بحث هذه المدونة الإلكترونية

Translate كيك520000.

السبت، 11 يونيو 2022

مجلد 1. و2. نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب المؤلف : أحمد بن محمد المقري التلمساني

مجلد 1. نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب
المؤلف : أحمد بن محمد المقري التلمساني


خطبة الكتاب
يقول العبد الفقير الذليل المضطر الحقير من هو من صالح الأعمال عري أحمد بن محمد الشهير بالمقري المغربي المالكي الأشعري أصلح الله تعالى حاله وجعل في مرضاته حله وترحاله ومحا بغيث الطاعة والرضوان أمحاله وأنجح ببلوغ آماله انتحاءه وانتحاله
أحمد من عرف من حلي الأمصار وعلى الأعيان على تداول الأعصار وتطاول الأحيان ما فيه ذكرى لأولي الأبصار وإرشاد إلى معرفة الديان واعتبار بأخبار راع وصفها أو راق وشرف من صرف المطامح والمطامع إلى تفصيل ما أفاد لسان الدين من كلم جوامع وتحصيل ما أجاد من حكم بوالغ سحب بلاغتها هوامع واقتناء ذخائر المهتدين التي تنشفت بدورها اللوامع الآذان والمسامع من كل منحط عن رتبة البراعة أو راق حتى توج

الخطيب المجيد رؤوس المنابر بفرائد الكلام وحلى الكتاب الأديب المجيد صدور المزابر من فوائد الأعلام وكحل الحكيم الطبيب الأريب المفيد من إثمد المحابر بمراود الأقلام عيون أوراق
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي ابتدأ من غير مثال وبرا وفسم العباد إلى حاضر وباد وظاهر وخامل وقاصر وكامل تشير إليه بالأنامل أيدي الكبرا وأبدى في اختلاف ذواتهم وأعراضهم وتباين أدواتهم ولأغراضهم وتغاير ألسنتهم وأمكنتهم وأزمنتهم وألوانهم وأكوانهم وكناصبهم ومناسبهم عبرا وجعل الدنيا لمن أتيح صغرا أو كبرا ولبس منهم مسوحا أو حبرا وأخلد إلى الأرض أو صعد منبرا جسرا إلى الآخرة ومعبرا وحكم وهو الفاعل المختار على الجميع بالموت لمبتدإهم خبرا فيا له من داء أعيا كل معالج أو راق
فسبحانه من إله انفرد بوجوب القدم والبقا واختص بفضله من شاء فارتقى وعم تعالى تعالى ذوي السعادة والشقا بالحدوث والفنا وأذاق من فراق الدنيا كل من فيها بلا ثنا ممن وفق فنفى عن جفنه وسنا أو خذل فجر في ميدان الاغترار رسنا وزين له عياذا بالله سوء عمله فرآه حسنا طعم شعوب المر الجنى فلم يغن منه عن ذوي الغنى والغنا وأهل السنا من استظهروا به من أرباب الصوارم والقنا وأصحاب النظم والنثر والجدال والفخر والمدح والثنا فأولئك ألقوا السلاح مذعنين مستبصرين موقنين إذ جاء الحق وزهق الباطل وولي الامترا وهؤلاء تركوا الاصطلاح معلنين عالمين أنهم لم يكونوا في التمويه محسنين وكيف لا وقد اضمحل

الغرور والأجترا وذهب والله الجور والافترا وبدل مذق الإطراء بصدق اللإطراق
وأشكره جل وعلا على أن علم بالقلم ما لم نعلم ونبه بآثاره الدالة على اقتداره إلى سلوك الطريق الأقوم الواضح المعلم وأرشد من أشرق فكره وأضا إلى التفويض لأحكام القضار ومن ذا يرد ما أمضى أو ينقض ما أبرم والتسليم على كل حال أسلم وأمر جل اسمه بالتدير في أنباء من مضى والنظر في عواقب أحوال الذين زال أمرهم وانقضى من صنوف الأمم ووبخ من دجا قلبه بالإعراض عن ذلك وأظلم وشتان ما بين اللاهي والمتذكر والساهي والمتفكر والناجي والهالك والمتحير والداجي الحالك والمشرق النير وما يستوي الظل والحرور والحزن والسرور والظلمات والنور ذو البهجة والإشراق
وأصلي أزكى الصلاة والسلام هدية لحضرة سيد الأنام ولبنة التمام من زويت له من الأرض المغارب والمشارق وتم به نظام أنبياء الله ورسله العظام وأزاح نوره الضلال والظلام حتى أضاءت بوسمه المساجد وازدانت باسمه المهارق وألقى الموفق الموافق لدعوته بيد الاستسلام وذلك شأن ذوي العقول الراجحة والأحلام غير خائف من عتب ولا مترقب لملام فأمن من الطوارىء والطوارق وتمت كلمة الإسلام الذي اتضح برهانه لذي بصر وبصيرة لا يحتاج إلى زيادة الإعلام وعلت سيوف توحيد الملك العلام

من المعاند المفارق المفارق وخضبتها بحناء النديع الرقراق النبي الأمي الأمين الداعي جميع العالمين إلى سلوك منهاج ما له من هاج ذي أضواء شوارق سيد الرسل الغر الميامين ملجإ الإمة جعلنا الله ممن نجا باللجإ إليه آمين الذي أنزل عليه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان وانشق له الزبرقان ونبع الماء من بين أصابعه زيادة في الإيقان وسلمت عليه الأحجار وانقادت لأمره الأشجار متفيئة ظلاله الشريفة وخطت في الأرض أسطرا مبدعة الإتقان إلى غير ذلك من معجزاته الخوارق فهو صاحب الدعوة الجامعة والبراهين اللامعة والإدلة التي سقت الشدرة الطيبة غيوثها النافعة الصيبة الهامية الهامعة الصادقة البوارق فأثمرت النجاة والفوز والفلاح وأورقت بالهدى أحسن إيراق أسنى رسول بعث إلى الأرض وأعظمهم جلالة وأكثرهم تابعا في الطول منها والعرض ولم لا وقد ظهر به الحق لمن أمه مسترشدا وجلا له وأسمى من جاء بتبيين السنة والفرض وأعم دلالة منقض البراي في الدنيا ويوم العرض الآخذ بحجزهم عن النار والضلالة الداعي إلى تقديم الخير وحسن القرض الحريص على هداية الخلق المبلغ لهم أحكام الحق من غير ضجر ولا ملاله ذو الفضل العليم الذي لم يختلف فيه من أهل العقول اثنان والمجد الصميم الثابت الأصول الباسق الأفنان الملتقي من محتد معد بن عدنان المنتخب من خير عنصر وأطهر سلالة شفيعنا وملاذنا وعصمتنا ومعاذنا وثمالنا الذي نجحت به آمالنا وزكت به أقوالنا وأعمالنا ووسيلتنا الكبرى وعمدتنا العظمى في الأولى والأخرى وكنزنا الذي أعددناه لإزاحة الغموم ذخرا وغيثنا وغوثنا وسيدنا ونبينا ومولانا محمد الطيب المنابت والأعراق

ووجه وفود التعظيم إليه من مفرد في جماله صار لجمع الأنبياء تماما وفذ في كماله تقدم في حضرة التقديس التي أسست على التشريف أعظم تأسيس فصلى بالمرسلين إماما وصدر تحلى بجميل الأوصاف كالوفاء والعفاف والصدق والإنصاف فزكا في أعماله وبلغ الراجي منتهى آماله ولم يخلف وعدا ولم يخفر ذماما وسيد كسي حلل العصمة من كل مخالفة وذنب ووصمة فلم يصرف لغير طاعة مولاه الذي أولاه من التفضيل ما أولاه اهتبالا واهتماما
وعلى آله وعترته الفائزين بأثرته أنصار الدين والمهاجرين المهتدين وأشياعه وذريته الطالعين نجوما في سماء شهرته وأتباعهم القائمين بحقوق نصرته أرباب العقل الرصين الفاتحين بسيوف دعوته أبواب المعقل الحصين حتى بلغت أحكام ملته وأعلام بعثته من بالأندلس والصين فضلا عن الشأم والعراق
ورضي الله تعالى عن علماء أمته المصنفين في جميع العلوم والفنون وعظماء سنته الموفين للطلاب بالآراب المحققين لهم الظنون وحكماء شرعته المتبصرين بحدوث من مرت عليه الأيام والشهور وكرت عليه الإناء والدهور والأعوام والسنون المتدبرين في عواقب من كان بهذه البسيطة من السكان المتكذرين على قدر الإمكان بمن طحنته رحا المنون من أملاك العصور الخالية وملاك القصور العالية وذوي الأحوال التي هي بسلوك الاختلاف حالية من بصير وأعمى وفقير وذي نعمى ومختال تردى بكبريائه ومحتال على ما بأيدي الناس بسمعته وريائه وعاقل أحسن العمل وغافل افتتن بالأمل وكارع في حياض الشريعة وراتع برياض الآداب المريعة وذي ورع سد عما رابه الذريعة وأخي طمع في أن يدرك آرابه من الدنيا الوشيكة

الزوال السريعة ومقتبس من نبراس الرواية وملتبس بأدناس الغواية وشاعر هام في كل واد وقال ما لم يفعل فكان للغاوين من الرواد وجاهل عمر الخراب وخدع بالسراب عن أعذب الشراب ومحقق علم أنه إذا جاء القدر عمي البصر ممن كان أحضر من غراب وموفق تيقن أن غير الله فان وكل الذي فوق التراب تراب ومن متخلق متجرد تصوف ومتعلق متفرد تشوق إلى ما فيه رضا الرب وتشوف وناه ذكر بأيام الله ووعظ وخوف ولاه اغتر بالباطل فهو بالحق مماطل وطالما أخره وسوف وأبعد الانتجاع ثم أوى من باطنه إلى بيت قعدته لكاع نفس أماره بعدما طوف ومن مادح نظم الآلاء نظم اللآل وكادح طمس لألاء العز بظلمة ذل السؤال فجعل القصائد مصايد والرسائل وسائل والمقطعات مرقعات فآل أمره إلى ما آل ومن مخبر بما سمع ورأى حين اغترب عن مكانه ونأى أو أقام في أوطانه فبلغ ما قدر ووأى ومن مجازف لا يفرق بين الغث والسمين والإمرار والإحلاء وعارف ثقة أمين نظم در الصدف الثمين في أسلاك الكتابة والإملاء وعاشق خنساء فكره ذات الصدار من الشجون والشعار تبكي على صخر قلب المحبوب وتذكره كلما طلعت شمس أو كان للصبا

هبوب فتأتي بما يطفي وقود الجوى المشبوب من بحار الأشعار وليلى شوقه العفيفة عن العار ترفل في ثوب من التصبر معار وقيس توقه من ثوب السلو عار قد توله واشتاق خصوصا عند انتشاق البشام والعرار وقلق لما أرق فلم يقر به قرار فاعتراه ما براه وألف البكاء بحكم الاضطرار ولبس ثياب النحول والاصفرار وأسر لما هزمت جيوش صبره وأزمعت الفرار فتحير مما شجاه وسأل النجاة من أسر الفراق
( سبحان من قسم الحظوظ ... فلا عتاب ولا ملامه )
( أعمى وأعشى ثم ذو ... بصر وزرقاء اليمامة )
( ومسدد أو جائر ... أو حائر يشكو ظلامه )
( لولا استقامة من هداه ... لما تبينت العلامه ومجاور الغرر المخيف ... له البشارة بالسلامه )
( وأخو الحجى في سائر الأنفاس ... مرتقب حمامه )
( وكما مضى من قبله ... يمضي ولم يقض التزامه )
( والجاهل المغتر من ... لم يجعل التقوى اغتنامه )
( فليرفض العصيان من ... يخشى من الله انتقامه )

( وليعتبر بسواه من ... لصلاحه صرف اهتمامه )
( فالعيش في الدنيا الدنية ... غير مرجو الإدامه )
( من أرضعته ثديها ... في سرعة تبدا فطامه )
( من عز جانبه بها ... تنوي على الفور اهتضامه )
( وإذا نظرت فأين من ... منعته أومنحت مرامه )
( ومن الذي وهبته وصلا ... ثم لم يخش انصرامه ) ومن الذي مدت له ... حبلا فلم يخف انفصامه )
( كم واحد غرته إذ ... سرته مخفية الدمامه )
( قعدت به من حيث لم ... يعلم فلم يملك قيامه )
( أين الذين قلوبهم ... كانت بها ذات استهامه )
( أين الذين تفيأوا ... ظل السيادة والزعامه )
( أين الملوك ذوو الرياسة ... والسياسة والصرامه )
( وبنو أمية حين جمع ... عصرهم لهم فئامه )
( وتمكنوا ممن يحاول ... نقض ما شاءوا انبرامه )
( وتعشقوا لما بدا ... لهم محيا الأرض شامه )
( وتأملوا وجه البسيطة ... فاثنوا يهوون شامه )
( حتى تقلص ظلهم ... وأراهم الدهر اخترامه )
( أين الخلائف من بني العباس ... والبر القسامه

( أين الرشيد وأهله ... وبنوه أصحاب الشهامه )
( ووزيره يحيى وجعفر ... ابنه الراوي احتشامه )
( والفضل مدني من يقول ... لمن يلوم على الندى مه )
( أم أين عنترة الشجاع ... وذوا الجدا كعب بن مامه )
( والزاعمون بجهلهم ... أن القبور صدى وهامه )
( والمكثرون من المجون ... إذا شكا الفكر اغتمامه )
( اين الغريض ومعبد ... أو أشعب وأبو دلامه )
( أين الألى هاموا بسعدى ... أو بثينة أو أمامه )
( وأبكوا لفرط جواهم ... والليل قد أرخى ظلامه )
( وتتبعوا آثار من ... عشقوا بنجد أو تهامه )
( وتعللوا والشوق يغلب ... بالأراكة والبشامه )
( أضنى النوى قيسا فقاسى ... لاعجا أغرى غرامه )
( وغوى هوى غيلان مذ ... ابدى بميته هيامه )
( اين الأكاسر والقياصرة

( أم أين غمدان وسيف ... والوفود به أمامه )
( أين الخورنق والسدير ... ومن شفى بهما أوامه )
( ومدائن الإسكندر اللاتي ... لها أعلى دعامه )
( أين الحصون ومن يصون ... بها من الأعدا حطامه )
( أين المراكب والمواكب ... والعصائب والعمامه )
( اين العساكر والدساكر ... والندامى في المدامه )
( وسقاتها المتلاعبون ... بلب من أعطوه جامه )
( من كل أهيف يزدري ... بالغصن إن يهزز قوامه )
( ذي غرة لألاؤها ... تمحو عن النادي ظلامه )
( فالشمس في أزراره ... والبدر في يده قلامه )
( يصمي القلوب إذا رمى ... عن قوس حاجبه سهامه )
( ويروق حسنا إن رنا ... ويفوق آراما برامه )
( أنى لها ثغر حلا ... ذوقا لمن رام التثامه )
( أنى لها وجه يشب ... بقلب مبصره ضرامه ) أستغفر الله للغو ... لا يرى الشرع اعتيامه )
( بل أين أرباب العلوم ... أولو التصدر والإمامه )
وذوو الوزارة والحجابة ... والكتابة والعلامه )
( كأئمة سكنوا بأندلس ... فلم يشكوا سآمه )
( هي جنة الدنيا التي ... قد أذكرت دار المقامه )
( لا سيما غرناطة الفراء ... رائقة الوسامه )
( وهي التي دعيت دمشق ... وحسبها هذا

( لنزول أهليها بها ... إذ أظهر الكفر انهزامه )
وأتت جيوش الشأم من ... باب نفى الفتح انبهامه )
( فسلوا بها عن جلق ... إذ أشبهتها في الضخامه )
( وبدا لهم وجه المنى ... وأراهم الثغر ابتسامه )
( وتبوأوها حضرة ... تبري من المضنى سقامه )
( بروائها وبمائها ... وهوائها النافي الوخامه )
( ورياضها المهتزة الأعطاف ... من شدو الحمامه )
( وبمرجها النضر الذي قد زين الله ارتسامه )
( وقصورها الزهر التي ... يأبى بها الحسن انقسامه )
( يا ليت شعري أين من ... أمضى بها الملك احتكامه )
( وأتيح في حمرائها ... عزا به زان اتسامه )
( اين الوزير ابن الخطيب ... ها فما أحلى كلامه )
( فلكم أبان العدل في ... أرجائها وبها أقامه )
( ولكم أجار عدا وكم ... أجرى ندى والى انسجامه )
( راعت صروف الدهر دولته ... وما راعت ذمامه )
( حتى ثوى إثر التوى في حفرة نثرت نظامه )
( من زارها في أرض فاس ... أذهبت شجوا منامه )
( إذ نبهته لكل شمل ... شتت الموت التئامه )
( هذا لسان الدين أسكته ... وأسكنه رجامه )
( ومحا عبارته فمن حياه لم يردد سلامه )
( فكأنه ما أمسك القلم

( وكأنه لم يعل متم ... مطهم بارى النعامه )
( وكأنه لم يرق غارب ... الاعتزاز ولا سنامه )
( وكأنه لم يجل وجها ... حاز من بشر تمامه )
( وكأنه ما جال في ... أمر ولا نهي وسامه )
( وكأنه ما نال من ... ملك حباه ولا احترامه )
( وكأنه لم يلق في ... يده لتدبير زمامه )
( مذ فارق الدنيا وقوض ... عن منازلها خيامه )
( أمسى بقبر مفردا ... والترب قد جمعت عظامه )
( من بعد تثنية الوزارة ... جاده صوب الغمامه )
( لم يبق إلا ذكره ... كالزهر مفتر الكمامه )
( والعمر مثل الضيف أو ... كالطيف ليس له إقامه )
( والموت حتم ثم بعد ... الموت أهوال القيامه )
( والناس مجزيون عن ... أعمال ميل واستقامه )
( فذوو السعادة يضحكون ... وغيرهم يبكي ندامه )
( والله يفعل فيهم ... ما شاء ذلا أو كرامه )
( ويشفع المختار فيهم ... حين يبعثه مقامه )
( وعليه خير صلاته ... مع صحبه تتلو سلامه )
( والتابعين ومن بدا ... برق الرشاد له فشامه )
( ما فاز بالرضوان عبد ... كانت الحسنى ختامه )
والله سبحانه المسؤول في الفوز والنجاة كرما منه وحلما فبيده الخير لا إله إلا هو العلي الكبير العليم الخبير الذي أحاط بكل شيء علما فلا يعزب عنه مثقال ذرة

حنين إلى الوطن
أما بعد حمد الله مالك الملك والصلاة على رسوله المنجي من الهلك والرضا عن آله وصحبه الذين تجلت بأنوارهم الظلم الحلك وعن العلماء الأعلام الخائضين بحار الكلام المستوين من البلاغة على الفلك فيقول العبد الحقير المذنب الذي هو إلى رحمة ربه الغني فقير المقصر المتبرىء من الحول والقوة المتمسك بأذيال الخدمة للسنة والنبوة وذلك بفضل الله امان وبراءة الضعيف الفاني الخطاء الجاني من هو من لباس التقوى عري احمد بن محمد بن أحمد الشهير بالمقري المغربي المالكي الأشعري التلمساني الموالد والمنشإ والقراءة نزيل فاس الباهرة ثم مصر القاهرة أصلح الله أحواله الباطنة والظاهرة وجعله من ذوي الأوصاف الزكية والخلال الطاهرة وسدد في كل قصد أنحاءه وآراءه ووفقه بمنه وكرمه للأعمال الصالحة والطاعات الناجحة الراجحة والمتاجر المغبوطة الرابحة والمساعي الغادية بالخير الرائحة ووقاه ما بين يده ووراءه وكفاه مكر الكائد وافتراءه وجدال الحاسد المستأسد ومراءه وجعل فيما يرضيه سومه وشراءه آمين
إنه لما قضى الملك الذي ليس لعبيده في أحكامه تعقب أو رد ولا محيد عما شاءه سواء كره ذلك المرء أو رد برحلتي من بلادي ونقلتي عن محل طارفي وتلادي بقطر المغرب الأقصى الذي تمت محاسنه لولا أن سماسرة الفتن سامت بضائع أمنه نقصا وطما به بحر الأهوال فاستعلمت

( قطر كأن نسيمه ... نفحات كافور ومسك )
( وكأن زهر رياضه ... در هوى من نظم سلك )
وذلك أواخر رمضان من عام سبعة وعشرين بعد الألف تاركا المنصب والأهل والوطن والإلف
( بلد طاب لي به الأنس حينا ... وصفا العود فيه والإبداء )
( فسقت عهده العهاد وروت ... منه تلك النوادي الأنداء )
وما عسى أن أذكر في إقليم تعين لحجة فضله التسليم
( أضواؤه طبق المنى وهواؤه ... يشتاقه الولهان في الأسحار )
( والطبع معتدل فقل ما شئته ... في الظل والأزهار والأنهار )
محل فتح الكمائم ومسقط الرأس وقطع التمائم
( به كان الشباب اللدن غضا ... ودهري كله زمن الربيع )
( ففرق بيننا زمن خؤون ... له شغف بتفريق الجميع )
لم أنس تلك النواسم التي أيامها للعمر مواسم وثغورها بالسرور بواسم فصرت أشير إليها وقد زمت للرحيل القلص الرواسم
( ولنا بهاتيك الديار مواسم ... كانت تقام لطيبها الأسواق )
( فأباننا عنها الزمان بسرعة ... وغدت تعللنا بها الأشواق )
وأنشد قول غيلان
( أمنزلتي مي سلام عليكما

وأتمثل في تلك الحدائق التي حمائمها سواجع بقول من جفونه من الهوى غير هواجع
( تشدو بعيدان الرياض حمائم ... شدو القيان عزفن بالأعواد )
( ماد النسيم بقضبها فتمايلت ... مهتزة الأعطاف والأجياد )
( هذي تودع تلك توديع التي ... قد آذنت منها بوشك بعاد )
( واستعبرت لفراقها عين الندى ... فابتل مئزر عطفها المياد )
وأحدق النظر إلى روض لأنسان العين من فراقه في بحر الدموع سبح وخوض
( روض به أشياء ليست ... في سواه تؤلف )
( فمن الهزار ترنم ... ومن القضيب تقطف )
( ومن النسيم تلطف ... ومن الغدير تعطف )
وألتفت كالمستريب والحي إذ ذاك قريب وحديث العهد ليس بمنكر ولا غريب
( أهذا ولما تمض للبين ساعة ... فكيف إذا مرت عليه شهور )
والآثار لائحة والشمال غادية بأذكى رائحة
( ارى آثارهم فأذوب شوقا ... وأسكب من تذكرهم دموعي )
( وأسأل من قضى بفراق حبي ... يمن علي منهم بالرجوع )
والنفس متعللة ببعض الأنس والمشاهد الحميدة لم تنس
( تلك العهود بشدها مختومة ... عندي كما هي عقدها لم يحلل )

غير أن الرحيل عن الربع المحيل فصل به بين الشائق والمشوق وحيل
( وقفنا بربع الحب والحب راحل ... نحاول رجعاه لنا ويحاول )
( وألقت دموع العين فيهه مسائلا ... لها عن عبارات الغرام دلائل )
( وبالسفح منها كم سيقت لبانها ... فميلته والسفح للبان مائل )
( إذا نسمة الأحباب منها تنسمت ... تطيب بها أسحارنا والأصائل )
( تثير شجوني ساجعات غصونها ... فمنها على الحالين هاجت بلابل )
( مرابع ألافي مراتع لذتي ... مطالع أقماري بها والمنازل )
فحياها الله من منازل ذات أقمار سائرة فيها ومنازه لا يحصى الواصف محاسنها وأمداح أهلها ولا يستوفيها
( حلوا عقود اصطباري عندما رحلوا ... وفي الخمائل حلوا مثل أمطار )
( إن المنازل قد كانت منازه إذ ... باتوا بها وهي أوطاني وأوطاري )
ورعى الله من بان وشاق حتى الرند والبان
( بانوا لعيني أقمارا تقلهم ... لدن الغصون فلما آنسوا بانوا )
( عهودهم لست أنساها وكيف وقد ... رثى لبيني عنها الرند والبان )
وفي مثل هذا الموطن تذوب القلوب الر قاق كما قال حائز قصب السبق بالاستحقاق الأديب الأندلسي الشهير بابن الزقاق
( وقفت على الربوع ولي حنين ... لساكنهن ليس إلى الربوع )

( ولو أني حننت إلى مغاني ... أحبائي حننت على ضلوعي )
وكما قال بعض من له في هذه الفجاج مسير
( دخولك من باب الهوى إن أردته ... يسير ولكن الخروج عسير ) وأين من له صفة لا يطمع الدهر ... القوي في نحتها وجنات دنيوية )
لا تجري أنهار الفراق من تحتها
( فسقى رضيع النبت من ذاك الحمى ... بحيا تدور على الربى كاساته )
( سفح سفحت عليه دمعي في ثرى ... كالمسك ضاع من الفتاة فتاته )
ولم أنزل بعد انفصالي عن الغروب بقصد الشرق واتصافي في أثر ذلك الجمع بالفرق
( أحن إذا خلوت إلى زمان ... تقضى لي بأفنية الربوع )
( وأذكر طيب أيام تولت ... لنا فتفيض من أسف دموعي )
وأتوق وقد اتسع من البعد الخرق وخصوصا إذا شدا صادح أو أومض برق إلى ديار لا يعدوها اختيار
( وأربع أحباب إذا ما ذكرتها ... بكيت وقد يبكيك ما أنت ذاكر )
( بطاح وأوداح يروقك حسنها ... بكل خليج نمنمته الأزاهر )
( فما هو إلا فضة في زبرجد ... تساقط فيه اللؤلؤ المتناثر )
( بحيث الصبا والترب والماء والهوى ... عبير وكافور وراح وعاطر )
( وما جنة الدنيا سوى ما وصفته ... وما ضم منه الحسن نجد وحاجر )
( بلادي التي أهلي بها وأحبتي ... وقلبي وروحي والمنى والخواطر )

( تذكرني أنجادها ووهادها ... عهودا مضت لي وهي خضر نواضر )
( إذ العيش صاف والزمان مساعد ... فلا العيش مملول ولا الدهر جائر )
بحيث ليالينا كغض شبابنا ... وأيامنا سلك ونحن جواهر )
( ليالي كانت للشبيبه دولة ... بها ملك اللذات ناه وآمر )
( سلام على تلك العهود فإنها ... موارد أفراح تلتها مصادر )
وأتذكر تلك الأيام التي مرت كالأحلام فأتمثل بقول بعض الأكابر الأعلام
( يا ديار السرور لا زال يبكي ... فيك إذ تضحك الرياض غمام )
( رب عيش صحبته فيك غض ... وعيون الفراق عنا نيام )
( في ليال كأنهن أمان ... في زمان كأنه أحلام )
( وكأن الأوقات فيك كؤوس ... دائرات وأنسهن مدام )
( زمن مسعد وإلف وصول ... ومنى تستلذها الأوهام )
وبقول الحائك الأمي عندما يكثر شجوي وغمي
( لم أنس أياما مضت ولياليا ... سلفت وعيشا بالصريم تصرما )
( إذ نحن لا نخشى الرقيب ولم نخف ... صرف الزمان ولا نطيع اللوما )
( والعيش غض والحواسد نوم ... عنا وعين البين قد كحلت عمى )
( في روضة ابدت ثغور زهورها ... لما بكى فيها الغمام تبسما )
( مد الربيع على الخمائل نوره ... فيها فأصبح كالخيام مخيما )
( تبدو الأقاحي مثل ثغر أشنب ... أضحى المحب به كئيبا مغرما )
( وعيون نرجسها كأعين غادة ... ترنو فترمي باللواحظ اسهما )
( وكذلك المنثور منثور بها ... لما رأى ورد الخدود منظما

وأميل إلى بلاد محياها جميل
( كساها الحيا برد الشباب فإنها ... بلاد بها عق الشباب تمائمي )
( ذكرت بها عهد الصبا فكأنما ... قدحت بنار الشوق بين الحيازم )
( ليالي لا ألوي على رشد ناصح ... عناني ولا أثنيه عن غي لائم )
( أنال سهادي من عيون نواعس ... وأجني مرادي من غصون نواعم )
( وليل لنا بالسد بين معاطف ... من النهر ينساب انسياب الأراقم )
( تمر إلينا ثم عنا كأنها ... حواسد تمشي بيننا بالنمائم )
( وبتنا ولا واش نخاف كأنما ... حللنا مكان السر من صدر كاتم )
وأهفو إلى قصور ذات بهجة وصروح توضح معالمها للرائد نهجه
( ورياض تختال منها غصون ... في برود من زهرها وعقود )
( فكأن الأدواح فيها غوان ... تتبارى زهوا بحسن القدود )
( وكأن الأطيار فيها قيان ... تتغنى في كل عود بعود )
( وكأن الأزهار في حومة الروض ... سيوف تسل تحت بنود )
وأصبوا إلى بطاح وأدواح تروح النفوس والأرواح
( سقيا لها من بطاح خز ... ودوح زهر بها مطل )
( إذ لا ترى غير وجه شمس ... اطل فيه عذار ظل )
وأنهار جارية وأزهار نواسمها سارية وأربع وملاعب تزيح

عن مبصرها المتاعب
( تلك المنازل والملاعب ... لا أراها الله محلا )
( أوطنتها زمن الصبا ... وجعلت فيها لي محلا )
( حيث التفت رأيت ماء ... سائحا ورأيت ظلا )
( والنهر يفصل بين زهر ... الروض في الشطين فصلا )
( كبساط وشي جردت ... أيدي القيون عليه نصلا )
وإلى منازل يستفز حسنها الرائق الجاد والهازل ويشفي منظرها عليلا ويكفي مخبرها للمتستفهم دليلا
( وجنان ألفتها حين غنت حولها الورق بكرة وأصيلا )
( نهرها مسرعا جرى وتمشت ... في رباها الصبا قليلا قليلا )
وأتمثل إن ذكرت حال وداعي بقول الشاعر الأديب الوادعي
( الغرب خير وعند ساكنه ... امانة أوجبت تقدمه )
( فالشرق من نيريه عندهم ... يودع ديناره ودرهمه )
وبقول غيره إشارة لفضل الغرب وخيره
( أشتاق للغرب وأصبو إلى ... معاهد فيه وعصر الصبا )
( يا صاحبي نجواي والليل قد ... ارخى جلابيب الدجى واختبا )
( لا تعجبا من ناظر ساهر ...
( بات يراعي أنجما غيبا )
القلب في آثارها طائر ... لما رآها تقصد المغربا )

وأهيم كلما حللت من غيران أرضى بمكان وقد صير السائق جد السير معمولا ل ما انفك كما جعله خبرا ل كان بقول قاضي القضاة العالم الكبير الشمس ابن خلكان
( أي ليل على المحب أطاله ... سائق الظعن يوم زم جماله )
( يزجر العيس طاويا يقطع المهملة عسفا سهولة ورماله )
( أيها السائق المجد ترفق ... بالمطايا فقد سئمن الرحاله )
( وأنخها هنيهة وأرحها ... إذ براها السرى وفرط الكلاله )
( لا تطل سيرها العنيف فقد برح بالصب في سراها الإطاله )
( وارث للنازح الذي إن رأى ربعا ... ثوى فيه نادبا أطلاله )
( يسأل الربع عن ظباء المصلى ... ما على الربع لو أجاب سؤاله )
( ومحال من المحيل جواب ... غير أن الوقوف فيه علاله )
( هذه سنة المحبين يبكون ... على كل منزل لا محاله )
( يا ديار الأحباب لا زالت الأعين ... في ترب ساحتيك مذاله )
( وتمشى النسيم وهو عليل ... في مغانيك ساحبا أذياله )
( أين عيش مضى لنا فيك ما أسرع ... عنا ذهابه وزواله )
( حيث وجه الزمان طلق نضير ... والتداني غصونه مياله )
( ولنا فيك طيب أوقات أنس ... ليتنا في المنام نلقى مثاله )
وأردد قول الذي سحر الألباب مناديا من له من الأحباب
( احبابنا لو لقيتم في إقامتكم ... من الصبابة ما لاقيت في الظعن )
( لأصبح البحر من أنفاسكم يبسا ... والبر من أدمعي ينشق بالسفن )

وقوله
( وما تغيرت عن ذاك الوداد ولا ... حالت بي الحال في عهدي وميثاقي )
( درسي غرامي بكم دهري أكرره ... وقد تفقهت في وجدي وأشواقي )
وقول المجد بن شمس الخلافة معلما أنه لا يريد بدل معهده وخلافه
( يا زمان الهوى عليك السلام ... وعلي السلو عنك حرام )
( أي عيش قطعته فيك لو دام ... وهل يرتجى لظل دوام )
( كنت حلما والعيش فيك خيالا ... وسريعا ما تنقضي الأحلام )
( لهف نفسي على ليال تقضت ... سلبتني برودها الأيام )
( فطمتني الأقدار عنها وليدا ... وشديد على الوليد الفطام )
( لا تلمني على البكاء عليها ... من بكى شجوه فليس يلام )
وقول أبي طاهر الخطيب الموصلي
( حي نجدا عني ومن حل نجدا ... أربعا هجن لي غراما ووجدا )
( واقر عني السلام آرام ذاك الشعب ... والأجرع الخصيب الفردا )
( وابك عني حتى ترنح بالوجد ... أراكا به وبانا ورندا )
( فلكم وقفة أطلت على الضال ... بدمع أذاع سري وابدى )
( وعلى البان كم من البين أذريت لآلي للدمع مثنى ووحدا )
( آه والهفتي على طيب عيش ... كنت قطعته وصالا وودا

( حيث عود الشباب غض نضير ... ويد المكرمات بالجود تندى )
( والخليل الودود ينعم إسعافا ... وصرف الزمان يزداد بعدا )
( والليالي مساعدات على الصل ... وعين الرقيب إذا ذاك رمدا )
( كم بها من لبانة لي وأوطار ... تقضت وجازت الحد حدا )
( فاستعاد الزمان ما كان أعطى ... خلسة لي ببخله واستردا )
وقول بعضهم
( سلام على تلك المعاهد إنها ... شريعة وردي أو مهب شمالي )
( ليالي لم نحذر حزون قطيعة ... ولم نمش إلا في سهول وصال )
( فقد صرت أرضى من نواحي جنابها ... بخلب برق أو بطيف خيال )
وقول الجرجاني
( للمحبين من حذار الفراق ... عبرات تجول بين المآفي )
( فإذا ما استقلت العيس للبيتن ... وسارت حداتها بالرفاق )
( استهلت على الخدود انحدارا ... كانحدار الجمان في الاتساق )
( كم محب يرى التجلد دينا ... فهو يخفي من الهوى ما يلاقي )
( أزدهاه النوى فأعرب بالوجد ... لسان عن دمعه المهراق )
( وانحدار الدموع في موقف البين ... على الخد آية العشاق )
( هون الخطب لست أول صب ... فضحته الدموع يوم الفراق )
وقول الخطيب الحصكفي الشافعي

( ساروا وأكبادنا جرحى وأعيننا ... قرحى وأنفسنا سكرى من القلق )
( تشكو بواطننا من بعدهم حرقا ... لكن ظواهرنا تشكو من الغرق )
( كأنهم فوق أكوار المطي وقد ... سارت مقطرة في حالك الغسق )
( درارىء الزهر في الأبراج زاهرة ... تسير في الفلك الجاري على نسق )
( يا موحشي الدار مذ بانوا كما أنست ... بقربهم لا خلت من صيب غدق )
( إن غبتم لم تغيبوا عن ضمائرنا وإن حضرتم حملناكم على الحدق )
وما أحسن قول بعضهم في هذا المعنى الذي كررنا ذكره وبه ألمعنا
( سلام على أهل الوداد وعهدهم ... إذ الأنس روض والسرور فنون )
( رحلنا فشرقنا وراحو فغربوا ... ففاضت لروعات الفراق عيون )
وكم أنشدت وليالي النوى عاتمة قول الأندلسي ابن خاتمة
( ايامنا بالحمى ما كان أحلاك ... كم بت ارعاه إجلالا وأرعاك )
( لا تنكري وقفتي ذلا بمعناك ... يا دار لولا أحبائي ولولاك )
( لما وقفت وقوف الهائم الباكي ... )
( فهل لهم عطفة من بعد دلهم ... تالله ما تسمح الدنيا بمثلهم )
( آها لقلبي على تبديد شملهم ... ما كان أحلاك يا ايام وصلهم )
( ويا ليالي الرضا ما كان أضواك ... )
( يا بدر تم تناءت عنه أربعنا ... ولم تزل تحتويه الدهر اضلعنا )
( ما للنوى بضروب البين توجعنا ... إذا تذكرت دهرا

( أحباب أنفسنا كم ذا النوى وكم ... ويا معاهد نجوانا بذي سلم )
( تالله ما شبت دمعا للاسى بدم ... ولا لثمت تراب الأرض من كرم )
( إلا مراعاة خل ظل يرعاك ... )
( على التعلل يدني منهم وعسى ... فيعمر القرب ما بالبين قد درسا )
( كم ذا أنادي بربع بالنوى طمسا ... يا قلب صبرا فإن الصبر عاد أسى )
( ويا منازل سلمى أين سلماك )
وقول بعض من اشتد به الهيام فخاطب جبرته مادحا ليالي القرب وذاما تقلب الأيام
( أيام أنسي قد كانت بقربكم ... بيضا فحين نأيتم أصبحت سودا )
( ذممت عيشي مذ فارقت أرضكم ... من بعد ما كان مغبوطا ومحسودا )
وقول صاحب مصارع العشاق وقد شاقه من الهوى ما شاق
( بانوا فأدع مقلتي ... وجدا عليهم تستهل )
( وحدا بهم حادي الفراق ... عن المنازل فاستقلوا )
( قل للذين ترحلوا ... عن ناظري والقلب حلوا )
( ما ضرهم لو أنهلوا ... من ماء وصلهم وعلوا )
وقوله حين زحزحته يد الفراق عن أوطان العراق
( قد قلت والعبرات تسفحها ... على الخد

( حين انحدرت إلى الجزيرة ... وانقطعت عن العراق )
( وتخبطت أيدي الرفاق ... مهامه البيد الرقاق )
( يا بؤس من سل الزمان ... عليه سيفا للفراق )
وقوله أيضا
( يا منزل الحي بذات النقا ... سقاك دمع مذ نأوا ما رقا )
( هل سلوة هيهات لا سلوة ... قد بلغ السيل الزبى وارتقى )
( وأنت يا يوم النوى عاجلا ... أدال منك الله يوم اللقا )
وقولي موطئا للثالث وقد تغير لي فيمن تغي حارث
( لم أنس معهدنا والشمل مجتمع ... والعيش غض وروض الأنس معطار )
( فها أنا بعد عنه في قلق ... وقد نبت بي أرجاء وأقطار )
( تمضي الليالي وأشواقي مجددة ... وما انقضت لي من الأحباب أوطار )
وكلما مررت بمرأى يروق لمعت لي من ناحية المغنى بالمنى يروق فتذكرت قول بعض من له على غير من يهوى طروق
( وما نظرت عيني سواك منظرا ... مستحسنا إلا عرضت دونه )
( وما تمنيت لقاء غائب ... إلا سألت الله أن تكونه ) وربما رمت انتحائي مذهب السلو وانتحالي خلال أحوال إقامتي وارتحالي فلم ينتقل عن تلك الصفات حالي وأني وجيدي بفلائد البتات حالي

( والشوق أعظم أن يحيط بوصفه ... قلم وأن يطوى عليه كتاب )
( والله ما أنا منصف إن كان لي ... عيش يطيب وجيرتي غياب )
وكيف ولأماقي صب ولأتواقي زيادة إذا سرى نسيم أو هب
( شربت حميا البين صرفا وطالما ... جلوت محيا الوصل وهو وسيم )
( فميعاد دمعي أن تنوح حمامة ... وميقات شوقي أن يهب نسيم )
فإن لاح سنا بارق شاقني أو ترنم شاد حدا بي إلى الهيام وساقني أو رنا ظبي فلاة راعي وراقني
( وإني ليصيبني سنا كل بارق ... وكل حمام في الأراك ينوح )
( وأرتاع من ظبي الفلاة إذا رنا ... وأرتاح للتذكار وهو سنوح )
( ولم يك ذاك الأمر من حيث ذاته ... ولكن لمعني في الحبيب يلوح )
ولا أستطيع الإعراب عن أمري العجيب لما بي من النوى المذهل والجوى المدهش والوجيب
( ولا تسألوا عما أجن فليس لي ... لسان يؤدي ما الغرام يقول )
( يطارحني البرق الأحاديث كلما ... أضاء كأن البرق منه رسول )
( وما بال خفاق النسيم يميلني ... هل الريح راح والشمال شمول )
إذ دموع شؤوني عند الذكرى لا ترقا وجفوني ليس لها عن الأرق مرقى وشجوني تنمو إذا صدحت بفننها ورقا
( رب ورقاء في الدياجي تنادي ... إلفها في غصونها المياده )
( فتثير الهوى بلحن عجيب ... يشهد السمع أنها عواده )
( كلما

فيا لها من ذات طوق مثيرة لكامن شوق جالبة له من يمين وشمال وفوق
( ذكرتني الورقاء أيام أنس ... سالفات فبت أذري الدموعا )
( ووصلت السهاد شوقا لحبي ... وغراما وقد هجرت الهجوعا )
( كيف يخلو قلبي من الذكر يوما ... وعلى حبهم حنيت الضلوعا )
( كلما أولع العذول بعتبي ... في هواهم يزداد قلبي ولوعا )
وربما أتخيل قول من قال إنها بالحزن بائحة وعلى فقد الإلف نائحة فأنشد قول خليل وهو بالحب مدنف وعليل
( ورب حمامة في الدوح باتت ... تجيد النوح فنا بعد فن )
( أقاسمها الهوى مهما اجتمعنا ... فمنها النوح والعبرات مني )
ولا غرو إن ظهر سر بائح فباك مثلي من الشجو نائح
( فرجعت بعد فراق أيام الهوى ... أصف الصبابة للمحب المولع )
( دامي الجفون إذا الحمامة غردت ... من فوق خوط البانة المترعرع )
( أسقي الديار وقد تباعد أهلها ... عنها عزالي الدموع الهمع )
( ونواعب الأطلال ليس يجيبني ... ما بينهن سوى الصدى بتوجع )
( وهواتف فوق الغصون يجيبني ... منهن تغريد الممام السجع )
( ناحت على عذب الفروع وإلفها ... منها بمرأى فوقها وبمسمع )
( ما فارقت إلفا كما فارقته ... كلا ولا أجرت سواكب أدمعي )
على أوان عيون سعوده روان وزمان معمور بأماني وأمان وآمال دوان وتهان ما بين بكر وعوان وفي عذر من طال ليله فاضطرب فيه لولوعه وسكن جواه بجوانبه

( إن طال ليلي بعدهم فلطوله ... عذر وذاك لما أقاسي منهم )
( لم تسر فيه نجومه لكنها ... وقفت لتسمع ما أحدث عنهم
فآرقي الزائد في حرقي أظهر المكنون وأبان ووجدي بمن نأى وبان لم يجد فيه تعلل برند وبان
( تنبهي يا عذبات الرند ... كم ذا الكرى هب نسيم نجد )
( فلست مثلي في جوى أو أرق ... وحرقة من فرقه أو صد )
( عوفيت مما حل بي من جيرة ... في الغرب لم يرثوا لفرط وجدي )
( أعلل القلب ببان رامة ... وهل ينوب غصن عن قد )
( بانوا فلا مغنى السرور بعدهم ... مغنى ولا عهد الرضا بعهد )
( آها من البعد ومن لم يدره ... لم يشجه تأوهي للبعد )
وفي شغل من أبكته الربوع والطلول وذهبت برهة من زمانه بين الترحل والحلول فركب من الأخطار الصعب والذلول وحافظ على العهود ولم يسلك سبيل الغادر الملول
( سقاها الحيا من أربع وطلول ... حكت دنفي من بعدهم ونحولي )
( ضمنت لها أجفان عين قريحة ... من الدمع مدرار الشؤون همول )
ومن الغريب الذي ينكره غير الأريب أن الحادي إن سر القلب بكشف رين فقد تسبب في اجتماع أمرين متنافيين متنافرين

( فسر وساء النفس شجوا فربما ... كلفت به من حيث صرت أذمه )
وارتجلت حين مللت من طول السرى مضمنا ذكر ما أروم له تيسرا وقد أكثر الرفاق عند رؤية ما لم يألفوه من الآفاق تلهفا وتحسرا
( قلت لما طال النوى عن بلادي ... ولأهل النوى جوى وعويل )
( هل أرى للفراق آخر عهد ... إن عمر الفراق عمر طويل )
ثم قلت مضمنا
( لائمي في ذكر أحباب نأوا ... لا تلم من أضعف الشوق قواه )
( إن يوما جامعا شملي بهم ... ذاك عيدي ليس لي عيد سواه )
ثم قلت مضمنا أيضا
( لك الله من صب أضر به النوى ... وليس له غير اللقاء طبيب )
( وإن صباحا نلتقي بمسائه ... صباح إلى قلبي المشوق حبيب )
ثم عدت إلى التصبر بعد إمعان النظر والتدبر
( وإني لأدري أن في الصبر راحة ... ولكن إنفاقي على الصبر من عمري )
( فلا تطف نار الشوق بالشوق طالبا ... سلوا فإن الجمر يسعر بالجمر )
ثم سلكت منهج التفويض والتسليم منشدا قول ابن قطرال المغربي في مقام النصح والتعليم ووجهت القصد إلى سكان الضمير بذلك التكليم
( إن أيام الرضا معدودة ... والرضا اجمل شيء بالعبيد

( لا تظنوا لي عنكم سلوة ... ما على شوقي إليكم من مزيد )
( راجعوا أنفسكم تستيقنوا ... أنكم في الوقت أقصى ما أريد )
( إن يوما يجمع الله بكم ... فيه شملي ذاك عندي يوم عيد )
وقول بعض من ندم علي البعد عن المعاهد وأمل العود أحمد إلى المشاهد وغفر للدهر ذنبه إن عاد وتلهف أن لم يعامله بغير الإبعاد
( لئن عاد جمع الشمل في ذلك الحمى ... غفرت لدهري كل ذنب تقدما )
( وإن لم يعد منيت نفسي بعودة وماذا عسى تجدي الأماني وقلما )
( يحق لقلبي أن يذوب صبابة ... وللعين أن تجري مدامعها دما )
( على زمن ماض بهم قد قطعته ... لبست به ثوب المسرة معلما )
وقول آخر يخاطب أحبابه ويذكر فواصل بحر النوى الطويل وأسبابه
( أعيذكم من لوعي وشجوني ... ونار جوى تذكي بماء شؤوني )
( وبرح أسى لم يبق في بقية ... سوى حركات تارة وسكون )
( ارى القلب أضحى بعد طارقه الأسى ... أسير صبابات رهين شجون )
( وكيف سبيل القرب منكم و دونكم ... رمال زرود والأجارع دوني )
( سلوا مضجعي هل قر من بعد بعدكم ... وهل عرفت طعم الرقاد جفوني )
( سهرنا بنعمان ونمتم ببابل ... فيا لعيون ما وفت لعيون )
وفي بعض الأحيان أتسلى بقول بعض الأندلسيين الأعيان
( لا تكترث بفراق أوطان الصبا ... فعسى تنال بغيرهن سعودا )
( فالدر ينظم عند فقد بحاره ... بجميل أجياد الحسان عقودا )
وقول

( فلربما نثر الجمان تعمدا ... ليعاد أحسن في النظام وأجملا )
( وارغب لمن أطال ذيول الغربة أن يقلصها وأطلب ممن أجال النفوس في سيول الكربة أن يخلصها
( فنلتقي وعوادي الدهر غافلة ... عما نروم وعقد البين محلول )
( والدار آنسة والشمل مجتمع ... والطير صادحة والروض مطلول )
( والدار آنسة والشمل مجتمع ... والطير صادحة والروض مطلول )
وأضرع إليه سبحانه في تيسير العود إلى أوطاني ومعهدي الذي مطايا العز أوطاني وأن يلحقني بذلك الأفق الذي خيره موفور وحق من فيه معروف لا منكر ولا مكفور
( إذا ظفرت من الدنيا بقربهم ... فكل ذنب جناه الدهر مغفور )
وكأني بعاتب يقول ما هذا التطويل فأقول له جوابي قول ابن أبي الإصبع الذي عليه التعويل
( أكثرت عذلي كأني كنت أول من ... بكى على مسكن أو حن للسكن )
( لا تلح إن من الإيمان عند ذوي الإيمان ... منا حنين النفس للوطن )
على أنني أقول اللهم يسر لي ما فيه الخيرة لي بالمشارق أو بالمغارب وجد لي من فضلك حيث حللت بجميع ما فيه رضاك من المآرب بجاه نبينا وشفيعنا المبعوث رحمة للأحمر والأسود والأعاجم والأعارب عليه أفضل صلاة وأزكى سلام وعلى آله وأصحابه الأعلام

ركوب البحر وبلوغ مصر
ثم جد بنا السير في البر أياما ونأينا عن الأوطان التي أطنبنا في الحديث حبا لها وهياما وكنا عن تفاعيل وصلها نياما إلى أن ركبنا البحر وحللنا منه بين السحر والنحر وشاهدنا من أهواله وتنافي أحواله ما لا يعبر عنه ولا يبلغ له كنه
( البحر صعب المرام جدا ... لا جعلت حاجتي إليه )
( أليس ماء ونحن طين ... فما عسى صبرنا عليه )
فكم استقبلتنا أمواجه بوجوه بواسر وطارت إلينا من شراعه عقبان كواسر قد أزعجتها أكف الريح من وكرها كما نبهت اللجج من سكرها فلم تبق شيئا من قوتها ومكرها فسمعنا للجبال صفيرا وللرياح دويا عظيما وزفيرا وتيقنا أنا لا نجد من ذلك إلا فضل الله مجيرا وخفيرا ( وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه ) ( الإسراء : 67 ) وأيسنا من الحياة لصوت تلك العواصف والمياه فلا حيا الله ذلك الهول المزعج ولا بياه والموج يصفق لسماع أصوات الرياح فيطرب بل ويضطربفكأنه من كأس الجنون يشرب أو شرب فيبتعد ويقترب وفرقه تلتطم وتصطفق وتختلف ولا تكاد تتفق فتخال الجو يأخذ بنواصيها وتجذبها أيديه من قواصيها حتى كاد سطح الأرض يكشف من خلالها وعنان السحب يخطف في استقلالها وقد أشرفت النفوس على التلف من خوفها واعتلالها وآذنت الأحوال بعد انتظامها باختلالها وساءت الظنون وتراءت في صورها المنون والشراع في قراع مع جيوش الأمواج

التي أمدت منها الأفواج بالأفواج ونحن قعود كدود على عود ما بين فرادى وأزواج وقد نبت بنا من القلق أمكنتنا وخرست من الفرق ألسنتنا وتوهمنا أنه ليس في الوجود أغوار ولا نجود إلا السماء والماء وذلك السفين ومن في قبر جوفه دفين مع ترقب هجوم العدو في الرواح والغدو لاجتيازه على عدة من بلاد الحرب دمر الله سبحانه من فيها وأذهب بفتحها عن المسلمين الكرب لا سيما مالطة الملعونة التي يتحقق من خلص من معرتها أنه أمد بتأييد إلهي ومعونة فقد اعترضت في لهوات البحر الشامي شجا وقل من ركبه فأفلت من كيدها ونجا فزادنا ذلك الحذر الذي لم يبق ولم يذر على ما وصفناه من هول البحر قلقا وأجرينا إذ ذلك في ميدان الإلقاء باليد إلى التهلكة طلقا وتشتتت أفكارنا فرقا وذنبا أسى وندما وفرقا إذ البحر وحده لا كمي يقارعه ولا قوي يصارعه ولا شكل يضارعه ولا يؤمن على حال ولا يفرق بين عاطل وحال ولا بين أعزل وشاك ومتباك وباك
( ثلاثة ليس لها أمان ... البحر والسلطان والزمان )
فكيف وقد انضم إليه خوف العدو الغادر الخائن والكافر الحائن إلى أن قضى الله بالنجاة وكل ما أراد فهو كائن وإن نهى عنه وأخطأ المائن فرأينا البر وكأنا قبل لم نره وشفيت به أعيينا من المرة وحصل بعد الشدة الفرج وشممنا من السلامة أطيب الأرج فيا لها من نعمة كشفت عن وجهها النقاب يقل شكرا لها صوم الأحقاب وعتق الرقاب جعلنا الله بآياته معتبرين ووعلى طاعته مصطبرين ولم نخل في البر من معاناة خطوب ومداراة وجوه للمتاعب ذات تجهم وقطوب فكم جبنا منه مهامه فيحا ومسحنا

بالخطا منها أثيرا وصفيحا وفلينا الفجاج وقرأنا من الطرق خطوطا ذا استقامة واعوجاج وقلوب الرفقة من الفرقة في اضطراب وارتجاج وربما عميت على المجتهد الأدلة التي يحصل بها على المذهب الاحتجاج فترى الأنفساس تعثر في زفرة الأشواق والأجسام قد زرت عليها من التعب الأطواق هذا والليل بصفحة البدر مرتاب وقد شدت رحال وأقتاب وزمت ركاب ورفعت أحداج وفريت من الدعة بمدية النصب أوداج وتساوى في السير نهار مشرق وليل مقمر أو داج وأديم التأويب والإسآد وحمل الغربة قد أثقل وآد ثم وصلنا بعد خوض بحار يدهش فيها الفكر ويحار وجوب فياف مجاهل يضل فيها القطا عن المناهل إلى مصر المحروسة فشفينا برؤيتها من الأوجاع وشاهدنا كثيرا من محاسنها التي تعجز عن وصفها القوافي والأسجاغ وتمثلنا في بدائعها التي لا نستوفيها بقول ابن ناهض فيها
( شاىء مصر دنة ... ما مثلها في بلد )
( لا سيما مذ زخرفت ... بنيلها المطرد )
( وللرياح فوقه ... سوابغ من زرد )
( مسرودة ما مسها ... داودها بمبرد )
( سائلة وهو بها ... يرعد عاري الجسد )
(

وبقول آخر
( انظر إلى النيل الذي ... ظهرت به آيات ربي )
( فكأنه في فيضه ... دمعي وفي الخفقان قلبي )
وبقول أبي المكارم ابن الخطير المعروف بابن مماتي في جزيرتها
( جزيرة مصر لا عدتك مسرة ... ولا زالت اللذات فيك اتصالها )
( فكم فيك من شمس على غصن قامة ... يميت ويحيي هجرها ووصالها )
( مغانيك فوق النيل أضحت هوادجا ... ومختلفات الموج فيك حبالها )
( ومن أعجب الأشياء انك جنة ... تمد على أهل الضلال ظلالها )
لعله أراد بأهل الضلال اليهود والنصارى المستولين إذ ذاك على الدولة وتذكرت في مصر قول القاضي الفاضل
( بالله قل للنيل عني إنني ... لم أشف من ماء الفرات غليلا )
( وسل القؤاد فإنه لي شاهد ... إن كان طرفي بالبكاء بخيلا )
( يا قلب كم خلفت ثم بثينة ... وأظن صبرك ان يكون جميلا

وقول أحمد بن فضل الله العمري
( لمصر فضل باهر ... بعيشها الرغد النضر )
( في سفح روض يلتقي ... ماء الحياة والخضر )
وقول آخر
( كأن النيل ذو فهم ولب ... لما يبدو لعين الناس منه )
( فيأتي حين حاجتهم إليه ... ويمضي حين يستغنون عنه )
وقول أخر
( ولله مجرى النيل منه إذا الصبا ... أرتنا به من مرها عسكرا مجرا )
0 - بشط يهز السمهرية ذبلا ... وموج يهز البيض هندية بترا )
( إذا مد حاكى الورد لونا وإن صفا ... حكى ماءه لونا ولم يحكه مرا ) وقول آخر
( واها لهذا النيل أي عجيبة بكر بمثل حديثها لا يسمع )
( يلقي الثرى في الماء وهو مسلم ... حتى إذا ما مال عاد يودع )
( مستقبل مثل الهلال فدهره ... أبدا يزيد

( الصب من بعدهم مفرد ... ودمعه النيل وتعليقه )
( وخذه لما بكاهم دما ... مقياسه والدمع تخليقه )
وقول الصفدي
( سقيا لمصر وما حوت ... من أنسها وأناسها )
( ومحاسن في مقسها ... تبدو وفي مقياسها )
( ومسرة كاساتها ... تجلى على اكياسها )
( وسطور قرط خطها الباري ... على قرطاسها )
( ودمى كنائسها ولا ... تنسى ظباء كناسها )
( ولطافة بجلالة ... تبدو على جلاسها )
( ونواسم كل المنى ... للنفس في أنفاسها )
( ومراكب لعبت بها الأمواج ... في وسواسها )
وقول ابن جابر الأندلسي
( ما زلت اسند من محاسن أرضها ... خبرا صحيحا ليس بالمقطوع )
( كم مرسل من

وقول إبراهيم بن عبدون
( والنيل بين الجانبين كأنما ... صدئت بصفحته صفيحة صيقل )
( يأتيك من كدر الزواخر مده ... بممسك من مائه ومصندل )
( فكأن ضوء البدر في تمويجه ... برق تموج في سحاب مسبل )
( وكأن نور السرج من جنباته ... زهر الكواكب تحت ليل أليل )
( مثل الرياض مفتقا أنواره ... تبدو لعين مشبه وممثل )
وقول ابن الصاحب
( فرح الأنام بنيلهم ... إذ صار أحمر كالشقيق )
( وتبركوا بشروقه ... فكأنه وادي العقيق )
وقول آخر
( احمر للنيل خد ... حتى غدا كالشقيق )
( وقد ترنمت فيه ... إذ صار وادي العقيق )
زيارة مكة والمدينة
ثم شمرت عن ساعد العزم بعد الإقامة بمصر مدة قليلة إلى المهم الأعظم والمقصد الأكبر الذي هو سر المطالب الجليلة وهو رؤية الحرمين الشريفين والعلمين المنيفين زادهما الله تنويها وبلغ النفوس ببركة من شرفا به مآرب لم تزل تنويها فسافرت في البحر إلى الحجاز راجيا من الله سبحانه في الأجر الانتجاز إلى أن بلغت جدة بعد مكابدة خطوب اتخذت لها من الصبر عدة فحين حصل القرب واكتحلت العين بإثمد تلك الترب

أنى أبقى الله الملك الكريم والسيد الزعيم لما أضاءت لي أهلة مفاخركم في سماء الفخار وأشرقت شموس مكارمكم على مفارق الأحرار وأبصرت شمائلك الزهر تهدى إليك من الهمم محامدها ومحاسنك الغر توقظ لك من الآمال رواقدها أيقنت أنه بحق انقادت لك القلوب بأعنتها وتهادت إليك النفوس بأزمتها فآليت أن لا ألم إلا بحماك ولا أحط رحلا إلا بفناك علما بأنك نثرة الفخر وغرة الدهر فتيممت ساريا في ساطع نورك متيمنا بيمن طائرك محققا للريح موقنا بالفلج والنجح حتى حللت في دوحة المجد وأنخت بدولة السعد واشتشعرت لبسة الشكر والحمد وجعلت أنظم من جواهر الكلام ما يربي علي جواهر النظام وأنشر من عطر الثناء ما يزري بالروضة الغناء وحاشا للفهم

قال محرضا على الوخد والإرقال
0 - بدا لك الحق فاقطع ظهر بيداء ... واهجر مقالة أحباب وأعداء )
( واقصد على عزمة أرض الحجاز تجد ... بعدا عن السخط في نزل الأوداء )
( وقل إذا نلت من أم القرى أربا ... وهو الوصول بإسرار وإبداء )
( يا مكة الله قد مكنت لي حرما ... مؤمنا لست أشكو فيه من داء )
( فمذ رأى النازح المسكين مسكنه ... في قطرك الرحب لم ينكب بأرزاء )
( شوق الفؤاد إلى مغناك متصل ... شوق الرياض إلى طل وأنداء )
ثم أنشدت عندما بدت أعلام البيت الحرام قول بعض من غلب عليه الشوق والغرام وقد بلغ من أمانيه الموجبة بشائره وتهانيه المرام
( وافى الحجيج إلى البيت العتيق وقد ... سجا الدجى فرأوا نورا به بزغا )
( عجبوا عجيجا وقالوا الله أكبر ما ... للجو مؤتلقا بالنور قد صبغا )
( قال الدليل ألا هاتوا بشارتكم ... فمن نوى كعبة الرحمن قد بلغا )
( نادوا على العيس بالأشواق وانتحبوا ... وحن كل فؤاد نحوها وصغا )
( وكل من ذم فعلا نال محمدة في مكة ومحا ما قد جنى وبغى )
ولما وقع بصري على البيت الشريف كدت أغيب عن الوجود واستشعرت قول العارف بالله الشبلي لما وفد إلى حضرة الجود
( قلت للقلب إذ تراءى لعيني ... رسم دار لهم فهاج اشتياقي )
( هذه دراهم وأنت محب ... ما احتباس

المعتب كأملي في التعزز بحوزتك والتجمل بجملتك والترفع بخدمتك فالسعيد من نشأ في دولتك وظهر في أمتك واستضاء بعزتك لقد فاز بالسبق من لحظته عين رعايتك وكنفته حوزة حمايتك فأنت الذي أمنت الذي بعدله نوائب الأيام وقويت بسلطانه دعائم الإسلام تختال بك المعاني اختيال العروس وتخضع لجلالك أعزة النفوس سابقة أشهر من الفجر وفطنة أنور من البدر وهمة أنفذ من الدهر [ الطويل ] لقد فاز من أضحى بكم متمسكا يشد على تأميل عزكم يدا سلكت سبيل الفخر خلقا مركبا وغيرك لا يأتيه إلا تجلدا فأنتم لواء الدين لا زال قيما بآرائكم في ظلمة الخطب يهتدى

( والمغاني للصب فيها معاني ... فهي تدعي مصارع العشاق )
( حل عقد الدموع واحلل رباها ... واهجر الصبر وارع حق الفراق )
ثم أكملت العمرة ودعوت الله أن أكون ممن عمر بطاعة ربه عمره وذلك أوائل ذي القعدة من عام ثمانية وعشرين وألف من الهجرة السنية وأقمت هنالك منتظرا وقت الحج الشريف ومتفيئا ذلك الظل الوريف ومقتطفا ثمار القرب الجنية إلى ان جاء الأوان فأحرمت بالحج من غير توان وحين حللت مما به أحرمت نويت الإقامة هنالك وأبرمت فحال من دون ذلك حائل وكنت حريا بأن أنشد قول القائل
( هذي أباطح مكة حولي وما ... جمعت مشاعرها من الحرمات )
( أدعو بها لبيك تلبية امرىء ... يرجو الخلاص بها من الأزمات )
( نلت المنى بمنى لأني لم أخف ... بالخيف من ذنب أحال سماتي )
( وعرفت في عرفات أني ناشق ... للعفو عرفا عاطر النسمات )
وأن أتمثل في المطاف إذ جفتني الألطاف بقول من ربعه بالتقوى مشيد البغدادي الشهير بابن رشيد
( على ربعهم لله بيت مبارك ... إليه قلوب الناس تهوي وتهواه )
( يطوف به الجاني فيغفر ذنبه ... ويسقطعنه جرمه وخطاياه )
( وكم لذة أو فرحة لطوافه ... فلله ما أحلى الطواف وأهناه )
ثم قصدنا بعد قضاء تلك الأوطار لطيبة الشريفة التي لها الفضل على الأقطار واستشعرت قول من أنشد وطير عزمه عن أوكاره قد طار
( حمدت مرادي إذ بلغت مرادي ... بأم القرى مستمسكا بعمادي )
( ومذ رويت من ماء زمزم غلتي ... فلست

ووضع الهناء موضع النقب والله سبحانه يبقي مولاي آخذا بزمام الفخر ناهضا بأعباء البر مالكا لأعنة الدهر وصنع الله سبحانه لسيدي أتم الصنع وأجمله وأفضله وأكمله بمنهن لا رب سواه انتهى رسالة ابن عبد البر إلى المنصور الصغير 109 رسالة ابن عبد البر إلى المنصور الصغير وقد تذكرت هنا والحديث شجون وبذكر المناسبات يبلغ الطلاب ما يرجون كتابا كتبه الأديب الكاتب أبو محمد ابن الإمام الحافظ محدث الأندلس أبي عمر بن عبد البر النميري إلى المنصور بن أبي عامر وهو من ذرية المنصور الكبير الذي كنا نتحدث في أخباره يمت إليه بسلفه ومعاملتهم لمن تقدم من آبائه بتعظيم قدره وإكباره وهو عمر الله ببقاء سيدي ذي السابقتين بهجة أوطانه وملكه عنان زمانه ومد عليه ظلال أمانه أنى أبقى الله الملك الكريم والسيد الزعيم لما أضاءت لي أهلة مفاخركم في سماء الفخار وأشرقت شموس مكارمكم على مفارق الأحرار وأبصرت شمائلك الزهر تهدى إليك من الهمم محامدها ومحاسنك الغر توقظ لك من الآمال رواقدها أيقنت أنه بحق انقادت لك القلوب بأعنتها وتهادت إليك النفوس بأزمتها فآليت أن لا ألم إلا بحماك ولا أحط رحلا إلا بفناك علما بأنك نثرة الفخر وغرة الدهر فتيممت ساريا في ساطع نورك متيمنا بيمن طائرك محققا للريح

فلله سبحانه الحمد على نعمه التي جلت ومننه التي نزلت بهاالنفوس مواطن التشريف وحلت
( من يهده الرحمن خير هداية ... يحلل بمكة كي يتاح المقصدا )
( وإذا قضى من حجه الفرض انثنى ... يشفي برؤية طيبة داء الصدى )
وكان حظي في هذه الحال تذكر قول بعض الوشاحين من الأندلسيين الذين كان لهم ارتحال إلى تلك المعاهد الطاهرة والمشاهد الزاهرة التي تشد إليها الرحال
( يا من لعبد به افتقار ... إلى أياد له جسام )
( فضلك مدن لخير مدن ... حل بها سيد الأنام )
( لم يهف قلبي لحب ليلى ... ولا سعاد ولا الرباب )
( لاقى شجونا ونال ويلا ... من هام في ذلك الجناب )
( بل مال مني الفؤاد ميلا ... لمن له الحب لا يعاب )
( قلبي والله مستطار ... مذ حل في بيته الحرام )
( ذا الحجر والركن خير ركن ... وزمزم الخير والمقام )
( ذابت قلوب المطي عشقا ... وركبها واستوى المراد )
( إلى حبيب القلوب حقا ... الحي والميت والجماد )
( إلى الذي ليس فيه يشقى ... من حبه داخل الفؤاد )
( شكوا وقد طالت السفار ... هم ومطاياهم السقام ) فهي قسي من التثني ... والقوم من فوقها سهام ) ولست من سكرتي مفيقا ... حتى أرى حجرة الرسول

المجد وأنخت بدولة السعد واشتشعرت لبسة الشكر والحمد وجعلت أنظم من جواهر الكلام ما يربي علي جواهر النظام وأنشر من عطر الثناء ما يزري بالروضة الغناء وحاشا للفهم أن يعطل ليلي من أقمارك أو يخلي أفقي من أنوارك فأراني منخرطا في غير سلكه ومنحطا إلى غير ملكه لا جرم أنه من استضاء بالهلال غني عن الذبال ومن استنار بالصباح ألقى سنا المصباح وتالله ما هزت آمالي ذوائبها إلى سواك ولا حدت أوطاري ركائبها إلى من مداك ليكون في أثر الوسمي في الماحل وعلي جمال الحلي على العاطل لسيادتك السنية ورياستك الأولية التي يقصر عنها لسان إفصاحي ويعيا في بعضها بياني وإيضاحي فالقراطيس عند بث مناقبك تفنى والأقلام في رسم مآثرك تخفى وما أمل المجدب في حياة المخصب ولا جذل المذنب برضا المعتب كأملي في التعزز بحوزتك والتجمل بجملتك والترفع بخدمتك فالسعيد من نشأ في دولتك وظهر في أمتك واستضاء بعزتك لقد فاز بالسبق من لحظته عين رعايتك وكنفته حوزة حمايتك فأنت الذي أمنت الذي بعدله نوائب الأيام وقويت بسلطانه دعائم الإسلام تختال بك المعاني اختيال العروس وتخضع لجلالك أعزة النفوس سابقة أشهر من الفجر وفطنة أنور من البدر وهمة أنفذ من الدهر [ الطويل ] لقد فاز من أضحى بكم متمسكا يشد على تأميل عزكم

( متى ترى عيني العقيقا ... ويفرح القلب بالوصول )
( كم قلت والصبر مستعار ... للركب إذا غادروا المنام )
( ونسمة الشوق حركتني ... وزاد بي الوجد والغرام )
( قوموا فقد طال ذا الجلوس ... وبادروا زورة الحبيب )
( تاقت إلى طيبة النفوس ... لا عيش من دونها يطيب )
( لا حبذا دونها الغروس ... والماء والشادن الربيب )
( وحبذا الرمل والقفار ... والعرب في تلكم الخيام )
( وأم غيلان ظللتني ... والأيك والأثل والثمام )
( يا طيبة حزت كل طيب ... بسيد فيك ذي حلول )
( نداء مستضعف غريب ... في غر أمداحه يقول )
( وهو من السامع المجيب ... لمدحه يسأل القبول )
( أنت الغني لي فلا افتقار ... وأنت عزي فلا أضام )
( مستمسك منك حسن ظني ... بعروة ما لها انفصام )
( بسيد العالمين أجمع ... بأحمد المجتبى الرسول )
( ومن هو الشافع المشفع ... في موقف المحشر المهول )
( إذ لا كلام هناك يسمع ... للغير والناس في ذهول )
( إذ السماء لها انفطار ... والشهب منثورة النظام )
( كذا الجبال انثنت كعهن ... سريعة المر كالغمام )
( يا اول الرسل

إلا تجلدا فأنتم لواء الدين لا زال قيما بآرائكم في ظلمة الخطب يهتدى ليهنكم مجد تليد بنيتم أغار سناه في البلاد وأنجدا ومثله أبقاه الله سبحانه يستثمر إيراقه فيثمر جناه ويستمطر إبراقه فيمطر حياه لا سيما وإني نشأة حفها إحسان أوائلك الطاهرين وألفها إنعام أكابرك الأخيار الطيبين وجدير بقبولك وإقبالك وبرك وإجمالك من أصله ثابت في أهل محبتكم وفرعه نابت في خاصتكم [ الطويل ] وما رغبتي في عسجد أستفيده ولكنها في مفخر أستجده فكل نوال كان أو هو كائن فلحظة طرف منك عندي نده فكن في اصطناعي محسنا كمجرب يبن لك تقريب الجواد وشده إذا كنت في شك من السيف فابله فإما تنافيه وإما تعده وما الصارم الهندي إلا كغيره إذا لم يفارقه النجاد وغمده ولا بأس أن يتطول مولاي بغرس الصنيعة في أزكى الترب ووضع الهناء موضع النقب والله سبحانه يبقي مولاي آخذا بزمام الفخر ناهضا بأعباء البر مالكا لأعنة الدهر وصنع الله سبحانه لسيدي أتم الصنع وأجمله وأفضله وأكمله بمنهن لا رب سواه انتهى من أخبار المنصور الكبير محمد بن أبي عامر والمصحفي 111 من أخبار المنصور الكبير محمد بن أبي عامر والمصحفي رجع إلى أخبار المنصور الكبير محمد بن أبي عامر رحمه الله ! وكنا قد ذكرنا أنه قبض على الوزير الحاجب المصحفي مع أنه كان أحد أتباعه

( شفاعة نلت مع وسيلة ... فمن يضاهي علاك من )
( علت بك الرتبة الجليلة ... وطبت في السر والعلن )
( فأنت من خيرهم خيار ... فمن يضاهيك في المقام )
( والرسل نالت بك التمني ... وأنت بدر لهم تمام )
( الوجد قد قر في فؤادي ... فما لصبر به قرار )
( ولاعجي صاعد اتقاد ... ودمع عيني له انهمار )
( وها أنا جئت من بلادي ... لطيبة أبتغي الجوار )
( فحبذا تلكم الديار ... والمصطفى مسكة الختام )
( عليه أزكى الصلاة مني ... وصحبه الغر والسلام )
وقول أبي جعفر الرعيني الغرناطي رحمه الله تعالى وهو من التشريع أحد أنواع البديع
( يا راحلا يبغي زيارة طيبة ... نلت المنى بزيارة الأخيار )
( حي العقيق إذا وصلت وصف لنا ... وادي مني يا طيب الأخبار )
( وإذا وقفت لدى المعرف داعيا ... زال العنا وظفرت بالأوطار )
ولما من الله تعالى علينا بالحلول في المشاهد التي قام الدين بها وظهر والمعاهد التي بان الحق فيها واشتهر والمواطن التي هزم الله تعالى

وبهجة النفوس ونزهة الأبصار ولما أمر المنصور بن أبي عامر بسجن المصحفي في المطبق بالزهراء ودع أهله وودعوه وداع الفرقة وقال لهم لستم ترونني بعدها حيا فقد أتى وقت إجابة الدعوة وما كنت أرتقبه منذ أربعين سنة وذلك أني أشركت في سجن رجل في عهد الناصر وما أطلقته إلا برؤيا رأيتها بأن قيل لي أطلق فلانا فقد أجيبت فيك دعوته فأطلقته وأحضرته وسألته عن دعوته علي فقال دعوت على من شارك في أمري أن يميته الله في أضيق السجون فقلت إنها قد أجيبت فإني كنت ممن شارك في أمره وندمت حين لا ينفع الندم فيروى أنه كتب للمنصور بن أبي عامر بهذه الأبيات [ البسيط ] هبني أسأت فأين العفو والكرم إذ قادني نحوك الإذعان والندم يا خير من مدت الأيدي إليه أما ترثي لشيخ نعاه عندك القلم بالغت في السخط فاصفح صفح مقتدر إن الملوك إذا ما استرحموا رحموا فأجابه المنصور بأبيات لعبد الملك الجزيري [ البسيط ] يا جاهلا بعد ما زلت بك القدم تبغي التكرم لما فاتك الكرم ندمت إذ لم تعد مني بطائلة وقلما ينفع الإذعان والندم نفسي إذا جمحت ليست براجعة ولو تشفع فيك العرب والعجم فبقي في المطبق حتى مات نعوذ بالله تعالى من دعوة المظلوم انتهى وقد ذكر بعضهم فيه هذه الأبيات زيادة حسبما ذكرناه في غير هذا المحل فإن هذه الأبيات للمنصور وهذا المؤرخ مصرح بأنها لعبد الملك الجزيري وقد يقال

وقهر ونصرت النبوة وعضدت وقطعت غصون الكفر وحصدت ورصت قواعد التوحيد ونضدت وقرت العيون وقضيت الديون انشد لسان الحال قول بعض من جيده بمحاسن طيبة حال
( يا من به طيبة طابت حلى وعلى ... ومن بتشريفه قد شرف العرب )
( يا احمد المصطفى قد جئت من بلد ... قاص ولي خلد قاس ولي أرب )
( وقد دهتني ذنوب قلت إذ عظمت ... لله منها وطه المرتجى الهرب )
ونسينا بمشاهدة ذلك الجناب ما كنا فيه وسبق الدمع الذي لا يعارض الفرح ولا ينافيه
( أيها المغرم المشوق هنيئا ... ما أنالوك من لذيذ التلاقي )
( قل لعينيك تهملان سرورا ... طالما أسعدا ك يوم الفراق )
( واجمع الوجد والسرور ابتهاجا ... وجميع الأشجان والأشواق )
( وأمر العين أن تفيض انهمالا ... وتوالي بدمعها المهراق )
( هذه دارهم وأنت محب ... ما بقاء الدموع في الآماق )
وملنا عن الأكوار وثملنا من عرف تلك الأنجاد والأغوار وتملينا من هاتيك الأنوار وتخلينا عن الأغيار وتحلينا بحلى الأخيار وكيف لا وطيبة مركز للزوار
( إذا لم تطب في طيبة عند طيب ... به طيبة طابت فأين تطيب )
( وإن لم يجب في ارضها ربنا الدعا ... ففي أي أرض للدعاء يجيب )
( أيا

لا منافاة بينهما فإن المنصور أجاب بالأبيات وهل هو قائلها أم لا الأمر أعم فبين هنا والله أعلم وقال بعض مؤرخي المغرب إن الحاجب المصحفي حصل له في هذه النكبة من الهلع والجزع ما لم يظن أنه يصدر من مثله حتى إنه كتب إلى المنصور بن أبي عامر يطلب منه أن يقعد في دهليزه معلما لأولاده فقال المنصور بدهائه وحذفه إن هذا الرجل يريد أن يحط من قدري عند الناس لأنهم طالما رأوني بدهليزه خادما ومسلما فكيف يرونه الآن في دهليزي معلما ! وكان المنصور يذهب به بعد نكبته معه في غزواته حتى إنه حكى بعضهم أنه رأى الحاجب المصحفي في ليلة نهى المنصور فيها الناس عن إيقاد النيران تعمية على العدو الكافر وهو ينفخ فحما في كانون صغير ويخفيه تحت ثيابه أو كما قال فسبحان مديل الدول لا إله إلا هو فإن هذا المصحفي بلغ من الجلالة والعظم والتحكم في الدولة المدة المديدة أمرا لا مزيد عليه والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين ولقد ذكر بعض علماء المغاربة أن من أعاجيب انقلاب الدنيا بأهلها قصة المنصور بن أبي عامر مع الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي ولم يزل أعداء المنصور بن أبي عامر يتربصون به الدوائر فغلب سعده الذي هو المثل السائر وربما همس بعض الشعراء بهجوه وهجو الدولة جميعا إذ قال [ السريع ] اقترب الوعد وحان الهلاك وكل ما تحذره قد أتاك خليفة يلعب

وما أحسن قول عالم الأندلس المالكي اللبيب عبد الملك السلمي المشهور بابن حبيب
( لله در عصابة صاحبتها ... نحو المدينة تقطع الفلوات )
( ومهامه قد جبتها ومفاوز ... ما زلت أذكرها بطول حياتي )
( حتى أتينا القبر قبر محمد ... خص الإله محمدا بصلاة )
( خير البرية والنبي المصطفى ... هادي الورى لطرائق الجنات )
( لما وقفت بقربه لسلامه ... جادت دموعي واكف العبرات )
( ورأيت حجرته وموضعه الذي ... قد كان يدعو فيه في الخلوات )
( مع روضة قد قال فيها إنها ... مشتقة من روضة الجنات )
( وبمنزل الأنصار وسط قبابهم ... بيت الهداية كاشف الغمرات )
( وبطيبة طابوا ونالوا رحمة ... مقنى الكتاب ومحكم الآيات )
( وبقبر حمزة والصحابة حوله ... فاضت دموع العين منهمرات )
( سقيا لتلك معاهدا شاهدتها ... وشهدتها بالخطو واللحظات )
( لا زلت زوارا لقبر نبينا ... ومدينة زهراء بالبركات )
( صلى الإله على النبي المصطفى ... هادي البرية كاشف الكربات )
( وعلى ضجيعيه السلام مرددا ... ما لاح نور الحق في الظلمات ) حذف 1

