توبته . وهدى أي : أرشده إلى الإنابة . < < طه : ( 123 ) قال اهبطا منها . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو ) وقد بينا من قبل .
وقوله : ( ^ فإما يأتينكم مني هدى ) أي : بيان .
وقوله : ( ^ فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ) أي : لا يضل في الدنيا ، ولا يشقى في الآخرة . وعن الشعبي أنه قال : أجار الله تعالى من تبع القرآن ، وعمل بما فيه أن يضل أو يشقى ، ثم تلا هذه الآية . < < طه : ( 124 ) ومن أعرض عن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ومن أعرض عن ذكري ) أي : عن وحيي .
وقوله : ( ^ فإن له معيشة ضنكا ) فيه أقوال :
روي عن ابن مسعود وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري أنهم قالوا : عذاب القبر . قال أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - : يضغط حتى تختلف أضلاعه . وفي بعض المسانيد هذا عن النبي ، ولفظه : ' يلتئم عليه القبر ، حتى تختلف أضلاعه ، ولا يزال كذلك حتى يبعث ' . قاله في هذه الآية .
والقول الثاني : قال الضحاك : هو أكل الحرام ، وقال بعضهم : هو أن يكسب دون ما يكفيه ، والضنك هو الضيق ، وقال الحسن : معيشة ضنكا : عذاب جهنم ، وقال
____________________

( ^ ونحشره يوم القيامة أعمى ( 124 ) قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا ( 125 ) قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ( 126 ) وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى ( 127 ) أفلم يهد لهم ) * * * * بعضهم : هو الضريع ، والزقوم ( في النار ) .
وقوله : ( ^ ونحشره يوم القيامة أعمى ) فقال : أعمى عن الحجة ، ويقال : أعمى العين ، وقد بينا أنه روي عن ابن عباس أنه قال : يحشرهم بصيرا ثم يعمى ، وقيل : أعمى عن الحق ، وقيل : أعمى عن كل شيء إلا عن عذاب جهنم . < < طه : ( 125 ) قال رب لم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا ) معناه : ولم حشرتني أعمى عن الحجة ، وقد كنت بصيرا بالحجة ؟ وقيل : أعمى العين ، وقد كنت بصير العين . < < طه : ( 126 ) قال كذلك أتتك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها ) أي : تركتها .
وقوله : ( ^ وكذلك اليوم تنسى ) أي : تترك . قال قتادة : نسوا من الخير ، ولم ينسوا من العذاب . < < طه : ( 127 ) وكذلك نجزي من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وكذلك نجزي من أسرف ) أي : من أشرك .
وقوله تعالى : ( ^ ولم يؤمن بآيات ربه ) ظاهر المعنى .
وقوله : ( ^ ولعذاب الآخرة أشد وأبقى ) . أي : أعظم وأدوم . < < طه : ( 128 ) أفلم يهد لهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ أفلم يهد لهم ) وقرئ : ' نهد ' بالنون ، فقوله : ( ^ يهد ) بالياء أي : يهدي القرآن ، ومعنى نهدي : نبين ، وقوله : ' نهدي ' أي : نبين نحن ، وصلته باللام دليل على أنه بمعنى التبين .
وقوله : ( ^ كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم ) قال أهل التفسير :
____________________

( ^ كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات لأولي النهى ( 128 ) ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى ( 129 ) فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح ) * * * * هذا الخطاب لقريش ، وقد كانوا يسافرون إلى الشام ، فيرون ديار المهلكين من أصحاب الحجر وثمود وقريات لوط .
وقوله : ( ^ إن في ذلك لآيات ) أي : لدلالات وعبرا .
وقوله : ( ^ لأولي النهى ) أي : لأولي العقول ، يقال : فلان ذو نهية أي : ذو عقل . < < طه : ( 129 ) ولولا كلمة سبقت . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولولا كلمة سبقت من ربك ) فيه تقديم وتأخير ، ومعناه : ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى ( ^ لكان لزاما ) أي : العذاب لزاما ، والكلمة هي الحكم بتأخير العذاب ، والأجل المسمى هو وعد القيامة ، قال الله تعالى : ( ^ بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر ) .
وقوله تعالى : ( ^ لزاما ) أي : العذاب لا يفارقهم . < < طه : ( 130 ) فاصبر على ما . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك ) أي : صل بأمر ربك .
وقوله : ( ^ قبل طلوع الشمس ) هو الفجر . ( ^ وقبل غروبها ) هو العصر ( ^ ومن آناء الليل ) المغرب والعشاء . والآناء جمع إنى ، والإنى : الساعة .
وقوله : ( ^ وأطراف النهار ) هو الظهر . فإن قيل : كيف سمي أطراف النهار ؟ قلنا : لأنه طرف النصف الأول انتهاء ، وطرف النصف الثاني ابتداء ، وهذا قول قتادة وأكثر المفسرين . وقال بعضهم : أطراف النهار : ساعات النهار للتطوع ، وعلى هذا قوله : قبل غروب الشمس دخل فيه الظهر والعصر ، وقال بعضهم : أطراف النهار المراد منه الصبح والعصر ، وهو مذكور لتأكيد ما سبق . وقد ثبت برواية جرير بن عبد الله البجلي قال : ' كنا جلوسا مع النبي ، فنظر إلى القمر ليلة البدر ، فقال : ' إنكم سترون ربكم مثل هذا ، وأشار إلى القمر ، لا تضامون في رؤيته ، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة
____________________

( ^ وأطراف النهار لعلك ترضى ( 130 ) ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه وزرق ربك خير وأبقى ( 131 ) وأمر أهلك بالصلاة ) * * * * قبل غروب الشمس ، وقبل طلوعها فافعلوا ، ثم قرأ هذه الآية : ( ^ فسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ) . قال الشيخ الإمام : أخبرنا بهذا المكي بن عبد الرزاق ، قال : أخبرنا جدي أبو الهيثم ، قال : حدثنا الفربري ، قال : نا البخاري رضي الله عنه ، قال : نا إسحاق بن إبراهيم ، عن جرير بن عبد الحميد الضبي ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس بن أبي حازم عن جرير . . . . . . الحديث .
قوله : ( ^ لعلك ترضى ) أي : لعلك ترضى ثوابه ، وقرىء : ' لعلك تُرضى ' على ما لم يسم فاعله ، أي : تعطى ثوابه . < < طه : ( 131 ) ولا تمدن عينيك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ) روي عن أبي رافع ' أن النبي نزل به ضيف ، ولم يكن عنده شيء ، فبعث إلى يهودي يستقرض منه طعاما ، فأبى إلا برهن ، فرهن منه درعه وحزن منه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ' .
وقوله : ( ^ أزواجا منهم ) أي : رجالا ، وقيل : أضيافا منهم .
وقوله : ( ^ زهرة الحياة الدنيا ) . ( زينة الحياة الدنيا ، وقيل : زهرة الحياة الدنيا ) بهجتها وحسنها ، وما تروق الناظر منهما .
وقوله : ( ^ لنفتنهم فيه ) أي : نوقعهم في الفتنة بسببه .
وقوله : ( ^ ورزق ربك خير وأبقى ) أي : خير لك في الآخرة ، وأبقى بركة في الدنيا .
وروي عن أبي بن كعب أنه قال : من لم يتعز بعز الله تعالى تقطعت نفسه حسرات ، ومن يتبع بصره ما في أيدي الناس يطل حزنه ، ومن ظن أن نعمة الله تعالى
____________________

( ^ واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى ( 132 ) وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى ( 133 ) ولو أنا أهلكناهم بعذاب ) * * * * في مطعمه ومشربه وملبسه ، فقد قل عمله وحضر عذابه .
وعن يزيد بن ميسرة ، أنه قال : كانوا يسمون الدنيا : خنزيرة ، ولو علموا اسما أسوء منه لسموها به ، فكانت إذا أقبلت على أحدهم ، قال : إليك يا خنزيرة . < < طه : ( 132 ) وأمر أهلك بالصلاة . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها ) في قوله : ( ^ أهلك ) قولان : أحدهما : أهل دينك ، والآخر : قرابتك وقومك .
وفي بعض المسانيد عن سلمان الفارسي رضي الله عنه أن النبي كان إذا أصاب أهله خير أمرهم بالصلاة ، وتلا هذه الآية ( ^ وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها ) .
وقوله : ( ^ لا نسألك رزقا ) أي : لا نسألك أن ترزق أحدا من خلقي ، ولا أن ترزق نفسك ، وقيل : ثوابا .
وقوله : ( ^ نحن نرزقك ) . أي : نوصل إليك رزقك ، وقيل : ننشئك .
وقوله : ( ^ والعاقبة للتقوى ) أي : ( لأهل ) التقوى . < < طه : ( 133 ) وقالوا لولا يأتينا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه ) أي : الآية المقترحة ، فإنه كان قد أتاهم بآيات كثيرة .
وقوله : ( ^ أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى ) أي : بيان ما في الصحف الأولى من أنباء الأمم ، فإنهم اقترحوا الآيات ، فأعطوا ولم يؤمنوا ، فأهلكهم الله تعالى ، ولو أعطينا هؤلاء أيضا ، ولم يؤمنوا ألحقنا إهلاكهم .
____________________

( ^ من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى ( 134 ) قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى ( 135 ) ) * * * * < < طه : ( 134 ) ولو أنا أهلكناهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله ) أي : من قبل إرسال الرسل وإنزال القرآن .
قوله : ( ^ لقالوا لولا أرسلت إلينا رسولا ) أي : لقالوا يوم القيامة .
وقوله : ( ^ فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى ) أي : نذل في الدنيا ، ونخزى في الآخرة . والذل : الهوان ، والخزي : الافتضاح . < < طه : ( 135 ) قل كل متربص . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قل كل متربص ) روي أن المشركين قالوا : نتربص بمحمد حوادث الدهر ، فإذا مات تخلصنا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ( ^ قل كل متربص ) أي : منتظر .
وقوله : ( ^ فتربصوا ) أي : فانتظروا .
وقوله : ( ^ فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ) في الشاذ : ' من أصحاب الصراط السوى ' على وزن فُعلى ، والمعروف : ' السوى ' . ومعنى الصراط السوى : الدين القويم .
وقوله ( ^ ومن اهتدى ) أي : من هدى ورشد ، والمهتدون نحن أم أنتم ؟
____________________

<
> بسم الله الرحمن الرحيم <
> ( ^ اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون ( 1 ) ما يأتيهم من ذكر من ربهم ) * * * * <
> تفسير سورة الأنبياء <
>
وهي مكية ، قال ابن مسعود : سورة بني إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء من العتاق الأول ، وهن من تلادي . < < الأنبياء : ( 1 ) اقترب للناس حسابهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ اقترب للناس حسابهم ) قوله : ( ^ اقترب ) : افتعل ، من القرب . وقوله : ( ^ للناس حسابهم ) أي : وقت حسابهم ، وقيل : عذابهم ، وقد ثبت عن النبي أنه قال : ' من نوقش في الحساب عذب . والآية في المشركين دون المؤمنين ، وهذا قوله بعضهم ، وإنما سمى الساعة قريبة ؛ لأنها كانت لا محالة ، وكل ما هو كائن لا محالة فهو قريب ، وأيضا فإن ما بقي من الدنيا في جنب ما مضى ( قليل ) ، فسمى الساعة قريبة ؛ على هذا المعنى ، وقد روي أنه لما نزلت هذه الآية ارتدع المشركون عن بعض ما هم عليه ، ثم لما لم يروا للقيامة أثرا انهمكوا فيما كانوا ، وهكذا روي أيضا في قوله تعالى : ( ^ أتى أمر الله ) ، والله أعلم .
وقوله : ( ^ وهم في غفلة معرضون ) أي : هم غافلون معرضون ، وقيل : في اشتغال بالباطل عن الحق ، ويقال : وهم في غفلة عما يراد بهم وأريدوا به . < < الأنبياء : ( 2 ) ما يأتيهم من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث ) استدل المعتزلة بهذا على أن القرآن مخلوق ، وقالوا : كل محدث مخلوق ، والجواب عنه : أن معنى قوله : ( ^ محدث ) أي : محدث تنزيله ، ذكره الأزهري وغيره ، ويقال : أنزل في زمان بعد زمان ، قال الحسن البصري : كلما جدد لهم ذكرا استمروا على جهلهم ، وذكر النقاش في تفسيره : أن الذكر المحدث هاهنا ما ذكره النبي ، وبينه من السنن والمواعظ
____________________

( ^ محدث إلا استمعوه وهم يلعبون ( 2 ) لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون ( 3 ) قال ربي يعلم القول في السماء ) * * * * والدلائل سوى ما في القرآن ، وأضافه إلى الرب ؛ لأنه قاله بأمر الرب تعالى .
وقوله : ( ^ إلا استمعوه وهم يلعبون ) أي : استمعوه لاعبين . < < الأنبياء : ( 3 ) لاهية قلوبهم وأسروا . . . . . > >
وله تعالى : ( ^ لاهية قلوبهم ) أي : غافلة ، وقيل : مشتغلة بالباطل عن الحق . قال امرؤ القيس :
( فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع ** فألهيتها عن ذي تمائم محول )
أي شغلتها .
وقوله : ( ^ وأسروا النجوى ) فيه قولان : أحدهما : وأخفوا النجوى ، والآخر : وأظهروا النجوى ، والعرب تقول : أسر إذا أخفى ، وأسر إذا أظهر ، وقال بعض أهل اللغة : أسر إذا أخفى بالسين غير المعجمة ، وأشر إذا أظهر بالشين المعجمة . قال الشاعر :
( ولما رأى الحجاج جرد سيفه ( أسر ) الحروري الذي كان أضمرا )
وقوله : ( ^ الذين ظلموا ) أي : أشركوا .
وقوله : ( ^ هل هذا إلا بشر مثلكم ) أنكروا إرسال البشر ، وطلبوا إرسال الملائكة .
وقوله : ( ^ أفتأتون السحر ) أي : تحضرون السحر وتقبلونه .
وقوله : ( ^ وأنتم تبصرون ) أي : تعلمون أنه سحر . < < الأنبياء : ( 4 ) قال ربي يعلم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال ربي يعلم القول في السماء والأرض ) يعني : القول يسر به ، ويجهر به في السماء والأرض .
وقوله : ( ^ وهو السميع العليم ) ظاهر المعنى .
____________________

( ^ والأرض وهو السميع العليم ( 4 ) بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون ( 5 ) ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناهم أفهم يؤمنون ( 6 ) وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ( 7 ) وما ) * * * * < < الأنبياء : ( 5 ) بل قالوا أضغاث . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ بل قالوا أضغاث أحلام ) أي : تهاويل أحلام ، ويقال : أخلاط أحلام ، ويقال : ما لا تأويل له ولا تفسير .
قال الشاعر :
( أحاديث [ طسم ] أو سراب بقيعة ** ترقرق للساري وأضغاث حالم )
وقوله : ( ^ بل افتراه ) أي : اختلقه .
وقوله : ( ^ بل هو شاعر ) أي : مثل أمية بن الصلت ومن أشبه ، والمراد من الآية : بيان تناقضهم في قولهم ، وأنهم غير مستقرين على شيء واحد .
وقوله : ( ^ فليأتنا بآية كما أرسل الأولون ) بالآيات ، وطلبوا آية مثل الناقة أو عصا موسى ، ويد موسى ، وما أشبه ذلك ، وقد كان الله تعالى بين الآيات سوى ما طلبوا . < < الأنبياء : ( 6 ) ما آمنت قبلهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها ) معناه : ما آمنت قبلهم من أهل قرية طلبوا آية فأعطوا ، أي : أعطيناهم الآية ، ولم يؤمنوا . وقوله : ( ^ أهلكناها ) أي : حكمنا بهلاكها .
وقوله : ( ^ أفهم يؤمنون ) معناه : كما لم يؤمن أولئك ، فلا يؤمن هؤلاء . < < الأنبياء : ( 7 ) وما أرسلنا قبلك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم ) يعني : أنا لم نرسل الملائكة قبلك إلى الأولين ، فنرسل ملكا إلى قومك .
وقوله : ( ^ فاسألوا أهل الذكر ) الأكثرون على أن المراد بأهل الذكر مؤمنو أهل
____________________

( ^ جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين ( 8 ) ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين ( 9 ) لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون ( 10 ) وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين ( 11 ) فلما أحسوا ) * * * * الكتاب ، وعن علي - رضي الله عنه - أنهم علماء هذه الأمة .
وقوله : ( ^ إن كنتم لا تعلمون ) ظاهر المعنى . < < الأنبياء : ( 8 ) وما جعلناهم جسدا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وما جعلناهم جسدا ) أي : ذوي أجساد .
وقوله : ( ^ لا يأكلون الطعام ) معلوم . وقوله : ( ^ وما كانوا خالدين ) أي : في الدنيا ، وهذا رد لقولهم : ( ^ وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام . . . ) الآية . < < الأنبياء : ( 9 ) ثم صدقناهم الوعد . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ثم صدقناهم الوعد ) معناه : صدقناهم الوعد في العقاب والثواب .
وقوله : ( ^ فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين ) أي : أنجينا المؤمنين ، وأهلكنا المكذبين ، وكل مكذب مشرك مسرف على نفسه ، والسرف : مجاوزة الحد . < < الأنبياء : ( 10 ) لقد أنزلنا إليكم . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم ) فيه أقوال : أحدها : ذكركم أي : حديثكم ، وقيل ذكركم أي : ذكركم ما تحتاجون إليه من دينكم ، وقال مجاهد : ذكركم أي : شرفكم ، وهو شرف لمن يؤمن به ، لا لمن يكفر به .
وقوله : ( ^ أفلا تعقلون ) أي : أفلا تعتبرون . < < الأنبياء : ( 11 ) وكم قصمنا من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وكم قصمنا ) القصم : الكسر ، والفصم - بالفاء - الصدع ، وفي الخبر : ' يرفع أهل الدرجات العلا إلى غرفة من در ليس فيها قصم ولا فصم ' .
وقوله : ( ^ من قرية كانت ظالمة ) أي : ظلم أهلها .
وقوله : ( ^ وأنشئنا بعدها قوما آخرين ) أي : فريقا آخرين . < < الأنبياء : ( 12 ) فلما أحسوا بأسنا . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ فلما أحسوا بأسنا ) أي : ( وجدوا عذابنا ) ، وقيل : وصل إليهم
____________________