مكتب وأمه حبلى وقاض يناك

وقول كمال الدين ناظر قوص أنخ هذه والحمد لله يثرب ... فبشراك قد نلت الذي كنت تطلب ) فعقر بهذا الترب وجهك إنه ... أحق به من كل طيب وأطيب ) وقبل ربوعا حولها قد تشرفت ... بمن جاورت والشيء بالشيء يجب )
( وقبل ربوعا حولها قد تشرفت ... بمن جاورت والشيئ يحبب )
( وسكن فؤادا لم يزل باشبياقه ... إليها على جمر الغضا يتقلب ) وكتكف دموعا طالما قد سفحتها ... وبرد جوى نيرانه تتلهب )
وقول الرعيني الغرناطي
( هذه روضة الرسول فدعني ... أبذل الدمع في الصعيد السعيد )
( لا تلمني على انسكاب دموعي ... إنما صنتها لهذا الصعيد )
ولما سلمت على سيد الأنام عليه من الله أفضل الصلاة وأزكى السلام ذبت حياء وخجلا لما أنا عليه من ارتكاب مايقتضي وجلا غير أني توسلت بجاهه في أن أكون ممن وضح له وجه الصفح وجلا
( إليك أفر من زللي ... فرار الحائف الخجل )
( وكان مزار قبرك بالمدينة ... منتهى أملي )
( فوفى الله ما طمحت ... له نفسي

( وهب لي منك عارفة ... تعرف ما تنكر لي )
( وتهديني إلى رشدي ... وتمنعني من الزلل )
( وتحملني على سنن ... يؤمنني من الوجل )
( فأنت دليل من عميت ... عليه مسالك السبل )
( وإنك شافع بر ... وموئلنا من الوهل )
( وإنك خير مبتعث ... وإنك خاتم الرسل )
( فيا أزكى الورى شرفا ... وشافيهم من العلل )
( ويا أندى الأنام يدا ... وأكرم ناصر وولي
( نداء مقصر وجل ... بثوب الفقر مشتمل )
( على جدواك معتمدي ... فأنقذني من الدخل )
( وألحقني بجنات ... لدى درجاتها الأول )
( بصديق وفاروق وعثمان الرضى وعلي )
( فأنت ملاذ معتصم ... وأنت عماد متكل )
( عليك صلاة ربك جل ... في الغدوات والأصل )
ومذ شممنا من أرج تلك الأرجاء الذاكية واستضأنا بسرج تلك الأضواء الزاكية ظهر من الشوق ما كان بطن ولم يخطر ببالنا سكن ولا وطن ويا سعادة من أقام بتلك البقاع الشريفة وقطن
( مر النسيم بربعهم فتلذذا ... حتى كأن النشر صار له غدا )
( فصحا وصح وصاح لا أشكو أذى ... قل للصبا ماذا حملت من الشذا )
( أمسست طيبا أم علاك عبير ... ) حذف

المنصور بن أبي عامر بسجن المصحفي في المطبق بالزهراء ودع أهله وودعوه وداع الفرقة وقال لهم لستم ترونني بعدها حيا فقد أتى وقت إجابة الدعوة وما كنت أرتقبه منذ أربعين سنة وذلك أني أشركت في سجن رجل في عهد الناصر وما أطلقته إلا برؤيا رأيتها بأن قيل لي أطلق فلانا فقد أجيبت فيك دعوته فأطلقته وأحضرته وسألته عن دعوته علي فقال دعوت على من شارك في أمري أن يميته الله في أضيق السجون فقلت إنها قد أجيبت فإني كنت ممن شارك في أمره وندمت حين لا ينفع الندم فيروى أنه كتب للمنصور بن أبي عامر بهذه الأبيات [ البسيط ] هبني أسأت فأين العفو والكرم إذ قادني نحوك الإذعان والندم يا خير من مدت الأيدي إليه أما ترثي لشيخ نعاه عندك القلم بالغت في السخط فاصفح صفح مقتدر إن الملوك إذا ما استرحموا رحموا فأجابه المنصور بأبيات لعبد الملك الجزيري [ البسيط ] يا جاهلا بعد ما زلت بك القدم تبغي التكرم لما فاتك الكرم ندمت إذ لم تعد مني بطائلة وقلما ينفع الإذعان والندم نفسي إذا جمحت ليست براجعة ولو تشفع فيك العرب والعجم فبقي في المطبق حتى مات نعوذ بالله تعالى من دعوة المظلوم انتهى وقد ذكر بعضهم فيه هذه الأبيات زيادة حسبما ذكرناه في غير هذا المحل فإن هذه الأبيات للمنصور وهذا المؤرخ مصرح بأنها لعبد الملك الجزيري وقد يقال لا منافاة بينهما فإن المنصور أجاب

( يا ايها الحادي الذي من وسمه ... قصد الحبيب وأن يلم برسمه )
( هذي منازله فزمزم باسمه ... بأبي الذي لم تذو زهرة جسمه )
( لكنه غض الجمال نضير ... )
( لله شوق قد تجاوز حده ... أوفى على الصبر المشيد فهده )
( يا ناشق الكافور لا تتعده ... طوبى لمشتاق يعفر خده )
( في روضة الهادي إليه يشير ... )
( فهناك ببذل في التوسل وسعه ... ويصيخ نحو خطيب طيبة سمعه )
( وبريق فوق حصى المصلى دمعه ... ويرى معالم من يحب وربعه )
( ومحمد للعالمين بشير ... )
( صلى عليه الله خير صلاته ... وحبا معاليه جليل صلاته )
( ما حن ذو الأشواق في حالاته ... وأتى مغانيه على علاته )
( فأتيح حسن الختم وهو قرير ... )
ووقفنا بباب طلب الآمال خاشعين وتوسلنا إلى الله بذلك المقام العلي خاضعين وغبطنا قوما سكنوا هنالك فكانوا لحدودهم متى شاءوا على تلك الأعتاب واضعين
( اكرم بعيد نحو طيبة مسند ... متوسل مستشفع مسترشد )
( يفلي الفلاة لها بعزم أيد ... وافى إلى

بالأبيات وهل هو قائلها أم لا الأمر أعم فبين هنا والله أعلم وقال بعض مؤرخي المغرب إن الحاجب المصحفي حصل له في هذه النكبة من الهلع والجزع ما لم يظن أنه يصدر من مثله حتى إنه كتب إلى المنصور بن أبي عامر يطلب منه أن يقعد في دهليزه معلما لأولاده فقال المنصور بدهائه وحذفه إن هذا الرجل يريد أن يحط من قدري عند الناس لأنهم طالما رأوني بدهليزه خادما ومسلما فكيف يرونه الآن في دهليزي معلما ! وكان المنصور يذهب به بعد نكبته معه في غزواته حتى إنه حكى بعضهم أنه رأى الحاجب المصحفي في ليلة نهى المنصور فيها الناس عن إيقاد النيران تعمية على العدو الكافر وهو ينفخ فحما في كانون صغير ويخفيه تحت ثيابه أو كما قال فسبحان مديل الدول لا إله إلا هو فإن هذا المصحفي بلغ من الجلالة والعظم والتحكم في الدولة المدة المديدة أمرا لا مزيد عليه والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين ولقد ذكر بعض علماء المغاربة أن من أعاجيب انقلاب الدنيا بأهلها قصة المنصور بن أبي عامر مع الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي ولم يزل أعداء المنصور بن أبي عامر يتربصون به الدوائر فغلب سعده الذي هو المثل السائر وربما همس بعض الشعراء بهجوه وهجو الدولة جميعا إذ قال [ السريع ] اقترب الوعد وحان الهلاك وكل ما تحذره قد أتاك خليفة يلعب في مكتب وأمه حبلى وقاض يناك يعني بالخليفة

( أزجاه صادق حبه المتمكن ... وحداه سائق عزمه المتعين )
( فحكى لدى شجو حمام الأغصن ... هزجا يردد فيه صوت ملحن )
( ويمد للإطراب صوت المنشد ... )
ويقول جئت بعزمة نزاعة ... ونهضت والدنيا تمر كساعة )
( لمحل أحمد قائلا بإذاعة ... هذا النبي المرتجى لشفاعة )
( يوم القيامة بين ذلك المشهد ... )
ل هذا الرؤوف بجاره ونزيله ... هذا سراج الله في تنزيله )
( هذا الذي الذي لا ريب في تفضيله ... هذا حبيب الله وابن خليله )
( هذا ابن باني البيت أول مسجد ... )
( هذا الذي اصطفت النبوة خيمة ... هذا الذي اعتام الهدى تقديمه )
( هذا الذي نسقى غدا تسنيمه ... هذا الذي جبريل كان خديمه )
( في حضرة التشريف أزكى مصعد ... )
( هذا الذي شهد الوجود بخصه ... بمزية التفضيل من مختصه )
( وأبانه من وحيه في نصه ... هذا الذي ارتفع البراق بشخصه )
( في ليلة الإسراء أشرف مشهد ... )
( هذا الذي غدت الطلول حديقة ... بجواره وغدت تروق أنيقة )
( هذا المكمل خلقة وخليقة ... هذا الذي سمع النداء حقيقة )
( ودنا ولم يك قبل ذاك بمبعد ... )
( فهناك كم رسل به تتوسل ... وعلى حماه لدى المعاد يعول )
( يا أرحم الرحماء أنت المؤمل ... يا خاتم الارسال أنت الأول )
( فترق في أعلى المكارم

هشاما المؤيد لكونه كان صغيرا وأمه صبح البشكنشية كان الأعداء يتهمون بها المنصور وذلك بهتان وزور وأفظع منه رميهم القاضي بالفجور والله عالم بسرائر الأمور ونعوذ بالله من ألسنة الشعراء الذين لا يراعون إلا ولا ذمة ويطلقون ألسنتهم في العلماء والأئمة [ الطويل ] وأظلم أهل الأرض من كان حاسدا لمن بات في نعمائه يتقلب جدير بأن لا يدرك ما يؤمل ويتطلب لأنه يعترض على الله سبحانه في أحكامه نعوذ بالله من شر أنفسنا ومن شر كل ذي شر بجاه نبينا عليه أزكى صلوات الله وأفضل سلامه وقد قدمنا أن المنصور بن أبي عامر كان أولا يخدم جعفر بن عثمان المصحفي مدبر مملكة هشام المؤيد ويريه النصيحة وأنه ما زال يستجلب القلوب بجوده وحسن خلقه والمصحفي ينفرها ببخله وسوء خلقه إلى أن كان من أمره ما كان فاستولى على الحجابة وسجن المصحفي وفي ذلك يقول المصحفي [ الطويل ] غرست قضيبا خلته عود كرمة وكنت عليه في الحوادث قيما وأكرمه دهري فيزداد خبثه ولو كان من أصل كريم تكرما ولما يئس المصحفي من عفو المنصور قال [ الكامل ] لي مدة لا بد أبلغها فإذا انقضت أيامها مت لو قابلتني الأسد ضارية والموت لم يقرب لما خفت فانظر إلي وكن على حذر في مثل حالك أمس قد كنت ومن أحسن ما نعى به نفسه قوله حسبما تقدم [ الطويل

( الله رفع في سراه منارة ... وأبان في السبع العلا أنواره )
( فقفت ملائكة السما آثاره ... واراه جنته هناك وناره )
( فمؤيد ومخلد لمخلد ... )
( كم زاد من وجل وجلى ظلمة ... وامتن بالرحمن ومتن حرمة )
( لما دجا أفق الضلالة دهمة ... بعث الإله به ليرحم أمة )
( لولاه كانت بالضلالة ترتدي ... )
( حاز الشفوف فكل خلق دونه ... فالغيث يسأل إذ يسيل يمينه )
( والشمس تستهدي ا لشروق جبينه ... والله فضله وأظهر دينه )
( ووفى لنا فيه بصدق الموعد ... )
( نطقي يغادي ذكره ويراوح ... وبه ينافج مسكة وينافح )
( تعيي اللسان محامد وممادح ... طوبى لمن قد عاش وهو يكافح )
( عنه يناضل باللسان وباليد ... )
( هو صفوة العرب الأولى أحسابهم ... اسيافهم قرنت بها أسبابهم )
( فهم لباب المجد وهو لبابهم ... من آل بيت لم تزل أنسابهم )
( تنبي لهم عن طيب عنصر مولد ... )
( شرف النبوة قد رسا في أهلها ... وسما على الزهر العلا بمحلها )
( ساق السوابق للفخار برسلها ... نطق الكتاب كما علمت بفضلها )
( وقضى به نص الحديث المسند ... )
( فوق السماك توطنت وتوطدت ... وتفردت بالمصطفى وتوحدت )
( فهي الخلاصة صفيت فتجردت ... من معدن فيه الرسالة قد بدت )
( من عصر آدمنا لعصر محمد

كيف اعترافه وللنفس بعد العز كيف استذلت وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى فإن طمعت ماتت وإلا تسلت وكانت على الأيام نفسي عزيزة فلما رأت صبري على الذل ذلت فقلت لها يا نفس موتى كريمة فقد كانت الدنيا لنا ثم ولت وأنشد له الفتح في المطمح ونسبهما غيره لأحمد بن الفرج صاحب الحدائق [ الخفيف ] كلمتني فقلت در سقيط فتأملت عقدها هل تناثر فازدهاها تبسم فأرتني نظم در من التبسم آخر وله كما مر [ الكامل

( طالوا فلم يبقوا لمجد مصعدا ... صالوا ففي أيمانهم حتف العدا )
( سالوا فهم لعفاتهم غيث الجدا ... أهل السقاية والرفادة والندى )
( والكعبة البيت الحرام المقصد ... )
( المطعمون وقد طوى المري الطوى ... الناهضون إذا الصريخ لهم نوى )
( العاطفون إذا الطريق بهم ثوى ... أهل السدانة والحجابة واللوا )
( أهل المقام وزمزم والمسجد ... )
( المصلحون إذا الجموع تخاذعت ... المنجحون إذا المساعي دافعت ... )
( الدافعون إذا الأعادي قارعت ... المؤثرون إذا السنون تتابعت )
( وفد الحجيج بنيل كل تفقد ... )
( لا يقرب الخطب الملم منيعهم ... لا يطرق الكرب المخيف قريعهم )
( والله شرف بالنبي جميعهم ... من نال رتبتهم وحاز صنيعهم ... )
( نال الشفوف وحاز معنى السؤدد ... )
( حلوا من الطودالأشم بمنعة ... في خير معتصم وأسمى رفعة )
( فهم بمنة أمنه في هجعة ... الله خصصهم بأشرف بقعة )
( محجوجة محفوفة بالأسعد ... )
( لما أتيت لرامة أصل السرى ... من بعد قصدي مكة أم القرى )
( أنشدت جهرا فيه أنثر جوهرا ... وإليكها يا خير من وطىء الثرى )
( عذراء

شأن عظيم ومقام كبير وكيف لا قال ابن بشكوال أخرج هذا المصحف منها - أي قرطبة - وغرب منها وكان بجامعها الأعظم ليلة السبت حادي عشر شوال سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة في أيام أبي محمد عبد المؤمن بن علي وبأمره وهذا أحد المصاحف الأربعة التي بعث بها عثمان رضي الله تعالى عنه إلى الأمصار مكة والبصرة والكوفة والشام وما قيل إن فيه دم عثمان هو بعيد وإن يكن أحدها فلعله الشامي قاله ابن عبد الملك قال أبو القاسم التجيبي السبتي أما الشامي فهو باق بمقصورة جامع بني أمية بدمشق المحروسة وعاينته هناك سنة 657 كما عاينت المكي بقبة اليهودية وهي قبة التراب قلت عاينتها مع الذي بالمدينة سنة 735 وقرأت فيهما قال النخعي لعله الكوفي أو البصري وأقول اختبرت الذي بالمدينة والذي

( كل الحسان لحسنها قد أدهشا ... ما مثلها في تربها شاد نشا )
( سفرت بعزم ما أجد وأطيشا ... نشأت بطي القلب وارتوت الحشا )
( زهراء من يرها يهل ويسجد ... )
( أمتك تشأى في مداها الألسنا ... وتري إجادتها المجيد المحسنا )
( تغدو ولا تثني العنان عن الثنا ... وأتتك تمرح كالقضيب إذا انثنى )
( مترنحا بين الغصون الميد ... )
( قد أعلمت في المدح ثاقب ذهنها ... ترجو الحلول لدى قرارة أمنها )
( وعسى إذا غذيت بتربة عدنها ... يجلو لك الإحسان بارع حسنها )
( والحسن يجلوها وإن لم تنشد ... )
( مدحي لخير العالمين عقيدتي ... ومطيتي بل طيبتي ونشيدتي )
( ونتيجتي وهدى اليقين مفيدتي ... ولئن مدحت محمدا بقصيدتي )
( فلقد مدحت قصيدتي بمحمد ... )
( يا خير خلق الله دعوة حائر ... يشكو إليك صروف دهر جائر )
( والله يعلم في هواك سرائري ... وهو الذي أرجو لعفو جرائري )
( متوسلا بجنابك المتأطد ... )
( لولا حقوق عينت بمغارب ... لمكثت عندك كي تتدح مآربي )
( ويكون في الزرقاء عذب مشاربي ... حتى أحلى من ثراك ترائبي )
( وأنال دفنا في بقيع الغرقد ... )
( وعليك من رب حباك صلاته ... وسلامه وهباته وصلاته )
( ما أم بابك من هدته فلاته ... لعلاك حتى زحزحت علاته )
( فأتيح

حمله المعتضد وهو السعيد علي بن المأمون أبي العلاء إدريس بن المنصور حين توجه لتلمسان آخر سنة 645 فقتل قريبا من تلمسان وقدم ابنه إبراهيم ثم قتل ووقع النهب في الخزائن واستولت العرب وغيرهم على معظم العسكر ونهب المصحف ولم يعلم مستقره وقيل إنه في خزانة ملوك تلمسان قلت لم يزل هذا المصحف في الخزانة إلى أن افتتحها إمامنا أبو الحسن أواخر شهر رمضان سنة 737 فظفر به وحصل عنده إلى أن أصيب في وقعة طريف وحصل في بلاد برتقال وأعمل الحيلة في استخلاصه ووصل إلى فاس سنة 745 على يد أحد تجار أزمور واستمر بقاؤه في الخزانة انتهى باختصار واعتنى به ملوك الموحدين غاية الاعتناء كما ذكره ابن رشيد في رحلته ولا بأس أن أذكر كلامه بجملته والرسالة في شأن المصحف لما فيها من الفائدة ونص محل الحاجة منه أنشدني الخطيب أبو محمد بن برطلة من لفظه وكتبته من خطه قال أنشدني الشيخ الفقيه القاضي أبو القاضي أبو القاسم عبد الرحمن بن كاتب الخلافة أبي عبد الله بن عياش لأبيه رحمهم الله تعالى مما نظمه وقد أمر أمير

ثم ودعته صلى الله عليه و سلم والقلب من فراقه سقيم ووقعت من البعد عن تلك المعاهد في المقعد المقيم وأنا أرجو أن يكون شكل منطقي غير عقيم وأن أحشر في زمرة من سلك الصراط المستقيم
( يا شفيع العصاة أنت رجائي ... كيف يخشى الرجاء عندك خيبة )
( وإذا كنت حاضرا بفؤادي ... غيبة الجسم عنك ليست بغيبة )
( ليس بالعيش في البلاد انتفاع ... أطيب العيش ما يكون بطيبة )
زيارة بيت المقدس
ثم عدت إلى مصر وقد زال عني ببركته صلى الله عليه و سلم الإصر وذلك في محرم سنة 1029 ثم قصدت زيارة بيت المقدس في شهر ربيع من هذا العام وقد شملتني بفضل الله جوائز الإنعام وتذكرت عند مشاهدة تلك المسالك الصعبة قول حافظ الحفاظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى وهو مما زادني في هذه الزيارة رغبة
( إلى البيت المقدس جئت أرجو ... جنان الخلد نزلا من كريم )
( قطعنا في مسافته عقابا ... وما بعد العقاب سوى النعيم )
فلما دخلت المسجد الأقصى وأبصرت بدائعه التي لا تستقصي بهرني جماله الذي تجلى الله به عليه وسألت عن محل المعراج الشريف فأرشدت إليه وشاهدت محلا أم فيه الرسل الكرام الهداة وكان حقي أن أنشد هنالك

صاحبه وعلى ذكر هذا المصحف الكريم فلنذكر كيفية الأمر في وصوله إلى الخليفة أمير المؤمنين عبد المؤمن وما أبدى في ذلك من الأمور الغريبة التي لم يسمع بمثلها في سالف الدهر حسبما أطرفنا به الوزير الأجل أبو زكرياء يحيى بن أحمد بن يحيى بن محمد بن عبد الملك بن طفيل القيسي حفظه الله تعالى وشكره مما استفاده وأفاده لنا مما لم نسمع به قبل عن كتاب جده الوزير أبي بكر محمد بن عبد الملك بن طفيل المذكور مما تضمنه من وصف قصة المصحف فقال وصل إليهم أدام الله سبحانه تأييدهم قمرا الأندلس النيران وأميراها المتخيران السيدان الأجلان أبو سعيد وأبو يعقوب أيدهما الله وفي صحبتهما مصحف عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه وهو الإمام الذي لم يختلف فيه مختلف وما زال ينقله خلف عن سلف وقد حفظ شخصه على كثرة المتناولين وذخره الله لخليفته المخصوص بمن سخر لخدمته من المتداولين وله من غرائب الأنباء ومتقدم الإشعار بما آل إليه أمره من الإيماء ما ملئت به الطروس وتحفظه من أهل الأندلس الرائس والمرؤوس فتلقي عند وصوله بالإجلال والإعظام وبودر إليه بما يجب من التبجيل والإكرام وعكف عليه أطول العكوف والتزم أشد الالتزام وكان في وصوله ذلك الوقت من عظيم العناية وباهر الكرامة ما هو معتبر لأولي الألباب وبلاغ في الإغراب والإعجاب وذلك أن سيدنا ومولانا الخليفة أمير المؤمنين

( إن كنت تسأل أين قدر ... محمد بين الأنام )
( فأصخ إلى آياته ... تظفر بريك في الأوام )
( اكرم بعبد سلمت ... تقديمه الرسل الكرام )
( في حضرة للقدس وافاها ... بعز واحترام )
( صفوا وصلوا خلفه ... إن الجماعة بالإمام )
( للشهب نور بين ... والفضل للقمر التمام )
( سلك النبوة باهر ... وبأحمد ختم النظام )
( هذا الكتاب دلالة ... تبقى إلى يوم القيام )
( شهدت له من بعد عجز ... ألسن اللد الخصام )
( خير الورى وأجل آيات ... له خير الكلام )
( فعليه من رب الورى ... أزكى صلاة مع سلام )
وربما يقول من يقف على سرد هذه الأمداح النبوية إلى متى وهذا الميدان تكل فيه فرسان البديهة والروية فأنشده في الجواب قول بعض من أم نهج الصواب
( لأديمن مديح المصطفى ... فعل من في الله قوى طعمة )
( فعسى أنعم في الدنيا به ... وعسى يحشرني الله معه )
وإذا كان القريض في بعض الأحيان كذبا صراحا والموفق من تركه والحالة هذه رغبة عنه وله أطراحا فخيره ما كان حقا وهو مدح الله ورسوله وبذلك يحصل للعبد منتهى سوله
( ليس كل القريض يقبله السمع ... وتصغي لذكره الأفهام )
( إن بعضا من القريض هراء ... ليس شيئا وبعضه

أدام الله له عوائد النصر والتمكين كان قبل ذلك بأيام قد جرى ذكره في خاطره الكريم وحركته إليه دواعي خلقه العظيم

( وأجل الكلام ما كان في مدح ... شفيع الورى عليه السلام )
( طيب العرف دائم الذكر لا تأتي ... الليالي عليه الأيام )
( مثل زهر قد شق عنه كمام ... أو كمسك قد فض عنه ختام )
( ليس تحصى صفات أحمد بالعد ... كما لم تحط بها الأوهام )
( ولو أن البحار حبر وما في ال ... من كل نابت أقلام )
( فطويل المديح فيه قصير ... وحسام ماض لديه كهام )
( ولسان البليغ للعي ينمي ... وكذا صيب الفصيح جهام )
( كيف يحصى مديح مولى عليه الله ... أثنى وذكره مستدام )
( وله المعجزات والآي تبدو ... لا يغطي وجوههن لثام )
( فمن المعجزات أن سار ليلا ... وجميع الأنام فيه نيام )
( راكبا للبراق حتى أتى القدس ... وفيه رسل الإله الكرام )
( فاستووا خلفه صفوفا وقالوا ... صل يا احمد فأنت الإمام )
( فعليه من ربه صلوات ... زاكيات مع صحبه وسلام )
عود إلى مصر ثم إلى القدس
ثم رجعت إلى القاهرة وكررت منها الذهاب إلى البقاع الطاهرة فدخلت لهذا التاريخ الذي هو عام تسعة وثلاثين وألف مكة خمس مرات وحصلت لي بالمجاورة فيها المسرات وأمليت فيها على قصد التبرك دروسا عديدة والله يجعل أيام العمر بالعود بإليها مديدة ووفدت على طيبة المعظمة ميمما مناهجها السديدة سبع مرار وأطفأت بالعود إليها ما

أسعد وأنهار جود كلما أمسك الحيا يمد بها طامي الغوارب مزبد وآساد حرب غابها شجر القنا ولا لبد إلا العجاج الملبد مساعير في الهيجا مساريع للندى بأيديهم يحمى الهجير ويبرد

وقول كمال الدين ناظر قوص
( أنخ هذه والحمد لله يثرب ... فبشراك قد نلت الذي كنت تطلب )
( فعفر بهذا الترب وجهك إنه ... أحق به من كل طيب وأطيب )
( وقبل ربوعا حولها قد تشرفت ... بمن جاورت والشيء بالشيء يحبب )
( وسكن فؤادا لم يزل باشتياقه ... إليها على جمر الغضا يتقلب )
( وكفكف دموعا طالما قد سفحتها ... وبرد جوى نيرانه تتلهب )
وقول الرعيني الغرناطي
( هذه روضة الرسول فدعني ... أبذل الدمع في الصعيد السعيد )
( لا تلمني على انسكاب دموعي ... إنما صنتها لهذا الصعيد )
ولما سلمت على سيد الأنام عليه من الله أفضل الصلاة وأزكى السلام ذبت حياء وخجلا لما أنا عليه من ارتكاب ما يقتضي وجلا غير أني توسلت بجاهه في أن أكون ممن وضح له وجه الصفح وجلا
( إليك أفر من زللي ... فرار الخائف الخجل )
( وكان مزار قبرك بال ... منتهى أملي )
( فوفى الله ما طمحت ... له

بتلك الأنوار وألفت بحضرته صلى الله عليهوسلم بعض ما من الله به علي في ذلك الجوار وأمليت الحديث النبوي بمرأى منه عليه الصلاة و السلام ومسمع ونلت بذلك وغيره ولله المنة ما لم يكن لها في فيه مطمح ولا مطمع ثم أبت إلى مصر مفوضا لله جميع الأمور ملازما خدمة العلم الشريف بالأزهر المعمور وكان عودي من الحجة الخامسة بصفر سنة سبع وثلاثين وألف للهجرة فتحركت همتي أوائل رجب هذه السنة للعود للبيت المقدس وتجديد العهد بالمحل الذي هو على التقوى مؤسس فوصلت أواسط رجب وأقمت فيه نحو خمسة وعشرين يوما بدا لي فيها بفضل الله وجه الرشد وما احتجب وألقيت عدة دروس بالأقصى والصخرة المنيفة وزرت مقام الخليل ومن معه من الأنبياء ذوي المقامات الشريفة وكنت حقيقا بأن أنشد قول ابن مطروح في ذلك المقام الذي فضله معروف وأمره مشروح
( خليل الله فد جئناك نرجو ... شفاعتك التي ليست ترد )
( أنلنا دعوة واشفع تشفع ... إلى من لا يخيب لديه قصد )
( وقل يا رب أضياف ووفد ... لهم بمحمد صلة وعهد )
( أتوا يستغفرونك من ذنوب ... عظام لا تعد ولا تحد )
( إذا وزنت بيذبل أو شمام ... رجحن ودونها رضوى وأحد )
( ولكن لا يضيق العفو عنهم ... وكيف يضيق وهو لهم معد )
( وقد سألوا رضاك على لساني ... إلهي ما أجيب وما أرد )
( فيا مولاهم عطفا عليهم ... فهم جمع أتوك وأنت

فيها مطلق ومقيد سلام على المهدي أما قضاؤه فحتم وأما أمره فمؤكد إمام الورى عم البسيطة عدله على حين وجه الأرض بالجور أربد بصير رأى الدنيا بعين جلية فلم يغنيه إلا المقام الممجد ولما مضى والأمر لله وحده وبلغ مأمول وأنجز موعد تردى أمير المؤمنين رداءه وقام بأمر الله والناس هجد

الرحلة إلى دمشق
ثم استوعبت أكثر تلك المزارات المباركة كمزار موسى الكليم على نبينا وعليهم وعلى سائر المرسلين والأنبياء أجمعين أفضل الصلاة والتسليم ثم حدث لي منتصف شعبان عزم على الرحلة إلى المدينة التي ظهر فضلها وبان دمشق الشام ذات الحسن والبها والحياء والاحتشام والأدواح المتنوعة والأرواح المتضوعة حيث المشاهد المكرمة والمعاهد المحترمة والغوطة الغناء والحديقة والمكارم التي يباري فيها المرء شانئه وصديقه والأظلال الوريفة والأفنان الوريقة والزهر الذي تخاله مبسما والندى ريقه والقضبان الملد التي تشوق رائيها لجنة الخلد
( بحيث الروض وضاح الثنايا ... أنيق الحسن مصقول الأديم )
وهي المدينة المستولية على الطباع المعمورة البقاع بالفضل والرباع
( تزيد على مر الزمان طلاوة ... دمشق التي راقت بحلو المشارب )
( لها في أقاليم البلاد مشارق ... منزهة أقمارها عن مغارب )
ودخلتها أواخر شعبان المذكور وحمدت الرحلة إليها وجعلها الله من السعي المشكور
( وجدت بها ما يملأ العين قرة ... ويسلي عن الأوطان كل غريب )
وشاهدت بعض مغانيها الحسنة ومبانيها المستحسنة
( نزلنا بها ننوي المقام ثلاثة ... فطابت لنا حتى أقمنا بها شهرا )
ورأينا من محاسنها ما لا يستوفيه

الثأر منه مؤيد وشبهه بالبدر وقت خسوفه فلله تشبيه له الشرع يشهد زمان ارتفاع العلم كان خسوفه وقد عاد بالمهدي والعود أحمد أتتك أمير المؤمنين ألوكة من الحرم الأقصى لأمرك تمهد سيوف بني عيلان قامت شهيرة لدعوتك العلياء تهدي وترشد وطافت ببيت الله فاشتد شوقه إليك ولبى منه حجر ومسجد وحج إليك الركن والمرو والصفا فأنت لذاك الحج حج ومقصد

وأطاب وإن ملأ من البلاغة الوطاب كما قلت
( محاسن الشام أجلى ... من أن تسام بحد )
( لولا حمى الشرع قلنا ... ولم نقف عند حد )
( كأنها معجزات ... مقرونة بالتحدي )
فالجامع الجامع للبدائع يبهر الفكر والغوطة المنوطة بالحسن تسحر الألباب لا سيما إذا حياها النسيم وابتكر
( أحب الحمى من أجل من سكن الحمى ... حديث حديث في الهوى وقديم )
فلله مرآها الجميل الجليل وبيوتها التي لم تخرج عن عروض الخليل ومخبرها الذي هو على فضلها وفضل أهلها أدل دليل ومنظرها الذيينقلب البصر عن بهجته وهو كليل
( والروض قد راق العيون بحلة ... قد حاكها بسحابة آذار )
( وعلى غصون الدوح خضر غلائل ... والزهر في أكمامه أزرار )
لكم لها من حسن ظاهر وكامن كما قلت موطئا للبيت الثامن
( أما دمشق فخضرة ... لعبت بألاب الخلائق )
( هي بهجة الدنيا التي ... منها بديع الحسن فائق )
( لله منها الصالحية ... فاخرت بذوي الحقائق )
( والغوطة الغناء حيت ... بالورد وبالشقائق )
(

والمرصعين والنجارين والزواقين والرسامين والمجلدين وعرفاء البنائين ولم يبق من يوصف ببراعة أو ينسب إلى الحذق في صناعة إلا أحضر للعمل فيه والاشتغال بمعنى من معانيه فاشتغل أهل الحيل الهندسية بعمل أمثلة مخترعة وأشكال مبتدعة وضمنوها من غرائب الحركات وخفي إمداد الأسباب للمسببات ما بلغوا فيه منتهى طاقتهم واستفرغوا فيه جهد قوتهم والهمة العلية أدام الله سموها

( والطير بالعيدان أبدت ... في الغنا أحلى الطرائق )
( ولآلىء الأزهار حلت ... جيد غصن فهو رائق )
( ومراود الأمطار قد ... كحلت بها حدق الحدائق )
( لازال مغناها مصونا ... كل البوائق )
وكما قلت مرتجلا أيضا مضمنا الرابع والخامس
( دمشق راقت رواء ... وبهجة وغضارة )
( فيها نسيم عليل ... صح فوافت بشارة )
( وغوطة كعروس ... تزهى بأعجب شارة )
( يا حسنها من رياض ... مثل النضار نضارة )
( كالزهر زهرا وعنها ... عرف العبير عبارة )
( والجامع الفرد منها ... أعلى الإله منارة )
( وحاصل القول فيها ... لمن أراد اختصاره )
( تذكيرها من رآها ... عدنا وحسبي إشاره )
( دامت تفوق سواها ... إنالة وإنارة )
وكما ارتجلت فيها أيضا
( قال لي ما تقول في الشام حبر ... كلما لاح بارق الحسن شامه )
( قلت ماذا أقول في وصف قطر ... هو في وجنة المحاسن شامه )
وقلت أيضا
( قال لي صف دمشق مولى رئيس ... جمل الله خلقه واحتشامه )
( قلت كل اللسان في وصف قطر

تعالى مما صنع للمصحف العظيم من الأصونة الغريبة والأحفظة العجيبة أنه كسي كله بصوان واحد من الذهب والفضة ذي صنائع غريبة من ظاهره وباطنه لا يشبه بعضها بعضا قد أجري فيه من ألوان الزجاج ما لم يعهد له في العصر الأول مثال ولا عمر قبله بشبهه خاطر ولا بال وله مفاصل تجتمع إليها أجزاؤه وتلتئم وتتناسق عندها عجائبه وتنتظم قد أسلست للتحرك أعطافها وأحكم إنشاؤها على البغية وانعطافها ونظم على صفحته وجوانبه من فاخر الياقوت ونفيس الدر وعظيم الزمرد ما لم تزل الملوك السالفة والقرون الخالية تتنافس في أفراده وتتوارثه على مرور الزمن وترداده وتظن العز الأقعس والملك الأنفس في ادخاره وإعداده وتسمى الواحد منها بعد الواحد بالاسم العلم لشذوذه في صنعه واتحاده فانتظم عليه منها ما شاكله زهر الكواكب في تلألئه

وقلت أيضا
( وإذا وصفت محاسن الدنيا فلا ... تبدأ بغير دمشق فيها أولا )
( بلد إذا ارسلت طرفك نحوه ... لم تلق إلا جنة أو حدولا )
( ذا وصف بعض صفاته وهي التي تعيي البليغ وإن أجاد وطولا )
والغاية في هذا الباب من الوصف لبعض محاسنها الفاتنة الألباب قول أبي الوحش سبع بن خلف الأسدي يصف ارضها المشرقة ورياضها المورقة ونسيمها العليل وزهرها الندي البليل
( سقى دمشق الشام غيث ممرع ... من مستهل ديمة دفاقها )
( مدينة ليس يضاهي حسنها ... في سائر الدنيا ولا آفاقها )
( تود زوراء العراق أنها ... تعزى إليها لا إلى عراقها )
( فأرضها مثل السماء بهجة ... وزهرها كالزهر في إشراقها ) ( نسيم ريا روضها متى سرى ... فك أخا الهموم من وثاقها )
( قد ربع الربيع في ربوعها ... وسيقت الدنيا إلى أسواقها )
( لا تسأم العيون والأنوف من ... رؤيتها يوما ولا انتشاقها ) حذف 1

طورا متصلا وطورا منفصلا ويتأتى به للمصحف الشريف العظيم أن يبرز تارة للخصوص متبذلا وتارة للعموم متجملا إذ معارج الناس في الاستبصار تختلف وكل له مقام إليه ينتهى وعنده يقف فعمل فيه على شاكلة هذا المقصد وتلطف في تتميم هذا الغرض المعتمد وكسي المصحف العزيز بصوان لطيف من السندس الأخضر ذي حلية عظيمة خفيفة تلازمه في المغيب والمحضر ورتب ترتيبا يتأتى معه أن يكسى بالصوان الأكبر فيلتئم به التئاما يغطي على العين من هذا الأثر وكمل ذلك كله على أجمل الصفات وأحسنها وأبدع المذاهب وأتقنها وصنع له محمل غريب الصنعة بديع الشكل والصبغة ذو مفاصل ينبو عن دقتها الإدراك ويشتد بها الارتباط بين المفصلين ويصح الاشتراك مغشى كله بضروب من الترصيع وفنون من النقش البديع في قطع من الآبنوس والخشب الرفيع لم تعمل قط في زمان من الأزمان ولا انتهت قط إلى أيسره نوافذ الأذهان مدار بصنعة قد أجريت في صفائح الذهب وامتدت امتداد ذوائب الشهب وصنع لذلك المحمل كرسي يحمله عند الانتقال ويشاركه في أكثر الأحوال مرصع مثل ترصيعه الغريب ومشاكل له في جودة التقسيم وحسن الترتيب وصنع لذلك كله تابوت يحتوي عليه احتواء المشكاة على أنوارها

وقول شمس الدين الأسدي الطيبي
( إذا ذكرت بقاع الأرض يوما ... فقل سقيا لجلق ثم رعيا )
( وقل في وصفها لا في سواها ... بها ما شئت من دين ودنيا )
وكأن لسان الدين ذا الوزارتين بن الخطيب عناها بقوله المصيب
( بلد تحف به الرياض كأنه ... وجه جميل والرياض عذاره )
( وكأنما واديه معصم غادة ... ومن الجسور المحكمات سواره )
وكنت قبل رحلتي إليها والوفادة عليها كثيرا ما أسمع عن أهلها زاد الله في ارتقائهم ما يشوقني إلى رؤيتها ولقائهم وينشقني على البعد أرج الأدب الفائق من تلقائهم حتى لقيت بمكة المعظمة اوحد كبرائها الذين فرائدهم بلبة الدهر منظمة عين الأعيان وصدر أرباب التفسير بها والبيان صاحب القلم الذي طبق الكلى والمفاصل والفتاوى التي حكمها بين الحق والباطل فاصل والتآليف التي وصفها بالإجادة من باب تحصيل الحاصل وارث العلم عن غير كلالة ذو الحسب المشرق بدوره في سماء الجلالة صاحب المعارف التي زانت خلاله وساحب أذيال العوارف التي أبانت على فضله دلالة مفتي السلطان في تلك الأوطان على مذهب الإمام النعمان مولانا الشيخ عبد الرحمن ابن شيخ الإسلام عماد الدين لا زال سالكا سبيل المهتدين فكان جمل الله به عصرا وأوانا لقضية هذا القياس عنوانا فلما حللت بدارهم ورأيت ما أذهلني

المحمل في التزيين والتجميل وله في أحد غواربه باب ركبت عليه دفتان قد أحكم ارتتاجهما ويسر بعد الإبهام انفراجهما ولانفتاح هذا الباب وخروج هذا الكرسي من تلقائه وتركب المحمل عليه ما دبرت الحركات الهندسية وتلقيت تلك التنبيهات القدسية وانتظمت العجائب المعنوية والحسية والتأمت الذخائر النفيسة والنفسية وذلك أن بأسفل هاتين الدفتين فيصلا فيه موضع قد أعد له مفتاح لطيف يدخل فيه فإذا أدخل ذلك المفتاح فيه وأديرت به اليد انفتح الباب بانعطاف الدفتين إلى داخل الدفتين من تلقائهما وخرج الكرسي من ذاته بما عليه إلى أقصى غايته وفي خلال خروج الكرسي يتحرك عليه المحمل حركة منتظمة مقترنة بحركته يأتي بها من مؤخر الكرسي زحفا إلى مقدمه فإذا كمل الكرسي بالخروج وكمل المحمل بالتقدم عليه انغلق الباب برجوع الدفتين إلى موضعهما من تلقائهما دون أن يمسهما أحد وترتبت هذه الحركات الأربع على حركة المفتاح فقط دون تكلف شيء آخر فإذا أدير المفتاح إلى خلف الجهة التي أدير إليها أولا انفتح الباب وأخذ الكرسي في الدخول والمحمل في التأخر عن مقدم الكرسي إلى مؤخره فإذا عاد كل إلى مكانه انسد الباب بالدفتين أيضا من تلقائه كل ذلك يترتب على حركة المفتاح كالذي كان في حال خروجه وصحت هذه الحركات اللطيفة على أسباب ومسببات غائبة عن الحس في باطن الكرسي وهي

فيهم بقول بعض من غبر
( ألمت بنا أوصافهم فامتلأ الفضا ... عبيرا وأضحى نوره متألقا )
( وقد كان هذا من سماع حديثهم ... بلاغا فصح النقل إذ حصل اللقا )
وقابلوني أسماهم الله بالاحتفال والاحتفاء وعرفني بديع برهم فن الاكتفاء
( غمرتني المكارم الغر منهم ... وتوالت علي منها فنون )
( شرط إحسانهم تحقق عندي ... ليت شعري الجزاء كيف يكون )
وقابلوني بالقبول مغضين عن جهلي
( وما زال بي إحسانهم وجميلهم ... وبرهم حتى حسبتهم أهلي )
بل الأولى أن أتمثل فيهم بما هو أبلغ من هذا المقول في آل المهلب وهو قول بعض من نزل بقوم برق قصدهم غير خلب في زمن به تقلب
( ولما نزلنا في ظلال بيوتهم ... أمنا ونلنا الخصب في زمن محل )
( ولو لم يزد إحسانهم وجميلهم ... على البر من أهلي حسبتهم أهلي )
لا سيما المولى الذي أمداحه تحلي أجياد الطروس العاطلة وسماحه يخجل أنواء الغيوث الهاطلة صدر الأكابر الأعاظم الحائز قصب السبق في ميدان الإجادة بشهادة كل

ويصعب ذكرها أظهرتها بركات هذا الأمر السعيد وتنبيهات سيدنا ومولانا الخليفة أدام الله تعالى أمرهم ! وأعز نصرهم ! بناء مسجد مراكش 123 بناء مسجد مراكش وفي خلال الاشتغال بهذه الأعمال التي هي غرر الدهر وفرائد العمر أمروا - أدام الله تأييدهم ! - ببناء المسجد الجامع بحضرة مراكش - حرسها

والصدوق الذي بأسباب عهده أرتبط الأوحد الذي ضربت البراعة رواقها بناديه والماجد الذي لم يزل بديع البلاغة من كثب يناديه السري الحائز من الخلال ما أبان تفضيله اللوذعي الذي لم تزل أوصافه تحكم له بالسؤدد وتقضي له والحق أبلج لا يحتاج إلى زيادة براهين الأجل المولى أحمد أفندي بن شاهين لا زالت العزة مقيمة بواديه ولا برحت حضرته جامعة لبواطن الفخر وبواديه والسعد يراوح مقامه ويغاديه والمجد يترنم بذكره حاديه فكم له أسماه الله ولغيره من أعيان دمشق لدي من أياد يعجز عن الإبانة عنها لو أراد وصفها قس إياد ولو تعرضت لأسمائهم وحلاهم أدام الله تعالى سعودهم وعلاهم لضاق عن ذلك هذا النطاق وكان من شبه التكليف بما لا يطاق فليت شعري بأي أسلوب أؤدي بعض حقهم المطلوب أم بأي لسان أثني على مزاياهم الحسان وما عسى أن أقول في قوم نسقوا الفضائل ولاء وتعاطوا أكواب المحامد ولاء وسحبوا من المجد مطارف وملاء وحازوا المكارم وبذوا الموادد والمصارم سؤددا وعلاء
( فما رياض زهر الربيع ... إذا بدت في وشيها البديع )
( ضاحكة عن شنب الأقاح ... عند سفور طلعة الصباح )
( غنى بها مطوق الحمام ... وصافحتها راحة الغمام )
( وباكرتها نسمة من الصبا ... فأصبحت كأنها عهد الصبا )
( نضارة ورونقا

لا تحصى لكثرتها وهنا انتهى ما وجدناه من هذا المكتوب ثم قال ابن رشيد - بعد إيراد ما تقدم - ما صورته نجزت الرسالة في المصحف العظيم والحمد لله رب العالمين انتهى محل الحاجة منه وما أحسن قول الشيخ الإمام أبي محمد عبد الحق بن غالب بن عطية يستودع أهل قرطبة [ المنسرح

( أطيب من ثنائهم عبيرا ... بين الورى واسأل به خبيرا )
( دامت معاليهم على طول الزمن ... يروى حديث الفضل عنها عن حسن )
( وثابت وقرة وسعد ... وأسعفوا بنيل كل وعد )
فهم الذين نوهوا بقدري الخامل وظنوا مع نقصي أن بحر معرفتي وافر كامل حسبما اقتضاه طبعهم العالي
( فلو شربت بعمري ساعة ذهبت ... من عيشتي معهم ما كان بالغالي )
فمتعين حقهم لايترك وحبهم لا يخالط بغيره ولا يشرك وإن أطلت الوصف فالغاية في ذلك لا ترك
( يزداد في مسمعي ترداد ذكرهم ... طيبا ويحسن في عيني مكرره )
وإذا كان المديح الصادق لا يزيدهم رفعة قدر فهم كما قال الأعرابي الذي ضلت ناقته في مدح البدر والبليغ وذو الحصر في ذلك سيان والحق أبلج والباطل لجلج وليس الخبر كالعيان
( هب الروض لا يثني على الغيث نشره ... أتحسبه تخفى مآثره الحسنى )
وقد تذكرت بلادي النائية بذلك المرأى الشامي الذي يبهر رائيه فما شئت من أنهار ذات انسجام أترع بها من جريال الأنس جام وأزهار متوجة للأدواح مروحة للنفوس بعاطر الأرواح وحدائق تعشي أنوارها الأحداق وعيانها للخبر عنها

الليل جنحه وتقلد السماك رمحه وهم النسر بالطيران وعام في الأفق زورق الزبرقان أوقدنا مصابيح الراح واشتملنا ملاء الارتياح وللدجن فوقنا رواق مضروب فغنتنا عند ذلك جارية تسمى أنس القلوب وقالت [ الخفيف ] قدم الليل عند سير النهار وبدا البدر مثل نصف السوار فكأن النهار صفحة خد وكأن الظلام خط عذار وكأن الكؤوس جامد ماء وكأن المدام ذائب نار نظري قد جنى علي ذنوبا كيف مما جنته عيني اعتذاري يا لقومي تعجبوا من غزال جائر في محبتي وهو جاري ليت لو كان لي إليه سبيل فأقضي من الهوى أوطاري قال فلما أكملت الغنا أحسست بالمعنى فقلت [ الخفيف ] كيف كيف الوصول للأقمار بين سمر القنا وبيض الشفار لو علمنا بأن حبك حق لطلبنا الحياة منك بثار وإذا ما الكرام هموا بشيء خاطروا بالنفوس في الأخطار قال فعند ذلك بادر المنصور لحسامه وغلظ في كلامه وقال لها قولي واصدقي إلى من تشيرين بهذا الشوق والحنين فقالت الجارية إن كان 11 الكذب أنجى فالصدق أحرى وأولى والله ما كانت إلا نظرة ولدت في

( فهي التي ضحك البهار صباحها ... وبكت عيشتها عيون النرجس )
( واخضر جانب نهرها فكأنه ... سيف يسل وغمده من سندس )
وجنان أفنانها في الحسن ذوات افتنان
( صافحتها الرياح فاعتنق السرو ... ومالت كواله للقصار )
( لائذ بعضه ببعض كقوم ... في عتاب مكرر واعتذار )
وبطاح راق سناها وكمل حسنها وتناهي كما قلت مضمنا في ذلك المنحى لقول بعض من نال في البلاغة منا ومنحا
( دمشق لا يقاس بها سواها ... ويمتنع القياس مع النصوص )
( حلاها راقت الأبصار حسنا ... على حكم العموم أو الخصوص )
( بساط زمرد نثرت عليه من الياقوت ألوان الفصوص )
ولله در القائل في وصف تلك الفضائل
( إن تكن جنة الخلود بأرض ... فدمشق ولا يكون سواها )
( أو تكن في السماء فهي عليها ... قد أمدت هواءها وهواها )
( بلد طيب ورب غفور ... فاغتنمها عشية أو ضحاها )
وعند رؤيتي لتلك الأقطار الجليلة الأوصاف العظيمة الأخطار تفاءلت بالعود إلى أوطان لي بها أو طار إذ التشابه بينهما قريب في الأنهار والأزهار ذات العرف المعطار وزادت هذه بالتقديس الذي همعت عليها منه الأمطار وتمثلت بقول الأصفهاني وإن غيرت يسيرا منه لما أسفرت وجوه

فعند ذلك صرف المنصور وجه الغضب إلي وسل سيف السخط علي فقلت أيدك الله تعالى ! إنما كانت هفوة جرها الفكر وصبوة أيدها النظر وليس للمرء إلا ما قدر له لا ما اختاره وأمله فأطرق المنصور قليلا ثم عفا وصفح وتجاوز عنا وسمح وخلي سبيلي فسكن وجيب قلبي وغليلي ووهب الجارية لي فبتنا بأنعم ليلة وسحبنا فيها للصبا ذيله فلما شمر الليل غدائره وسل الصباح بواتره وتجاوبت الأطيار بضروب الألحان في أعالي الأغصان انصرفت بالجارية إلى منزلي وتكامل سروري بين الرشيد والمأمون وجارية 125 بين الرشيد والمأمون وجارية قال بعضهم ذكرتني حكاية أبي المغيرة هذه حكاية قرأتها في النوادر لأبي علي القالي البغدادي حذت في الظرف حذوها وزهت في الإغراب زهوها وهي ما أسنده عن منصور البرمكي أنه كانت للرشيد جارية غلامية وكان المأمون يميل إليها وهو إذ ذاك أمرد فوقفت تصب على يد الرشيد من إبريق معها والمأمون خلف الرشيد فأشار إليها يقبلها فأنكرت ذلك بعينها وأبطأت في الصب على قدر نظرها للمأمون وإشارتها إليه فقال

( لما وردت الصالحية ... حيث مجتمع الرفاق )
( وشممت من أرض الشآم ... نسيم أنفاس العراق )
( أيقنت لي ولمن أح ... بجمع شمل واتفاق )
( وضحكت من فرح اللقاء ... كما بكيت من الفراق )
( لم يبق لي إلا تجشم ... أزمن السفر البواقي )
( حتى يطول حديثنا ... بصفات كنا نلاقي )
وكنت قبل حلولي بالبقاع الشامية مولعا بالوطن لا سواه فصار القلب بعد ذلك مقسما بهواه
( ولي بالحمى أهل وبالشعب جيرة ... وفي حاجر خل وفي المنحنى صحب )
( تقسم ذا القلب المتيم بينهم ... سألتكم بالله هل يقسم القلب )
فيا لك من صب مراع للذمام منقاد لشوقه بزمام يخيل له أنه سمع صوت قيان بقول الأول
( إلى الله أشكو بالمدينة حاجة ... وبالشام أخرى كيف يلتقيان )
وفرد تعددت جموعه ووشت بما أكنت ضلوعه دموعه فأنشد وقد تحير ما بدل فيه من عظم ما به وغير
( كتمت شأن الهوى يوم النوى فوشى ... بسره من جفوني أي نمام )
( كانت ليالي بيضا في دنوهم ... فلا تسل بعدهم عن حال أيامي )
( ضنيت وجدا بهم والناس تحسب بي ... سقما فأبهم حالي عند لوامي
( وليس

أتحبها قال نعم يا أمير المؤمنين قال هي لك فاخل بها في تلك القبة ففعل ثم قال له هل قلت في هذا الأمر شيئا فقال نعم يا سيدي وأنشد [ المجتث ] ظبي كنيت بطرفي من الضمير إليه قبلته من بعيد فاعتل من شفتيه ورد أخبث رد بالكسر من حاجبيه فما برحت مكاني حتى قدرت عليه وفي هذا المعنى يقول بعض البلغاء اللحظ يعرب عن اللفظ وقال آخر رب كناية تغني عن إيضاح ورب لفظ يدل على ضمير ونظمه الشاعر فقال [ الطويل ] جعلنا علامات المودة بيننا دقائق لحظ هن أمضى من السحر فأعرف منها الوصل في لين لحظها وأعرف منها الهجر بالنظر الشزر وفي هذا قال بعض الحكماء العين باب القلب فما في القلب ظهر في العين وقال الشاعر [ البسيط ] العين تبدي الذي في نفس صاحبها من المحبة أو بغض إذا كانا فالعين تنطق والأفواه صامتة حتى ترى من ضمير القلب تبيانا بين الرشيد والمأمون وجارية 125 بين الرشيد والمأمون وجارية قال بعضهم ذكرتني حكاية أبي المغيرة هذه حكاية قرأتها في النوادر لأبي علي القالي البغدادي حذت في الظرف حذوها وزهت في الإغراب زهوها وهي ما أسنده عن منصور البرمكي أنه كانت للرشيد جارية غلامية وكان المأمون يميل إليها وهو إذ ذاك أمرد فوقفت تصب على يد الرشيد من إبريق معها والمأمون خلف الرشيد فأشار

وحصل التحير حيث لم يمكن الجمع ولا الخلو عند التخير كما قال ابن دقيق العيد في مثل هذا الغرض البعيد
( إذا كنت في نجد وطيب نعيمه ... تذكرت أهلي باللوى فمحسر )
( وإن كنت فيهم زدت شوقا ولوعة ... إلى ساكني نجد وعيل تصبري )
( فقد طال ما بين الفريقين موقفي ... فمن لي بنجد بين أهلي ومعشري )
وبالجملة فالاعتراف بالحق فريضة ومحاسن الشام وأهله طويلة عريضة ورياضه بالمفاخر والكمالات أريضة وهو مقر الأولياء والأنبياء ولا يجهل فضله إلا الأغمار الأغبياء الذين قلوبهم مريضة
( أنى يرى الشمس خفاش يلاحظها ... والشمس تبهر أبصار الخفافيش )
( ولله در من قال في مثل هذا من الأرضياء
( وهبني قلت إن الصبح ليل ... أيعمى العالمون عن الضياء )
وقال آخر فيمن عن الحق ينفر
( إذا لم يكن المرء عين بصيرة ... فلا غرو أن يرتاب والصبح مسفر )
وحسب الفاضل اللبيب أن يروي

نظرها للمأمون وإشارتها إليه فقال الرشيد ما هذا ضعي الإبريق من يدك ففعلت فقال لها والله لئن لم تصدقيني لأقتلنك فقالت يا سيدي أشار إلي كأنه يقبلني فأنكرت ذلك عليه فالتفت إلى المأمون فنظر إليه كأنه ميت لما داخله من الجزع والخجل فرحمه وضمه إليه وقال يا عبد الله أتحبها قال نعم يا أمير المؤمنين قال هي لك فاخل بها في تلك القبة ففعل ثم قال له هل قلت في هذا الأمر شيئا فقال نعم يا سيدي وأنشد [ المجتث ] ظبي كنيت بطرفي من الضمير إليه قبلته من بعيد فاعتل من شفتيه ورد أخبث رد بالكسر من حاجبيه فما برحت مكاني حتى قدرت عليه وفي هذا المعنى يقول بعض البلغاء اللحظ يعرب عن اللفظ وقال آخر رب كناية تغني عن إيضاح ورب لفظ يدل على ضمير ونظمه الشاعر فقال [ الطويل ] جعلنا علامات المودة بيننا دقائق لحظ هن أمضى من السحر فأعرف منها الوصل في لين لحظها وأعرف منها الهجر بالنظر الشزر وفي هذا قال بعض الحكماء العين باب القلب فما في القلب ظهر في العين وقال الشاعر [ البسيط ] العين تبدي الذي في نفس صاحبها من المحبة أو بغض إذا كانا فالعين تنطق والأفواه صامتة حتى ترى من ضمير القلب تبيانا ترجمة الوزير أبي المغيرة بن حزم 126

( عرج إذا ما شمت برق الشآم ... وحي أهل الحي واقر السلام )
( وانزل بإقليم جزيل الحيا ... بارك فيه الله رب الأنام )
( العز والنصر لديه وما ... لعروة الإسلام عنه انفصام )
( من أولياء الله كم قد حوى ... ركنا بمرآة يطيب المقام )
( وهو مقر الأنبياء الألي ... والأصفياء الأتقياء الكرام )
( كم من شهيد في حماه وكم ... من عالم فرد وكم من إمام )
ولذلك اعتنت الجهابذة بتخليد أخباره في الدواوين وابتنت الأساتذة بيوت افتخاره المنيفة الأواوين وتناقلت أنباءه البديعة ألسن الراوين وهامت بأماكنه المريعة هداة الشريعة فضلا عن الشعراء الغاوين ومع ذلك فهم في التعبير عن عجائبه غير متساوين أولا يرى أنهم يأتون من مقولهم على قدر رأيهم وعقولهم ولم يبلغ جمع منهم ما كانوا له ناوين
( على قدرك الصهباء توليك نشوة ... بها سيء أعداء وسر صحاب )
( ولو أنها تعطيك منها بقدرها ... لضاقت بك الأكوان وهي رحاب )
ابن شاهين يقترح على المؤلف تأليف كتاب عن لسان الدين
وكنا في خلال الإقامة بدمشق المحوطة وأثناء التأمل في محاسن الجامع والمنازل والقصور والغوطة كثيرا ما ننظم في سلك المذاكرة در ر الأخبار الملقوطة ونتفيأ من ظلال التبيان مع أولئك الأعيان في مجالس مغبوطة نتجاذب فيها أهداب الآدابونشرب من سلسال الاسترسال ونتهادى لباب الألباب ونمد بساط الانبساط ونسدل أطناب الإطناب ونقضي أوطار الأقطار ونستدعي أعلام الأعلام فينجر بنا الكلام والحديث شجون وبالتفنن يبلغ المستفيدون ما يرجون إلى ذكر البلاد الأندلسية ووصف

عبد الوهاب بن حزم وبنو حزم فتية علم وأدب وثنية مجد وحسب وأبو المغيرة هذا في الكتابة أوحد لا ينعت ولا يحد وهو فارس المضمار حامي ذلك الذمار وبطل الرعيل وأسد ذلك الغيل نسق المعجزات وسبق في المعضلات الموجزات إذا كتب وشى المهارق ودبج وركب من بحر البلاغة الثبج وكان هو وأبو عامر بن شهيد خليلي صفاء وحليفي وفاء لا ينفصلان في رواح ولا مقيل ولا يفترقان كمالك وعقيل وكانا بقرطبة رافعي ألوية الصبوة وعامري أندية السلوة إلى أن اتخذ أبو عامر في حبالة الردى وعلق وغدا رهنه فيها وغلق فانفرد أبو المغيرة بذلك الميدان واسترد من سبقه ما فاته منذ زمان فلم تذكر له مع أبي عامر حسنة ولا سرت له فقرة مستحسنة لتعذر ذلك وامتناعه بشفوف أبي عامر وامتداد باعه وأما شعر أبي المغيرة فمرتبط بنثره ومختلط زهره بدره وقد أثبت له منها فنونا تجن بها الأفهام جنونا فمن ذلك قوله [ الكامل ] ظعنت وفي أحداجها من شكلها عين فضحن بحسنهن العينا

رياضها السندسية التي هي بالحسن منوطة وقضاياها الموجهة التي لا يستوفيها المنطق مع أنها ضرورية وممكنة ومشروطة والفطر السليمة والأفهام المستقيمة بتسليم براهينها قاضية لا سيما إن كانت بالإنصاف مربوطة فصرت أورد من بدائع بلغائها ما يجري على لساني من الفيض الرحماني وأسرد من كلام وزيرها لسان الدين بن الخطيب السلماني صب الله عليه شأبيب رحماه وبلغه من رضوانه الأماني ما تثيره المناسبة وتقتضيه وتميل إليه الطباع السليمة وترتضيه من النظم الجزل في الجد والهزل والإنشاء الذي يدهش به ذاكرة الألباب إن شاء الله وتصرفه في فنون البلاغة حالي الولاية والعزل إذ هو أعني لسان الدين فارس النظم والنثر في ذلك العصر والمنفرد بالسبق في تلك الميادين بأداة الحصر وكيف لا ونظمه لم يستول على مثله أيدي الهصر ونثره تزري صورته بالخريدة ودمية القصر
فلما تكرر ذلك غير مرة على أسماعهم لهجوا به دون غيره حتى صار كأنه كلمة إجماعهم وعلق بقلوبهم وأضحى منتهى مطلوبهم ومنية آمالهم وأطماهم وصاروا يقطفون بيد الرغبة فنونه ويعترفون ببراعته ويستحسنونه ويستنشقون من أزهاره كل ذاك فطلب مني المولى أحمد الشاهيني إذ ذاك وهو الماجد المذكور ذو السعي المشكور أن أتصدى للتعريف بلسان الدين في مصنف يعرب عن بعض أحواله وأنبائه وبدائعه وصنائعه ووقائعه مع ملوك عصره وعلمائه وأدبائه ومفاخره التي قلد بها جيد الزمان ولبته ومآثره التي أرج بها مسرى الشمال وهبته وبعض ما له من النثار والنظام والمؤلفات الكبار العظام الرائقة للأبصار الفائقة على كلام كثير من أهل الأمصار السائرة مسير القمر والشمس المعقودة حذف

في حقه ما صورته الوزير أبو عامر أحمد بن عبد الملك بن شهيد الأشجعي عالم بأقسام البلاغة ومعانيها حائز قصب السبق فيها لا يشبهه أحد من أهل زمانه ولا ينسق ما نسق من در البيان وجمانه توغل في شعاب البلاغة وطرقها وأخذ على متعاطيها ما بين مغربها ومشرقها لا يقاومه عمرو بن بحر ولا تراه يغترف إلا من بحر مع انطباع مشى في طريقه بأمد باع وله الحسب المشهور والمكان الذي لم يعده ظهور وهو من ولد الوضاح المتقلد تلك المفاخر والأوضاح والضحاك صاحب يوم المرج وراكب ذلك الهرج وأبو عامر حفيده هذا من ذلك النسب ونبع لا يراش إلا من ذلك الغرب وقد أثبت له ما هو بالسحر لاحق ولنور المحاسن ما حق فمن ذلك قوله [ البسيط ]

عليها الخناصر بل الخمس كيما يكون ذلك لهذه الأغراض مشيعا ويخلع على مطالعه بهذه البلاد المشرقية من أغراضه البديعة ومنازعه وشيعا
اعتذار المؤلف عن تلبيته للمطلب
فأجبته أسمى الله قدره الكبير وأدام عرف فضائله المزري بالعنبر والعبير بأن هذا الغرض غير سهل ولست علكم الله له بأهل من جهات عديدة أولها قصوري عن تحمل تلك الأعباء الشديدة إذ لا يوفي بهذا الغرض إلا الماهر بطرق المعارف السديدة وثانيها عدم تيسر الكتب المستعان بها على هذا المرام لأني خلفتها بالمغرب وأكثرها في المشرق كعنقاء مغرب وثالثها شغل الخاطر بأشجان الغربة الجالبة للفكر الكربة وتقسم البال بين شغل عائق وبلبال وأني يطيق سلوك عذ المضيق من اكتحلت جفونه بالسهاد ونبت جنوبه عن المهاد وسد نحوه الأسف سهمه وشغل باله ووهمه وبث في قلبه تبريجا وعناء لم يجد منه إلا أن يلطف الله تسريحا فما شام بارقة أمل إلا في النادر ولا ورد منهل صفاء إلا وكدره مكر غادر وقد كثر الجفاء وبرج بلا شك الخفاء واستوخمت الموارد والمصادر والقلب مكلوم واللب غير ملوم إذا كان على تلفيق ما يليق غير قادر ولا مؤنس إلا شاكي دهر بلسان صريح أو باكي قاصمة ظهر بجفن قريح أو مناضل في معترك العجز طريح أو فاضل دفن من الخمول في ضريح إذ

بابه وكان له بباب الصومعة من الجامع موضع لا يفارقه أكثر نهاره ولا يخليه من نثر درره وأزهاره فقعد في ليلة 27 من رمضان في لمة من إخوانه وأئمة سلوانه وقد حفوا به ليقطفوا نخب أدبه وهو يخلط لهم الجدل بهزل ولا يفرط في انبساط مشتهر ولا انقباض جزل وإذا بجارية من أعيان أهل قرطبة معها من جواريها من يسترها ويواريها وهي ترتاد موضعا لمناجاة ربها وتبتغي منزلا لاستغفار

الإبهام بنابها النوى والنوائب فقلوبه من تقلبات أحواله ذوائب وكم شابت من أمثاله بصروف الدهر وأهواله ذوائب
( على أنها الأيام قد صرن كلها ... عجائب حتى ليس فيها عجائب )
وأدمع أحجارها تسلط فجارها فكم من عدو منهم في ثياب صديق وحسود لنظره إلى نعم الله على عباده تحديق لا تخدعه المداراة ولا تردعه المماراة يتتبع العثرات ويقنع بألم البثرات ويتبسم وقلبه من الغل يتقسم ويتودد ومكايده تتجد فتتعدد
( لا ترم من مماذق الود خيرا ... فبعيد من السراب الشراب )
( رونق كالحباب يعلو على الماء ... ولكن تحت الحباب الحباب )
( عظمت في النفاق ألسنة القوم ... وفي الألسن العذاب العذاب )
والصديق الصدوق في هذا الزمن قليل وقد ألف بعض العلماء شفاء الغليل في ذم الصاحب والخليل وهو غير محمول على الإطلاق وإن قال به بعض من رهنه من أبناء عصره ذو إغلاق
( أبناء دهرك فالقهم ... مثل العدا بسلاحكا )
( لا تغترر بتبسم ... فالسيف يقتل ضاحكا )
وداء الحس أعيا الأول والآخر وقد عظم الأمر في هذا الأوان وكثر المزري والساخر مع أن أسواق

إذ قال وأخبرني الوزير الفقيه أبو الحسين بن سراج أنه حضر مع

( والدهر دهر الجاهلين ... وأمر أهل العلم فاتر )
( لا سوق أكسد فيه من سوق المحابر والدفاتر )
فالمنسوب للعلم في هذا الزمن زمن وهو بأن ينشد قول الأول فمن
( لأي وميض بارقة أشيم ... ومرعى الفضل عندهم هشيم )
وليت شعري علام يحسد من أبدل الاغتراب شارته وأضعف الاضطراب إشارته وأهل بالدموع أنواءه وقلل أضواءه وكثر علله وأدواءه وغير عند التأمل رواءه وثنى عن المأمول عنانه وأرهف بالخمول سنانه حتى قدح الذكر حنانه وملأ الفكر جأشه وجنانه فهو فيميدان النزوح مستبق ومن راحة التعب مصطبح ومغتبق
( له أنه المشتاق في كل ساعة ... تمر وما للثاكلات من الحزن )
( ومن مرسلات الدمع واقعة الأسى ... ومن عاديات البين قارعة السن )
تثير الذكرى منه كوامن الشجون وتدير عليه جام الهيام ولو كان بين الصفا والحجون
( وتحت ضلوع المستهام كآبة ... يخاف على الأحشاء منها التفطرا )
( ولو أن أحشاء تبوح بما حوت ... لتمتلئن الأرض كتبا وأسطرا )
وشتان ما ين الاقتراب والاغتراب والسكون في الركون والنبو عنها والاضطراب فذاك تسهل غالبا

فيها [ الخفيف ] حسد القصر فيكم الزهراء ولعمري وعمركم ما أساء

( وما أنا عن تحصيل دنيا بعاجز ... ولكن أرى تحصيلها بالدنية )
وإن طاوعتني رقة الحال مرة ... أبت فعلها أخلاق نفس أبية )
وكما قلت عندما صرت إلى الاغتراب وألت
( تركت رسوم عزي في بلادي ... وصرت بمصر منسي الرسوم )
( ورضت النفس بالتجريد زهدا ... وقلت لها عن العلياء صومي )
( مخافة أن أرى بالحرص ممن ... يكون زمانه أحد الخصوم )
وكما قال بعض الأكابر من أهل الزمان الغابر
( لا عار إن عطلت يداي من الغني ... كم سابق في الخيل غير محجل )
( صان اللئيم وصنت وجهي ماله ... دوني فلم يبذل ولم أتبذل )
( أبكي لهم ضافني متأوبا ... إن الدموع قرى الهموم النزل )
( لا تنكروا شيبا ألم بمفرقي ... عجلا كأن سناه سلة منصل )
( فلقد دفعت إلى الهموم تنوبني ... منها ثلاث شدائد جمعن لي )
( أسف على ماضي الزمان وحيرة ... في الحال منه ووحشة المستقبل )
( ما أن وصلت إلى زمان آخر ... إلا بكيت على الزمان الأول )
( لله عهد بالحمى لم أنسه ... أيام أعصي في الصبابة عذلي )
ويرحم الله ابن قلاقس الإسكندري إذ قال في معنى التمني المصدري

غافلا عن المكر ساهيا حسن ظن بأهلها اعتقده واغترارا بهم ما رواه ولا انتقده

( لعل زماني بالعذيب يعود ... فيقرب قرب أو يصد صدود )
( وأبصر كثبانا وهز روادف ... عليهن أغصان وهن قدود )
( وأقطف ورد الخد وهو مضرج ... وأجني أقاح الثغر وهو برود )
( وأدني ذراعي للعناق ذريعة ... فتنهى عن الإفراط فيه نهود )
( ويسري إلى البدر وهو ممنع ... ويغدو إلى الظبي وهو شرود )
( ونكرع في شكوى الفراق كأننا ... فوارط هيم راقهن ورود )
( وأكبر مقدار الهوى عن كبيرة ... وأحمي عفافي دونه وأذود )
وفرق ما بين الجوهر والعرض والصحة والبينة والمرض والدر والحصى والحسام والعصا والرجوع إلى التفويض للأقدار في أمور هذه الدار الكثيرة الأكدار هو المطلوب والمرجو من الله سبحانه جبر القلوب
( يا رب نفس همومي ... واكشف كروبي جميعا )
( فقد رجوت كريما ... وقد دعوت سميعا )
إصرار ابن شاهين على رأيه
ولم يجعل لي المذكور حفظه الله فسحة ولا مندوحة بعد هذه الأعذار المحمودة في الصدق الممدوحة ولسان حالي وقالي يثبتان عجزي عن أداء هذا الحق بشهادة من هو واد وقالي إذ من كان بصفة غير متمكنة مما تكون به متصفة واتسم بنعوت مختلفة وارتسم في غير ذوي الأحوال المؤتلفة كيف يحير في التصنيف جوابا أو ينتحي من التأليف صوابا ومن جفنه هام هامل وقصوره عام شامل كيف يقبض بالأنامل على ماء البحر الوافر الكامل ومن لبس من العي ملاه لا يعبر عمن طبق مفاصل

إلى حينه رجلاه وشغل المعتمد عن رثائه بطلب

الكلام وكلاه وقصرت ألسن البلغاء عن علاه وزانت صدور الدواوين حلاه وجمع خلالا حسانا وكان للدين لسانا وزاحمت مفاخره بالمناكب الكواكب وازدانت بمرآة النوادي والمواكب ونفحات الأزهار من آدابه ونسمات الأسحار عطر أذياله وأهدابه والسحر في كتابته والسحر من كنايته وروح النسيم من تعريضه والنثرة من نثره والشعرى من شعره وقريضه وحلل المجد لباسه وأنوار العلم اقتباسه
( له ذهن يعوص ببحر علم ... فيأتي منه بالدر النظيم )
( معانيه الرياض لأجل هذا ... سرت ألفظاه مثل النسيم )
ومباهيه النجوم ومضاهيه الغيث السجوم إلى آباء يحسدهم البدر والشمس وإباء لو كان للمشرفي لما تحيفه لمس وشرف لا مدعى ولا منتحل وهمة لو نالها البدر لاستخذى له زحل وبراعة أرهفت سنان قلمه ويراعة سارت أمراؤها تحت علمه فكم فتح بفكره أقفالها ووسم بذهنه الثاقب أغفالها وسبك معانيها في قالب إبريزا ورقم بيان لسانه برود إحسانه بلفظه البديع تطريزا فرفع في ميدان الإجادة لواؤه وأتيح من أنهار البراعة العذبة إرواؤه ونال سبقا وتبريزا
( وما زمن الشباب وأنت تجري ... مع الأحباب في لهو وطيب )
( ووصل من حبيب بعد هجر ... بأحلى من كلام ابن الخطيب )
فقصائده أرخصت جواهر البحور المنظومة قلائد للبات والنحور

سودا وكانت بكم بيضا ليالينا يا صاحب النجوى قف واستمع مني إياك أن تهوى إن الهوى يضني لا تقرب البلوى إسمع وقل عني بحاره مره خضنا على غره حينا فقام بها للنعي ناعينا من هام بالغيد لاقى بهم هما بذلت مجهودي لأحور ألمى يهم بالجود

( معان وألفاظ تنظم منهما ... عقود لآل في نحور الشمائل )
( وزهر كلام كالحدائق نسجه ... غنينا به عن حسن زهر الخمائل )
وكلماته غدت للإبداع إقليدا وجمعت طريفا من البلاغة وتليدا
( كسون عبيدا ثياب العبيد ... وأضحى لبيد لديها بليدا )
ومقطعاته ألذ في الأسماع من مطرب السماع وأبهى في الأحداق والنواظر من الحدائق ذوات الأغصان الملد النواضر يعترف بفضلها من انتحل الإنصاف دينا وانتخل الأوصاف فاختار العدل منها خدينا
( رقيقات المقاطع محكمات ... لو أن الشعر يلبس لارتدينا )
ورسائله كنقط العروس اللائحة في البياض أو كوشي الربيع أو قطع الرياض برزت أغصانها الحالية وتبرجت وتضوعت أفنانها العالية وتأرجت وقد ألبسها القطر زهرا وفجر خلالها نهرا فأخذت زخرفها وازينت ولاحت محاسنها غير محتجبة وتبينت فبهرت من لها قابل أستغفر الله لا بل
( هي الحديقة إلا أن صيبها ... صوب النهى وجناها زهرة الكلم )
وقوافيه ريشت بها قوادم الإتقان وخوافيه نبال مجاريها تستدثر الحصر وباع مباريها يستشعر القصر
( خطها روضة وألفاظها الأزهار ... يضحكن والمعاني ثمار )
تبدي لمبصرها وتري ما قال أبو عبادة البحتري
( وكلام

يخاطب الوزير أبا الحسين بن سراج ويذكر لمة إخوانه بقرطبة [ الكامل ] يا سيدي وأبي هدى وجلالة ورسول ودي إن طلبت رسولا عرج بقرطبة ولذ إن جئتها بأبي الحسين وناده تعويلا فإذا سعدت بنظرة من وجهه فاهد السلام لكفه تقبيلا واذكر له شكري وشوقي مجملا ولو استطعت سردته تفصيلا بتحية تهدى إليه كأنما جرت على زهر الرياض ذيولا وأشم منها المصحفي على النوى نفسا ينسي السوسن المبلولا وإلى أبي مروان منه نفحة تهدي له نور الربا مطلولا وإذا لقيت الأخطبي فسقه من صفو ودي قرقفا وشمولا وأبو علي سق منها ربعه مسكا بماء غمامة محلولا واذكر لهم زمنا يهب نسيمه أصلا كنفث الراقيات عليلا مولى ومولي نعمة وكرامة وأخا إخاء مخلصا وخليلا

( مشرق في جوانب السمع ما يخلقه ... عوده على المستعيد )
( ومعان لو فصلتها القوافي ... هجنت ما لجرول من نشيد )
( حزن مستعمل الكلام اختيار ... وتجنبن ظلمة التعقيد )
بل هي أجل مما وصف عند التحقيق وإمعان النظر الصحيح والتدقيق
( أين زهر الرياض وهو إذا ما ... طال عهدا بالغيث عاد هشيما )
( من قواف كأنها الانجم الزهر ... سناها زان الظلام البهيما )
وناهيك بمن أطلعته العلوم علىجلائلها ودقائقها وأرتهالفنون ما شاء من يانعات حدائقها وحيته الحكم الرياضية بأزاهارها وشقائقها وأرضعته الوزارة من ثديها وحلت به الإمارة صدر نديها وجعلته المرجوع إليه في تمييز جيد الأمور ورديها فغرس في أرض الرياسة من نخل السياسة ووديها وأعلى علم العدل وأغمد سيف الانتقام ودفع تنين الفتنة الذي فغر فاه للالتقام والعهد إذ ذاك قريب في وطن الاندلس الغريب باختلال الحال وتوالي الإمحال والتجري على قتل الملوك والتحري لقطع الطرق ومنع السلوك حيث أهواء المارقين ذات افتراق وضلوع الصادقين في قلق واحتراق وأيدي الإجن باطشة وسيوف المحن إلى الدماء عاطشة وعرش الحماية مثلول وصارم الكفاية مفلول ونطاق الرعاية محلول ودم الوقاية مطلول وجيب النصيحة مملول والتنور السلطاني بنار اختلاف الكلمة ملتهب والعدو

كل لجة بها كابية قد قربصت بالذهب واللازورد سماؤه وتأزرت بهما جوانبه وأرجاؤه والروض قد اعتدلت أسطاره وابتسمت من كمائمها أزهاره ومنع الشمس أن ترمق ثراه وتعطر النسيم بهبوبه عليه ومسراه شهدت به ليالي وأياما كأنما تصورت من لمحات الأحباب أو قدت من صفحات أيام الشباب وكانت لأبي عامر بن شهيد به فرج وراحات أعطاه فيها الدهر ما شاء ووالى عليه الصحو والانتشاء وكان هو وصاحب الروض المدفون بإزائه أليفي صبوة وحليفي نشوة عكفا فيه على جريالها وتصرفا بين زهوهما واختيالهما حتى رداهما الردى وعداهما الحمام عن ذلك المدى فتجاورا في الممات تجاورهما في الحياة وتقلصت عنهما وارفات تلك الفيآت وإلى ذلك العهد أشار ابن شهيد وبه عرض وبشوقه صحح وما مرض حيث يقول عند موته يخاطب أبا مروان صاحبه وأمر أن يدفن بإزائه ويكتب