( ^ بأسنا إذا هم منها يركضون ( 12 ) لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون ( 13 ) قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين ( 14 ) فما زالت تلك دعواهم حتى ) * * * * عذابنا .
وقوله : ( ^ إذا هم منها يركضون ) أي : يهربون ركضا ، يقال : ركض الدابة إذا أسرع في سيرها . < < الأنبياء : ( 13 ) لا تركضوا وارجعوا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ لا تركضوا ) أي : لا تهربوا .
وقوله : ( ^ وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ) أي : نعمتم فيه ، والمترف : المنعم ، وقيل : إلى دنياكم ( ^ ومساكنكم ) التي نعمتم فيها . قال أكثر أهل التفسير : هذه الآيات نزلت في أهل مدينة كفروا ، فسلط الله عليهم بعض الجبابرة - وقيل : كان بختنصر - فلما أصابهم عذاب السيف هربوا ، فقال لهم الملائكة ، والسيوف قد أخذتهم : لا تهربوا ، وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم . ( ^ لعلكم تسألون ) من دنياكم ، فتعطون من شئتم ، وتمنعون من شئتم ، قالوا هذا لهم استهزاء ، وقد قيل : هذا في أهل مدينة أصابهم عذاب من السماء ، فخرجوا هاربين ، وقال لهم الملائكة هذا القول ، ويقال في قوله : ( ^ لعلكم تسألون ) أي : تسألون لم تركتم ما يصلح دينكم وأمر آخرتكم ، واشتغلتم بما يوجب العذاب عليكم ؟ ويقال : لعلكم تسألون عما عاينتم من العذاب ، قالت الملائكة هذا توبيخا لهم . < < الأنبياء : ( 14 ) قالوا يا ويلنا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين ) الويل : دعاء الهلاك .
وقوله : ( ^ ظالمين ) أي : ظالمين لأنفسنا . < < الأنبياء : ( 15 ) فما زالت تلك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فما زالت تلك دعواهم ) أي : دعاؤهم وقولهم .
وقوله : ( ^ حتى جعلناهم حصيدا خامدين ) الحصيد : هو المستأصل .
وقوله : ( ^ خامدين ) أي : ميتين ، ومعنى الآية : جعلناهم كأن لم يكونوا . < < الأنبياء : ( 16 ) وما خلقنا السماء . . . . . > >
قوله سبحانه وتعالى : ( ^ وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين ) أي :
____________________

( ^ جعلناهم حصيدا خامدين ( 15 ) وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين ( 16 ) لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين ( 17 ) بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون ( 18 ) وله من في السموات والأرض ) * * * * للعب . < < الأنبياء : ( 17 ) لو أردنا أن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ لو أردنا أن نتخذ لهوا ) اختلفوا في اللهو هاهنا على قولين : أحدهما : أن اللهو هو المرأة ، والآخر : أن اللهو هو الولد ، وهو في المرأة أظهر ؛ فإن الوطء يسمى لهوا في اللغة ، والمرأة محل الوطء ، قال الشاعر :
( ألا زعمت بسباسة اليوم أنني ** كبرت وألا يحسن اللهو أمثالي )
وعن بعضهم : أن اللهو هو الغناء ، وهو ضعيف في هذا الموضع .
وقوله : ( ^ لاتخذناه من لدنا ) أي : لاتخذناه من عندنا لا من عندكم ، ويقال : اتخذناه بحيث لا ترون ) .
وقوله : ( ^ إن كنا فاعلين ) أي : ما كنا فاعلين ، ويقال : إن كنا فاعلين ، ولم نفعله ؛ لأنه لا يليق بنا . < < الأنبياء : ( 18 ) بل نقذف بالحق . . . . . > >
قوله سبحانه وتعالى : ( ^ بل نقذف بالحق على الباطل ) الحق هاهنا : قول الله تعالى : ' إنه لا ولد له ' والباطل قولهم : إن الله اتخذ ولدا ، ويقال : إن الحق هو القرآن ، والباطل هو الشيطان .
وقوله : ( ^ نقذف ) أي : نلقي .
وقوله : ( ^ فيدمغه ) أي : يزيله ، يقال : دمغت فلانا إذا كسرت دماغه وقتلته .
وقوله : ( ^ فإذا هو زاهق ) أي : ذاهب ، وهذا من حيث بيان الدليل والحجة ، لا من حيث إزالة الكفر أصلا ، فإن الكفر والباطل في العالم كثير .
وقوله : ( ^ ولكم الويل مما تصفون ) قال قتادة : مما تكذبون ، وقال الحسن : هو لكل واصف كذبا إلى يوم القيامة .
____________________

( ^ ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون ( 19 ) يسبحون الليل والنهار لا يفترون ( 20 ) أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون ( 21 ) لو كان فيهما آلهة إلا الله ) * * * * < < الأنبياء : ( 19 ) وله من في . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وله من في السموات والأرض ) أي : من في السموات والأرض عبيدا وملكا .
وقوله : ( ^ ومن عنده ) أي : الملائكة .
وقوله : ( ^ لا يستكبرون عن عبادته ) . أي : لا يتعظمون عن عبادته ، وذكر ابن فارس في تفسيره في خبر : أن الله تعالى لما استوى على عرشه ، سجد ملك فلا يرفع رأسه من السجود إلى يوم القيامة ، فإذا رفع رأسه يوم القيامة قال : سبحانك ، ما عبدتك حق عبادتك غير أني لم أشرك بك ، ولم أتخذ لك ندا .
وقوله : ( ^ ولا يستحسرون ) أي : لا يعيون ، يقال : دابة حسيرة إذا كانت عيية ، قال كعب الأحبار : التسبيح لهم كالتنفس لبني آدم . < < الأنبياء : ( 20 ) يسبحون الليل والنهار . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يسبحون الليل والنهار لا يفترون ) يعني : يسبحون دائما ، لا يضعفون ولا يفنون ، واعلم أنه ليس عند الملائكة ليل ولا نهار ؛ وإنما المراد بذكر الليل والنهار هاهنا : هو الدوام على التسبيح . < < الأنبياء : ( 21 ) أم اتخذوا آلهة . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون ) معنى قوله : ( ^ من الأرض ) أي : من الخشب والحجارة ، ( وقد كانت عامة أصنام المشركين من الخشب والحجارة ) ، وهما من الأرض .
وقوله : ( ^ هم ينشرون ) أي : يحيون ، ولا يستحق الإلهية إلا من يقدر على الإحياء والإيجاد من العدم ؛ لأنه الإنعام بأبلغ وجوه النعم ، وهذا لا يليق بوصف البشر وكل محدث . وأنشدوا للأعشى في الانتشار :
( لو أسندت ميتا إلى نحرها ** عاش ولم ينقل إلى قابر )
( حتى يقول الناس مما رأوا ** أيا عجبا للميت الناشر )
____________________

( ^ لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون ( 22 ) لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ) * * * *
وقرىء : ' ينشرون ' بفتح الياء أي : يحيون أبدا ، ومعنى الآية هو الإنكار على متخذ الأصنام آلهة ، وبيان أنه لا يليق بها الإلهية . < < الأنبياء : ( 22 ) لو كان فيهما . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) قال أكثر أهل التفسير : ' إلا ' هاهنا بمعنى ' غير ' ، قال الشاعر :
( وكل أخ مفارقه أخوه ** لعمرو أبيك إلا الفرقدان )
يعني : غير الفرقدين ، وهذا على ما اعتقدوا من دوام السماء والأرض .
وقال بعضهم : ( ^ إلا الله ) ' إلا ' بمعنى ' الواو ' هاهنا ، ومعناه : لو كان فيهما آلهة والله ( أيضا ) لفسدتا ، ومعنى الفساد في السماء والأرض إذا كان الإله اثنين ، هو فساد التدبير وعدم انتظام الأمور بوقوع المنازعة والمضادة ، وهو أيضا معنى قوله تعالى : ( ^ ولعلا بعضهم على بعض ) .
وقوله : ( ^ فسبحان الله رب العرش عما يصفون ) نزه نفسه عما يصفه به المشركون من الشريك والولد . < < الأنبياء : ( 23 ) لا يسأل عما . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ لا يسأل عما يفعل وهم ( يسألون ) ) يعني : لا يسأل عما يحكم على خلقه ، والخلق يسألون عن ( أفعالهم وأعمالهم ) ، وقيل : لا يسأل عما يفعل ؛ لأنه كله حكمة وصواب ، وهم يسألون عما يفعلون لجواز الخطأ عليهم ، وقيل : معنى لا يسأل عما يفعل : لا يقال له : لم ؟ ، ولماذا ؟ بخلاف الخلق ، وفي الآية رد على القدرية ، وقطع شبهتهم بالكلية .
وقد روى أبو الأسود الدؤلي أن عمران بن حصين قال له : أرأيت ما يسعى فيه الناس ويكدحون ، أهو أمر قضي عليهم أو شيء يستأنفونه ؟ فقلت : لا ، بل أمر قضي عليهم ، قال : أفلا يكون ظلما ؟ قلت : سبحان الله ( ^ لا يسأل عما يفعل وهم
____________________

( ( 23 ) أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون ( 24 ) وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي ) * * * * يسألون ) فقال لي : أصبت يا أبا الأسود ، وقد أجزت عقلك ، ثم روى عمران أن رجلا من جهينة - أو مزينة - أتى النبي قال له : عما يفعل الناس أو يكدحون فيه ، أهو شيء قضي عليهم ؟ أم شيء يستأنفونه ؟ فقال النبي : ' هو شيء قضي عليهم ، فقال ذلك الرجل : يا رسول الله ، أفلا يكون ظلما ؟ قال : لا ، ثم تلا قوله تعالى : ( ^ لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ) ' قال الشيخ : وقد ذكرنا هذا الخبر في كتاب ' مسند القدر ' . < < الأنبياء : ( 24 ) أم اتخذوا من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم ) أي : حجتكم .
وقوله : ( ^ هذا ذكر من معي ) أي : ذكر من معي ( بما ) أمروا من الحلال والحرام .
وقوله : ( ^ وذكر من قبلي ) أي : من يحيى منهم بالطاعة وهلك بالمعصية ، وعن ابن عباس قال : ذكر من معي فهو القرآن ، وذكر من قبلي هو التوراة والإنجيل ، ومعناه : راجعوا القرآن والتوراة والإنجيل وسائر الكتب ، هل تجدون فيها أن الله اتخذ ولدا ؟
وقوله : ( ^ بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون ) ظاهر المعنى . < < الأنبياء : ( 25 ) وما أرسلنا من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) أي : وحدون . < < الأنبياء : ( 26 ) وقالوا اتخذ الرحمن . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وقالوا اتخذ الرحمن ولدا ) قال قتادة : قال طائفة من المشركين : إن الله تعالى صاهر الجن ، فالملائكة بناته .
____________________

( ^ إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ( 25 ) وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون ( 26 ) لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ( 27 ) يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ( 28 ) ومن يقل منهم إني ) * * * *
وقوله : ( ^ سبحانه ) نزه نفسه عما قالوا .
وقوله : ( ^ بل عباد مكرمون ) أي : عبيد مكرمون . < < الأنبياء : ( 27 ) لا يسبقونه بالقول . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ لا يسبقونه بالقول ) هذا ثناء من الله على الملائكة ، ومعنى قوله : ( ^ لا يسبقونه بالقول ) أنهم لا يقولون قولا بخلافه ، وهذا مثل قوله تعالى : ( ^ يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ) أي : لا تقولوا قولا بخلاف الكتاب والسنة ، وقد ثبت برواية عائشة - رضي الله عنها - عن النبي أنه قال : ' من أحدث في ديننا ما ليس منه فهو رد ' . والإحداث في الدين أن يقول بخلاف الكتاب والسنة .
وقوله : ( ^ وهم بأمره يعملون ) معناه : أنهم لا يخالفونه ، لا قولا ، ولا عملا ، ويقال معناه : إذ أمر بأمر أطاعوا ، فإذا قال لهم : افعلوا قالوا : طاعة . < < الأنبياء : ( 28 ) يعلم ما بين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ) أي : ما قدموا وأخروا ، وقيل : ما بين أيديهم هو الآخرة ، وما خلفهم أعمالهم .
وقوله : ( ^ ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ) معناه : إلا لمن قال : لا إله إلا الله ، ويقال : إلا لمن رضي الله عنه عمله .
وقوله : ( ^ وهم من خشيته مشفقون ) أي : من عذابه . < < الأنبياء : ( 29 ) ومن يقل منهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين ) . فإن قيل : هل قال أحد من الملائكة إني إله من دونه ؟ ( قلنا ) معناه : لو
____________________

( ^ إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين ( 29 ) أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون ) * * * * قالوا ، ولم يقولوا ، والجواب المعروف : أن المراد منه إبليس لعنه الله ؛ فإنه دعا الناس إلى طاعته ، فهو معنى قوله : ( ^ ومن يقل منهم إني إله ) وهذا دليل على أن من دعا إنسانا إلى طاعته في معصية الخالق فكأنه قال : اعبدني أو اتخذني إلها . < < الأنبياء : ( 30 ) أولم ير الذين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما ) فإن قال قائل : قد قال : أو لم ير الكفار ، [ و ] لم يروا شيئا من هذا ولا المسلمون ! والجواب عنه : أن معناه أو لم يعلموا بإخبارك إياهم ، وقيل : أو لم يخبروا . وأما الرتق في اللغة هو السد ، والفتق هو الشق ، قال الشاعر :
( يهون عليهم إذا يغضبون ** سخط العداة وإرغامها )
( ورتق الفتوق وفتق الرتوق ** ونقض الأمور وإبرامها )
وأما معنى الآية : قال ابن عباس : قوله : ( ^ كانتا رتقا ) أي : كان السماء والأرض ملتصقين ، ففتقناهما بالهواء ، وقال غيره : معناه : كان السماء شيئا واحدا ، ففتقناها ، وجعلناها سبع سموات ، وكانت الأرض شيئا واحدا ففتقناها ، وجعلناها سبع أرضين ، والقول الثالث قاله مجاهد : فتقنا السماء بالمطر ، والأرض بالنبات .
وقوله : ( ^ وجعلنا من الماء كل شيء حي ) فإن قال قائل : قد خلق بعض ما هو حي من غير الماء ، فكيف يستقيم قوله : ( ^ وجعلنا من الماء كل شيء حي ) ؟ وأيضا فإن الإنسان قد يموت بالماء ، والشجر والنبات قد يهلك بالماء ؟ والجواب من وجهين : أحدهما : أن الماء هاهنا هو النطفة ، والحي هو الآدمي ، ومعناه : كل شيء حي من الآدمي . والجواب الثاني : أن هذا على وجه التكثير ، وأكثر الأحياء في الأرض إنما هو مخلوق من الماء أو بقاؤه بالماء ، فاستقام معنى الآية من هذا الوجه .
____________________

( ( 30 ) وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون ( 31 ) وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون ( 32 ) وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون ( 33 ) ) * * * *
وقوله : ( ^ أفلا يؤمنون ) ظاهر المعنى . < < الأنبياء : ( 31 ) وجعلنا في الأرض . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وجعلنا في الأرض رواسي ) أي : جبالا ثوابت ، وقيل : ثقالا ، قال الشاعر :
( رسا أصله تحت الثرى وسمائه ** إلى النجم فرع لا ينال طويل )
وقوله : ( ^ أن تميد بهم ) . أي : كراهة أن تميد بهم ، والميد : الحركة .
وقوله : ( ^ وجعلنا فيها فجاجا سبلا ) الفج هو الواسع بين الجبلين .
وقوله : ( ^ سبلا ) أي : طرقا مسلوكة .
وقوله : ( ^ لعلهم يهتدون ) أي : يهتدون إلى الحق . < < الأنبياء : ( 32 ) وجعلنا السماء سقفا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وجعلنا السماء سقفا محفوظا ) أي : محفوظا من وقوعه على الأرض ، وهو معنى قوله تعالى : ( ^ إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ) ويقال معناه : محفوظا عن الشياطين بالشهب .
وقوله : ( ^ وهم عن آياتها معرضون ) آياتها : شمسها وقمرها ونجومها وارتفاعها واستمساكها بغير عمد ، وغير ذلك . < < الأنبياء : ( 33 ) وهو الذي خلق . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر ) المعروف عن ابن عباس برواية عكرمة أنه قال : إن الله تعالى خلق الليل قبل النهار ، وقرأ قوله تعالى : ( ^ أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ) أي : كانتا مظلمة بالرتق ففتقتا بالضياء .
وقوله : ( ^ والشمس والقمر كل في فلك يسبحون ) أي : يجرون ، ويقال يدور
____________________

( ^ وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون ( 34 ) كل نفس ذائقة الموت ) * * * * بهم فلك دون السماء ، ويقال : يدور بهم السماء ، والله أعلم ؛ وإنما ذكر ( ^ يسبحون ) ولم يقل : يسبح على ما يقال لما لا يعقل ؛ لأنه ذكر عنهم ما يذكر من العقلاء ، وهو الجري والسبح ، فذكر على ما يعقل . < < الأنبياء : ( 34 ) وما جعلنا لبشر . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد ) كانوا يقولون : نتربص بمحمد ريب المنون ، فقال تعالى : ( ^ وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد ) يعني : أن الموت طريق معهود مسلوك لا بد منه لكل حي .
وقوله : ( ^ أفإن مت فهم الخالدون ) معناه : أفهم الخالدون إن مت ؟ وقد روي ' أن النبي لما توفي دخل أبو بكر - رضي الله عنه - ووضع فمه بين عينيه ويده على جانب رأسه ، وقال : يا رسول الله ، طبت حيا وميتا ، ثم قرأ قوله تعالى : ( ^ وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون ) وقد كان عمر يقول : إنه لم يمت ، فلما تلا أبو بكر هذه الآية ، فكأن الناس لم يسمعوا هذه الآية إللا ذلك الوقت ، وأعرضوا عن عمر ( وقوله ) ، وعلموا أنه قد مات ' . < < الأنبياء : ( 35 ) كل نفس ذائقة . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ كل نفس ذائقة الموت ) قد بينا من قبل .
وقوله : ( ^ ونبلوكم بالشر والخير ) أي : بالرخاء والشدة ، والصحة والسقم ، وبالإشقاء والإسعاد ، وغير ذلك مما يختلف على الإنسان ، وقيل : بالشر والخير أي : بما يحبون ويكرهون ، ويقال : الشر غلبة الهوى على الإنسان ، والخير العصمة من المعاصي ، قاله سهل بن عبد الله .
____________________