وليس له في غير قطع شأفة المسلمين ابتغاء وإن عقد المهادنة في بعض الأحيان فهو يسر حسوا في ارتغاء وكلاب الباطل في دماء أهل الحق والغة ولله سبحانه وتعالى في خلقه إرادة نافذة وحكمة بالغة فرقع لسان الدين ثوب الأندلس ورفاه وأرغم رحمه الله الكفر الذي فعز فاه وشمر عن ساعد واجتهاده وحض باللسان وباليد على دفاعه وجهاده حتى لاحت للنصر بوارق وأمنت بالحزم الطوارىء والطوارق ثم ضرب الدهر ضربانه وأحرق الحاسد بنار أحقاده أنضر بانة وأظهر ما في قلبه على لسان الدين وابانه وتقرب الوشاة وهم ممن كان يخدمه ويغشاه إلى سلطانه الذي كان عزة أوطانه الذي كان يأمنه ولا يخشاه حتى فسد عليه ضميره وتكدر ومن يسمع يخل نميره فأحسن بظاهر التغير وصار في الباطن من أهل التحير وأجال قداح آرائه والتفت إلى جهة العدو من ورائه ففر مشمرا عن ذيله في لمة من خيله إلى أسد العرين سلطان بني مرين وكان إذا ذاك بتلسمان وهو من أهل العلم والعدل والإحسان فاهتز لمقدمه ولقيه بخاصته وخدمه وأكرم مثواه وجعله صاحب نجواه ثم أدرك السلطان الحمام وكسف بدره وقت التمام فرجع لسان الدين إلى فاس واستنشق بها اطيب الانفاس وكثرت بعد ذلك الأهوال وتغيرت بسببه بين رؤساء العدوة والأندلس الأحوال فما نجا من مكر العدا ولا سلم وأل أمره من الاغتيال وما نفع الاحتيال إلى ما علم على يد بعض أعدائه الذين كانوا يتربصون الدوائر لإرادئه فأصبح كأمس الذاهب وصارت أمواله وضياعه عرضة للناهب وغص بذلك من كان من أودائه وأذ الله ثاره من بعض من حرك عليه المكر وأثاره وتسبب في هلاكه حتى انتثرت جواهر أسلاكه ومات بدائه فالعيون

قال بعد كلام وركب أبو الحسن بن القبطرنة إلى سوق الدواب بقرطبة ومعه أبو الحسين بن سراج فنظر إلى أبي الحكم بن حزم غلاما كما عق تمائمه وهو يروق كأنه زهر فارق كمائمه فسأل أبا الحسين بن سراج أن يقول فيه فأرتج عليه فثنى عنان القول إليه فقال [ الطويل ] رأى صاحبي عمرا فكلف وصفه وحملني من ذاك ما ليس في الطوق فقلت له عمرو كعمرو فقال لي صدقت ولكن ذاك شب على الطوق وكان بنو القبطرنة بالأندلس أشهر من نار على علم وقد تصرفوا في البراعة والقلم ولهم الوزارة المذكورة والفضائل المشكورة ولذا قال أبو

الأكابر وغيرهم مما فعل به شاكية والألسنة والأقلام لمقاماته في الإسلام حاكية
فمن كان بهذه السمات وأكثر منها موصوفا لا يقدر مثلي على تحبير التعبير عنه ويخشى أن تكون فكرته كخرقاء نقضت قطنا أو صوفا
اعتزام المقري إجابة ابن شاهين إلى مطلبه
ثم إني لما تكرر علي في هذا الغرض الإلحاح ولم تقبل أعذاري التي زندها شحاح عزمت على الإجابة لما للمذكور علي من الحقوق وكيف أقابل بره حفظه الله بالعقوق وهو الذي يروي من أحاديث الفضل الحسان والصحاح فوعدته بالشروع في المطلب عند الوصول إلى القاهرة المعزية وأزمعت السير عن دمشق المعروفة المزية وألبسني السفر منها من الخلع زيه ورحلنا عن تلك الأرجاء المتألقة والقلوب بها وبمن فيها متعلقة
( حللنا ديارا للغرام سرت بها ... إلينا صبا نجد بطيب نسيم )
( وبان ردى الأشجان لما تجاذبت ... اكف المنى فيها رداء نعيم )
( فما أنشبتنا العيس ان قذفت بنا ... إلى فرقة والعهد غير قديم )
( فإن نك ودعنا

وما نضوها حتى صرعتهم العقار وطلحتهم تلك الأوقار فلما هم رداء الفجر أن يندى وجبين الصبح أن يتبدى قام الوزير أبو محمد فقال [ الخفيف ] يا شقيقي وافى الصباح بوجه ستر الليل نوره وبهاؤه فاصطبح واغتنم مسرة يوم لست تدري بما يجيء مساؤه ثم استيقظ أخوه أبو بكر فقال [ الخفيف ] يا أخي قم تر النسيم عليلا باكر الروض والمدام شمولا لا تنم واغتنم مسرة يوم إن تحت التراب نوما طويلا

وداع الشام
فخرج معنا أسماه الله مع جملة من الأعيان إلى داريا المضاهية لدارين في رياها وحبذا ريا فألفيناها
( ريا من الأنداء طيبة ... لها القدر الجليل )
( تهدي لنا أرجاؤها ... أرجا من الزهر البليل )
( وبها الغصون تمايلت ... ميل الخليل على الخليل )
ووصلنا عند الظهيرة وسرحنا العيون في بدائعها الشهيرة
( منزل كالربيع حلت عليه ... حاليات السحاب عقد النطاق )
( يمتع العين من طرائق حسن ... )
( تتجافى بها عن الإطراق )
وقلنا بها لما نزلنا بجنابها
( وبتنا والسرور لنا نديم ... وماء عيونه الصافي مدام )
( يسايره النسيم إذا تغنت ... حمائمه ويسقيه الغمام )
فيا لك من ليلة أربت في طيب النفح على ليلة الشريف الرضي بالسفح
( ونحن في روضة مفوفة ... قد وشيت بالغمائم الوكف )
(

ويتحسون ذوب ذهب لا يصهر به ما في بطونهم والجلود حتى تركتهم ابنة الخابية كأنهم أعجاز نخل خاوية فلما هزم رومي الصباح زنجي الظلام ونادى الديك حي على المدام

( ودوحها من نداه في وشح ... ومن لآلي الأزهار في شنف )
( والغصن من فوقه حمامته ... كأنها همزة على ألف )
وما أقرب قول الوزير ابن عمار من وصف ذلك المضمار الجامع للأقمار
( يا ليلة بتنا بها ... في ظل أكناف النعيم )
( من فوق أكمام الريا الرياض ... وتحت أذيال النسيم ) وناهيك بمحمل قرب من دمشق الغراء فخلعت عليه حلل الحبور والسراء وأمدته بضيائها وأودعته برق حياها وماء حيائها فصار ناضر الدوحات عاطر الغدوات والروحات مونق الانفاس والنفحات مشرق الأسرة هذا والقلوب من الفراق في قلق ولسان الحال ينشد
( وبي علاقة وجد ليس يعلمها ... إلا الذي خلق الإنسان من علق )
ويحث على انتهاز فرصة اللقاء إذ هي غنيمة ويذكر بقول من قال وأكف الدهر موقظة ومنيمة
( تمتع بالرقاد على شمال ... فسوف يطول نومك باليمين )
( ومتع من يحبك باجتماع ... فأنت من الفراق على يقين )
ثم حضر بعد تلك الليلة موقف الوداع والكل ما بينواجم وباك وداع فتمثلت بقول من قلبه لفراق الأحباب في انصداع
( ودعتهم ودموعي ... على الخدود غزار )
( فاستكثروا

طرفة الطرف وصدقنا ولم نقطع وكذبنا ولم ننف وأغضينا لإجلال عن أكرومة الظرف 2 ولم تنصف وقد جئنا ك ما ننهض من ضعف وكان الحكم أن تحم أو تردف في الردف

وقل آخر
( يا وحشة من جيرة مذ نأوا ... علو قدري في الهوى انحطا )
( حكت دموعي البحر من بعدهم ... لما رأت منزلهم شطا )
وحق لي أن أتمثل في ذلك بقول العزازي
( لا تسلني عما جناه الفراق ... حملتني يداه ما لا يطاق )
( أين صبري أم كيف أملك دمعي ... والمطايا بالظاعنين تساق )
( قف معي نندب الطلول فهذي ... سنة قبل سنها العشاق )
( وأعد لي ذكر الغوير فكم مال ... بعطفي نسيمه الخفاق )
( في سبيل الغرام ما فعلت بالعاشقين ... القدود والأحداق )
( يوم ولت طلائع الصبر منا ... ثم شنت غاراتها الأشواق
وبقول غيره
( كنا جميعا والدار تجمعنا ... مثل حروف الجميع ملتصقة )
( واليوم صار الوداع يجعلنا ... مثل حروف الوداع مفترقة )
وقول آخر
( حين هم الحبيب بالتوديع ... عيروني أني سفحت دموعي )
( لم يذوقوا طعم الفراق ولا ما ... أحرقت لوعة الأسى من ضلوعي ) حذف 1

بانت وما قضيت منها لبانات يدني التوهم للمشتاق منتزحا من الأمور وفي الأوهام راحات تقضى عدات إذا هب الكرى وإذا هب النسيم فقد تهدى تحيات زور يعلل قلب المستهام به دهرا وقد بقيت في النفس حاجات لعل عتب الليالي أن يعود إلى عتبى فتبلغ أوطار ولذات حتى نفوز بما جاد الخيال به فربما صدقت تلك المنامات ولما أعرس المستعين بالله ببنت الوزير الأجل أبي بكر بن عبد العزيز احتفل أبوه المؤتمن في ذلك احتفالا شهره وأبدع فيه إبداعا راق من حضره وبهره فإنه أحضر فيه من الآلات المبتدعة والأدوات المخترعة ما بهر الألباب وقطع بذكائه دون معرفتها الأسباب واستدعى إليه جميع أعيان الأندلس من دان وقاص ومطيع وعاص فأتوه مسرعين ولبوه متبرعين وكان مدير تلك الآراء ومدبرها ومنشئ مخاطباتها ومحبرها الوزير الكاتب أبو الفضل وصدرت عنه في ذلك الوقت كتب ظهر إعجازها وبهر اقتضابها وإيجازها فمن ذلك ما خاطب به صاحب المظالم أبا عبد الرحمن بن طاهر

( كيف لا أسفح الدموع على ربع ... حوى خير ساكن وجموع )
( هبك أني كتمت حالي أتخفى ... زفرات المتيم المصدوع )
( إنما يعرف الغرام بمن لا ... ح عليه الغرام بين الربوع )
وقول من قال
( أقول له عند توديعه ... وكل بعبرته مبلس ) ( لئن قعدت عندك أجسادنا ... لقد سافرت معك الأنفس )
وقول الصابي ( ولما حضرت لتوديعه ... وطرف النوى نحونا أشوس )
( عكست له بيت شعر مضى ... يليق به الحال إذ يعكس )
( لئن سافرت عنك أجسادنا ... لقد قعدت معك الأنفس )
وقول المهذب بن أسعد الموصلي
( دعني وما شاء التفرق والأسى ... واقصد بلومك من يطيعك أو يعي )
( لا قلب لي فأعي الملام فإنني ... أودعته بالأمس عند مودعي )
( هل يعلم المتحملون لنجعة ... أن المنازل أخصبت من أدمعي )
( كم غادروا حرضا وكم لوداعهم ... بين الجوانح من غرام مودع )
( والسقم آية ما أجن من الجوى ... والدمع بينة على

وقول الكمال التنوخي
( كم ليلة قد بتها أرعى السها ... جزعا لفرقتهم بمقلة أرمد )
( قضيتها ما بين نوم نافر ... وزفير مهجور وقلب مكمد )
( لم أنس أيام السرور وطيبها ... بين السدير وبين برقة ثهمد )
( والروض قد أبدي بدائع نوره ... من أزرق ومفضض ) والماء يبدو كالصوارم ساريا ... فيعيده مر الصبا كالمبرد )
( والطير بين مسجع ومرجع ... مغرد ومعدد ومردد )
وقول القاضي بهاء الدين السنجاري
( أحبابنا ما لي على بعد المدى ... جلد ومن بعد النوى يتجلد )
( لله أوقات الوصال ومنظر ... نضر وغصن الوصل غض أملد )
( أنى يطيق أخو الهوى كتمانه ... والخد بالدمع المصون مخدد )
( ما بعد مفترق الركاب تصبر ... عمن أحب فهل خليل يسعد )
( يا سعد ساعد بالبكاء أخا هوى ... يوم الوداع بكى عليه الحسد )
وقول ابن الأثير
( لم أنس ليلة ودعوا ... صبا وساروا بالحمول )
( والدمع من فرط الأسى

الغرر مفضض مذهب الآصال والبكر كأنما الدهر لما ساء أعتبنا فيه بعتبى وأبدى صفح معتذر نسير في زورق حف السفين به من جانبيه بمنظوم ومنتثر مد الشراع به نشرا على ملك بذ الأوائل في أيامه الأخر هو الإمام الهمام المستعين حوى علياء مؤتمن عن هدي مقتدر تحوي السفينة منه آية عجبا بحر تجمع حتى صار في نهر تصاد من قعره النينان مصعدة صيدا كما ظفر الغواص بالدرر وللندامى به عب ومرتشف كالريق يعذب في ورد وفي صدر والشرب في مدح مولى خلقه زهر يذكو وغرته أبهى من القمر وصف المتنزهات من ترجمة عبد الله ابن السيد البطليوسي 143 وصف المتنزهات من ترجمة عبد الله ابن السيد البطليوسي وقال في ترجمة العلامة الكبير الأستاذ أبي محمد عبد الله بن السيد البطليوسي شارح أدب الكتاب وسقط الزند وغيرهما ما صورته أخبرني أنه حضر مع المأمون بن ذي النون في مجلس الناعورة بالمنية التي تطمح إليها المنى ومرآها هو المقترح والمتمنى والمأمون قد احتبى وأفاض الحبا والمجلس يروق كأن الشمس في أفقه والبدر في مفرقه والنور عبق وعلى ماء النهر مصطبح ومغتبق والدولاب يئن كناقة إثر الحوار أو كثكلى من حر الأوار والجو قد عنبرته أنواؤه والروض قد رشته أنداؤه والأسد قد فغرت أفواهها ومجت أمواهها فقال [ المنسرح ]

( ولما وقفنا للوداع عشية ... وطرفي وقلبي هامع وخفوق )
( بكيت فأضحكت الوشاة شماتة ... كأني سحاب والوشاة بروق )
وقول ابن نباتة السعدي
( ولما وقفنا للوداع عشية ... ولم يبق إلا شامت وغيور )
( وقفنا فمن باك يكفكف دمعه ... وملتزم قلبا يكاد يطير )
وقول بعضهم
( لما حدا الحادي بترحالهم ... هيج أشواقي وأشجاني )
( وراح القلب يثني القلب عن غيرهم ... فهو لهم حاد ولي ثاني )
وقول الصفدي
( لما اعتنقنا لوداع النوى ... وكدت من حر الجوى أحرق )
( رأيت قلبي سار قدامهم ... وأدمعي تجري ولا تلحق )
وقوله أيضا
( تذكرت عيشا مر حلوا بكم فهل ... لأيامنا تلك الذواهب واهب )
( وما انصرفت آمال نفسي لغيركم ... ولا أنا عن هذي الرغائب غائب )
( سأصبر كرها في الهوى غير طائع ... لعل زماني بالحبايب آيب ) حذف

عنبرة وغيم ند وطش ما ورد والماء كاللازورد قد نظمت فيه اللآلي فواغر الأسد كأنما جاثل الحباب به يلعب في جانبيه بالنرد تراه يزهو إذا يحل به ال زهو الفتاة بالعقد تخاله إن بدا به قمرا تما بدا في مطالع السعد كأنما ألبست حدائقه ما حاز من شيمة ومن مجد كأنما جادها فروضها بوابل من يمينه رغد لا زال في رفعة مضاعفة متمم الرفد واري الزند وقال في وصف هذا المجلس بعينه في الكتاب الذي أفرده لترجمة ابن السيد ما صورته فمن ذلك أنه حضر مع القادر بالله بن ذي النون بمجلس الناعورة بطليطلة في المنية المتناهية البهاء والإشراق المباهية لزوراء العراق التي ينفح شذاها العطر ويكاد من الغضارة يمطر والقادر بالله رحمه الله قد التحف الوقار وارتداه وحكم العقار في جوده ونداه والمجلس يشرق كالشمس في الحمل ومن حواه يبتهج كالنفس عند منال الأمل والزهر عبق وعلى ماء النهر مصطبح ومغتبق والدولاب يئن كناقة إثر حوار إلى آخر ما سبق وقال الفضل

وقول ابن نباتة المصري
( في كنف الله وفي حفظه ... مسراك والعود بعزم صريح )
( لو جاز أن تسلك أجفاننا ... كنا فرشنا كل جفن قريح )
( لكنها بالبعد معتلة ... وأنت لا تسلك إلا الصحيح )
وقول الحافظ أبي الحسن علي بن الفضل
( عجبت لنفسي بعدهم ما بقاؤها ... ولم أحظ من لقياهم بمرادي )
( لعمرك ما فارقتهم منذ ودعوا ... ولكنما فارقت طيب رقادي )
( وقد منعوا مني زيارة طيفهم ... وكيف يزور الطيف حلف سهاد )
( وأعجب ما في الأمر شوقي إليهم ... وهم في سوادي ناظري وفؤادي )
وقوله رحمه الله تعالى
( رعى الله أيام المقام بروضة ... تروح علينا بالسرور وتغتدي )
( كأن الشقيق الغض بين بطاحها ... نجوم عقيق في سماء زبرجد )
وقول

سائغ الماء لعابا فكأنها آساد عين أدلعت ألسنة من لجين وهي لا تزال تقذف الماء ولا تفتر وتنظم لآلي الحباب بعد ما تنثر فأمره بوصف ذلك الموضع الذي تخد إليه ركائب القلوب وتوضع فقال بديها يا منظرا إلخ انتهى ثم قال الفتح في هذا التصنيف بعد كلام في المذكور ما نصه وما أبدع قوله في وصف الراح والحض على النبذ للهموم والاطراح بمعاطاة كأسها وموالاة إيناسها ومعاقرة دنانها واهتصار ثمار الفتوة من أفنانها والإعراض عن الأيام وأنكادها والجري في ميدان الصبوة إلى أبعد آمادها [ الكامل ] سل الهموم إذا نبا زمن بمدامة صفراء كالذهب مزجت فمن در على ذهب طاف ومن حبب على لهب وكأن ساقيها يثير شذى مسك لدى الأقوام منتهب ولله هو فقد ندب إلى المندوب وذهب إلى مداواة القلوب من الندوب وإبرائها من الآلام وإهدائها كل تحية وسلام وإبهاجها بآصال وبكر وعلاجها من هموم وفكر في زمن حلي عاطله وجلي في أحسن الصور

( رحلوا فلا خلت المنازل منهم ... ونأوا فلا سلت الجوانح عنهم )
( وسروا وقد كتموا الغداة مسيرهم ... وضياء نور الشمس ما لا يكتم )
( وتبدلوا أرض العقيق عن الحمى ... روت جفوني أي أرض يمموا )
( نزلوا العذيب وإنما هو مهجتي ... رحلوا وفي قلب المتيم خيموا )
( ما ضرهم لو ودعوا من أودعوا ... نار الغرام وسلموا من أسلموا )
( هم في الحشا إن أعرقوا أو أيمنوا ... أو أشأموا أو أنجدوا أو أتهموا )
وقول الشاعر أبي طاهر الأصفهاني المعروف بالوثابي
( أشاعوا فقالوا وقفة ووداع ... وزمت مطايا للرحيل سراع )
( فقلت وداع لا أطيق عيانه ... كفاني من البين المشت سماع )
( ولم يملك الكتمان قلب ملكته ... وعند النوى سر الكتوم مذاع )
وقول أبي المجد قاضي ماردين
( رعى الله ربعا أنتم فيه أهله ... وجاد عليه هاطل وهتون )
( ولا زال مخضر الجوانب مترع الحياض ... وفيه للنعيم فنون )
( لئن قدر الله اللقاء وأينعت ... غصون التداني فالبعاد يهون )
( وإن حكمت أيدي الزمان بعسرة ... فكم قضيت للمعسرين ديون )
وقول آخر حذف 1

وعكف عليها ما تعداها ولا تخطاها حتى بلغه أنهم نقموا معاقرته العقار وجالت ألسنتهم في توبيخه مجال ذي الفقار فقال [ الطويل ] نقمتم علي الراح أدمن شربها وقلتم فتى راح وليس فتى مجد ومن ذا الذي قاد الجياد إلى الوغى سواي ومن أعطى كثيرا ولم يكد فديتكمو لم تفهموا السر إنما قليتكم جهدي فأبعدتكم جهدي ودعى ابن السيد ليلة إلى مجلس قد احتشد فيه الأنس والطرب وقرع فيه السرور نبعه بالغرب ولاحت نجوم أكواسه وفاح نسيم رنده وآسه وأبدت صدور أباريقه أسرارها وضمت عليه المجالس أزرارها والراح يديرها أهيف أوطف والأماني تجنى وتقطف فقال [ الكامل ] يا رب ليل قد هتكت حجابه بمدامة وقادة كالكوكب يسعى بها أحوى الجفون كأنها من خده ورضاب فيه الأشنب بدران بدر قد أمنت غروبه يسعى ببدر جانح للمغرب فإذا نعمت برشف بدر غارب فانعم برشفة طالع لم يغرب

( غبتم فما لي في التصبر مطمع ... عظم الجوى واشتدت الأشواق )
( لا الدار بعدكم كما كانت ولا ... ذاك البهاء بها ولا الإشراق )
( أشتاقكم وكذا المحب إذا نأى ... عنه أحبه قلبه يشتاق )
وقول أبي الحسن الهمداني
( ويوم تولت الأظعان عنا ... وقوض حاضر وأرن بادي )
( مددت إلى الوداع يدا وأخرى ... حبست بها الحياة على فؤادي )
وقول ابن الصائغ
( قد أودعوا القلب لما ودعوا حرفا ... فظل في الليل مثل النجم حيرانا )
( راودته يستعير الصبر بعدهم ... فقال إني استعرت اليوم نيرانا )
وقول الصدر بن الأدمي مكتفيا
( يوم توديعي لأحبائي غدا ... ذكر مي شاغلي عن كل شيء )
( فرنت نحوي وقالت يا ترى ... أنت حي في هوانا قلت مي )
وقول غيره
( ولي فؤاد مذ نأى شخصهم ... ظل كئيبا مدنفا موجعا )
( ومقلة

صباها وشمائلها والحوادث لا تعترضها والكوارث لا تقترضها ونازلها من عرس إلى موسم وآملها متصل بالأماني ومتسم فنزل منها في مثل الخورنق والسدير وتصرف فيها بين روضة وغدير فلم يخف على المستعين احتلاله ولم تخف لديه خلاله فذكره معلما به ومعرفا وأحضره منوها به ومشرفا وقد كان فر من ابن رزين فرار السرور من نفس الحزين وخلص من اعتقاله خلوص السيف من ثقاله فقال يمدحه [ الطويل ] هم سلبوني حسن صبري إذ بانوا بأقمار أطواق مطالعها بان لئن غادروني باللوى إن مهجتي مسايرة أظعانهم حيثما كانوا سقى عهدهم بالخيف عهد غمائم ينازعها نهر من الدمع هتان أأحبابنا هل ذلك العهد راجع وهل لي عنكم آخر الدهر سلوان ولي مقلة عبرى وبين جوانحي فؤاد إلى لقياكم الدهر حنان تنكرت الدنيا لنا بعد بعدكم وحفت بنا من معضل الخطب ألوان

( وليس لي من حيلة كلما ... لجت بي الأشواق إلا الدعا )
( أسأل من ألف ما بيننا ... وقدر الفرقة أن يجمعا )
وقول الرعيني الغرناطي
( محاسن ربع قد محاهن ما جرى ... من الدمع لما قيل قد رحل الركب )
( تناقض حالي مذ شجاني فراقهم ... فمن أضلعي نار ومن أدمعي سكب )
وفي معناه قوله أيضا
( وقائله ما هذه الدرر التي ... تساقطها عيناك سمطين سمطين )
( فقلت لها هذا الذي قد حشا به ... أبو مضر أذني تساقط من عيني )
وقو الزمخشري
( لم يبكني إلا حديث فراقهم ... لما أسر به إلي مودعي )
( هو ذلك الدر الذي أودعتم ... في مسمعي أجريته من مدمعي )
وقول الزغاري
( قد بعتهم قلبي يوم بينهم ... بنظرة التوديع وهو يحترق )
( ولم أجد من بعدها لرده ... وجها وكان الرد لو لم نفترق )
( وقول بعض الأندلسيين
( ساروا فودعهم طرفي وأودعهم ... قلبي فما بعدوا عني ولا قربوا )
( هم الشموس

تفد منا سوى الشعر وحده لحق لنا بر عليه وإحسان فكيف ولم نجعل بها الشعر مكسبا فيوجب للمكدي جفاء وحرمان ولا نحن ممن يرتضي الشعر خطة وإن قصرت عن شأونا فيه أعيان ومن أوهمته غير ذاك ظنونه فثم مجال للمقال وميدان خليلي من يعدي على زمن له إذا ما قضى حيف علي وعدوان وهل ريء من قبلي غريق مدامع يفيض بعينيه الحيا وهو حران وهل طرفت عين لمجد ولم يكن لها مقلة من آل هود وإنسان بوجه ابن هود كلما أعرض الورى صحيفة إقبال لها البشر عنوان فتى المجد في برديه بدر وضيغم وبحر وقدس ذو الهضاب وثهلان من النفر الشم الذين أكفهم غيوث ولكن الخواطر نيران ليوث شرى ما زال منهم لدى الوغى هزبر بيمناه من السم ثعبان وهل فوق ما قد شاد مقتدر لهم ومؤتمن بالله لقياه إيمان ألا ليس فخر في الورى غير فخرهم وإلا فإن الفخر زور وبهتان

وقلت أنا مضمنا بديهة
( لا كان يوم فراق ... ساق الشجون إلينا )
( فكم أذل نفوسا ... يا من يعز علينا )
وقلت أيضا مضمنا
( سلا أحبته من لم يذب كمدا ... يوم الوداع وإن أجرى الدموع دما )
( يا من يعز علينا أن نفارقهم ... من بعدكم هد ركن الصبر وانهدما )
( وإن نأى الجسم كرها عن منازلكم ... فالقلب ثاو بها لم يصحب القدما )
( وما نسينا عهودا للهوى كرمت ... نعم قرعنا عليها سننا ندما )
( وأظلمت بالنوى أرجاء مقصدنا ... وصار وجدان إلف غيركم عدما )
وقلت أيضا مضمنا
( لم أنس بالشام أنسا شمت بارقه ... جادت معاهده أنواء نيسان )
( لهفي لعيش قضينا في مشاهدها ... ما بين حسن من الدنيا وإحسان )
وقلت كذلك
( يا جيرة بانوا وأبقوا حسرة ... تجري دموعي بعدهم وفق القضا )
( كم قلت إذا ودعتهم والأنس لا ... ينسى وعهد ودادهم لن يرفضا
( يا موقف التوديع إن مدامعي ... فضت وفاضت في ثرى ذاك الفضا )
وكم تفاءلت بقول الأول مع علمي بأن على الله المعول

الاجتماع بمذهبك والاستمتاع بما شئته من براعة أدبك فأقاموا يعملون كأسهم ويصلون إيناسهم وباتوا ليلتهم ما طرقهم نوم ولا عداهم عن طيب اللذات سوم ثم قال بعد كلام كثير وحضر ابن السيد عند عبد الرحمن الظافر بن ذي النون مجلسا رفعت فيه المنى لواءها وخلعت عليه أضواءها وزفت

( إذا رأيت الوداع فاصبر ... ولا يهمنك البعاد )
( وانتظر العود عن قريب ... فإن قلب الوداع عادوا )
وضاقت بي الرحاب حين مفارقة أعيان الصحاب وكاثرت دموعي من بينهم السحاب وزند التذكر يقدح الأسف فيهيج الانتحاب وقد تمثلنا إذ ذاك والجوانح من الجوى في التهاب وذخائر الصبر ذات انتهاب بقول بعض من مزق البعد منه الإهاب
( ولما نزلنا منزلا طله الندى ... أنيقا وبستانا من النور حاليا )
( أجد لنا طيب المكان وحسنه ... مني فتمنينا فكانوا الأمانيا )
( وقد طفت في شرق البلاد وغربها ... وسيرت خيلي بينها وركابيا )
( فلم أر منها مثل بغداد منزلا ... ولم أر فيها مثل دجلة واديا )
( ولا مثل أهليها أرق شمائلا ... وأعذب ألفاظا وأحلى معانيا )
وبقول من تأسف على مغاني التداني وهو أبو الحجاج الأندلسي الداني
( أبى الله إلا أن أفارق منزلا ... يطالعني وجه المنى فيه سافرا )
( كأن

في عرف الأنس والأرج لا يعرج إلا على ضفة نهر ولا يبتهج إلا بقطعة

وتخيلنا أن إقامتنا بدمشق وقاها الله كل صرف ما كانت إلا خطرة طيف ملم أو لمحة طرف
( وقفنا ساعة ثم ارتحلنا ... وما يغني المشوق وقوف ساعة )
( كأن الشمل لم يك في اجتماع ... إذا ما شتت البين اجتماعه )
وطالما عللت النفس بالعود إليها ثم إلى بقاعي منشدا قول الأديب الشهير بابن الفقاعي
( متى عاينت عيناي أعلام حاجر ... جعلت موطاي العيس فوق محاجري )
( وإن لاح من أرض العواصم بارق ... رجعت بأحشاء صواد صوادر )
( سقى الله هاتيك المواطن والربى ... مواطر أجفان هوام هوامر )
( وحيا الحيا من ساكني الحي أوجها ... سفرن بأنوار زواه زواهر )
( بحيث زمان الوصل غض وروضة ... أريض بأزهار بواه بواهر )
( وحيث جفون الحاسدين غضيضة ... رمقن بآماق سواه سواهر )
ثم حاولت خاطري الكليل فيما يشفي بعض الغليل فقال على طريق التضمين وقد غلب عليه الشوق والتخمين
( بأبي من أودعوا مذ ودعوا ... قلبي الشوق وللعيس ذميل
جيرة غر كرام خيرة ... كل شيء منهم يبدو جميل )
( وعلى الجملة ما لي غيرهم ... لو أرادو ان يملوا أو يميلوا )
ثم قلت وقد سدد التنائي إلي نبله موطئا للبيت الثالث كما في الأبيات قبله حذف

والشمس قد شدت مطي رحالها في حيث تنساب المياه أراقما وتعيرك الأفياء برد ظلالها وله [ الكامل ] لله حسن حديقة بسطت لنا منها النفوس سوالف ومعاطف تختال في حلل الربيع وحليه ومن الربيع قلائد ومطارف وصف المتنزهات من ترجمة ابن عمار 150 وصف المتنزهات من ترجمة ابن عمار وقال الفتح في ترجمة ابن عمار أخبرني ذو الوزارتين الأجل أبو المطرف بن عبد العزيز أنه حضر معه عند المؤتمن في يوم جادت فيه السماء بهطلها وأتبعت وبلها بطلها وأعقب رعدها برقها وانسكب دراكا ودقها والأزهار قد تجلت من كمامها وتحلت بدر غمامها والأشجار قد جلي صداها وتوشحت بنداها وأكؤس الراح كأنها كواكب تتوقد تديرها أنامل تكاد من اللطافة تعقد إذا بفتى من فتيان المؤتمن أخرس لا يفصح

( يا دمشقا حياك غيث غزير ... ووقاك الإله مما يضير )
( حسنك الفرد والبدائع جمع ... متناه فيه فعز النظير )
( أين أيامنا بظلك والشمل ... جميع والعيش غض نضير )
ثم أكثرت الالتفات عن اليمين وعن الشمال وقد شبهت البيداء والشوق ببدل الكل والاشتمال وتنسمت من نواحي تلك الأرجاء أريج الشمال وضمنت في المعنى قول بعض من ثنى الحب عطفه وأمال
( تنسمت أرواحا سرت من ديار من ... بهم كان جمع الشمل لمحة حالم )
( وجاوبت من يلحى على ذاك جاهلا ... بقول لبيب بالعواقب عالم )
( وما أنشق الأرواح إلا لأنها ... تمر على تلك الربى والمعالم )
وما أحسن قول الآخر
( سرت من نواحي الشام لي نسمة الصبا ... وقد أصبحت حسرى من السير ظالعة )
( ومن عرق مبلولة الجيب بالندى ... ومن تعب أنفاسها متتابعة )
وقلت أنا
( حمدت وحق الله للشام رحلة ... أتاحت لعيني اجتلاء محياه )
( وبعد التنائي صرت أرتاح للصبا ... لأن الصبا تسري بعاطر رياه )
( فلله عهد قد أتاح بجلق ... سرورا فحياها الإله وحياه )
واستحضرت عند جد السير قول صفوان بن

فيه الحميا وشبت غرامه بهجة ذلك المحيا واستنزلته سورة العقار من مرقب الوقار قال [ الكامل ] وهويته يسقي المدام كأنه قمر يدور بكوكب في مجلس متأرج الحركات تندى ريحه كالغصن هزته الصبا بتنفس يسعى بكأس في أنامل سوسن ويدير أخرى من محاجر نرجس يا حامل السيف الطويل نجاده ومصرف الفرس القصير المحبس إياك بادرة الوغى من فارس خشن القناع على عذار أملس جهم وإن حسر اللثام فإنما كشف الظلام عن النهار المشمس يطغى ويلعب في دلال عذاره كالمهر يمرح في اللجام المجرس سلم فقد قصف القنا غصن النقا وسطا بليث الغاب ظبي المكنس عنا بكاسك قد كفتنا مقلة حوراء قائمة بسكر المجلس

( أين أيامنا اللواتي تقضت ... إذ زجرنا للوصل أيمن طير )
ثم قول غيره ممن حن وأن وقلق قلبه وما اطمأن :
( أحن إلى مشاهد أنس إلفي ... وعهدي من زيارته قريب )
( وكنت أظن قرب العهد يطفي ... لهيب الشوق فازداد اللهيب )
وربما تجلدت مغالطا متعللا بقول من كان لإلفه مخالطا :
( حضرت فكنت في بصري مقيما ... وغبت فكنت في وسط الفؤاد )
( وما شطت بنا دار ولكن ... نقلت من السواد إلى السواد )
وقوله غيره
وكن كما شئت من قرب وبعد ... فالقلب يرعاك إن لم يرعك البصر )
وبقول الوداعي
( يا عاذلي في وحدتي بعدهم ... وأن ربعي ما به من جليس )
( وكيف يشكو وحدة من له ... دمع حميم وأنين أنيس )
ثم رددت هذه الطريقة بقول بعض من لم يبلغه السلو ريقه
( لا رعى الله عزمة ضمنت لي ... سلوة القلب والتبصر عنهم )
( ما وفت غير ساعة ثم عادت ... مثل قلبي تقول لا بد منهم )
وبقول ابن آجروم في مثل هذا الغرض المروم
( يا غائبا كان أنسي رهن طلعته ... كيف اصطباري وقد كابدت بينهما )

على لبه وبث سراياه في ضواحي قلبه جد في أن يستخرج تلك الدرة من ماء ذلك الدلاص وأن يجلي عنه سهكه كما يجلي الخبث عن الخلاص وأن يكون هو الساقي فأمره المؤتمن بقبول أمره وامتثاله واحتذاء مثاله فحين ظهرت تلك الشمس من حجبها ورميت شياطين النفوس من كميت المدام بشهبها ارتجل ابن عمار وهويته - الخ إلا أنه قال إثر قوله

( دعواي أنك في قلبي يعارضها ... شوقي إليك فكيف الجمع بينهما )
ثم جد بي السير إلى مصر واستمر فتذكرت قول الصفدي وقد اشتد بالرمل الحر
( أقول وحر الرمل قد زاد وقده ... وما لي إلى شم النسيم سبيل )
( أظن نسيم الجو قد مات وانقضى ... فعهدي به في الشام وهو عليل )
وقول ابن الخياط
( قصدت مصرا من ربى جلق ... بهمة تجري بتجريبي )
( فلم أر الطرة حتى جرت ... دموع عيني بالمريزيب )
وحين وصلت مصر لم أنس عهد الشام المرعي وأنشدت قول الشهاب الحنبلي الزرعي
( أحبتنا والله مذ غبت عنكم ... سهادي سميري والمدامع مدرار )
( ووالله ما اخترت الفراق وإنه ... برغمي ولي في ذلك الأمر أعذار )
( إذا شام برق الشام طرفي تتابعت ... سحائب جفني والفؤاد به نار )
( ألا ليت شعري هل يعودن شملنا

مخصب لما سألت به الغمام الممطرا من لا توازنه الجبال إذا احتبى من لا تسابقه الرياح إذا جرى ماض وصدر الرمح يكهم والظبا تنبو وأيدي الخيل تعثر في الثرى

وقول ابن عنين
( دمشق بنا شوق إليك مبرح ... وإن لج واش أو ألح عذول )
( بلاد بها الحصباء در وتربها ... عبير وأنفاس الرياح شمول )
( تسلسل منها ماؤها وهو مطلق ... وصح نسيم الروض وهو عليل )
وقول آخر
( نفسي الفداء لأنس كنت أعهده ... وطيب عيش تقضى كله كرم )
( وجيرة كان لي إلف بوصلهم ... والأنس أفضل ما بالوصل يغتنم )
( بالشام خلفتهم ثم انصرفت إلى ... سواهم فاعتراني بعدهم ألم )
( كانوا نعيم فؤادي والحياة له ... والآن كل وجود بعدهم عدم )
فإن أنشد لسان الحال فيما اقتضاه معنى البعد عنها والارتحال
( يا غائبا قد كنت أحسب قلبه ... بسوى دمشق وأهلها لا يعلق )
( إن كان صدك نيل مصر عنهم ... لا غرو فهو لنا العدو الأزرق )
أتيت في جوابه بقول بعض من برح الجوى به
( لله دهر جمعنا شمل لذته ... بالشام أعذب من أمن على فرق )
( مرت لياليه والأيام في خلس ... كأنما سلبته كف مسترق )
( ما كان أحسنها لولا تنقلها ... من النعيم إلى ذاك من الحرق )
( رق العذول لحالي بعدها ورثى ... لي في الجوى والنوى والشجو والأرق

فلقد وجدت نسيم برك أعطرا وصف المتنزهات من ترجمة ابن وهبون 154 وصف المتنزهات

وبالجملة فتلك الأيام من مواسم العمر محسوبة والسعود إلى طوالها منسوبة
( وكانت في دمشق لنا ليال ... سرقناهن من ريب الزمان )
( جعلناهن تاريخ الليالي ... وعنوان المسرة والأماني )
وهي مغاني التهاني التي ما نسيناها وأماني زماني التي نعمت بطور سيناها عليها وعلى وطني مقصورة والقلب في المعنى مقيم بهما وإن كان في غيرهما بالصورة والأشواق إليهما قضاياها موجهة وإن كانت غير محصورة
( ولله عهد قد تقضى فإن يعد ... فإني عن الأيام أعفو واصفح )
( بقلبي من ذكراه ما ليس ينقضي ... ومن برحاء الشوق ما ليس يبرح )
( إذا مسحت كفي الدموع تسترا ... بدت زفرة بين الجوانح تقدح )
( فإن جمعت شملي الليالي بقربهم ... تجمع غيلان ومي وصيدح )
( على أنها الأيام جد مزاحها ... ورب مجد في الأذى وهو يمزح )
وكثيرا ما يلهج اللسان بقول من قال
( وما تفضل الأوقات أخرى لذاتها ... ولكن أوقات الحسان حسان )
ويردد قول من شوقه متجدد :
( سقى معهد الأحباب ناقع صيب ... من المزن عن مغناه ليس يريم )
( وإن لم أكن من ساكنيه فإنه ... يحل به خل علي كريم )
وينشد من يلوم قول من في حشاه وله وفي قلبه كلوم
( قد أصبح آخر الهوى أوله ... فالعاذل في هواك ما لي وله )
( بالله عليك خل ما أوله ... وارحم

تفتحت للروض أبوابه وتوشحت بالأزر الذهبية أثوابه يخترقه جدول كالحسام المسلول وينساب فيه انسياب الأيم في الطلول وضفاته بالأدواح محفوفة والمجلس يروق كالخريدة المزفوفة وفيه يقول علي بن أحمد أحد شعرائها وقد حله مع طائفة من وزرائها [ المنسرح ] قم فاسقني والرياض لابسة وشيا من النور حاكه القطر في مجلس كالسماء لاح به من وجه من قد هويته بدر والشمس قد عصفرت غلائلها والأرض تندى ثيابها الخضر والنهر مثل المجر حف به من الندامى كواكب زهر فحللت ذلك المجلس وفيه أخدان كأنهم الولدان وهم في عيش لدن كأنهم في جنة عدن فأنخت لديهم ركائبي وعقلتها وتقلدت بهم رغائبي واعتقلتها وأقمنا نتنعم بحسنه طول ذلك اليوم ووافى الليل فذدنا عن الجفون طروق النوم وظللنا بليلة كأن الصبح منها مقدود والأغصان تميس كأنها قدود والمجرة تتراءى نهرا والكواكب تخالها في الجو زهرا والثريا كأنها راحة تشير وعطارد لنا بالطرب بشير فلما كان من الغد وافيت الرئيس أبا عبد الرحمن زائرا فأفضنا في الحديث إلى أن أفضى بنا إلى ذكر

شروعه في التصنيف بمصر
وقد امتد بنا الكلام وربما يجعله اللاحي ذريعة لزيادة الملام فلنرجع إلى ما كنا بصدده من إجابة المولى الشاهيني أمده الله سبحانه بمدده فأقول مستمدا من واهب العقول
إني شرعت بعد الاستقرار بمصر في المطلوب وكتبت منه نبذة تستحسنها من المحبين الأسماع والقلوب وسلكت في ترتيبه أحسن أسلوب وعرضت في سوقه كل نفيس غريب من الغرب إلى الشرق مجلوب تستحسن الأبصار ما عليه احتوى وتعرف الأفكار أنه غير مجتوى ثم وقف بي مركب العزم عن التمام واستوى فأخرته تأخير الغريم لدين الكريم وصدتني أعراض عن تكميل ما يشتمل عليه من أغراض وأضربت برهة عما له من منحي لاختلاف أحوال الدهر نفعا ودفعا ومنعا ومنحا ومرقت عن هدف الإصابة نبال وطرقت في سدف ليالي الكتابة أمور لم تكن تخطر ببال
رسالة من ابن شاهين تحثه على المضي في التأليف
فجاءتني من المولى المذكور آنفا رسالة دلت على أنه لم يكن عن انتجاز الوعد متجانفا فعدت لقضاء الوطر مستقبلا وللجملة مستأنفا وحداني خطابه الجسيم للإتمام وساقني وراقني كتابه الكريم لهاتيك الأيام وشاقني وذكرني تلك الليالي التي لم أنسها وحركني لهاتيك المعاهد التي لم أزل أذكر أنسها
( الإلف لا يصبر عن إلفه ... إلا كما

وقت حلت فيه الشمس برج شرفها واكتسب فيه الأرض بزخرفها فحللت به والدوح تميس معاطفه والنور يخجله قاطفه والمدام تطلع به وتغرب وقد حل فيه قحطان ويعرب وبين يدي المنصور مائة غلام ما يزيد أحدهم على العشر غير أربع ولا يحل غير الفؤاد من مربع وهم يديرون رحيقا خلتها في كأسها درا أو عقيقا فأقمنا والشهب تغازلنا وكأن الأفلاك منازلنا ووهب المنصور في ذلك اليوم ما يزيد على عشرين ألفا من صلات متصلات وأقطع ضياعا ثم توجع لذلك العهد وأفصح ما بين ضلوعه من الوجد وقال [ الكامل ] سقيا لمنزلة اللوى وكثيبها إذ لا أرى زمنا كأزماني بها كتاب من الفتح إلى بعض الملوك يصف متنزها 155 كتاب من الفتح إلى بعض الملوك يصف متنزها وما أحسن ما كتب به الفتح إلى بعض الملوك يصف نزهة ببعض منتزهات الأندلس المونقة ويذكر استضاءته فيها بشموس المسرة المشرقة وهو أطال الله سبحانه بقاء ناصر الدولة ومحيي الملة الذي حسن بلقياه العيش وتزين بمحياه الجيش وراق باسمه الملك وجرت بسعده الفلك وأنار به الليل الدامس ولاح له الأثر الطامس وجرى الدهر لسطوته خائفا وغدا السعد بعقوته طائفا والزمان ببرود علياه ملتحف ولثغور نداه

فيا له من كتاب أعرب عن ود صميم وذكر بعهد غير ذميم وود طيب العرف والشميم يخجل ابن المعتز لبلاغته وابن المعز تميم
( ولم تر عيناي من قبله ... كتابا حوى بعض ما قد حوى )
( كأن المباسم ميماته
ولاماته الصدغ لما التوى )
( وأعينه بعيون الحسان ... تغازلنا عند ذكر الهوى )
( كتاب ذكرنا بألفاظه ... عهودا زكت بالحمى واللوى )
فكأنه الروض المطرد الأنهار والدوح المدبج الأزهار
( رأينا به روضا تدبج وشيه ... إذا جاد من تلك الأيادي غمائم )
( به ألفات كالغصون وقد علا ... عليها من الهمز المطل حمائم )
وقد سيقت بأنهار البراعة السلسالة حدائق حلت بها غانية تلك الرسالة لتشفي صبها بالزيارة وتشرف بدنوها دياره
( زارت الصب في ليال من البعد ... فلما دنت رأى الصبح يلمح )
( قلدت بالعقيان جيد بيان ... ليس فيه للفتح من بعد مطمح )
فشفت النفس من آلامها وأحيت ميت الهوى مذ حيت بعذب كلامها
( كلام كالجواهر حين يبدو ... وكالند المعنبر إذ يفوح )
( له في ظاهر الألفاظ جسم ... ولكن المعاني فيه روح حذف

فلا بد أن أرسل كتائبه أفواجا وأفيض من بحره أمواجا وأصف ما شاهدته من اقتداره وعاينته من حسن إيراده وإصداره بمقال أفصح من شكوى المحزون وأملح من رياض الحزون وقد كنت أيدكم الله تعالى كلفا بالدول وبهائها لهجا بالبلوغ إلى انتهائها لأجد دولة أرتضيها وحظوة علياء أقتضيها فكل ملك فاوضته سرا وجهرا وكل ملك قلبته بطنا وظهرا والنفس تصد عنه صدود الجبان عن الحرب والملائكة الكرام عن الشرب إلى أن حصلت لديه ووصلت بين يديه فقلت الآن أمكن من راح البغية الانتشاء وتمثلت الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء [ فاطر الآية 34 الزمر 74 ] وما زلت أسايره حيث سار وآخذ اليمين تارة وتارة اليسار وكل ناحية تسفر لي عن خد روض أزهر وعذار نبت أخضر وتبسم عن ثغر حباب في نهر كالحباب وترفل من الربيع في ملابس سندسيات وتهدي إلينا نوافح مسكيات وتزهى بهجتها بأحسن منظر وتتيه بجلباب أينع من برد الشباب الأنضر فجلنا فيها يمينا وشمالا واستخبرنا عن أسرارها صبا وشمالا ثم مال بنا أيده الله تعالى عن هذه المسارح السنية والمنازل البهية إلى إحدى ضياعه الحالية وبقاعه العالية فحللناها والأيم قد عري من جلبابه واليوم قد اكتهل بعد شبابه فنزلنا في قصور يقصر عنها جعفري

فصيرت لي ذلك الكتاب سميرا ووردت من السرور مشرعا نميرا وتمثلت بقول بعض من أخلص في الود ضميرا
( يا مفردا أهدى إلى كتابه ... جملا يحار الذهن في أثنائها )
( كالدر أشرق في سموط عقوده ... والزهر والأنوار غب سمائها )
( فأفادني جذلا وبالي كاسد ... وأجار نفسي من جوى برحائها )
( وحسبت أيام الشباب رجعن لي ... فليست حلي جمالها وبهائها )
( لا يعدم الإخوان منك محاسنا ... كل المفاخر قطرة من مائها )
فأكرم به من كتاب جاء من السري العلي والماجد الأخ الولي
( فضضت ختامه فتبينت لي ... معانيه عن الخبر الجلي )
( وكان ألذ في عيني وأندى ... على كبدي من الزهر الجني )
( وضمن صدره ما لم تضمن ... صدور الغانيات من الحلي )
وأعرب عن اعتماد متماد ووداد مزداد وأطاب حين أطال وأدى دين الفصاحة دون مطال واشتمل من فصول العبارة على أحسن من الحدق المراض وأتى من أصول البراعة ببراهين ابن شاهين التي لا خلف فيها ولا افتراض وروينا من غيث أنامه الهتون وروينا عنه مسند أحمد حسن الأسانيد والمتون وحثنا على العود والرجوع وكان أجدى من الماء الزلال لذي ظمإ والمشتهى من الطعام لذي سغب وجوع حذف 1

بردا محبرا وتبدي من شذاها مسكا وعنبرا وقد لاحت من جوانبها نجوم أكواس لو رآها أبو نواس لجعلها شعاره ووقف على نعتها أشعاره ولم يتخذ سواها نجعة ولا نبه خماره بعد هجعة فتعاطيناها والسعد لنا خادم وما غير السرور

( واشهى في القلوب من الأماني ... وأحلى في العيون من الهجوع )
وجلا بنوره ظلام استيحاشي وحشر إلي أشتات المسرات دون أن يحاشي ووجدني في مكابدة شعوب وأشغال أشربت القلب الكسل واللغوب وحيرت الخواطر وصيرت سحب الأقلام غير مواطر فزحزح عني الغموم وسلاني وأولاني شكر الله صنيعه من المسرات ما أولاني
( حديثه أو حديث عنه يطربني ... هذا إذا غاب أو هذا إذا حضرا )
( كلاهما حسن عندي أسر به ... لكن أحلاهما ما وافق النظرا )
وقال آخر
( لست مستأنسا بشيء إذا غبت ... سوى ذكرك الذي لا يغيب )
( أنت دون الجلاس عندي وإن كنت ... بعيدا فالأنس منك قريب )
وضمنت فيه لما ورد مع جملة كتب من تلك الناحية وأنوار أهلها ذوي الفضائل الشهيرة أظهر من شمس الظهيرة في السماء الصاحية
( قلت لما أتت من الشام كتب ... من أجلاء نورهم يتألق )
( مرحبا مرحبا وأهلا وسهلا ... بعيون رأت محاسن جلق )
وقلت ايضا
( قلت لما وافت من الشام كتب ... والليالي تتيح قربا وبعدا

يخاطب ابن عمار وقد توجه إليها [ الطويل ] ألا حي أوطاني بشلب أبا بكر وسلهن هل عهد الوصال كما أدري وسلم على قصر الشراجيب من فتى له أبدا شوق إلى ذلك القصر وقصر الشراجيب هذا متناه في البهاء والإشراق مباه لزوراء العراق ركضت فيه جياد راحاته وأومضت بروق أمانيه في ساحاته وجرى الدهر مطيعا بين بكره وروحاته أيام لم تحل عنه تمائمه ولا خلت من أزاهير

مقتطفات من رسالة ابن شاهين
وكان من فصول الكتاب الوارد من المولى الشاهيني الذي اقتنص بفضله كل شارد ما نصه ومما استخلص قلبي من يدي ترحي وجدد سروري ونبه فرحي حديث الكتاب وما حديث الكتاب حديث نسخ بحلاوته مرارة العتاب وأنساني حرارة المصاب في الأنسال والأعقاب وقضى به من حق لسان الدين دينه الذي تبرع به غريم مليء من البلاغة وهو غير مدين حتى كأني يا سيدي بهذه البشرى أحرزت سواري كسرى وكان في مسمعي كل حرف إليها منسوب قميص يوسف في أجفان يعقوب وحتى كدت أهجر أهلي وبيتي وأسرج لاستقبال هذه البشرى أشهبي وكميتي وحتى إنني حاربت نومي وقومي وعزمت على أن أرحل ناقتي في وقتي ويومي وإن ذلك التغليس والتهجير في جنب ما بشرت به لحقير وإن موقعها لدى هذا العبد الحقير لخطير وقد كنت سألت شيخي حين ورد دمشق الشام واشتم منها العرار والبشام وشرفني فعرفني وشاهدني فعاهدني على أن يجري ما دار بيننا لدى المجاورة من المسامرة والمحاورة في ديباجة ذلك الكتاب الذي فتن العقول خبره وسحر الألباب وما قصدت إلا أن يجري اسمي على قلمه ويرقم رسمي في مطاوي تحريره ورقمه ويكون ذكرى مختلطا بذكره كما أن سري مرتبط في المحبة بسره فرايت شيخي لم يتصد في أثناء هذه البشرى لما يفهمني بالذكرى لأنتظر النجاح في الأخرى ولم يساعدني على ذلك المتلمس وحبس عنان القلم فاحتبس فانكسرت سورة سروري بفتوري وتبين لنفسي عن بلوغ ذلك الأمل تخلفي وقصوري انتهى
ثم قال

شفاء فؤاد معل ويورق للعز غصن ذوى ويطلع للسعد نجم أفل فقد وعدتني سحاب الرضا بوابلها حين جادت بطل أيا ملكا أمره نافذ فمن شا أعز ومن شا أذل دعوت فطار بقلبي السرور إليك وإن كان منك الوجل كما يستطيرك حب الوغى إليها وفيها الظبا والأسل فلا غرو إن كان منك اغتفار وإن كان منا جميعا زلل

وحسبت أن سيدي وحاشاه نسي من ليس ينساه وظننت به الظنون لأمور تكون أولا تكون وهل يكره شيخي أن يهدى الدنيا في طبق ثم الأخرى على ذلك النسق ولا شك أن خطه هو الروضة الغنا لا بل جنة المأوى فطوبى لنفسي إن جنيت ثمرته طوبى ولعمر شخي إني بذلك لجدير وإني كنت أملك به الخورنق والسدير انتهى ما يتعلق بالمطلوب من ذلك الرقيم الذي شكل منطفه غير عقيم سلك الله تعالى بي وبمن وجهه الصراط المستقيم
وأتى في المكتوب بأنواع من البلاعة مما تركت ذكره هنا لعدم تعلقه بهذا الأمر الخاص الذي ييسر لكارع الأدب مساغه وختمه بقصيده نفيسة من نظمه يستنجز فيها ذلك الوعد وأشهد أنه قد حاز فيها قصب السبق والمجد وما قلت إلا بالذي علمت سعد وهذه صورتها
( يا سيدا أفديه بالأكثر ... من أصغر العالم والأكبر )
( ويا وحيدا قل قولي له ... عطارد أنت مع المشتري )
( ويا مجيدا ليس عندي له ... إلا مقال المادح المكثر )
( أقسمت بالبيت العتيق الذي ... حجت إليه الناس والمشعر )
( ما للعلا والعلم إلا ابو العباس ... شيخي أحمد المقري )
( ذاك الذي آثرني منه بالعلم ... الذي للغير لم يؤثر )
( وخصني منه بأشياء لم ... يفز بها غيري ولم يعثر )
( فرحت عبدا اذا وفاء له ... معترفا بالرق لا أمتري ) حذف

حضور نديك فيمن حضر ولا مطلعي وسط تلك السما ء بين النجوم وبين القمر

( فيا أبا العباس يا من غدا ... أعظم في نفسي من معشري )
( ومن إذا ما غاب عن ناظري ... كان سمير القلب للمحضر )
( هات أفدني سيدي عن علا المولى ... لسان الدين ذاك السري )
( ذاك الوحيد الفذ في عصره ... بل أوحد الأدهر والأعصر )
( ذاك الذي أخبرني سيدي ... عنه مزايا بعد لم تحصر )
( ذاك الذي العيوق لا يعتلي ... إلى معاليه ولا يجتري )
( ما قد وعدت العبد في جمعه ... من خبر عن فضله مسفر )
( بخطك الوضاح وهو الذي ... مخبره يربي على المنظر )
( والشيء لا يرجى إذا ما غدا ... منظره يربي على المخبر )
( نقش على طرس بياض كما ... لاحت عيون الرشإ الأحور )
( وأسطر قد سلسلت مثلما ... لاح عذار الشادن المقمر )
( ونزهة الأنفس معنى غدا ... ما بينها ينساب كالكوثر )
( عذب رقيق مثل ظبي إذا ... يلوح طاوي الكشح أو جؤذر )
( آثار أقلامك وهي التي ... أغنت عن الأبيض والأسمر )
( يراعك الجامع راو غدا ... يروي اللغي عن لفظك الجوهري )
( ينثر مسكا تارة ناظما ... وينظم الجوهر بالعنبر )
( هذا ابن شاهين الفتى أحمد ... عن ذكرك المأنوس لم يفتر )
( فاجعل له ذكرا كريما به ... يزدان مغبوطا إلى المحشر )
( واذكر بويتاتي وكل الذي ... كتبته نحوك ف يدفتري )
( أنت جدير بمديحي فكن ... ذاكر عبد بالوفا أجدر )
( وهاكها سيارة أعنقت ... على جواد كان للبحتري ) حذف

فلقي ابن خيرون منتظرا له وقد أعد لحلوله منزله فسار إلى مجلس قد ابتسمت ثغور نواره وخجلت خدود ورده من زواره وأبدت صدور أباريقه أسرارها وضمت عليه المحاسن أزرارها ولما حضر له وقت الأنس وحينه وأرجت له رياحينه وجه من يرقب المتوكل حتى يقوم جليسه ويزول موحشه لا أنيسه فأقام رسوله وهو بمكانه لا يريمه قد لازمه كأنه غريمه فما انفصل حتى ظن أن عارض الليل قد نصل فلما علم أبو محمد بانفصاله بعث إلى المتوكل قطيع راح وطبق ورد وكتب معهما [ الرجز ] إليكها فاجتلها منيرة وقد خبا حتى الشهاب الثاقب واقفة بالباب لم يؤذن لها إلا وقد كاد ينام الحاجب فبعضها من المخاف جامد وبعضها من الحياء ذائب فقبلها منه رحمه الله تعالى وعفا عنه وكتب إليه [ الرجز ] قد وصلت تلك التي زففتها بكرا وقد شابت لها ذوائب فهب حتى نسترد ذاهبا من أنسنا إن استرد ذاهب فركب إليه ونقل معه ما كان بالمجلس بين يديه وباتا ليلتهما لا يريمان السهر ولا يشيمان برقا إلا الكاس والزهر ثم قال بعد كلام وأخبرني الوزير الفقيه أبو أيوب بن أبي أمية أنه مر

( طرف كريم سابق صافن ... مطهم ذي أدب وأوفر )
( ورثته منه ولكنما ... من شاعر وافى إلى أشعر )
( ما للفتى الطائي شوط امرىء ... يصطاد نسر الجو بالمنسر )
( واسلم لعبد لا يرى سيدا ... سوى الذي في ثوبك الأطهر )
( في كرم العنصر فردا غدا ... طبعك فاشكر كرم العنصر )
( ما حن مشتاق أخو صبوة ... إلى خليل في الهوى مفكر )
تهمم المؤلف لاستئناف التصنيف )
فلما وصلني هذا الخطاب الذي ملأ من الفصاحة الوطاب وحلا في عيني وقلبي وطاب تحركت دواعي الوجد لذلك المجد الذي ولعت به ولوع ابن الدمينة بصبا نجد وأثار من الهيام والأوار ما يزيد على ما حصل للفرزدق لما فارق النوار وتضاعف الشوق إلى تلك الأنجاد والأغوار منشدا قول الأول لعل أبي المغوار وتذكرت والذكرى شجون وأطوار تلك الأضواء والأنوار المشرقة بقطر أزهر بالمحاسن وجرى نهره غير آسن فلم يذم فيه الجوار
( وإن اصطباري عن معاهد جلق ... غريب فما اجفى الفراق وأجفاني )
( سقى الله أرضا لو ظفرت بتربها ... كحلت بها من شدة الشوق أجفاني )
وحصل التصميم على التكميل

والتنعم ببنفسجه وبهاره فلما حصل من أنسه في وسط المدى عمد إلى ورقة كرنب قد بللها الندى وكتب فيها بطرف غصن ناعم يستدعي الوزير أبا طالب بن غانم أحد ندمائه ونجوم سمائه [ البسيط ] أقبل أبا طالب إلينا وقع وقوع الندى علينا فنحن عقد بغير وسطى ما لم تكن حاضرا لدينا وصف المتنزهات من ترجمة ابن رزين 161 وصف المتنزهات من ترجمة ابن رزين وقال في ترجمة ابن رزين ما ملخصه أخبرني الوزير أبو عامر بن سنون أنه اصطبح يوما والجو سماكي العوارف لازوردي المطارف والروض أنيقة لباته رقيقة هباته والنور مبتل والنسيم معتل ومعه قومه وقد راقهم يومه وصلاته تصافح معتفيهم ومبراته تشافه موافيهم والراح تشعشع وماء الأماني ينشع فكتب إلى ابن عمار وهو ضيفه [ الطويل ] ضمان على الأيام أن أبلغ المنى إذا كنت في ودي مسرا ومعلنا فلو تسأل الأيام من هو مفرد بود ابن عمار لقلت لها أنا فإن حالت الأيام بيني وبينه فكيف يطيب العيش أو يحصل المنى فلما وصلت الرقعة إليه تأخر عن الوصول واعتذر بعذر مختل المعاني

أفاض الله تعالى عليه غيث البر العميم وأبقى ظل عزه ممدودا وخلى سؤدده مودودا وأناله من الخيرات ما ليس محصورا ولا معدودا وجمعني وإياه وأطلع لي بشر محياه وأنشقني عرف اجتماعه ورياه وكيف لا أستديم أمد بقياه واعتقد البشائر في لقياه واسقي غروس الود بسقياه وهو الصدر الذي أصفى لي الوداد والركن الذي لي بثبوته اعتداد
( فعليه من مصفي هواه تحية ... كالمسك لما فض عنه ختام )
( تترى بساحته السنية ما دعت ... فوق الغصون هديلهن حمام )
ودامت فضائله ظاهرة كالشمس محروسة بالسبع المثاني معوذة بالخمس
( ولا انفك ما يرجوه أقرب من غد ... ولا زال ما يخشاه أبعد من أمس )
وبقي من العناية في حرم أمين آمين
ولما حصل لي كمال الاغتباط بما دل على صحة حال الارتباط نشرت بساط الانبساط وحدثت لي قوة النشاط وانقشعت عني سحائب الكسل وانجابت وناديت فكرتي فلبت مع ضعفها وأجابت فاقتدحت من القريحة زيدا كان شحاحا وجمعت من مقيداتي حسانا وصحاحا وكنت كتبت شطره وملأت بما تيسر هامشه وسطره ورقمت من أنباء لسان الدين ابن الخطيب حللا لا تخلق جدتها الأعصر وسلكت من التعريف به رحمه الله مهامه تكل فيها واسعات الخطا وتقصر فحدث لي بعد ذلك عزم على زيادة ذكر الأندلس جملة ومن كان يعضد بها الإسلام وينصر وبعض مفاخرها الباسقة ومآثر أهلها المتناسقة لأن كل ذلك لا يستوفيه

فرأى أن الوصول بلا جواب إخجال لأدبه وإخلال لمنازله في الشعر ورتبه فلما كان من الغد ورد ابن عمار ومعه الجواب وهو [ الطويل ] هصرت لي الآمال طيبة الجنى وسوغتني الأحوال مقبلة الدنى وألبستني النعمى أغض من الندى وأجمل من وشي الربيع وأحسنا وكم ليلة أحظيتني بحضورها فبت سميرا للسناء وللسنا أعلل نفسي بالمكارم والعلا وأذني وكفي بالغناء وبالغنى سأقرن بالتمويل ذكرك كلما تعاورت الأسماء غيرك والكنى لأوسعتني قولا وطولا كلاهما يطوق أعناقا ويخرس ألسنا وشرفتني من قطعة الروض بالتي تناثر فيها الطبع وردا وسوسنا تروق بجيد الملك عقدا مرصعا وتزهو على عطفيه بردا مزينا فدم هكذا يا فارس الدست والوغى لتطعن طورا بالكلام وبالقنا وأخبرني الوزير أبو جعفر بن سعدون أنه اصطبح يوما بحضرته وللرذاذ رش وللربيع على وجه الأرض فرش وقد صقل الغمام الأزهار حتى أذهب نمشها وسقاها فأروى عطشها فكتب إليه [ الطويل ] فديناك لا يسطيعك النظم والنثر فأنت مليك الأرض وانفصل الأمر

من النظم والنثر بنبذة توضح للطالب سبله وتظهر علمه ونبله وتترع محاسنه من راح المذاكرة وإناءه حتى يرى إيثار هذا المصنف وإدناءه وكنت في المغرب وظلال الشباب ضافية وسماء الأفكار من قزع الأكدار صافية معتنيا بالفحص عن أنباء الأندلس وأخبار أهلها التي تنشرح لها الصدور والأنفس وما لهم من السبق في ميدان العلوم والتقدم في جهاد العدو الظلوم ومحاسن بلادهم ومواطن جدالهم وجلادهم حتى اقتنيت منها ذخائر يرغب فيها الأفاضل الأخاير وانتقيت جواهر فرائدها للعقول بواهر واقتطفت أزاهر أنجمها في افق المحاضرة زواهر وحصلت فوائد بواطن وظواهر طالما كانت أعين الألباء لنيلها سواهر وجمعت من ذلك كلما عالية لو خاطب بها الداعي صم الجلامد لا نبجس حجرها وحكما غالية لو عامل بها الأيام ربح متجرها وأسجاعا تهتز لها الأعطاف ومواعظ يعمل بمقتضاها من حفت به الألطاف وقوافي موفورة القوادم والخوافي يثني عليها من سلم من الغباوة والصمم ويعترف ببراعتها من لا يعتريه اللمم وطالما أعرض الجاهل الغمر بوجهه عن مثلها وأشاح وأنصت لها الحبر إنصات السوار لجرس الحلي ونغم الوشاح وفرح إن ظفر بشيء منها فرح الصائد بالقنيص والساري العاري ذي البطن الخميص بالزاد والقميص وتركت الجميع بالمغرب ولم أستصحب معي منه ما يبين عن المقصود ويعرب إلا نزرا يسيرا علق بحفظي وحليت بجواهره جيد لفظي وبعض أوراق سعد في جواب السؤال بها حظي ولو حضرني الآن ما خلفته مما جمعت في ذلك الغرض وألفته لقرت به عيون وسرت ألباب إذ هو والله الغاية في

إيناسهم فقال ذو الرياستين [ الطويل ] وروض كساه الطل وشيا مجددا فأضحى مقيما للنفوس ومقعدا إذا صافحته الريح خلت غصونه رواقص في خضر من القضب ميدا إذا ما انسكاب الماء عاينت خلته وقد كسرته راحة الريح مبردا وإن سكنت عنه حسبت صفاءه حساما صقيلا صافي المتن جردا وغنت به ورق الحمائم بيننا غناء ينسيك الغريض ومعبدا فلا تجفون الدهر ما دام مسعدا ومد إلى ما قد حباك به يدا وخذها مداما من غزال كأنه إذا ما سقى بدر تحمل فرقدا إلى أن قال وأخبرني الوزير أبو عامر بن سنون أنه كان معه في منية العيون في يوم مطرز الأديم ومجلس معزز النديم والأنس يغازلهم

واستطاعته وعذر مثلي باد للمنصفين من العباد إن قصرت فيما تبصرت أو تخلفت في الذي تكلفت أو أضعت تحرير ما وضعت والتقمت ثدي التقصير ورضعت أو أطعت داعي التواني فتأخرت عمن سبق وانقطعت ( إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت ) ومن كانت بضاعته مزجاة فهو عن الإنصاف بمنجاة إذ أتى بالمقدور وتبرأ من الدعوى في الورود والصدور وعين الرضا عن كل عيب كليلة والسلامة من الملامة متعذرة أو قليلة وقد قال إمامنا مالك صاحب المناقب الجليلة كل كلام يؤخذ منه ويرد إلا كلام صاحب هذا القبر أزكى صلاة وأتم سلام وشفى بجاهه من اللآلام قلوبنا العليلة وجعلنا ممن كان اتباع سنته رائدة ودليله آمين
والحمد لله الذي يسر لي هذا القدر مع ضيق الصدر وقلة بضاعتي وكثرة إضاعتي فإن حمده جل جلاله تتضوع به المطالب طيبا وتقضي ببركته المآرب فيرقى صاحبها على منبر القبول خطيبا وتعذب به المشارب فتنبت في أرض القرطاس من زاكي الغراس ما يروق منظرا نضيرا ويورق غصنا رطيبا وقد أتيت من المقال بما يقر إن شاء الله تعالى عين وامق وبرغم أنف قال وإن كنت ممن هو في ثوب العي رافل وعن نسبته للقصور غير غافل وممن جعل النفس هدفا وصير مكان الدر صدفا إذ لسان الدين بن الخطيب إمام هذه الفنون المحقق لذوي الآمال الظنون المستخرج من بحار البلاغة درها المكنون وله اليد الطولى في العلوم على اختلاف

بكر - يعني ابن عبد العزيز - إلى روضته التي ودت الشمس أن يكون منها طلوعها وتمنى المسك أن تنضم عليه ضلوعها والزمان غلام والعيش أحلام والدنيا تحية وسلام والناس قد انتشروا في جوانبه وقعدوا على مذانبه وفي ساقيته الكبرى دولاب يئن كناقة إثر حوار أو كثكلى من حر الأوار وكل مغرم يجعل فيه ارتياحه بكرته ورواحه ويغازل عليه حبيبه ويصرف إليه تشبيبه فخرجت عليه ليلة والمتنبي الجزيري واقف وأمامه ظبي آنس تهيم

( ناهيك من فرد أغر ممدح ... رحب الذرا حر الكلام محسد )
( بهر الأنام رياسة وسياسة ... وجلالة في المنتمى والقعدد )
( وأتى بكل بديعة في نوعها ... لم تخترع وغريبة لم تعهد )
( ما شئت من شعر أرق من الصبا ... وكتابة أزهى من الزهر الندي )
( وبديع قرطاس توشح متنه ... بمنمنم من رقمه ومنجد )
( بهج كأن الحسن حل أديمه ... فكساه ريعان الشباب الأغيد )
( وكأنما سار العذار عليه أو ... خطته أيدي الغانيات بإثمد )
( يختال بين موصل ومفصل ... ومطرز ومنظم ومنضد )
( كالبدر في توشيعه والسلك في ... ترصيعه والوشى نمق باليد )
( قد قيد الأبصار والأفكار ... من ألفاظه بمثقف ومقيد )
( ما فيه مغرز إصبع إلا وفيه ... نتيجة لمفرع ومولد )
( ولكل جزء حكمة أو ملحة ... أو بدعة لمرسل ومقصد )
( أوليس مثلي قاصرا عن وصفه ... والحق نور واضح للمهتدي )
وكما قلت وقد عجزت عن أداء الواجب وحاولت المسنون وفضل الله سبحانه على من يشاء من عباده لي بممنوع ولا ممنون
( ليت شعري أي العبارات توفي ... واجب اب الخطيب مما أروم )
( وأنا عاجز عن البعض منها ... لقصوري وما العيي ملوم )
( وهو يدعي لسان دين وناهيك ... افتخارا به تتم الرسوم )
( فبأي الحلى أحلى علا من ... نال فضلا روته عرب وروم
( وعلى الفرض ما الذي انتحى منه ... لدى الوصف أن يخص العموم )
( الحفظ

له ليلته في مشيده وأطربه الأنس ببسطيه ونشيده فقال [ الخفيف ] كل قصر بعد الدمشق يذم فيه طاب الجنى وفاح المشم منظر رائق وماء نمير وثرى عاطر وقصر أشم بت فيه والليل والفجر عندي عنبر أشهب ومسك أحم وعبر صاحب البدائع عن هذه القصة بقوله تنزه ابن عمار بالدمشق بقرطبة وهو قصر شيده خلفاء بني أمية وزخرفوه ودفعوا صرف الدهر

( أم لفهم يستخرج الدر غوصا ... من بحار يخشى بها من يعوم )
( أم لفكر مؤلف في فنون ... عدة ما به تداوى الكلوم )
( أم لنظم كأنه جوهر السلك ... ) غلا قدره على من يسوم )
( تتباهى به الصدور حليا ... وتروق العيون منه نجوم )
( أم لنثر وافى بسحر بيان ... فهو كالروح والمعاني جسوم )
( وأظلته للبديع سماء ... تتلالا في جانبيها العلوم )
( فاستزادت منه النفوس رشادا ... واستزانت منه النهى والحلوم )
( أم لخط منمنم فاق حسنا ... مثل وشي تلوح منه الرقوم )
( أو كزهر في بهجة وراء ... ناضر والمداد غيث سجوم )
( تلك ست أعجزن وصفي فإني بسواها مما يجل أقوم )
ولم يكن جمعي علم الله هذا التأليف لرفد أستهديه أو عرض نائل أستجديه بل لحق ود أؤديه ودين وعد أقومه وأبديه ووقوف عند حد لا يجوز تعديه وتلبية داع أحييه وأفديه
( إن من يرجو نوالا وندى ... من بني الدنيا لذو حظ غبين )
( فلقد كان على غير الهدى ... من يسويهم برب العالمين )
( ويرجي منهم الرزق فهل ... خالق الكل فقير أو ضنين )
( أنخلي قصد رب مالك ... ونرى للخلق جهلا قاصدين )
( ما لنا من مخلص نأتي به ... غير جاه المصطفى الهادي الأمين )
( سيد الخلق العماد المترجى ... للملمات شفيع المذنبين )
( فعليه صلوات

أخيه وابن اليسع غائب عنها في عشية تجود بدمائها ويصوب عليها دمع سمائها والبطحاء قد خلع عليها سندسها ودرها نرجسها والشمس تنفض على الربا زعفرانها والأنوار تغمض أجفانها فكتب إلى ابن اليسع [ البسيط ]

( والرضى من بعد عن أربعة ... هم بحق أمراء المؤمنين )
( فيمينا إن من يهواهم ... ليكونن من آصحاب اليمين )
( وسط جنات تحييه بها ... آنسات قاصرات الطرف عين )
( بقوارير لجين شربة ... وأباريق وكأس من معين )
( والذي شرفهم يمنحنا ... حبهم والكون معهم أجمعين )
فدونك أيها الناظر في هذا الكتاب المتجافي عن مذهب النقد العتاب كلمات سوانح اختلست مع اشتعال الجوانح وتضاد الأمور الموانع والموانح وألفاظ بوارح اقتضت بين أشغال الجوارح وطرفا أسمت الطرف في مرعاها وكانت هملا غير سوارح وتحفا يحصل بها لناظره الإمتاع ولا يعدها من سقط المتاع المبتاع ويلهج بها المرتاح ويستأنس المستوحش المرتاع )
منهج الكتاب
وبعد أن خمنت تمام هذا التصنيف وأمعنت النظر فيما يحصل به التقريط لسماعه والتشنيف قسمته قسمين وكل منهما مستقل بالمطلوب فيصح أن يسميا باسمين
القسم الأول فيما يتعلق بالأندلس من الأخبار المترعة الأكواب والأنباء المنتحية صوب الصواب الرافلة من الإفادة في سوابغ الأثواب وفيه بحسب القصد والاقتصار وتحري التوسط في بعض

يروح لتعذيب النفوس ويغتدي ويطلع في أفق الجمال ويغرب ويحسد منه الغصن أي مهفهف يجيء على مثل الكثيب ويذهب وصف المتنزهات من ترجمة ابن السقاط 166 وصف المتنزهات من ترجمة ابن السقاط وقال في ترجمة الوزير أبي القاسم بن السقاط بعد كلام كثير ما صورته وحملنا الوزير القاضي أبو الحسن بن أضحى إلى إحدى ضياعه بخارج غرناطة

الباب الأول في وصف جزيرة الأندلس وحسن هوائها واعتدال مزاجها ووفور خيرها وكمالها واستوائها واشتمالها على كثير من المحاسن واحتوائها وكرم نباتها الذي سقته سماء البركات من جنباتها بنافع أنوائها وذكر بعض مآثرها المجلوة الصور وتعداد كثير مما لها من البلدان والكور المستمدة من أضوائها الباب الثاني : في إلقاء بلد الأندلس للمسلمين بالقياد وفتحها على يد موسى بن نصير ومولاه طارق بن زياد وصيرورتها ميدانا لسبق الجياد ومحط رحال الارتياء والارتياد وما يتبع ذلك من خبر حصل بازديانه ازدياد ونبأ وصل إليه اعتيام وتقرر بمثله اعتياد الباب الثالث : في سرد بعض ما كان للدين للدين بالأندلس من العز السامي العماد والقهر للعدو في الرواح والغدو والتحرك للهدو البالغ غاية الآماد وإعمال أهلها للجهاد بالجد والاجتهاد في الجبال والوهاد بالأسنة المشرعة والسيوف المستلة من الإغماد
الباب الرابع في ذكر قرطبة التي كانت الخلافة بمصرها للأعداء قاهرة وجامعها الاموي ذي البدائع الباهية الباهرة والإلماع بحضرتي الملك الزهراء الناصرية والعامرية الزاهرة ووصف جملة من متنزهات تلك الأقطار ومصانعها ذات المحاسن الباطنة والظاهرة وما يجر إليه شجون الحديث من أمور تقضي بحسن إيرادها القرائح الوقادة والأفكار الماهرة
الباب الخامس

الصفحة 167 ومن ترجمة ابن أضحى وقال في ترجمة الوزير القاضي أبي الحسن بن أضحى ما نصه وكان لصاحب البلد الذي كان يتولى القضاء به ابن من أحسن الناس صورة وكانت محاسن الأفعال والأقوال عليه مقصورة مع ما شئت من لسن وصوت حسن وعفاف واختلاط بالنبهاء والتفاف فحملنا إلى إحدى ضياعه بقرب من

الذاكية العرار والبشام ومدح جماعة من أولئك الأعلام ذوي الألباب الراجحة والأحلام لشامة وجنة الأرض دمشق الشام وما اقتضته المناسبة من كلام أعيانها وأرباب بيانها ذوي السؤدد والاحتشام ومخاطباتهم للمؤلف الفقير حين حلها عام سبعة وثلاثين وألف وشاهد برق فضلها المبين وشام
الباب السادس في ذكر بعض الوافدين على الأندلس من أهل المشرق المعتدين في قصدهم إليها بنور الهداية المضيء والمشرق والأكابر الذين حلوا منها بحلولهم فيها الجيد والمفرق وافتخروا برؤية قطرها المونق على المشئم والمعرق
الباب السابع في نبذة مما من الله تعالى به على أهل الأندلس من توقد الأذهان وبذلهم في اكتساب المعارف والمعالي ما عز أو هان وحوزهم في ميدان البراعة من قصب السبق خصل الرهان وجملة من أجوبتهم الدالة على لوذعيتهم وأوصافهم المؤذنة بألمعيتهم وغير ذلك من أحوالهم التي لها على فضلهم أوضح برهان
الباب الثامن في ذكر تغلب العدو الكافر على الجزيرة بعد صرفه وجوه الكيد إليها وتضريبه بين ملوكها ورؤسائها بمكره واستعماله في أمرها حيل فكره حتى استولى دمره الله عليها ومحا منها التوحيد واسمه وكتب على مشاهدها ومعاهدها وسمه وقرر مذهب التثليث والرأي الخبيث لديها واستغاثه من بها بالنظم والنثر أهل ذلك العصر من سائر الأقطار حين تعذرت بحصارها مع قلة حماتها وأنصارها المآرب

بالأموال والبشرات وصف المتنزهات من ترجمة ابن خفاجة 168 وصف المتنزهات من ترجمة ابن خفاجة وقال في ترجمة أديب الأندلس وشاعرها أبي إسحاق بن خفاجة بعد كلام ما صورته وقال يندب معاهد الشباب ويتفجع لوفاة الإخوان والأحباب

الله تعالى إليها كلمة الإسلام وأقام فيها شريعة سيد الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام ورفع يد الكفر عنها وعما حواليها آمين
ولم أخل بابا في هذا القسم من كلام لسان الدين بن الخطيب وإن قل مع أن القسم الثاني بذلك كما ستقف عليه قد استقل وهذا آخر ما تعلق بالقسم الأول وعلى الله سبحانه المتكل والمعول
القسم الثاني في التعريف بلسان الدين بن الخطيب وذكر أنبائه التي يروق سماعها ويتأرجح نفحها ويطيب وما يناسبها من أحوال العلماء الأفراد والأعلام الذين اقتضى ذكرهم شجون الكلام والاستطراد وفيه أيضا من الأبواب ثمانية موصلة إلى جنات أدب قطوفها دانية وكل غصن منها رطيب
الباب الأول في أولية لسان الدين وذكر أسلافه الذين ورث عنهم المجد وارتضع در أخلافه وما يناسب ذلك مما لا يذهب المنصف إلى خلافه
الباب الثاني في نشأته وترقيه ووزارته وسعادته ومساعدة الدهر له ثم قلبه له ظهر المجن على عادته في مصافاته ومنافاته وارتباكه في شباكهوما لقي من إحن الحاسد ذي المذهب الفاسد ومحن الكايد المستأسد وآفاته وذكر قصوره وأمواله وغير ذلك من أحواله في تقلباته عندما قابله الزمان بأهواله في بدئه وإعادته إلى وفاته
الباب الثالث في ذكر مشايخه الجلة هداة الناس ونجوم الملة وما

بذلك من الأخبار الشافية للعله والمواعظ المنحية من الأهواء المضلة والمناسبات الواضحة البراهين والأدلة
الباب الرابع في مخاطبات الملوك والأكابر الموجهة إلى حضرته العلية وثناء غير واحد من أهل عصره عليه وصرف القاصدين وجوه التأميل إليه واجتلائهم أنوار رياسته الجلية
الباب الخامس في إيراد جملة من نثره الذي عبق أريج البلاغة من نفحاته ونظمه الذي تألق نور البراعة من لمحاته وصفحاته وما يتصل به من بعض أزجاله وموشحاته ومناسبات رائقة من فنون الأدب ومصطلحاته
الباب السادس في مصنفاته في الفنون ومؤلفاته المحققة للواقف عليها الآمال والظنون وما كمل منها أو اخترمته دون اتمامه المنون
الباب السابع في ذكر بعض تلامذته الآخذين عنه المستدلين به على المنهاج المتلقين أنواع العلوم منه والمقتبسين أنوار الفهوم من سراجه الوهاج
الباب الثامن في ذكر أولاده الرافلين في حلل الجلالة المقتفين أوصافه الحميدة وخلاله الوارثين العلم والحلم والرياسة والمجد عن غير كلالة ووصيته لهم الجامعة لآداب الدين والدنيا المشتملة على النصائح الكافية والحكم الشافية من كل مرض بلا ثنيا المنقذة من أنواع الضلالة وما يتبع ذلك من المناسبات القوية والأمداح النبوية التي لها على حسن الختام أظهر

نذكر من محاسن قرطبة الزهراء والزهرا أو نصف من محاسن الأندلس التي تبصر بكل موضع منها ظلا ضافيا ونهرا صافيا وزهرا ويرحم الله تعالى أديبها المشهور الذي اعترف له بالسبق الخاصة والجمهور أبا إسحاق بن خفاجة إذ قال [ البسيط ] يا أهل أندلس لله دركم ماء وظل وأنهار وأشجار ما جنة الخلد إلا في دياركم ولو تخيرت هذا كنت أختار لا تحسبوا في غد أن تدخلوا سقرا فليس تدخل بعد الجنة النار ويروى مكان قوله ولو تخيرت هذا كنت أختار

وقد كنت أولا سميته ب ( عرف الطيب ) في التعريف بالوزير ابن الخطيب ثم وسمته حين ألحقت أخبار الأندلس به ب ( نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب )
وله بالشام تعلق من وجوه عديدة هادية متأملها إلى الطرق السديدة
أولها أن الداعي لتأليفه أهل الشام أبقى الله مآثرهم وجعلها على مر الزمان مديدة
ثانيها أن الفاتحين للأندلس هم أهل الشام ذوو الشوكة الحديدة
ثالثها أن غالب أهل الأندلس من عرب الشام الذين اتخذوا بالأندلس وطنا مستأنفا وحضرة جديدة
ورابعها أن غرناطة نزل بها أهل دمشق وسموها باسمها لشبهها بها في القصر والنهر والدوح والزهر والغوطة الفيحاء وهذه مناسبة قوية العرى شديدة
خاتمة المقدمة
هذا وإني أسأل ممن وقف عليه أن ينظر بعين الإغضاء إليه كما أطلب ممن كان السبب في تصنيفه والداعي إلى تأليفه وترصيفه استنادا لركن الثقة واعتمادا على الود والمقة أن يصفح عما فيه من قصور ويسمح ويلاحظه بعين الرضى الكليلة ويلمح إذا ركبت شكل منطقه والأشجان غالبة وقضية الغربة موجبة

منزلته ولعمري إن هذا الجواب لجدير بالصواب وهكذا ينبغي أن تكون رسل الملوك في الافتنان روح الله تعالى أرواح الجميع في الجنان ! وأبو إسحاق بن خفاجة كان أوحد الناس في وصف الأنهار والأزهار والرياض والحياض والرياحين والبساتين وقد سبق بعض كلامه ويأتي أيضا منه بعض في أثناء الكتاب ومن ذلك قوله [ الكامل ]

بكل الغرض فلا يخلو من فائدة وقد يستدل على الجوهر بالعرض فإن أديت المقترض وذاك المرام الذي أرتضيه ويوجب الود ويقتضيه
( وإلا فحسبي أن بذلت به جهدي ... وأنفقت من وجدي على قدر ما عندي )
وقد توهمت أني لم أسبق إلى مثله في بابه إذ لم أقف له على نظير أتعلق بأسبابه ورجوت أن يكون هدية مستملحة مستعذبة وطرفة مقبولة مستغربة
( هديتي تقصر عن همتي ... وهمتي أكثر من مالي )
( وخالص الود ومحض الإخا ... أكثر ما يهديه أمثالي )
وأوردت فيه من نظم وإنشاء ما يكفي المقتصر عليه إن شاء ومن أخبار ملوك ورؤساء وطبقات من أحسن أو أساء ما فيه اعتبار للمتأمل وادكار للراحل المتحمل وزينة للذاكر المتجمل وتنكيت على أهل البطر وتبكيت لمن خرج من ديناه ولم يقض من الطاعة الوطر
( أرى أولاد آدم أبطرتهم ... حظوظهم من الدنيا الدنية )
( فلم بطروا وأولهم مني ... إذا نسبوا وآخرهم منية )
وفيه إيقاظ لمثلي من سنة الغفلة وحث على عدم الاغترار بالمهلة وتنبيه للابس برد الشباب القشيب أنه لا بد من حادث الموت قبل أو بعد المشيب
( لله در الشيب من واعظ ... وناصح منهاجه واضح )
( كل امرىء يعجبه شأنه ... وحادث الدهر له

عنها وتنزل بالجديب فيخصب كرموا فلا غيث السماحة مخلف يوما ولا برق اللطافة خلب من كل أزهر للنعيم بوجهه ماء يرقرقه الشباب فيسكب وقال يمدح الأمير أبا يحيى بن إبراهيم [ الكامل ]

فكم باك على عصر الشباب وشاك لفراق عهد الصبا والأحباب أنساه طارق الزمان سليمى والرباب
( مضى عصر الشباب كلمح برق ... وعصر الشيب بالأكدار شيبا )
( وما أعددت قبل الموت زادا ... ليوم يجعل الولدان شيبا )
وما أحسن قول بعض الأعلام
( مضى ما مضى من حلو عيش ومره ... كأن لم يكن إلا كأضغاث أحلام )
وقول من أرشد سفيها
( إنما هذه الحياة متاع ... فالجهول الجهول من يصطفيها )
ما مضى فات والمؤمل غيث ... ولك الساعة التي أنت فيها ) وفي معناه لغيره
( دنياك شيئان فانظر ... ما ذانك الشيئان )
( ما فات منها فحلم ... وما بقي فأماني )
وما أحكم قول ابن حطان مع وقوعه من البدعة في أشطان
( يأسف المرء على ما فاته ... من لبانات إذا لم يقضها )
( وتراه ضاحكا مستبشرا ... بالتي أمضى كأن لم يمضها )
( إنها عندي كأحلام الكرى ... لقريب بعضها من بعضها )
ولغيره
( والله لو كانت الدنيا بأجمعها ... تبقى علينا ويأتي رزقها رغدا )
( ما

عباب الجود رحب الدار

ولآخر
( لا حظ في الدنيا لمستبصر ... يلمحها بالفكرة الباصرة )
( إن كدرت مشربه ملها ... وإن صفت كدرت الآخرة )
ويعجبني قول الوزير ابن المغربي
( إني أبثك من حديثي ... والحديث له شجون )
( فارقت موضع مرقدي ... ليلا ففارقني السكون )
( قل لي فأول ليلة ... للقبر كيف ترى أكون )
وقول مامية
( تأمل في الوجود بعين فكر ... تر الدنيا الدنية كالخيال )
( ومن فيها جميعا سوق يفنى ... ويبقى وجه ربك ذو الجلال )
وقول بعض العارفين
( استعدي يا نفس للموت واسعي ... لنجاة فالحازم المستعد )
( قد تبينت أنه ليس للحي ... خلود وما من الموت بد )
( إنما أنت مستعيرة ما سوف ... تردين والعواري ترد )
( أنت تسهين والحوادث لا

منحة وبشاشة أيدي العفاة وأعين الزوار أرج الندي بذكره فكأنه متنفس عن روضة معطار بطل جرى الفلك المحيط بسرجه واستل صارمه يد المقدار بيمينه يوم الوغى وشماله ما شاء من نار ومن إعصار والسمر حمر والجياد عوابس والجو كاس والسيوف عواري والخيل تعثر في شبا شوك القنا قصدا وتسبح في الدم الموار والبيض تحنى في الطلى فكأنما تلوى عرا منها على أزرار والنقع يكسر من سنى شمس الضحى فكأنه صدأ على دينار صحب الحسام النصر صحبة غبطة في كف صوال به سوار لو أنه أومى إليه بنظرة يوما لثار ولم ينم عن ثار ومضى وقد ملكته هرة عزة تحت العجاج وضحكة استبشار وقال رحمه الله تعالى [ الكامل ] وأراكة ضربت سماء فوقنا تندى وأفلاك الكؤوس تدار حفت بدوحتها مجرة جدول نثرت عليه نجومها الأزهار وكأنها وكأن جدول مائها حسناء شد بخصرها زنار زف الزجاج بها عروس مدامة تجلى ونوار الغصون نثار في روضة جنح الدجى ظل بها وتجسمت نورا بها الأنوار غناء ينشر وشيه البزاز لي فيها ويفتق مسكه العطار قام الغناء بها وقد نضح الندى وجه الثرى واستيقظ النوار

( أي ملك في الأرض أو أي حظ ... لامريء حظه من الأرض لحد )
( لا ترجي البقاء في معدن الموت ... ودار حتوفها لك ورد )
( كيف يرجو امرؤ لذاذة أيام ... عليه الأنفاس فيها تعد )
واسأل من مبلغ السائلين ما يرجون أن يصفح عن زلاتي ويسامحني فيما أوردت في هذا الكتاب من الهزل والمجون الذي جرت المناسبة إليه والحديث شجون وما القصد منه إلا ترويح قلوب الذين يسوقون عيس الأسمار ويزجون وفيما أوردت من المواعظ والنصائح وحكايات الأولياء الذين طيب زهر مناقبهم فائح والتوسل بمحاسن الأمداح النبوية أن يستر بفضله سبحانه القبائح ويرينا وجه القبول بلا اكتتام ويمنحنا الزلفى وحسن الختام
( ومن يتوسل بالنبي محمد ... شفيع البرايا السيد السند الأسنى )
( فذاك جدير أن يكفر ذنبه ... ويمنح نيل القصد والختم بالحسنى )
وهذا أوان الشروع في الأصول من هذا الكتاب والفروع وعلى الله سبحانه أعتمد

حسبها بالأيكة الخضراء من خضراء وأتتك تسفر عن وجوه طلقة وتنوب من لطف عن الشفراء يندى بها وجه الندى ولربما بسطت هنالك أوجه السراء فاستضحكت وجه الدجى مقطوعة حملت جمال الغرة الغراء وقال أيضا [ المجتث ] وصدر ناد نظمنا له القوافي عقدا في منزل قد سحبنا بظله العز بردا تذكو به الشهب جمرا ويعبق الليل ندا وقد تأرج نور غض يخالط وردا كما تنفس ثغر عذب يقبل خدا وقال من قصيدة يصف منتزها [ الكامل ]

وجهه ومنطقه مسلى قلوب وآذان أغار لخديه على الورد كلما بدا ولعطفيه على أغصن البان وهبني أجني ورد خد بناظري فمن أين لي منه بتفاح لبنان يعللني منه بموعد رشفة خيال له يغري بمطل وليان حبيب عليه لجة من صوارم علاها حباب من أسنة مران تراءى لنا في مثل صورة يوسف تراءى لنا في مثل ملك سليمان طوى برده منها صحيفة فتنة قرأنا له من وجهه سطر عنوان محبته ديني ومثواه كعبتي ورؤيته حجي وذكراه قرآني وقال [ الطويل ] وليل تعاطينا المدام وبيننا حديث كما هب النسيم على الورد نعاوده والكاس يعبق نفحه وأطيب منها ما نعيد وما نبدي

الباب الأول في وصف جزيرة الأندلس وحسن هوائها واعتدال مزاجها ووفرو خيراتها واستوائها واشتمالها على كثير من المحاسن واحتوائها وكرم بقعتها التي سقتها سماء البركات بنافع أنوائها وذكر بعض مآثرها المجلوة الصور وتعداد كثير مما لها من البلدان والكور المستمدة من أضوائها
فأقول محاسن الأندلس لا تستوفي بعبارة ومجاري فضلها لا يشق غباره وأني تجارى وهي الحائزة قصب السبق في أقطار الغرب والشرق
مقدمات عامة في مزايا الأندلس
قال ابن سعيد إنما سميت بأندلس بن طوبال بن يافث بن نوح لأنه نزلها كما أن أخاه سبت بن يافث نزل العدوة المقابلة لها وإليه تنسب سبتة قال وأهل الأندلس يحافظون على قوام اللسان العربي لأنهم إما عرب أو متعربون انتهى
وقال ابن غالب إنه أندلس بن يافث والله تعالى أعلم
وقال الوزير لسان الدين بن الخطيب رحمه الله تعالى في بعض كلام له حذف

بالمنى مرحبا أهلا وسهلا بالذي شئته يا بدر تم مهديا كوكبا لكنني آليت أسقى بها أو تودعنها ثغرك الأشنبا فمج لي في الكأس من ثغره ما حبب الشرب وما طيبا

أجرى فيه ذكر البلاد الأندليسة أعادها الله تعالى للإسلام ببركة المصطفى عليه من الله أفضل الصلاة وأزكى السلام ما نصه خص الله تعالى بلاد الأندلس من الربع وغدق السقيا ولذاذة الأقوات وفراهة الحيوان ودرور الفواكه وكثرة المياه وتبحر العمران وجودة اللباس وشرف الآنية وكثرة السلاح وصحة الهواء وابيضاض ألوان الإنسان ونبل الأذهان وقبول الصنائع وشهامة الطباع ونفوذ الإدراك وإحكام التمدن والاعتمار بما حرمه الكثير من الأقطار مما سواها انتهى
قال أبو عامر السالمي في كتابه المسمى ب درر القلائد وغرر الفوائد الأندلس من الإقليم الشامي وهو خير الأقاليم وأعدلها هواء وترابا وأعذبها ماء وأطيبها هواء وحيوانا ونباتا وهو أوسط الأقاليم وخير الأمور أوسطها انتهى
قال أبو عبيد البكري الأندلس شامية في طيبها وهوائها يمانية في اعتدالها واستوائها هندية في عطرها وذكائها أهوازية في عظم جبايتها صينية في جواهر معادنها عدنية في منافع سواحلها فيها آثار عظيمة لليونانيين أهل الحكمة وحاملي الفلسفة وكان من ملوكهم الذي أثروا الآثار بالأندلس هرقلس وله الأثر في الصنم بحزيرة قادس وصنم جليقية والأثر في مدينة طركونة لا نظير

وما نمت بي الصعداء أخشى الوشاة فما أفوه بلفظة والكتم عند العاشقين عناء لولا تشوق أرض حمص ما جرى دمعي ولا شمتت بي الأعداء لم أستطع كتما له فكأنني ما كان لي كتم ولا إخفاء والبدر مهما رام كتما من سرى فيه ينم على سراه ضياء بلد متى يخطر له ذكر هفا قلبي وخان تصبر وعزاء من بعده ما الصبح يشرق نوره عندي ولا يتبدل الظلماء كم لي به من ذي وفاء لم يخن عهدي وينمو بالوداد وفاء فتراه إذ ما مر ذكري سائلا عن حالتي إن قلت الأنباء يمسي ويصبح في تذكر مدة يرضى بها الإصباح والإمساء مع كل مبذول الوصال ممنع من غيرنا تسمو به الخيلاء كالظبي كالشمس المنيرة كالنقا كالغصن يثني معطفيه رخاء يسعى براح كالشهاب براحة كالبدر والوجه المنير ذكاء ما لان نحو الوصل حتى طال من الهجر واتصلت به البلواء خير المحبة ما تأتت عن قلى تدرى ببؤس الفاقة النعماء ما زلت أرقي بالقريض جنونه حتى استكان وكان منه إباء فظفرت منه بمدة لو أنها دامت لدامت لي بها السراء

مساحتها وأبعادها
قال المسعودي بلاد الأندلس تكون مسيرة عمائرها ومدنها نحو شهرين ولهم من المدن الموصوفة نحو من أربعين مدينة انتهى باختصار
ونحوه لابن اليسع إذ قال طولها من أربونة إلى أشبونة وهو قطع ستين يوما للفارس المجد وانتقد بأمرين أحدهما أنه يقتضي أن أربونة داخلة في جزيرة الأندلس والصحيح أنها خارجة عنها والثاني أن قوله ستين يوما للفارس المجد إعياء وإفراط وقد قال جماعة إنها شهر ونصف
قال ابن سعيد وهذا يقرب إذا لم يكن للفارس المجد والصحيح ما نص عليه الشريف من أنها مسيرة شهر وكذا قال الحجاري وقد سألت المسافرين المحققين عن ذلك فعملوا حسابا بالمراحل الجيدة أفضى إلى نحو شهر بنيف قيليل
قال الحجاري في موضع من كتابه إن طول الأندلس من الحاجز إلى أشبونة ألف ميل ونيف انتهى
وبالجملة فالمراد التقريب من غير مشاححة كما قاله ابن سعيد وأطال في ذلك ثم قال بعد كلام ومسافة الحاجز الذي بين بحر الزقاق والبحر المحيط أربعون ميلا

جزيرة وإلا فليست بجزيرة على الحقيقة لاتصال هذا القدر بالأرض الكبيرة وعرض جزيرة الأندلس في موسطتها عند طليطلة سنو عشر يوما واتفقوا على أن جزيرة الأندلس مثلثة الشكل واختلفوا في الركن الذي في الشرق والجنوب في حين أربونة فممن قال إنه في أربونة وإن هذه المدينة تقابلها مدينة برذيل التي في الركن الشرقي الشمالي أحمد بن محمد الرازي وابن حيان وفي كلام غيرهما أنه في جهة أربونة وحقق الأمر الشريف وهو أعرف بتلك الجهة لتردده في الأسفار برا وبحرا إليها وتفرغه لهذا الفن
قال ابن سعيد وسألت جماعة من علماء هذا الشأن فأخبروني أن الصحيح ما ذهب إليه الشريف وأن أربونة وبرشلونة غير داخلتين في أرض الأندلس وأن الركن الموفي على بحر الزقاق بالمشرق بين برشلونة وطركونة في موضع يعرف بوادي رنلقاطو وهنالك الحاجز الذي يفصل بين الأندلس والأرض الكبيرة ذات الألسن الكثيرة وفي هذا المكان جبل البرت الفاصل في الحاجز المذكور وفيه الأبواب التي فتحها ملك اليونانيين بالحديد والنار والخل ولم يكن للأندلس من الأرض الكبيرة قبل ذلك طريق في البر وذكر الشريف أن هذه الأبواب يقع في مقابلتها في بحر الزقاق البحر الذي بين جزيرتي ميورقة ومنورقة وقد أخبر بذلك جمهور المسافرين لتلك الناحية

الجبل الحاجز بين الركن الجنوبي والركن الشمالي أربعون ميلا
قال وشمال الركن المذكور عند مدينة برذيل وهي من مدن الإفرنجة مطلة على البحر المحيط في شمالي الأندلس قال ويتقهقر البر بعد تميز هذا الركن إلى الشمال في بلاد الفرنجة ولهم به جزائر كثيرة وذكر أن الركن الشمالي عند شنت ياقوه من ساحل الجلالقة في شمال الاندلس الغربي حيث تبتدىء جزيرة برطانية الكبيرة فيتصور هنالك بحر داخل بين ارضين من الناس من يجعله بحرا منفردا خارجا من البحر المحيط لطوله إلى الركن المتقدم الذكر عند مدينة برذيل
وذكر الشريف أن عند شنت ياقوه في هذا الركن المذكور على جبل بمجمع البحرين صنما مطلا مشبها بصنم قادس
والركن الثالث بمقربة من جبل الأغر حيث صنم قادس والجبل المذكور يدخل من غربه مع جنوبه بحر الزقاق من البحر المحيط مارا مع ساحل الأندلس الجنوبي إلى جبل البرت المذكور انتهى والكلام في مثل هذا طويل الذيل
قال الشيخ أحمد بن محمد بن موسى الرازي بلد الأندلس هو آخر الإقليم الرابع إلى المغرب وهو عند الحكماء بلد كريم البقعة

الجناب منبجس بالأنهار الغزار والعيون العذاب قليل الهوام ذوات السموم معتدل الهواء والجو النسيم ربيعه وخريفه ومشتاه ومصيفه على قدر من الاعتدال وسطة من الحال لا يتولد في أحدها فضل يتولد منه فيما يتلوه انتقاص تتصل فواكهه أكثر الأزمنة وتدوم متلاحقة غير مفقودة أما الساحل منه ونواحيه فيبادر بباكوره وأما الثغر وجهاته والجبال المخصوصة ببرد الهواء فيتأخر بالكثير من ثمره فمادة الخيرات بالبلد متمادية في كل الأحيان وفواكهه على الجملة غير معدومة في كل أوان وله خواص في كرم النبات يوافق في بعضها أرض الهند المخصوصة بجواهر الانبات منها أن المحلب وهو المقدم في الأفاويه والمفضل في أنواع الأشنان لا ينبت بشيء من الأرض إلا بالهند والأندلس وللأندلس المدن الحصينة والمعاقل المنيعة والقلاع الحريزة والمصانع الجليلة ولها البر والبحر والسهل والوعر وشكلها مثلث وهي معتمدة على ثلاثة أركان الأول هو الموضع الذي فيه صنم قادس المشهور بالأندلس ومنه مخرج البحر المتوسط الشامي الآخذ بقبلي الأندلس والركن الثاني هو بشرقي الأندلس بين مدينة نربونة ومدينة برذيل مما بأيدي الفرنجة اليوم بإزاء جزيرتي ميروقة ومنورقة بمجاورة من البحرين البحر المحيط والبحر المتوسط وبينهما البر الذي يعرف بالأبواب وهو المدخل إلى بلد الأندلس من الأرض الكبيرة على بلد إفرنجة ومسافته بين البحرين مسيرة يومين ومدينة نربونة تقابل البحر المحيط والركن الثالث منها هو ما بين الجوف والغرب من حيز جليقية حيث الجبل الموفي على البحر

العالي المشبه بصنم قادس وهو الطالع على بلد برطانية
قال والأندلس أندلسان في اختلاف هبوب رياحها ومواقع أمطارها وجريان أنهارها أندلس غربي وأندلس شرقي فالغربي منها ما جرت أوديته إلى البحر المحيط الغربي ويمطر بالرياح الغربية ومبتدأ هذا الحوز من ناحية المشرق مع المفازة الخارجة مع الجوف إلى بلد شنتمرية طالعا إلى حوز أغريطة المجاورة لطليطلة مائلا إلى الغرب ومجاورا للبحر المتوسط الموازي لقرطاجنة الحلفاء التي من بلد لورقة والحوز الشرقي المعروف بالأندلس الأقصى وتجري أوديته إلى الشرق وأمطاره بالريح الشرقية هو من حد جبل البشكنس هابطا مع وادي إبره إلى بلد شنت مرية ومن جوف هذا البحر وغربه المحيط وفي القبلة منه البحر الغربي الذي منه يجري البحر المتوسط الخارج إلى بلد الشام وهو البحر المسمى ببحر تيران ومعناه الذي يشق دائرة الأرض ويسمى البحر الكبير انتهى
قال أبو بكر عبد الله بن عبد الحكم المعروف بابن النظام بلد الأندلس

عند علماء أهله أندلسان فالأندلس الشرقي منه ما صبت أوديته إلى البحر الرومي المتوسط المتصاعد من أسفل أرض الأندلس إلى المشرق وذلك ما بين مدينة تدمير إلى سرقسطة والأندلس الغربي ما صبت أوديته إلىالبحر الكبير المعروف بالمحيط أسفل ذلك الحد إلى ساحل المغرب فالشرقي منهما يمطر بالريح الشرقية ويصلح عليها والغربي يمطر بالريح الغربية وبها صلاحه وجباله هابطة إلى الغرب جبلا بعد جبل وإنما قسمته الأوائل جزءين لاختلافهما في حال أمطارهما وذلك أنه مهما استحكمت الريح الغربية كثر مطر الأندلس الغربي وقحط الأندلس الشرقي ومتى استحكمت الريح الشرقية مطر الأندلس الشرقي وقحط الغربي وأودية هذا القسم تجري من الشرق إلى الغرب بين هذه الجبال وجبال الأندلس الغربي تمتد إلى الشرق جبلا بعد جبل تقطع من الجوف إلى القبلة والأودية التي تخرج من تلك الجبال يقطع بعضها إلى القبلة وبعضها إلى الشرق وتنصب كلها إلى البحر المتوسط للأندلس القاطع إلى الشام وهو البحر الرومي وما كان من بلاد جوفي الأندلس من بلاد جليقية وما يليها فإن أوديته تنصب إلى البحر الكبير المحيط بناحية الجوف وصفة الأندلس شكل مركن على مثال الشكل المثلث ركنها الواحد فيما بين الجنوب والمغرب حيث اجتماع البحرين عند صنم قادس وركنها الثاني في بلد جليقية حيث الصنم المشبه صنم قادس مقابل جزيرة برطانية وركنها الثالث بين مدينة نربونة ومدينة برذيل من بلد الفرنجة بحيث

فيصير بلد الأندلس جزيرة بينهما في الحقيقة لولا أنه يبقى بينهما برزخ برية صحراء وعمارة مسافة مسيرة يوم للراكب منه المدخل إلى الأرض الكبيرة التي يقال لها الأبواب ومن قبله يتصل بلد الأندلس بتلك البلاد المعروفة بالأرض الكبيرة ذات الألسن المختلفة
الأمم التي استوطنت الأندلس
قال وأول من سكن الأندلس على قديم الأيام فيما نقله الأخباريون من بعد عهد الطوفان على ما يذكره علماء عجمها قوم يعرفون بالأندلش معجمة الشين بهم سمي المكان فعرب فيما بعد بالسين غير المعجمة كانوا الذين عمروها وتناسلوا فيها وتداولوا ملكها دهرا على دين التمجس والإهمال والإفساد في الأرض ثم أخذهم الله بذنوبهم فحبس المطر عنهم ووالى القحط عليهم وأعطش بلادهم حتى نضبت مياهها وغارت عيونها ويبست أنهارها وبادت أشجارها فهلك أكثرهم وفر من قدر على الفرار منهم فأقفرت الأندلس منهم وبقيت خالية فيما يزعمون مائة سنة وبضع عشرة سنة وذلك من حد بلد الفرنجة إلى حد بحر الغرب الأخضر وكان عدة ما عمرتها هذه الأمة البائدة مائة عام وبضع عشرة سنة ثم ابتعت الله لعمارتها الأفارقة فدخل إليها بعد إقفارها تلك المدة الطويلة قوم منهم أجلاهم ملك افريقية

تخففا منهم لإمحال توالي على أهل مملكته وتردد عليهم حتى كاد يفنيهم فحمل منهم خلقا في السفن مع قائد من قبله يدعى أبطريقس فأرسو بريف الأندلس الغربي واحتلوا بجزيرة قادس فأصابوا الأندلس قد أمطرت وأخصبت فجرت أنهارها وانفجرت عيونها وحييت أشجارها فنزلوا الأندلس مغتبطين وسكنوها معتمرين وتوالدوا فيها فكثروا واستوسعوا في عمارة الأرض ما بين الساحل الذي أرسوا فيه بغربيها إلى بلد الإفرنجة من شرقيها ونصبوا من أنفسهم ملوكا عليهم ضبطوا أمرهم وتوالوا على إقامة دولتهم وهم مع ذلك على ديانة من قبلهم من الجاهلية وكانت دار مملكتهم طالقة الخراب اليوم من أرض إشبيلية اخترعها ملوكهم وسكنوها فاتسق ملكهم بالأندلس مائة وسبعة وخمسين عاما إلى أن أهلكهم الله تعالى ونسخهم بعجم رومة بعد أن ملك من هؤلاء الأفارقة في مدتهم تلك أحد عشر ملكا ثم صار ملك الأندلس بعدهم إلى عجم رومة وملكهم إشبان بن طيطش وباسمه سميت الأندلس إشبانية وذكر بعضهم أن اسمه أصبهان فأحيل بلسان العجم وقيل بل كان مولده بأصبهان فغلب اسمها عليه وهو الذي بنى إشبيلية وكان إشبانية اسما خالصا لبلد إشبيلية الذي كان ينزله إشبان هذا ثم غلب الاسم بعده على الأندلس كله فالعجم إلى الآن يسمونه إشبانية لآثار إشبان هذا فيه وكان أحد الملوك الذين ملكوا أقطار الدنيا فيما زعموا وكان غزا الأفارقة عندما سلطه الله عليهم فيجموعه ففض عساكرهم وأثخن فيهم ونزل عليهم بقاعدتهم طالقة وقد تحصنوا فيها منه فابتنى عليهم مدينة إشبيلية اليوم واتصل حصره وقتاله

الله عليه وغلبهم واستوت له مملكة الأندلس بأسرها ودان له من فيها فهدم مدينة طالقة ونقل رخامها وآلاتها إلى مدينة إشبيلية فاستم بناءها واتخذها دار مملكته واستغلظ سلطانه في الأرض وكثرت جموعه فعلا وعظم عتوه ثم غزا إليليا وهي القدس الشريف من إشبيلية بعد سنتين من ملكه خرج إليها في السفن فغنمها وهدمها وقتل فيها من اليهود مائة ألف واسترق مائة ألف وانتقل رخام إيليا وآلاتها إلى الأندلس وقهر الأعداء واشتد سلطانه انتهى
وذكر بعض المؤرخين أن الغرائب التي أصيبت في مغانم الأندلس أيام فتحها ك مائدة سليمان عليه الصلاة و السلام التي ألفاها طارق بن زياد بكنيسة طليطلة وقليلة الدر التي ألفها موسى بن نصير بكنيسة ماردة وغيرهما من طرائف الذخائر إنما كانت مما صار لصاحب الأندلس من غنيمة بيت المقدس إذ حضر فتحها مع بختنصر وكان اسم ذلك الملك بريان وفي سهمه وقع ذلك ومثله مما كانت الجن تأتي به نبي الله سليمان على نبينا وعليه وعلى جميع الأنبياء الصلاة والسلام انتهى
وقال غير واحد من المؤرخين كان أهل المغرب الأقصى يضرون بأهل الأندلس لاتصال الأرض ويلقون منهم الجهد الجهيد في كل وقت إلى أن اجتاز بهم الإسكندر فشكوا حالهم إليه فأحضر المهندسين وحضر إلى الزقاق فأمر المهندسين بوزن سطح الماء من المحيط والبحر الشامي فوجدوا المحيط يعلو البحر

علي فأرسو بريف الأندلس الغربي واحتلوا بجزيرة قادس فأصابوا الأندلس قد أمطرت وأخصبت فجرت أنهارها وانفجرت عيونها وحييت أشجارها فنزلوا الأندلس مغتبطين وسكنوها معتمرين وتوالدوا فيها فكثروا واستوسعوا في عمارة الأرض ما بين الساحل الذي أرسوا فيه بغربيها إلى بلد الإفرنجة من شرقيها ونصبوا من أنفسهم ملوكا عليهم ضبطوا أمرهم وتوالوا على إقامة دولتهم وهم مع ذلك على ديانة من قبلهم من الجاهلية وكانت دار مملكتهم طالقة الخراب اليوم من أرض إشبيلية اخترعها ملوكهم وسكنوها فاتسق ملكهم بالأندلس مائة وسبعة وخمسين عاما إلى أن أهلكهم الله تعالى ونسخهم بعجم رمة بعد أن ملك من هؤلاء الأفارقة في مدتهم تلك أحد عشر ملكا ثم صار ملك الأندلس بعدهم إلى عجم رومة وملكهم إشبان بن طيطش وباسمه سميت الأندلس إشبانية وذكر بعضهم أن اسمه أصبهان فأحيل بلسان العجم وقيل بل كان مولده بأصبهان فغلب اسمها عليه وهو الذي بنى إشبيلية وكان إشبانية اسما خالصا لبلد إشبيلية الذي كان ينزله إشبان هذا ثم غلب الاسم بعده على الأندلس كله فالعجم إلى الآن يسمونه إشبانية لآثار إشبان هذا فيه وكان أحد الملوك الذين ملكوا أقطار الدنيا فيما زعموا وكان غزا الأفارقة عندما سلطه الله عليهم فيجموعه ففض عساكرهم وأثخن فيهم ونزل عليهم بقاعدتهم طالقة وقد تحصنوا فيها منه فابتنى

الشامي ونقلها من الحضيض إلى الأعلى ثم أمر بحفر ما بين طنجة وبلاد الأندلس من الأرض فجفرت حتى ظهرت الجبال السفلية وبنى عليها رصيفا بالحجر والجيار بناء محكما وحعل طوله اثنى عشر ميلا وهي المسافة التي كانت بين البحرين وبنى رصيفا يقابله من ناحية طنجة وجعل بين الرصيفين سعة ستة أميال فلما كمل الرصيفان حفر من جهة البحر الأعظم وأطلق فم الماء بين الرصيفين فدخل في البحر الشامي ثم فاض ماؤه فأغرق مدنا كثيرة وأهلك أمما عظيمة كانت على الشطين وطفا الماء على الرصيفين إحدى عشرة قامة فأما الرصيف الذي يلي بلاد الأندلس فإنه يظهر في بعض الأوقات إذا نقص الماء ظهورا بينا مستقيما على خط واحد وأهل الجزيرتين يسمونه القنطرة وأما الرصيف الذي من جهة العدة فإن الماء حمله في صدره واحتفر ما خلفه من الأرض اثنى عشر ميلا وعلى طرفه من جهة المغرب قصر الجواز وسبتة وطنجة وعلى طرفه من الناحية الأخرى جبل طارق بن زياد وجزيرة طريف وغيرهما والجزيرة الخضراء وبين سبتة والجزيرة الخضراء عرض البحر انتهى ملخصا وقد تكرر بعضه مع ما جلبناه والعذر بين لارتباط الكلام بعضه ببعض
موقع الأندلس من الأقاليم
وقال ابن سعيد ذكر الشريف أن لا خظ لأرض الأندلس في الإقليم الثالث قال ويمر بجزيرة الأندلس من الأقاليم الرابع على ساحلها الجنوبي وما قاربه من قرطبة وإشبيلية ومرسية وبلنسية ثم يمر على جزيرة صقلية وعلى ما في سمتها من الجزائر والشمس

فأرسو بريف الأندلس الغربي واحتلوا بجزيرة قادس فأصابوا الأندلس قد أمطرت وأخصبت فجرت أنهارها وانفجرت عيونها وحييت أشجارها فنزلوا الأندلس مغتبطين وسكنوها معتمرين وتوالدوا فيها فكثروا واستوسعوا في عمارة الأرض ما بين الساحل الذي أرسوا فيه بغربيها إلى بلد الإفرنجة من شرقيها ونصبوا من أنفسهم ملوكا عليهم ضبطوا أمرهم وتوالوا على إقامة دولتهم وهم مع ذلك على ديانة من قبلهم من الجاهلية وكانت دار مملكتهم طالقة الخراب اليوم من أرض إشبيلية اخترعها ملوكهم وسكنوها فاتسق ملكهم بالأندلس مائة وسبعة وخمسين عاما إلى أن أهلكهم الله تعالى ونسخهم بعجم رمة بعد أن ملك من هؤلاء الأفارقة في مدتهم تلك أحد عشر ملكا ثم صار ملك الأندلس بعدهم إلى عجم رومة وملكهم إشبان بن طيطش وباسمه سميت الأندلس إشبانية وذكر بعضهم أن اسمه أصبهان فأحيل بلسان العجم وقيل بل كان مولده بأصبهان فغلب اسمها عليه وهو الذي بنى إشبيلية وكان إشبانية اسما خالصا لبلد إشبيلية الذي كان ينزله إشبان هذا ثم غلب الاسم بعده على الأندلس كله فالعجم إلى الآن يسمونه إشبانية لآثار إشبان هذا فيه وكان أحد الملوك الذين ملكوا أقطار الدنيا فيما زعموا وكان غزا الأفارقة عندما سلطه الله عليهم فيجموعه ففض عساكرهم وأثخن فيهم ونزل عليهم بقاعدتهم طالقة وقد تحصنوا فيها منه فابتنى عليهم مدينة إشبيلية اليوم واتصل حصره وقتاله لهم حتى فتحها فأرسو بريف الأندلس الغربي واحتلوا بجزيرة قادس فأصابوا الأندلس قد أمطرت وأخصبت فجرت أنهارها وانفجرت عيونها وحييت أشجارها فنزلوا الأندلس مغتبطين وسكنوها معتمرين وتوالدوا فيها فكثروا واستوسعوا في عمارة الأرض ما بين الساحل الذي أرسوا فيه بغربيها إلى بلد الإفرنجة من شرقيها ونصبوا من أنفسهم ملوكا عليهم ضبطوا أمرهم وتوالوا على إقامة دولتهم وهم مع ذلك على ديانة من قبلهم من الجاهلية وكانت دار مملكتهم طالقة الخراب اليوم من أرض إشبيلية اخترعها ملوكهم وسكنوها فاتسق ملكهم بالأندلس مائة وسبعة وخمسين عاما إلى أن أهلكهم الله تعالى ونسخهم بعجم رمة بعد أن ملك من هؤلاء الأفارقة في مدتهم تلك أحد عشر ملكا ثم صار ملك الأندلس بعدهم إلى عجم رومة وملكهم إشبان بن طيطش وباسمه سميت الأندلس إشبانية وذكر بعضهم أن اسمه أصبهان فأحيل بلسان العجم وقيل بل كان مولده بأصبهان فغلب اسمها عليه وهو الذي بنى إشبيلية وكان إشبانية اسما خالصا لبلد إشبيلية الذي كان ينزله إشبان هذا ثم غلب الاسم بعده على الأندلس كله فالعجم إلى الآن يسمونه إشبانية لآثار إشبان هذا فيه وكان أحد الملوك الذين ملكوا أقطار الدنيا فيما زعموا وكان غزا الأفارقة عندما سلطه الله عليهم فيجموعه ففض عساكرهم وأثخن فيهم ونزل عليهم بقاعدتهم طالقة وقد تحصنوا فيها منه فابتنى عليهم مدينة إشبيلية اليوم واتصل حصره وقتاله لهم حتى فتحها فأرسو بريف الأندلس الغربي واحتلوا بجزيرة قادس فأصابوا الأندلس قد أمطرت وأخصبت فجرت أنهارها وانفجرت عيونها وحييت أشجارها فنزلوا الأندلس مغتبطين وسكنوها معتمرين وتوالدوا فيها فكثروا واستوسعوا في عمارة الأرض ما بين الساحل الذي أرسوا فيه بغربيها إلى بلد الإفرنجة من شرقيها ونصبوا من أنفسهم ملوكا عليهم ضبطوا أمرهم وتوالوا على إقامة دولتهم وهم مع ذلك على ديانة من قبلهم من الجاهلية وكانت دار مملكتهم طالقة الخراب اليوم من أرض إشبيلية اخترعها ملوكهم وسكنوها فاتسق ملكهم بالأندلس مائة وسبعة وخمسين عاما إلى أن أهلكهم الله تعالى ونسخهم بعجم رمة بعد أن ملك من هؤلاء الأفارقة في مدتهم تلك أحد عشر ملكا ثم صار ملك الأندلس بعدهم إلى عجم رومة وملكهم إشبان بن طيطش وباسمه سميت الأندلس إشبانية وذكر بعضهم أن اسمه أصبهان فأحيل بلسان العجم وقيل بل كان مولده بأصبهان فغلب اسمها عليه وهو الذي بنى إشبيلية وكان إشبانية اسما خالصا لبلد إشبيلية الذي كان ينزله إشبان هذا ثم غلب الاسم بعده على الأندلس كله فالعجم إلى الآن يسمونه إشبانية لآثار إشبان هذا فيه وكان أحد الملوك الذين ملكوا أقطار الدنيا فيما زعموا وكان غزا الأفارقة عندما سلطه الله عليهم فيجموعه ففض عساكرهم وأثخن فيهم ونزل عليهم بقاعدتهم طالقة وقد تحصنوا فيها منه فابتنى عليهم مدينة إشبيلية اليوم واتصل حصره وقتاله لهم حتى فتحها فأرسو بريف الأندلس الغربي واحتلوا بجزيرة قادس فأصابوا الأندلس قد أمطرت وأخصبت فجرت أنهارها وانفجرت عيونها وحييت أشجارها فنزلوا الأندلس مغتبطين وسكنوها معتمرين وتوالدوا فيها فكثروا واستوسعوا في عمارة الأرض ما بين الساحل الذي أرسوا فيه بغربيها إلى بلد الإفرنجة من شرقيها ونصبوا من أنفسهم ملوكا عليهم ضبطوا أمرهم وتوالوا على إقامة دولتهم وهم مع ذلك على ديانة من قبلهم من الجاهلية وكانت دار مملكتهم طالقة الخراب اليوم من أرض إشبيلية اخترعها ملوكهم وسكنوها فاتسق ملكهم بالأندلس مائة وسبعة وخمسين عاما إلى أن أهلكهم الله تعالى ونسخهم بعجم رمة بعد أن ملك من هؤلاء الأفارقة في مدتهم تلك أحد عشر ملكا ثم صار ملك الأندلس بعدهم إلى عجم رومة وملكهم إشبان بن طيطش وباسمه سميت الأندلس إشبانية وذكر بعضهم أن اسمه أصبهان فأحيل بلسان العجم وقيل بل كان مولده بأصبهان فغلب اسمها عليه وهو الذي بنى إشبيلية وكان إشبانية اسما خالصا لبلد إشبيلية الذي كان ينزله إشبان هذا ثم غلب الاسم بعده على الأندلس كله فالعجم إلى الآن يسمونه إشبانية لآثار إشبان هذا فيه وكان أحد الملوك الذين ملكوا أقطار الدنيا فيما زعموا وكان غزا الأفارقة عندما سلطه الله عليهم فيجموعه ففض عساكرهم وأثخن فيهم ونزل عليهم بقاعدتهم طالقة وقد تحصنوا فيها منه فابتنى عليهم مدينة إشبيلية اليوم واتصل حصره وقتاله لهم حتى فتحها فأرسو بريف الأندلس الغربي واحتلوا بجزيرة قادس فأصابوا الأندلس قد أمطرت وأخصبت فجرت أنهارها وانفجرت عيونها وحييت أشجارها فنزلوا الأندلس مغتبطين وسكنوها معتمرين وتوالدوا فيها فكثروا واستوسعوا في عمارة الأرض ما بين الساحل الذي أرسوا فيه بغربيها إلى بلد الإفرنجة من شرقيها ونصبوا من أنفسهم ملوكا عليهم ضبطوا أمرهم وتوالوا على إقامة دولتهم وهم مع ذلك على ديانة من قبلهم من الجاهلية وكانت دار مملكتهم طالقة الخراب اليوم من أرض إشبيلية اخترعها ملوكهم وسكنوها فاتسق ملكهم بالأندلس مائة وسبعة وخمسين عاما إلى أن أهلكهم الله تعالى ونسخهم بعجم رمة بعد أن ملك من هؤلاء الأفارقة في مدتهم تلك أحد عشر ملكا ثم صار ملك الأندلس بعدهم إلى عجم رومة وملكهم إشبان بن طيطش وباسمه سميت الأندلس إشبانية وذكر بعضهم أن اسمه أصبهان فأحيل بلسان العجم وقيل بل كان مولده بأصبهان فغلب اسمها عليه وهو الذي بنى إشبيلية وكان إشبانية اسما خالصا لبلد إشبيلية الذي كان ينزله إشبان هذا ثم غلب الاسم بعده على الأندلس كله فالعجم إلى الآن يسمونه إشبانية لآثار إشبان هذا فيه وكان أحد الملوك الذين ملكوا أقطار الدنيا فيما زعموا وكان غزا الأفارقة عندما سلطه الله عليهم فيجموعه ففض عساكرهم وأثخن فيهم ونزل عليهم بقاعدتهم طالقة وقد تحصنوا فيها منه فابتنى عليهم مدينة إشبيلية اليوم واتصل حصره وقتاله لهم حتى فتحها فأرسو بريف الأندلس الغربي واحتلوا بجزيرة قادس فأصابوا الأندلس قد أمطرت وأخصبت فجرت أنهارها وانفجرت عيونها وحييت أشجارها فنزلوا الأندلس مغتبطين وسكنوها معتمرين وتوالدوا فيها فكثروا واستوسعوا في عمارة الأرض ما بين الساحل الذي أرسوا فيه بغربيها إلى بلد الإفرنجة من شرقيها ونصبوا من أنفسهم ملوكا عليهم ضبطوا أمرهم وتوالوا على إقامة دولتهم وهم مع ذلك على ديانة من قبلهم من الجاهلية وكانت دار مملكتهم طالقة الخراب اليوم من أرض إشبيلية اخترعها ملوكهم وسكنوها فاتسق ملكهم بالأندلس مائة وسبعة وخمسين عاما إلى أن أهلكهم الله تعالى ونسخهم بعجم رمة بعد أن ملك من هؤلاء الأفارقة في مدتهم تلك أحد عشر ملكا ثم صار ملك الأندلس بعدهم إلى عجم رومة وملكهم إشبان بن طيطش وباسمه سميت الأندلس إشبانية وذكر بعضهم أن اسمه أصبهان فأحيل بلسان العجم وقيل بل كان مولده بأصبهان فغلب اسمها عليه وهو الذي بنى إشبيلية وكان إشبانية اسما خالصا لبلد إشبيلية الذي كان ينزله إشبان هذا ثم غلب الاسم بعده على الأندلس كله فالعجم إلى الآن يسمونه إشبانية لآثار إشبان هذا فيه وكان أحد الملوك الذين ملكوا أقطار الدنيا فيما زعموا وكان غزا الأفارقة عندما سلطه الله عليهم فيجموعه ففض عساكرهم وأثخن فيهم ونزل عليهم بقاعدتهم طالقة وقد تحصنوا فيها منه فابتنى عليهم مدينة إشبيلية اليوم واتصل حصره وقتاله لهم حتى فتحها فأرسو بريف الأندلس الغربي واحتلوا بجزيرة قادس فأصابوا الأندلس قد أمطرت وأخصبت فجرت أنهارها وانفجرت عيونها وحييت أشجارها فنزلوا الأندلس مغتبطين وسكنوها معتمرين وتوالدوا فيها فكثروا واستوسعوا في عمارة الأرض ما بين الساحل الذي أرسوا فيه بغربيها إلى بلد الإفرنجة من شرقيها ونصبوا من أنفسهم ملوكا عليهم ضبطوا أمرهم وتوالوا على إقامة دولتهم وهم مع ذلك على ديانة من قبلهم من الجاهلية وكانت دار مملكتهم طالقة الخراب اليوم من أرض إشبيلية اخترعها ملوكهم وسكنوها فاتسق ملكهم بالأندلس مائة وسبعة وخمسين عاما إلى أن أهلكهم الله تعالى ونسخهم بعجم رمة بعد أن ملك من هؤلاء الأفارقة في مدتهم تلك أحد عشر ملكا ثم صار ملك الأندلس بعدهم إلى عجم رومة وملكهم إشبان بن طيطش وباسمه سميت الأندلس إشبانية وذكر بعضهم أن اسمه أصبهان فأحيل بلسان العجم وقيل بل كان مولده بأصبهان فغلب اسمها عليه وهو الذي بنى إشبيلية وكان إشبانية اسما خالصا لبلد إشبيلية الذي كان ينزله إشبان هذا ثم غلب الاسم بعده على الأندلس كله فالعجم إلى الآن يسمونه إشبانية لآثار إشبان هذا فيه وكان أحد الملوك الذين ملكوا أقطار الدنيا فيما زعموا وكان غزا الأفارقة عندما سلطه الله عليهم فيجموعه ففض عساكرهم وأثخن فيهم ونزل عليهم بقاعدتهم طالقة وقد تحصنوا فيها منه فابتنى عليهم مدينة إشبيلية اليوم واتصل حصره وقتاله لهم حتى فتحها رفأرسو بريف الأندلس الغربي واحتلوا بجزيرة قادس فأصابوا الأندلس قد أمطرت وأخصبت فجرت أنهارها وانفجرت عيونها وحييت أشجارها فنزلوا الأندلس مغتبطين وسكنوها معتمرين وتوالدوا فيها فكثروا واستوسعوا في عمارة الأرض ما بين الساحل الذي أرسوا فيه بغربيها إلى بلد الإفرنجة من شرقيها ونصبوا من أنفسهم ملوكا عليهم ضبطوا أمرهم وتوالوا على إقامة دولتهم وهم مع ذلك على ديانة من قبلهم من الجاهلية وكانت دار مملكتهم طالقة الخراب اليوم من أرض إشبيلية اخترعها ملوكهم وسكنوها فاتسق ملكهم بالأندلس مائة وسبعة وخمسين عاما إلى أن أهلكهم الله تعالى ونسخهم بعجم رمة بعد أن ملك من هؤلاء الأفارقة في مدتهم تلك أحد عشر ملكا ثم صار ملك الأندلس بعدهم إلى عجم رومة وملكهم إشبان بن طيطش وباسمه سميت الأندلس إشبانية وذكر بعضهم أن اسمه أصبهان فأحيل بلسان العجم وقيل بل كان مولده بأصبهان فغلب اسمها عليه وهو الذي بنى إشبيلية وكان إشبانية اسما خالصا لبلد إشبيلية الذي كان ينزله إشبان هذا ثم غلب الاسم بعده على الأندلس كله فالعجم إلى الآن يسمونه إشبانية لآثار إشبان هذا فيه وكان أحد الملوك الذين ملكوا أقطار الدنيا فيما زعموا وكان غزا الأفارقة عندما سلطه الله عليهم فيجموعه ففض عساكرهم وأثخن فيهم ونزل عليهم بقاعدتهم طالقة وقد تحصنوا فيها منه فابتنى عليهم مدينة إشبيلية اليوم واتصل حصره

والإقليم الخامس يمر على طليطلة وسرقسطة وما في سمتهما إلى بلاد أرغون التي في جنوبيها برشلونة ثم يمر على رومية وبلادها ويشق بحر البنادقة ثم يمر على القسطنطينية ومدبرته الزهرة
والسادس يمر على ساحل الأندلس الشمالي الذي على البحر المحيط وما قاربه وبعض البلاد الداخلة في قشتالة وبرتقال وما في سمتها وعلى بلاد برجان والصقالبة والروس ومدبرة عطارد
ويمر الإقليم السابع في البحر المحيط الذي في شمالي الأندلس إلى جزيرة انقلطرة وغيرها من الجزائر وما في سمتها من بلاد الصقالبة وبرجان قال البهقي وفيه تقع جزيرة تولى وجزيرتا أجبال والنساء وبعض بلاد الروس الداخلة في الشمال والبلغار ومدبره القمر انتهى
وقال بعض العلماء إن النصارى حرموا جنة الآخرة فأعطاهم الله جنة الدنيا بستانا متصلا من البحر المحيط بالأندلس إلى خليج القسطنطينية وعندهم عموم شاه بلوط والبندق والجوز والفستق وغير ذلك مما يكون أكثر وأمكن في الأقاليم الباردة والتمر عندهم معدوم وكذا الموز وقصب السكر وربما يكون شيء من ذلك في الساحل لأن هواء البحر يدفىء انتهى
رجع إلى الأمم التي استوطنتها
قال ابن حيان في المقتبس ذكر رواه العجم أن الخضر عليه السلام وقف بإشبان المذكور وهو يحرث الأرض بفدن

يا إشبان إنك لذو شان وسوف يحظيك زمان ويعليك سلطان فإذا أنت غلبت على إيليا فارفق بذرية الأنبياء فقال له إشبان أساخر رحمك الله أنى يكون هذا مني وأنا ضعيف ممتهن حقير فقير ليس مثلي ينال السلطان فقال له قد قدر ذلك فيك من قدر في عصاك اليابسة ما تراه فنظر إشبان إلى عصاه فإذا بها قد أورقت فريع لما رأى من الآية وذهب الخضر عنه وقد وقع الكلام بخلده ووقرت في نفسه الثقة بكونه فترك الامتهان من وقته وداخل الناس وصحب أهل البأس منهم وسما به جده فارتقى في طلب السلطان حتى أدرك منه عظيما وكان منه ما كان ثم أتى عليه ما أتى على القرون قبله وكان ملكه كله عشرين سنة وتمادى ملك الإشبانيين بعده إلى أن ملك منهم الأندلس خمسة وخمسون ملكا
ثم دخل على هؤلاء الإشبانيين من عجم رومة أمة يدعون البشتولقات وملكهم طلوبش بن بيطه وذلك زمن بعث المسيح بن مريم عليه السلام أتوا الأندلس من قبل رومة وكانوا يملكون إفرنجة معها ويبعثون عمالهم إليها فاتخذوا دار مملكتهم بالأندلس مدينة ماردة واستولوا على مملكة الأندلس واتصل ملكهم بها مدة إلى أن ملك منهم سبعة وعشرون ملكا
ثم دخل على هؤلاء البشتولقات أمة القوط مع ملك لهم قغلبوا على الأندلس واقتطعوها من يومئذ من صاحب رومة وتفردوا بسلطانهم واتخذوا مدينة طليطلة دار مملكتهم وأقروا بها سرير ملكهم فبقي بإشبيلية علم الإشبانيين ورياسة أوليتهم
وقد كان عيسى المسيح عليه السلام بعث لحواريين

الخلق إلى ديانته فاختلف الناس عليهم وقتلوا بعضهم واستجاب لهم كثير منهم وكان من أسرعهم إجابة لمن جاءه من هؤلاء الحواريين خشندش ملك القوط فتنصر ودعا قومه إلى النصرانية وكان من صميم أعاظمهم وخير من تنصر من ملوكهم وأجمعوا على أنه لم يكن فيهم أعدل منه حكما ولا أرشد رايا ولا أحسن سيرة ولا أجود تدبيرا فكان الذي أصل النصرانية في مملكته ومضى أهلها على سنته إلى اليوم وحكموا بها والإنجيلات في المصاحف الأربعة التي يختلفون فيها من انتساخه وجمعه وتثقيفه فتناسقت ملك القوط بالأندلس بعده إلى أن غلبتهم العرب عليها وأظهر الله تعالى دين الإسلام على جميع الأديان
فوقع في تواريخ العجم القديمة أن عدة ملوك هؤلاء القوط بالأندلس من عهد أتاناوينوس الذي ملك في السنة الخامسة من مملكة فلبش القيصري لمضي أربعمائة وسبع من تاريخ الصفر المشهور عند العجم إلى عهد لذريق آخرهم الذي ملك في السنة التاسعة والأربعين وسبعمائة من تاريخ الصفر وهو الذي دخلت عليه العرب فأزالت دولة القوط ستة وثلاثون ملكا وأن مدة أيام ملكهم بالأندلس ثلاثمائة واثنتان وأربعون سنة انتهى
وقال جماعة إن القوط غير البشتولقات وإن البشتولقات من عجم رومة وإنهم جعلوا دار ملكهم ماردة واتصل ملكهم إلى أن ملك منهم سبعة وعشرون

وذكر الرازي أن القوط من ولد يأجوج بن يافث بن نوح وقيل غير ذلك انتهى
مناخها وخيراتها
وقال الرازي في موضع آخر نحو ما تقدم وزيادة ونصه أن الأندلس في آخر الإقليم الرابع من الأقاليم السبعة التي هي ربع معمور الدنيا فهي موسطة من البلدان كريمة البقعة بطبع الخلقة طيبة التربة مخصبة القاعة منبجسة العيون الثرار منفجرة بالأنهار الغزار قليلة الهوام ذوات السموم معتدلة الهواء أكثر الأزمان لا يزيد قيظها زيادة منكرة تضر بالأبدان وكذا سائر فصولها في اعم سينها تأتي على قدر من الاعتدال وتوسط من الحال وفواكهها تتصل طول الزمان فلا تكاد تعدم لأن الساحل ونواحيه يبادر بباكوره كما أن الثغر وجهاته والجبال التي يخصها برد الهواء وكثافة الجو تستأخر بما فيها من ذلك حتىيكاد طرفا فاكهتها يلتقيان فمادة الخيرات فيها متصلة كل أوان ومن بحرها بجهة الغرب يخرج العنبر الجيد المقدم على أجناسه في الطيب والصبر على النار وبها شجر المحلب المعدود في الأفاويه المقدم في أنواع الأشنان كثير واسع وقد زعموا أنه لا يكون إلابالهند وبها فقط ولها خواص نباتية يكثر تعدادها انتهى
وقد ذكر غيره تفصيل بعض ذلك

البشرة عود الألنجوج لا يفوقه العود الهندي ذكاء وعطر رائحة وقد سبق منه إلى خيران الصقلي صاحب المرية وأن أصل منبته كان بين أحجار هنالك وبأكشونبة جبل كثيرا ما يتضوع ريحه ريح العود الذكي إذا أرسلت فيه النار وببحر شذونة يوجد العنبر الطيب الغربي وفي جبل منت ليون المحلب ويوجد بالأندلس القسط الطيب والسنبل الطيب والجنطيانة تحمل من الأندلس إلى جميع الآفاق وهو عقار رفيع والمر الطيب بقلعة أيوب وأطيب كهرباء الأرض بشذونة درهم منها يعدل دراهم من المجلوبة وأطيب القرمز قرمز الأندلس وأكثر ما يكون بنواحي إشبيلية ولبلة وشذونة وبلنسية ومن

لورقة من عمل تدمير يكون حجر اللازورد الجيد وقد يوجد في غيرها وعلى مقربة من حصن لورقة من عمل قرطبة معدن البلور وقد يوجد بجبل شحيران وهو شرقي يبره والحجر البجادي يوجد بناحية مدينة الأشبونة في جبل هنالك يتلألأ فيه ليلا كالسراج والياقوت الاحمر يوجد بناحية حصن منت ميور من كورة مالقة إلا أنه دقيق جدا لا يصلح للاستعمال لصغره ويوجد حجر يشبه الياقوت الأمر بناحية بجانة في خندق يعرف بقرية ناشرة أشكالا مختلفة كأنه مصبوغ حسن اللون صبور على النار وحجر المغناطيس الجاذب للحديد يوجد في كورة تدمير وحجر الشاذنة بجبال قرطبة كثير ويستعمل في دلك التذاهيب وحجر اليهودي في ناحية حصن البونت وهو أنفع شيء للحصاة وحجر المقرشيثا الذهبية في جبال أبذة لا نظير لها في الدنيا ومن الأندلس تحمل إلى جميع الآفاق لفضلها والمغنيسيا بالأندلس كثير وكذلك حجر الطلق ويوجد حجر اللؤلؤ بمدينة

أقل ما لقط منه في أقل من شهر نحو ثمانين ربعا ومعدن الذهب بنهر لاردة يجمع منه كثير ويجمع أيضا في ساحل الأشبونة ومعادن الفضة في الأندلس كثيرة في كورة تدمير وجبال حمة بجانة وبإقليم كرتش من عمل قرطبة معدن فضة جليل وبأكشونبة معدن القصدير لا نظير له يشبه الفضة وله معادن بناحية إفرنجة وليون ومعدن الزئبق فيجبل البرانس ومن هنالك يتجهز به إلى الآفاق ومعادن الكبريت الأحمر والأصفر بالأندلس كثيرة ومعدن التوتيا الطبية بساحل إلبيرة بقرية تسمى بطرنة وهي أزكى توتيا وأقواها في صبغ النحاس وبجبال قرطبة توتيا وليست كالبطرنية ومعدن الكحل المشبه بالأصفهاني بناحية مدينة طرطوشة يحمل منها إلى جميع البلاد ومعادن الشبوب والحديد والنحاس بالأندلس أكثر من أن تحصى وما ذكرت هنا وإن تكرر بعضه مع ما سبق أو يأتي فهو لجمع النظائر وما لم نذكره أكثر والله تعالى أعلم
ومن خواص طليطلة أن حنطتها لا تتغير ولا تتسوس على طول السنين يتوارثها الخلف عن السلف وزعفران طليطلة هو الذي يعم البلاد ويتجهز به الرفاق إلى الآفاق وكذلك الصبغ السماوي انتهى
وقال المسعودي في مروج الذهب بعد كلام ما نصه والعنبر كثير

له شنترين وشذونة تبلغ الأوقية منه بالأندلس ثلاثة مثاقيل ذهبا والأوقية بالبغدادي وتباع بمصر أوقيته بعشرة دنانير وهو عنبر جيد ويمكن أن يكون هذا العنبر الواقع إلى بحر الروم ضربته الأمواج من بحر الاندلس إلى هذا البحر لاتصال الماء وبالأندلس معدن عظيم للفضة ومعدن للزئبق ليس بالجيد يجهز إلى سائر بلاد الإسلام والكفر وكذلك يحمل من بلاد الأندلس الزعفران وعروق الزنجبيل وأصول الطيب خمسة أصناف المسك والكافور والعود والعنبر والزعفران وكلها تحمل من أرض الهند وما اتصل بها إلا الزعفران والعنبر انتهى وهو وإن تكرر مع ما ذكرته عن غيره فلا يخلو من فائدة والله تعالى أعلم
وذكر البعض أن في بعض بلاد الأندلس جميع المعادن الكائنات عن النيرات السبعة وهي الرصاص من زحل والقصدير الأبيض من المشتري والحديد من قسم المريخ والذهب من قسم الشمس والنحاس من الزهرة والزئبق من عطارد والفضة من القمر
الأندلسيون والأمم المجاورة
وذكر الكاتب إبراهيم بن القاسم

الأندلس فقال أهله أصحاب جهاد متصل يحاربون من أهل الشرك المحيطين بهم أمة يدعون الجلالقة يتاخمون حوزهم ما بين غرب إلى شرق قوم لهم شدة ولهم جمال وحسن وجوه فأكثر رقيقهم الموصوفين بالجمال والفراهة منهم ليس بينهم وبينهم درب فالحرب متصلة بينهم ما لم تقع هدنة ويحاربون بالأفق الشرقي أمة يقال لهم الفرنجة هم أشد عليهم من جميع من يحاربونه من عدوهم إذ كانوا خلقا عظيما في بلاد كثيرة واسعة جليلة متصلة العمارة آهلة تدعى الأرض الكبيرة هم أكثر عددا من الجليقين وأشد بأسا وأحد شوكة وأعظم أمدادا وهذه الأمة يحاربون أمة الصقالبة المتصلين بأرضهم لمخالفتهم إياهم في الديانة فيسبونهم ويبيعون رقيقهم بأرض الأندلس فلهم هنالك كثرة وتخصيهم للفرنجة يهود ذمتهم الذين بأرضهم وفي ثغر المسلمين المتصل بهم فيحمل حصيانهم من هنالك إلى سائر البلاد وقد تعلم الخصاء قوم من المسلمين هناك فصارو يخصون ويستحلون المثلة
بحر المجاز
قال ابن سعيد ومخرج بحر الروم المتصاعد إلى الشام هو بساحل الأندلس الغربي بمكان يقال له الخضراء ما بين طنجة من أرض المغرب وبين الأندلس فيكون قدار عرضه هناك كما زعموا ثمانية عشر ميلا وهذا عرض جزيرة طريف إلى قصر مصمودة بالقرب من سبتة وهناك كانت القنطرة التي يزعم الناس أن الإسكندر بناها ليعبر عليها من بر الأندلس إلى بر العدوة

ويعرف هذا الموضع بالزقاق وهو صعب المجاز لأنه مجمع البحرين لا تزال الامواج تتطاول فيه والماء يدور وطول هذا الزقاق الذي عرضه ثمانية عشر ميلا مضاعف ذلك إلى ميناء سبتة ومن هناك يأخذ البحر في الاتساع إلى ثمانمائة ميل وأزيد ومنتهاه مدينة صور من الشام وفيه عدد عظيم من الجزائر قال بعضهم إنها ثمان وعشرون جزيرة منها صقلية ومالطة وغيرهما انتهى وبعضه بالمعنى وقال بعضهم عند وصفه ضيق بحر الزقاق قرب سبتة ما صورته ثم يتسع كلما امتد حتى يصير إلى ما لا ذرع له ولا نهاية
نبذة عن خراجها
وقال بعضهم وكان مبلغ خراج الأندلس الذي كان يؤدي إلى ملوك بني أمية قديما ثلاثمائة ألف دينار دراهم أندلسية كل سنة قوانين وعلى كل مدينة من مدائنهم مال معلوم فكانوا يعطون جندهم ورجالهم الثلث من ذلك مائة ألف دينار وينفقون في أمورهم ونوائبهم ومؤن أهليهم مائة ألف دينار ويدخرون لحادث أيامهم مائة ألف دينار انتهى
وذكر غيره أن الجباية كانت بالأندلس أيام عبد الرحمن الأوسط ألف ألف دينار في السنة وكانت قبل ذلك لا تزيد على

خبر ابن خلدون عن الأمم التي استوطنتها
وقال قاضي القضاة ابن خلدون الحضرمي في تاريخه الكبير ما صورته كان هذا القطر الأندلسي من العدوة الشمالية من عدوتي البحر الرومي وبالجانب الغربي منها يسمى عند العجم الأندلوش وتسكنه أمم من إفرنجة المغرب أشدهم وأكثرهم الجلالقة وكان القوط قد تملكوه وغلبوا على أهله لمئين من السنين قبل الإسلام بعد حروب كانت لهم مع اللطينيين حاصروا فيها رومة ثم عقدوا معهم السلم على أن ينصرف القوط إلى الأندلس فصاروا إليها وملكوها ولما أخذ الروم واللطينيون بملة النصرانية حملوا من وراءهم بالمغرب من أمم الفرنجة والقوط عليها فدانوا بها وكان ملوك القوط ينزلون طليطلة وكانت دار ملكهم وربما تنقلوا ما بينها وبين قرطبة وإشبيلية وماردة وأقاموا كذلك نحوا من أربعمائة سنة إلى أن جاء الله بالإسلام والفتح وكان ملكهم لذلك العهد يسمى لذريق وهو سمة لملوكهم وكما هو جرجير سمة لملوك صقلية انتهى
شيء عن غرناطة وأعمالها
ومن أشهر بلاد الأندلس غرناطة وقيل إن الصواب أغرناطة بالهمز ومعناه بلغتهم الرمانة وكفاها شرفا ولادة لسان الدين بها
وقال الشقندي أما غرناطة فإنها

الأبصار ومطمح الأنفس ولم تخل من أشراف أماثل وعلماء وأكابر وشعراء أفاضل انتهى ولو لم يكن لها إلا ما خصها الله تعالى به من المرج الطويل العريض ونهر شنيل لكفاها
وفي بعض كلام لسان الدين ما صورته وما لمص تفخر بنيلها وألف منه في شنيلها يعني أن الشين عند أهل المغرب عددها ألف فقولنا شنيل إذا اعتبرنا عدد شينة كان ألف نيل انتهى وفيها قيل
( غرناطة ما لها نظير ... ما مصر ما الشام ما العراق )
( ما هي إلا العروس تجلى ... وتلك من جملة الصداق )
وتسمى كورة إلبيرة التي منها غرناطة دمشق لأن جند دمشق نزلوها عند الفتح وقيل إنما سميت بذلك لشبهها بدمشق في غزارة الانهار وكثرة الأشجار حكاه صاحب مناهج الفكر قال ولما استولى الفرنج على معظم بلاد الأندلس انتقل أهلها إليها فصارت المصر المقصود والمعقل الذي تنضوي إليه العساكر والجنود ويشقها نهر عليه قناطر يجاز عليها وفي قبليها جبل شلير وهو جبل لا يفارقه الثلج صيفا وشتاء وفيه سائر النبات الهندي لكن ليس فيه خصائصه انتهى
ومن أعمال غرناطة قطر لوشة وبها معدن للفضة جيد ومنها أعني لوشة أصل لسان الدين بن الخطيب وهذا القطر ضخم ينضاف إليه

والقرى كثير وقاعدته لوشة بينها وبين غرناطة مرحلة وهي ذات أنهار وأشجار وهي على نهر غرناطة الشهير بشنيل
ومن أعمال غرناطة الكبار عمل باغة والعامة يقولون بيغه وإذا نسبوا إليه قالوا بيغي وقاعدته باغه طيبة الزرع كثيرة الثمار غزيرة المياه ويجود فيها الزعفران
ومن أعمال غرناطه وادي آش ويقال وادي الأشات وهي مدينة جليلة قد أحدقت بها البساتين والأنهار وقد خص الله أهلها بالأدب وحب الشعر وفيها يقول أبو الحسن بن نزار
( وادي الأشات يهيج وجدي كلما ... أذكرت ما قضت بك النعماء )
( لله ظلك والهيجير مسلط ... قد بردت لفحاته الانداء )
( والشمس ترغب أن تفوز بلحظة ... منه فتطرف طرفها الأفياء )
( والنهر يبسم بالحباب كأنه ... سلخ نضته حية رقشاء )
( فلذاك تحذره الغصون فميلها ... أبدا على جنباته إيماء )
ومن أعمال وادي آش حصن جليانة وهو كبير يضاهي المدن وبه التفاح الجلياني الذي خص الله به ذلك الموضع يجمع عظم الحجم وكرم الجوهر وحلاوة الطعم وذكاء

آش اثنا عشر ميلا
ومن غرائب الأندلس أن به شجرتين من شجر القسطل وهما عظيمتان جدا إحداهما بسند وادي آش والأخرى ببشرة غرناطة في جوف كل واحدة منهما حائك ينسج الثياب وهذا أمر مشهور قاله أبو عبد الله بن جزي وغيره
وكانت إلبيرة هي المدينة قبل غرناطة فلما بنى الصنهاجي مدينة غرناطة وقصبتها وأسوارها انتقل الناس إليها ثم زاد في عمارتها ابنه باديس بعده
شهرة سرقسطة وبرجة ومالقة وأشبونة
وذكر غير واحد أن في كورة سرقسطة الملح الأندراني الأبيض الصافي الأملس الخالص وليس في الأندلس موضع فيه مثل هذا الملح
قال وسرقسطة بناها قيصر ملك رومة الذي تؤرخ من مدته مدة الصفر قبل مولد المسيح على نبينا وعليه وعلى سائر الأنبياء الصلاة والسلام وتفسير اسمها قصر السيد لأنه اختار ذلك المكان بالأندلس
وقيل إن موسى بن نصير شرب من ماء نهر جلق بسرقسطة فاستعذبه وحكم أنه لم يشرب بالأندلس أعذب منه وسأل عن اسمه فقيل جلق ونظر إلى ما عليه من البساتين فشبهها بغوطة جلق الشام وقيل إنها من بناء الإسكندر والله أعلم
وبمدينة برجه وهي من أعمال المرية معدن الرصاص وهي على واد مبهج يعرف بوادي

برجة بهجة لبهجة منظرها وفيها يقول أبو الفضل بن شرف القيرواني رحمه الله تعالى
( رياض تعشقها سندس ... توشت معاطفها بالزهر )
( مدامعها فوق خدي ربى ... لها نضرة فتنت من نظر )
( وكل مكان بها جنة ... وكل طريق إليها سفر )
وقيها أيضا قوله
( حط الرحال ببرجه ... وارتد لنفسك بهجة )
( في قلعة كسلاح ... ودوحة مثل لجة )
( فحصنها لك أمن ... وروضها لك فرجه )
( كل البلاد سواها ... كعمرة وهي حجه )
وبمالقة التين الذي يضرب المثل بحسنه ويجلب حتى للهند والصين وقيل إنه ليس في الدنيا مثله وفيه يقول أبو الحجاج يوسف ابن الشيخ البلوي المالقي حسبما أنشده غير واحد منهم ابن سعيد
( مالقة حييت يا تينها ... الفلك من أجلك ياتينها )
( نهى طبيبي عنه في علتي ... ما لطبيبي عن حياتي نهى )
وذيل عليه الإمام الخطيب أبو محمد عبد الوهاب المنشي بقوله
( وحمص لا تنس لها تينها ... واذكر

وفي بعض النسخ
( لا تنس لاشبيلية تينها ... واذكر مع التين زياتينها
وهو نحو الأول لأن حمص هي إشبيلية لنزول أهل حمص من المشرق بها حسبما سنذكره
ونسب ابن جزي في ترتيبه لرحلة ابن بطوطة البيتين الأولين للخطيب أبي محمد عبدالوهاب المالقي والتذييل لقاضي الجماعة أبي عبدالله بن عبدالملك فالله أعلم
وقال ابن بطوطة وبمقاله يصنع الفخار المذهب العجيب ويجلب منها أقاصي البلاد ومسجدها كبير الساحة شهير البركة وصحنه لا نظير له في الحسن وفيه أشجار النارنج انتهى
وقال قبله إن مقالة إحدى قواعد الأندلس وبلادها الحسان جامعة بين مرافق البر والبحر كثيرة الخيرات والفواكه رأيت العنب يباع في أسواقها بحساب ثمانية أرطال بدرهم صغير ورمانها المرسي الياقوتي لا نظير له في الدنيا وأما التين واللوز فيجلبان منها ومن أحوازها إلى بلاد المشرق والمغرب انتهى
وبكورة أشبونة المتصلة بشنترين معدن التبر وفيها عسل يجعل في كيس كتان فلا يكون له رطوبة كأنه سكر ويوجد في ريفها العنبر الذي لا

نبذة عن قرطبة وشهرتها
ومن أشهر مدن الأندلس مدينة قرطبة أعادها الله تعالى الإسلام وبها الجامع المشهور والقنطرة المعروفة بالجسر
وقد ذكر ابن حيان أنه بني على أمر عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ونصه وقام فيها بأمره على النهر الأعظم بدار مملكتها قرطبة الجسر الأكبر الذي ما يعرف في الدنيا مثله انتهى
وفيها يقول بعض علماء الأندلس
( بأربع فاقت الأمصار قرطبة ... منهن قنطرة الوادي وجامعها )
( هاتان ثنتان والزهراء ثالثة ... والعلم أعظم شيء وهو رابعها )
وقال الحجاري في المسهب كانت قرطبة في الدولة المروانية قبة الإسلام ومجتمع أعلام الأنام بها استقر سرير الخلافة المروانية وفيها تمحضت خلاصة القبائل المعدية واليمانية وإليها كانت الرحلة في الرواية إذ كانت مركز الكرماء ومعدن العلماء وهي من الاندلس بمنزلة الرأس من الجسد ونهرها من احسن الأنهار مكتنف بديباج المروج مطرز بالأزهار تصدح في جنباته الأطيار وتنعر النواعير ويبسم النوار وقرطاها الزاهرة والزهراء حاضرتا الملك وأفقا النعماء والسراء وإن كان قد أخنى عليها الزمان وغير بهجة أوجهها الحسان فتلك عادته وسل الخورنق والسدير وغمدان وقد أعذر بإنذاره إذ لم يزل ينادي بصروفه لا أمان لا أمان وقد قال الشاعر
( وما زلت أسمع أن الملوك ... تبني على قدر أخطارها ) انتهى

وقال السلطان يعقوب المنصور ابن السلطان يوسف ابن السلطان عبد المؤمن بن علي لأحد رؤساء أجنادها ما تقول في قرطبة فخاطبه على ما يقتضيه كلام عامة الأندلس بقوله جوفها شمام وغربيها قمام وقبلتها مدام والجنة هي والسلام
يعني بالشمام جبال الورد ويعني بالقمام ما يؤكل إشارة إلى محرث الكنبانية ويعني بالمدام النهر
ولما قال والده السلطان يوسف بن عبد المؤمن لأبي عمران موسى بن سعيد العنسي ما عندك في قرطبة قال له ما كان لي أن أتكلم حتى أسمع مذهب أمير المؤمنين فيها فقال السلطان إن ملوك بني أمية حين اتخذوها حضرة مملكتهم لعلى بصيرة الديار المنفسحة الكثيرة والشوارع المتسعة والمباني الضخمة المشيدة والنهر الجاري والهواء المعتدل والخارج الناضر والمحرث العظيم والشعراء الكافية والتوسط بين شرق الأندلس وغربها قال فقلت ما أبقى لي أمير المؤمنين ما أقول
قال ابن سعيد ولأهلها رياسة ووقار لا تزال سمة العلم والملك متوارثة فيهم إلا أن عامتها أكثر الناس