( ^ ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون ( 35 ) وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون ( 36 ) خلق الإنسان ) * * * *
وقوله : ( ^ فتنة ) أي : محنة وخبرة .
وقوله : ( ^ وإلينا ترجعون ) أي : تردون . < < الأنبياء : ( 36 ) وإذا رآك الذين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا ) أي : ما يتخذونك إلا هزوا .
وقوله : ( ^ أهذا الذي يذكر آلهتكم ) أي : يعيب آلهتكم ، يقال : فلان يذكر فلانا أي : يعيبه ، وفلان يذكر الله أي : يعظمه ويجله .
وقوله : ( ^ وهم بذكر الرحمن هم كافرون ) قال هذا ؛ لأنهم كانوا يقولون : لا نعرف الرحمن إلا مسيلمة ، وهم ' الثانية صلة . < < الأنبياء : ( 37 ) خلق الإنسان من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ خلق الإنسان من عجل ) فيه أقوال : أحدها : سرعة وتعجيل ، والإنسان هو آدم - صلوات الله عليه - وقد خلقه الله تعالى من غير ترتيب خلق سائر الآدميين من النطفة ، والعلقة ، والمضغة ، وغيره ، وهذا قول حسن . والقول الثاني : من عجل أي : عجولا ، ويجوز أن يكون المراد من الإنسان جميع بني آدم ، وأما ابن عباس فإنه قال : هو آدم لما نفخ الله فيه الروح وبلغ صدره ، أراد أن يقوم ، فهو عجلته . وذكر الكلبي : أنه لما نفخ فيه الروح نظر إلى الشمس فإذا هي تغرب ، فقال : اللهم أتم خلقي قبل أن تغرب الشمس ، فهو عجلته . والقول الثالث : خلق الإنسان والعجلة منه ، وقيل : والعجلة فيه ، وهذا على طريق المبالغة ، والعرب تقول للشرير : خلقت من الشر ، وكذلك تقول : خلق فلان من الخير إذا ذكر على طريق المبالغة .
والقول الرابع : قوله : ( ^ خلق الإنسان من عجل ) أي : من طين . قال الشاعر :
( والنبع في الصخرة الصماء منبته ** والنخل ينبت بين الماء والعجل )
أي : الطين .
____________________

( ^ من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون ( 37 ) ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ( 38 ) لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون ( 39 ) بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون ( 40 ) ) * * * *
وقوله : ( ^ سأريكم آياتي فلا تستعجلون ) هذا في المشركين ، فإنهم كانوا يستعجلون القيامة على ما قال الله تعالى في موضع آخر : ( ^ يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها ) وقال بعضهم : ( ^ سأريكم آياتي ) أي : مواعدي . وقوله : ( ^ فلا تستعجلون ) أي : لا تطلبوا العذاب مني قبل وقته ، وإنما نزلت هذه الآية ؛ لأن النضر بن الحارث كان قال : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم . < < الأنبياء : ( 38 ) ويقولون متى هذا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ) ظاهر المعنى . < < الأنبياء : ( 39 ) لو يعلم الذين . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون ) أي : لا يدفعون .
وقوله : ( ^ عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ) ظاهر المعنى .
وقوله : ( ولا هم ينصرون ) . أي : لا يمنعون من العذاب ، وفي الآية جواب محذوف ومعناه : لعلموا صدق وعدنا .
وقوله : ( ^ لو يعلم ) في ابتداء الآية معناه : لو يرى . < < الأنبياء : ( 40 ) بل تأتيهم بغتة . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ بل تأتيهم بغتة ) أي : القيامة فجأة .
وقوله : ( ^ فتبهتهم ) . أي : تحيرهم ، يقال : فلان مبهوت أي : متحير ، وهو معنى قوله تعالى : ( ^ فبهت الذي كفر ) .
وقوله : ( ^ فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون ) أي : يمهلون . < < الأنبياء : ( 41 ) ولقد استهزئ برسل . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولقد استهزىء برسل من قبلك ) ظاهر المعنى .
____________________

( ^ ولقد استهزىء برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون ( 41 ) قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون ( 42 ) أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون ( 43 ) بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها ) * * * *
وقوله : ( ^ فحاق بالذين سخروا منهم ) أي : نزل بالذين سخروا منهم . ( ^ ما كانوا به يستهزئون ) أي : جزاء استهزائهم . < < الأنبياء : ( 42 ) قل من يكلؤكم . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ قل من يكلؤكم ) أي : يحفظكم . قال الشاعر :
( إن سليمى فالله يكلؤها ** ضنت بشيء ما كان يرزؤها )
وقوله : ( ^ بالليل والنهار من الرحمن ) أي : من عذاب الرحمن ، والله تعالى يحفظ العباد من عذاب نفسه .
وقوله : ( ^ بل هم عن ذكر ربهم معرضون ) ظاهر المعنى . < < الأنبياء : ( 43 ) أم لهم آلهة . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا ) أي : تمنع العذاب عنهم من دوننا .
وقوله : ( ^ فلا يستطيعون نصر أنفسهم ) أي : منع أنفسهم .
وقوله : ( ^ ولا هم منا يصحبون ) أي : يجارون ، يقال : أجارك الله أي : حفظك ، وتقول العرب : صحبك الله أي : حفظك ونصرك ، وقد قيل : يصحبون أي : ينصرون . < < الأنبياء : ( 44 ) بل متعنا هؤلاء . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ بل متعنا هؤلاء وآباءهم ) أي : أملينا وأمهلنا ، ويقال : متعنا أي : أعطيناهم النعمة .
وقوله : ( ^ حتى طال عليهم العمر ) أي : امتد بهم الزمان .
وقوله : ( ^ أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها ) الأكثرون : أن هذا هو ظهور النبي ، وفتحه ديار الشرك أرضا أرضا وبلدة بلدة ، والدليل على صحة هذا
____________________

( ^ أفهم الغالبون ( 44 ) قل إنما أنذركم بالوحي ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون ( 45 ) ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين ( 46 ) ونضع ) * * * * التأويل أنه قال : ( ^ أفهم الغالبون ) أي : ليست الغلبة لهم ؛ إنما الغلبة لي ولرسولي ، وعن ابن جريج قال : ما ينقص من سائر الأرضين يزاد في الشام ، وما ينقص من الشام يزاد في أرض فلسطين ، وبها المحشر . وقال عكرمة : لو نقص من الأرض ما وجد أحد مكانا يقعد فيه ، ولكن المراد من الآية ذهاب خيارها وعلماؤها ، ويقال : هو موت أهلها ، وقيل : خرابها . < < الأنبياء : ( 45 ) قل إنما أنذركم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قل إنما أنذركم بالوحي ) أي : بالقرآن .
وقوله : ( ^ ولا يسمع الصم الدعاء ) وقرىء : ' لا يسمع الصم الدعاء ' ، وقرأ عبد الرحمن المقرىء : ' لا تسمع الصم الدعاء ' ، وأما المعروف هو ظاهر المعنى ، والصم هم الكفار ، وسماهم صما ، لأنهم لم يسمعوا ما ينفعهم .
وقوله : ( ^ إذا ما ينذرون ) أي : يخوفون بالوحي . < < الأنبياء : ( 46 ) ولئن مستهم نفحة . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولئن مستهم نفحة ) النفحة هي : الدفعة اليسيرة ، تقول العرب : نفح فلان بالسيف على هذا المعنى ، وهي بخلاف . . . والنفخة لا بد فيها من خروج الريح من الخوف ، ومعنى ( ^ ولئن مستهم نفحة ) أي : طرف من عذاب ربك ، وقيل : أدنى شيء من عذاب ربك .
وقوله : ( ^ ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين ) معناه : يا هلاكنا ، إنا كنا مشركين ، كأنهم أقروا على أنفسهم باستحقاق العقوبة . < < الأنبياء : ( 47 ) ونضع الموازين القسط . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ونضع الموازين القسط ) معناه : ذوات القسط ، والقسط ، العدل ، وفي المشهور في الأخبار : أن الميزان له لسان وكفتان ، وفي بعض المأثور : أن داود - عليه السلام - قال : يا رب : أرني الميزان الذي يوزن به أعمال العباد ، فأراه إياه ،
____________________

( ^ الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها ) * * * * وكل كفة منه مثل ما بين المشرق والمغرب ، فقال : يا رب : ومن يملأ هذا من الحسنات ؟ فقال : باداود ، إذا رضيت عن عبدي ملأته بكسرة أو تمرة والله أعلم .
وأما كيفية الوزن فقد قال بعضهم إنه يوزن الحسنات والسيئات ، وقيل : يوزن خواتيم الأعمال ، وقال بعضهم : الميزان علامة يعرف بها مقادير استحقاق الثواب والعقاب ، والصحيح هو الميزان حقيقة ، فإن قيل : قد قال في موضع آخر : ( ^ فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ) فكيف التوفيق بين الآيتين ؟ والجواب عنه : أن معنى قوله : ( ^ فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ) أي : لا يستقيم وزنهم على الحق ، فإن ميزانهم شائل ناقص خفيف ، ويقال : ( ^ فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ) أي : ثوابا ، قال بعض الخوارج في ضربة ابن ملجم لعلي رضي الله عنه : -
( يا ضربة من تقى ما أراد بها ** إلا ليدرك من ذي العرش رضوانا )
( إني لأذكر يوما فأحسبه ** أوفى البرية عند الله ميزانا )
أي ثوابا ، ونحن نبرأ من معنى هذا الشعر ومن قائله .
وقوله تعالى : ( ^ فلا تظلم نفس شيئا ) أي : [ لا ] يزاد في سيئاته ، ولا ينقص من حسناته .
وقوله : ( ^ وإن كان مثقال حبة من خردل ) أي : زنة حبة خردل .
وقول : ( ^ أتينا بها ) أي : أحضرناها ؛ لنجازى عليها .
وقرىء في الشاذ : ' آتينا بها ' بمد الألف ، من الإيتاء أي : جازينا بها أو أعطينا بها .
وقوله : ( ^ وكفى بنا حاسبين ) أي : محاسبين ، وقيل : حافظين عالمين ، وقيل : محصين .
____________________