بهم المثل ما بين أهل الأندلس في القيام على الملوك والتشنيع على الولاة وقلة الرضا بأمورهم حتى إن السيد أبا يحيى أخا السلطان يعقوب المنصور قيل له لما انفصل عن ولايتها كيف وجدت أهل قرطبة فقال مثل الجمل إن خففت عنه الحمل صاح وإن أثقلته صاح ما ندري أين رضاهم فنقصده ولا أين سخطهم فنجتنبه وما سلط الله عليهم حجاج الفتنة حتى كان عامتها شرا من عامة العراق وإن العزل عنها لما قاسيته من أهلها عندي ولاية وإني إن كلفت العود إليها لقائل لا يلدغ المؤمن من حجر مرتين انتهى
وقال أبو الفضل التيفاشي جرت مناظرة بين يدي ملك المغرب المنصور يعقوب بين الفقيه أبي الوليد بن رشد والرئيس أبي بكر بن زهر فقال ابن رشد لابن زهر في تفضيل قرطبة ما أدري ما تقول غير أنه إذا مات عالم بإشبيلية فأريد بيع كتبه حملت إلى قرطبة حتى تباع فيها وإن مات مطرب بقرطبة فأريد بيع آلاته حملت إلى إشبيلية قال وقرطبة أكثر بلاد الله كتبا انتهى
وحكى الإمام ابن بشكوال عن الشيخ أبي بكر بن سعادة أنه دخل مدينة طليطلة مع أخيه على الشيخ الاستاذ أبي بكر المخزومي قال فسألنا من أين فقلنا من قرطبة فقال متى عهدكما بها فقال الآن وصلنا منها فقال أقربا إلي اشم نسيم قرطبة فقربنا منه فشم رأسي وقبله وقال لي اكتب
( أقرطبة الغراء هل لي أوبة ... إليك وهل يدنو لنا ذلك العهد )
( سقى الجانب الغربي منك غمامة ... وقعقع في ساحات دوحاتك الرعد )
( لياليك أسحار وأرضك روضة ... وتربك في استنشاقها عنبر ورد )
وكتب الرئيس الكاتب أبو

( يا سيدي وأبي هوى وجلالة ... ورسول ودي إن طلبت رسولا )
( عرج بقرطبة إذا بلغتها ... بأبي الحسين وناده تمويلا )
( وإذا سعدت بنظرة من وجهه ... أهد السلام لكفه تقبيلا )
( واذكر له شوقي وشكري مجملا ... ولو استطعت شرحته تفصيلا )
( بتحية تهدى إليه كأنما ... جرت على زهر الرياض ذيولا )
وفي باب اليهود بقرطبة يقول أبو عامر بن شهيد
( لقد أطلعوا عند باب اليهود ... بدرا أبي الحسن أن يكسفا )
( تراه اليهود على بابها ... أميرا فتحسبه يوسفا )
واستقبحوا قولهم باب اليهود فقالوا باب الهدى وسنذكر قرطبة والزهراء والزاهرة ومسجدها في الباب المنفرد بها إن شاء الله تعالى وكذلك القنطرة
إشبيلية وإقليمها
ومن أعظم مدن الأندلس

الهواء وحسن المباني ونهرها الاعظم الذي يصعد المد فيه اثنين وسبعين ميلا ثم يحسر وفيه يقول ابن سفر
( شق النسيم عليه جيب قميصه ... فانساب من شطيه يطلب ثاره
( فتضاحكت ورق الحمام بدوحها ... هزءا فضم من الحياء إزاره )
وقيل لأحد من رأى مصر والشام ايهما رأيت أحسن أهذان أم إشبيلية فقال بعد تفضيل إشبيلية شرفها غابة بلا أسد ونهرها نيل بلا تمساح انتهى
ويقال إن الذي بنى إشبيلية اسمه يوليش وإنه أول من سمي قيصر وإنه لما دخل الأندلس أعجب بساحاتها وطيب أرضها وجبلها المعروف بالشرف فردم على النهر الأعظم مكانا وأقام فيه المدينة وأحدق عليها بأسوار من صخر صلد وبنى في وسط المدينة قصبتين بديعتي الشأن تعرفان بالأخوين وجعلها أم قواعد الأندلس واشتق لها اسما من رومية ومن اسمه فسماها رومية يوليش انتهى
وقد تقدم شيء من هذا
وكان الأولون من ملوك الأعاجم يتداولون بسكناهم أربعة من بلاد الأندلس إشبيلية وقرطبة وقرمونة وطليطلة ويقسمون أزمانهم على

وأما شرف إشبيلية فهو شريف البقعة كريم التربة دائم الخضرة فرسخ في فرسخ طولا وعرضا لا تكاد تشمس فيه بقعة لالتفاف زيتونه
واعلم أن إشبيلية لها كور جليلة ومدن كثيرة وحصون شريفة وهي من الكور المجندة نزلها جند حمص ولواؤهم في الميمنة بعد لواء جند دمشق وانتهت جباية إشبيلية أيام الحكم بن هشام إلى خمسة وثلاثين ألف دينار ومائة دينار
وفي إقليم طالقة من أقاليم إشبيلية وجدت صورة جارية من مرمر معها صبي وكأن حية تريده لم يسمع في الأخبار ولا رئي في الآثار صورة أبدع منها جعلت في بعض الحمامات وتعشقها جماعة من العوام
وفي كورة ماردة حصن شنت أفرج في غاية الارتفاع لا يعلوه طائر البتة لا نسر ولا غيره
ومن عجائب الأندلس البلاط الأوسط من مسجد جامع أقليش فإن طول كل جائزة منه مائة شبر وأحد عشر شبرا وهي مربعة منحوتة مستوية الأطراف
وقال بعض من وصف إشبيلية إنها مدينة عامرة على ضفة النهر الكبير المعروف بنهر قرطبة وعليه جسر مربوط بالسفن وبها أسواق قائمة وتجارات رابحة وأهلها ذوو أموال عظيمة وأكثر متاجرهم الزيت وهو

يشتمل على كثير من إقليم الشرف وإقليم الشرف على تل عال من تراب أحمر مسافته أربعون ميلا في مثلها يمشي بها السائر في ظل الزيتون والتين ولها فيما ذكر بعض الناس قرى كثيرة وكل قرية عامرة بالأسواق والديار الحسنة والحمامات وغيرها من المرافق
وقال صاحب مناهج الفكر عند ذكر إشبيلية وهذه المدينة من أحسن مدن الدنيا وبأهلها يضرب المثل في الخلاعة وانتهاز فرصة الزمان الساعة بعد الساعة ويعينهم على ذلك واديها الفرج وناديها البهج وهذا الوادي يأتيها من قرطبة ويجزر في كل يوم ولها جبل الشرف وهو تراب أحمر طوله من الشمال إلى الجنوب أربعون ميلا وعرضه من المشرق إلى المغرب اثنا عشر ميلا يشتمل على مائتين وعشرين قرية قد التحفت بأشجار الزيتون واشتملت انتهى
شهرة باجة وجبل طارق
ولكورة باجة من الكور الغربية التي كانت من أعمال إشبيلية أيام بني عباد خاصية في دباغة الأديم وصناعة الكتان وفيها معدن فضة وبها ولد المعتمد بن عباد وهي متصلة بكورة ماردة
ولجبل طارق حوز قصب السبق بنسبته إلى طارق مولى موسى بن نصير

إذ كان أول ما حل به مع المسلمين من بلاد الأندلس عند الفتح ولذا شهر بجبل الفتح وهو مقابل الجزيرة الخضراء وقد تجون البحر هنالك مستديرا حتى صار مكان هذا الجبل كالناظر للجزيرة الخضراء وفيه يقول مطرف شاعر غرناطة
( وأقود قد ألقى على البحر متنه ... فأصبح عن قود الجبال بمعزل )
( يعرض نحو الأفق وجها كأنما ... تراقب عيناه كواكب منزل )
وإذا أقبل عليه المسافرون من جهة سبتة في البحر بان كأنه سرج قال أبو الحسن علي بن موسى بن سعيد أقبلت عليه مرة مع والدي فنظرنا إليه على تلك الصفة فقال والدي أجز
( انظر إلى جبل الفتح ... راكبا متن لج )
فقلت
( وقد تفتح مثل الأفنان ... في شكل سرج )
وأما جزيرة طريف فليست بجزيرة وإنما سميت بذلك الجزيرة التي أمامها في البحر مثل الجزيرة الخضراء وطريف المنسوبة إليه بربري من موالي موسى بن نصير ويقال إن موسى بعثه قبل طارق في أربعمائة رجل فنزل بهذه الجزيرة في رمضان سنة إحدى وتسعين وبعده دخل طارق

كورة طليطلة وما تشتهر به
ومن أعظم كور الأندلس كورة طليطلة وهي من متوسط الأندلس وكانت دار مملكة بني ذي النون من ملوك الطوائف وكان ابتداء ملكهم صدر المائة الخامسة وسماها قيصر بلسانه بزليطة وتأويل ذلك أنت فارح فعربتها العرب وقالت طليطلة وكانوا يسمونها وجهاتها في دولة بني أمية بالثغر الأدنى ويسمون سرقسطة وجهاتها بالثغر الأعلى وتسمى طليطلة مدينة الأملاك لأنها فيما يقال ملكها اثنان وسبعون إنسانا ودخلها سليمان بن داود عليهما السلام وعيسى بن مريم وذو القرنين وفيها وجد طارق مائدة سليمان وكانت من ذخائر اشبان ملك الروم الذي بنى إشبيلية أخذها من بيت المقدس كما مر وقومت هذه المائدة عند الوليد بن عبد الملك بمائة ألف دينار وقيل إنها كانت من زمرد أخضر ويقال إنها الآن برومة والله أعلم بذلك
ووجد طارق بطليطلة ذخائر عظيمة منها مائة وسبعون تاجا من الدر والياقوت والأحجار النفيسة وإيوان ممتلىء من أواني الذهب والفضة وهو كبير حتى قيل إن الخيل تلعب فيه فرسانها برماحهم لوسعه وقد قيل إن أواني المائدة من الذهب وصحافها من اليشم والجزع وذكروا فيها غير هذا مما لا يكاد يصدقه الناظر فيه
وبطليطلة بساتين محدقة وأنهار مخترقة ورياض وجنان وفواكه حسان مختلفة الطعوم

وضياع بديعة وقلاع منيعة وبالجملة فمحاسنها كثيرة ولعلنا نلم ببعض متنزهاتها فيما يأتي من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى
وطليطلة قاعدة ملك القوطين وهي مطلة على نهر تاجه وعليه كانت القنطرة التي يعجز الواصفون عن وصفها وكانت على قوس واحد تكنفه فرختان من كل جانب وطول القنطرة ثلاثمائة باع وعرضها ثمانون باعا وخربت أيام الأمير محمد لما عصى عليه أهلها فغزاهم واحتال في هدمها وفي ذلك يقول الحكيم عباس بن فرناس
( أضحت طليطلة معطلة ... من أهلها في قبضة الصقر )
( تركت بلا أهل تؤهلها ... مهجورة الاكناف كالقبر )
( ما كان يبقي الله قنطرة ... نصبت لحمل كتائب الكفر )
وسيأتي بعض أخبار طليطلة
مدينة المرية وما تشتهر به
ومن مشهور مدن الأندلس وهي على ساحل البحر ولها القلعة المنيعة المعروفة بقلعة خيران بناها عبد الرحمن الناصر وعظمت في دولة المنصور بن أبي عامر وولى عليها مولاه خيران فنسبت القلعة إليه وبها من صنعه الديباج ما تفوق به على سائر البلاد وفيها دار الصناعة وتشتمل كورتها على معدن الحديد والرخام ومن

عقاب من حجر قديم عجيب المنظر
وقال بعضهم كان بالمرية لنسج طرز الحرير ثمانمائة نول وللحلل النفيسة والديباج الفاخر ألف نول ولللأسقاطون كذلك وللثياب الجرجانية كذلك وللأصفهانية مثل ذلك وللعنابي والمعاجر المدهشة والستور المكللة ويصنع بها من صنوف آلات الحديد والنحاس والزجاج ما لا يوصف وفاكهة المرية يقصر عنها الوصف حسنا وساحلها أفضل السواحل وبها قصور الملوك القديمة الغريبة العجيبة وقد ألف فيها أبو جعفر ابن خاتمة تاريخا حافلا سماه ب مزية المرية على غيرها من البلاد الأندلسية في مجلد ضخم تركته من جملة كتبي بالمغرب والله سبحانه المسؤول في جمع الشمل فله الأمر من بعد ومن قبل
ووادي المرية طوله أربعون ميلا في مثلها كلها بساتين بهجة وجنات نضرة وأنهار مطردة وطيور مغردة
قال بعضهم ولم يكن في بلاد الأندلس أكثر مالا من أهل المرية ولا أعظم متاجر وذخائر وكان بها من الحمامات والفنادق نحو الألف وهي بين الجبلين بينهما خندق معمور وعلى الجبل الواحد قصبتها المشهورة بالحصانة وعلى الآخر ربضها والسور محيط بالمدينة والربض وغربيها ربض لها آخر يسمى ربض الحوض ذو فنادق وحمامات وخنادق وصناعات وقد استدار بها من كل جهة حصون مرتفعة وأحجار اولية وكأنما غربلت أرضها من

شنترة وخواصها
وقال ابن اليسع عند ذكره مدينة شنترة إن من خواصها أن القمح والشعير يزرعان فيها ويحصدان عند مضي أربعين يوما من زراعته وإن التفاح فيها دور كل واحدة ثلاثة أشبار وأكثر قال لي أبو عبد الله الباكوري وكان ثقة أبصرت عند المعتمد بن عباد رجلا من أهل شنترة أهدى إليه أربعا من التفاح ما يقل الحامل على رأسه غيرها دور كل واحدة خمسة أشبار وذكر الرجل أن المعتاد عندهم أقل من هذا فإذا أرادوا أن يجيء بهذا العظم قطعوا أصلها وأبقوا منه عشرا أو أقل وجعلوا تحتها دعامات من الخشب انتهى
شنش وسهيل وتدمير
وبحصن شنش على مرحلة من المرية التوت الكثير وفيها الحرير والقرمز ويعرف واديها بوادي طبرنش
وبغربي مالقة عمل سهيل وهو عمل عظيم كثير الضياع وفيه جبل سهيل لا يرى نجم سهيل بالاندلس إلا منه
ومن كور الأندلس الشرقية تدمير وتسمى مصر أيضا لكثرة شبهها بها لأن لها أرضا يسيح عليها نهر في وقت بخصوص من السنة ثم ينضب عنها فتزرع كما تزرع أرض مصر وصارت القصبة بعد تدمير مرسية وتسمى البستان

أقاليم الأندلس وكور كل إقليم
واعلم أن جزيرة الأندلس أعادها الله للإسلام مشتملة على موسطة وشرق وغرب
فالموسطة فيها من القواعد الممصرة التي كل مدينة منها مملكة مستقلة لها أعمال ضخام وأقطار متسعة قرطبة وطليطلة وجيان وغرناطة والمرية ومالقة فمن أعمال قرطبة إستجة وبلكونة وقبرة ورندة وغافق والمدور وأسطبة وبيانة واليسانة والقصير وغيرها ومن أعمال طليطلة وادي الحجارة وقلعة رباح وطلمنكة وغيرها ومن أعمال جيان أبذة وبياسة وقسطلة وغيرها ومن أعمال غرناطة وادي آش

ومن أعمال المرية أندرش وغيرها ومن أعمال مالقة بلش والحامة وغيرهما وببلش من الفواكه ما بمالقة وبالحامة العين الحارة على ضفة واديها
وأما شرق الأندلس ففيه من القواعد مرسية وبلنسية ودانية والسهلة والثغر الاعلى فمن أعمال مرسية أوريولة والقنت ولورقة وغير ذلك ومن أعمال بلنسية شاطبة ويضرب بحسنها المثل ويعمل بها الورق الذي لا نظير له وجزيرة شقر وغير ذلك وأما دانية فهي شهيرة ولها أعمال وأما السهلة فإنها متوسطة بين بلنسية وسرقسطة ولذا عدها بعضهم من كور الثغر الأعلى ولها مدن وحصون ومن أعمال الثغر الأعلى سرقسطة وهي أم ذلك الثغر وكورة لإرادة وقلعة رباح وتسمى بالبيضاء وكورة تطيلة ومدينتها طرسونة وكورة وشقة ومدينتها تمريط وكورة مدينة سالم وكورة قلعة أيوب ومدينتها مليانة

وأما غرب الأندلس ففيه إشبيلية وماردة وأشبونة وشلب فمن أعمال إشبيلية شريش والخضراء ولبلة وغيرها ومن أعمال ماردة بطليوس ويابرة وغيرهما ومن أعمال أشبونة شنترين وغيرها ومن أعمال شلب شنت مرية وغيرها
الجزر البحرية
وأما الجزر البحرية بالأندلس فمنها جزيرة قادس وهي من أعمال إشبيلية وقال ابن سعيد إنها من كورة شريش ولا منافاة لأن شريشا من أعمال إشبيلية كما مر قال وبيد صنم قادس مفتاح ولما ثار بقادس ابن أخت القائد أبي عبد الله بن ميمون وهو علي بن عيسى قائد البحر بها ظن أن تحت الصنم مالا فهدمه فلم يجد شيئا انتهى
وهي أعني جزيرة قادس في البحر المحيط وفي المحيط الجزائر الخالدات السبع وهي غربي مدينة سلا تلوح للناظر في اليوم الصاحي الخالي الجو من الأبخرة الغليظة وفيها سبة أصنام على أمثال الآدميين تشير أن لا عبور ولا مسلك وراءها وفيه بجهة الشمال جزائر السعادات وفيها من المدن والقرى ما لا يحصى ومنها يخرج قوم يقال لهم المجوس على دين النصارى أولها جزيرة برطانية وهي بوسط البحر المحيك بأقصى شمال الأندلس ولا جبال فيها ولا عيون وإنما يشربون من ماء المطر ويزرعون عليه
قال ابن

كثير السمك ومنها يحمل مملحا إلى إشبيلية وهي من كورة لبلة مضافة إلى عمل أونبة انتهى
قرطاجنة وخواصها
وقال بعضهم لما أجرى ذكر قرطاجنة من بلاد الأندلس إن الزرع في بعض أقطارها يكتفي بمطرة واحدة وبها أقواس من الحجارة المقربصة وفيها من التصاوير والتماثيل وأشكال الناس وصور الحيوانات ما يحير البصر والبصيرة ومن أعجب بنائها الدواميس وهي أربعة وعشرون على صف واحد من حجارة مقربصة طول كل داموس مائة وثلاثون خطوة في عرض ستين خطوة وارتفاع كل واحد أكثر من مائتي ذراع بين كا داموسين أنقاب محكمة تتصل فيها المياه من بعضها إلى بعض في العلو الشاهق بهندسة عجيبة وإحكام بديع انتهى
قلت أظن هذا غلظا فإن قرطاجنة التي بهذه الصفة قرطاجنة إفريقية لا قرطاجنة الأندلس والله أعلم
وقال صاحب مناهج الفكر عندما ذكر قرطاجنة وهي على البحر الرومي مدينة قديمة بقي منها آثار

معمور بالقرى انتهى
وذكر قبل ذلك في لورقة أن بناحيتها يوجد حجر اللازورد
وفي البحر الشامي الخارج من المحيط جزيرتا ميورقة ومنورقة وبينهما خمسون ميلا وجزيرة ميورقة مسافة يوم بها مدينة حسنة وتدخلها ساقية جارية على الدوام وفيها يقول ابن اللبانة
( بلد أعارته الحمامة طوقها ... وكساه حلة ريشه الطاووس )
( فكأنما الأنهار فيه مدامة ... وكأن ساحات الديار كؤوس )
وقال يخاطب ملكها ذلك الوقت
( وغمرت بالإحسان أرض ميورقة ... وبنيت ما لم يبنه الإسكندر )
وجزيرة يابسة
واستقصاء ما يتعلق بهذا الفصل يطول ولو تتبع لكان تأليفا مستقلا وما

( إن للجنة بالأندلس ... مجتلى حسن وريا نفس )
( فسنا صبحتها من شنب ... ودجى ليلتها من لعس )
( وإذا ما هبت الريح صبا ... صحت واشوقي إلى الأندلس )
وقال بعضهم في طليطلة
( زادت طليطلة على ما حدثوا ... بلد عليه نضرة ونعيم )
( الله زينه فوشح خصره ... نهر المجرة والغصون نجوم )
رسالة أبي البحر في تغاير مدن الأندلس
ولا حرج إن أوردنا هنا ما خاطب به أديب الأندلس أبو بحر صفوان بن إدريس الأمير عبد الرحمن ابن السلطان يوسف بن عبد المؤمن بن علي فإنه مناسب ونصه مولاي أمتع الله ببقائك الزمان وأبناءه كما ضم على حبك أحناءهم وأحناءه ووصل لك ما شئت من اليمن والأمان كما نظم قلائد فخرك على لبة الدهر نظم الجمان فإنك الملك الهمام والقمر التمام أيامك غرر وحجول وفرند بهائها في صفحات الدهر يجول ألبست الرعية برود التأمين فتنافست فيك من نفيس ثمين وتلقت دعوات خلدك لها باليمين فكم للناس من أمن بك وإيناس وللأيام من لوعة فيك وهيام وللأقطار من لبانات لديك وأوطار وللبلاد من قراع لها على تملكك لها وجلاد يتمنون شخصك الكريم على الله ويقترحون ويغتبقون في رياض ذكرك العاطر بمدام حبك ويصطحبون ( كل حزب بما لديهم فرحون ) الروم 32 محبة من الله ألقاها لك حتى على الجماد

مؤزرا تنطق به ألسنة السيوف على أفواه الأغماد ومن أسر سريرة ألبسه الله رداءها ومن طوى حسن نية ختم الله له بالجميل إعادتها وإبداءها ومن قدم صالحا فلا بد أن يوازيه ومن يفعل الخير لا يعدم جوازيه ولما تخاصمت فيك من الأندلس الأمصار وطال بها الوقوف على حبك والاقتصار كلها يفصح قولا ويقول أنا أحق وأولى ويصيخ إلى إجابة دعوته ويصغي ويتلو إذا بشر بك ( ذلك ما كنا نبغ ) الكهف 64 تنمرت حمص غيظا وكادت تفيض فيضا وقالت ما لهم يزيدون وينقصون ويطمعون ويحرصون ( إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون ) يونس 66 لي السهم الأسد والساعد الأشد والنهر الذي يتعاقب عليه الجزر والمد أنا مصر الأندلس والنيل نهري وسماء التأنس والنجوم زهري إن تجاريتم في ذلك الشرف فحسبي أن أفيض في ذكر الشرف وإن تبجحتم بأشرف اللبوس فأي إزار اشتملتموه كشنتبوس لي ما شئت من أبنيه رحاب وروض يستغني بنضرته عن السحاب قد ملأت زهراتي وهادا ونجادا وتوشح سيف نهري بحدائقي نجادا فأنا أولاكم بسيدنا الهمام وأحق ( الآن حصحص الحق ) يوسف 51
فنظرتها قرطبة

الأصم بزرا كلام العدى ضرب من الهذيان وأنى للإيضاح والبيان متى استحال المستقبح مستحسنا ومن أودع أجفان المهجور وسنا ( أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا ) فاطر 8 يا عجبا للمراكز تقدم على الأسنة وللأثفار تفضل على الإعنة إن ادعيتم سبقا فما عند الله خير وأبقى لي البيت المطهر الشريف والاسم الذي ضرب عليه رواقه التعريف في بقيعي محل الرجال الأفاضل فليرغم أنف المناضل وفي جامعي مشاهد ليلة القدر فحسبي من نباهة القدر فما لأحد أن يستأثر علي بهذا السيد الأعلى ولا أرتضي له أن يوطىء غير ترابي نعلا فأقروا لي بالأبوة وانقادوا على حكم النبوة ( ولا تكونوا كالتي نقضت نقضت غزرها من بعد قوة ) وكفوا عن تباريكم ( ذلكم خير لكم عند بارئكم )
فقالت غرناطة لي المعقل الذي يمتنع ساكنه من النجوم ولا تجري إلا تحته جياد الغيم السجوم فلا يلحقني من معاند ضرر ولا حيف ولا يهتدي إلي خيال طارق ولا طيف فاستسلموا قولا وفعلا فقد أفلح اليوم من استعلى لي بطاح تقلدت من جداولها أسلاكا واطلعت كواكب زهرها فعادت أفلاكا ومياه تسيل على أعطافي كأدمع العشاق وبرد نسيم يرد ذ ماء المستجير بالانتشاق فحسبي لا يطمع فيه ولا يحتال فدعوني فكل ذات ذيل تختال فأنا أولى بهذا السيد الأعدل وما لي به من عوض ولا بدل ولم لا يعطف علي

( بلاد بها عق الشباب تمائمي ... وأول أرض مس جلدي ترابها )
فما لكم تعتزون لفخري وتنتمون وتتأخرون في ميداني وتتقدمون تبرأوا إلي مما تزعمون ( ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ) التوبة 41
فقالت مالقة أتتركوني بينكم هملا ولم تعطوني في سيدنا أملا ولم ولي البحر العجاج والسبل الفجاج والجنات الأثيرة والفاكهة الكثيرة لدي من البهجة ما تستغني به الحمام عن الهديل ولا تجنح الأنفس الرقاق الحواشي إلى تعويض عنه ولا تبديل فما لي لا أعطي في ناديكم كلاما ولا انشر في جيش فخاركم أعلاما
فكأن الأمصار نظرتها ازدراء فلم تر لحديثها في ميدان الذكر إجراء لأنها موطن لا يحلى منه بطائل ونظن البلاد تأولت فيها قول القائل
( إذا نطق السفيه فلا تجبه ... فخير من إجابته السكوت )
فقالت مرسية أمامي تتعاطون الفخر وبحضرة الدر تنفقون الصخر إن عدت المفاخر فلي منها الأول والآخر أين أوشالكم من بحري وخرزكم من لؤلؤ نحري وجعجعتكم من نفثات سحري فلي الروض النضير والمرأى الذي ما له من نظير وزنقاتي التي سار مثلها في الآفاق وتبرقع وجه جمالها بغرة الإصفاق فمن دوحات كم لها من بكور وروحات ومن أرجاء إليها تمد أيدي الرجاء فأبنائي فيها في الجنة الدنيوية مودعون يتنعمون فيما يأخذون ويدعون ولهم فيها ما تشتهي أنفسهم ولهم فيها ما يدعون فانقادوا لأمري وحاذروا اصطلاء جمري وخلوا

بيني وبين سيدنا أبي زيد وإلا ضربتكم ضرب زيد فأنا أولاكم بهذا الملك المستأثر بالتعظيم ( وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ) فصلت 35
فقالت بلنسية فيم الجدال والقراع وعلام الاستهام والاقتراع وإلام التعريض والتصريح وتحت الرغوة اللبن الصريح أنا أحوزه من دونكم فأخمدوا ناري تحرككم وهدونكم فلي المحاسن الشامخة الأعلام والجنات التي تلقي إليها الآفاق يد الاستسلام وبرصافتي وجسري أعارض مدينة السلام فأجمعوا على الانقياد لي والسلام وإلا فعضوا بنانا واقرعوا أسنانا فأنا حيث لا تدركون وأنى ومولانا لا يهلكنا بما فعل السفهاء منا
فعند ذلك ارتمت جمرة تدمير بالشرار واستدت أسهمها لنحور الشرار وقالت عش رجبا تر عجبا أبعد العصيان والعقوق تتهيئين لرتب ذوي الحقوق هذه سماء الفخر فمن ضمك أن تعرجي ليس بعشك فادرجي لك الوصب والخبل ( آلآن وقد عصيت قبل ) يونس 91 أيتها الصانعة الفاعلة من أداك أن تطري وما أنت ناعلة ما الذي يجديك الروض والزهر أم ما يفيدك الجدول والنهر وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر هل أنت إلا محط رحل النفاق

لسوق الخصب فيه من نفاق ذراك لا يكتحل الطرف فيه بهجوع وقراك لا يسمن ولا يغني من جوع فإلام تبرز الإماء في منصة العقائل ولكن اذكري قول القائل
( بلنسية بيني عن القلب سلوة ... فإنك روض لا أحن لزهرك )
( وكيف يحب المرء دارا تقسمت ... على صارمي جوع وفتنة مشرك )
بيد أني أسأل الله تعالى أن يوقد من توفيقك ما خمد ويسيل من تسديدك ما جمد ولا يطيل عليك في الجهالة الأمد وإياه سبحانه نسأل أن يرد سيدنا ومولانا إلى أفضل عوائده ويجعل مصائب أعدائه من فوائده ويمكن حسامه من رقاب المشغبين ويبقيه وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ويصل له تأييدا وتأبيدا ويمهد له الأيام حتى تكون الأحرار لعبيد عبيده عبيدا ويمد على الدنيا بساط سعده ويهبه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده
( آمين آمين لا أرضى بواحدة ... حتى أضيف إليها ألف آمينا )
ثم السلام الذي يتأنق عبقا ونشرا ويتألق رونقا وبشرا على حضرتهم العلية ومطالع أنوارهم الجلية ورحمة الله تعالى وبركاته انتهى
عود إلى ذكر غرناطة
ولما ألم الرحالة ابن بطوطة في رحلته بدخوله

الله تعالى للإسلام قال فوصلت إلى بلاد الأندلس حرسها الله تعالى حيث الأجر موفور للساكن والثواب مذخور للمقيم والظاعن إلى أن قال عند ذكره غرناطة ما نصه قاعدة بلاد الأندلس وعروس مدنها وخارجها لا نظير له في الدنيا وهو مسيرة أربعين ميلا يخترقه نهر شنيل المشهور وسواه من الأنهار الكثيرة والبساتين والجنات الرياضات والقصوروالكروم محدقة بها من كل جهة ومن عجيب مواضعها عين الدمع وهو جبل فيه الرياضات والبساتين لا مثل له بسواها انتهى
وقال الشقندي غرناطة دمشق بلاد الأندلس ومسرح الأبصار ومطمح الأنفس ولم تخل من أشراف أماثل وعلماء أكابر وشعراء أفاضل ولو لم يكن بها إلا ما خصها الله تعالى به من كونها قد نبغ فيها النساء الشواعر كنزهون القلعية والركونية وغيرهما وناهيك بهما في الظرف والأدب انتهى
ولبعضهم يتشوق إلى غرناطة فيما ذكر بعض المؤرخين والصواب أن الأبيات قيلت في قرطبة كما مر والله أعلم
( أغرناطة الغراء هل لي أوبة ... إليك وهل يدنو لنا ذلك العهد )
( سقى الجانب الغربي منك غمائم ... وقعقع في ساحات روضتك الرعد )
( لياليك أسحار وأرضك جنة ... وتربك في استنشاقها عنبر ورد )
وقال

( رعى الله بالحمراء عيشا قطعته ... ذهبت به للأنس والليل قد ذهب )
( ترى الأرض منها فضة فإذا اكتسبت ... بشمس الضحى عادت سبيكتها ذهب )
وهو القائل
( لا تظنوا أن شوقي خمدا ... بعدكم أو أن دمعي جمدا )
( كيف أسلوا عن أناس مثلهم ... قل أن تبصر عيني أحدا )
وغرناطة من أحسن بلاد الأندلس وتسمى بدمشق الأندلس لأنها أشبه شيء بها ويشقها نهر حدره ويطل عليها الجبل المسمى بشلير الذي لا يزول الثلج عنه شتاء وصيفا ويجمد عليه حتى يصير كالحجر الصلد وفي أعلاه الأزاهر الكثيرة وأجناس الأفاوية الرفعية ونزل بها أهل دمشق لما جاءوا إلى الأندلس لأجل الشبه المذكور وقرى غرناطة فيما ذكر بعض المتأخرين مائتان وسبعون قرية
وقال ابن جزي مرتب رحلة ابن بطوطة بعد ذكره كلامه ما نصه قال ابن جزي لولا خشية أن أنسب إلى العصبية لأطلت القول في وصف غرناطة فقد وجدت مكانه ولكن ما اشتهر كاشتهارها لا معنى لإطالة القول فيه ولله در شيخنا أبي بكر ابن محمد بن شبرين السبتي نزيل غرناطة حيث يقول
( رعى الله من غرناطة متبوأ ... يسر حزينا أو يجير طريدا )
( تبرم منها صاحبي عندما رأى ... مسارحها بالثلج عدن جليدا )

( هي الثغر صان الله من أهلت به ... وما خير ثغر لا يكون برودا )
وقال ابن سعيد عندما أجرى ذكر قرية نارجة وهي قرية كبيرة تضاهي المدن قد أحدقت بها البساتين ولها نهر يفتن الناظرين وهي من أعمال مالقة إنه اجتاز مرة عليها مع والده أبي عمران موسى وكان ذلك الزمان صباغة الحرير عندهم وقد ضربوا في بطن الوادي بين مقطعاته خيما وبعضهم يشرب وبعضهم يغني ويطرب وسألوا بم يعرف ذلك الموضع فقالوا الطراز فقال والدي اسم طابق مسماه ولفظ وافق معناه
( وقد وجدت مكان القول ذا سعة ... فإن وجدت لسانا قائلا فقل ثم قال اجز
( بنارجة حيث الطراز المنمنم ... ) فقلت
( أقم فوق نهر ثغره يتبسم ... ) فقال
( وسمعك نحو الهاتفات فإنها ... ) فقلت
( لما أبصرت من بهجة تترنم ... ) فقال
( أيا جنة الفردوس لست بآدم ... ) فقلت
( فلا يك حظي من جناك التندم ... ) فقال
( يعز علينا أن نزورك مثل ما ... ) فقلت
( يزور خيال من سليمى مسلم ... ) فقال
( فلو أنني أعطي الخيار لم عدت ... ) فقلت
( محلك لي عين بمرآك تنعم ... ) فقال
( بحيث الصبا

فقلت
( وقت لسع روض فيه للنهر أرقم ... ) فقال
( فوا أسفي إن لم تكن لي عودة ... ) فقلت
( فكن مالكا إني عليك متمم ... ) فقال
( فأحسب هذا آخر العهد بيننا ) فقلت
( وقد يلحظ الرحمن شوقي فيرحم ... ) فقال
( سلام سلام لا يزال مرددا ... ) فقلت
( عليك ولا زالت بك السحب تسجم ... )
بلنسية وبعض قراها
وقال ابن سعيد إن كورة بلنسية من شرق الأندلس تنبت الزعفران وتعرف بمدينة التراب وبها كمثرى تسمى الأرزة في قدر حبة العنب قد جمع مع حلاوة المطعم ذكاء الرائحة إذا دخل دارا عرف بريحه ويقال إن ضوء بلنسية يزيد على ضوء سائر بلاد بالأندلس وبها منازه ومسارح ومن أبدعها وأشهرها الرصافة ومنية ابن أبي عامر
وقال الشرف أبو جعفر بن مسعدة الغرناطي من أبيات فيها
( هي الفردوس في الدنيا جمالا

( ضاقت بلنسية بي ... وذاد عني غموضي )
( رقص البراغيث فيها ... على غناء البعوض )
وفيها لابن الزقاق البلنسي
( بلنسية إذا فكرت فيها ... وفي آياتها أسنى البلاد )
( وأعظم شاهدي منها عليها ... وأن جمالها للعين بادي )
( كساها ربها ديباج حسن ... له علمان من بحر ووادي )
وقال ابن سعيد أيضا أنشدني والدي قال أنشدني مروان بن عبد الله ابن عبد العزيز ملك بلنسية لنفسه بمراكش قوله
( كأن بلنسية كاعب ... وملبسها سندس أخضر )
( إذا جئتها سترت نفسها ... بأكمامها فهي لا تظهر )
وأما قول أبي عبد الله بن عياش بلنسية بيني البيتين وقد سبقا فقال ابن سعيد إن ذلك حيث صارت ثغرا يصابحها العدو ويماسيها انتهى
وقال أبو الحسن بن حريق يجاوب ابن عياش
( بلنسية قرارة كل حسن ... حديث صح في شرق وغرب

( فإن قالوا محل غلاء سعر ... ومسقط ديمتي طعن وضرب )
( فقل هي جنة حفت رباها ... بمكروهين من جوع وحرب )
وقال الرصافي في رصافتها
( ولا كالرصافة من منزل ... سقته السحائب صوب الولي )
( أحن إليها ومن لي بها ... وأين السري من الموصلي )
وقال ابن سعيد وبرصافة بلنسية مناظر وبساتين ومياه ولا نعلم في الأندلس ما يسمى بهذا الإسم إلا هذه ورصافة قرطبة انتهى
ومن أعمال بلنسية قرية المنصف التي منها الفقيه الزاهد أبو عبد الله المنصفي وقبره كان بسبتة يزار رحمه الله تعالى ومن نظمه
( قالت لي النفس أتاك الردى ... وأنت في بحر الخطايا مقيم )
( فما ادخرت الزاد قلت اقصري ... هل يحمل الزاد لدار الكريم )
ومن عمل بلنسية قرية بطرنة وهي التي كانت فيها الوقيعة المشهورة للنصارى على المسلمين وفيها يقول أبو إسحاق بن معلى الطرسوني
( لبسوا الحديد إلى الوغى ولبستم ... حلل الحرير عليكم ألوانا )
( ما كان أقبحهم وأحسنكم بها ... لو لم يكن ببطرنة ما كانا )
ومن عمل بلنسية متيطة التي نسب إليه جماعة من العلماء والأدباء

ومن عمل بلنسية مدينة أندة التي في جبلها معدن الحديد وأما رندة بالراء فهي في متوسط الأندلس ولها حصن يعرف بأندة أيضا
متفرجات إشبيلية
وفي إشبيلية أعادها الله من المتفرجات والمتنزهات كثير ومن ذلك مدينة طريانة فإنها من مدن إشبيلية ومنتزهاتها وكذلك تيطل فقد ذكر ابن سعيد جزيرة تيطل في المتفرجات
موسى بن سعيد يأبى فراق الأندلس
وقال أبو عمران موسى بن سعيد في جوابه لأبي يحيى صاحب سبتة لما استوزره مستنصر بني عبد المؤمن وكتب إلى المذكور يرغبه في النقلة عن الأندلس إلى مراكش ما نص محل الحاجة منه وأما ما ذكر سيدي من التخيير بين ترك الأندلس وبين الوصول إلى حضرة مراكش فكفى الفهم العالي من الإشارة قول القائل
( والعز محمود وملتمس ... وألذة ما نيل في الوطن )
فإذا نلت بك السماء في تلك الحضرة فعلى من أسود فيها ومن ذا أضاهي بها
( لا رقت بي همة إن لم أكن ... فيك قد أملت فوق الأمل )
وبعد هذا فكيف أفارق الأندلس وقد علم سيدي

حباها الله به من اعتدال الهواء وعذوبة لماء وكثافة الأفياء وأن الإنسان لا يبرح فيها بين قرة عين وقرار نفس
( هي الأرض لا ورد لديها مكدر ... ولا ظل مقصور ولا روض مجدب )
أفق صقيل وبساط مدبج وماء سائح وطائر مترنم بليل وكيف يعدل الأديب عن أرض على هذه الصفة فيا سموأل الوفاء ويا حاتم السماح ويا جذيمة الصفاء كمل لمن أملك النعمة بتركه في موطنه غير مكدر لخاطره بالتحرك من معدنه ملتفتا إلى قول القائل
( وسولت لي نفسي أن أفارقها ... والماء في المزن أصفى منه في الغدر )
فإن أغناه اهتمام مؤمله عن ارتياد المراد وبلغه دون أن يشد قتبا ولا أن ينضي عيسا غاية المراد أنشد ناجح المرغوب بالغ المطلوب
( وليس الذي يتبع الوبل رائدا ... كمن جاءه في داره رائد الوبل )
ورب قائل إذا سمع هذا التبسط على الأماني ما له تشطط وعدل عن سبيل التأدب وتبسط ولا جواب عندي إلا قول القائل
( فهذه خطة ما زلت أرقبها ... فاليوم أبسط آمالي وأحتكم )
وما لي لا أنشد ما قاله المتنبي في سيف الدولة
( ومن كنت بحرا له يا علي ... لم يقبل

شريش ومجبناتها
وقال الحجاري إن مدينة شرقين بنت إشبيلية وواديها ابن واديها ما أشبه سعدى بسعيد وهي مدينة جليلة ضخمة الأسواق لأهلها همم وظرف في اللباس وإظهار الرفاهية وتخلق بالآداب ولا تكاد ترى بها إلا عاشقا ومعشوقا ولها من الفواكه ما يعم ويفضل ومما اختصت به إحسان الصنعة في المجبنات وطيب جبنها يعين على ذلك ويقول أهل الأندلس من دخل شريش ولم يأكل بها المجبنات فهو محروم انتهى
والمجبنات نوع من القطائف يضاف إليها الجبن في عجينها وتقلى بالزيت الطيب
شلب وكورة أكشونبة
وفي شلب يقول الفاضل الكاتب أبو عمرو بن مالك بن سيدمير
( أشجاك النسيم حين يهب ... أم سنى البرق إذ يخب ويخبو )
( أم هتوف على الأراكة تشدو ... أم هتون من الغمامة سكب )
( كل هذاك للصبابة داع ... أي صب دموعه لا تصب )
( أنا لولا النسيم والبرق والورق ... وصوب الغمام ما كنت أصبو )
( ذكرتني شلبا وهيهات مني ... بعدما استحكم التباعد شلب )
وتسمى أعمال شلب كورة أكشونبة وهي متصلة بكورة أشبونة وهي أعني أكشونبة قاعدة جليلة

وبينها وبين قرطبة سبعة أيام ولما صارت لبني عبد المؤمن ملوك مراكش أضافوها إلى كورة إشبيلية وتفتخر شلب بكون ذي الوزارتين ابن عمار منها سامحه الله
ومنها القائد أبو مروان عبد الملك بن بدران وربما قيل ابن بدرون الأديب المشهور شارح قصيدة ابن عبدون التي أولها
( الدهر يفجع بعد العين بالأثر ... فما البكاء على الأشباح والصور )
وهذا الشرح شهير بهذه البلاد المشرقية ومن نظم ابن بدرون المذكور قوله
( العشق لذته التعنيق والقبل ... كما منغصه التثريب والعذل )
( يا ليت شعري هل يقضى وصالكم ... لولا المنى لم يكن ذا العمر يتصل )
ومنها نحوي زمانه وعلامته أبو محمد عبد الله بن السيد البطليوسي فإن شلبا بيضته ومنها كانت حركته ونهضته كنا في الذخيرة وهو القائل
( إذا سألوني عن حالتي ... وحاولت عذرا فلم يمكن )
( أقول بخير ولكنه ... كلام يدور على الألسن )
( وربك يعلم

اشعار في بطليوس وشاطبة وبرجة
وقال الوزير أبو عمرو بن الفلاس يمدح بطليوس بقوله
( بطليوس لا أنساك ما اتصل البعد ... فلله غور في جنابك أو نجد )
( ولله دوحات تحفك بينها ... تفجر واديها كما شقق البرد )
وبنو الفلاس من أعيان حضرة بطليوس وأبو عمرو المذكور أشهرهم وهو من رجال الذخيرة والمسهب رحمه الله تعالى
وفي شاطبة يقول بعضهم
( نعم ملقى الرحل شاطبة ... لفتى طالت به الرحل )
( بلدة أوقاتها سحر ... وصبا في ذيله بلل )
( ونسيم عرفه أرج ... ورياض غصنها ثمل )
( ووجوه كلها غرر ... وكلام كله مثل )
وفي برجة يقول بعضهم
( إذا جئت برجة مستوفزا ... فخذ في المقام وخل السفر )
( فكل مكان بها جنة ... وكل طريق إليها سقر )
وقد تقدم هذان البيتان
رسالة للسان الدين في تفضيل الجهاد على الحج
واعلم أنه لو لم يكن للأندلس من الفضل سوى كونها ملاعب الجياد للجهاد

لكان كافيا ويرحم الله لسان الدين بن الخطيب حيث كتب على لسان سلطانه إلى بعض العلماء العاملين ما فيه إشارة إلى بعض ذلك ما نصه من أمير المسلمين فلان إلى الشيخ كذا ابن الشيخ كذا وصل الله له سعادة تجذبه وعناية إليه تقربه وقبولا منه يدعوه إلى خير ما عند الله ويندبه سلام كريم عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد حمد الله المرشد المثيب السميع المجيب معود اللطف الخفي والصنع العجيب المتكفل بإنجاز وعد النصر العزيز والفتح القريب والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله ذي القدر الرفيع والعز المنيع والجناب الرحيب الذي به نرجو ظهور عبدة الله على عبدة الصليب ونستظهر منه على العدو بالحبيب ونعده عدتنا لليوم العصيب والرضا عن آله وصحبه الذين فازوا من مشاهدته بأوفى النصيب ورموا إلى هدف مرضاته بالسهم المصيب فإنا كتبناه إليكم كتب الله تعالى لكم عملا صالحا يختم الجهاد صحائف بره وتتمحض لأن تكون كلمة الله هي العليا جوامع أمره وجعلكم ممن تنهى في الأرض التي فتح فيها أبواب الجنة حصة عمره من حمراء غرناطة حرسها الله تعالى ولطف الله هامي السحاب وصنعه رائق الجناب والله يصل لنا ولكم ما عوده من صلة لطفه عند انبتات الأسباب وإلى هذا ايها المولى الذي هو بركة المغرب المشار إليه بالبنان وواحدة في رفعة الشان المؤثر ما عند الله على الزخرف الفتان المتقلل من المتاع الفان المستشرف إلى مقام العرفان من درج الإسلام والإيمان والاحسان فإننا لما نؤثره من بركم الذي نعده من الأمر الأكيد ونضمره من ودكم الذي نحله محل الكنز العتيد ونلتمسه من دعائكم التماس العدة والعديد

عن أحوالكم التي ترقت في أطوار السعادة ووصلت جناب الحق بهجر العادة وألقت إلى يد التسليم لله والتوكل عليه بالمقادة فنسر بما هيأ الله تعال لكم من القبول وبلغكم من المأمول وألهمكم من الكلف بالقرب إليه والوصول والفوز بما لديه والحصول وعندما رد الله تعالى علينا ملكنا الرد الجميل وأنالنا فضله الجزيل وكان لعثارنا المقيل خاطبناكم بذلك لمكانكم من ودادنا ومحلكم من حسن اعتقادنا ووجهنا إلى وجهة دعائكم وجه اعتدادنا والله ينفعنا بجميل الظن في دينكم المتين وفضلكم المبين ويجمع الشمل بكم في الجهاد عن الدين وتعرفنا الآن ممن له بأنبائكم اعتناء وعلى جلالكم حمد وثناء ولجناب ودكم اعتزاء وانتماء بتجاول عزمكم بين حج مبرور ترغبون من أجره في ازدياد وتجددون العهد منه بأليف اعتياد وبين رباط في سبيل الله وجهاد وتوثير مهاد بين ربي أثيرة عند الله ووهاد يحشر ويوم القيامة شهداؤها مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين فرحين بما آتاهم الله من فضله والله أصدق القائلين الصاديقين حيث لا غارة لغير عدو الإسلام تتقى إلا لابتغاء ما لدى الله ترتقى حيث رحمة الله قد فتحت ابوابها وحور الجنان قد زينت أترابها دار العرب الذين قرعوا باب الفتح وفازوا بجزيل المنح وخلدوا الآثار وأرغموا الكفار وأقالوا العثار وأخذوا الثار وأمنوا من لفح جهنم بما علا وجوههم من ذلك الغبار فكتبنا إليكم هذا نقوي بصيرتكم على جهة الجهاد من العزمين ونهيب بكم إلى إحدى الحسنيين والصبح غير خاف على ذي عينين والفضل ظاهر لإحدى المنزلتين فإنكم إذا حججتم أعدتم فرضا أديتموه وفضلا ارتديتموه فائدته عليكم مقصورة

حسناتكم عملا غريبا واستأنفتم سعيا من الله قريبا وتعدت المنفعة إلى ألوف من النفوس المستشعرة لباس البوس ولو كان الجهاد بحيث يخفى عليكم فضله لأطنبنا وأعنة الاستدلال أرسلنا هذا لو قدمتم على هذا الوطن وفضلكم غفل من الاشتهار ومن به لا يوجب لكم ترفيع المقدار فكيف وفضلكم أشهر من محيا النهار ولقاؤكم أشهى الأمال وآثر الأوطار فإن قوي عزمكم والله يقويه ويعيننا من بركم على ما ننويه فالبلاد بلادكم وما فيها طريفكم وتلادكم وكهولها إخوانكم وأحداثها أولادكم ونرجو أن تجدوا لذكركم الله في رباها حلاوة زائدة ولا تعدموا من روح الله فيها فائدة وتتكيف نفسكم فيها تكيفات تقصر عنها خلوات السلوك إلى ملك الملوك حتى تعتبطوا بفضل الله الذي يوليكم وتروا أثر رحمته فيكم وتخلفوا فخر هذا الانقطاع إلى الله في قبيلكم وبينكم وتختموا العمر الطيب بالجهاد الذي يعليكم ومن الله تعالى يدنيكم فنبيكم العربي صلوات الله عليه وسلامه نبي الرحمة والملاحم ومعمل الصوارم وبجهاد الفرنج ختم عمل جهاده والاعمال بالخواتم هذا على بعد بلادهم من بلاده وأنتم أحق الناس باقتفاء جهاده والاستباق إلى آماده هذا ما عندنا حثثناكم عليه وندبناكم إليه وأنتم في إيثار هذا الجوار ومقارضة ما عندنا بقدومكم على بلادنا من الاستبشار بحسب ما يخلق عنكم من بيده مقادة الاختيار وتصريف الليل والنهار وتقليب القلوب وإجالة الأفكار وإذا تعارضت الحظوظ فما عند الله خير للأبرار والدار الآخرة دار القرار وخير الأعمال عمل أوصل إلى الجنة وباعد من النار ولتعلموا أن نفوس أهل الكشف والاطلاع بهذه الأرجاء والأصقاع قد اتفقت أخبارها واتحدت أسرارها على البشارة بفتح قرب أوانه وأظل زمانه فنرجو الله

ويكرم فيه مسعاه ويسلف فيه العمل الذي يشكره الله ويرعاه والسلام الكريم يخصكم ورحمة الله وبركاته انتهى
تشبيه الأندلس بالعقاب
ولم دخل الأندلس أمير المسلمين علي ابن أمير المسلمين يوسف بن تاشقين اللمتوني ملك المغرب والأندلس وامعن النظر فيها وتأمل وصفها وحالها قال إنها تشبه عقابا مخالبه طليطلة وصدره قلعة رباح ورأسه جيان ومنقاره غرناطة وجناحه الأيمن باسط إلى المغرب وجناحه الأيسر باسط إلى المشرق في خبر طويل لم يحضرني الآن إذ تركته مع كتبي بالمغرب جمعني الله بها على أحسن الأحوال
المخزومي الأعمى ونزهون الغرناطية
ومع كون أهل الأندلس سباق حلبة الجهاد معطعين إلى داعية من الجبال والوهاد فكان لهم في الترف والنعيم والمجون ومداراة الشعراء خوف الهجاء محل وثير المهاد وسيأتي في الباب السابع من هذا القسم من ذلك وغيره ما يشفي ويكفي ولكن سنح لي أن أذكر هنا حكاية أبي بكر المخزومي الهجاء المشهور الذي قال فيه لسان الدين بن الخطيب في الإحاطة إنه كان أعمى شديد الشر معروفا بالهجاء مسلطا على الأعراض سريع الجواب ذكي الذهن فطنا للمعاريض سابقا في ميدان الهجاء فإذا مدح ضعف شعره والحكاية هي ما حكاه أبو الحسن ابن سعيد في الطالع السعيد إذ قال حكاية عن أبيه فيما أظن قدم المذكور يعني المخزومي على غرناطة أيام ولاية أبي بكر

ونزل قريبا مني وكنت أسمع به بنار صاعقة يرسلها الله على من يشاء من عباده ثم رأيت أن أبدأه بالتأنيس والإحسان فاستدعيته بهذه الأبيات
( يا ثانيا للمعري ... في حسن نظم ونثر )
( وفرط ظرف ونبل ... وغوص فهم وفكر )
( صل ثم واصل حفيا ... بكل بر وشكر )
( وليس إلا حديث ... كما وهي عقد در )
( وشادن يتغنى ... على رباب وزمر )
( وما يسامح فيه الغفور ... من كأس خمر )
( وبيننا عهد حلف ... لياسر حلف كفر )
( نعم فجدده عهدا ... بطيب سكر ويسر )
( والكأس مثل رضاع ... ومن كمثلك يدري )
ووجه له الوزير أبو بكر ابن سعيد عبدا صغيرا قاده فلما استقر به المجلس وأفعمته روائح الند والعود والأزهار وهزت عطفه الأوتار قال
( دار السعيدي ذي أم دار رضوان ... ما تشتهي النفس فيها حاضر داني )
( سقت أباريقها للند سحب ندى ... تحدى برعد لأوتار وعيدان )
( والبرق من كل دن ساكب مطرا ... يحيا به ميت أفكار وأشجان )
( هذا النعيم الذي كن نحدثه ... ولا سبيل له إلا بآذان )
فقال له أبو بكر ابن سعيد وإلى

يبعث الله ولد زنى كلما أنشدت هذه الأبيات قال إن قائلها أعمى فقال أما أنا فما أنطق بحرف فقال من صمت نجا وكانت نزهون بنت القلاعي حاضرة فقالت وتراك يا استاذ قديم النعمة بمجمر ند وغناء وشراب فتعجب من تأتيه وتشبهه بنعيم الجنة وتقول ما كان يعلم إلا بالسماع ولا يبلغ إليه بالعيان ولكن من يجيء من حصن المدور وينشأ بين تيوس وبقر من أين له معرفة بمجالس النعيم فلما استوفت كلامها تنحنح الإعمى فقالت له ذبحة فقال من هذه الفاضلة فقالت عجوز مقام أمك فقال كذبت ما هذا صوت عجوز إنماهذه نغمة قحبة محترقة تشم روائح هنها على فرسخ فقال له ابو بكر يا أستاذ هذه نزهون بنت القلاعي الشاعرة الأديبة فقال سمعت بها لا أسمعها الله خيرا ولا أراها إلا ايرا فقالت له يا شيخ سوء تناقضت وأي خير للمرأة مثل ما ذكرت ففكر ساعة ثم قال
( على وجه نزهون من الحسن مسحة ... وإن كان قد أمسى من الضوء عاريا )
( قواصد نزهون توارك غيرها ... ومن قصد البحر استقل السواقيا )
فأعملت فكرها ثم قالت
( قل للوضيع مقالا ... يتلى إلى حين يحشر )
( من المدور أنشت ... والخرا منه أعطر )
( حيث البداوة أمست ... في مشيها تتبختر )
( لذاك أمسيت صبا ... بكل شيء مدور )
( خلقت أعمى ولكن ... تهيم في كل أعور

( إن كنت في الخلق أنثى ... فإن شعري مذكر )
فقال لها اسمعي
( ألا قل لنزهونة ما لها ... تجر من التيه أذيالها )
( ولو أبصرت فيشة شمرت ... كما عودتني سربالها )
فحلف ابو بكر ابن سعيد أن لا يزيد أحدهما على الآخر في هجوه كلمة فقال المخزومي أكون هجاء الأندلس واكف عنها دون شيء فقال أنا أشتري منك عرضها فاطلب فقال بالعبد الذي أرسلته فقادني إلى منزلك فإنه لين اليد رقيق المشي فقال أبو بكر لولا كونه صغيرا كنت أبلغك به مرادك وأهبه لك ففهم قصده وقال اصبر عليه حتى يكبر ولو كان كبيرا ما آثرتني به على نفسك فضحك أبو بكر وقال إن لم تهج نظما هجوت نثرا فقال ايها الوزير لا تبديل لخلق الله وانفصل المخزومي بالعبد بعدما أصلح الوزير بينه وبين نزهون انتهى
وفي كتاب الدر المنضد في وفيات أعيان أمة محمد تأليف الأمير صارم الدين إبراهيم بن دقماق قال ابو القاسم بن خلف كان يعني المخزومي المذكور حيا بعد الأربعين وخمسمائة انتهى
قصة استطرادية
ونقلت من كتاب قطب السرور

وممن ادركته وعاشرته عبد الوهاب بن حسين بن جعفر الحاجب وذكرته هنا لأنه ملحق بالأمراء المتقدمين غير خارج منهم ولا مقصر عنهم بل كان واحد عصره في الغناء الرائق والادب الرائع والشعر الرقيق واللفظ الأنيق ورقة الطبع وإصابة النادر والتشبيه المصيب والبديهة التي لا يلحق فيها مع شرف النفس وعلو الهمة وكان قد قطع عمره وأفنى دهره في اللهو واللعب والفكاهة والطرب وكان أعلم الناس بضرب العود واختلاف طرائقه وصنعة اللحون وكثيرا ما يقول المعاني اللطيفة في الأبيات الحسنة ويصوغ عليها الألحان المطربة البديعة المعجبة اختراعا منه وحذقا وكانت له في ذلك قريحة وطبع وكان إذا لم يزره أحد من إخوانه أحضر مائدته وشرابه عشرة من أهل بيته منهم ولده وعبد الله ابن أخيه وبعض غلمانه وكلهم يغني فيجيد فلا يزالون يغنون بين يديه حتى يطرب فيدعو بالعود ويغني لنفسه ولهم وكان بشارة الزامر الذي يزمر عليه من حذاق زمرة المشرق وكان بعيد الهمة سمحا بما يجد تغل عليه ضياعه كل عام أموالا جليلة فلا تحول السنة حتى ينفد جميع ذلك ويستسلف غره فكان لا يطرأ من المشرق مغن إلا سأل من يقصد بهذا الشأن فيدل عليه فمن وصله منهم استقبله بصنوف البر والإكرام وكساه وخلطه بنفسه ولم يدعه إلى أحد من الناس فلا يزال معه في صبوح وغبوق وهو مجدد له كل يوم كرامة حتى يأخذ جميع ما معه من صوت مطرب أو حكاية نادرة
وجلس يوما وقد زاره رجلان من إخوانه وحضر أقرباؤه فطعموا وشربوا وأخذوا في الغناء فارتج المجلس إذ دخل عليه بعض غلمانه فقال بالباب رجل غريب عليه ثياب السفر ذكر أنه ضيف فأمر بإدخاله فإذا رجل

قال البصرة فرحب به وأمره بالجلوس فجلس مع الغلمان في صفة وأتي بطعام فأكل وسقي أقداحا ودار الغناء في المجلس حتى انتهى إلى آخرهم فلما سكتوا اندفع يغني بصوت ندي وطبع حسن
( الا يا دار ما الهجر ... لسكانك من شاني )
( سقيت الغيث من دار ... وإن هيجت أشجاني )
( ولو شئت لما استسقيت ... غيثا غير أجفاني )
( بنفسي حل أهلوك ... وغن بانوا بسلواني )
( وما الدهر بمأمون ... على تشتيت خلاني )
فطرب عبد الوهاب وصاح وتبين الحذق في إشارته والطيب في طبعه وقال يا غلام خذ بيده إلى الحمام وعجل علي به فأدخل الحمام ونظف ثم دعا عبد الوهاب بخلعة من ثيابه فألقيت عليه ورفعه فأجلسه عن يساره واقبل عليه وبسطه فغنى له
( قومي امزجي التبر باللجين ... واحتملي الرطل باليدين )
( واغتنمي غفلة الليالي ... فربما أيقظت لحين )
( فقد لعمري أقر منا ... هلال شوال كل عين )
( ذات الخلاخيل أبصرته ... كنصف خلخالها اللجيني )
فطرب وشرب واستزاده فغناه
( من لي على رغم الحسود بقهوة ... بكر ربيبة حانة عذراء )
( موج من الذهب المذاب تضمه ... كأس كقشر الدرة البيضاء )
( والنجم في أفق السماء كأنه ... عين تخالس غفلة

( وأنت الذي أشرقت عيني بمائها ... وعلمتها بالهجر أن تهجر الغمضا )
( وأغرقتها بالدمع حتى جفونها ... لينكر من فقد الكرى بعضها بعضا )
فمر يوم من أحسن الأيام واطيبها ووصله وأحسن إليه ولم يزل عنده مقربا مكرما وكان خليعا ماجنا مشتهرا بالنبيذ فخلاه وما أحب ثم وصف له الأندلس وطيبها وكثرة خمورها فمضى إليها ومات بها وعلى نحو هذه الحال كان يفعل بكل طارىء يطرأ من المشرق ولو ذكرتهم لطال بهم الكتاب انتهى
وغرضي من إيراد هذه الحكاية هنا كونه وصف للمشرقي الأندلس وطيبها وذلك أمر لا يشك فيه ولا يرتاب والله المسئول في حسن المتاب
قصر باديس بغرناطة
ورأيت في بعض كتب تاريخ الأندلس في ترجمة السلطان باديس الصنهاجي صاحب غرناطة ما نصه وهو الذي أكمل ترتيب قصبة مالقة وكان أفرس الناس وأنبلهم ذا مروءة ونجدة وقصره بغرناطة ليس ببلاد الإسلام والكفر مثله فيما قيل انتهى
وهذا القصر هو الذي عناه لسان الدين بن الخطيب في قصيدته السينية المذكورة في الباب الخامس من القسم الثاني من هذا الكتاب فلتراجع ثمة
سرقسطة وخواصها
وذكر غير واحد من المحدثين والمؤرخين أن مدينة سرقسطة لا يدخلها الثعبان من قبل نفسه وإذا أدخله أحد لم يتحرك ونظير هذا المعنى في بعض الحيوانات بالنسبة إلى بعض البلاد كثير وذلك برصد أو طلسم وقد استطرد بعض علماء أصول الدين ذلك

والله أعلم
هكذا رأيت في كلام بعض علماء المشارقة والذي رأيته لبعض مؤرخي المغرب في سرقسطة أنها لا تدخلها عقرب ولا حية إلا ماتت من ساعتها ويؤتى بالحيات والعقارب إليها حية فبنفس ما تدخل إلى جوف البلد تموت قال ولا يتسوس فيها شيء من الطعام ولا يعفن ويوجد فيها القمح من مائة سنة والعنب المعلق من ستة أعوام والتين والخوخ وحب الملوك والتفاح والإجاص اليابسة من أربعة أعوام والفول والحمص من عشرين سنة ولا يسوس فيها خشب ولا ثوب صوفا كان أو حريرا أو كتانا وليس في بلاد الأندلس أكثر فاكهة منها ولا أطيب طع ما ولا أكبر جرما والبساتين محدقة بها من كل ناحية ثمانية أميال ولها أعمال كثيرة مدن وحصون وقرى مسافة أربعين ميلا وهي تضاهي مدن العراق في كثرة الأشجار والانهار وبالجملة فأمرها عظيم وقد أسلفنا ذكرها
السمور بالأندلس
واعلم أن بأرض الاندلس من الخصب والنضرة وعجائب الصنائع وغرائب الدنيا ما لا يوجد مجموعه غالبا في غيرها فمن ذلك ما ذكره الحجاري في المسهب أن السمور الذي يعمل من وبره الفراء الرفيعة يوجد في البحر المحيط بالأندلس من جهة جزيرة برطانية ويجلب إلى سرقسطة ويصنع بها ولما ذكر ابن غالب وبر السمور الذي يصنع بقرطبة قال هذا السمور المذكور هنا لم أتحقق ما هو ولا ما عني به إن كان هو نباتا عندهم أو وبر الدابة المعروفة فإن كانت الدابة المعروفة فهي دابة تكون في البحر وتخرج إلى البر وعندها قوة ميز

المفردة هو حيوان يكون في بحر الروم ولايحتاج منه إلا إلى خصاه فيخرج الحيوان من البحر في البر فيؤخذ وتقطع خصاه ويطلق فربما عرض للقناصين مرة أخرى فإذا أحس بهم وخشي أن لا يفوتهم استلقى على ظهره وفرج بين فخذيه ليرى موضع خصييه خاليا فإذا رآه القناصون كذلك تركوه قال ابن غالب ويسمى هذا الحيوان ايضا الجندبادستر والدواء الذي يصنع من خصييه من الأدويه الرفيعة ومنافعه كثيرة وخاصيته في العلل الباردة وهو حار يابس في الدرجة الرابعة
فراء القنلية
والقنلية حيوان أدق من الأرنب وأطيب في الطعم وأحسن وبرا وكثيرا ما تلبس فراؤها ويستعملها أهل الأندلس من المسلمين والنصارى ولا توجد في بر البربر إلا ما جلب منها إلى سبتة فنشأ في جوانبها قال ابن سعيد وقد جلبت في هذه المدة إلى تونس حضرة إفريقية
سائر حيواناتها وطيورها
ويكون بالأندلس من الغزال والأيل وحمار الوحش وبقره وغير ذلك مما يوجد في غيرها كثير وأما الأسد فلا يوجد فيها البتة ولا الفيل

وغير ذلك مما يكون في أقاليم الحرارة ولها سبع يعرف باللب أكبر بقليل من الذئب في نهاية من القحة وقد يفترس الرجل إذا كان جائعا
وبغال الأندلس فارهة وخيلها ضخمة الأجسام حصون للقتال لحملها الدروع وثقال السلاح والعدو في خيل البر الجنوبي
ولها من الطيور الجوارح وغيرها ما يكثر ذكره ويطول وكذلك حيوان البحر ودواب بحرها المحيط في نهاية من الطول والعرض
قال ابن سعيد عاينت من ذلك العجب والمسافرون في البحر يخافون منها لئلا تقلب المراكب فيقطعون الكلام ولها نفخ بالماء من فيها يقوم في الجو ذا ارتفاع مفرط
أنواع الأفاويه فيها
وقال ابن سعيد قال المسعودي في مروج الذهب في الأندلس من أنواع الأفاويه خمسة وعشرون صنفا منها السنبل والقرنفل والصندل والقرفة وقصب الذريرة وغير ذلك
وذكر ابن غالب أن المسعودي قال أصول الطيب خمسة أصناف المسك والكافور والعود والعنبر والزعفران وكلها من أرض الهند إلا الزعفران والعنبر فإنهما موجودان في أرض الأندلس ويوجد العنبر في أرض الشحر
قال ابن سعيد وقد تكلموا في أصل العنبر فذكربعضهم أنه عيون تنبع في قعر البحر يصير منها ما تبلعه الدواب وتقذفه قال الحجاري ومنهم من قال إنه نبات في قعر البحر
وقد تقدم قول الرازي إن المحلب وهو المقدم

أنواع الأشنان لا يوجد في شيء من الأرض إلا بالهند والأندلس
وقال ابن سعيد وفي الأندلس مواضع ذكروا أن النار إذا أطلقت فيها فاحت بورائح العود وما أشبهه وفي جبل شلير أفاويه هنديه
ثمارها وفواكهها
قال وأما الثمار وأصناف الفواكه فالأندلس اسعد بلاد الله بكثرتها ويوجد في سواحلها قصب السكر والموز المعدومان في الأقاليم الباردة ولا يعدم منها إلا التمر ولها من أنواع الفواكه ما يعدم في غيرها أو يقل كالتين القوطي والتين الشعري بإشبيلية
قال ابن سعيد وهذان صنفان لم تر عيني ولم أذق لهما منذ خرجت من الأندلس ما يفضلهما وكذلك التين المالقي والزبيب المنكبي والزبيب العسلي والرمان السفري والخوخ والجوز واللوز وغير ذلك مما يطول ذكره
معادنها وأحجارها وقرمزها
وقد ذكر ابن سعيد أيضا أن الأرض الشمالية المغربية فيها المعادن السبعة وأنها في الأندلس التي هي بعض تلك الأرض وأعظم معدن للذهب بالأندلس في جهة شنت ياقوه قاعدة الجلالقة على البحر المحيط وفي جهة قرطبة الفضة والزئبق والنحاس في شمال الأندلس كثير والصفر الذي يكاد يشبه الذهب وغير ذلك من المعادن المتفرقة في أماكنها

والعين التي يخرج منها الزاج في لبلة مشهورة وهو كثير مفضل في البلاد منسوب وبجبل طليطلة جبل الطفل الذي يجهز إلى البلاد ويفضل على كل طفل بالمشرق والمغرب
وبالأندلس عدة مقاطع للرخام وذكر الرازي أن بجبل قرطبة مقاطع الرخام الأبيض الناصع والخمري وفي ناشرة مقطع عجيب للعمد وبباغه من مملكة غرناطة مقاطع للرخام كثيرة غريبة موشاة في حمرة وصفرة وغير ذلك من المقاطع التي بالأندلس من الرخام الحالك والمجزع وحصى المرية يحمل إلى البلاد فإنه كالدر في رونقه وله ألوان عجيبة ومن عادتهم أن يضعوه في كيزان الماء
وفي الأندلس من الأمنان التي تنزل من السماء القرمز الذي ينزل على شجر البلوط فيجمعه الناس من الشعرا ويصبغون به فيخرج منه اللون الأحمر الذي لا تفوقه حمرة
مصنوعاتها
قال ابن سعيد وإلى مصنوعات الأندلس ينتهي التفضيل وللمتعصبين لها في ذلك كلام كثير فقد اختصت المرية ومالقة ومرسية بالوشي المذهب الذي يتعجب من حسن صنعته أهل المشرق إذا رأوا منه شيئا وفي تنتالة من عمل مرسية تعمل البسط التي يغالى في ثمنها بالمشرق ويصنع في غرناطة وبسطة من ثياب اللباس المحررة الصنف الذي يعرف بالملبد المختم ذو الألوان العجيبة ويصنع في مرسية من الأسرة المرصعة والحصر الفتانة الصنعة وآلات الصفر والحديد من السكاكين والأمقاص المذهبة وغير ذلك من آلات العروس

والجندي ما يبهر العقل ومنها تجهز هذه الأصناف إلى بلاد إفريقية وغيرها ويصنع بها وبالمرية ومالقة الزجاج الغريب العجيب وفخار مزجج مذهب ويصنع بالأندلس نوع من المفصص المعروف في المشرق بالفسيفساء ونوع يبسط به قاعات ديارهم يعرف بالزليجي يشبه المفصص وهو ذو ألوان عجيبة يقيمونه مقام الرخام الملون الذي يصرفه أهل المشرق في زخرفة بيوتهم كالشاذ روان وما يجري مجراه
الأسلحة
وأما آلات الحرب من التراس والرماح والسروج والألجم والدروع والمغافر فأكثر همم أهل الأندلس فيما حكى ابن سعيد كانت مصروفة إلى هذا الشأن ويصنع منها في بلاد الكفر ما يبهر العقول قال والسيوف البرذليات مشهورة بالجودة وبرذيل آخر بلاد الأندلس من جهة الشمال والمشرق والفولاذ الذي بإشبيلية إليه النهاية وفي إشبيلية من دقائق الصنائع ما يطول ذكره
الآثار الأولية بالأندلس
وقد أفرد ابن غالب في فرحة الأنفس للآثار الأولية التي بالأندلس من كتابه مكانا فقال منها ما كان من جلبهم الماء من البحر الملح إلى الأرحي التي بطركونة على وزن لطيف وتدبير محكم حتى طحنت به وذلك من أعجب ما صنع ومن ذلك ما صنعه الأول أيضا من جلب الماء في البحر

إلى جزيرة قادس من العين التي في إقليم الأصنام جلبوه في جوف البحر في الصخر المجوف ذكرا في أنثى وشقوا به الجبال فإذا وصلوا به إلى المواضع المنخفضة بنوا له قناطر على حنايا فإذا جاوزها واتصل بالأرض المعتدلة رجعوا إلى البنيان المذكور فإذا صادف سبخة بني له رصيف وأجري عليه هكذا إلى أن انتهى به إلى البحر ثم دخل به في البحر وأخرج في جزيرة قادس والبنيان الذي عليه الماء في البحر ظاهر بين قال ابن سعيد إلى وقتنا هذا
ومنها الرصيف المشهور بالأندلس قال في بعض أخبار رومية إنه لما ولي يوليش المعروف بجاشر وابتدأ بتذريع الأرض وتكسيرها كان ابتداؤه بذلك من مدينة رومية إلى المشرق منها وإلى المغرب وإلى الشمال وإلى الجنوب ثم بدأ بفرش المبلطة واقبل بها على وسط دائرة الأرض إلى أن بلغ بها أرض الأندلس وركزها شرقي قرطبة ببابها المتطامن المعروف بباب عبد الجبار ثم ابتدأها من باب القنطرة قبلي قرطبة إلى شقندة إلى إستجة إلى قرمونة إلى البحر وأقام على كل ميل سارية قد نقش عليها اسمه من مدينة رومية وذكر أنه أراد تسقيفها في بعض الأماكن راحة للخاطرين من وهج الصيف وهول الشتاء ثم توقع أن يكون ذلك فسادا في الأرض وتغييرا للطرق عند انتشار اللصوص وأهل الشر فيها في المواضع المنقطعة النائية عن العمران فتركها على ما هي عليه وذكر في هذه الآثار صنم قادس الذي ليس له نظير إلا الصنم الذي بطرف جليقية وذكر قنطرة طليطلة وقنطرة السيف وقنطرة ماردة وملعب مربيطر
قال ابن سعيد وفي الأندلس عجائب منها الشجرة التي لولا كثرة ذكر العامة لها بالأندلس ما ذكرتها فإن خبرها عندهم شائع متواتر

يشهد بخبرها ورؤيتها وهم جم غفير وهي شجرة زيتون تصنع الورق والنور والثمر في يوم واحد معلوم عندهم من أيام السنة الشمسية
ومن العجائب السارية التي بغرب الأندلس ما يزعم الجمهور أن أهل ذلك المكان إذا أحبوا المطر أقاموها فيمطر الله جهتهم
ومنها صنم قادس طول ما كان قائما كان يمنع الريح أن تهب في البحر المحيط فلا تستطيع المراكب الكبار على الجري فيه فلما هدم في أول دولة بني عبد المؤمن صارت السفن تجري فيه
وبكورة قبرة مغارة ذكرها الرازي وحكى أنه يقال إنها باب من أبواب الريح لا يدرك لها قعر
وذكر الرازي أن في جهة قلعة ورد جبلا فيه شق في صخرة داخل كهف فيه فأس حديد متعلق من الشق الذي في الصخرة تراه العيون وتلمسه اليد ومن رام إخراجه لم يطق ذلك وإذا رفعته اليد ارتفع وغاب في شق الصخرة ثم يعود إلى حالته
وأما ما أورده ابن بشكوال من الأحاديث والآثار في شأن فضل الأندلس والمغرب فقد ذكرها ابن سعيد في كتابه المغرب ولم أذكرها أنا والله أعلم بحقيقة أمرها وكذلك ما ذكره ابن بشكوال من أن فتح القسطنطينية إنما يكون من قبل الأندلس قال وذكره سيف عن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه والله أعلم بصحة ذلك ولعل المراد بالقسطنطينية رومية والله أعلم
قال سيف وذلك أن عثمان ندب جيشا من القيروان إلى الأندلس وكتب لهم أما بعد فإن

فتحتموها كنتم الشركاء في الأجر والسلام انتهى
قلت عهدة هذه الأمور على ناقلها وأنا بريء من عهدتها وإن ذكرها ابن بشكوال وصاحب المغرب وغير واحد فإنها عندي لا أصل لها وأي وقت بعث عثمان إلى الاندلس مع أن فتحها بالاتفاق إنما كان زمان الوليد وإنما ذكرت هذا للتنبيه عليه لا غير والله أعلم
وصف ابن سعيد للأندلس
قال ابن سعيد وميزان وصف الأندلس أنها جزيرة قد احدقت بها البحار فأكثرت فيها الخصب والعمارة من كل جهة فمتى سافرت من مدينة إلى مدينة لا تكاد تنقطع من العمارة ما بين قرى ومياه ومزارع والصحاري فيها معدومة ومما اختصت به أن قراها في نهاية من الجمال لتصنع أهلها في أوضاعها وتبييضها لئلا تنبو العيون عنها فهي كما قال الوزير ابن الحمارة فيها
( لاحت قراها بين خضرة أيكها ... كالدر بين زبرجد مكنون )
ولقد تعجبت لما دخلت الديار المصرية من أوضاع قراها التي تكدر العين بسوادها ويضيق الصدر بضيق أوضاعها وف يالأندلس جهات تقرب فيها المدينة العظيمة الممصرة من مثلها والمثال في ذلك أنك إذا توجهت من إشبيلية فعلى مسيرة يوم وبعض آخر مدينة شريش وهي في نهاية من الحضارة والنضارة ثم يليها الجزيرة الخضراء كذلك ثم مالقة وهذا كثير في الأندلس ولهذا كثرت مدنها وأكثرها مسور من أجل الاستعداد للعدو فحصل لها بذلك التشييد والتزيين وفي

على عشرين سنة لامتناع معاقلها ودربة أهلها على الحرب واعتيادهم لمجاورة العدو بالطعن والضرب وكثرة ما تنخزن الغلة في مطاميرها فمنها ما يطول صبره عليها نحوا من مائة سنة قال ابن سعيد ولذلك أدامها الله تعالى من وقت الفتح إلى الآن وإن كان العدو قد نقصها من أطرافها وشارك في أوساطها ففي البقية منعة عظيمة فأرض بقي فيها مثل إشبيلية وغرناطة ومالقة والمرية وما ينضاف إلى هذه الحواضر العظيمة الممصرة الرجاء فيها قوي بحول الله وقوته انتهى
قلت قد خاب ذلك الرجاء وصارت تلك الأرجاء للكفر معرجا ونسأل الله تعالى الذي جعل للهم فرجا وللضيق مخرجا أن يعيد إليها كلمة الإسلام حتى يستنشق أهله منه فيها أرجا آمين
بيلتا طليطلة
ومن غرائب الأندلس البيلتان اللتان بطليطلة صنعهما عبد الرحمن لما سمع بخبر الطلسم الذي بمدينة أرين من أرض الهند وقد ذكره المسعودي وأنه يدور باصبعيه من طلوع الفجر إلى غروب الشمس فصنع هو هاتين البيلتين خارج طليطلة في بيت مجوف في جوف النهر الأعظم في الموضع المعروف بباب الدباغين ومن عجبهما أنها تمتلئان وتنحسران مع زيادة القمر ونقصانه وذلك أن أول انهلال الهلال يخرج فيهما يسير ماء فإذا أصبح كان فيهما ربع سبعمها من الماء فإذا كان آخر النهار كمل فيهما نصف سبع ولا يزال كذلك بين اليوم والليلة نصف سبع حتىيكمل من الشهر

فيهما نصفهما ولا تزال كذلك الزيادة نصف سبع في اليوم والليلة حتىيكمل امتلاؤهما بكمال القمر فإذا كان في ليلة خمسة عشر وأخذ القمر في النقصان نقصتا بنقصان القمر كل يوم وليلة نصف سبع حتى يتم القمر واحدا وعشرين يوما فينقص منهما نصفهما ولا يزال كذلك ينقص في كل يوم وليلة نصف سبع فإذا كان تسعة وعشرون من الشهر لا يبقى فيهما شيء من الماء وإذا تكلف أحد حين تنقصان أن يملأهما وجلب لهما الماء ابتلعتا ذلك من حينهما حتى لا يبقى فيهما إلا ما كان فيهما في تلك الساعة وكذا لو تكلف عند امتلائهما إفراغهما ولم يبق فيهما شيئا ثم رفع يده عنهما خرج فيهما من الماء ما يملؤهما في الحين وهما أعجب من طلسم الهند لأن ذلك في نقطة الاعتدال حيث لا يزيد الليل على النهار وأما هاتان فليستا في مكان الاعتدال ولم تزالا في بيت واحد حتى ملك النصارى دمرهم الله طليلة فأراد الفنش أن يعلم حركاتهما فأمر أن تقلع الواحدة منهما لينظر من أين يأتي إليها الماء وكيف الحركة فيهما فقلعت فبطلت حركتهما وذلك سنة 528 وقيل إن سبب فسادهما حنين اليهودي الذي جلب حمام الأندلس كلها إلى طليلة في يوم واحد وذلك سنة 527 وهو الذي أعلم الفنش أن ولده سيدخل قرطبة ويملكها فأراد أن يكشف حركة البيلتين فقال له أيها الملك أنا أقلعهما وأردهما أحسن مما كانتا وذلك أني أجعلهما تمتلئان بالنهار وتحسران في الليل فلما قلعت لم يقدر على ردها وقيل إنه قلع واحدة ليسرق منها الصنعة فبطلت ولم تزل الأخرى تعطي حركتها والله

عود إلى ذكر إشبيلية
وقال بعضهم في إشبيلية إنها قاعدة بلاد الأندلس وحاضرتها ومدينة الأدب واللهو والطرب وهي على ضفة النهر الكبير عظيمة الشأن طيبة المكان لها البر المديد والبحر الساكن والوادي العظيم وهي قريبة من البحر المحيط إلى أن قال ولو لم يكن لها من الشرف إلا موضع الشرف المقابل لها المطل عليها المشهور بالزيتون الكثير الممتد فراسخ في فراسخ لكفى وبها منارة في جامعها بناها يعقوب المنصور ليس في بلاد الإسلام أعظم بناء منها وعسل الشرف يبقى حينا لا يترمل ولا يتبدل وكذلك الزيت والتين
وقال ابن مفلح إن إشبيلية عروس بلاد الأندلس لأن تاجها الشرف وفي عنقها سمط النهر الأعظم وليس في الأرض أتم حسنا من هذا النهر يضاهي دجلة والفرات والنيل تسير القوارب فيه للنزهة والسير والصيد تحت ظلال الثمار وتغريد الأطيار أربعة وعشرين ميلا ويتعاطى الناس السرج من جانبيه عشرة فراسخ في عمارة متصلة ومنارات مرتفعة وأبراج مشيدة وفيه من أنواع السمك ما لا يحصى وبالجملة فهي قد حازت البر والبحر والزرع والضرع وكثرة الثمار من كل جنس وقصب السكر ويجمع منها القرمز الذي هو أجل من اللك الهندي وزيتونها يخزن تحت الأرض أكثر من ثلاثين سنة ثم يعتصر فيخرج منه أكثر مما يخرج منه وهو طري انتهى ملخصا
ولما ذكر ابن اليسع الأندلس قال لا يتزود فيها أحد ماء حيث سلك لكثرة أنهارها وعيونها وربما لقي المسافر فيها في اليوم الواحد

المعاقل والقرى ما لا يحصى وهي بطاح خضر وقصور بيض انتهى
مقارنة ابن سعيد بين الأندلس وسواها
قال ابن سعيد وأنا أقول كلاما فيه كفاية منذ خرجت من جزيرة الأندلس وطفت في بر العدوة ورأيت مدنها العظيمة كمراكش وفاس وسلا وسبتة ثم طفت في إفريقية وما جاورها من المغرب الأوسط فرأيت بجاية وتونس ثم دخلت الديار المصرية فرأيت الإسكندرية والقاهرة والفسطاط ثم دخلت الشام فرأيت دمشق وحلب وما بينهما لم أر ما يشبه رونق الأندلس في مياهها وأشجارها إلا مدينة فاس بالمغرب الأقصى ومدينة دمشق بالشام وفي حماة مسحة أندلسية ولم أر ما يشبهها في حسن المباني والتشييد والتصنيع إلا ما شيد بمراكش في دولة بني عبد المؤمن وبعض أماكن في تونس وإن كان الغالب على تونس البناء بالحجارة كالإسكندرية ولكن الإسكندرية أفسح شوارع وأبسط وأبدع ومباني حلب داخلة فيما يستحسن لأنها من حجارة صلبة وفي وضعها وترتيبها إتقان انتهى
أشعار في وصف الأندلس
ومن أحسن ما جاء من النظم في الأندلس قول ابن سفر المريني والإحسان له عادة
( في ارض أندلس تلتذ نعماء ... ولا يفارق فيها القلب سراء )
( وليس في غيرها بالعيش منتفع ... ولا تقوم يحق الأنس صهباء )
( وأين يعدل عن أرض تحض بها ... على المدامة أمواه وأفياء )
( وكيف لا يبهج الأبصار رؤيتها ... وكل روض بها في الوشي صنعاء

( وللهواء بها لطف يرق به ... من لا يرق وتبدو منه أهواء ليس النسيم الذي يهفو بها سحرا ... ولا انتثار لآلي الطل أنداء )
( وإنم ا أرج الند استثار بها ... في ماء ورد فطابت منه أرجاء )
( وأين يبلغ منها ما أصنفه ... وكيف يحوي الذي حازته إحصاء )
( قد ميزت من جهات الأرض حين بدت ... فريدة وتولى ميزها الماء )
( دارت عليها نطاق أبحر خفقت ... وجدا بها إذ تبدت وهي حسناء )
( لذاك يبسم فيها الزهر من طرب ... والطير يشدو وللأغصان إصغاء )
( فيها خلعت عذارى ما بها عوض ... فهي الرياض وكل الأرض صحراء )
ولله در ابن خفاجة حيث يقول
( إن للجنة بالأندلس ... مجتلى مرأى وريا نفس )
( فسنا صبحتها من شنب ... ودجى ظلمتها من لعس )
( فإذا ما هبت الريح صبا ... صحت واشوقي إلى الأندلس )
وقد تقدمت هذه الأبيات
قال ابن سعيد قال ابن خفاجة هذه الأبيات وهو بالمغرب الأقصى في بر العدوة ومنزله في شرق الأندلس بجزيرة شقر
رخاء الأندلس كما يصفه ابن حوقل
وقال ابن سعيد في المغرب ما نصه قواعد من كتاب الشهب الثاقبة في الإنصاف بين المشارقة والمغاربة أول ما نقدم الكلام على قاعدة السلطنة

بالأندلس فنقول إنها ما بأيدي عباد الصليب منها أعظم سلطنة كثرت ممالكها وتشعبت في وجوه الاستظهار للسلطان إعانتها وندع كلامنا في هذا الشأن وننقل ما قاله ابن حوقل النصيبي في كتابه لما دخلها في مدة خلافة بني مروان بها في المائة الرابعة وذلك أنه لما وصفها قال وأما جزيرة الأندلس فجزيرة كبيرة طولها دون الشهر في عرض نيف وعشرين مرحلة تغلب عليها المياه الجارية والشجر والثمر والرخص والسعة في الأحوال من الرقيق الفاخر والخصب الظاهر إلى أسباب التملك الفاشية فيها ولما هي به من أسباب رغد العيش وسعته وكثرته يملك ذلك منهم مهينهم وأرباب صنائعهم لقلة مؤنتهم وصلاح معاشهم وبلادهم ثم أخذ في عظم سلطانها ووصف وفور جباياته وعظم مرافقه وقال في أثناء ذلك ومممايدل بالقليل منه على كثيره أن سكة دار ضربه على الدراهم والدنانير دخلها في كل سنة مائتا ألف دينار وصرف الدينا سبعة عشر درهما هذا إلى صدقات البلد وجباياته وخراجاته وأعشاره وضماناته والأموال المرسومة على المراكب الواردة والصادرة وغير ذلك
وذكر ابن بشكوال أن جباية الأندلس بلغت في مدة عبد الرحمن الناصر خمسة آلاف ألف دينار وأربعمائة ألف وثمانين ألفا ثم من السوق والمستخلص سبعمائة ألف وخمسة وستون ألف دينار
ثم قال ابن حوقل ومن أعجب ما في هذه الجزيرة بقاؤها على من هي في يده مع صغر أحلام أهلها وضعة نفوسهم ونقص عقولهم وبعدهم من البأس والشجاعة والفروسية والبسالة ولقاء الرجال ومراس الأنجاد والأبطال مع علم أمير المؤمنين بمحلها في

رد ابن سعيد على بعض كلام ابن حوقل
قال علي بن سعيد مكمل هذا الكتاب لم أر بدا من إثبات هذا الفصل وإن كان على أهل بلدي فيه من الظلم والتعصب ما لا يخفى ولسان الحال في الرد أنطق من لسان البلاغة وليت شعري إذ سلب أهل هذه الجزيرة العقول والآراء والهمم والشجاعة فمن الذين دبروها بآرائهم وعقولهم مع مراصدة أعدائها المجاورين لها من خمسمائة سنة ونيف ومن الذين حموها ببسالتهم من الأمم المتصلة بهم في داخلها وخارجها نحو ثلاثة أشهر على كلمة واحدة في نصرة الصليب وإني لأعجب منه إذ كان في زمان قد دلفت فيه عباد الصليب إلى الشام والجزيرة وعاثوا كل العيث في بلاد الإسلام حيث الجمهور والقبة العظمى حتى أنهم دخلوا مدينة حلب وما أدراك وفعلوا فيها ما فعلوا وبلاد الإسلام متصلة بها من كل جهة إلى غير ذلك مما هو مسطور في كتب التواريخ ومن أعظم ذلك وأشده أنهم كانوا يتغلبون على الحصن من حصون الإسلام التي يتمكنون بها من بسائط بلادهم فيسبون ويأسر ونفلا تجتمع همم الملوك المجاورة على حسم الداء في ذلك وقد يستعين به بعضهم على بعض فيتمكن من ذلك الداء الذي لا يطب وقد كانت جزيرة الأندلس في ذلك الزمان بالضد من البلاد التي ترك وراء ظهره وذلك موجود في تاريخ ابن حيان وغيره وإنما كانت الفتنة بعد ذلك الأعلام بينة والطريق واضح
فلنرجع إلى ما نحن بسبيله
ابن سعيد يقدم سردا لتطور التاريخ الأندلسي
كانت سلطنة الأندلس

من سلاطين إفريقية واختلاف الولاة داع إلى الاضطراب وعدم تأثل الأحوال وتربية الضخامة في الدولة ولما صارت الأندلس لبني أمية وتوارثوا ممالكها وانقاد إليهم كل أبي فيها وأطاعهم كل عصي عظمت الدولة بالأندلس وكبرت الهمم وترتبت الأحوال وترتبت القواعد وكانوا صدرا من دولتهم يخطبون لأنفسهم بأبناء الخلائف ثم خطبوا لأنفسهم بالخلافة وملكوا من بر العدوة ما ضخمت به دولتهم وكانت قواعدهم إظهار الهيبة وتمكن الناموس من قلوب العالم ومراعاة أحوال الشرع في كل الأمور وتعظيم العلماء والعمل بأقوالهم وإحضارهم في مجالسهم واستشارتهم ولهم حكايات في تاريخ ابن حيان منها ما هو مذكور من توجه الحكم على خليفتهم أو على ابنه أو أحد حاشيته المختصين وأنهم كانوا في نهاية من الانقياد للحق لهم او عليهم وبذلك انضبط لهمأمر الجزيرة ولما فرقوا هذا الناموس كان أول ما تهتك أمرهم ثم اضمحل وكانت ألقاب الأول منهم الأمراء أبناء الخلائف ثم الخلفاء أمراء المؤمنين إلى أن وقعت الفتنة بحسد بعضهم لبعض وابتغاء الخلافة من غير وجهها الذي رتبت عليه فاستبدت ملوك الممالك الأندلسية ببلادها وسموا بملوك الطوائف واستبدوا وكان فيهم من خطب للخلفاء المروانيين وإن لم يبق لهم خلافة ومنهم من خطب للخلفاء العباسيين المجمع على إمامتهم وصار ملوك الطوائف يتباهون في أحوال الملك حتى في الألقاب فآل أمرهم إلى أن تلقبوا بنعوت الخلفاء وترفعوا إلى طبقات السلطنة العظمى وذلك بما في جزيرتهم من أسباب الترفه والضخامة التي تتوزع على ملوك شتى فتكفيهم وتنهض بهم للمباهاة ولأجل توثبهم على النعوت العباسية قال ابن رشيق القيرواني

( مما يزهدني في أرض أندلس ... تلقيب معتضد فيها ومعتمد )
( القاب مملكة في غير موضعها ... كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد )
وكان عباد بن محمد بن عباد قد تلقب بالمعتضد واقتفى سيرة المعتضد العباسي أمير المؤمنين وتلقب ابنه محمد بن عباد بالمعتمد وكانت لبن عباد مملكة إشبيلية ثم انضاف إليها غيرها
وكان خلفاء بني أمية يظهرون للناس في الأحيان على أبهة الخلافة وقانون لهم في ذلك معروف إلى أن كانت الفتنة فازدرت العيون ذلك الناموس واستخفت به
وقد كان بنو حمود من ولد إدريس العلوي الذين توثبوا على الخلافة في أثناء الدولة المروانية بالأندلس يتعاظمون ويأخذون أنفسهم بما يأخذها خلفاء بني العباس وكانوا إذا حضرهم منشد لمدح أو من يحتاج إلى الكلام بين أيديهم يتكلم من وراء حجاب والحاجب واقف عند الستر يجاوب بما يقول له الخليفة ولما حضر ابن مقانا الأشبوني أمام حاجب إدريس بن يحيى الحمودي الذي خطب له بالخلافة في مالقة وأنشده قصيدته المشهورة النونية التي منها قوله
( وكأن الشمس لما أشرقت ... فانثنت عنها عيون الناظرين )
( وجه إدريس بن يحيى بن علي ... بن حمود أمير المؤمنين ) وبلغ فيها إلى قوله
( انظرونا نقتبس من نوركم ... إنه من نور رب العالمين ) رفع الخليفة

ولما جاء ملوك الطوائف صاورا يتبسطون للخاصة وكثير من العامة ويظهرون مداراة الحند وعوام البلاد وكان أكثرهم يحاضر العلماء والأدباء ويحب أن يشهر عنه ذلك عند مباريه في الرياسة
ومذ وقعت الفتنة بالأندلس أعتاد أهل الممالك المتفرقة الاستبداد عن إمام الجماعة وصار في كل جهة مملكة مستقلة يتوارث أعيانها الرياسة كما يتوارث ملوكها الملك ومرنوا على ذلك فصعب ضبطهم إلى نظام واحد وتمكن العدو منهم بالتفرق وعداوة بعضهم لبعض بقبيح المنافسة والطمع إلى أن انقادوا إلى عبد المؤمن وبنيه وتلك القواعد في رؤوسهم كامنة والثوار في المعاقل تثور وتروم الكرة إلى ان ثار ابن هود وتلقب بالمتوكل ووجد قلوبا منحرفة عن دولة بر العدوة مهيأة للاستبداد فملكها بأيسر محاولة مع الجهل المفرط وضعف الرأي وكان مع العامة كأنه صاحب شعوذة يمشي في الأسواق ويضحك في وجوههم وبيادرهم بالسؤال وجاء للناس منه ما لم يعتادوه منم سلطان فأعجب ذلك سفهاء الناس وعامتهم العمياء وكان كما قيل
( أمور يضحك السفهاء منها ... ويبكي من عواقبها الحليم )
فآل ذلك إلى تلف القواعد العظيمة وتملك الأمصار الجليلة وخروجها من يد الإسلام
والضابط فيما يقال في شأن أهل الأندلس في السلطان أنهم إذا وجدوا فارسا يبرع الفرسان أو جوادا يبرع الأجواد تهافتوا في نصرته ونصبوه ملكا من غير تدبير في عاقبة

قد تورثت وتدوولت ويكون في تلك المملكة قائد من قوادها فد شهرت عنه وقائع في العدو وظهر منه كرم نفس للأجناد ومراعاة قدموه ملكا في حصن من الحصون ورفضوا عيالهم وأولادهم إن كان لهم ذلك بكرسي الملك ولم يزالوا في جهاد وإتلاف أنفس حتى يظفر صاحبهم بطلبتة وأهل المشرق أصوب رأيا منهم في مراعاة نظام الملك والمحافظة على نصابه لئلا يدخل الخلل الذي يقضي باختلال القواعد وفساد التربية وحل الأوضاع
ونحن نمثل في ذلك بما شاهدناه لما كانت هذه الفتنة الأخيرة بالأندلس تمخضت عن رجل من حصن يقال له أرجونة ويعرف الرجل بابن الأحمر كان يكثر مغاورة العدو من حصنه وظهرت له مخايل وشواهد علىالشجاعة إلى أن سار اسمه في الأندلس وآل ذلك إلى أن قدمه أهل حصنه على أنفسهم ثم نهض فملك قرطبة العظمى وملك إشبيلية وقتل ملكها الباجي وملك جيان أحصن بلد بالأندلس وأجله قدرا في الامتناع وملك غرناطة ومالقة وسموه بأمير المسلمين فهو الآن المشار إليه بالأندلس والمعتمد عليه
ابن سعيد يصف الخطط الأندلسية 1 - الوزارة
وأما قاعدة الوزارة بالأندلس فإنها كانت في مدة بني أمية مشتركة في جماعة يعينهم صاحب الدولة للإعانة والمشاورة ويخصهم بالمجالسة ويختار منهم شخصا لمكان النائب المعروف بالوزير فيسميه بالحاجب وكانت هذه المراتب لضبطها عندهم كالمتوارثة في البيوت المعلومة لذلك إلى أن كانت ملوك الطوائف فكان الملك منهم لعظم اسم الحاجب في الدولة المروانية وأنه كان نائبا عن خليفتهم يسمىبالحاجب ويرى أن هذه السمة أعظم ما تنوفس فيه وظفر

اسم الوزارة عاما لكل من يجالس الملوك ويختص بهم وصار الوزير الذي ينوب عن الملك يعرف بذي الوزارتين وأكثر ما يكون فاضلا في علم الأدب وقد لا يكون كذلك بل عالما بأمور الملك وخاصة
2 - الكتابة
وأما الكتابة فهي على ضربتين أعلاهما كاتب الرسائل وله حظ في القلوب والعيون عند أهل الأندلس وأشرف أسمائه الكاتب وبهذه السمة يخططه من يعظمه في رسالة وأهل الأندلس كثيرو الانتقاد على صاحب هذه السمة لا يكادون يغفلون عن عثراته لحظة فإن كان ناقصا عن درجات الكمال لم ينفعه جاهه ولا مكانه من سلطانه من تسلط الألسن في المحافل والطعن عليه وعلى صاحبه والكاتب الآخر كاتب الزمام هكذا يعرفون كاتب الجهبذة ولا يكون بالأندلس وبر العدوة لا نصرانيا ولا يهوديا البتة إذ هذا الشغل نبيه يحتاج إلى صاحبه عظماء الناس ووجوههم
3 - الخراج
وصاحب الأشغال الخراجية في الأندلس أعظم من الوزير وأكثر أتباعا وأصحابا وأجدى منفعة فإليه تميل الأعناق ونحوه تمد الأكف والاعمال مضبوطة بالشهود والنظار ومع هذا إن تأثلت حالته واغتر بكثرة البناء والاكتساب نكب وصودر وهذا راجع إلى تقلب الأحوال وكيفية السلطان
4 - القضاء
وأما خطة القضاء بالأندلس فهي أعظم الخطط عند الخاصة والعامة لتعلقها بأمور الدين وكون السلطان لو توجه عليه حكم حضر بين يدي القاضي هذا

وضعها في زمان بني أمية ومن سلك مسلكهم ولا سبيل أن يتسمى بهذه السمة إلا من هو وال للحكم الشرعي في مدينة جليلة وإن كانت صغيرة فلا يطلق على حاكمها إلا مسدد خاصة وقاضي القضاة يقال له قاضي القضاة وقاضي الجماعة
5 - خطة الشرطة
وأما خطة الشرطة بالأندلس فإنها مضبوطة إلى الآن معروفة بهذه السمة ويعرف صاحبها في ألسن العامة بصاحب المدينة وصاحب الليل وإذا كان عظيم القدر عند السلطان كان له القتل لمن يحب عليه دون استئذان السلطان وذلك قليل ولا يكون إلا في حضرة السلطان الأعظم وهو الذي يحد على الزنا وشرب الخمر وكثير من الأمور الشرعية راجع إليه قد صارت تلك عادة تقرر عليها رضا القاضي وكانت خطة القاضي أوقر وأتقى عندهم من ذلك
6 - الحسبة
وأما خطة الاحتساب فإنها عندهم موضوعة في أهل العلم والفطن وكأن صاحبها قاض والعادة فيه أن يمشي بنفسه راكبا على الأسواق وأعوانه معه وميزانه الذين يزن به الخبز في يد أحد الأعوان لأن الخبز عندهم معلوم الأوزان للربع من الدرهم رغيف على وزن معلوم وكذلك للثمن وفي ذلك من المصحلة أن يرسل المبتاع الصبي الصغير أو الجارية الرعناء فيستويان فيما يأتيانه به من السوق مع الحاذق في معرفة الأوزان وكذلك اللحم تكون عليه ورقة بسعره

الورقة ولايكاد تخفى خيانته فإن المحتسب يدس عليه صبيا أو جارية يبتاع أحدهما منه ثم يختبر الوزن المحتسب فإن وجد نقصا قاس على ذلك حاله مع الناس فلا تسأل عما يلقى وإن كثر ذلك منه ولم يتب بعد الضرب والتجريس في الأسواق نفي من البلد ولهم في أوضاع الاحتساب قوانين يتداولونها ويتدارسونها كما تتدارس أحكام الفقه لأنها عندهم تدخل في جميع المبتاعات وتتفرع إلى ما يطول ذكره
خطة الطواف بالليل
وأما خطة الطواف بالليل وما يقابل من المغرب أصحاب أرباع في المشرق فإنهم يعرفون في الأندلس بالداربين لأن بلاد الأندلس لها دروب بأغلاق تغلق بعد العتمة ولكل زقاق بائت فيه له سراج معلق وكلب يسهر وسلاح معد وذلك لشطارة عامتها وكثرة شرهم وإغيائهم في أمور التلصص إلى أن يظهروا على المباني المشيدة ويفتخروا الأغلاق الصعبة ويقتلوا صاحب الدار خوف أن يقر عليهم أو يطالبهم بعد ذلك ولا تكاد في الأندلس تخلو من سماع دار فلان دخلت البارحة وفلان ذبحه اللصوص على فراشه وهذا يرجع التكثير منه والتقليل إلى شدة الوالي ولينه ومع إفراطه في الشدة وكون سيفه يقطر دما فإن ذلك لا يعدم وقد آل الحال عندهم إلى أن قتلوا علىعنقود سرقه شخص من كرم وما أشبه ذلك فلم ينته اللصوص
الأندلسيون والتشريع

إلى السلاطين ولكن الأغلب عندهم إقامة الحدود وإنكار النهاون بتعطيلها وقيام العامة في ذلك وإنكاره إن تهاون فيه أصحاب السلطان وقد يلج السلطان في شيء من ذلك ولا ينكره فيدخلون عليه قصره المشيد ولا يعبأون بخيله ورجله حتى يخرجوه من بلدهم وهذا كثير في أخبارهم وأما الرجم بالحجر للقضاة والولاة للأعمال إذا لم يعدلوا فكل يوم
الأندلسيون والتصوف
وأما طريقة الفقراء على مذهب أهل الشرق في الدروزة التي تكسل عن الكد وتحوج الوجوه للطلب في الأسواق فمستقبحة عندهم إلى نهاية وإذا رأوا شخصا صحيحا قادرا علىالخدمة يطلب سبوه وأهانوه فضلا عن أن يتصدقوا عليه فلا تجد بالاندلس سائلا إلا أن يكون صاحب عذر
الأندلسيون والعلوم والآداب
وأما حال أهل الأندلس في فنون العلوم فتحقيق الإنصاف في شأنهم في هذا الباب أنهم أحرص الناس على التميز فالجاهل الذي لم يوفقه الله للعلم يجهد أن يتميز بصنعه ويربأ بنفسه أن يرى فارغا عالة على الناس لأن هذا عندهم في نهاية القبح والعالم عندهم معظم من الخاصة والعامة يشار إليه ويحال عليه وينبه قدره وذكره عند الناس ويكرم في جوار أو ابتياع حاجة وما أشبه ذلك ومع هذا فليس لأهل الأندلس مدارس تعينهم على طلب العلم بل يقرءون جميع العلوم

فالعالم منهم بارع لأنه يطلب ذلك العلم بباعث من نفسه يحمله على أن يترك الشغل الذي يستفيد منه وينفق من عنده حتى يعلم وكل العلوم لها عندهم حظ واعتناء إلا الفلسفة والتنجيم فإن لهما حظا عظيما عند خواصهم ولا يتظاههر بهما خوف العامة فإنه كلما قيل فلان يقرأ الفلسفة أو يشتغل بالتنجيم أطلقت عليه العامة اسم زنديق وقيدت عليه أنفاسه فإن زل في شبهة رجموه بالحجارة أو حرقوه قبل أن يصل أمره للسلطان أويقتله السلطان تقربا لقلوب العامة وكثيرا ما يأمر ملوكهم بإحراق كتب هذا الشأن إذا وجدت وبذلك تقرب المنصور بن أبي عامر لقلوبهم أول نهوضه وإن كان غير خال من الاشتغال بذلك في الباطن على ما ذكره الحجاري والله أعلم
وقراءة القرآن بالسبع ورواية الحديث عندهم رفيعة وللفقه رونق ووجاهة ولا مذهب لهم إلا مذهب مالك وخواصهم يحفظون من سائر المذاهب ما يباحثون به بمحاضر ملوكهم ذوي الهمم في العلوم وسمة الفقيه عندهم جليلة حتى إن الملثمين كانوا يسمون الأمير العظيم منهم الذي يريدون تنويهه بالفقيه وهي الآن بالمغرب بمنزلة القاضي بالمشرق وقد يقولون للكاتب والنحوي واللغوي فقيه لأنها عندهم أرفع السمات وعلم الاصول عندهم متوسط الحال والنحو عندهم في نهاية من علو الطبقة حتى إنهم في هذا العصر فيه كأصحاب عصر الخليل وسيبويه لا يزداد مع هرم الزمان إلا جدة وهم كثيرو البحث فيه وحفظ مذاهبه كمذاهب الفقه وكل عامل في أي علم لا يكون متمكنا من علم النحو بحيث لا تخفى عليه الدقائق فليس عندهم بمستحق للتمييز ولا سالم من الازدراء مع أن كلام أهل الأندلس الشائع في الخواص والعوام كثير الانحراف عما تقتضيه أوضاع العربية حتى لو أن شخصا من العرب سمع كلام الشلوبيني أبي علي

وشرقت وهو يقريء درسه لضحك بملء فيه من شدة التحريف الذي في لسانه والخاص منهم إذا تكلم بالإعراب وأخذ يجري على قوانين النحو استثقلوه واستبردوه ولكن ذلك مراعى عندهم في القراءات والمخاطبات بالرسائل وعلم الأدب المنثور من حفظ التاريخ والنظم والنثر ومستظرفات الكايات أنبل علم عندهم وبه يتقرب من مجالس ملوكهم وأعلامهمومن لا يكون فيه أدب من علمائهم فهل غفل مستثقل
والشعر عندهم له حظ عظيم وللشعراء من لموكهم وجاهة ولهم عليهم وظائف والمجيدون منهم ينشدون في مجالس عظماء ملوكهم المختلفة ويوقع لهم بالصلات على أقدارهم إلا أن يختل الوقت ويغلب الجهل في حين ما ولكن هذا الغالب وإذا كان الشخص بالاندلس نحويا أو شاعرا فإنه يعظم في نفسه لا محالة ويسخف ويظهر العجب عادة قد جبلوا عليها
الزي الأندلسي في السلم والحرب
وأما زي أهل الأندلس فالغالب عليهم ترك العمائم لا سيما في شرق الأندلس فإن أهل غربها لا تكاد ترى فيهم قاضيا ولا فقيها مشارا إليه إلا وهو بعمامة وقد تسامحوا بشرقها في ذلك ولقد رأيت عزيز بن خطاب أكبر عالم بمرسية حضرة السلطان في ذلك الأوان وإليه الإشارة وقد خطب له بالملك في تلك الجهة وهو حاسر الرأس وشيبه قد غلب على سواد شعره وأما الأجناد وسائر الناس فقليل منهم من تراه بعمة في شرق منها أو في غرب وابن هود الذي ملك الأندلس في عصرنا رأيته في جميع أحواله ببلاد الأندلس وهو دون عمامة وكذلك ابن الأحمر الذي معظم الأندلس الآن في يده وكثيرا

ما يتزيا سلاطينهم وأجنادهم بزي النصارى المجاورين لهم فسلاحهم كسلاحهم وأقبيتهم من الإشكرلاط وغيره كأقبيتهم وكذلك أعلامهم وسروجهم
ومحاربتهم بالتراس والرماح الطويلة للطعن ولا يعرفون الدبابيس ولا قسي العرب بل يعدون قسي الإفرنج للمحاصرات في البلاد أو تكون للرجالة عند المصاففة للحرب وقليلا ما تصبر الخيل عليهم أو تمهلهم لأن يوتروها ولا تجد في خواص الأندلس وأكثر عوامهم من يمشي دون طيلسان إلا أنه لا يضعه على رأسه منهم إلا الأشياخ المعظمون وغفائر الصوف كثيرا ما يلبسونها حمرا وخضرا والصفر مخصوصة باليهود ولا سبيل إلى يهودي أن يتعمم البتة والذؤابة لا يرخيها إلا العالم ولا يصرفونها بين الأكتاف وإنما يسدلونها من تحت الأذن اليسرى وهذه الأوضاع التي بالمشرق في العمائم لا يعرفها أهل الأندلس وإن رأوا في رأس مشرقي داخل إلى بلادهم شكلا منها أظهروا التعجب والاستظراف ولا يأخذون أنفسهم بتعليمها لأنهم لم يعتادوا ولم يستحسنوا غير أوضاعهم وكذلك في تفصيل الثياب
تدبير الأندلسيين ومروءتهم
وأهل الأندلس أشد خلق الله اعتناء بنظافة ما يلبسون وما يفرشون وغير ذلك ممايتعلق بهم وفيهم من لا يكون عنده إلا ما يقوته يومه فيطويه صائما ويبتاع صابونا يغسل به ثيابه ولا يظهر فيها ساعة على حالة تنبو العين عنها
وهم أهل احتياط وتدبير في المعاش وحفظ لما في أيديهم خوف ذل السؤال فلذلك قد ينسبون للبخل ولهم مروءات على عادة بلادهم

لفضل دقائقها على عظائمه ولد اجتزت مع والدي على قرية من قراها وقد نال منا البرد والمطر أشد النيل فأوينا إليها وكنا على حال ترقب من السلطان وخلو من الرفاهية فنزلنا في بيت شيخ من أهلها من غير معرفة متقدمة فقال لنا إن كان عندكم ما أشتري لكم فحما تسخنون به فإني أمضي في حوائجكم وأجعل عيالي يقومون بشأنكم فأعطيناه ما اشترى به فحما فأضرم نارا فجاء ابن له صغير ليصطلي فضربه فقال له والدي لم ضربته فقال يتعلم استغنام مال الناس والضجر للبرد من الصغر ثم لما جاء النوم قال لابنه أعط هذا الشاب كساءك الغليظة يزيدها على ثيابه فدفع كساءه إلي ولما قمنا عند الصباح وجدت الصبي منتبها ويده في الكساء فقلت ذلك لوالدي فقال هذه مروءات أهل الأندلس وهذا احتياطهم أعطاك الكساء وفضلك على نفسه ثم أفكر في أنك غريب لا يعرف هل أنت ثقة أو لص فلم يطب له منام حتى يأخذكساءه خوفا من انفصالك بها وهو نائم وعلى هذا الشيء الحقير فقس الشيء الجليل انتهى كلام ابن سعيد في المغرب باختصار يسير
منهج كتاب المغرب لابن سعيد
ولله دره فإنه أبدع في هذا الكتاب ما شاء وقسمه إلى أقسام منها كتاب وشي الطرس في حلى جزيرة الأندلس وهو ينقسم إلى أربعة كتب
الكتاب الأول كتاب حلي العرس في حلى غرب الأندلس
الكتاب الثاني كتاب الشفاه اللعس في حلى موسطة الاندلس

الكتاب الثالث كتاب الأنس في حلى شرق الأندلس
الكتاب الرابع كتاب لحظات المريب في ذكر ما حماه من الأندلس عباد الصليب
والقسم الثاني كتاب الألحان المسلية في حلى جزيرة صقلية وهو أيضا ذو أنواع
والقسم الثالث كتاب الغاية الأخيرة في حلى الأرض الكبيرة وهو أيضا ذو أقسام وصور رحمه الله تعالى أجزاء الأندلس في كتاب وشي الطرس وقال أيضا إن كلا من شرق الأندلس وغربها ووسطها يقرب في قدر المساحة بعضه من بعض وليس فيها جزء يجاوز طوله عشرة أيام ليصدق التثليث في القسمة وهذا دون ما بقي بأيدي النصارى
وقدم رحمه الله كتاب حلي العرس في حلي غرب الأندلس لكون قرطبة قطب الخلافة المروانية وإشبيلية التي ما في الأندلس أجمل منها فيه وقسمه إلى سبعة كتب كل كتاب منها يحتوي على مملكة منحازة عن الأخرى
الكتاب الأول كتاب الحلة المذهبة في حلى مملكة قرطبة
الكتاب الثاني كتاب الذهبية الأصيلية في حلى المملكة الإشبيلية
الكتاب الثالث كتاب خدع الممالقة في حلى مملكة مالقة
الكتاب الرابع كتاب الفردوس في حلى مملكة بطليوس
الكتاب الخامس كتاب الخلب في حلى مملكة شلب
الكتاب السادس كتاب الديباجة في حلى مملكة باجة
الكتاب السابع كتاب الرياض المصونة في حلى مملكة أشبونه وقد

ذكر رحمه الله تعالى في كل قسم ما يليق به وصور اجزاءه على ما ينبغي فالله يجازيه خيرا والكلام في الأندلس طويل عريض
خاتمة في نبذة جغرافية
وقال بعض المؤرخين طول الأندلس ثلاثون يوما وعرضها تسعة أيام ويشقها أربعون نهرا كبارا وبها من العيون والحمامات والمعادن ما لا يحصى وبها ثمانون مدينة من القواعد الكبار وأزيد من ثلثمائة من المتوسطة وفيها من الحصون والقرى والبروج ما لا يحصى كثرة حتى قيل إن عدد القرى التي على نهر إشبيلية اثنا عشر ألف قرية وليس في معمور الأرض صقع يجد المسافر فيه ثلاث مدن وأربعا من يومه إلا بالأندلس ومن بركتها أن المسافر لا يسير فيها فرسخين دون ماء أصلا وحيثما سار من الأقطار يجد الحوانيت في الفوات والشعارى والأودية ورؤوس الجبال لبيع الخبز والفواكه والجبن واللحم والحوت وغير ذلك من ضروب الأطعمة
وذكر صاحب الجغرافيا أن جزيرة الاندلس مسيرة أربعين يوما طولا في ثمانية عشر يوما عرضا وهو مخالف لما سبق
وقال اين سيده أخذت الاندلس في عرض الإقليمين الخامس والسادس من البحر الشامي في الجنوب إلى البحر المحيط في الشمال وبها من الجبال سبعة وثمانون جبلا انتهى
مقطعات في مدح الأندلس
ولبعضهم
( لله أندلس وما جمعت بها

( فكأنما تلك الديار كواكب ... وكأنما تلك البقاع سماء )
( وبكل قطر جدول في جنة ... ولعت به الأفياء والأنداء )
وقال غيره
( في أرض أندلس تلتذ نعماء ... ولا يفارق فيها القلب سراء )
( وليس في غيرها بالعيش منتفع ... ولا تقوم بحق الماء صهباء )
( وأين يعدل عن أرض تحض بها ... على الشهادة أزواج وأبناء )
( وأين يعدل عن أرض تحث بها ... على المدامة أفياء وأنداء
( وكيف لا تبهج الأبصار رؤيتها ... وكل أرض بها في الوشي صنعاء )
( أنهارها فضة والمسك تربتها ... والخز روضتها والدر حصباء )
( وللهواء بها لطف يرق به ... من لا يرق وتبدو منه أهواء )
( ليس النسيم الذي يهفو بها سحرا ... ولا انتشار لآلي الطل أنداء )
( وإنما أرج الند استثار بها ... في ماء ورد فطابت منه أرجاء )
( وأين يبلغ منها ما أصنفه ... وكيف يحوي الذي حازته إحصاء )
( قد ميزت من جهات الأرض ثم بدت ... فريدة وتولى ميزها الماء )
( دارت عليها نطاقا أبحر خفقت ... وجدا بها إذ تبدت وهي حسناء )
( لذاك يبسم فيها الزهر من طرب ... والطير يشدو وللأغصان إصغاء )
( فيها خلعت عذارى ما بها عوض ... فهي الرياض وكل الأرض صحراء )
وفد تقدمت هذه القصيدة
وقال آخر
( حبذا أندلس من بلد ... لم تزل تنتج لي

( طائر شاد وظل وارف ... ومياه سائحات وقصور )
وقال آخر
( يا حسن أندلس وما جمعت لنا ... فيها من الأوطار والأوطان )
( تلك الجزيرة لست أنسى حسنها ... بتعاقب الاحيان والأزمان )
( نسج الربيع نباتها من سندس ... موشية ببدائع الألوان )
( وغدا النسيم بها عليلا هائما ... بربوعها وتلاطم البحران )
( يا حسنها والطل ينثر فوقها ... دررا خلال الورد والريحان )
( وسواعد الأنهار قد مدت إلى ... ندمائها بشقائق النعمان )
( وتجاوبت فيها شوادي طيرها ... والتفت الأغصان بالأغصان )
( ما زرتها إلا وحياني بها ... حدق البهار وأنمل السوسان )
( من بعدها ما أعجبتني بلدة ... مع ما حللت به من البلدان )
من خصائص الأندلس
وحكى بعضهم أن بالجامع من مدينة أقليش بلاطا فيه جوائز منشورة مربعة مستوية الأطراف طول الجائزة منها مائة شبر وأحد عشر شبرا
وفي الأندلس جبل من شرب من مائه كثر عليه الاحتلام من غير إرادة ولا تفكر وفيها غير ذلك مما يطول ذكره والله أعلم
ولنمسك العنان في هذا الباب فإن بحر الأندلس طويل مديد وربما كررنا الكلام لارتباط بعضه ببعض أو لنقل صاحبه المروي عنه أو لاختلاف

الباب الثاني
في إلقاء الأندلس للمسلمين بالقياد وفتحها علىيد موسى بن نصير ومولاه طارق بن زياد وصيرورتها ميدانا لسبق الجياد ومحط رحل الارتباء والارتياد وما يتبع ذلك من خبر حصل بازديانه ازدياد ونبإ وصل إليه اعتيام وتقرر بمثله اعتياد
اعلم أنه لما قضى الله سبحانه بتحقيق قول رسول الله زويت لي مشارق الأرض ومغاربها وسيبلغ ملك امتي ما زوي لي منها وقع الخلاف بين لذريق ملك القوط وبين ملك سبتة الذي على مجاز الزقاق فكان ما يذكر من فتح الأندلس على يد طارق وطريف ومولاهما الأمير موسى ابن نصير رحم الله الجميع
أخبار الفتح حسب مختلف الروايات
وذكر الحجاري وابن حيان وغيرهما أن أول من دخل جزيرة الأندلس من المسلمين برسم الجهاد طريف البربري مولى موسى بن نصير الذي تنسب إليه جزيرة طريف التي على المجاز غزاها بمعونة صاحب سبتة يليان النصراني لحقده على لذريق صاحب الأندلس وكان في مائة فارس وأربعمائة راجل جاز البحر في أربعة مراكب

بغنيمة جليلة فعقد موسى بن نصير صاحب المغرب لمولاه طارق بن زياد على الأندلس ووجهه مع يليان صاحب سبتة انتهى
وسيأتي في أمر طريف وغيره ما يخالف هذا السياق وهي أقوال
وقال ابن حبان إن أول أسباب فتح الأندلس كان أن ولى الوليد بن عبدالملك موسى بن نصير مولى عمه عبد العزيز على إفريقية وما خلفها سنة ثمان وثمانين فخرج في نفر قليل من المطوعة فلما ورد مصر أخرج معه من جندها بعثا وفعل ذلك في إفريقية وجعل على مقدمته مولاه طارقا فلم يزل يقاتل البربر ويفتح مدائنهم حتى بلغ مدينة طنجة وهي قصبة بلادهم وأم مدائنهم فحصرها حتى فتحها وأسلم أهلها ولم تكن فتحت قبله وقيل بل فتحت ثم استغلقت
وذكر ابن حيان أيضا استصعاب سبتة على موسى بتدبير صاحبها الداهية الشجاع يليان النصراني وأنه في أثناء ذلك وقع بينه وبين لذريق صاحب الأندلس ثم سرد ما يأتي ذكره
وقال لسان الدين بن الخطيب رحمه الله وحديث الفتح وما من الله به على الإسلام من المنح وأخبار ما أفاء الله من الخير على موسى بن نصير وكتب من جهاد لطارق بن زياد مملول قصاص وأوراق وحديث أفول وإشراق وإرعاد وإبراق وعظم امتشاش وآلة معلقة في دكان قشاش انتهى
وقال في المغرب طارق بن زياد من إفريقية
وقال ابن بشكوال إنه طارق بن عمرو فتح جزيرة الأندلس ودوخها و ' ليه ينسب جبل طارق الذي يعرفه العامة بجبل الفتح في قبلة الجزيرة الخضراء ورحل مع سيده بعد فتح الأندلس إلى الشام وانقطع خبره انتهى

وقال أيضا إن طارقا كان حسن الكلام ينظم ما يجوز كتبه وأما المعارف السلطانية فيكفيه ولاية سلطنة الأندلس وما فتح فيها من البلاد إلى أن وصل سيده موسى بن نصير
ومن تاريخ ابن بشكوال احتل طارق بالجبل المنسوب إليه يوم الاثنين لخمس خلون من رجب سنة اثنتين وتسعين في اثني عشر ألف غير اثني عشر رجلا من البربر ولم يكن فيهم من العرب إى شيء يسير وإنه لما ركب البحر رأى وهو نائم النبي وحوله المهاجرون والانصار قد تقلدوا السيوف وتنكبوا القسي فيقول له رسول الله يا طارق تقدم لشأنك ونظر إليه وإلى أصحابه قد دخلوا الأندلس قدامه فهب من نومه مستبشرا وبشر أصحابه وثابت نفسه ببشراه ولم يشك في الظفر فخرج من الجبل واقتحم بسيط البلد شانا للغارة وأصاب عجوزا من أهل الجزيرة فقالت له في بعض قولها إنه كان لها زوج عالم بالحدثان فكان يحدثهم عن أمير يدخل إلى بلدهم هذا فيغلب عليه ويصف من نعته أنه ضخم الهامة فأنت كذلك ومنها أن في كتفه اليسرى شامة عليها شعر فإن كانت فيك فأنت هو فكشف ثوبه فإذا بالشامة في كتفه على ما ذكرت فاستبشر بذلك ومن معه
ومن تاريخ ابن حيان لما حرض يليان النصاني صاحب سبتة للأمر الذي وقع بينه وبين صاحب الأندلس موسى بن نصير على غزو الأندلس جهز لها مولاه طارقا المذكور في سبعة آلاف من المسلمين جلهم من البربر في أربع سفن وحط بجبل طارق المنسوب إليه يوم السبت في شعبان سنة اثنتين وتسعين ولم تزل المراكب تعود حتى توافى جميع أصحابه عنده بالجبل قال ووقع على لذريق صاحب الأندلس الخبر وأن يليان السبب فيه وكان يومئذ غازيا في جهة البشكنس فبادر

وكتب طارق إلى موسى بأنه قد زحف إليه لذريق بما لا طاقة له به وكان عمل من السفن عدة فجهز له فيها خمسة آلاف من المسلمين فكملوا بمن تقدم اثني عشر ألفا ومعهم يليان صاحب سبتة في حشده يدلهم على العورات ويتجسس لهم الأخبار وأقبل نحوهم لذريق ومه خيار العجم وأملاكها وفرسانها وقلوبهم عليه فتلاقوا فيما بينهم وقالوا إن هذا الخبيث غلب على سلطاننا وليس من بيت الملك وإنما كان من أتباعنا ولسنا نعدم من سيرته خبالا واضطرابا وهؤلاء القوم الذين طرقوا لا حاجة لهم في إيطان بلدنا وإنما مرادهم أن يملأوا أيديهم من الغنائم ويخرجوا عنا فهلم فلننهزم بابن الخبيثة إذا نحن لقينا القوم فلعلهم يكفوننا أمره فإذا هم انصرفوا عنا أقعدنا في ملكنا من يستحقه فأجمعوا على ذلك انتهى
وقال ابن خلدون بعد ذكره ان القوطيين كان لهم ملك الأندلس وان ملكهم لعهد الفتح يسمى لذريق ما نصه وكانت لهم خطوة وراء البحر في هذه العدوة الجنوبية حطوها من فرضة المجاز بطنجة ومن زقاق البحر إلى بلاد البربر واستعبدوهم وكان ملك البرابرة بذلك القطر الذي هو اليوم جبال غمارة يسمى يليان فكان يدين بطاعتهم وبملتهم وموسى بن نصير أمير المغرب إذ ذاك عامل على إفريقية من قبل الوليد بن عبد الملك ومنزله بالقيروان وكان قد أغزى لذلك العهد عساكر المسلمين بلاد المغرب الأقصى ودوخ اقطاره وأثخن في جبال طنجة هذه حتى وصل خليج الزقاق واستنزل يليان لطاعة الإسلام وخلف مولاه طارق بن زياد الليثي واليا بطنجة وكان يليان ينقم على لذريق ملك

بابنته الناشئة في داره على عادتهم في بنات بطارقتهم فغضب لذلك وأجاز إلى لذريق وأخذ ابنته منه ثم لحق بطارق فكشف للعرب عورة القوط ودلهم على عورة فيهم أمكنت طارقا فيها الفرصة فانتهزها لوقته وأجاز البحر سنة اثنتين وتسعين من الهجرة بإذن أميره موسى بن نصير في نحو ثلثمائة من العرب واحتشد معهم من البربر زهاء عشرة آلاف فصيرهم عسكرين أحدهما على نفسه ونزل به جبل الفتح فسمي جبل طارق به والآخر على طريف بن مالك النخعي ونزل بمكان مدينة طريف فسمي به وأداروا الأسوار على أنفسهم للتحصن وبلغ الخبر إلى لذريق فنهض إليهم يجر أمم الأعاجم وأهل ملة النصرانية في زهاء أربعين ألفا وزحفوا إليه فالتقوا بفحص شريش فهزمه الله ونفلهم أموال أهل الكفر ورقابهم وكتب طارق إلى موسى بن نصير بالفتح وبالغنائم فحركته الغيرة وكتب إلى طارق يتوعده إن توغل بغير إذنه ويأمره أن لا يتجاوز مكانه حتى يلحق به واستخلف على القيروان ولده عبد الله وخرج ومعه حبيب بن أبي عبيدة الفهري ونهض من القيروان سنة ثلاث وتسعين من الهجرة في عسكر ضخم من وجوه العرب الموالي وعرفاء البربر ووافى خليج الزقاق ما بين طنجة والجزيرة الخضراء فأجاز إلى الأندلس وتلقاه طارق فانقاد واتبع وأتم موسى الفتح وتوغل في الأندلس إلى برشلونة في جهة الشرق وأربونة في الجوف وصنم قادس في الغرب ودوخ أقطارها وجمع غنائمها وأجمع أن يأتي المشرق من ناحية القسطنطينية ويتجاوز إلى الشام دروبه ودروب الأندلس ويخوض إليه ما بينهما من أمم الأعاجم النصرانية مجاهدا فيهم

لهم إلى أن يلحق بدار الخلافة ونمي الخبر إلى الوليد فاشتد قلقه بمكان المسلمين من دار الحرب ورأى أن ما هم به موسى غرر بالمسلمين فبعث إليه بالتوبيخ والانصراف وأسر إلى سفيره أن يرجع بالمسلمين إن لم يرجع وكتب له بذلك عهده ففت ذلك في عزم موسى وقفل عن الأندلس بعد ان أنزل الرابطة والحامية بثغورها وأنزل ابنه عبد العزيز لسدها وجهاد عدوها وأنزله بقرطبة فاتخذها دار إمارة واحتل موسى بالقيروان سنة خمس وتسعين وارتحل إلى المشرق سنة ست بعدها بما كان معه من الغنائم والذخائر والأموال على العجل والظهر يقال إن من جملتها ثلاثين ألف رأس من السبي وولى على إفريقية ابنه عبد الله وقدم على سليمان بن عبد الملك فسخطه ونكبه وثارت عساكر الأندلس بابنه عبد العزيز بإغراء سليمان فقتلوه لسنتين من ولايته وكان خيرا فاضلا وافتتح في ولايته مدائن كثيرة وولي من بعده أيوب بن حبيب اللخمي وهو ابن أخت موسى بن نصير فولي عليها ستة أشهر ثم تتابعت ولاة العرب على الأندلس تارة من قبل الخليفة وتارة من قبل عامله بالقيروان وأثخنوا في أمم الكفر وافتتحوا برشلونة من جهة المشرق وحصون قشتالة وبسائطها من جهة الجوف وانقرضت أمم القوط وأرز الجلالقة من بقي من أمم العجم إلى جبال قشتالة وأربونة وأفواه الدروب فتحصنوا بها وأجازت عساكر المسلمين ما وراء برشلونة من دروب الجزيرة حتى احتلوا البسائط وراءها وتوغلوا في بلاد الفرنجة وعصفت ريح الإسلام بأمم الكفر من كل جهة وربما كان بين جنود الأندلس من العرب اختلاف وتنازع أوجد للعدو بعض

سنة من لدن فتحها واستمر الأمر على ذلك
وكان محمد بن يزيد عامل إفريقية لسليمان بن عبد الملك لما بلغه مهلك عبد العزيز بن موسى بن نصير بعث إلى الأندلس الحر بن عبد الرحمن بن عثمان الثقفي فقدم الأندلس وعزل أيوب بن حبيب وولي سنتين وثمانية أشهر
ثم بعث عمر بن عبد العزيز على الأندلس السمح بن مالك الخولاني على رأس المائة من الهجرة وأمره أن يخمس أرض الأندلس فخمسها وبنى قنطرة قرطبة واستشهد غازيا بأرض الفرنجة سنة ثنتين ومائة فقدم أهل الأندلس عليهم عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي إلى ان قدم عنبسة بن سحيم الكلبي من قبل يزيد بن أبي مسلم عامل إفريقية فقدمها في صفر سنة ثلاث ومائة فاستقام أمر الأندلس وغزا الفرنجة وتوغل في بلادهم واستشهد سنة سبع ومائة لأربع سنين وأربعة أشهر
ثم تتابعت ولاة الأندلس من قبل أمراء إفريقية فكان أولهم يحيى بن سلمة الكلبي أنفذه بشر بن صفوان الكلبي والي إفريقية لما استدعى منه أهل الأندلس واليا بعد مقتل عنبسة فقدمها آخر سنة سبع واقام في ولايتها سنتين ونصفا ولم يغز وقدم إليها عثمان بن أبي نسعة الخثعمي واليا من قبل عبيدة بن عبد الرحمن السلمي صاحب إفريقية وعزله لخمسة أشهر بحذيفة بن الأحوص القيسي فوافاها سنة عشر وعزل قريبا يقال لسنة من ولايته واختلف هل تقدمه عثمان أو هو تقدم عثمان ثم ولي بعده الهيثم بن عبيد الكلابي من قبل عبيدة بن عبد الرحمن أيضا قدم في المحرم سنة إحدى عشرة وغزا أرض مقوشة فافتتحها وتوفي سنة ثلاث عشرة ومائة لسنتين من ولايته وقدم بعده محمد بن عبد الله الأشجعي فولي شهرين ثم قدم عبد الرحمن بن

عبد الله الغافقي من قبل عبيد الله بن الحبحاب صاحب إفريقية فدخلها سنة ثلاث عشرة وغزا الإفرنجة وكانت له فيهم وقائع وأصيب عسكره في رمضان سنة أربع عشرة في موضع يعرف ببلاط الشهداء وبه عرفت الغزوة وكانت ولايته سنة وثمانية أشهر ثم ولي عبد الملك بن قطن الفهري وقدم في رمضان سنة أربع عشرة فولي سنتين وقال الواقدي أربع سنين وكان ظلوما جائرا في حكومته وغزا أرض البشكنس سنة خمس عشرة ومائة فأوقع بهم وغنم ثم عزل في رمضان سنة ست عشرة وولي عقبة بن الحجاج السلولي من قبل عبيد الله بن الحجاب فأقام خمس سنين محمود السيرة مجاهدا مظفرا حتى بلغ سكنى المسلمين أربونة وصار رباطهم على نهر رودنة ثم وثب عليه عبد الملك بن قطن الفهري سنة إحدى وعشرين فخلعه وقتله ويقال أخرجه من الأندلس وولي مكانه إلى أن دخل بلج بن بشر بأهل الشام سنة أربع وعشرين فغلب عليه وولي الأندلس سنة أو نحوها
وقال الرازي ثار أهل الأندلس بأميرهم عقبة في صفر سنة ثلاث وعشرين في خلافة هشام بن عبد الملك وولوا عليهم عبد الملك بن قطن ولايته الثانية فكانت ولاية عقبة ستة أعوام وأربعة أشهر وتوفي بقرقشونة في صفر سنة ثلاث وعشرن واستقام الأمر لعبد الملك ثم دخل بلج بن بشر القشيري بجنيد الشام ناجيا من وقعة كلثوم بن عياض مع البربر بملوية فثار على عبد الملك وقتله وهو ابن سبعين سنة واستوثق له الأمر بعد مقتل عبد الملك وانحاز الفهريون إلى جانب فامتنعوا عليه وكاشفوه واجتمع إليهم من أنكر فعلته بابن قطن وقام بأمرهم قطن وأمية

والتقوا فكانت الدائرة على الفهريين وهلك بلج من الجراح التي نالته في حربهم وذلك سنة اربع وعشرين لسنة أو نحوها من إمارته ثم ولي ثعلبة بن سلامة الجذامي وغلب على إمارة الأندلس بعد مهلك بلج وانحاز عنه الفهريون فلم يطيعوه وولي سنتين أظهر فيهما العدل ودانت له الأندلس عشرة أشهر إلى أن مالت به العصبية في يمانيته ففسد أمره وهاجت الفتنة وقدم أبو الخطار حسام بن ضرار الكلبي من قبل حنظلة بن صفوان عامل إفريقية ركب إليها البحر من تونس سنة خمس وعشرين فدان له أهل الأندلس وأقبل إليه ثعلبة وابن أبي نسعة وابنا عبد الملك فلقيهم وأحسن إليهم واستقام أمره وكان شجاعا كريما ذا رأي وحزم وكثر أهل الشام عنده ولم تحملهم قرطبة ففرقهم في البلاد وأنزل أهل دمشق إلبيرة لشبهها بها وسماها دمشق وأنزل أهل حمص إشبيلية وسماها حمص وأهل قنسرين جيان وسماها قنسرين وأهل الأردن رية ومالقة وسماهما الأردن وأهل فلسطين شذونة وهي شريش وسماها فلسطين وأهل مصر تدمير وسماها مصر وقفل ثعلبة إلى المشرق ولحق بمروان بن محمد وحضر حروبه وكان أبو الخطار أعرابيا عصبيا أفرط عند ولايته في التعصب لقومه من اليمانية وتحامل على المضرية وأسخط قيسا وأمر في بعض الأيام بالصميل بن حاتم كبير القيسية وكان من طوالع بلج وهو الصميل بن حاتم بن شمر بن ذي الجوشن ورأس على المضرية فأقيم من مجلسه وتقنع فقال له بعض الحجاب وهو خارج من القصر أقم عمامتك يا أبا الجوشن فقال إن كان لي قوم فسيقيمونها فسار الصميل بن حاتم أميرهم يومئذ وزعيمهم وألب عليه قومه واستعان بالمنحرفين عنه من اليمانية فخلع أبو الخطار سنة ثمان وعشرين لأربع سنين وتسعة أشهر من ولايته وقدم مكانه ثوابه بن سلامة الجذامي

لكل دولة وقدم المضرية على أنفسهم يوسف بن عبد الرحمن الفهري سنة تسع وعشرين واستتم سنة ولايته بقرطبة دار الإمارة ثم وافته اليمانية لميعاد إدالتهم واثقين بمكان عهدهم وتراضيهم واتفاقهم فبيتهم يوسف بمكان نزولهم في شقندة من قرى قرطبة بممالأة من الصميل بن حاتم والقيسية وسائر المضرية فاستلحموهم وثار ابو الخطار فقاتله الصميل وهزمه وقتله سنة تسع وعشرين واستبد يوسف بما وراء البحر من عدوة الأندلس وغلب اليمينة على أمرهم فاستكانوا لغلبة وتربصوا الدوائر إلى أن جاء عبد الرحمن الداخل وكان يوسف ولي الصميل سرقسطة فلما ظهر أمر المسودة بالمشرق ثار الحباب الزهري بالأندلس داعيا لهم وحاصر الصميل بسرقسطة واستمد يوسف فلم يمده رجاء هلاكه لما كان يغض به وأمدته القيسية فأفرج عنه الحباب وفارق الصميل سرقسطة فملكها الحباب وولى يوسف الصميل على طليطلة إلى أن كان من عبد الرحمن الداخل ما كان انتهى كلام ولي الدين بن خلدون ببعض اختصار
وقال بعض المؤرخين إن عبد الله بن مروان أخا عبد الملك كان واليا على مصر

ابن نصير إلى إفريقية وذلك سنة سبع وثمانين للهجرة فامتثل أمره في ذلك
وقال الحميدي في جذوة المقتبس إن موسى بن نصير ولي إفريقية والمغرب سنة سبع وسبعين فقدمها ومعه جماعة من الجند فبلغه أن بأطراف البلاد من هو خارج عن الطاعة فوجه ولده عبد الله فأتاه بمائة ألف رأس من السبايا ثم ولده مروان إلى جهة أخرى فأتاه بمائة ألف رأي وقال الليث بن سعد بلغ الخمس ستين ألف رأس وقال الصدفي لم يسمع في الإسلام بمثل سبايا موسى بن نصير ووجد أكثر مدن إفريقية خالية لاختلاف أيدي البربر عليها وكانت البلاد في قحط شديد فأمر الناس بالصوم والصلاة وإصلاح ذات البين وخرج بهم إلى الصحراء ومعه سائر الحيوانات وفرق بينها وبين أولادها فوقع البكاء والصراخ والضجيج وأقام على ذلك إلى منتصف النهار ثم صلى وخطب الناس ولم يذكر الوليد بن عبد الملك فقيل له ألا تدعو لأمير المؤمنين فقال هذا مقام لا يدعى فيه لغير الله تعالى فسقوا حتى رووا ثم خرج موسى غازيا وتتبع البربر وقتل فيهم قتلا ذريعا وسبى سبيا عظيما وسار حتى انتهى إلى السوس الأدنى لا يدافعه أحد فلما رأى بقية البربر ما نزل بهم استأمنوا وبذلوا له الطاعة فقبل منهم وولى عليهم واليا واستعمل على طنجة وأعمالها مولاه طارق بن زياد البربري ويقال إنه من الصدف وترك عنده تسعة عشر ألفا من البربر بالأسلحة والعدة الكاملة وكانوا قد اسلموا وحسن إسلامهم وترك موسى عندهم خلقا يسيرا من العرب ليعلموا البربر القرآن وفرائض الإسلام ورجع إلى إفريقية ولم يبق بالبلاد من ينازعه من البربر ولا من الروم ولما استقرت له القواعد كتب إلى طارق وهو بطنجة يأمره بغزو بلاد الأندلس فغزاها في اثني عشر ألف من البربر خلا اثني عشر رجلا وصعد على

يوم الاثنين خامس رجب سنة اثنتين وتسعين وذكر عن طارق أنه كان نائما في المركب وقع التعدية فرأى النبي صلى الله عليه و سلم وأمره بالرفق بالمسلمين والوفاء بالعهد هكذا ذكر ابن بشكوال
وقيل إن موسى ندم على تأخره وعلم أن طارقا إن فتح شيئا نسب الفتح إليه دونه فأخذ في جمع العساكر وولى على القيروان ابنه عبد الله وتبع طارقا فلم يدركه إلا بعد الفتح وقال بعض العلماء إن موسى بن نصير كان عاملا شجاعا كريما تقيا لله تعالى ولم يهزم له قط جيش وكان والده نصير على جيوش معاوية ومنزلته لديه مكينة ولما خرج معاوية لصفين لم يخرج معه فقال له ما منعك من الخروج معي ولي عندك يد لم تكافئني عليها فقال لم يمكني أن أشكرك بكفري من هو أولى بشكري منك فقال من هو فقال الله عز و جل فأطرق مليا ثم قال أستغفر الله ورضي عنه
ورجع إلى حديث طارق قال بعض المؤرخين كان لذريق ملك الأندلس استخلف عليها شخصا يقال له تدمير وإليه تنسب تدمير بالأندلس فلما نزل طارق من الجبل كتب تدمير إلى لذريق إنه قد نزل بأرضنا قوم لا ندري أمن السماء هم أم من الأرض فلما بلغ لذريق ذلك وكان قصد بعض الجهات البعيدة لغزو له في بعض أعدائه رجع عن مقصده في سبعين ألف فارس ومعه العجل تحمل الأموال والمتاع وهو على سريره بين دابتين وعليه مظلة مكللة بالدر والياقوت والزبرجد فلما بلغ طارقا دنوه قام في أصحابه فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم حث المسلمين على الجهاد ورغبهم ثم قال أيها الناس أين المفر البحر من ورائكم والعدو أمامكم

من الأيتام في مأدبة اللئام وقد استقبلكم عدوكم بجيشه وأسلحته وأقواته موفورة وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم ولا أقوات إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوكم وإن امتدت بكم الأيام على افتقاركم ولم تنجزوا لكم أمرا ذهبت ريحكم وتعوضت القلوب من رعبها منكم الجراءة عليكم فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة وإن انتهاز الفرصة فيه لممكن إن سمحتم لأنفسكم بالموت وإني لم أحذركم أمرا أنا عنه بنجوة ولا حملتكم على خطة أرخص متاع فيها النفوس إلا وأنا أبدأ بنفسي واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشق قليلا استمعتم بالأرفه الألذ طويلا فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي فما حظكم فيه بأوفى من حظي وقد بلغكم ما أنشأت هذه الجزيرة من الحور الحسان من بنات اليونان الرافلات في الدر والمرجان والحلل المنسوجة بالعقيان المقصورات في قصور الملوك ذوي التيجان وقد انتخبكم الوليد ابن عبد الملك أمير المؤمنين من الأبطال عربانا ورضيكم لملوك هذه الجزيرة صهارا وأختانا ثقة منه بارتياحكم للطعان واستماحكم بمجالدة الأبطال والفرسان ليكون حظه منكم ثواب الله على إعلاء كلمته وإظهار دينه بهذه الجزيرة وليكون مغنمها خالصة لكم من دونه ومن دون المؤمنين سواكم والله تعالى ولي إنجادكم على ما يكون لكم ذكرا في الدارين واعلموا أني أول مجيب إلى ما دعوتكم إليه وأني عند ملتقى الجمعين حامل بنفسي على طاغية القوم لذريق فقاتله إن شاء الله تعالى فاحملوا معي فإن هلكت بعده فقد كفيتكم أمره ولم يعوزكم بطل عاقل تسندون أموركم إليه وإن هلكت قبل وصولي إليه فاخلفوني في عزيمتي هذه واحملوا بأنفسكم عليه واكتفوا الهم من فتح هذه الجزيرة بقتله فإنهم بعده يخذلون فلما فرغ من تحريض أصحابه على الصبر في قتال لذريق وأصحابه وما

وعدهم من الخير الجزيل انبسطت نفوسهم وتحققت آمالهم وهبت رياح النصر عليهم وقالوا له قد قطعنا الآمال مما يخالف ما عزمت عليه فاحضر إليه فإننا معك وبين يديك فركب وأصحابه فباتوا ليلتهم في حرس إلى الصبح فلما أصبح الفريقان تكتبوا وعبوا جيوشهم وحمل لذريق وهو على سريره وقد حمل على رأسه رواق ديباج يظلله وهو مقبل في غابة من البنود والأعلام وبين يديه المقاتلة والسلاح وأقبل طارق في أصحابه عليهم الزرد من فوق رؤوسهم العمائم البيض وبأديهم القسي العربية وقد تقلدوا السيوف واعتقلوا الرماح فلما نظر إليهم لذريق حلف وقال إن هذه الصور هي التي رأيناها ببيت الحكمة ببلدنا فداخله منهم الرعب فلما رأى طارق لذريق قال هذا طاغية القوم فحمل وحمل أصحابه معه فتفرقت المقاتلة من بين يدي لذريق فخلص إليه طارق فضربه بالسيف على رأسه فقتله على سريره فلما رأى أصحابه مصرع صاحبهم اقتحم الجيشان وكان النصر للمسلمين ولم تقف هزيمة العدو على موضع بل كانوا يسلمون بلدا بلدا ومعقلا معقلا
ولما سمع موسى بن نصير بما حصل من النصرة لطارق عبر الجزيرة بمن معه ولحق بمولاه طارق فقال له يا طارق إنه لن يجازيك الوليد بن عبد الملك على بلائك بأكثر من أن يمنحك الأندلس فاستبحه هنيئا مريئا فقال له طارق أيها الأمير والله لا أرجع عن قصدي هذا ما لم أنته إلى البحر المحيط أخوض فيه بفرسي يعني البحر الشمالي الذي تحت بنات نعش ولم يزل طارق يفتح وموسى معه إلى أن بلغ جليقية وهي ساحل البحر المحيط انتهى
وقال

نقم على مولاه طارق إذ غزا بغير إذنه وهم بقتله ثم ورد عليه كتاب الوليد بإطلاقه فأطلقه وخرج معه إلى الشام انتهى
خبر بيت الحكمة بالأندلس
قول لذريق إن هذه الصور هي التي رأيناها في بيت الحكمة إلخ اشار به إلى بيت حكمة اليونان وكان من خبره فيما حكى بعض علماء التاريخ أن اليونان وهم الطائفة المشهورة بالحكم كانوا يسكنون بلاد الشرق قبل عهد الإسكندر فلما ظهرت الفرس واستولت على البلاد وزاحمت اليونان على ما كان بأيديهم من الممالك انتقل اليونان إلى جزيرة الأندلس لكونها طرفا في آخر العمارة ولم يكن لها ذكر إذ ذاك ولا ملكها أحد من الملوك المعتبرة ولم تك عامرة وكان أول من عمر فيها واختطها أندلس بن يافث بن نوح عليه السلام فسميت باسمه ولما عمرت الأرض بعد الطوفان كانت الصورة المعمورة منها عندهم على شكل طائر رأسه المشرق والجنوب والشمال رجلاه وما بينهما بطنه والمغرب ذنبه وكانوا يزدرون المغرب لنسبته إلى أخس أجزاء الطير وكانت اليونان لا ترى فناء الأمم بالحروب لما فيها من الأضرار والاشتغال عن العلوم التي كان الاشتغال بها عندهم من أهم الامور فلذلك انحازوا من بين يدي الفرس إلى الأندلس فلما صاروا إليها أقبلوا على عمارتها فشقوا الانهار وبنوا المعاقل وغرسوا الجنات والكروم وشيدوا الأمصار وملؤوها حرثا ونسلا وبنيانا فعظمت وطابت حتى قال قائلهم لما رأى بهجتها إن الطائر الذي صورت هذه العمارة على شكله وكان المغرب ذنبه كان طاووسا معظم جماله في ذنبه
وحكي أن الرشيد هرون رحمه الله لما حضر بين

المغرب قال الرشيد يقال إن الدنيا بمثابة طائر ذنبه المغرب فقال الرجل صدقوا يا أمير المؤمنين وإنه طاووس فضحك أمير المؤمنين الرشيد وتعجب من سرعة جواب الرجل وانتصاره لقطره
رجع قال فاغتبط اليونان بالأندلس أتم اغتباط واتخذوا دار الحكمة والملك بها طليطلة لأنها أوسط البلاد وكان أهم الأمور عندهم تحصينها عمن يتصل به خبرها من الأمم فنظروا فإذا هو أنه لا يحسدهم على رغد العيش إلا أرباب الشظف والشقاء والتعب وهم يومئذ طائفتان العرب والبربر فخافوهم على جزيرتهم العامرة فعزموا على أن يتخذوا لهذين الجنسين من الناس طلسما فرصدوا لذلك أرصادا ولما كان البربر بالقرب منهم وليس بينهم سوى تعدية البحر ويرد عليهم منهم طوائف منحرفة الطباع خارجة عن الأوضاع ازدادوا منهم نفورا وكثر تحذرهم من نسب أومجاورة حتى ثبت ذلك في طبائعهم وصار بعضه مركبا في غرائزهم فلما علم البربر عداوة أهل الأندلس وبغضهم لهم أبغضوهم وحسدوهم فلم تجد أندلسيا إلا مبغضا بربريا وبالعكس إلا أن البربر أحوج إلى أهل الأندلس لوجود بعض الأشياء عندهم وفقدها ببلاد البربر
وكان بنواحي غرب الأندلس ملك يوناني بجزيرة يقال لها قادس وكانت له ابنة في غاية الجمال فتسامع بها ملوك الأندلس وكانت الأندلس كثيرة الملوك لكل بلدة أو بلدتين ملك فخطبوها وخشي أبوها إن زوجها من واحد أسخط الباقين فتحير وأحضر ابنته وكانت الحكمة مركبة في طباع القوم ذكورهم وإناثهم ولذا قيل إن الحكمة نزلت من السماء على ثلاثة أعضاء من أهل الأرض أدمغة اليونان وأيدي أهل الصين وألسنة العرب فقال لها يا بنية إني اصبحت على حيرة في أمرك

من الملوك وما أرضيت واحدا إلا أسخطت الباقين فقالت له اجعل الأمر إلى تخلص فقال وما تقترحين فقالت أن يكون ملكا حكيما فقال نعم ما اخترته لنفسك فكتب في أجوبة الملوك الخطاب أنها اختارت من الأزواج الملك الحكيم فلما وقفوا على الجواب سكت من لم يكن حكيما وكان من الملوك الخاطبين حكيمان فكتب كل واحد منهما أنا الملك الحكيم فلما وقفت على كتابيهما قال لها يا بنية بقي الأمر على إشكال وهذان ملكان حكيمان أيهما أرضيت أسخطت الآخر فقالت سأقترح على كل واحد منهما أمرا يأتي به فأيهما سبق إلى الفراغ مما التمست كنت زوجته قال وما الذي تقترحين عليهما قالت إنا ساكنون بهذه الجزيرة ومحتاجون إلى أرحي تدور بها وإني مقترحة على أحدهما إدارتها بالماء العذاب الجاري إليها من ذلك البر ومقترحة على الأخر أن يتخذ لي طلسما نحصن به جزيرة الأندلس من البربر فاستظرف أبوها ذلك وكتب إلى الملكين بما قالت ابنته فأجاباه إلى ذلك وتقاسماه على ما اختارا وشرع كل واحد منهما في عمل ما أسند إليه من ذلك
فأما صاحب الرحي فإنه عمد إلى أشكال اتخذها من الحجارة نضد بعضها إلى بعض في البحر المالح الذي بين جزيرة الأندلس والبر الكبير في الموضع المعروف بزقاق سبتة وسدد الفرج التي بين الحجارة بما اقتضت حكمته وأوصل تلك الحجارة من البر إلى الجزيرة وآثاره باقية إلى اليوم في الزقاق الذي بين سبتة والجزيرة الخضراء وأكثر أهل الأندلس يزعمون أن هذا أثر قنطرة كان الإسكندر قد عملها ليعبر عليها الناس من سبتة إلى الجزيرة والله أعلم أي القولين أصح غير أن الشائع إلى الآن عند الناس هو الثاني فلما تم تنضيد الحجارة للملك الحكيم جلب الماء العذب من جبل عال في البر الكبير وسلطه من ساقية محكمة وبنى بجزيرة الاندلس رحى على هذه الساقية
وأما صاحب الطلسم فإنه أبطأ

غير انه عمل أمره وأحكمه وابتنى بنيانا مربعا من حجر أبيض على ساحل البحر في رمل عالج حفر أساسه إلى أن جعله تحت الأرض بمقدار ارتفاعه فوق الأرض ليثبت فلما انتهى البناء المربع إلى حيث اختار صور من النحاس الأحمر والحديد المصفى المخلوطين بأحكم الخلط صورة رجل بربري وله لحية وفي رأسه ذؤابة من شعر جعد قائمة في رأسه لجعودتها وهو متأبط بصورة كساء قد جمع طرفيه على يده اليسرى بألطف تصوير وأحكمه في رجله نعل وهو قائم من رأس البناء على مستهدف بمقدار رحليه فقط وهو شاهق في الهواء طوله نيف عن ستين أو سبعين ذراعا وهو محدود الأعلى إلى أن ينتهي ما سعته قدر ذراع وقد مد يده اليمنى بمفتاح قفل قابضا عليه مشيرا إلى البحر كأنه يقول لا عبور وكان من تأثير هذا الطلسم في البحر الذي تجاهه أنه لم ير قط ساكنا ولا كانت تجري فيه قط سفينة بربر حتى سقط المفتاح من يده وكان الملكان اللذان عملا الرحي والطلسم يتسابقان إلى فراغ العمل إذ بالسبق يستحق زواج المرأة وكان صاحب الرحي فرغ أولا لكنه أخفى أمره عن صاحب الطلسم لئلا يترك عمله فيبطل الطلسم لتحظى المرأة بالرحي والطلسم فلم علم باليوم الذي يفرغ صاحب الطلسم في آخره أجرى الماء في الجزيرة من أوله وأدار الرحي واشتهر ذلك فاتصل الخبر بصاحب الطلسم وهو في أعلى القبة يصقل وجهه وكان الطلسم مذهبا فلما تحقق أنه مسبوق ضعفت نفسه فسقط من أعلى البناء ميتا وحصل صاحب الرحي على المرأة والرحي والطلسم وكان من تقدم من ملوك اليونان يخشى على الأندلس من البربر للسبب

اختاروا أرصادها وأودعوا تلك الطلسمات تابوتا من الرخام وتركوه في بيت بطليطلة وركبوا على ذلك الباب قفلا تأكيدا لحفظ ذلك البيت فاستمر أمرهم على ذلك
ولما حان وقت انقراض دولة من كان بالأندلس ودخول العرب والبربر إليها وذلك بعد مضي ستة وعشرين ملكا من ملوكهم من تاريخ عمل الطلسمات بطليطلة وكان لذريق المذكور آنفا هو تمام السابع والعشرين من ملوكهم فلما اقتعد أريكة الملك قال لوزرائه وخواص دولته وأهل الرأي منهم قد وقع في نفسي من أمر هذا البيت الذي عليه ستة وعشرون قفلا شيء وأرد أن أفتحه لأنظر ما فيه لأنه لم يعمل عبثا فقالوا أيها الملك صدقت إنه لم يصنع عبثا ولم يقفل سدى والرأي والمصلحة أن تلقي أنت أيضا عليه قفلا أسوة بمن تقدمك من الملوك وكان آباؤك وأجدادك لم يهملوا هذا فلا تهمله وسر سيرهم فقال لهم إن نفسي تنازعني إلى فتحه ولا بد لي منه فقالوا له إن كنت تظن أن فيه مالا فقدره ونحن نجمع لك من أموالنا نظيره ولا تحدث علينا بفتحه حادثا لا نعرف عاقبته فأصر على ذلك وكان رجلا مهيبا فلم يقدروا على مراجعته وأمر بفتح الأقفال وكان على كل قفل مفتاحه معلقا فلما فتح الباب لم ير في البيت شيئا إلا مائدة عظيمة من ذهب وفضة مكللة بالجواهر وعليها مكتوب هذه مائدة سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام ورأى في البيت ذلك التابوت وعليه قفل ومفتاحه معلق ففتحه فلم يجد فيه سوى رق وفي جوانب التابوت صور فرسان مصورة بأصباغ محكمة التصوير على أشكال العرب وعليهم الفراء وهم معممون إلى ذوائب جعد ومن تحتهم الخيل العربية وهم متقلدون السيوف المحلاة معتقلون الرماح

التابوت المقفلان بالحكمة دخل القوم الذين صورهم في التابوت إلى جزيرة الأندلس وذهب ملك من فيها من أيديهم وبطلت حكمتهم فلما سمع لذريق ما في الرق ندم على ما فعل وتحقق انقراض دولتهم فلم يلبث إلا قليلا حتى سمع أن جيشا وصل من المشرق جهزه ملك العرب ليفتح بلاد الأندلس انتهى
فهذا هو بيت الحكمة الذي أشار إليه لذريق والله أعلم بحقيقة الأمر في ذلك كله على أن في هذا السياق مخالفة لما سنذكره عن بعض ثقات مؤرخي الأندلس وغيرهم في شأن المائدة وغيرها وما ذكر في هذه القصة من جلب الماء من بر العدوة إلخ فيه بعد عندي لأن بلاد الأندلس أكثر بلاد الله مياها وأنهارا فأنى تحتاج إلى جلب الماء إليها من العدوة الأخرى إلا أن يقال إن المرأة أرادت تعجيز الرجل بذلك أو اختبار حكمته حتى يفعل هذا الامر الغريب وعلم الله من وراء ذلك كله وفوق كل ذي علم عليم ومنتهى العلم إلى الله الحكيم
عود إلىأخبار الفتح
وقال ابن حيان في المقتبس ذكروا أن لذريق لم يكن من أبناء الملوك ولا بصحيح النسب في القوط وأنه إنما نال الملك من طريق الغصب والتسور عندما مات إغطشة الملك الذي كان قبله وكان أثيرا لديه مكينا فاستصغر أولاده لمكانه واستمال طائفة من الرجال مالوا معه فانتزع الملك من أولاد إغطشة واستبقاهم فكانوا هم الذين دبروا عليه فيما ذكر عندما لقي

رجال العرب المقتحمين عليه بالأندلس من تلقاء بحر الزقاق وعليهم طارق بن زياد مولى موسى بن نصير طماعة منهم في أن يودي ويخلص إليهم ملك أبيهم فالتقوا بموضع يدعى وادي لكة من أرض الجزيرة الخضراء من ساحل الأندلس القبلي مكان عبورهم وذلك لسبع خلون من شهر ربيع الأول سنة اثنتين وتسعين من الهجرة فانهزم القوط أعظم هزيمة وقتل ملكهم لذريق وغلبت العرب على الاندلس فصارت أقصى فتوحهم من أرض العرب ومصداق موعد نبيهم الكفيل بفتح ما بين المشرق والمغرب عليهم بوحي الله تعالى إليه أنجزه لهم بفتح الأندلس ولله القوة
قال وقام بأمر العرب بالأندلس منذ فتحت الأمراء المرسلون منهم عليها من قبل أئمة المسلمين بالمشرق طوال دولة بني أمية رضي الله تعالى عنهم إلى أن طرأ إليها فلهم عند غلبة بني العباس عليهم وذلك عبد الرحمن بن معاوية ابن هشام بن عبد الملك بن مروان فملكها وأعاد إليها الدولة الأموية التي أورثها عقبه حقبة فكانت عدة هؤلاء الأمراء من لدن أولهم طارق بن زياد إلى آخرهم يوسق بن عبد الرحمن الفهري عشرين عاملا وعدة سنيهم بالشمسي خمس وأربعون سنة وبالقمري سبع وأربعون سنة غير أشهر انتهى
وقال في موضع آخر نقلا عن الرازي وافتتحت الاندلس في أيام الوليد ابن عبد الملك فكان فتحها من أعظم الفتوح الذاهبة بالصيت في ظهور الملة الحنيفية وكان عمر بن عبد العزيز رضوان الله عليه متهمما بها معتنيا بشأنها وقد حولها عن نظر والي إفريقية وجرد إليها عاملا من قبله اختاره لها دلالة على معنيته بها ووقعت