( ^ وكفى بنا حاسبين ( 47 ) ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين ( 48 ) الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون ( 49 ) وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون ( 50 ) ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين ( 51 ) إذ قال ) * * * * < < الأنبياء : ( 48 ) ولقد آتينا موسى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان ) فيه قولان : أحدهما : أنه التوراة ، والآخر : أنه البرهان الذي فرق به بين حق موسى وباطل فرعون .
وقوله : ( ^ وضياء ) وقرىء بغير الواو ، فأما بالواو فهو صفة أخرى للتوراة ، إذا حملنا الفرقان على التوراة ، وإن حملناه على البرهان ، فمعناه : أعطيناه البرهان ، وأعطيناه التوراة التي هي ضياء ، فأما بغير الواو فمعنى الفرقان على هذا ليس إلا التوراة ، وقوله : ( ^ وضياء ) صفة لها .
وقوله : ( ^ وذكرا للمتقين ) أي : تذكيرا للمتقين . < < الأنبياء : ( 49 ) الذين يخشون ربهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ الذين يخشون ربهم بالغيب ) إنما قال : ( ^ بالغيب ) ؛ لأن المؤمنين يخشونه ولا يرونه ، فأما هو يراهم وليسوا بغيب عنه . وقوله : ( ^ وهم من الساعة مشفقون ) أي : خائفون . < < الأنبياء : ( 50 ) وهذا ذكر مبارك . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وهذا ذكر مبارك أنزلناه ) قد بينا معنى المبارك ، وقيل : يتبرك به أي : يطلب منه الخير .
وقوله : ( ^ أفأنتم له منكرون ) مذكور على وجه التوبيخ والذم لإنكارهم . < < الأنبياء : ( 51 ) ولقد آتينا إبراهيم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل ) في الرشد قولان : أحدهما : أنه الهداية ، والآخر : أنه النبوة .
وقوله : ( ^ من قبل ) فيه قولان : أحدهما : من قبل البلوغ ، وهو حين خرج من السرب ، وهو صغير ، ونظر إلى النجوم والشمس والقمر فاستدل ، كما ذكرنا في سورة الأنعام ، والقول الثاني : من قبل أي : من قبل موسى وهارون .
وقوله : ( ^ وكنا به عالمين ) أي : عارفين .
____________________

( ^ لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ( 52 ) قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين ( 53 ) قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين ( 54 ) قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين ( 55 ) قال بل ربكم رب السموات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين ( 56 ) وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين ( 57 ) فجعلهم جذاذا ) * * * * < < الأنبياء : ( 52 ) إذ قال لأبيه . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ) أي : الأصنام التي أنتم عليها مقيمون للعبادة . < < الأنبياء : ( 53 ) قالوا وجدنا آباءنا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين ) معناه : وجدناهم كذلك فاتبعناهم . < < الأنبياء : ( 54 ) قال لقد كنتم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين ) أي : في خطأ بين ، والبين الواضح ، والمبين الموضح . < < الأنبياء : ( 55 ) قالوا أجئتنا بالحق . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين ) أي : بالصدق والجد ، أم أنت من الهازئين ؟ < < الأنبياء : ( 56 ) قال بل ربكم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال بل ربكم رب السموات والأرض الذي فطرهن ) أي : خلقهن .
وقوله : ( ^ وأنا على ذلكم من الشاهدين ) أي : على أنه الإله الذي لا يستحق العبادة غيره ، وأن الأصنام ليست بآلهة ، وقيل : وأنا من الشاهدين على أنه خالق السموات والأرض . < < الأنبياء : ( 57 ) وتالله لأكيدن أصنامكم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وتالله لأكيدن أصنامكم ) الكيد : إيصال ضر بالغير بضرب من التدبير ، وقيل : الكيد شبه المحاربة .
وفي مغازي الرسول غزا موضع كذا ، فلم يلق كيدا ، أي : حربا .
وقوله : ( ^ بعد أن تولوا مدبرين ) أي : بعد أن تدبروا منطلقين إلى عيدكم ، فإن قيل : كيف يتصور كيد الأصنام ، وهي لا تعقل ؟ قلنا : سنبين وجه كيده لها . < < الأنبياء : ( 58 ) فجعلهم جذاذا إلا . . . . . > >
قوله : ( ^ فجعلهم جذاذا ) قرىء : ' جذاذا ' و ' جذاذا ' وفي الشاذ ' جذاذا ' ، فقوله : ' جذاذا ' بالرفع هو مثل الحطام والرفات ، وقوله : ' جذاذا ' بالكسر فهو جمع
____________________

( ^ إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون ( 58 ) قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين ) * * * * الجذيذ ، مثل الخفيف والخفاف ، ومعناه : أنه قطعها وكسرها ، أي : جعلها قطعة قطعة ، وكسرة كسرة .
وفي القصة : أنهم لما مروا إلى عيدهم قالوا له : ألا تخرج معنا ؟ فقال : لا ، إني سقيم ، ومعناه : ما برد بعد ، ثم قال في نفسه : تالله لأكيدن أصنامكم ، فسمعه رجل منهم ، ومروا ولم يبق في البلد أحد ، فجاء إلى بيت أصنامهم ، ومعه فأس ، وكان في البيت اثنان وسبعون صنما ، بعضها من حجر ، وبعضها من فضة ، وبعضها من ذهب ، وغير ذلك ، والصنم الكبير من الذهب ، وهو مكلل بالجوهر ، وعيناه ياقوتتان تتقدان ، وهو على هيئة عظيمة ، فأخذ الفأس ، وكسر الكل إلا الكبير ، فإنه تركه وعلق الفأس في عنقه ، وقيل : ربطه بيده ، فهذا هو كيد الأصنام ، ومعناه : [ أنه ] كادهم على ما يعتقدون فيهم ، فهذا معنى قوله : ( ^ فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم ) ، وأنشدوا في الجذاذ شعرا :
( جذذ الأصنام في محرابها ** ذاك في الله العلي المقتدر )
وقوله : ( ^ لعلهم إليه يرجعون ) فيه قولان : أحدهما : لعلهم عنده يرجعون من الشرك أي : عند هذا الفعل ، والقول الثاني : لعلهم إلى الكبير يرجعون ، ومعناه : أنهم إذا رأوا أمثال الصنم الكبير مقطعة مكسرة ، وعرفوا أنه مثلهم ، ولم يكن عندهم دفع ، عرفوا أنه لا دفع عنده أيضا ، وأما قول من قال : إن معنى الآية : ( ^ لعلهم إليه يرجعون ) : أن الكبير هو الذي فعل بهم ذلك حمية وأنفة ، فهو قول باطل ؛ لأنه لا يدخل في عقل أحد أن الصنم الكبير يكسر الأصنام الصغيرة ، وإنما علق الفأس في عنق الكبير تعييرا لهم وتبكيتا ، وقيل : على طريق إلزام الحجة ، فإن اعتقادهم يوجب هذا ، وهو أن الكبير لا يرضى بالأصنام الصغار مع هو لو كانوا يعقلون . < < الأنبياء : ( 59 ) قالوا من فعل . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قالوا من فعل هذا بآلهتنا ) فيه تقدير ، وهو أنهم رجعوا ودخلوا على الأصنام ، فلما رأوها قالوا كذلك .
____________________

( ( 59 ) قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم ( 60 ) قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون ( 61 ) قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم ( 62 ) قال بل فعله ) * * * *
وقوله : ( ^ إنه لمن الظالمين ) أي : من المجرمين . < < الأنبياء : ( 60 ) قالوا سمعنا فتى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قالوا سمعنا فتى ) أي : شابا ( ^ يذكرهم ) أي : يعيبهم ، وفي القصة : أن ذلك الرجل الذي سمع منه ذكر كيد الأصنام قال هذا .
وقوله : ( ^ يقال له إبراهيم ) معلوم . < < الأنبياء : ( 61 ) قالوا فأتوا به . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قالوا فأتوا به على أعين الناس ) في القصة : أن الملك - وهو نمروذ - قال هذا القول ، ومعناه : جيئوا به على مشهد الناس .
وقوله : ( ^ لعلهم يشهدون ) فيه قولان : أحدهما : أنهم يشهدون عذابه إذا عذبناه ، والقول الآخر : لعلهم يشهدون أي : يسمعون قول الرجل أنه قال كذا في الأصنام ، قال السدي : كره الملك أن يعاقبه بغير بينة . < < الأنبياء : ( 62 ) قالوا أأنت فعلت . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم ) طلبوا منه الإقرار والاعتراف بما فعل . < < الأنبياء : ( 63 ) قال بل فعله . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال بل فعله كبيرهم هذا ) اعلم أنه قد ثبت عن النبي برواية أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن النبي قال : ' إبراهيم كذب ثلاث كذبات ' - وفي رواية : ' في الله ' - قوله : ( ^ بل فعله كبيرهم ) ، وقوله : ( ^ إني سقيم ) ، وقوله لسارة : هذه أختي ' . قال الشيخ الإمام : أخبرنا بهذا الحديث أبو علي الشافعي قال أبو الحسن بن [ فراس ] ، قال : نا أبو جعفر الديبلي ، قال : نا سعيد بن عبد الرحمن المخزومي ، قال : نا سفيان بن عيينة ، عن أبي الزناد . . الحديث .
____________________