ملخص خبر الفتح من الكتاب الخزائني وغيره
وفي الكتاب الخزائني وغيره سياقة فتح الأندلس علىأتم الوجود فلنذكر ملخصه قالوا استعمل أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك رحمه الله تعالى موسى بن نصير مولى عمه عبد العزيز بن مروان ويقال بل هو بكري وذلك أن أباه نصيرا أصله من علوج أصابهم خالد بن الوليد رضي الله عنه في عين التمر فادعوا أنهم رهن وأنهم من بكر بن وائل فصار نصيرا وصيفا لعبد العزيز بن مروان فأعتقه فمن هذا يختلف فيه وقيل إنه لخمي وعقد له على إفريقية وما خلفها في سنة ثمان وثمانين فخرج إلى ذلك الوجه في نفر قليل من المطوعة فلما ورد مصر أخرج معه من جندها بعثا وأتى إفريقية عمله فأخرج من أهلها معه ذوي القوة والجلد وصير على مقدمته طارق بن زياد فلم يزل يقاتل البربر ويفض جموعهم ويفتح بلادهم ومدائنهم حتى بلغ طنجة وهي قصبة ملك البربر وأم مدائنهم فحصرها حتى افتتحها وقيل إنها لم تكن افتتحت قبله وقيل افتتحت ثم ارتجعت فأسلم أهلها وخطها قيروانا للمسلمين ثم ساروا إلى مدائن على شط البحر فيها عمال لصاحب الاندلس قد غلبوا عليها وعلى ما حولها ورأس تلك المدائن سبتة وعليها علج يسمى يليان قاتله موسى فألفاه في نجدة وقوة وعدة فلم يطقه فرجع إلى مدينة طنجة فأقام بمن معه وأخذ في الغارات على ما حولهم والتضييق عليهم والسفن تختلف إليهم بالميرة والأمداد من الأندلس من قبل ملكها غيطشة فهم يذبون عن حريمهم ذبا شديدا ويحمون بلادهم حماية تامة إلى ان هلك غيطشة ملك الأندلس وترك أولادا لم يرضهم أهلها للملك فاضطرب حبل أهل الأندلس ثم تراضوا بعلج من كبارهم يقال

أنه من قوادهم وفرسانهم فولوه أمرهم وكانت طليطلة دار الملك بالأندلس حينئذ وكان بها بيت مغلق متحامى الفتح على الأيام عليه عدة من الأقفال يلزمه قوم من ثقات القوط قد وكلوا به لئلا يفتح وقد عهد الأول في ذلك إلى الآخر فكلما قعد منهم ملك أتاه أولئك الموكلون بالبيت فأخذوا منه قفلا وصيروه على ذلك الباب من غير أن يزيلوا قفل من تقدمه فلما قعد لذريق هذا وكان متهمما يقظا ذا فكر أتاه الحراس يسألونه أن يقفل على الباب فقال لهم لا أفعل أو أعلم ما فيه ولا بد لي من فتحه فقالوا له أيها الملك إنه لم يفعل هذا أحد ممن قبلك وتناهوا عن فتحه فلم يلتفت إليهم ومشى إلى البيت فأعظمت ذلك العجم وضرع إليه أكابرهم في الكف فلم يفعل وظن أنه بيت مال ففض الأقفال عنه ودخل فأصابه فارغا لا شيء فيه إلا تابوتا عليه قفل فأمر بفتحه يحسب أن مضمونه يقنعه نفاسة فألفاه أيضا فراغا ليس فيه إلا شقة مدرجة قد صورت فيها صور العرب عليهم العمائم وتحتهم الخيول العراب متقلدي السيوف متنكبي القسي رافعي الرايات على الرماح وفي أعلاها أسطر مكتوبة بالعجمية فقرئت فإذا فيها إذا كسرت الأقفال عن هذا البيت وفتح هذا التابوت فظهر ما فيه من هذه الصور فإن هذه الأمة المصورة في هذه الشقة تدخل الأندلس فتغلب عليها وتملكها فوجم لذريق وندم على ما فعل وعظم غمه وغم العجم بذلك وأمر برد الأقفال وإقرار الحرس على حالهم وأخذ في تدبير الملك وذهل عما أنذر به
وقد كان من سير أكابر العجم بالأندلس وقوادهم أن يبعثوا أولادهم الذين يريدون منفعتهم والتنويه بهم إلى بلاد الملك الأكبر بطليطلة ليصيروا في خدمته ويتأدبوا بأدبه وينالوا من كرامته حتى إذا بلغوا أنكح بعضهم بعضا استئلافا لآبائهم وحمل صدقاتهم وتولى تجهيز إناثهم إلى أزواجهن فاتفق أن فعل ذلك يليان عامل لذريق على سبتة وكانت يومئذ في يد صاحب الأندلس وأهلها على النصرانية ركب الطريقة بابنة له بارعة الجمال

صارت عند لذريق وقعت عينه عليها فأعجبته وأحبها حبا شديدا ولم يملك نفسه حتى استكرهها وافتضها فاحتالت حتى أعلمت أباها بذلك سرا بمكاتبة خفية فأحفظه شأنها جدا واشتدت حميته وقال ودين المسيح لأزيلن سلطانه ولأحفرن تحت قدميه فكان امتعاضه من فاحشة ابنته هو السبب في فتح الأندلس بالذي سبق من قدر الله تعالى
ثم إن يليان ركب بحر الزقاق من سبتة في أصعب الأوقات في ينير قلب الشتاء فصار بالأندلس وأقبل إلى طليطلة نحو الملك لذريق فأنكر عليه مجيئه في مثل ذلك الوقت وسأله عما لديه ولم جاء في مثل وقته فذكر خيرا واعتل بذكر زوجته وشدة شوقها إلى رؤية بنتها التي عنده وتمنيها لقاءها قبل الموت وإلحاحها عليه في إحضارها وأنه أحب إسعافها ورجا بلوغها أمنيتها منه وسأل الملك إخراجها إليه وتعجيل إطلاقه للمبادرة بها ففعل وأجاز الجارية وتوثق منها بالكتمان عليه وأفضل على أبيها فانقلب عنه وذكروا أنه لما ودعه قال له لذريق إذا قدمت علينا فاستفره لنا من الشذانقات التي لم تزل تطرفنا بها فإنها آثر جوارحنا لدينا فقال له أيها الملك وحق المسيح لئن بقيت لأدخلن عليك شذانقات ما دخل عليك مثلها قط عرض له بالذي أضمره من السعي في إدخال رجال العرب عليه وهو لا يفطن فلم يتنهنه يليان عندما استقر بسبتة عمله أن تهيأ للمسير نحو موسى بن نصير الأمير فمضى نحوه بإفريقية وكلمة في غزو الأندلس ووصف له حسنها وفضلها وما جمعت من أسباب المنافع وأنواع المرافق

وطيب المزارع وكثرة الثمار وثرارة المياه وعذوبتها وهون عليه مع ذلك حال رجالها ووصفهم بضعف البأس وقلة الغناء فشوق موسى إلى ما هناك وأخذ بالحزم فيما دعاه إليه يليان فعاقده على الانحراف إلى المسلمين واستظهر عليه بأن سامه مكاشفة أهل ملته من الأندلس المشركين والاستخراج إليهم بالدخول إليها وشن الغارة فيها ففعل يليان ذلك وجمع جمعا من أهل عمله فدخل بهم في مركبين وحل بساحل الجزيرة الخضراء فأغار وقتل وسبى وغنم وأقام بها أياما ثم رجع بمن معه سالمين وشاع الخبر عند المسلمين فأنسوا بيليان واطمأنوا إليه وكان ذلك عقب سنة تسعين فكتب موسى بن نصير إلى أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك يخبره بالذي دعاه إليه يليان من أمر الأندلس ويستأذنه في اقتحامها فكتب إليه الوليد أن خضها بالسرايا حتى ترى وتختبر شأنها ولا تغرر بالمسلمين في بحر شديد الأهوال فراجعه أنه ليس ببحر زخار وإنما هو خليج منه يبين للناظر ما خلفه فكتب إليه وإن كان فلا بد من اختباره بالسرايا قبل اقتحامه فبعث موسى عند ذلك رجلا من مواليه من البرابرة اسمه طريف يكنى أبا زرعة في أربعمائة رجل معهم مائة فرس سار بهم في أربعة مراكب فنزل بجزيرة تقابل جزيرة الأندلس المعروفة بالخضراء التي هي اليوم معبر سفائنهم سفائنهم ودار صناعتهم ويقال لها اليوم جزيرة طريف لنزوله بها وأقام بها أياما حتى تتام إليه أصحابه ثم مضى حتى أغار على الجزيرة فأصاب سبيا لم ير موسى ولا أصحابه مثله حسنا ومالا جسيما وأمتعة وذلك في شهر رمضان سنة إحدى وتسعين فلما رأى الناس ذلك تسرعوا إلى الدخول وقيل دخل طريف في ألف رجل فأصاب غنائم وسبيا ودخل بعده أبو زرعة شيخ من البرابرة وليس بطريف في ألف رجل منهم أيضا

وحرقوا كنيسة بها كانت عندهم معظمة وأصابوا سبيا يسيرا وقتلوا وانصرفوا سالمين
وقال الرازي هو أبو زرعة طريف بن مالك المعافري الاسم طبق الكنية قالوا ثم عادو يليان القدوم على موسى بن نصير محركا في الاقتحام على أهل الأندلس وخبره بما كان منه ومن طريف وأبي زرعة وما نالوه من أهلها وباشروه من طيبها فحمد الله على ذلك واستجد عزما في إقحام المسلمين فيها فدعا مولى له كان على مقدمته يسمى طارق بن زياد بن عبد الله فارسيا همذانيا وقيل إنه ليس بمولى لموسى وإنما هو رجل من صدف وقيل مولى لهم وقد كان بعض عقبه بالأندلس ينكرون ولاء موسى إنكارا شديدا وقيل إنه بربري من نفزة فعقد له موسى وبعثه في سبعة آلاف من المسلمين جلهم البربر والموالي وليس فيهم عرب إلا قليل ووجه معه يليان فهيأ له يليان المراكب فركب في أربع سفن لا صناعة له غيرها وحط بجبل طارق المنسوب إليه يوم سبت في شعبان سنة اثنتين وتسعين في شهر أغشت ثم صرف المراكب إلى من خلفه من أصحابه فركب من بقي من الناس ولم تزل السفائن تختلف إليهم حتى توافى جميعهم عنده بالجبل وقيل حل طارق بجبله يوم لاثنين لخمس خلون من رجب من السنة في اثنى عشر ألفا غير ستة عشر رجلا من البرابرة ولم يكن فيهم من العرب إلا يسيرا أجازهم يليان إلى ساحل الأندلس في مراكب التجار من حيث لم يعلم بهم أولا وركب أميرهم طارق آخرهم
قيل وأصاب طارق عجوزا من أهل الجزيرة فقالت له في بعض قولها إنه كان لها زوج عالم بالحدثان فكان يحدثهم عن أمير يدخل إلى بلدهم هذا

ويغلب عليه ويصف من نعته أنه ضخم الهامة فأنت كذلك ومنها أن في كتفه الأيسر شامة عليها شعر فإن كانت بك هذه العلامة فأنت هو فكشف طارق ثوبه فإذا الشامة في كتفه على ما ذكرته العجوز فاستبشر بذلك هو ومن معه
وذكر عن طارق أنه كان نائما في المركب فرأى في منامه النبي والخلفاء الأربعة أصحابه عليهم السلام يمشون على الماء حتى مروا به فبشره النبي بالفتح وأمره بالرفق بالمسلمين والوفاء بالعهد وقيل إنه لما ركب البحر غلبته عينه فكان يرى النبي وحوله المهاجرون والانصار قد تقلدوا السيوف وتنكبوا القسي فيقول له رسول الله صلى الله عليه و سلم يا طارق تقدم لشأنك ونظر إليه وإلى أصحابه قد دخلوا الاندلس قدامه فهب من نومه مستبشرا وبشر أصحابه وثابت إليه نفسه ثقة ببشراه فقويت نفسه ولم يشك في الظفر فخرج من البلد واقتحم بسيط البلاد شانا للغارة
قالوا ووقع على لذريق الملك خبر اقتحام العرب ساحل الأندلس وتوالي غاراتهم على بلد الجزيرة وأن يليان السبب فيها وكان يومئذ غائبا بأرض بنبلونة في غزاة له إلى البشكنس لأمر كان استصعب عليه بناحيتهم فعظم عليه وفهم الأمر الذي منه أتي وأقبل مبادرا الفتق في جموعه حتى احتل بمدينة قرطبة من الموسطة ونزل القصر المدعو بها ببلاط لذريق المنسوب إليه وليس لأنه بناه أو اخترعه وهو بناء من تقدمه من الملوك اتخذوه لمنزلهم في قرطبة إذا أتوها إلا أن العرب لما غلبوا لذريق وهذا القصر من مواطنه نسبوه إليه إذ لم يعرفوا من بناه ويزعم العجم أن الذي بناه ملك

انتهى إلى مكان قرطبة وهي يومئذ خراب وكان في موضع قصرها غيضة عليق ملتفة أشبة فأرسل الملك بازيا له يكرم عليه علىحجلة عنت له من ناحية الكدية المنسوبة بعد إلى أبي عبدة فتخبت في ذلك العليق ولج البازي في الانقضاض عليها فركض الملك خلفه حتى وقف على مكانه بالحرجة فأمر بقطعها لاستنقاذ بازيه ضنا منه به فقطعت وبدا له تحتها اساس قصر عظيم راقه رصة وقد كان ذا همة فأمر بالكشف عنه وتقصي حدوده طولا وعرضا وتتبع اسه وأصله فوجده مبنيا من وجه الماء بصم الحجارة فوق زرجون وضع بينها وبين الماء بأحكم صناعة فقال هذا أثر ملك كريم وأنا أولى من جدده فأمر بإعادته إلى هيأته واتخاذه منزلا من منازل راحاته فكان إذا طاف بعمله أو مضى في متصيده نزل فيه وصار السبب في بناء قرطبة إلى جنبه ونزول الناس فيها وتوارث الملوك قصرها من بعد ونزله لذريق في زحفه إلى العرب أياما والحشود من أعماله تتوافى إليه ثم مضى نحو كورة شذونة يبغي لقائهم في حشوده الكثيرة
وقيل إن آخر ملوك الأندلس الذين تلتهم العرب غيطشة وإنه هلك عن أولاد ثلاثة صغار لم يصلحوا للملك فضبطت أمهم عليهم ملك والدهم بطليطلة وانحرف لذريق قائد الخيل لوالدهم فيمن تبعه عنهم فصار بقرطبة فلما اقتحم طارق الأندلس نفر إليه لذريق واستنفر إليه أجناد أهل الأندلس وكتب إلى أولاد غيطشة وقد ترعرعوا وركبوا الخيل واتخذوا الرجال يدعوهم إلى الاجتماع معه على حرب العرب ويحذرهم من القعود عنه ويحضهم على أن يكونوا على عدوهم يدا واحدة فلم يجدوا بدا وحشدوا وقدموا

نهرها قبالة القصر ولم يطمئنوا إلى الدخول على لذريق أخذا بالحزم إلى أن استتب جهاز لذريق وخرج فانضموا إليه ومضوا معه وهم مرصدون لمكروهه والأصح والله أعلم ما سبق أن ملك القوط اجتمع للذريق واختلف في اسمه فقيل رذريق بالراء أوله وقيل باللام لذريق وهو الأشهر وقيل إن أصله من أصبهان ويسمى الإشبان والله أعلم
قالوا وعسكر لذريق في نحو مائة ألف ذوي عدد وعدة فكتب طارق إلى موسى يستمده ويعرفه أنه فتح الجزيرة الخضراء فرضة الأندلس وملك المجاز إليها واستولى على أعمالها إلى البحيرة وأن لذريق زحف إليه بما لا قبل له به إلا أن يشاء الله وكان موسى منذ وجه طارقا لوجهه قد أخذ في عمل السفن حتى صار عنده منها عدة كثيرة فحمل إلى طارق فيها خمسة آلاف من المسلمين مددا كملت بهم عدة من معه اثنى عشر ألف أقوياء على المغانم حراصا على اللقاء ومعهم يليان المستأمن إليهم في رجاله وأهل عمله يدلهم على العورات ويتجسس لهم الأخبار وأقبل نحوهم لذريق في جموع العجم وملوكها وفرسانها فتلاقوا فيما بينهم وقال بعضهم لبعض إن هذا ابن الخبيثة قد غلب على سلطاننا وليس من أهله وإنما كان من أتباعنا فلسنا نعدم من سيرته خبالا في أمرنا وهؤلاء القوم الطارقون لا حاجة لهم في استيطان بلدنا وإنما مرادهم أن يملأوا أيديهم من الغنائم ثم يخرجوا عنا فهلم فلننهزم بابن الخبيثة إذا نحن لقينا القوم لعلهم يكفوننا إياه فإذا انصرفوا عنا أقعدنا في ملكنا من يستحقه فأجمعوا على ذلك والقضاء يبرم ما ارتأوه
وكان لذريق ولي ميمنته أحد ابني غيطشة وميسرته الآخر فكانا

رأسي الذين أداروا عليه الهزيمة وأداهما إلى ذلك طمع رجوع ملك والدهما إليهما
وقيل لما تقابل الجيشان أجمع أولاد غيطشة على الغدر بلذريق وأرسلوا إلى طارق يعلمونه أن لذريق كان تابعا وخادما لأبيهم فغلبهم على سلطانه بعد مهلكه وأنهم غير تاركي حقهم لديه ويسألونه الأمان على أن يميلوا إليه عند اللقاء فيمن تبعهم وأن يسلم إليهم إذا ظفر ضياع والدهم بالأندلس كلها وكانت ثلاثة آلاف ضيعة نفائس مختارة وهي التي سميت بعد ذلك صفايا الملوك فأجابهم إلى ذلك وعاقدهم عليه فالتقى الفريقان من الغد فانحاز الأولاد إلى طارق فكان ذلك أقوى أسباب الفتح وكان الالتقاء على وادي لكة من كورة شذونة فهزم الله الطاغية لذريق وجموعه ونصر المسلمين نصرا لا كفاء له ورمى لذريق نفسه في وادي لكة وقد أثقلته السلاح فلم يعلم له خبر ولم يوجد
وقيل نزل طارق بالمسلمين قريبا من عسكر لذريق منسلخ شهر رمضان سنة 92 فوجه لذريق علجا من أصحابه قد عرف نجدته ووثق بباسه ليشرف على عسكر طارق فيحزر عددهم ويعاين هيئاتهم ومراكبهم فأقبل ذلك العلج حتى طلع على العسكر ثم شد في وجوه من استشرفه من المسلمين فوثبوا إليه فولى منصرفا راكضا وفاتهم بسبق فرسه فقال العلج للذريق أتتك الصور التي كشف لك عنها التابوت فخذ على نفسك فقد جاءك منهم من لا يريد إلا الموت أو إصابة ما تحت قدميك قد حرقوا مراكبهم إياسا لأنفسهم من التعلق بها وصفوا في السهل موطنين أنفسهم على الثبات إذ ليس لهم في أرضنا مكان مهرب فرعب وتضاعف جزعه والتقى العسكران بالبحيرة واقتتلوا قتالا شديدا إلى أن انهزمت ميمنة لذريق وميسرته

انهزم بهما أبناء غيطشة وثبت القلب بعدهما قليلا وفيه لذريق فعذرأهله بشيء من قتال ثم انهزموا ولذريق أمامهم فاستمرت هزيمتهم وأذرع المسلمون القتل فيهم وخفي أثر لذريق فلا يدرى أمره إلا أن المسلمين وجدوا فرسه الأشهب الذي فقد وهو راكبه وعليه سرج له من ذهب مكلل بالياقوت والزبرجد ووجدوا أحد خفيه وكان من ذهب مكلل بالدر والياقوت وقد ساخ الفرس في طين وحمأة وغرق العلج فثبت أحد خفيه في الطين فأخذ وخفي الآخر وغاب شخص العلج ولم يوجد حيا ولا ميتا والله أعلم بشأنه
وقال الرازي كانت الملاقاة يوم الأحد لليلتين بقيتا من شهر رمضان فاتصلت الحرب بينهم إل يوم الاحد لخمس خلون من شوال بعد تتمة ثمانية أيام ثم هزم الله المشركين فقتل منهم خلق عظيم أقامت عظامهم بعد ذلك بدهر طويل ملبسة لتلك الأرض قالوا وحاز المسلمون من عسكرهم ما يحل قدره فكانوا يعرفون كبار العجم وملوكهم بخواتم الذهب يجدونها في أصابعهم ويعرفون من دونهم بخواتم الفضة ويميزون عبيدهم بخواتم النحاس فجمع طارق الفيء وخمسه ثم اقتسمه أهله على تسعة آلاف من المسلمين سوى العبيد والأتباع وتسامع الناس من أهل بر العدوة بالفتح على طارق بالاندلس وسعة المغانم فيها فأقبلوا نحوه من كل وجه وخرقوا البحر على كل ما قدروا عليه من مركب وقشر فلحقوا بطارق وارتفع أهل الأندلس عند ذلك إلى الحصون والقلاع

طارق حتى نزل بأهل مدينة شذونة فامتنعوا عليه فشد الحصر عليهم حتى نهكهم وأضرهم فتهيأ له فتحها عنوة فحاز منها غنائم ثم مضى منها إلى مورور ثم عطف إلى قرمونة فمر بعينه المنسوبة إليه ثم مال على إشبيلية فصالحه أهلها على الجزية ثم نازل أهل إستجة وهم في قوة ومعهم فل عسكر لذريق فقاتلوا قتالا شديدا حتى كثر القتل والجراح بالمسلمين ثم إن الله تعالى أظهر المسلمين عليهم فانكسروا ولم يلق المسلمون فيما بعد ذلك حربا مثلها وأقاموا على الامتناع إلى أن ظفر طارق بالعلج صاحبها وكان مغترا سيء التدبير فخرج إلى النهر لبعض حاجاته وحده فصادف طارقا هناك قد أتى لمثل ذلك وطارق لا يعرفه فوثب عليه طارق في الماء فأخذه وجاء به إلى العسكر فلما كاشفه اعترف له بأنه أمير المدينة فصالحه طارق على ما أحب وضرب عليه الجزية وخلى سبيله فوفى بما عاهد عليه وقذف الله الرعب في قلوب الكفرة لما رأوا طارقا يوغل في البلاد وكانوا يحسبونه راغبا في المغنم عاملا على القفول فسقط في أيديهم وتطايروا عن السهول إلى المعاقل وصعد ذوو القوة منهم إلى دار مملكتهم طليطلة قيل وكان من إرهاب طارق لنصارى الأندلس وحيله أن تقدم إلى أصحابه في تفصيل لحوم القتلى بحضرة أسراهم وطبخها في القدور يرونهم أنهم يأكلونها فجعل من انطلق من الأسرى يحدثون من وراءهم بذلك فتمتلىء منه قلوبهم رعبا ويجفلون فرارا قالوا وقال يليان لطارق قد فضضت جيوش القوم ورعبوا فاصمد لبيضتهم وهؤلاء أدلاء من أصحابي مهرة ففرق جيوشهم معهم في جهات البلاد واعمد أنت إلى طليطلة حيث معظمهم فاشغل القوم عن النظر في امرهم والاجتماع إلى أولي رأيهم ففرق

عبد الملك إلى قرطبة وكانت من أعظم مدائنهم في سبعمائة فارس لأن المسلمين ركبوا جميعا خيل العجم ولم يبق فيهم راجل وفضلت عنهم الخيل وبعث جيشا آخر إلى مالقة وآخر إلى غرناطة مدينة إلبيرة وسار هو في معظم الناس إلى كورة جيان يريد طليطلة وقد قيل إن الذي سار لقرطبة طارق بنفسه لا مغيث قالوا فكمنوا بعدوة نهر شقندة في غيضة أرز شامخة وأرسلت الأدلاء فأمسكوا راعي غنم فسئل عن قرطبة فقال رحل عنها عظماء أهلها إلى طليطلة وبقي فيها أميرها في أربعمائة فارس من حماتهم مع ضعفاء أهلها وسئل عن سورها فأخبر أنه حصين عال فوق أرضها إلا أنه فيه ثغرة ووصفها لهم فلما أجنهم الليل أقبلوا نحو المدينة ووطأ الله لهم أسباب الفتح بأن أرسل السماء برذاذ أخفى دقدقة حوافر الخيل وأقبل المسلمون رويدا حتى عبروا نهر قرطبة ليلا وقد أغفل حرس المدينة احتراس السور فلم يظهروا عليه ضيقا بالذي نالهم من المطر والبرد فترجل القوم حتى عبروا النهر وليس بين النهر والسور إلا مقدار ثلاثين ذراعا أو أقل وراموا التعلق بالسور فلم يجدوا متعلقا ورجعوا إلى الراعي في دلالاتهم علىالثغرة التي ذكرها فأراهم إياها فإذا بها غير متسهلة التسنم إلا أنه كانت في أسفلها شجرة تين مكنت أفنانها من التعلق بها فصعد رجل من أشداء المسلمين في أعلاها ونزع مغيث عمامته فناوله طرفها وأعان بعض الناس بعضا حتى كثروا على السور وركب مغيث ووقف من خارج وأمر أصحابه المرتقين للسور بالهجوم على الحرس ففعلوا وقتلوا نفرا منهم وكسروا أقفال الباب وفتحوه فدخل مغيث ومن معه وملكوا المدينة عنوة فصمد إلى البلاط منزل الملك ومعه أدلاؤه وقد بلغ

المدينة فبادر بالفرار عن البلاط في أصحابه وهم زهاء أربعمائة وخرج إلى كنيسة بغربي المدينة وتحصن بها وكان الماء يأتيها تحت الأرض من عين في سفح جبل ودافعوا عن أنفسهم وملك مغيث المدينة وما حولها وقال من ذهب إلى أن طارقا لم يحضر فتح قرطبة وان فاتحها معيث إنه كتب إلى طارق بالفتح وأقام على محاصرة العلج بالكنيسة ثلاثة أشهر حتى ضاق من ذلك وطال عليه فتقدم إلى أسود من عبيده اسمه رباح وكان ذا بأس ونجدة بالكمون في جنان إلى جانب الكنيسة ملتفة الأشجار لعله أن يظفر له بعلج يقف به على خبر القوم ففعل ودعاه ضعف عقله إلى أن صعد في بعض تلك الأشجار وذلك أيام الثمر ليجني ما يأكله فبصر به أهل الكنيسة وشدوا عليه فأخذوه فملكوه وهم في ذلك هائبون له منكرون لخلقه إذ لم يكونوا عاينوا أسود قبله فاجتمعوا عليه وكثر لغطهم وتعجبهم من خلقه وحسبوا أنه مصبوغ أو مطلي ببعض الأشياء التي تسود فجردوه وسط جماعتهم وأدنوه إلى القناة التي منها كان يأتيهم الماء وأخذوا في غسله وتدليكه بالحبال الحرش حتى أدموه وأعنتوه فاستغاثهم وأشار إلى أن الذي به خلقة من بارئهم عز و جل ففهموا إشارته وكفوا عن غسله واشتد فزعهم منه ومكث في إسارهم سبعة أيام لا يتركون التجمع عليه والنظر إليه إلى أن يسر الله له الخلاص ليلا ففر واتى الأمير مغيثا فخبره بشأنه وعرفه بالذي اطلع عليه من موضع الماء الذي ينتابونه ومن أي ناحية يأتيهم فأمر أهل المعرفة بطلب تلك القناة في الجهة التي أشار غليها الأسود حتى أصابوها فقطعوها عن جريتها إلى

بالهلاك حينئذ فدعاهم مغيث إلى الإسلام أو الجزية فأبوا عليه فأوقد الناء عليهم حتى أحرقهم فسميت كنيسة الحرقى والنصارى تعظمها لصبر من كان فيها على دينهم من شدة البلاء غير أن العلج أميرهم رغب بنفسه عن بليتهم عند إيقان الهلاك ففر عنهم وحده وقد استغفلهم ورام اللحاق بطليطلة فنمي خبره إلى مغيث فبادر الركض خلفه وحده فلحقه بقرب قرية تطليرة هاربا وحده وتحته فرس أصفر ذريع الخطو وحرك مغيث خلفه فالتفت العلج ودهش لما رأى مغيثا فد رهقه وزاد في حث فرسه فقصر به فسقط عن الفرس واندقت عنقه فقعد على ترسه مستأسرا قد هاضته السقطة فقبض عليه مغيث وسلبه سلاحه وحبسه عنده ليقدم به على أمير المؤمنين الوليد ولم يؤسر من ملوك الأندلس غيره لأن بعضهم استأمن وبعضهم هرب إلى جليقية وفي رواية أن مغيثا استنزل أهل الكنيسة بعد أسره لملكهم فضرب أعنقاقهم جميعا فمن أجل ذلك عرفت بكنيسة الأسرى وأن مغيثا جمع يهود قرطبة فضمهم إلى مدينتها استنامة إليهم دون النصارى للعداوة بينهم وأنه اختار القصر لنفسه والمدينة لأصحابه
وأما من وجه إلى مالقة ففتحوها ولجأ علوجها إلى جبال هنالك ممتنعة ثم لحق ذلك الجيش بالجيش المتوجه إلى إلبيرة فحاصروا مدينتها غرناطة فافتتحوها عنوة وضموا اليهود إلى قصبة غرناطة وصار ذلك لهم سنة متبعة في كل بلد يفتحونه أن يضموا يهوده إلى القصبة مع قطعة من المسلمين لحفظها ويمضي معظم الناس لغيرها وإذا لم يجدوا يهودا وفروا عدد المسلمين المخلفين لحفظ ما فتح ثم صنعوا عند فتح كورة رية

ومضى الجيش إلى تدمير وتدمير اسم العلج صاحبها سميت به واسم قصبتها أريولة ولها شأن في المنعة وكان ملكها علجا داهية وقاتلهم مضحيا ثم استمرت عليه الهزيمة في فحصها فبلغ السيف في أهلها مبلغا عظيما أفنى أكثرهم ولجأ العلج إلى أريولة في يسير من أصحابه لا يغنون شيئا فأمر النساء بنشر الشعور وحمل القصب والظهور على السور في زي القتال متشبهات بالرجال وتصدر قدامهن في بقية أصحابه يغالظ المسلمين في قوته على الدفاع عن نفسه فكره المسلمون مراسه لكثرة من عاينوه على السور وعرضوا عليه الصلح فأظهر الميل إليه ونكر زيه فنزل إليهم بأمان على أنه رسول فصالحهم على أهل بلده ثم على نفسه وتوثق منهم فلما تم له من ذلك ما أراد عرفهم بنفسه واعتذر إليهم بالإبقاء على قومه وأخذهم بالوفاء بعهده وأدخلهم المدينة فلم يجدوا فيها إلا العيال والذرية فندموا على الذي أعطوه من الأمان واسترجحوه فيما احتال به ومضوا على الوفاء له وكان الوفاء عادتهم فسلمت كورة تدمير من معرة المسلمين بتدبير تدمير وصارت كلها صلحا ليس فيها عنوة وكتبوا إلى أميرهم طارق لفتح وخلفوا بقصبة البلد رجالا منهم ومضى معظمهم إلى أميرهم لفتح طليطلة
قال ابن حيان وانتهى طارق إلى طليطلة دار ممكلة القوط فألفاها خالية قد فر أهلها عنها ولجأوا إلى مدينة بها خلف الجبل فضم اليهود إلى طليطلة وخلف بها رجالا من أصحابه ومضى خلف من فر من أهل طليطلة فسلك إلى وادي الحجارة ثم استقبل الجبل فقطعه من فج سمي به

بعد فبلغ مدينة المائدة خلف الجبل وهي المنسوبة لسليمان بن داود عليهما السلام وهي خضراء من زبرجدة حافاتها منها وأرجلها وكان لها ثلاثمائة وخمس وستون رجلا فأحرزها عنده ثم مضى إلى المدينة التي تحصنوا بها خلف الجبل فأصاب بها حليا ومالا ورجع ولم يتجاوزها إلى طليلة سنة ثلاث وتسعين وقيل إنه لم يرجع بل اقتحم أرض جليقية واخترقها حتى انتهى إلى مدينة استرقه فدوخ الجهة وانصرف إلى طليلة والله أعلم وقيل إن طارقا دخل الأندلس بغير أمر مولاه موسى بن نصير فالله أعلم قال بعضهم وكانت إقامته في الفتوح وتدويخ البلاد إلى أن وصل سيده موسى ابن نصير سنة وكان ما سيذكر
وأنشد في المسهب وابن اليسع في المعرب لطارق من قصيدة قالها في الفتح
( ركبنا سفينا بالمجاز مقيرا ... عسى أن يكون الله منا قد اشترى )
( نفوسا وأموالا وأهلا بجنة ... إذا ما اشتهينا الشيء فيها تيسرا )
( ولسنا نبالي كيف سألت نفوسنا ... إذا نحن أدركنا الذي كان أجدرا )
قال ابن سعيد وهذه الأبيات مما يكتب لمراعاة قائلها ومكانته لا لعلو طبقتها انتهى
وأما أولاد غيطشة فإنهم لما صاروا إلى طارق بالأمان وكانوا سبب الفتح حسبما تقدم قالوا لطارق أنت أمير نفسك أم فوقك أمير فقال بل على رأسي أمير وفوق ذلك الأمير أمير عظيم فاستأذنوه باللحاق بموسى بن نصير بإفريقية ليؤكد سببهم به وسألوه الكتاب إليه بشأنهم معه وما أعطاهم من عهده ففعل وساروا نحو

من بلاد البربر وعرفوه بشأنهم ووقف على ما خاطبه به طارق في ذمتهم وسابقتهم فأنفذهم إلى أمير المؤمنين الوليد بالشام بدمشق وكتب إليه بما عرفه به طارق من جميل أثرهم فلما وصلوا إلى الوليد أكرمهم وأنفذ لهم عهد طارق في ضياع والدهم وعقد لكل واحد منهم سجلا وجعل لهم أن لا يقوموا لداخل عليهم فقدموا الأندلس وحازوا ضياع والدهم أجمع واقتسموها على موافقة منهم فصار منها لكبيرهم ألمند ألف ضيعة في غرب الأندلس فسكن من أجلها إشبيلية مقتربا منها وصار لأرطباش ألف ضيعة وهو تلوه في السن وضياعه في موسطة الأندلس فسكن من أجلها قرطبة وصار لثالثهم وقلة ألف ضيعة في شرقي الأندلس وجهة الثغر فسكن من أجلها مدنية طليطلة فكانوا على هذه الحال صدر الدولة العربية إلى أن هلك ألمند كبيرهم وتخلف ابنته سارة المعروفة بالقوطية وابنين صغيرين فبسط يده أرطباش على ضياعهم وضمها إلى ضياعه وذلك في خلافة أمير المؤمنين هشام بن عبد الملك فأنشأت سارة بنت ألمند مركبا بإشبيلية حصينا كامل العدة وركبت فيه مع أخويها الصغيرين تريد الشام حتى نزلت بعسقلان من ساحلها ثم قصدت باب الخليفة هشام بداره بدمشق فأنهت خبرها وشكت ظلامتها من عمها واستعدت عليه واحتجت بالعهد المنعقد لأبيها وأخويه على الخليفة

وكتب إلى حنظلة بن صفوان عامله فإفريقية وبإنصافها من عمها أرطباش وإمضائها وأخويها على سنة الميراث فيما كان في يد والدها مما قاسم فيه أخويه فأنفذ لها الكتاب بذلك إلى عامله بالأندلس أبي الخطار ابن عمه فتم لها ذلك وأنكحها الخليفة هشام من عيسى بن مزاحم فابتنى بها بالشام ثم قدم بها إلى الأندلس وقام لها في دفاع عمها أرطباش عن ضياعها فنال بها نعمة عظيمة وولد له منها ولداه إبراهيم وإسحاق فأدركا الشرف المؤثل والرياسة بإشبيلية وشهرا ونسلهما بالنسبة إلى أمهما سارة القوطية وكانت أيام وفادتها على الخليفة هشام رات عنده حفيده عبد الرحمن بن معاوية الداخل بعد إلى الأندلس وعرفها فتوسلت بذلك إليه لما ملك الأندلس ووفدت إليه فاعترف بذمامها وأكرمها وأذن لها في الدخول إلى قصره متى جاءت إلى قرطبة فيجدد تكرمتها ولا يحجب عياله منها وتوفي زوجها عيسى في السنة التي ملك فيها عبد الرحمن الأندلس فزوجها عبد الرحمن من عمير بن سعيد
وكان لها ولأبيها ألمند وعمها أرطباش في صدر الدولة العربية بالأندلس أخبار ملوكية فمنها ما حكاه الفقيه محمد بن عمر بن لبابة المالكي أنه قصد أرطباش يوما إلى منزله عشرة من رؤساء رجال الشاميين فيهم الصميل وابن الطفيل وأبو عبدة وغيرهم فأجلسهم على الكراسي وبالغ في تكريمهم ودخل على أثرهم ميمون العابد جد بني حزم وكان في عداد الشاميين إلا أنه كان شديد الانقباض عنهم لزهده وورعه فلما بصر به أرطباش قام إليه دونهم إعظاما ورقاه إلى كرسيه الذي كان يجلس عليه وكان ملبسا صفائح الذهب وجذبه

ليجلسه مكانه فامتنع عليه ميمون وقعد على الأرض فقعد أرطابش معه عليها وأقبل عليه قبلهم فقال له يا سيدي ما الذي جاء بك إلى مثلي فقال له ما تسمعه إنا قدمنا إلى هذا البلد غزاة نحسب أن مقامنا فيه لا يطول فلم نستعد للمقام ولا كثرنا من العدة ثم حدث بعدنا على موالينا وفي أجنادنا ما قد أيسنا معه من الرجوع إلى أوطاننا وقد وسع الله عليك فأحب أن تدفع إلي ضياعا من ضياعك أعتمرها بيدي وأؤدي إليك الحق منها وآخذ الفضل لي طيبا أتعيش منه فقال لا أرضي لك بالمساهمة بل أهب لك هبة مسوغة ثم دعا بوكيل له فقال له سلم إليه المجشر الذي لنا على وادي شوش بما لنا فيه من العبيد والدواب والبقر وغير ذلك وادفع إليه الضيعة التي بجيان فتسلم ميمون الضيعتين وورثهما ولده وإليهم نسبت قلعة حزم فشكره ميمون وأثنى عليه وقام عنه وقد أنف الصميل من قيامه إليه فأقبل على أرطباش وقا له كنت أظنك أرجح وزنا أدخل عليك وأنا سيد العرب بالأندلس في أصحابي هؤلاء وهم سادة الموالي فلا تزيدنا من الكرامة على الإنعقاد على أعوادك هذه ويدخل هذا الصعلوك فتصير من إكرامه إلى حيث صرت فقال له يا ابا جوشن إن أهل دينك يخبروننا أن أدبهم لم يرهفك ولو كان لم تنكر علي ما فعلته إنكم أكرمكم الله إنما تكرمون لدنياكم وسلطانكم وهذا إنما أكرمته لله تعالى فقد روينا عن المسيح عليه السلام أنه قال من أكرمه الله تعالى من عباده بالطاعة له وجبت كرامته على خلقه فكأنما ألقمه حجرا وكان الصميل أميا فلذلك عرض به فقال له القوم دعنا من هذا وانظر فيما قصدنا له فحاجتنا حاجة الرجل الذي قصدك فأكرمته فانظر في شأننا فقال له أنتم ملوك الناس وليس يرضيكم إلا الكثير وها أنا أهب لكم مائة ضيعة تقتسمونها

إليهم فكان القوم يرونها من أطيب أملاكهم انتهى
قال ابن حيان وغيره ولما بلغ موسى بن نصير ما صنعه طارق بن زياد وما أتيح له من الفتوح حسده وتهيأ للمسير إلى الأندلس فعسكر وأقبل نحوها ومعه جماعة الناس وأعلامهم وقيل إنهم كانوا ثمانية عشر ألفا وقيل اكثر فكان دخوله إلى الأندلس في شهر رمضان سنة ثلاث وتسعين وتنكب الجبل الذي حله طارق ودخل على الموضع المنسوب إليه المعروب الآن بجبل موسى فلما احتل الجزيرة الخضراء قال ما كنت لأسلك طريق طارق ولا أقفو اثره فقال له العلوج الأدلاء أصحاب يليان نحن نسلك بك طريقا هو أشرف من طريقه وندلك على مدائن هي أعظم خطرا وأعظم خطبا وأوسع غنما من مدائنه لم تفتح بعد يفتحها الله عليك إن شاء الله تعالى فملىء سرورا وكان شفوف طارق قد غمه فساروا به في جانب ساحل شذونة فافتتحها عنوة وألقوا بأيديهم إليه ثم سار إلى مدينة قرمونة وليس بالأندلس أحصن منها ولا أبعد على من يرومها بحصار أو قتال فدخلها بحيلة توجهت بأصحاب يليان دخلوا إليهم كأنهم فلال وطرقهم موسى بخيله ليلا ففتحوا لهم الباب وأوقعوا بالأحراس فملكت المدينة ومضى موسى إلى إشبيلية جارتها فحاصرها وهي أعظم مدائن الأندلس شأنا وأعجبها بنيانا وأكثرها آثارا وكانت دار الملك قبل القوطيين فلما غلب القوطيون على ملك الأندلس حولوا السلطان إلى طليطلة وبقي رؤساء الدين فيها أعني إشبيلية فامتنعت أشهرا على موسى ثم فتحها الله عليه فهرب العلوج عنها إلى مدينة باجة فضم موسى يهودها إلى القصبة وخلف بها رجالا ومضى من إشبيلية

لفنت إلى مدينة ماردة وكانت أيضا دار مملكة لبعض ملوك الأندلس في سالف الدهر وهي ذات عز ومنعة وفيها آثار وقصور ومصانع وكنائس جليلة القدر فائقة الوصف فحاصرها أيضا وكان في أهلها منعة شديدة وبأس عظيم فنالوا من المسلمين دفعات وآذوهم وعمل موسى دبابة دب المسلمون تحتها إلى برج من أبراج سورها جعلوا ينقبونه فلما قلعوا الصخر أفضوا بعده إلى العمل المدعو بلسان العجم ألاشه ماشه فنبت عنه معاولهم وعدتهم وثار بهم العدو على غفلة فاستشهد بأيديهم قوم من المسلمين تحت تلك الدبابة فسمي ذلك الموضع برج الشهداء ثم دعا القوم إلى السلم فترسل إليه في تقريره قوم من أماثلهم أعطاهم الأمان واحتال في توهيمهم في نفسه فدخلوا عليه أول يوم فإذا هو أبيض الرأس واللحية كما نصل خضابه فلم يتفق لهم معه أمر وعاودوه قبل الفطر بيوم فإذا به قد قنأ لحيته بالحناء فجاءت كضرام عرفج فعجبوا من ذلك وعاودوه يوم الفطر فإذا هو قد سود لحيته فازداد تعجبهم منه وكانوا لا يعرفون الخضاب ولا استعماله فقالوا لقومهم إنا نقاتل أنبياء يتخلقون كيف شاءوا ويتصورون في كل صورة أحبوا كان ملكهم شيخا فقد صار شابا والرأي أن نقاربه ونعطيه ما يسأله فما لنا به طاقة فأذعنوا عند ذلك وأكملوا صلحهم مع موسى على أن أموال القتلى يوم الكمين وأموال الهاربين إلى جليقية وأموال الكنائس وحليها للمسلمين ثم

يوم الفطر سنة أربع وتسعين فملكها ثم إن عجم إشبيلية انتقضوا على المسلمين واجتمعوا من مدينتي باجة ولبلة إليهم فأوقعوا بالمسلمين وقتلوا منهم نحو ثمانين رجلا وأتى فلهم الأمير موسى وهو بماردة فلما أن فتحها وجه ابنه عبد العزيز بن موسى في جيش إليهم ففتح إشبيلية وقتل أهلها ونهض إلى لبلة ففتحها واستقامت الامور فيما هنالك وعلا الإسلام وأقام عبد العزيز بإشبيلية وتوجه الامير موسى من ماردة في عقب شوال من العام المؤرخ يريد طليطلة وبلغ طارقا خبره فاستقبله في وجوه الناس فلقيه في موضع من كورة طلبيرة وقيل إن موسى تقدم من ماردة فدخل جليقية من فج نسب إليه فخرقها حتى وافى طارق بن زياد صاحب مقدمته بمدينة استرقة فغض منه علانية وأظهر ما بنفسه عليه من حقد والله أعلم وقيل لما وقعت عينه عليه نزل إليه إعظاما له فقنعه موسى بالسوط ووبخه على استبداده عليه ومخالفته لرايه وساروا إلى طليطلة فطالبه موسى بأداء ما عنده من مال الفيء وذخائر الملوك واستعجله بالمائدة فأتاه بها وقد خلع من أرجلها رجلا وخبأه عنده فسأله موسى عنه فقال لا علم لي به وهكذا أصبتها فأمر موسى فجعل لها رجل من ذهب جاء بعيد الشبه من أرجلها يظهر عليه التعمل ولم يقدر على أحسن منه فأخل بها
وقال ابن الفرضي موسى بن نصير صاحب فتح الأندلس لخمي يكنى أبا عبد الرحمن يروي عن تميم الداري وروى عنه يزيد بن مسروق اليحصبي
وقيل غزا موسى بن نصير في المحرم سنة ثلاث وتسعين فأتى طنجة ثم عبر إلى الأندلس فأدخلها لا يأتي على مدينة إلا فتحها ونزل أهلها على حكمه ثم سار إلى قرطبة ثم قفل عن الأندلس سنة أربع وتسعين فأتى إفريقية وسار عنها سنة خمس وتسعين إلى الشام يؤم الوليد بن عبد

احتمله من غنائم الأندلس من الأموال والأمتعة يحملها على العجل والظهر ومعه ثلاثون ألف رأس من السبي فلم يلبث أن هلك الوليد بن عبد الملك وولي سليمان فنكب موسى نكبا أداه إلى المتربة فهلك في نكبته تلك بوادي القرى سنة سبع وتسعين
قال ابن حيان وهذه المائدة المنوه باسمها المنسوبة إلى سليمان النبي عليه الصلاة و السلام لم تكن له فيما يزعم رواة العجم وإنما أصلها أن العجم في أيام ملكهم كان أهل الحسنة منهم إذا مات أحدهم أوصى بمال للكنائس فإذا اجتمع عندهم ذلك المال صاغوا منه الآلات الضخمة من الموائد والكراسي وأشباهها من الذهب والفضة تحمل الشمامسة والقسوس فوقها مصاحف الأناجيل إذا أبرزت في أيام المناسك ويضعونها على المذابح في الأعياد للمباهاة بزينتها فكانت تلك المائدة بطليطلة مما صيغ في هذه السبيل وتأنقت الأملاك في تفخيهما يزيد الآخر منهم فيها على الأول حتى برزت على جميع ما اتخذ منتلك الآلات وطار الذكر مطاره عنها وكانت مصوغة من خالص الذهب مرصعة بفاخر الدر والياقوت والزمرد لم تر الأعين مثلها وبولغ في تفخيمها من أجل دار المملكة وأنه لا ينبغي أن تكون بموضع آلة جمال أو متاع مباهاة إلا دون ما يكون فيها وكانت توضع على مذبح كنيسة طليطلة فأصابها المسلمون هناك وطار النبأ الفخم عنها وقد كان طارق ظن بموسى أميره مثل الذي فعله من غيرته على ما تهيأ له ومطالبته له بتسليم ما في يده إليه فاستظهر بانتزاع رجل من أرجل هذه المائدة خبأه عنده فكان من فلجه به على موسى عدوه عند الخليفة

وقال بعض المؤرخين إن المائدة كانت مصنوعة من الذهب والفضة وكان عليها طوق لؤؤ وطوق ياقوت وطوق زمرد وكلها مكللة بالجواهر انتهى
وما ذكره ابن حيان من أن الذي نكب موسى بن نصير هو سليمان بن عبد الملك صواب وأما ما حكاه ابن خلكان من أن المنكب له الوليد فليس بصحيح والله أعلم
رجع إلى كلام ابن حيان قالوا ثم إن موسى اصطلح مع طارق وأظهر الرضى عنه وأقره على مقدمته على رسمه وأمره بالتقدم أمامه في أصحابه وسار موسى خلفه في جيوشه فارتقى إلى الثغر الاعلى وافتتح سرقسطة وأعمالها وأوغل في البلاد وطارق أمامه لا يمران بموضع إلا فتح عليهما وغنمهما الله تعالى ما فيه وقد ألقى الله الرعب في قلوب الكفرة فلم يعارضهما أحد إلا بطلب الصلح وموسى يجيء على أثر طارق في ذلك كله ويكمل ابتداءه ويوثق للناس ما عاهدوه عليه فلما صفا القطر كله وطامن نفوس من أقام على سلمه ووطأ لأقدام المسلمين في الحلول به أقام لتمييز ذلك وقتا وأمضى المسلمين إلى إفرنجة ففتحوا وغنموا وسلموا وعلوا وأوغلوا حتى انتهوا إلى وادي ردونة فكان أقصى أثر العرب ومنتهى موطئهم من أرض العجم وقد دوخت بعوث طارق وسراياه بلد إفرنجة

وصخرة أبينون وحصن لوذون على وادي رودنة فبعدوا عن الساحل الذي منه دخلوا جدا وذكر أن مسافة ما بين قرطبة وأربونة من بلاد إفرنجة ثلاثمائة فرسخ وخمسة وثلاثون فرسخا وفيل ثلاثمائة فرسخ وخمسون فرسخا ولما أوغل المسلمون إلى أربونة ارتاع لهم قارله ملك الإفرنجة بالأرض الكبيرة وانزعج لانبساطهم فحشد لهم وخرج عليهم في جمع عظيم فلما انتهى إلى حصن لوذون وعلمت العرب بكثرة جموعه زالت عن وجهه وأقبل حتى انتهى إلى صخرة أبنيون فلم يجد بها أحدا وقد عسكر المسلمون قدامه فيما بين الأجبل المجاورة لمدينة أربونة وهم بحال غرة لا عيون لهم ولا طلائع فما شعروا حتى أحاط بهم عدو الله قارله فاقتطعهم عن اللجإ إلى مدينة اربونة وواضعهم الحرب فقاتلوا قتالا شديدا استشهد فيه جماعة منهم وحمل جمهورهم على ص فوفه حتى اخترقوها ودخلوا المدينة ولاذوا بحصانتها فنازلهم بها اياما أصيب له فيها رجال وتعذر عليه المقام وخامره ذعر وخوف مدد للمسلمين فزال عنهم راحلا إلى بلده وقد نصب في وجوه المسلمين حصونا عل وادي رودنة شكها بالرجال فصيرها ثغرا بين بلده والمسلمين وذلك بالأرض الكبيرة خلف الأندلس
وقال الحجاري في المسهب إن موسى بن نصير نصره الله نصرا ما عليه مزيد واجفلت ملوك النصارى بين يديه حتى خرج على باب الاندلس الذي في الجبل الحاجز بينها وبين الأرض الكبيرة فاجتمعت الإفرنج إلى ملكها الأعظم قارله وهذه سمة لملكهم فقالت له ما هذا الخزي الباقي في الأعقاب كنا نسمع بالعرب ونخافهم من جهة مطلع الشمس حتى أتوا من مغربها واستولوا على بلاد الأندلس وعظيم ما فيها من العدة والعدد

وقلة عدتهم وكونهم لا دروع لهم فقال لهم ما معناه الرأي عندي أن لا تعترضوهم في خرجتهم هذه فإنهم كالسيل يحمل من يصادره وهم في إقبال أمرهم ولهم نيات تغني عن كثرة العدد وقلوب تغني عن حصانة الدروع ولكن أمهلوهمحتى تمتلىء أيديهم من الغنائم ويتخذوا المساكن ويتنافسوا في الرياسة ويستعين بعضهم ببعض فحينئذ تتمكنون منهم بأيسر أمر قال فكان والله كذلك بالفتنة التي طرأت بين الشاميين والبلديين والبربر والعرب والمضرية واليمانية وصار بعض المسلمين يستعين على بعض بمن يجاورهم من الأعداء انتهى
وقيل إن موسى بن نصير أخرج ابنه عبد الأعلى إلى تدمير ففتحها وإلى غرناطة ومالقة وكورة رية ففتح الكل وقيل إنه لما حاصر مالقة وكان ملكها ضعيف الرأي قليل التحفظ كان يخرج إلى جنان له بجانب المدينة طلبا للراحة من غمة الحصار من غير نصب عين وتقديم طليعة وعرف عبد الأعلى بأمره فأكمن له في جنبات الجنة التي كان ينتابها قوما من وجوه فرسانه ذوي رأي وحزم أرصدوا له ليلا فظفروا به وملكوه فأخذ المسلمون المدينة عنوة وملأوا أيديهم غنيمة
وقيل كانت نفس موسى بن نصير في ذلك كله تنزعج إلى دخول دار الكفر جليقية فبينما هو يعمل في ذلك ويعد له إذ أتاه مغيث الرومي رسول الوليد بن عبد الملك ومولاه يأمره بالخروج عن الأندلس والإضراب عن الوغول فيها ويأخذه بالقفول إليه فساءه ذلك وقطع به عن إرداته إذ لم يكن في الأندلس بلد لم تدخله العرب إلى وقته

على اقتحامها فلاطف موسى مغيثا رسول الخليفة وسأله إنظاره إلى أن ينفذ عزمه في الدخول إليها والمسير معه في البلاد أياما ويكون شريكه في الأجر والغنيمة ففعل ومشى معه حتى بلغ المفازة فافتتح حصن بارو وحسن لك فأقام هناك وبث السرايا حتى بلغوا صخرة بلاي على البحر الأخضر فلم تبق كنيسة إلا هدمت ولا ناقوس إلا كسر وأطاعت الأعاجم فلاذوا بالسلم وبذل الجزية وسكنت العرب المفاوز وكان العرب والبربر كلما مر قوم منهم بموضع استحسنوه حطوا به ونزلوه قاطنين فاتسع نطاق الإسلام بأرض الاندلس وخذل الشرك وبينما موسى كذلك في اشتداد الظهور وقوة الأمل إذ قدم عليه رسول آخر من الخليفة يكنى أبا نصر أردف به الوليد مغيثا لما استبطأ موسى في القفول وكتب إليه يوبخه ويأمره بالخروج وألزم رسوله إزعاجه فانقلع حينئذ من مدينة لك بجليقية وخرج علىالفج المعروف بفج موسى ووافاه طارق في الطريق منصرفا من الثغر الأعلى فأقفله مع نفسه ومضيا جميعا ومعهما من الناس من اختار القفول وأقام من آثر السكنى في مواضعهم التي كانوا قد اختطوها واستوطنوها وقفل معهم الرسولان مغيث وأبو نصر حتى احتلوا بإشبيلية فاستخلف موسى ابنه عبد العزيز على إمارة الأندلس وأقره بمدينة إشبيلية لاتصالها بالبحر نظرا

وركب موسى البحر إلى المشرق بذي حجة سنة خمس وتسعين وطارق معه وكان مقام طارق بالأندلس قبل دخول موسى سنة وبعد دخوله سنتين وأربعة أشهر وحمل موسى الغنائم والسبي وهو ثلاثون ألف رأس والمائدة منوها بها ومعها من الذخائر والجواهر ونفيس الأمتعة ما لا يقدر قدره وهو مع ذلك متلهف على الجهاد الذي فاته أسيف على ما لحقه من الإزعاج وكان يؤمل أن يخترق ما بقي عليه من بلد إفرنجة ويقتحم الأرض الكبيرة حتى يتصل بالناس إلى الشام مؤملا أن يتخذ مخترقه بتلك الأرض طريقا مهيعا يسلكه أهل الأندلس في مسيرهم ومجيئهم من المشرق وإليه على البر لا يركبون بحرا وقيل إنه أوغل في أرض الفرنجة حتى انتهى إلى مفازة كبيرة وأرض سهلة ذات آثار فأصاب فيها صنما عظيما قائما كالسارية مكتوبا فيه بالنقر كتابة عربية قرئت فإذا هي يا بني إسماعيل انتهيتم فارجعوا فهاله ذلك وقال ما كتب هذا إلا لمعنى كبير فشاور أصحابه في الإعراض عنه وجوازه إلى ما وراءه فاختلفوا عليه فأخذ برأي جمهورهم وانصرف بالناس وقد أشرفوا على قطع البلاد وتقصي الغاية
وحكى الرازي أن موسى خرج من إفريقية إلى الأندلس في رجب سنة ثلاث وتسعين واستخلف على إفريقية أسن ولده عبد الله بن موسى وكان موسى في عشرة آلاف قال وكان عبدالملك بن مروان هو الذي أإزى موسى المغرب في خلافته ففتح له في أهله البرابر فتوح كبار حتى لقد بعث إلى عبد الملك في الخمس بعشرين ألف سببية ثم أردفها بعشرين ألفا أخرى كل ذلك من البربر فعجب عبد الملك يومئذ من كثرة ذلك
وزعم ابن حبيب أنه دخل

المنيذر قال ودخلها من التابعين ثلاثة موسى الأمير وعلي بن رباح اللخمي وحيوة بن رجاء التميمي وقيل إن ثالثهم إنما هو حنش بن عبد الله الصنعاني صنعاء الشام وإنهم قفلوا عنها بقفول موسى وأهل سرقسطة يزعمون أن حنشا مات عندهم ولم يقفل للمشرق وقبره لديهم مشهور يتبركون به ولا يختلفون فيه فالله أعلم
وقيل إن التابعين أربعة بأبي عبد الرحمن الحبلي الأنصاري واسمه عبد الله بن يزيد والله أعلم وخمسهم بعضهم بحبان بنأبي جبلة مولى بني عبد الدار وكان في ديوان مصر فبعث به عمر بن عبد العزيز إلى إفريقية في جماعة من الفقهاء ليفقهوا أهلها وكان روى عن عمرو بن العاص وابن عباس وابن عم وحدث عنه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم وغيره وغزا مع موسى حين افتتح الاندلس وانتهى معه إلى حصن من حصون العدو يقال له قرقشونة وقيل بل قفل إلى إفريقية فتوفي بها بعد العشرين ومائة
وقال بعضهم إن بين قرقشونة هذه وبين برشلونة مسافة خمسة وعشرين يوما وفيها الكنيسة المعظمة عند الفرنج المسماة شنت مرية وقد حكى ابن حيان أن فيها سبع سوار من فضة خالصة لم ير الراؤون مثلها لا يحيط الإنسان بذراعيه على واحدة منها مع طول مفرط
وحنش الصنعاني المذكور تابعي جليل كان مع علي رضي الله عنه بالكوفة وقدم مصر بعد قتله فصار عداده في المصريين وكان فيمن قام مع ابن الزبير على عبد الملك بن مروان فعفا عنه وكفى الأندلس شرفا دخوله لها
وعلي بن رباح بصري تابعي يكنى أبا عبد الله وهو لخمي ولد عام اليرموك سنة خمس عشرة قال ابن معين أهل

وأهل العراق يقولونه بضمها وروى الليث عن ابنه موسى بن علي وكانت لعلي بن رباح عند عبد العزيز بن مروان مكانة وهو الذي زف ابنته أم البنين لزوجها الوليد ثم عتب عليه عبد العزيز فأغزاه إفريقية
وأما المنيذر لصحابي فلم ينسبه ابن بيب وذكره ابن عبد البر في الصحابة وقال إنه المنيذر الإفريقي وكان سكن إفريقية وكان صحب رسول الله أنه سمعه يقول من قال رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا فأنا الزعيم له فلآخذن بيده فلأدخلنه الجنة ) ورواه عنه ابن عبد البر بسنده إليه وسيأتي إن شاء الله تعالى في حق المنيذر مزيد بيان
ولما قفل موسى بن نصير إلى المشرق وأصحابه سأل مغيثا أن يسلم إليه العلج صاحب قرطبة الذي كان في إساره فامتنع عليه وقال لا يؤديه للخليفة سواي وكان يدل بولائه من الوليد فهجم عليه موسى فانتزعه منه فقيل له إن سرت به حيا معك ادعاه مغيث والعلج لا ينكر قوله ولكن اضرب عنقه ففعل فاضطغنها عليه مغيث وصار إلبا مع طارق الساعي عليه واستخلف موسى عل طنجة وما يليها من المغرب ابنه الآخر عبد الملك وقد كان كما مر استخلف بإفريقية أكبر أولاده عبد الله فصار جميع الأندلس والمغرب بيد أولاده وابنه عبد الله الذي خلفه بإفريقية هو الفاتح لجزيرة ميورقة وسار موسى فورد الشام واختلف الناس هل كان وروده قبل موت الوليد أو بعده فمن يقول بالثاني قال قدم على سليمان حين استخلف وكان منحرفا عنه فسبق إليه طارق ومغيث بالشكية فعلم سليمان صدقه وكذب موسى فحقق جميع ما رمى به عنده وعزله عن جميع أعماله وأقصاه وحبسه وأمر بتقصي حسابه فأغرمه غرما عظيما كشفه فيه حتى اضطره إلى أن سأل العرب معونته فيقال إن لخما حملت عنه في أعطيتها تسعين ألف ذهبا وقيل حمله سليمان غرم مائتي ألف فأدى مائة ألف وعجز فاستجار بيزيد بن المهلب أثير سليمان فاستوهمه من سليمان فوهبه إياه إلا أنه عزل ابنه عبد الله عن إفريقية
وقال الرازي إن الذي أزعج موسى عن الأندلس أبو نصر رسول الوليد فقبض على عنانه وثناه قافلا وقفل معه من أحب المشرق وكان أكثر الناس قطنوا ببلاد الأندلس لطيبها فأقاموا فيها
نهاية موسى وابنه عبد العزيز
وذهب جماعة من أهل التاريخ إلى أن مسوى إنما قدم على الوليد وأن سليمان ولي العهد لماسمع بقرب موسى بن نصير من دمشق وكان الوليد مريضا كتب أي سليمان إلى موسى يأمره بالتربص رجاء أن يموت الوليد قبل قدوم موسى فيقدم موسى على سليمان في أول خلافته بتلك الغنائم

منه ورمياه بالخيانة وأخبراه بما صنع بهما من خبر المائدة والعلج صاحب قرطبة وقالا له إنه قد غل جوهرا عظيم القدر أصابه لم تحو الملوك من بعد فتح فارس مثله فلما وافى سليمان وجده ضغينا عليه فأغلظ له واستقبله بالتأنيب والتوبيخ فاعتذر له ببعض العذر وسأله عن المائدة فأحضرها فقاله له زعم طارق أنه الذي أصابها دونك قال لا وما رآها قط إلا عندي فقال طارق فليسأله أمير المؤمنين عن الرجل التي تنقصها فسأله فقال هكذا أصبتها وعوضتها رجلا صنعتها لها فحول طارق يده إلى قبائه فأخرج الرجل فعلم سليمان صدقه وكذب موسى فحقق جميع ما رمى به عنده وعزله عن جميع أعماله وأقصاه وحبسه وأمر بتقصي حسابه فأغرمه غرما عظيما كشفه فيه حتى اضطره إلى أن سأل العرب معونته فيقال إن لخما حملت عنه في أعطيتها تسعين ألف ذهبا وقيل حمله سليمان غرم مائتي ألف فأدى مائة ألف وعجز فاستجار بيزيد بن المهلب أثير سليمان فاستوهبه من سليمان فوهبه إياه إلا أنه عزل ابنه عبد الله عن إفريقية
وقال الرازي إن الذي أزعج موسى عن الأندلس أبو نصر رسول الوليد فقبض على عنانه وثناه قافلا وقفل معه من أحب المشرق وكان أكثر الناس قطنوا ببلاد الأندلس لطيبها فأقاموا فيها
نهاية موسى وابنه عبد العزيز
وذهب جماعة من أهل التاريخ إلى أن موسى إنما قدم على الوليد وأن سليمان ولي العهد لماسمع بقرب موسى بن نصير من دمشق وكان الوليد مريضا كتب أي سليمان إلى موسى يأمره بالتربص رجاء أن يموت الوليد قبل قدوم موسى فيقدم موسى على سليمان في أول

الكثيرة التي ما رئي ولا سمع مثلها فيعظم بذلك مقام سليمان عند الناس فأبى موسى من ذلك ومنعه دينه منه وجد في السير حتى قدم والوليد حي فسلم له الأخماس والمغانم والتحف والذخائر فلم يمكث الوليد إلا يسيرا بعد قدوم موسى وتوفي واستخلف سليمان فحقد عليه وأهانه وأمر بإقامته في الشمس حتى كاد يهلك وأغرمه أموالا عظيمة ودس إلى أهل الأندلس بقتل ابنه الذي استخلفه على الأندلس وهو عبد العزيز بن موسى وكان تولى الاندلس بعد قفول أبيه عنها باستخلافه إياه كما سبق فضبط سلطانها وضم نشرها وسد ثغورها وافتتح في ولايته مدائن كثيرة مما كان قد بقي على أبيه موسى منها وكان من خير الولاة إلا أن مدته لم تطل لوثوب الجند به وقتلهم إياه عقب سنة خمس وتسعين في خلافة سليمان الموقع بأبيه موسى لأشياء نقموها عليه منها زعموا تزوجه لزوجة لذريق المكناة أم عاصم وكانت قد صالحت على نفسها وأموالها وقت الفتح وباءت بالجزية وأقامت على دينها في ظل نعمتها إلى أن نكحها الأمير عبد العزيز فحظيت عنده ويقال إنه سكن بها في كنيسة بإشبيلية وإنها قالت له لم لا يسجد لك أهل مملكتك كما كان يسجد للذريق زوجها الأول أهل مملكته فقال لها إن هذا حرام في ديننا فلم تقنع منه بذلك وفهم لكثرة شغفه بها أن عدم ذلك مما يرزي بقدره عندها فاتخذ باب صغيرا قبالة مجلسه يدخل عليه الناس منه فينحنون وأفهمها أن ذلك الفعل منهم تحية له فرضيت بذلك فنمي الخبر إلى الجند مع ما انضم إلى ذلك من دسيسة سليمان لهم في قتله فقتلوه سامحه الله تعالى
وذكر

هي ارجعوا يا بني إسماعيل إلخ ما معناه وإن سألتم لم ترجعون فاعلموا أنكم ترجعون ليضرب بعضكم رقاب بعض انتهى
قال ابن حيان وليحيى بن حكم الشاعر المعروف بالغزال في فتح الأندلس أرجوزة حسنة مطولة ذكر فيها السبب في غزوها نظما وتفصيل الوقائع بين المسلمين وأهلها وعداد الأمراء عليها وأسماءهم فأجاد وتقصى وهي بأيدي الناس موجودة انتهى
وقد عرفت بما سبق تفصيل ما أجمله ابن خلدون والروايات في فتح الأندلس مختلفة وقد ذكرنا نحن بحسب ما اقتضاه الوقت ما فيه كفاية وأشرنا إلى بعض الاختلاف في ذلك ولو بسطنا العبارة في الفتح لكان وحده في مجلد أو أكثر
عبد الرحمن الداخل
وعلم مما ألمعنا به من كلام ابن خلدون السابق ذكر الولاة للأندلس من لدن الفتح وهم من قبل بني مروان بالمشرق المنفردين بإمامة المسلمين أجمعين قبل تفرقهم إلى أن انقرضت دولتهم العظيمة التي هي ألف شهر فاقتطع الأندلس عن بني العباس الدائلين علي بني مروان الناسخين لهم فل المروانيين عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان واقتعدها دار مملكة مستقلة لنفسه ولأعقابه وحمع بها شمل بني أمية ومواليهم وأورثها بنيه حقبة من الدهر بعد أن قاسى في ذلك خطوبا واجتمع عليه ثم على ذريته من بعده أهل الأندلس أجمعون رضى بهم دون بني العباس بعد أن حاول بنو العباس ملكها بأن ولوا بعض رؤساء العرب وأمروهم بالقيام على عبد الرحمن والدعاء للعباسيين القاطعين جرثومة

عبد الرحمن بمن نصب له الحرب في ذلك وقتل منهم آلافا وذلك في مدة المنصور كما سيأتي إن شاء الله تعالى عند ذكر عبد الرحمن الداخل في موضع آخر وسنذكر قريبا ولاة الاندلس من حين الفتح إلى إمارة الداخل وإن سبق في كلام ابن خلدون
مزيد بيان في نهاية موسى وشيء من شخصيته
وقال بعضهم كانت ولادة موسى بن نصير في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة تسع عشرة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأجل اللسلام وعلى آله وصحبه أجمعين انتهى
وقال الحجاري في المسهب يحكى أن موسى بن نصير ألفى بنفسه على يزيد بن المهلب لمكانه من أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك وطلب منه أن يكلمه في أن يخفف عنه فقال له يزيد اريد أن أسألك فأضغ إلي قال سل عما بدا لك فقال له لم أزل أسمع عنك أنك من أعقل الناس وأعرفهم بمكايد الحروب ومداراة الدنيا فقل لي كيف حصلت في يد هذا الرجل بعدما ملكت الأندلس وألقيت بينك وبين هؤلاء القوم البحر الزخار وتيقنت بعد المرام واستصعابه واستخلصت بلادا أنت أفترعتها واستملكت رجالا لا يعرفون غير خيرك وشرك وحصل في يدك من الذخائر والأموال والمعاقل والرجال ما لو أظهرت به الامتناع ما ألقيت عنقك في يد من لا يرحمك ثم إنك علمت أن سليمان ولي عهد وأنه المولى بعد أخيه وقد أشرف أخوه على الهلاك لا محال وبعد ذلك خالفته وألقيت بيدك إلى التهلكة وأحقدت مالكك ومملوكك قال يعني سليمان وطارقا وما رضى هذا الرجل عنك

تعديد أما سمعت إذا جاء الحين غطى العين فقال ما قصدت بما قلت لك تعديدا ولا تبكيتا وإنما قصدت تلقيح العقل وتنبيه الرأي وأن أرى ما عندك فقال موسى أما رأيت الهدهد يرى الماء تحت الأرض عن بعد ويقع في الفخ وهو بمرأى عينه ثم كلم فيه سليمان فكان من جوابه إنه قد اشتمل رأسه بما تكن له من الظهور وانقياد الجمهور والتحكم في الأموال والأبشار على ما لا يمحوه إلا السيف ولكن قد وهبت لك دمه وأنا بعد ذلك غير رافع عنه العذاب حتى يرد ما غل من مال الله قال وآلت حاله إلى أن كان يطاف به ليسأل من أحياء العرب ما يفتك به نقسه وفي تلك الحال مات وهو من أفقر الناس وأذلهم بوادي القرى سائلا من كان نازلا به
وقال أحد غلمانه ممن وفى له في حال الفقر والخمول لقد رأيتنا نطوف مع الأمير موسى بن نصير على أحياء العرب فواحد يجيبنا وآخر يحتجب عنا ولربما دفع إلينا على جهة الرحمة الدرهم والدرهمين فيفرح بذلك الأمير ليدفعه إلى الموكلين به فيخففون عنه من العذاب ولقد رأيتنا أيام الفتوح العظام بالأندلس نأخذ السلوك من قصور النصارى فنفصل منها ما يكون من الذهب وغير ذلك ونرمي به ولا نأخذ إلا الدر الفاخر فسبحان الذي بيده العز والذل والغنى والفقر
قال وكان له مولى قد وفى له وصبر عليه إلى ن ضاق ذرعه بامتداد الحال فعزم على أن يسلمه بوادي القرى في أسوإ حال وشعر بذلك موسى فخضع للمولى المذكور وقال له يا فلان أتسلمني

فقال له المولى من شدة ما كان فيه من الضجر قد أسلمك خالقك ومالكك الذي هو أرحم الراحمين فدمعت عيناه وجعل يرفعهما إلى السماءخاضعا مهينما بشفيته فما سفرت تلك الليلة إلا عن قبض روحه رحمة الله عليه فقد كان له من الأثر ما يوجب أن يترحم عليه وإن فعل سليمان به وبولده وكونه طرح رأس ابنه عبد العزيز الذي تركه نائبا عنه بالأندلس وقد جيء به من أقصى المغرب بين يديه من وصماته التي تعد عليه طول الدهر لا جرم أن الله تعالى لم يمتعه بعده بملكه وشبابه
وذكر ابن حيان أن موسى كان عربيا فصيحا وقد سبق من مراجعة يزيد بن المهلب ما يدل على بلاغته ويكفي منها ما ذكره ابن حيان أنه كتب إلى الوليد بن عبد الملك فيما هاله من فتوح الأندلس وغنائمها إنها ليست الفتوح ولكنها الحشر وقال الحجاري إن منازعة جرت بينه وبين عبد الله بن يزيد بن أسيد بمحضر عبد الملك بن مروان ألجأته إلى أن قال شعرا منه
( جاريت غير سؤوم في مطاولة ... لو نازع الحفل لم ينزع إلى حصر )
وتقدم ما ذكره غير واحد كابن حيان أن موسى مولى عبد العزيز بن مروان وكذا ذكر الحجاري أنه تجهز مع أم البنين بنت عبد العزيز حين ابتنى بها الوليد ابن عبد الملك فكانت تنمي مكانته عند الوليد إلى أن بلغ ما بلغ وأشهر من كان في صحبة موسى بن نصير من مواليه طارق المشهور بالفتوح العظيمة

وقال ابن سعيد بعد ذكره الخلاف في موسى هل هو لخمي صريح أو بالولاء ابو بربري أومولى لعبد العزيز بن مروان ما صورته وكان في عقبه نباهة في السلطنة ولي ابنه عبد العزيز سلطنة الأندلس وعبد الملط سلطنة المغرب الأقصى وعبد الله سلطنة إفريقية وذكر الحجاري أن أصله من وادي القرى بالحجاز وأنه خدم بني مروان بدمشق وتنبه شأنه فصرفوه في ممالكهم إلى أن ولي إفريقية وما وراءها من المغرب في زمن الوليد بن عبد الملك فدوخ أقاصي المغرب ودخل الأندلس من جبل موسى المنسوب إليه المجاور لسبتة ودوخ بلاد الأندلس ثم أوفده الوليد إلى الشام فوافق مرضه ثم موته وخلافة أخيه سليمان فعذبه واستصفى أمواله وآل أمره إلى أن وجهه إلى قومه بوادي القرى لعلهم يعطفون عليه ويؤدون عنه فمات بها وقد نص ابن بشكوال على أنه مات بوادي القرى
أما معارفه السلطانية فيكفيه ولاية ما خلف مصر إلى البحر المحيط بين بري البربر والأندلس
وأما الأدبية فقد جاءت عنه بلاغة في النثر والنظم تدخله مع نزارتها في أصحاب در الكلام وذكر ابن بشكوال أنه من التابعين الذين رووا الحديث وأن روايته عن تميم الداري وذكره في كتب الأئمة من المصنفين أنبه وأوعب من أن يخصص بذكره واحد منهم وهو غرة التواريخ الأندلسية وذكره إلى الآن جديد في ألسن الخاصة والعامة من أهلها
ومن مسهب الحجازي كان قد جمع رحمه الله من خلال الخير ما أعانه الله سبحانه به على ما بنى له من المجد المشيد والذكر الشهير المخلد الذي لا يبليه الليل والنهار ولا يعفي جديدة بلى الأعصار إلا أنه كان يغلب عليه ما لا يكاد رئيس يسلم منه وهو الحقد والحسد والمنافسة لا

من ذلك وأنشد بعض الرؤساء
( وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا ... ) فقلبه الرئيس وقال من يترك الحقدا ثم قال إن السيد إذا ترك إضمار الخير والشر والمجازاة عليهما اجترىء عليه ونسب للضعف والغفلة وهل رأيت صفقة أخسر من غفلة رئيس أحقده غيره فنسي ذلك أو تناساه وعدوه لا يغفل عنه وحاسده لا ينفعه عنده إلا الراحة منه وهو في واد آخر عنه ولله در القائل
( ووضع الندى في موضع السيف بالعلا ... مضر كوضع السيف في موضع الندى )
ولكن الأصوب أن يكون الرأي ميزانا لا يزن الوافي لناقص ولا يزن الناقص لواف ويدبر أمره على ما يقتضيه الزمان ويقدر فيه حسن العاقبة
ونص ابن بشكوال على أن موسى بن نصير مات بوادي القرى سنة سبع وتسعين وأغزى الأندلس سنة إحدى وتسعين ودخلها سنة ثلاث وتسعين وقفل عنها إلى الوليد بن عد الملك بالغنائم سنة أربع وتسعين وذكر أن ولايته على الأندلس بالمباشرة مذ دخلها إلى حين خروجه منها سنة واحدة ومكث فيها مولاه طارق سنة انتهى وقد تقدم شيء من ذلك
عود إلى ذكر التابعين في الأندلس
وذكر ابن بشكوال أيضا ان ابن حبيب قال عن ربيعة غل الناس كلهم يوم فتح الأندلس إلا أربعة نفر فقط كانوا

وأبو عبد الرحمن الحبلي وابن شماسة وعياض بن عقبة انتهى
قال ابن سعيد وممن دخل الأندلس من غير هؤلاء الأربعة من التابعين علي بن رباح اللخمي وموسى بن نصير فاتح الأندلس وحبان بن أبي جبلة القرشي مولاهم وعبد الرحمن بن عبد الله الغافقي صاحب الأندلس المذكور في سلاطينها ومحمد بن أوس بن ثابت الانصاري وزيد بن قاصد السكسكي والمغيرة بن أبي بردة الكناني وعبد الله بن المغيرة الكناني وحيوة بن رجاء التميمي وعبد الجبار بن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ومنصور بن خزامة وعلي بن عثمان بن خطاب
وذكر ابن حبيب أن عدة من دخل الأندلس من التابعين سوى من لا يعرف نحو عشرين رجلا وفي كتاب ابن بشكوال أنه دخل الأندلس من التابعين ثمانية وعشرون رجلا وهم أسسوا قبلة المسجد الجامع بقرطبة وسمى الحجاري في المسهب هؤلاء المتقدمين
وذكر ابن سعيد أنه لم يتحقق المواضع التي تختص بهؤلاء التابعين من بلاد الأندلس مع جزمه بأنهم دخلوا الأندلس وكانوا بها وسيأتي ذكر التابعين الداخلين الأندلس بما هو أشمل من هذا وقد تقدم غلول من عدا التابعين من الغنائم
مغانم الأندلس
وقال الليث بن سعد بعد ذكره أن طارقا أصاب بالأندلس مغانم كثيرة من الذهب والفضة إن كانت الطنفسة لتوجد منسوجة بقضبان الذهب وتنظم السلسة من الذهب باللؤلو والياقوت والزبرجد وكان البربر ربما وجدوها فلا يستطيعون