( ^ كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون ( 63 ) فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون ( 64 ) ثم نكسوا على رءوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون ( 65 ) قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم ( 66 ) أف لكم ولما تعبدون من ) * * * * قال أهل المعاني : قال إبراهيم ما قال بإذن الله تعالى لقصد الصلاح ، وهو مثل ما أذن ليوسف أن يقول للإخوة : ' أيتها العير إنكم لسارقون ، وقال بعضهم ، هو قول يخالف لفظه معناه ، ولكل تأويل ، أما قوله : ( ^ بل فعله كبيرهم ) أي : على زعمكم واعتقادكم ، وهو على وجه إلزام الحجة ، كما بينا على تحقيق الخبر ، وقال بعضهم معناه : بل فعله كبيرهم هذا ( ^ فسألوهم إن كانوا ينطقون ) ، قاله على سبيل الشرط ، قال النحاس : وفي هذا التأويل بعد ، وهو مخالف للأخبار الثابتة ، وأما قوله : ( ^ إني سقيم ) أي : سأسقم وقيل معناه : سقيم أي : مغتم بضلالتكم ، فكأنه سقيم القلب بذلك ، وأما قوله لسارة : هذه أختي أي : أختي في الدين ، والأولى ما ذكرناه من المعنى الأول ، وهو قول أهل السنة ، وهو أن الله تعالى أذن له فيه . < < الأنبياء : ( 64 ) فرجعوا إلى أنفسهم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون ) معناه : رجعوا إلى فكرهم وعقولهم فقالوا : إنكم أنتم الظالمون يعني : بعبادتكم ما لا يدفع عن نفسه شيئا . < < الأنبياء : ( 65 ) ثم نكسوا على . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ثم نكسوا على رءوسهم ) قال أهل التفسير : أجرى الله تعالى حقا على لسانهم في القول الأول ، ثم أدركتهم الشقاوة ، فهو معنى قوله : ( ^ ثم نكسوا على رءوسهم ) ومعناه : رجعوا إلى شركهم ، ويقال : نكس المريض إذا رجع إلى حاله الأول ، وقيل : نكسوا على رءوسهم أي : رجعوا ، ومعناه : إلى الاحتجاج عن الأصنام .
وقوله : ( ^ لقد علمت ما هؤلاء ينطقون ) ومعناه : فكيف نسألهم ؟ . < < الأنبياء : ( 66 ) قال أفتعبدون من . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم ) معناه : لا ينفعكم إن عبدتموه ، ولا يضركم إن تركتم عبادته . < < الأنبياء : ( 67 ) أف لكم ولما . . . . . > >
وقوله : ( ^ أف لكم ) أي : نتنا وقذرا لكم . وقوله : ( ^ ولما تعبدو من دون الله )
____________________

( ^ دون الله أفلا تعقلون ( 67 ) قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين ( 68 ) قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم ( 69 ) ) * * * * أي : الأصنام .
وقوله : ( ^ أفلا تعقلون ) أي : أليس لكم عقل تعرفون هذا ؟ . < < الأنبياء : ( 68 ) قالوا حرقوه وانصروا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم ) التحريق هو التقطيع بالنار ، واختلفوا أن القائل لقوله : ( ^ حرقوه ) من كان ؟ فعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : هو رجل من أكراد فارس ، وقال غيره : هو نمروذ الجبار ، وعن بعضهم : أنه رجل يقال له : ( هيرون ) خسف الله به الأرض ، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة .
وقوله : ( ^ وانصروا آلهتكم ) قال الأزهري معناه : عظموا آلهتكم بإحراقه ، وقيل : وادفعوا عن آلهتكم .
وقوله : ( ^ إن كنتم فاعلين ) يعني : إن كنتم ناصرين لها أي : للآلهة .
قوله تعالى : ( ^ قلنا يا نار كوني بردا وسلاما ) في القصة : أنهم بنوا أتونا بقرية من قرى كوثى ، وجمعوا الأحطاب مدة . وعن السدي قال : كان الرجل منهم يمرض فيوصي بشراء الحطب وإلقائه فيه ، والمرأة تغزل فتشتري الحطب بغزلها فتلقيه فيه ، ثم أوقدوا عليها سبعة أيام ، ثم ألقوا فيها إبراهيم . وروي أنهم لم يعلموا كيف يلقونه فيها ؟ فجاء إبليس - عليه ما يستحق - وعلمهم عمل المنجنيق ، فوضعوه فيه ، وطرحوه في النار .
وعن بكر بن عبد الله المزني قال : لما طرح إبراهيم في النار ضجت الخليقة ، وقالت : يا رب ، إن خليلك يلقى في النار ، فقال الله تعالى : إنه خليلي ، ليس لي خليل غيره ، وأنا إلهه ، ليس له إله غيري ، فإن استغاث بكم فأغيثوه ، فلم يستغث بأحد . ومن المعروف أنه قال حين ألقي في النار : حسبي الله ونعم الوكيل . وروي أنه قال : سبحانك لا إله إلا أنت رب العالمين ، ولك الحمد لا شريك لك . وعن كعب الأحبار
____________________

وقتادة أنهما قالا : جعل كل شيء يطفيء عنه النار إلا الوزغة ، فإنه جعل ينفخ في النار ، فأمر الرسول بقتله .
وفي بعض الأخبار عن النبي : ' من قتل وزغا فكأنما قتل كافرا ' . < < الأنبياء : ( 69 ) قلنا يا نار . . . . . > >
وقوله : ( ^ قلنا يا نار كوني بردا ) أي : ذات برد ، قال أهل المعاني : يحتمل أنه خلق بردا في النار بدل الحر ، ويحتمل أنه أحال بين النار وبين إبراهيم .
وقوله ( ^ وسلاما ) ( روي ) عن علي - رضي الله عنه - أنه قال : لو لم يقل : ( ^ وسلاما ) لقتلته البرد ومثله عن كعب .
وعن قتادة قال : لم تحرق منه إلا وثاقه .
ومن المعروف في الآثار : أنه لم ينتفع في ذلك اليوم بنار في العالم .
وقوله : ( ^ على إبراهيم ) لو لم يقل : ( ^ على إبراهيم ) بقيت ذات برد أبدا ، وفي القصة : أنهم لما طرحوه في النار ، وجعلها الله عليه بردا وسلاما ، قال نمروذ وأصحابه : إنه قد سحر النار ، فقال أبو لوط - وكان كافرا - اطرحوا فيه رجلا آخر وجربوه ، فطرحوا فيها رجلا آخر فأكلته النار في الحال .
وفي بعض الغرائب من المسانيد عن النبي : ' أنه لما طرح إبراهيم في النار بعث الله جبريل إليه ، وبعث معه بطنفسة من طنافس الجنة ، وقميص من قمص الجنة ، فأقعده على الطفنسة ، وألبسه القميص وقعد معه يحدثه ' . وروي : ' أنهم نظروا فإذا هو في روضة تهتز ' .
____________________

( ^ وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين ( 70 ) ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين ( 71 ) ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين ( 72 ) وجعلناها أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا ) * * * * < < الأنبياء : ( 70 ) وأرادوا به كيدا . . . . . > >
وقوله ( ^ وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين ) فمعنى الأخسرين ها هنا : أنهم خسروا السعي والنفقة ، ولم يحصل لهم مرادهم ، وقال بعضهم : معناه : أن الله تعالى أرسل على نمروذ وقومه البعوض ، فأكلت لحومهم ، وشربت دماءهم ، ودخلت بعوضة في رأس نمروذ حتى أهلكته ، ذكره مقاتل وغيره . < < الأنبياء : ( 71 ) ونجيناه ولوطا إلى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين ) يعني : الشام ، وبركتها كثرة مياهها وأشجارها ، وعموم الخصب بها ، حتى يعيش فيها الفقير والغني بعيش طيب ، ويقال : بركتها كثرة الأنبياء بها ، وفي الآية قول آخر : هو أن المراد من الأرض التي بارك فيها هي مكة ، وقيل : مصر ، والأصح هو الأول ؛ لأنه مشهور أنه خرج وامرأته - يعني : إبراهيم - إلى حران ، ثم من حران إلى الشام ، وأما لوط فإنه ابن أخي إبراهيم ، وكان خرج معه . < < الأنبياء : ( 72 ) ووهبنا له إسحاق . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة ) قال ابن عباس : النافلة هو يعقوب ، وأما إسحاق فليس بنافلة ؛ لأن الله تعالى أعطاه إسحاق بدعائه ، وإنما زاد يعقوب على ما دعا ، والنافلة هي الزيادة ، وقال مجاهد : كلاهما نافلة ، والأصح هو الأول .
وقوله : ( ^ وكلا جعلنا صالحين ) ظاهر المعنى . < < الأنبياء : ( 73 ) وجعلناهم أئمة يهدون . . . . . > >
وقوله تعالى : ( ^ وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا ) يعني : يرشدون بأمرنا .
وقوله : ( ^ وأوحينا إليهم فعل الخيرات ) معناه : العمل بالشرائع .
وقوله : ( ^ وإقام الصلاة ) أي : المحافظة عليها .
( ^ وإيتاء الزكاة ) معناه : وإعطاء الزكاة .
وقوله : ( ^ وكانوا لنا عابدين ) أي : موحدين .
____________________

( ^ عابدين ( 73 ) ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين ( 74 ) وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين ( 75 ) ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم ( 76 ) ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين ( 77 ) وداود وسليمان إذ ) * * * * < < الأنبياء : ( 74 ) ولوطا آتيناه حكما . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ولوطا آتيناه حكما وعلما )
وقوله : ( ^ ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث ) القرية : هي سدوم ، وأما الخبائث قيل : إتيانهم الذكور ، ويقال هو : [ التضارط ] في الأندية .
وقوله : ( ^ إنهم كانوا قوم سوء فاسقين ) ظاهر المعنى . < < الأنبياء : ( 75 ) وأدخلناه في رحمتنا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين ) ظاهر المعنى . < < الأنبياء : ( 76 ) ونوحا إذ نادى . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ونوحا إذ نادى من قبل ) نداؤه هو قوله : ( ^ أني مغلوب فانتصر ) ، ( وقيل هو قوله : ) ( ^ رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ) .
وقوله : ( ^ فاستجبنا له ) أي : أجبناه .
وقوله : ( ^ فنجيناه وقومه من الكرب العظيم ) في القصة : أنه كان أطول الأنبياء عمرا ، وأشد الأنبياء بلاء ، وروي أنه كان يضرب في اليوم سبعين مرة .
وقوله : ( ^ من الكرب العظيم ) أي : من الغرق ، وقيل : من الغم والضيق . < < الأنبياء : ( 77 ) ونصرناه من القوم . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا ) أي : منعناه وحفظناه .
( ^ إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين ) ظاهر المعنى . < < الأنبياء : ( 78 ) وداود وسليمان إذ . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث ) اختلف القول في الحرث :
____________________

( ^ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ( 78 ) ففهمناها ) * * * *
قال ابن عباس : كان كرما قد بدت عناقيده ، وقال قتادة : كان زرعا ، وأما القصة فيه : فروي أنه كان رجلان لأحدهما حرث وللآخر غنم ، فدخل الغنم في حرث صاحبه ليلا ، فأكلت وأفسدت ، حتى لم يبق شيء - وهو معنى قوله : ( ^ إذ نفشت فيه غنم القوم ) والنفش هو الرعي ليلا ، والهمل هو الرعي نهارا - فلما أصبحا جاء صاحب الحرث يخاصم صاحب الغنم عند داود ، فقال داود : خذ برقبة الأغنام فهي لك بدل حرثك ، وكان سليمان ثم فقال : يا نبي الله ، أو غير ذلك ؟ هذا قول ابن مسعود ، أن سليمان ثمه .
وقال غيره : أنهما خرجا فمرا على سليمان ، وذكرا له حكم داود ، فقال : قد كان ها هنا حكم هو أرفق بالرجلين ، فذكر ذلك لأبيه داود ، فدعاه وسأله بحق الأبوة ، فقال : تسلم الغنم إلى صاحب الحرث ، ينتفع بألبانها وسمونها وأصوافها ، وتسلم الحرث إلى صاحب الغنم يقوم عليه ، حتى إذا عاد إلى ما كان عليه ليلة نفشت فيه الغنم سلمت الحرث إلى صاحبه ؛ فهذا معنى قوله تعالى : ( ^ ففهمناها سليمان ) وأخذ داود بذلك .
وأما قوله : ( ^ وكنا لحكمهم شاهدين ) أي : لم يغب عنا حكمهما جميعا ، وكان بعلمنا ومرامنا . < < الأنبياء : ( 79 ) ففهمناها سليمان وكلا . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ ففهمناها سليمان ) قد بينا المعنى .
واختلف العلماء أن داود حكم ما حكم بالاجتهاد أو بالوحي ؟ وكذلك سليمان ، فقال بعضهم : إنهما فعلا بالاجتهاد ، وقالوا : يجوز الاجتهاد للأنبياء ؛ ليدركوا ثواب المجتهدين ، إلا أن داود أخطأ ، وسليمان أصاب ، والخطأ يجوز على الأنبياء إلا أنهم لا يقرون عليه ، واختلفوا [ في ] أنه هل يجوز على نبينا الخطأ في الحكم كما يجوز على سائر الأنبياء ؟ قال أبو علي بن أبي هريرة : لا يجوز ؛ لأن شريعته ناسخة ، وليس
____________________

بعده نبي ، وقال غيره : يجوز كما يجوز على سائر الأنبياء . وقد روي ' أن امرأة أتت النبي وقالت : إن زوجي توفي فأين أعتد ؟ فقال لها : اعتدي أين شئت ، فلما ولت دعاها وقال : سبحان الله امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب ' والخبر غريب .
وروي أن رجلا أتى النبي وقال : يا رسول الله ، أرأيت إن قتلت صابرا محتسبا ، هل يحجزني من الجنة شيء ؟ قال : لا ، ثم دعاه وقال : ' إلا الدين ، سارني به جبريل ' وهو خبر معروف ، والخبران يدلان على أنه يجوز أنه يخطئ ، إلا أنه لا يقرر عليه .
والقول الثاني في أصل الحكومة : هو أن داود وسليمان - عليهما السلام - حكما بالوحي ، إلا أن ما حكم به داود كان منسوخا ، والذي حكم به سليمان كان ناسخا ، وقال هؤلاء القوم : لا يجوز للنبي أن يجتهد في الحوادث ؛ لأنه مستغن بالوحي عن الاجتهاد ، وقد قال الله تعالى : ( ^ وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) ، والأول هو الأصح .
وأما حكم هذه المسألة في شريعتنا : فاعلم أن ما أفسدت الماشية بالليل عندنا مضمون على صاحبها ، وما أفسدت بالنهار فلا ضمان ، والحجة فيه ما روى الزهري ، عن حرام بن محيصة عن أبيه : ' أن ناقة البراء بن عازب دخلت حرث قوم فأفسدته ، فارتفعوا إلى النبي فقضى بأن حفظ الماشية على أربابها ليلا ، وأن حفظ الحرث على أربابها نهارا ' وهذا أحسن حكم يكون ؛ لأن العادة جرت أن المواشي تحفظ
____________________

( ^ سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين ) * * * * بالليل ، وتسيب بالنهار ، وأما الحروث والزروع تحفظ بالنهار ، ويتعذر حفظها بالليل .
قال الشيخ الإمام : أخبرنا بهذا الحديث القاضي الإمام الوالد ، قال : نا أبو سهل عبد الصمد بن عبد الرحمن البزار ، قال : أبو بكر محمد بن زكريا العذافري ، قال : أخبرنا إسحاق بن إبراهيم الدبري قال : [ حدثنا ] عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري . . . . الخبر .
وقوله : ( ^ وكلا آتينا حكما وعلما ) وقد بينا .
فإن قيل : قد كان داود حكم بما حكم به ، والحادثة إذا جرى فيها حكم الحاكم لا يجوز أن تنقض بغيره ، فكيف وجه هذا ؟ والجواب : يحتمل أنه كان طولب بالحكم ، ولم يحكم بعد ، إلا أنه ذكر وجه الحكم ، وقال بعضهم : إنه كان حكم بالاجتهاد ، فلما قال سليمان ما قال ، نزل الوحي أن الحكم ما قال .
وقوله : ( ^ وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير ) قيل : تسبيحها صلاتها ، وقيل : تسبيحها هو الثناء على الله بالطهارة والتقديس ، وقد روي أن الجبال كانت تجاوب داود بالتسبيح ، وروي أنه كان إذا قرأ سمعه الله تسبيح الجبال والطير ؛ لينشط في التسبيح ، ويشتاق إليه .
وقوله : ( ^ وكنا فاعلين ) . أي : قادرين على ما نريد ، وقيل معناه : فعلنا ما فعلنا بالتدبير الصحيح . < < الأنبياء : ( 80 ) وعلمناه صنعة لبوس . . . . . > >
قوله تعالى : ( ^ وعلمناه صنعة لبوس لكم ) اللبوس ها هنا هو الدرع ، وفي اللغة : اللبوس ما يلبس ، قال قتادة : لم يسرد الدرع ، ولم يحلقه أحد قبل داود ، وكان قبله==

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مجلد11.و12. من كتاب بغية الطلب في تاريخ حلب المؤلف : ابن العديم

  11. مجلد11. من كتاب بغية الطلب في تاريخ حلب المؤلف : ابن العديم ابن عبد العزى بن رباح بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب القرشي العدوي،...