والآخر النصف الآخر لنفسه ويسير معهم جماعة والناس مشتغلون بغير ذلك
وعن يحيى بن سعيد لما افتتحت الاندلس أصاب الناس فيها غنائم فغلوا منها غلولا كثيرا حملوه في المراكب وركبوا البحر فسمعوا مناديا يقول اللهم غرق بهم وتقلدوا المصاحف فما نشبوا أن أصابتهم ريح عاصف وضربت المراكب بعضها بعضا حتى تكسرت وغرق بهم وأهل مصر ينكرون ذلك ويقولون أهل الأندلس ليس هم الذين غرقوا وإنما هم أهل سردانية فالله أعلم بحقيقة الحال
ورأيت في بعض كتب التاريخ أنه وجد في طليطلة حين فتحت من الذخائر والأموال ما لا يحصى فمن ذلك مائة وسبعون تاجا من الذهب الاحمر مرصعة بالدر وأصناف الحجارة الثمينة ووجد فيها ألف سيف ملوكي ووجد فيها من الدر والياقوت أكيال ومن أواني الذهب والفضة ما لا يحيط به وصف ومائدة سليمان وكانت فيما يذكر من زمردة خضراء وزعم بعض العجم أنها لم تكن لسليمان وإنما أصلها أن العجم أيام ملكهم كان أهل الحسنة في دينهم إذا مات أحد منهم أوصى بما للكنائس فإذا اجتمع عتدهم مال له قدر صاغوا منه الآلة من الموائد العجيبة والكراسي من الذهب والفضة تحمل الشمامسة والقسوس فوقها الأناجيل في ايام المناسك ويضعونها في الأعياد للمباهاة فكانت تلك المائدة بطليطة مما صنع في هذا السبيل وتأنق الملوك في تحسينها يزيد الآخر منهم فيها على الأول حتى برزت على جميع ما اتخذ من تلك الآلات وطار الذكر بها كل مطار وكانت مصوغة من الذهب الخالص مرصعة بفاخر الدر والياقوت والزبرجد وقيل إنها من زبرجدة خضراء حافاتها وأرجلها منها وكان لها ثلاثمائة وخمس وستون رجلا وكانت توضع في كنيسة طليطلة فأصابها

وقد كرنا فيما مر عن ابن حبان ما فيه نظير هذا وذكرنا فيما مضى من أمر المائدة وغيرها ما فيه بعض تخالف وما ذلك إلا لأنا ننقل كلام المؤرخين وإن خالف بعضهم بعضا ومرادنا تكثير الفائدة وبالجملة فالمائدة جليلة المقدار وإن حصل الخلاف في صفتها وجنسها وعدد أرجلها وهي من أجل ما غنم بالأندلس على كثرة ما حصل فيها من الغنائم المتنوعة الاجناس التي ذكرها إلى الآن شائع بين الناس
استيطان العرب في الأندلس
واعلم أنه لما اسقر قدم أهل الإسلام بالاندلس وتتام فتحها صرف أهل الشام وغيرهم من العرب هممهم إلى الحلول بها فنزل بها من جراثيم العرب وساداتهم جماعة أورثوها أعقابهم إلى أن كان من أمرهم ما كان
فأما العدنانيون فمنهم خندف ومنهم قريش وأما بنو هاشم من قريش فقال ابن غالب في فرحه الأنفس بالأندلس منهم جماعة كلهم من ولد إدريس ابن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ومن هؤلاء بنو حمود ملوك الاندلس بعد انتثار سلك بني أمية وأما بنو أمية فمنهم خلفاء الاندلس قال ابن سعيد ويعرفون هنالك إلى الآن بالقرشيين وإنما عموا نسبتهم إلى أمية في الآخر لما انحرف الناس عنهم وذكروا أفعالهم في الحسين رضي الله عنه وأما بنو زهرة فهم بإشبيلية أعيان متميزون وأما المخزوميون فمنهم أبو بكر المخزومي الأعمى الشاعر المشهور من أهل حصن المدور ومنهم الوزير الفاضل في النظم والنثر أبو بكر بن زيدون ووالده الذي هو أعظم منه أبو الوليد بن زيدون وزير معتضد بني عباد وقال ابن غالب وفي الأندلس من ينسب إلى جمح

ابن فهر وهم من قريش الظواهر ومنهم عبد الملك بن قطن سلطان الاندلس ومن ولده بنو القاسم الامارء الفضلاء وبنو الجد الاعيان العلماء ومن بني الحارث بن فهر يوسف بن عبد الرحمن الفهري سلطان الأندلس الذي غلبه عليها عبد الرحمن الاموي الداخل وجد يوسف عقبة بن نافع الفهري صاحب الفتوح بإفريقية قال ابن حزم ولهم بالأندلس عدد وثروة وأما المنتسبون إلى عموم الكنانة فكثير وجلهم في طليطلة وأمالها ولهم ينسب الوقشيون الكنانيون الاعيان الفضلاء الذين منهم القاضي أبو الوليد والوزير أبو جعفر ومنهم أبو الحسين بن جبير العالم صاحب الرحلة وقد ذكرناه في محله وأما هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر فذكر ابن غالب أن منزلهم بجهة أريولة من كورة تدمير وأما تميم بن مر بن أدبن بن طابخة بن إلياس بن مضر فذكر ابن غلب أيضا أنهم خلق كثير بالأندلس فهؤلاء خندف من العدانية
وأما قيس عيلان بن إلياس بن مضر من العدنانية ففي الأندلس كثير منهم ينتسبون إلى العموم ومنهم من ينتسب إلى سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس كعبد الملك بن حبيب السلمي الفقيه صاحب الإمام مالك رضي الله عنه وكالقاضي أبي حفص بن عمر قاضي قرطبة ومن قيس من ينتسب إلى هوازن بن منصور بن عكرمة قال ابن غالب وهم بإشبيلية خلق كثير ومنهم من ينتسب إلى بكر بن هوازن قال ابن غالب ولهم منزل بجوفي بلنسية على ثلاثة أميال منها وبإشبيلية وغيرها منهم خلق كثير ومنهم بنو حزم وهم بيت غير البيت الذي منه أبو محمد بن حزم الحافظ الظاهري وهو فارسي الأصل ومنهم من ينتسب إلى سعد بن بكر بن هوازن وذكر ابن غالب أن منهم بغرناطة كثيرا كبني جودي وقد رأس بعض بني جودي ومنهم من ينتسب إلى سلول امرأة نسب إليها بنوها

ابن معاوية بن بكر بن هوازن ومنهم من ينتسب إلى كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن ومنهم من ينتسب إلى نمير بن عامر ابن صعصعة قال ابن غالب وهم بغرناطة كثير ومنهم من ينتسب إلى قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة ومنهم بلج بن بشر صاحب الأندلس وآله وبنو رشيق ومنهم من ينتسب إلى فزارة بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان ومنهم من ينتسب إلى أشجع بن ريث بن غطفان ومن هؤلاء محمد بن عبد الله الأشجعي سلطان الأندلس وفي ثقيف اختلاف فمنهم من قال إنها قيسية وإن ثقيفا هو قسي بن منبه بن بكر بن هوازن ومنهم بالأندلس جماعة وإليهم ينتسب الحر بن عبد الرحمن الثقفي صاحب الأندلس وقيل إنها من بقايا ثمود انتهى قيس عيلان وجميع مضر
وأما ربيعة بن نزار فمنهم من ينتسب إلىأسد بن ربيعة بن نزار قال في فرحة الأنفس إن إقليم هؤلاء مشهور باسمهم بجوفي مدينة وادي آش انتهى والأشهر بالنسبة إلى أسد أبدا بنو أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس ابن مضر ومنهم من ينتسب إلى محارب بن عمرو بن وديعة بن لكيز بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة قال ابن غالب في فرحة الانفس ومنهم بنو عطية أعيان غرناطة ومنهم من ينتسب إلى النمر بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد كبني عبد البر الذين منهم الحافظ أبو عمر بن عبد البر ومنهم من ينتسب إلى تغلب بن وائل بن قاسط بن هنب كبني حمدين أعيان قرطبة ومنهم من ينتسب إلى بكر ابن وائل كالبكريين أصحاب أونبة وشلطيش الذين منهم أبو عبيد

وأما إياد بن نزار وقد يقال إنه ابن معد والصحيح الأول فينتسب إليهم بنو زهر المشهورون بإشبيلية وغيرهم انتهت العدنانية وهم الصريح من ولد إسماعيل عليه السلام
واختلف في القحطانية هل هم من ولد إسماعيل أو من ولد هود على ما هو معروف وظاهر صنيع البخاري الأول والأكثر على خلافه والقحطانية هم المعروفون باليمانية وكثيرا ما يقع بينهم وبين المضرية وسائر العدنانية الحروب بالأندلس كما كان يقع بالمشرق وهم الأكثر بالأندلس والملك فيهم أرسخ إلا ما كان من خلفاء بني أمية فإن القرشية قدمتهم على الفرقتين واسم الخلافة لهم بالمشرق وكان عرب الأندلس يتميزون بالقبائل والعمائر والبطون والأفخاذ إلى أن قطع ذلك المنصور بن أبي عامر الداهية الذي ملك سلطنة الاندلس وقصد بذلك تشتيتهم وقطع التحامهم وتعصبهم في الاعتزاء وقدم القواد على الأجناد فيكون في جند القائد الواحد فرق من كل قبيل فانحسمت مادة الفتن والاعتزاء بالأندلس إلا ما جاءت على غير هذه الجهة
قال ابن حزم جماع أنساب اليمن من جذمين كهلان وحمير ابني سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عابر بن شالح بن أرفخشذ ابن سام بن نوح وقيل قحطان بن الهميسع بن تيهان بن نبت بن إسماعيل وقيل قحطان بن هود بن عبد الله بن رباح بن حارف بن عاد بن عوص بن إرم بن سام والخلف في ذلك مشهور فمنهم كهلان بن سبأ بن يشجب ابن يعرب بن قحطان ومنهم الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان وإليهم ينتسب محمد بن هانىء الشاعر المشهور الإلبيري وهو من بني المهلب ومن الازد من ينتسب إلى غسان وهم بنو مازن بن الأزد وغسان ماء

غرناطة وكثير منهم بصالحة قرية على طريق مالقة ومن الأزد من ينتسب إلى الأنصار علىالعموم وهم الجم الغفير بالأندلس
قال ابن سعيد والعجب أنك تعدم هذا النسب بالمدينة وتجد منه بالأندلس في أكثر بلدانها ما يشذ عن العدد كثرة ولقد أخبرني من سأل عن هذا النسب بالمدينة فلم يجد إلا شيخا من الخزرج وعجوزا من الأوس
قال ابن غالب وكان جزء الأنصار بناحية طليطلة وهم أكثر القبائل بالاندلس في شرقها ومغربها انتهى
ومن الخزرج بالأندلس أبو بكر عبادة بن عبد الله بن ماء السماء من ولد سعد بن عبادة صاب رسول الله وهو المشهور بالموشحات وإلى قيس بن سعد بن عبادة ينتسب بنو الأحمر سلاطين غرناطة الذي كان لسان الدين بن الخطيب أحد وزرائهم وعليهم انقرض ملك الأندلس من المسلمين واستولى العدو على الجزيرة جميعا كما يذكر
ومن أهل الأندلس من ينتسب إلى الأوس أخي الخزرج ومنهم من ينتسب إلى غامق بن عك بن عد ثان بن هزان بن الأزد وقد يقال عك بن عدنان بالنون فيكون أخا معد بن عدنان وليس بصحيح قال ابن غالب من غامق أبو عبدالله بن أبي الخصال الكاتب وأكثر جهات شقورة ينتسبون إلى غامق ومن كهلان من ينتسب إلى همدان وهو أوسلة بن مالك بن زيد بن بن

أوسلة بن الخيار بن مالك بن زيد بن كهلان ومنزل همدان مشهور على ستة أميال من غرناطة ومنهم أصحاب غرناطة بنو أضحى ومن كهلان من ينتسب إلى مذحج ومذحج اسم أكمة حمراء باليمن وقيل اسم أم مالك وطيء ابني أدد بن زيد بن كهلان قال ابن غالب بنو سراج الأعيان من أهل قرطبة ينتسبون إلى مذحج ومنزل طيئ بقبلي مرسية ومنهم من ينتسب إلى مراد بن مالك بن أدد وحصن مراد بين إشبيلية وقرطبة مشهور قال ابن غالب وأعرف بمراد منهم خلا كثيرا ومنهم من ينتسب إلى عنس بن مالك بن أدد ومنهم بنو سعيد مصنفو كتاب المغرب وقلعة بني سعيد مشهورة في مملكة غرناطة ومن مذحج من ينتسب إلى زبيد قال ابن غالب وهو منبه بن سعد العشيرة بن مالك بن أدد ومن كهلان من ينتسب إلى مرة بن أدد بن زيد بن كهلان قال ابن غالب منهم بنو المنتصر العلماء من أهل غرناطة ومنهم من ينتسب إلى عاملة وهي امرأة من قضاعة ولدت للحارث ابن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد فنسب ولدها منه إليها قال ابن غالب منهم بنو سماك القضاة من أهل غرناطة وقوم زعموا أن عاملة هو ابن سبأ ابن يشجب بن يعرب بن قحطان وقيل هم من قضاعة ومن كهلان خولان بن عمرو بن الحارث بن مرة وقلعة خولان مصهورة بين الجزيرة الخضراء وإشبيلية ومنهم بنو عبد السلام أعيان غرناطة ومنهم من ينتسب إلى المعافر بن يعفر بن مالك بن الحارث بن مرة ومنهم المنصور بن أبي عامر صاحب الأندلس ومنهم من ينتسب إلى لخم

بنو عباد أصحاب إشبيلية وغيرها وهم من ولد النعمان بن المنذر صاحب الحيرة ومنهم بنو الباجي أعيان إشبيلية وبنو وافد الأعيان ومنهم من ينتسب إلى جذام مثل ثوابة بن سلامة صاحب الأندلس وبني هود ملوك شرقي الأندلس ومنهم المتوكل بن هود الذي صحت له سلطنة الأندلس بعد الموحدين ومنهم بنو مردنيش أصحاب شرقي الأندلس قال ابن غالب وكان لجذام جزء من قلعة رباح واسم جذام عامر واسم لخم مالك وهما ابنا عدي ومن كهلان من ينتسب إلى كندة وهو ثور بن عفير بن عدي بن الحارث ابن مرة بن أدد ومنهم يوسف بن هرون الرمادي الشاعر ومنهم من ينتسب إلى تجيب وهي امرأة أشرس بن السكون بن أشرس بن كندة ومن كهلان من نيتسب إلى خثعم بن أنمار بن اراش بن عمرو بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان ومنهم عثمان بن أبي نسعة سلطان الاندلس وقد قيل أنمار بن نزار بن معد بن عدنان انتهت كهلان
وأما حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان فمنهم من ينتسب إلى ذي رعين قال ابن غالب وذو رعين هم ولد عمرو بن حمير في بعض الأقوال وقيل هو من ولد سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن حمير قال ومنهم أبو عبد الله الحناط الاعمى الشاعر قال

النسب ومنهم من ينتسب إلى ذي أصبح قال ابن حزم هو ذو أصبح ابن مالك بن زيد من ولد سبأ الأصغر بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس ووصل النسب وذكر الحازمي أن ذا أصبح من كهلان وأخبر أن منهم مالك بن أنس الإمام والمشهور أنهم من حمير والأصبحيون من أعيان قرطبة ومنهم من ينتسب إلى يحصب قال ابن حزم إنه أخو ذي أصبح وهم كثير بقلعة بني سعيد وقد تعرف من أجلهم في التواريخ الاندلسية بقلعة يحصب ومنهم من ينتسب إلى هوزن بن عوف بن عبد شمس بن وائل بن الغوث قال ابن غالب ومنزلهم بشرف إشبيلية والهوزنيون من أعيان إشبيلية ومنهم من ينتسب إلى قضاعة بن مالك بن حمير وقد قيل إنه قضاعة بن معد بن عدنان وليس بمرضي ومن قضاعة من ينتسب إلى مهرة كالوزير أبي بكر ابن عمار الذي وثب على ملك مرسية وهو مهرة بن حيدان بن عمرو بن الحاف بن قضاعة ومنهم من ينتسب إلى خشين بن نمر بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة ومنهم من ينتسب إلى تنوخ قال ابن غالب وهو ابن مالك بن فهم بن نمر بن وبرة بن تغلب قال الحازمي تنوخ هم مالك بن فهم بن تيم الله بن أسد بن وبرة ومنهم من ينتسب إلى بلي بن عمرو ابن الحاف بن قضاعة ومنهم البلويون بإشبيلية ومنهم من ينتسب إلى جهينة بن سود بن أسلم بن عمرو بن الحاف

وبقرطبة منهم جماعة ومنهم من ينتسب إلى كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان كبني أبي عبدة الذين منهم بنو جهور ملوك قرطبة ووزراؤها ومنهم من ينتسب إلى عذرة بن سعد هذيم بن زيد بن سود بن عمرو بن الحاف بن قضاعة ومنهم أعيان الجزيرة الخضراء بنو عذرة
ومن أهل الاندلس من ينتسب إلى حضرموت منهم الحضرميون بمرسية وغرناطة وإشبيلية وبطليوس وقرطبة قال ابن غالب وهم كثير بالأندلس وفيه خلاف قيل إن حضرموت هو ابن قحطان وقيل هو حضرموت بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد اشمس بن وائل بن الغوث بن جيدان بالجيم بن قطن بن العريب بن الغرز بن نبت بن أيمن بن الهميسع ابن حمير كذا نسق النسب الحازمي
ومن أهل الاندلس من ينتسب إلى سلامان ومنهم الوزير لسان الدين بن الخطيب حسبما ذكر في محله
ثبت بأسماء الامراء
وقد رأيت أن أسرد هنا أسماء ملوك الأندلس من لدن الفتح إلى آخر ملوك بني أمية وإن تقدم ويأت ذكر جملة منهم بما هو أتم مما هنا فنقول
طارق بن زياد مولى موسى بن نصير
ثم الأمير موسى بن نصير وكلاهما لم يتخذ سريرا للسلطنة
ثم عبد العزيز بن موسى بن نصير وسريره إشبيلية
ثم أيوب بن حبيب اللخمي وسريره

قرطبة او الزهراء والزاهرة بجانبيها إلى أن انقضت دولة بني مروان على ما ينبه عليه
ثم الحر بن عبد الرحمن الثقفي
ثم السمح بن مالك الخولاني
ثم عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي
ثم عنبسة بن سحيم الكلبي
ثم عذرة بن عبد الله الفهري
ثم يحيى بن سلمة الكلبي
ثم عثمان بن أبي نسعه الخثعمي
ثم حذيفة بن الاحوص القيسي
ثم الهيثم بن عدي الكلابي
ثم محمد بن عبد الله الأشجعي
ثم عبد الملك بن قطن الفهري
ثم بلج بن بشر بن عياض القشيري
ثم ثعلبة بن سلامة العاملي
ثم أبو الخطار حسام بن ضرار الكلبي
ثم ثوابة بن سلامة الجذامي
ثم يوسف بن عبد الرحمن الفهري
وههنا انتهى الولاة الذين ملكوا الأندلس من غير موارثة أفرادا عددهم عشرون فيما ذكر ابن سعدي ولم يتعدوا في السمة لفظ الأمير
قال ابن حيان مدتهم منذ تاريخ الفتح من لذريق سلطان الأندلس النصراني وهو يوم الاحد لخمس خلون من شوال سنة اثنتين وتسعين إلى يوم الهزيمة على يوسف

المرواني على سرير الملك قرطبة وهو يوم الأضحى لعشر خلون من ذي الحجة سنة ثمان وثلاثون ومائة ست وأربعون سنة وخمسة أيام انتهى
حكام بني أمية
ثم كانت دولة بني أمية
أولهم عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبدالملك
ثم ابنه هشام الرضى
ثم ابنه الحكم بن هشام
ثم ابنه عبد الرحمن الأوسط
ثم ابنه محمد بن عبد الرحمن ثم ابنه المنذر بن محمد
ثم أخوه عبدالله بن محمد
ثم ابن ابنه عبد الرحمن الناصر بن محمد بن عبد الله
ثم ابنه الحكم المستنصر وكرسيهما الزهراء
ثم هشام بن الحكم وفي أيامه بني حاجبه المنصور بن أبي عامر الزاهره
ثم المهدي محمد بن هشام بن عبد الجبار بن الناصر وهو أول خلفاء الفتنة وهدمت في أيامه الزهراء والزاهرة وعاد السرير إلى قرطبة
ثم المستعين سليمان بن الحكم بن سليمان بن الناصر
الحموديون
ثم تخللت دولة بني حمود العلويين
وأولهم

ثم أخوه المأمون القاسم بن حمود
ثم المعتلي يحيى بن الناصر بن علي بن حمود
بقية بني أمية
ثم كانت دولة بني أمية الثانية
وأولها المستظهر عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار بن الناصر ثم المستكفي محمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله بن الناصر
ثم المعتد هشام بن محمد بن عبد الملك بن الناصر وهو آخر خلفاء الجماعة بالأندلس وحين خلع أسقط ملوك الأندلس الدعوة للخلافة المروانية
ملوك الطوائف ومن بعدهم
واستبدت ملوك الطوائف كابن جهور في قرطبة وابن عباد بإشبيلية وغيرهما ولم يعد نظام الأندلس إلى شخص واحد إلى أن ملكها يوسف بن تاشفين الملثم من بر العدوة وفتك في ملوك الطوائف وبعد ذلك ما خلصت له ولا لولده علي بن يوسف لأن بني هود نازعوه في شرقها بالثغر إلى أن جاءت دولة عبد المؤمن وبنيه فما صفت لعبد المؤمن بمحمد بن مردنيش الذي كان ينازعه في شرق الأندلس ثم صفت ليوسف بن عبد المؤمن بموت ابن مردنيش ثم لمن بعده من بنيه وحضرتهم مراكش وكانت ولاتهم تتردد على الأندلس وممالكها ولم يولوا على جميعها شخصا واحدا لعظم ممالكها إلى أن انقرضت منها دولتهم بالمتوكل محمد بن هود من بني هود ملوك سرقسطة وجهاتها فمك معظم الأندلس بحيث يطلق عليه اسم السلطان ولم ينازعه فيها إلا زيان بن

من غرب الأندلس ثم كثرت عليه الخوارج قريب موته ولما قتله وزيره ابن الرميمي بالمرية زاد الأمر إلى أن ملك بنو الأحمر وكان أهل غرب الأندلس في المائة السابعة يخطبون لصاحب إفريقية السلطان أبي زكرياء بن أبي محمد عبد الواحد بن أبي حفص ثم تقلصت تلك الظلال ودخل الجزيرة الانحلال إلى أن استولى عليها حزب الضلال والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين
وقد ذكرت في هذا الكتاب جملة من أخبار ملوك الأندلس مما يصلح للمذاكرة وربما سرحت طرف القلم في بعضهم
وبنو جهور المشار إليهم قريبا كانوا وزراء الأمويين ثم إنه لما انتثر سلك الخلافة استبد بقرطبة الوزير أبو الحزم بن جهور من غير أن يتعدى اسم الوزارة
جهور بن محمد بن جهور
قال في المطمح الوزير الأجل جهور بن محمد بن جهور وبنو جهور أهل بيت وزارة اشتهروا كاشتهار ابن هبيرة في فزارة وأبو الحزم أمجدهم في المكرمات وأنجدهم في الملمات ركب متون الفتون فراضها ووقع في بحور المحن فخاضها منبسط غير منكمش لا طائش اللسان ولا رعش وقد كان وزر في الدولة العامرية فشرفت بجلاله واعترفت باستقلاله فلما انقرضت وعاقت الفتن واعترضت تحيز عن التدبير مدتها وخلى لخلافه أعباء الخلافة وشدتها وجعل يقبل مع أولئك الوزراء ويدبر وينهل الامر معهم ويدبر غير مظهر للإنفراد ولا متصرف في ميدان ذلك الطراد

الرياسة ويخب ويسعى في الفتنة ويدب ولما ارتفع الوبال وأدبر ذلك الإقبال راسل أهل التقوى مستمدا بهم ومعتمدا على بعضهم تحيلا منه وتمويها وتداهيا على أهل الخلافة وذويها وعرض عليهم تقديم المعتد هشام وأومض منه لأهل قرطبة برق خلب يشام بعد سرعة التياثها وتعجيل انتكاشها فأنابوا إلى الإجابة وأجابوا إلى استرعائه الوزارة والحجابة وتوجهوا مع ذلك الإمام وألموا بقرطبة أحسن إلمام فدخلوها بعد فتن كثيرة واضطرابات مستثيرة والبلد مقفر والجلد مسفر فلم يبق غير يسير حتى جبذ واضطرب أمره فخلع واختطف من الملك وانتزع وانقضت الدولة الأموية وارتفعت الدولة العلوية واستولى على قرطبة عند ذلك أبو الحزم ودبرها بالجد والعزم وضبطها ضبطا أمن خائفها ورفع طارق تلك الفتنة وطائفها وخلا له الجو فطار واقتضى اللبانات والأوطار فعادت له قرطبة إلى أكمل حالتها وانجلى به نور جلالتها ولم تزل به مشرقة وغصون الآمال فيها مورقة إلى أن توفي سنة 435 فانتقل الامر إلى ابنه أبي الوليد واشتمل منه على طارف وتليد وكان لأبي الحزم أدب ووقار وحلم سارت بها الأمثال وعدم فيها المثال وقد أثبت من شعره ما هو لائق وفي سماء الحسن رائق وذلك قوله في

( الورد أحسن ما رأت عيني وأذكى ... ما سقى ماء السحاب الجائد )
( خضعت نواوير الرياض لحسنه ... فتذللت تنقاد وهي شوارد )
( وإذا تبدى الورد في أغصانه ... يزهو فذا ميت وهذا حاسد )
( وإذا أتى وفد الربيع مبشرا ... بطلوع وفدته فنعم الوافد )
( ليس المبشر كالمبشر باسمه ... خبر عليه من النبوة شاهد )
( وإذا تعرى الورد من أوراقه ... بقيت عوارفه فهن خوالد )
انتهى المقصود منه
وكأنه عارض بهذه الأبيات في تفضيل الورد قول ابن الرومي في تفضيل النرجس عليه من قصيدة
( للنرجس الفضل 7المبين وإن أبى ... أب وحاد عن الحقيقة حائد )
وهي مشهورة
ورد على ابن الرومي بعضهم بقوله
( يا من يشبه نرجسا بنواظر ... دعج تنبه إن فهمك فاسد )
إلخ وهي أيضا مشهورة
انتقاض حال الأندلس
رجع إلى ما كنا فيه وكانت لأهل الأندلس بين زمان الفتح وما بعده وقائع في الكفار شفت الصدور من امراضها ووفت النفوس بأغراضها واستولت على ما كان لملة الكفر من جواهرها

الائتلاف فعصفت ريح العدو والحروب سجال وأعيا العلاج حكماء الرجال فصار أهل الأندلس يتذكرون موسى بن نصير وطارق ومن بعدهما من موك الأندلس الذين راعت العدو الكافر منهم طوارق
رسائل أبي المطرف بن عميرة
وما أحسن ما أعرب الإمام الكاتب القاضي أبو المطرف بن عميرة عما يشمل هذا المعنى وغيره في كتاب بعث به إلى الشيخ أبي جعفر بن أمية حين حل الرزء ببلنسية وهو
( ألا أيها القلب المصرح بالوجد ... أما لك من بادي الصبابة من بد )
( وهل من سلو يرتجى لمتيم ... له لوعة الصادي وروعة ذي الصد )
( يحن إلى نجد وهيهات حرمت ... صروف الليالي أن يعود إلى نجد )
( فيا جبل الريان لا ري بعد ما ... عدت غير الأيام عن ذلك الورد )
( ويا أهل ودي والحوادث تقتضي ... خلوي عن أهل يضاف إلى الود )
( ألا متعة يوما بعارية المنى ... فإنا نراها كل حين إلى الرد )
( أمن بعد رزء في بلنسية ثوى ... بأحنائنا كالنار مضمرة الوقد )
( يرجي أناس جنة من مصائب ... تطاعن

( ألا ليت شعري هل لها من مطالع ... معاد إلى ما كان فيها من السعد )
( وهل أذنب الأبناء ذنب أبيهم ... فصاروا إلى الإخراج من جنة الخلد )
مرحبا بالسحاءة وما أعارت أفقي من الإضاءة وردت تسحر النهى وتسحب ذيلا على السها وتهز من المسرة أعطافا وترد من نجوم المجرة نطافا عامت من الظلمة في موجها ثم غلبت الشهب على أوجها فقلب العقرب يجب وسهيل بداره يحتجب والطرف غضيض وجناح الطائر مهيض وصاحب الأخيبة يقرض والذابح عن ذبيحته يعرض ورامح السماكين تخونه السلاح وواقع النسرين يود أن يخفيه الصباح بلاغة تفتن كل لبيب وترعى روض كل أديب وتغض على رغم العدو من حبيب إن من البيان لسحرا ويا أيها الجواد وجدناك بحرا أدريت أي بري بريت وبأي قمر اهتديت ليلة سريت افتتحت بأبياتك الحسان ونظمتها نظم الجمان فعوذت ستتها بالسبع وعرفت منها براعة ذلك الطبع ثم نثرت على القرطاس من شذور المنثور بل من جواهر النحور ما استوقف النظار وبهرج اللجين والنضار ورأيتك استمددت ولك الباع الأمد وأعرت محاسنك والعارية ترد وجئت بالرائية تروق أربعتها وتخرس بها قعقعة الأشعار وجعجعتها فأدت من حسنها ما يسر واجتمع لمن روى القطعتين ما نظم فيها وهو الدر وأجريت خبر الحادثة التي محقت بدر التمام وذهبت بنضارة

الوحشة أخقا أنه دكت الأرض ونزف المعين والبرض وصوح روض المنى وصرخ الخطب وما كنى ابن لي كيف فقدت رجاحة الأحلام وعقدت مناحة الإسلام وجاء اليوم العسر وأوقدت نار الحزن فلا تزال تستعر حلم ما نرى بل ما رأى ذا حالم طوفان يقال عنده لا عاصم من ينصفنا من الزمان الظالم الله بما يلقى الفؤاد عالم بالله أي نحو تنحو ومسطور تثبت وتمحو وقد حذف الأصلي والزائد وذهب الصلة والعائد وباب التعجب طال وحال البائس لا تخشى الانتقال وذهبت علامة الرفع وفقدت سلامة الجمع والمعتل أعدى الصحيح والمثلث أردى الفصيح وامتنعت العجمة من الصرف وامنت زيادتها من الحذف ومالت قواعد الملة وصرنا إلى جمع القلة وللشرك صيال وتخمط ولقرنه في شركه تخبط وقد عاد الدين إلى غربته وشرق الإسلام بكربته كأن لم يسمع بنصر ابن نصير وطرق طارق بكل خير ونهشات حنش وكيف أعيت الرقي وأدالت بليل السليم يوم الملتقى ولم تخبر عن المروانية وصوائفها وفتى معافر وتعفيره للأوثان وطوائفها لله ذلك السلف لقد طال الأسى عليهم والأسف وبقي الحكم العدل والرب الذي قوله الفصل وبيده الفضل ربنا أمرت فعصينا ونهيت فما انتهينا وما كان ذلك جزاء إحسانك إلينا أنت العليم بما أعلنا وما أخفينا والمحيط بما لم نأت وما أتينا لو أننا فيك أحببنا وقلينا لم ترنا ومن الفرقة ما رأينا ولم تسلط عدوك وعدونا علينا لكن أنت أرحم من أن تؤاخذنا بما جنينا وأكرم من أن لا تهب حقوقك لدينا
وأشرت ايها الأخ الكريم إلى استراحة إلي وتنسم بما لدي لتبرد كما زعمت حر نفس وتقدح

والرند وأقشع الشؤبوب وركد ما كان يظن به الهبوب فالقلم دفين لا يحشر وميت لا ينشر والطبع قد نكص القهقرى وقل منزله أنه يدعى له النقرى فها هو لا يملك مبيتا ولا يجد لقلمه تثبيتا وأنت أبقاك الله عز و جل بمقتبل الآداب طائر ميعة الشباب وأين سن السمو من سن الانحطاط ووقت الكسل من وقت النشاط وقد راجعتك لا داخلا في حلبتك بل قاضيا حق رغبتك والله تعالى يجعلك بوسيلة العلم مترقيا وبجنة الطاعة متوقيا ولهناء الأنفس مستقبلا ومتلقيا بمنه والسلام انتهى
وكتب رحمه الله إلى سلطان إفريقية الوارث ملك بني عبد المؤمن بتلك النواحي المستولى على البلدان والضواحي وقد كان لأهل الاندلس أمل في أخذه بثأرهم وضم انتثارهم ما صورته
( شاقه غب الخيال الوارد ... بارق هاج غرام الهاجد )
( صدقا وعد التلاقي ثم ما ... طرقا إلا بخلف الواعد )
( وكلا الزورين من طيف ومن ... وافد تحت الدياجي وارد )
( لم يكن بعد السرى مستمتع ... فيه للرائي ولا للرائد )
( وشديد بث فلب هائم ... يشتكيه عند ربع هامد )
( بالأمير المرتضى عز الهدى ... وثنى عطف الملي الواجد )
( وبه أصحب ما كان يرى ... حاملا أنف الأبي الشارد )
( إنما الفخر لمولانا أبي ... زكرياء بن عبد الواحد )
( ملك لولا حلاه الغر

( ولو أن العذب أبدى رغبة ... عنه لم يشف غليل الوارد )
( فضله مثل سنا الشمس وهل ... لسنا الشمس يرى من جاحد )
( قهر البغي بجد صادع ... ما تعداه وجد صاعد )
( إنما آل أبي حفص هدى ... للورى من غائب أو شاهد )
( قعدوا فوق النجوم الزهر عن ... همم نبهن عزم القائد )
( وعن الإسلام ذادوا عندما ... فل طول العهد غرب الذائد )
( أي فخر عمري المنتمي ... ورثوه ماجدا عن ماجد )
( ما الفتوح الغر إلا لهم ... بين ماض بادىء أو عائد )
( في محيا لاحق من سابق ... وعلى المولود سيما الوالد )
( وليحيى راجح الحلم الذي ... ترك الطود بعطفي مائد )
( عقد أحسابهم تم به ... مثل ما تم حساب العاقد )
( أيها الجامع ما قد أحرزوا ... جمع من همته في الزائد )
( هذه الأمة قد أوسعتها ... نظرا يكلأ ليل الراقد )
( لم تزل منك ... بخير طارف ريشه تال قدامى تالد )
( ولهم منك ليوم حاضر ... وغد رأي البصير الناقد )
( أرشد الله لأولى نظر ... بالورى رأي الإمام الراشد )
( وتولاه بتوفيق الألى ... سعدوا من عاقد أو عاهد )
( وله في الله أوفى كافل ... بالذي يبقى وأكفى عاضد )
نصر الله تعالى مولانا وأيده وشد ملكه وأبقى للفضل أيامه وللفصل أحكامه وأظفر بأعناق الأشقياء حسامه ووفر من اتساق النعم والآلاء وأقسامه والحمد لله ثم الحمد لله على أن جعل به حرم الأمة آمنا ووهج الفتنة ساكنا وأبواب الصلة والمعروف لا تعرف إلا واصلا أو آذنا وتلافى فل الإسلام منه بفيئاته

الأعز والنصر الأغر فهم بين جدة قبضوها وعدة رضوها وارتقاب للفتح أكبر هممهم منه درك الثار وانتصاف لأهل الجنة من أهل النار فأما الأوطان فقد أسلتهم عنها جهة تنبت العز فيما تنبته وتنفي من الضيم ما تلك تثبته وما ذكر الساخط وعلى المحل الساقط منازل عادت على مبانيها أطلالا ومغانيها محالا وللعبد حال يستقبل بها من النظر الكريم أدامه الله تعالى ما أعين الآمال إليه صور ورجاء الجميع عليه مقصور انتهى
والغاية في هذا الباب ما كتب به رحمه الله من جملة كتاب لبعض ذوي الألباب ونص محل الحاجة منه نخص الجهة البعيدة الصيت والاسم الشهيرة العمل والعلم درة تاجنا وضوء سراجنا ونكتة احتجاجنا أبقاها الله تعالى في أعيننا منارا ولأندلسنا فخارا على أنه وإن بقيت المفاخر فقد أودى المفاخر وإن أضاء الطالع فقد دجت المطالع وغلب عليها عداة زووا عنها وجوهنا وأروا فيها مكروهنا حتى إني أتيت بشعر فيه استسقاء للديار على عادة الأشعار فقلت
( زدنا على النائين عن أوطانهم ... وإن اشتركنا في الصبابة والجوى )
( إنا وجدناهم فد استسقوا لها ... من بعد أن شطت بهم عنها النوى )
( ويصدنا عن ذاك في اوطاننا ... مع حبها الشرك الذي فيها ثوى )
( حسناء طاعتها استقامت بعدنا ... لعدونا أفيستقيم لها الهوى )
انتهى
قلت وما رأيت ولا سمعت مثل هذه الأبيات في معناها العالية في مبناها فإن فيها الإشارة إلى إستيلاء النصارى دمرهم الله على تلك الديار وثبوت قدمهم فيها على طبق ما حصل لهم فيه اختيار مع إدماج حبه لها الذي لا يشك فيه ولا يرتاب واشتمالها على المحاسن التي هي بغية الرائد

ومما يستولي على الخواطر ويروي رياض الأفكار بسحب بلاغته المواطر قوله رحمه الله تعالى يخاطب أبا الحسن الرعيني سنة 634
( يا صاحبي والدهر لولا كرة ... منه على حفظ الذمام ذميم )
( أمنازعي أنت الحديث فإنه ... ما فيه لا لغو ولا تأثيم )
( ومروض مرعى مناي فنبته ... من طول إخلاف الغيوم هشيم )
( طال اعتباري بالزمان وإنما ... داء الزمان كما علمت قديم )
( مجفو حظ لا ينادي ثم لا ... ينفك عنه الحذف والترخيم )
( وأرى إمالته تدوم وقصره ... فعلام يلغى المد والتفخيم )
( وعلام أدعو والجواب كأنما ... فيه بنص قد أتى التحريم )
( لم ألق إلا مقعدا غير الأسى ... فلدي منه مقعد ومقيم )
( وشرابي الهم المعتق خالصا ... فمتى يساعدني عليه نديم )
( غارات أيامي علي خوارج ... قعديها في طبعه التحكيم )
( ولواعج يحتاج صالي حرها ... أمرا به قد خص إبراهيم )
( ولقد أقول لصاحب هو بالذي ... أدركت من علم الزمان عليم )
( لا يأس من روح الإله وإن قست ... يوما قلوب الخلق فهو رحيم )
ويهزني ويستفزني ما كتبه رحمه الله تعالى من رسالة :
كتبته إلى سيدي وهو السيد حقيقة وأخي وقد كتب الدهر بذلك وثيقة أبقى الله تعالى جلاله محروسا وربع وفائه لا يخشى دروسا من رباط الفتح وأنا بحقه عليم وعلى عهده مقيم وشأني توقير له وتعظيم وحب فيه خالص كريم ووصلني خطابه الخطير

الله تعالى خير منزل وجعلكما من النوائب والشوائب بمعزل من رباط الفتح ولبي قديما ملكتما رقه وقلبي تعليما عرفتما صدقه كيف حالكما من سفر طويتما خبره حين تجشمتما غرره وكيف سخت نفوسكما بأم الحصون وذات الظلال والعيون تربة الآباء ومنزلة الجمحيين النجباء حتى صرمتما حبلها وهجرتما حزنها وسهلها وخضتما غبر الفجاج وخضر الأمواج ما ذاك إلا لتغلب الحادث النكر وتألب المعشر الغدر ومن أجل الداهية النكاد والحادثة الشنيعة على البلاد ازعجتكم حين أزعجتنا واخرجتكم كما أخرجتنا وطوحت بنا طوائحها واجتاحت ثمرنا وشجرنا جوائحها فشكر لله تعالى على قضائه وتضرعا فيما نرفعه من دعائه وهنيئا لنا ولكم معشر الشرداء المنطوين من الشجن على شر داء ذلك الطود الذي إليه أويتما وفي ظله ثويتما وعن ريه تريان وبسعيه تسعيان فوجهه المبارك لا يعدم رأيه نجحا ولا يعدو لصحبه إذا دجا ليل الهم صبحا انتهى
تعريف بأبي المطرف
وكان أبو المطرف بن عميرة المذكور كما قال فيه بعض علماء المغرب قدوة البلغاء وعمدة العلماء وصدر الجلة الفضلاء وهو أحمد بن عبد الله بن عميرة المخزومي ونكتة البلاغة التي قد أحرزها وأودعها وشمسها التي أخفت ثواقب كواكبها حين أبدعها مبدع البدائع التي لم يحظ بها قبله إنسان ولا ينطق عن تلاوتها لسان إذ كان ينطق عن قريحة صحيحة وروية بدرر

وهو الذي أوتي جوامع الكلم في يديه الأقلام وأصل سلفه من جزيرة شقر وولد بمدينة بلنسية وروى عن أبي الخطاب بن واجب وأبي الربيع بن سالم وابن نوح والشلوبيني النحوي وابن عات وابن حوط الله وغيرهم من الحفاظ وأجازه من أهل المشرق جماعة وكان شديد العناية بشأن الرواية فأكثر من سماع الحديث وأخذه عن مشايخ أهله ثم تفنن في العلوم ونظر في المعقولات وأصول الفقه ومال إلى الأدب فبرع براعة عد فيها من مجيدي النظم فأما الكتابة فهو فارسها الذي لا يجارى وصاحب عينها الذي لا يبارى وله وعظ على طريقة ابن الجوزي ورسائل خاطب بها الملوك وغيرهم من الموحدين والحفصيين وله تأليف في كائنة ميورقة وتغلب الروم عليها نحا في الخبر عنها منحى الإمام الأصبهاني في الفتح القدسي وله كتاب تعقب فيه على الفخر الرازي في كتاب المعالم وله كتاب رد به على كمال الدين الأنصاري في كتابه المسمى بالتبيان في علم البيان المطلع على إعجاز القرآن وسماه بالتنبيهات على ما في البيان من التمويهات وله اختصار نبيل من تاريخ ابن صاحب الصلاة وغير ذلك
ورد رحمه الله حضرة الإمامة مراكش صحبة أمير المؤمنين الرشيد حين قفوله من مدينة سلا واستكتبه مدة يسيرة ثم صرفه عن الكتابة وقلده قضاء هيلانة ثم نقله إلى قضاء سلا ثم نقله السعيد إلى قضاء مكناسة الزيتون ثم قصد سبتة وأخذ ماله في قافلة في فتنة بني مرين ثم توجه إلى بلاد إفريقية ووصف حاله في رسالة خاطب بها ابن السلطان أبي زكريا الحفصي وهو أبو زكريا ابن السلطان أبي زكريا وكان صاحب بجاية لأبيه ولم يزل رحمه الله تعالى مذ فارق الأندلس متطلعا لسكنى إفريقية

قدم تونس مال إلى صحبة الصالحين والزهاد وأهل الخير برهة من الزمان ثم استقضي بالأربس من إفريقية ثم بقابس مدة طويلة ثم استدعاه أمير المؤمنين المستنصر بالله الحفصي وأحضره مجالس أنسه وداخله مداخلة شديدة حتى تغلب على أكثر أمره
ومولده بجزائر شقر في شهر رمضان المعظم سنة 580 وتوفي ليلة الجمعة الموفية عشرين من ذي الحجة سنة 658 ألحفه الله رضوانه وجدد عليه غفرانه
وقال ابن الأبار في تحفة القادم في حق أبي المطرف المذكور فائدة هذه المائة والواحد يفي بالفئة الذي اعترف باتحاده الجميع واتصف بالإبداع فماذا يتصف به البديع ومعاذ الله أن أحابيه بالتقديم لما له من حق التعليم كيف وسبقه الأشهر ونطقه الياقوت والجوهر تحلت به الصحائف والمهارق وما تخلت عنه المغارب والمشارق فحسبي أن أجهد في أوصافه ثم أشهد بعدم إنصافه هذا على تناول الخصوص والعموم لذكره وتناوب المنثور والمنظوم على شكره ثم أورد له جملة منها قوله
( وأجلت فكري في وشاحك فانثنى ... شوقا إليك يجول في جوال )
( أنصفت غصن البان إذ لم تدعه ... لتأود مع عطفك الميال )
( ورحمت در العقد حين وضعته ... متواريا عن ثغرك المتلالي )
( كيف اللقاء وفعل وعدك سينه ... ابدا تخلصه للاستقبال )
( وكماة قومك نارهم ووقيدها ... للطارقين أسنة وعوالي )
وله مما يكتب على قوس قوله
( ما أنآد معتقل القنا

( تحنو الضلوع على القلوب وإنني ... ضلع ثوى فيها بأعضل داء )
وله وقد أهدى وردا
( خذها إليك أبا عبد الإله فقد ... جاءتك مثل خدود زانها الخفر )
( أتتك تحكي سجايا منك قد عذبت ... لكن تغير هذا دونه الغير )
( إن شمت منها بروق الغيث لامعة ... فسوف يأتيك من ماء لها مطر )
قال وكتب إلي مع تحفة أهداها مكافئا عن مثلها
( يا واحد الأدب الذي قد زانه ... بمناقب جعلته فارس مقنبه )
( بالفضل في الهبة ابتدأت فإن تعر ... طرف القبول لما وهبت ختمت به )
قال وله ارتجالا بقصر الإمارة من بلنسية وأنا حاضر في صبيحة بعض الجمع وقد حجم صاحب لنا من أهل النظم والنثر وأحسن إلى الحجام المخصوص
( ارى من جاء بالموسى مواسى ... وراحة ذي القريض تعود صفرا )
( فهذا مخفق إن قص شعرا ... وهذا منجح إن قص شعرا )
وله أيضا
( هوما علمت من الامير فما الذي ... تزداد منه وفيه لا يرتاب )
( لا تتقي الأجناد في أيامه ... فقرا ولا يرجو الغني الكتاب )
وله بعد انفصاله من بلنسية عن وحشة في ذي القعدة سنة 628
( أسير بارجاء الرجاء وإنما ... حديث

( وأحضر نفسي إن تقدمت خيفة ... لغض عنان أو بعض زمان )
( أيترك حظي للحضيض وقد سرى ... لإمكانه فوق الذرا جبلان )
( وأخبط في ليل الحوادث بعدما ... أضاء لعيني منهما القمران )
( فيحيى لآمالي حياة معادة ... وإن عزيزا عزة لمكاني )
( وقالوا اقترح إن الأماني منهما ... وإن كن فوق النجم تحت ضمان )
( فقلت إذا ناجاهما بقضيتي ... ضميري لم أحفل بشرح لساني )
وله أيضا
( سلب الكرى من مقلتي فلم يجيء ... منه على نأي خيال يطرق )
( أهفو ارتياحا للنسيم إذا سرى ... إن الغريق بما يرى يتعلق )
انتهى ما لخص من تحفة القادم في ذكر ابن عميرة أبي المطرف
رسالة لأبي المطرف
ومما كتب أبو المطرف رحمه الله وفي أثنائه إشارة إلى الكفار الغالبين على بلاد الأندلس ما نصه
( ألا إن شخصينا على القطع واحد ... وجاحد هذا للضرورة جاحد )
( فإن لم تصدق ما نطقت بصدقه ... فإنك لي لاح وللود لاحد )
ومعاذ الله عز و جل ان تلحاني أو تمنع أنفك ريح ريحاني وكيف تصد عني بوجهك أو تشحذ لي غرب نجهك وأنا على غيبك أمين ولشمالك يمين ولكم دعوت بي فأجبت واستغنيت عني فحجبت وأردت الاستبداد فما استطعت ونعت الوداد

فراهة الأعوجي إن جرى وتذكر فضيلة ابن السري إذا سرى فأما الاقتصار على عظم باد والانتظار لعين عدمت السواد فخطأ من القائل وخطل عند العاقل ولله در أخيك من مغمض طرف التطرف قارىء أدب الصحبة على السبعة الأحرف كرع في أعز مورد وتواضع في شرف مولد وسما بنفسه عن أن يستخفه نسب يرفعه وحسب ما منا أحد يدفعه وكذلك الكرام يرون عليهم حقا ويتوقون من لم يكن من الكبر موقى ولعهدي به وظل الثروة بارد وشيطان الشبيبة مارد وبشره في الملمات يرف وقدمه إلى الحاجات تخف يصون عرضه بماله ويخفي صدقة يمينه عن شماله ويقسم جسمه في جسوم ويقوم بالحقوق غير ملول ولا ملوم تلك المكارم لا قعبان وما تستوي البدنة المهيضة مع غيرها في القربان وعرضت بذكر العصر الخالي والقصر العالي وظل من فنن وريق وعيش مع أكرم فريق وما تذكر من زمن تولى وعهد على أن لا يعود تألى فارقناه أحسن ما كان وودعناه به الأطيبين الزمان والمكان فعفت الرسوم وأفلت تلك النجوم ورمتنا عن قوسها الروم ثم خلفتنا في المغاني وقسمتنا بين الأسير والعاني فأودى القل والكثر واشتفى من الإسلام الكفر فكم كأس أنس أرقناه ومنزل فرقة الأبد فارقناه وذكرت اجتيازك بين العلمين وقطعك متن اليم في يومين وأنك انتقلت من ذوات الألواح إلى عذبات الأدواج ومن متهافت الشراع إلى منابت اليراع ومن سكنى بيت السكان إلى منزل

وظللت الساحات وذللت الثمار المباحات فلا تشرقنا يا أصيل ولأم تلك الأرض الويل انتهى
ووصل هذا الكلام بالأبيات التي تقدمت قريبا وهي قوله زدنا على النائين عن أوطانهم إلخ
رسالة أخرى لأبي المطرف
وكتب رحمه الله عن أهل شاطبة ايام كان قاضيا بها مهنئا أمير المسلمين ابن هود المستولي على الأندلس آخر دولة الموحدين بوصول الكتاب العباسي الكريم إليه من بغداد بولاية الأندلس إذ كان ابن هود حين ثار على الموحدين يدعو إلى الخليفة العباسي الذي كان أكثر الملوك في ذلك الزمان يدينون بطاعته بما نصه بعد الصدر
أما بعد فكتب العبيد كتب الله تعالى للمقام العلي المجاهدي المتوكلي سعادة لا تبلغ أمدا إلا تخطته ويدا علوها أثبتته أيدي الأقدار وخطته من شاطبة وبركات الأمر المجاهدي المتوكلي والعهد الواثقي المعتصمي تنسكب كالمطر وتنسحب على البشر وتقضي بعادة النصر والظفر وسعادة الورد والصدر والحمد لله وعند العبيد من أداء فروض الخدم والقيام بحقوق النعم ما عقدت عليه ضمائرهم وسمت إليه واشترك فيه باديهم وحاضرهم فجناب أملهم فسيح وتجر خدمتهم ربيح وحديث طاعتهم حسن صحيح وبسنا النظر العلي اهتداؤهم وفي الباب الكريم رجاؤهم وبصدق العبودية اعتزازهم وإليها اعتزاؤهم والله تعالى ينهضهم بوظائف المثابة العلية ويحملهم على المناهج السوية ووصل الكتاب الكريم متحليا برواء الحق ناطقا بلسان الصدق واصفا من التشريف والفخار المنيف ما صدر عن إمام الخلق

بيان أعجب من ذلك البيان ولا يوم كذلك اليوم تبدى نظره للعيان أوتأدى خبره في أخبار الزمان نثرت فيه الخلع العباسية في أعلى الصور وبرز منها للعيون ما يعثر البليغ عند وصفه في ذيل الحصر ويهدي سواده سواد القلب والبصر فيا لمشهدها ما أعجب ما كان ومرآها الذي راع الكفر وراق الإيمان وأشبه يومه بالأندلس يوم خرجت الرايات السود من خرسان وكفى بهذا فخارا لا يحتاج ثابته مثبتا أن باشرت بردا باشر البدن الذي طاب حيا وميتا فهو علو في الإسناد ولا نظير له في العوالي وفخار ضلت عن مثله العصور الخوالي وجلت بهجته أن تخلق جدتها الأيام والليالي ودل الكتاب العزيز على التسمية المشتقة من الجهاد والسمة من سيف أمير المؤمنين بما لا يدخل في جنس ذوات الأغماد وخير الأوصاف ما صدقه الموصوف وللكريم النسب نسبة يباهي بها الدين وتزهى السيوف
( فإن نحن سميناك خلنا سيوفنا ... من التيه في أغمادها تتبسم )
ومما أفاده الكتاب المبهج بطيب أنبائه نص علامة سيدنا صلوات الله عليه وعلى أبائه فإنها تضمنت صفة لله عز و جل من صفات الكمال ودلت على مذهب أهل السنة في خلق الله عز و جل الأعمال وأشعرتنا معشر العبيد بعناية سبقت بالمقام المجاهدي المتوكلي أحسن الله تعالى إليه حين تولى خلافة أمير المؤمنين صلوات الله عليه فإنه لما شايعه بعزيمة مساعدة ونية في مشاريع الصفاء والإخلاص واردة ألهم زيادة في العلامة شاركت الإمامة في صفة واحدة فهذه كرامة العلامة هي علامة الكرامة وهبة من مواهب الكشف يجدها من امتثل قوله ( فاستقم كما أمرت ) هود 112 فكان من أهل الاستقامة وتضمن الكتاب الكريم بيعة أهل جيان وما معها وإن هذه البشائر وما تبعها لفروع عن هذا الأصل الصحيح وأقيسة عن

الخلافة قد استقلت وشبهة الخلاف قد بطلت واضمحلت والحمد لله على أن منح جزيل النعماء وشرح باليقين صدور الأولياء وشرف هذه الأمة بإمامة نجل الإئمة الخلفاء وابن عم سيد الرسل وخاتم الأنبياء والعبيد يهنئون بهذه النعم التي لا يستقل بذكرها قلم ولا يقطع علم من وصفها إلا بدا علم وبهم من الأشواق إلى مشاهدة المعالم السينة وثم اليمين الطاهرة العلية ما أكده دنو الدار وجدده ما تجدد للمقام العالي المتوكلي من نعم الله تعالى الجليلة المقدار والشاهدة له بإسعاد الأيام وإسعاف الأقدار فلو أمكنهم الإقدام لأقدموا ولو وجدوا رخصة في المسير لعزموا وهم يستلمون البساط الأشرفي توهما ومن أملهم أنهم في الحقيقة قد استلموا انتهى
وبه تعلم أن الدولة العباسية خطب لها ببلاد الأندلس أعادها الله للإسلام ولا يخفاك أن ما جلبناه من ذلك وغيره مناسب للمقام فلا انتقاد ولا ملام
رسالة للسان الدين إلى أحمد بن قلاوون
وقد رأيت أن أذكر هنا مخاطبة صدرت من الغني بالله صاحب الأندلس إلى السلطان المنصور أحمد ابن السلطان الناصر محمد بن قلاوون من إنشاء الوزير الكبير لسان الدين بن الخطيب رحمه الله لما اشتملت عليه من أحوال الأندلس ونصها الأبواب التي تفتح لنصرها أبواب السماء وتستدر من آفاقها سحاب النعماء وتجلى بأنوار سعدها دياجي الظلماء وتعرف نكرة البلاد والعباد بالانتساب إلى محبتها والانتماء على اختلاف العروض وتباين الحدود وتعدد الأسماء ويجتزأ من صلات صلاتها عند الموانع من كمال حالات صفاتها بالإيماء وتحمل لها التحية ذوات الدسر والألواح طاعنة نحر الصباح على كتد الماء أبواب السلطان الكبير الجليل الشهير الطاهر الظاهر الأوحد الأسعد الأصعد الأمجد الأعلى العادل

عماد الدنيا والدين رافع ظلال العدل على العالمين جمال الإسلام علم الأعلام فخر الليالي والأيام ملك البرين والبحرين إمام الحرمين مؤمل الأمصار والأقطار عاصب تاج الفخار هازم الفرنج والترك والتتار الملك المنصور ابن الأمير الرفيع الجادة الكريم الولادة الطاهر الظاهر الكبير الشهير المعظم الممجد الأسمى الموقر الأعلى فخر الجلة سيف الملة تاج الإمارة عز الإسلام مستظل الأنام قمر الميدان أسد الحرب العوان المقدس ال مطهر الأمير أحمد ابن والد السلاطين ومالك المسلمين وسيف خلافة الله على العالمين وولي المؤمنين سلطان الجهاد والحج ومقيم رسم العج والثج محيي معالم الدين قامع المعتدين قاهر الخوارج والمتمردين ناصر السنة محي الملة ملك البرين والبحرين سلطان الحرمين الملك العادل العالم العامل المنصور المؤيد المعان المرفع المعظم المبجل المؤمل المجاهد المرابط الغازي الممجد المكمل المطهر الكبير الشهير المقدس الملك الناصر أبي عبد الله محمد بن قلاوون الصالحي جعل الله فسطاط دعوته معمودا بعمود الصبح وحركات عزمه مبنية على الفتح ومجمل سعادته غنيا عن الشرح وجياد أوصافه متبارية في ميدان المدح وزناد رأيه وارية على القدح من موجب حقه وجوب الشعائر الخمس المرحب لأجل أفقه الشرقي بوفادة الشمس المجدد في اليوم حكم ما تقرر بين السلف رحمهم الله بالأمس أمير المسلمين بالأندلس عبد الله الغني بالله الغالب به محمد بن يوسف بن إسماعيل بن فرج بن نصر سلام كريم كما زحفت راية الصبح تقدمها طلائع مبشرات الرياح

رتب العز فصولها وعضدت نصوص النصر نصولها ورحمة الله تعالى وبركاته
أما بعد حمد الله الذي جعله فاتحة القرآن وخاتمة دعاء أهل الجنان وشكره على ما أولى من مواهب الإحسان حمدا وشكرا يستخدمان من الإنسان ملكتي القلب واللسان والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله زهرة كمامة الأكوان وسيد ولد آدم على اختلاف اللغات والألوان الذي أذل بعزة الله أنوف الطغيان وغطى بدينه الحق على الأديان وزويت له الأرض فرأى ملك أمته يبلغ ما زوي له فكان الخبر وفق العيان والرضا عمن له من الأصحاب والأحباب والأعمام والأخوال والإخوان صلاة يجددها الجديدان ويمليها الملوان وتتزاحم على تربته المقدسة مع الأحيان ما سجعت طيور البراعة من أعواد اليراعة على الأفنان والتفتت عيون المعاني ما بين أجفان البيان والدعاء لأبوابكم الشريفة جعل الله تعالى عصمته تقيم بها وظيفتي الحجابة والاستئذان وضرب بدعوتها التي هي لذة الإقامة والأذان على الآذان واستخدم بروج الفلك الدوار في أمرها العزيز استخدام الأنصار والأعوان حتى يعلم ما في المدافعة عن حماها مخالب السرحان وفي الإشادة بعدلها كفتي الميزان ويهدي لها من الزهرة كرة الميدان ومن الهلال عوض الصولجان وأبقى في عواملها ضمير الأمر والشان إلى يوم تعنو وجوه الملوك إلى الملك الديان فإنا كتبناه إلى تلك الأبواب كتب الله لعتبتها النصرة الداخلة كما أخجل بمكارمها السحب الباخلة وجعل مفارق مناصلها المختضبة من نجيع عداها غير ناصلة وقرن بكل سبب من أضدادها فاصلة من دار ملك الإسلام بالأندلس حمراء غرناطة وصل الله سبحانه عادة الدفاع عن أرجائها وشد بأيدي اليقين عرى أملها في الله ورجائها حيث المصاف المعقود وثمن النفوس المنقود

الحرب ذات الوقود حيث الأفق قد تردى بالقتام وتعمم والسيف قد تجرد وتيمم وغبار الجهاد يقول أنا الأمان من دخان جهنم حيث الإسلام من عدوه كالشامة من جلد البعير والتمرة من أوسق العير حيث المصارع تتزاحم الحور على شهدائها والأبطال يعلو بالتكبير مسمع ندائها حيث الوجوه الضاحكة المستبشرة قد زينتها الكلوم بدمائها وإن هذا القطر الذي مهدت لسياستنا أكوار مطاياه وجعلت بيدنا والمنة لله عياب عطاياه قطر مستقل بنفسه مرب يومه في البر على أمسه زكي المنابت عذب المشارب متمم المآمل مكمل المآرب فاره الحيوان معتدل السحن والألوان وسيطة في الأقاليم السبعة شاهدة لله بإحكام الصنعة أما خيله ففارهة وإلى الركض شارهة وأما سيوفه فلمواطن الغمود كارهة وأما أسله فمتداركة الخطف وأما عوامله فبينة الحذف وأما نباله فمحذورة القذف إلا أن الإسلام به في سفط مع الحيات وذريعة للمنيات الوحيات وهدف للنبال وأكلة للشبال تطؤهم الغارات المتعاقبة وتتحيفهم الحدود المصاقبة وتجوس خلالهم العيون المراقبة وتريب من أشكال مختطهم إلا أن يتفضل الله بحسن العاقبة فليس إلا الصبر والضرب والهبر والهمز والنبر والمقابلة والجبر وقد حال البحر بينهم وبين إخوان ملتهم وأساة علتهم يقومون بهذا الفرض عن أهل الأرض ويقرضون ملك يوم العرض أحسن القرض فلولا بعد المدى وغول الردى ولغط العدا وما عدا مما بدا لسمعتم تكبير الحملات وزئير تلك الفلات ودوي الحوافر وصليل السيوف من فوق المغافر وصراخ الثكالى وارتفاع الأدعية إلى الله تعالى ولو ارتفع قيد المكان وهو للأولياء مثلكم من حيز الإمكان لمقلتم مقل الأسنة الزرق

من أطراف قصب الرماح محال الورق وأبصرتم القنا الخطار قد عاد أخلة والسيوف قد صارت فوق بدور الخوذ أهلة وعقود الشهادة عند قاضي السعادة مستقلة وكان كما تحصره علومكم الشريفة حدق سور الفتح وآخر دلاء ذلك المتح عرض على الفاروق فاحتاط وأغرى به من بعده فاشتاط وسرحت خيل ابن أبي سرح في خبر يدعو على شرح حتى إذا ولد مروان تقلدوا كرتها التي هوت وخضموا ما أنضجت ورثة الحق وشوت ويدهم على الأمر احتوت وفازت منه بما نوت نفل ولائده الوليد وجلب له الطريف والتليد وطرقت خيل طارق وضاقت عن أخباره المهارق وجلت الفائدة وظهر على الذخيرة التي منها المائدة ثم استرسل المهب ونصر الرب ويكثر الطير حين ينتثر الحب وصرفت أشراف الشام أعنتها إلى التماس خيره وطارت بأجنحة العزائم تيمنا بطيره وقصدته الطلائع صحبة بلج بن بشر وغيره ففتحت الأقفال ونفلت الأنفال ونجح الفال ووسمت الأغفال وافتتحت البلاد الشهيرة وانتقيت العذارى الخيرة واقتنيت الذخيرة وتجاوز الإسلام الدروب وتخطى وخضد الأرطى وأركب وأمطى واستوثق واستوطأ وتثاءب وتمطى حتى تعددت مراحل البريد وسخنت عين الشيطان المريد واستوسق للإسلام ملك ضخم السرادق مرهوب البوارق رفيع العمد بعيد الأمد تشهد بذلك الآثار والأخبار والوقائع الكبار والأوراق والأسطار وهل يخفى النهار ولكل هبوب ركود والدهر حسود لمن يسود فراجعت الفرنج كرتها واستدركت معرتها فدومت جوارحها وحلقت وأومضت بوارقها وتألقت وتشبثت وتعلقت وأرسلت مما يتعلق بهذا الباب والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب وإليه

الأعنة وأطلقت وراجعت العقائل التي طلقت حتى لم يبق من الكتاب إلا الحاشية ولا من الليل إلا الناشية وسقطت الغاشية وأخلدت الفئة المتلاشية وتقلصت الظلال الفاشية إلا أن الله تدارك بقوم رجح من سلفنا أثبتوا في مستنقع الموت أقدامهم وأخلصوا لله بأسهم وإقدامهم ووصلوا سيوفهم الباترة بخطاهم وأعطاهم منشور العز من أعطاهم حين تعين الدين وتحيز واشتد بالمدافعة وتميز وعادت الحروب سجالا وعلم الروم أن لله رجالا وقد أوفد جدنا رضي الله عنه على أبواب سلفكم من وقائعه في العدو كل مبشرة ووجودية منتشرة ضحكت لها ثغور الثغور وسرت بها في الأعطاف حميا السرور وكانت المراجعة عنها شفاء للصدور وتمائم في الدور وخفرا في وجوه البدور فإن ذمام الإسلام موصول وفروعه تجمعها في الله أصول وما أقرب الحزن ممن داره صول والملة والمنة لله واحدة والنفوس لا منكرة للحق ولا جامدة والأقدار معروفة والآمال إلي ما يوصل إلى الله مصروفة فإذا لم يكن الاستدعاء أمكن الدعاء والخواطر فعالة والكل على الله عالة والدين غريب والغريب يحن إلى أهله والمرء كثير بأخيه على بعد محله
انتهى المقصود من المخاطبة مما يتعلق بهذا الباب والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب الباب الثالث في سرد بعض ما كان للدين بالأندلس من العز السامي العماد والقهر للعدو في الرواح والغدو والتحرك والهدو والارتياح البالغ غاية الآماد وإعمال أهلها للجهاد بالجد والاجتهاد في الجبال والوهاد بالأسنة المشرعة
( والسيوف المستلة من الأغماد ... )
أقول قدمنا في الباب قبل هذا ما كان من نصر المسلمين وفتحهم الأندلس وما حصل لهم من سلطان بها إلى مجيء الداخل فتقررت القواعد السلطانية وعلت الكلمة الإيمانية كما نسرده هنا إن شاء الله تعالى
وذكر غير واحد منهم ابن حزم أن دولة بني أمية بالأندلس كانت أنبل دول الإسلام وأنكاها في العدو وقد بلغت من العز والنصر ما لا مزيد عليه كما سترى بعضه
عبد الرحمن الداخل
وأصل هذه الدولة كما قال ابن خلدون وغير واحد أن بني أمية لما نزل بهم بالمشرق ما نزل وغلبهم بنو العباس على الخلافة وأزالوهم عن كرسيها وقتل عبد الله بن علي مروان بن محمد بن مروان بن الحكم آخر خلفائهم سنة ثنتين وثلاثين ومائة وتتبع بني مروان بالقتل فطلبوا بطن الأرض

الباب الثالث في سرد بعض ما كان للدين بالأندلس من العز السامي العماد والقهر للعدو في الرواح والغدو والتحرك والهدو والارتياح البالغ غاية الآماد وإعمال أهلها للجهاد بالجد والاجتهاد في الجبال والوهاد بالأسنة المشرعة
( والسيوف المستلة من الأغماد ... )
أقول قدمنا في الباب قبل هذا ما كان من نصر المسلمين وفتحهم الأندلس وما حصل لهم من سلطان بها إلى مجيء الداخل فتقررت القواعد السلطانية وعلت الكلمة الإيمانية كما نسرده هنا إن شاء الله تعالى
وذكر غير واحد منهم ابن حزم أن دولة بني أمية بالأندلس كانت أنبل دول الإسلام وأنكاها في العدو وقد بلغت من العز والنصر ما لا مزيد عليه كما سترى بعضه
عبد الرحمن الداخل
وأصل هذه الدولة كما قال ابن خلدون وغير واحد أن بني أمية لما نزل بهم بالمشرق ما نزل وغلبهم بنو العباس على الخلافة وأزالوهم عن كرسيها وقتل عبد الله بن علي مروان بن محمد بن مروان بن الحكم آخر خلفائهم سنة ثنتين وثلاثين ومائة

من بعد ظهرها وكان ممن أفلت منهم عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان وكان قومه يتحينون له ملكا بالمغرب ويرون فيه علامات لذلك يأثرونها عن مسلمة بن عبد الملك وكان هو قد سمعها منه مشافهة فكان يحدث نفسه بذلك فخلص إلى المغرب ونزل على أخواله نفزه من برابرة طرابلس وشعر به عبد الرحمن بن حبيب وكان قد قتل ابني الوليد ابن يزيد بن عبد الملك لما دخلا إفريقية فلحق بمغيلة وقيل بمكناسة وقيل بقوم من زناتة فأحسنوا قبوله واطمأن فيهم ثم لحق بمليلة وبعث بدرا مولاه إلى من بالأندلس من موالي المروانيين وأشياعهم فاجتمع بهم وبثوا له في الأندلس دعوة ونشروا له ذكرا ووافق قدومه ما كان من الإحن بين اليمنية والمضرية فأصفقت اليمنية على أمره لكون الأمر كان ليوسف بن عبد الرحمن الفهري وصاحبه الصميل ورجع بدر مولاه إليه بالخبر فأجاز البحر سنة ثمان وثلاثين ومائة في خلافة أبي جعفر المنصور ونزل بساحل المنكب وأتاه قوم من أهل إشبيلية فبايعوه ثم انتقل إلى كورة رية فبايعه عاملها عيسى ابن مساور ثم إلى شذونة فبايعه عتاب بن علقمة اللخمي ثم إلى مورور فبايعه ابن الصباح ونهد إلى قرطبة فاجتمعت إليه اليمنية ونمي خبره إلى والي الأندلس يوسف بن عبد الرحمن الفهري وكان غازيا بجليقية فانفض عسكره ورجع إلى قرطبة وأشار عليه وزيره الصميل بن حاتم بالتلطف له والمكر به لكونه صغير السن حديث عهد بنعمة فلم يتم ما أرداه وارتحل عبد الرحمن من المنكب فاحتل بمالقة فبايعه جندها ثم برندة ثم بشريش كذلك ثم بإشبيلية فتوافت إليه جنود الأمصار وتسايلت المضرية إليه حتى إذا لم يبق مع يوسف بن

لمكان الصميل منه زحف حينئذ عبد الرحمن الداخل وناجزهم الحرب بظاهر قرطبة فانكشف يوسف ونجا إلى غرناطة فتحصن بها واتبعه الأمير عبد الرحمن فنازله ثم رغب إليه يوسف في الصلح فعقد له على أن يسكن قرطبة ثم أقفله معه ثم نقض يوسف عهده وخرج سنة إحدى وأربعين ومائة ولحق بطليطلة واجتمع إليه زهاء عشرين ألفا من البربر وقدم الأمير عبد الرحمن للقائه عبد الملك بن عمر المرواني وكان وفد عليه من المشرق وكان أبوه عمر بن مروان بن الحكم في كفالة أخيه عبد العزيز بن مروان بمصر فلما دخلت المسودة أرض مصر خرج عبد الملك يؤم الأندلس في عشرة رجال من قومه مشهورين بالبأس والنجدة حتى نزل على عبد الرحمن سنة أربعين فعقد له على إشبيلية ولابنه عمر بن عبد الملك على مورور وسار يوسف إليهما وخرجا إليه ولقياه وتناجز الفريقان فكانت الدائرة على يوسف وأبعد المفر واغتاله بعض أصحابه بناحية طليطلة واحتز رأسه وتقدم به إلى الأمير عبد الرحمن فاستقام أمره واستقر بقرطبة وثبت قدمه في الملك وبنى المسجد الجامع والقصر بقرطبة وأنفق فيه ثمانين ألف دينار ومات قبل تمامه وبنى مساجد ووفد عليه جماعة من أهل بيته من المشرق وكان يدعو للمنصور ثم قطع دعوته ومهد الدولة بالأندلس واثل بها الملك العظيم لبني مروان والسلطان العزيز وجدد ما طمس لهم بالمشرق من معالم الخلافة وآثارها واستلحم الثوار عليه على كثرتهم في النواحي وقطع دعوة آل العباس من منابر الأندلس وسد المذاهب منهم دونها وهلك سنة ثنتين وسبعين ومائة وكان يعرف بعبد الرحمن الداخل لأنه أول داخل من ملوك بني مروان إلى الأندلس وكان أو جعفر المنصور

لما رأى أنه فعل بالأندلس ما فعل وما ركب إليها من الأخطار وأنه نهد إليها من أنأى ديار المشرق من غير عصابة ولا أنصار فغلب أهلها على أمرهم وتناول الملك من أيديهم بقوة شكيمة ومضاء عزم حتى انقاد له الأمر وجرى على اختياره وأورثه عقبه وكان يسمى بالأمير وعليه جرى بنوه من بعده فلم يدع أحد منهم بأمير المؤمنين تأدبا مع الخلافة بمقر الإسلام ومنتدى العرب حتى كان من عقبه عبد الرحمن الناصر وهو ثامن بني امية بالأندلس فتسمى بأمير المؤمنين على ما سنذكره لما رأى من ضعف خلفاء بني العباس بعد الثلاثمائة وغلبة الأعاجم عليهم وكونهم لم يتركوا لهم غير الاسم وتوارث التقليب بأمير المؤمنين بنو عبد الرحمن الناصر واحدا بعد واحد
وقال ابن خلدون وكان لبني عبد الرحمن الداخل بالعدوة الأندلسية ملك ضخم ودولة متسعة اتصلت إلى ما بعد المائة الرابعة وعندما شغل المسلمون بعبد الرحمن وتمهيد أمره قوي أمر الجلالقة واستفحل سلطانهم وعمد فرويلة بن أذفونش ملكهم إلى ثغور البلاد فأخرج المسلمين منها وملكها من أيديهم فملك مدينة لك وبرتقال وسمورة وشلمنقة وقشتالة وشقوبية وصارت للجلالقة حتى افتتحها المنصور بن أبي عامر آخر الدولة ثم استعادوها بعده فيما استعادوه من بلاد الأندلس واستولوا على جميعها حسبما يذكر ولله سبحانه الأمر انتهى
وخاطب عبد الرحمن قارله ملك الإفرنج وكان من طغاة الإفرنج بعد أن تمرس به مدة فأصابه صلب المكسر تام

المداراة ودعاه إلى المصاهرة والسلم فأجابه للسلم ولم تتم المصاهرة
قال ابن حيان ألفى الداخل الأندلس ثغرا قاصيا غفلا من حلية الملك عاطلا فأرهف أهلها بالطاعة السلطانية وحنكهم بالسيرة الملوكية وأخذهم بالآداب فأكسبهم عما قليل المروءة وأقامهم على الطريقة وبدأ فدون الدواوين ورفع الأواوين وفرض الأعطية وعقد الألوية وجند الأجناد ورفع العماد وأوثق الأوتاد فأقام للملك آلته وأخذ للسلطان عدته فاعترف له بذلك أكابر الملوك وحذروا جانبه وتحاموا حوزته ولم يلبث أن دانت له بلاد الأندلس واستقل له الأمر فيها فلذلك ما ظل عدوه أبو جعفر المنصور بصدق حسه وبعد غوره وسعة إحاطته يسترجح عبد الرحمن كثيرا ويعد له بنفسه ويكثر ذكره ويقول لا تعجبوا لامتداد أمرنا مع طول مراسه وقوة أسبابه فالشأن في أمر فتى قريش الأحوذي الفذ في جميع شؤونه وعدمه لأهله ونشبه وتسليه عن جميع ذلك ببعد مرقى همته ومضاء عزيمته حتى قذف نفسه في لجج المهالك لابتناء مجده فاقتحم جزيرة شاسعة المحل نائية المطمع عصبية الجند ضرب بين جندها بخصوصيته وقمع بعضهم ببعض بقوة حيلته واستمال قلوب رعيتها بقضية سياسته حتى انقاد له عصيهم وذل له أبيهم فاستولى فيها على أريكته ملكا على قطعته قاهرا لأعدائه حاميا لذماره مانعا لحوزته خالطا الرغبة إليه بالرهبة منه إن ذلك لهو الفتى كل الفتى لا يكذب مادحه وجعل ابن حيان من النوادر العجيبة موافقة عبد الرحمن هذا لأبي

على الكبائر والقساوة وأن أم كل واحد منهما بربرية
وكان الداخل يقعد للعامة ويسمع منهم وبنظر بنفسه فيما بينهم ويتوصل إليه من أراده من الناس فيصل الضعيف منهم إلى رفع ظلامته إليه دون مشقة وكان من عادته أن يأكل معه من أصحابه من أدرك وقت طعامه ومن وافق ذلك من طلاب الحوائج أكل معه
وفي كتاب ابن زيدون أنه كان أصهب حفيف العارضين بوجهه خال طويل القامة نحيف الجسم له ضفيرتان أعور أخشم والأخشم الذي لا يشم وكان يلقب بصقر قريش لكونه تغرب وقطع البر والبحر وأقام ملكا قد أدبر وحده
ولما ذكر الحجاري أنه أعور قال ما أنشد فيه إلا قول امرىء القيس
( لكن عوير وفى بذمته ... لا عور شانه ولا قصر )
وقال ابن خلدون وفي سنة ست وأربعين سار العلاء بن مغيث الي حصبي من إفريقية إلى الأندلس ونزل بباجة الأندلس داعيا لأبي جعفر المنصور واجتمع إليه خلق فسار عبد الرحمن إليه ولقيه بنواحي إشبيلية فقاتله أياما ثم انهزم العلاء وقتل في سبعة آلاف من أصحابه وبعث عبد الرحمن برؤوس كثير منهم إلى القيروان ومكة فألقيت في أسواقها سرا ومعها اللواء الأسود وكتاب المنصور للعلاء فارتاع المنصور لذلك وقال ما هذا إلا شيطان والحمد لله الذي جعل بيننا وبينه البحر أو كلاما هذا معناه

وكثرت ثورة رؤساء العرب بالأندلس على عبد الرحمن الداخل ونافسوه ملكه ولقي منهم خطوبا عظيمة وكانت العاقبة له واستراب في آخر أمره بالعرب لكثرة من قام عليه منهم فرجع إلى اصطناع القبائل من سواهم واتخاذ الموالي ثم غزا بلاد الإفرنج والبشكنس ومن وراءهم ورجع بالظفر وكان في نيته أن يجدد دولة بني مروان بالمشرق فمات دون ذلك الأمل وكانت مدة ملكه ثلاثا وثلاثين سنة وأربعة أشهر إذ دخل الأندلس سنة ثمان وثلاثين ومائة ومات سنة اثنتين وسبعين وقيل إحدى وسبعين ومائة في خلافة الرشيد وأمه أم ولد بربرية اسمها راح ومولده سنة ثلاث عشرة ومائة بدير حنا من أرض دمشق وقيل بالعلياء من تدمر ومات أبوه في أيام أبيه هشام سنة ثماني عشرة عن إحدى وعشرين سنة وكفله وإخوته جدهم هشام ووهب لعبدالرحمن هذا جميع الأخماس التي اجتمعت للخلفاء بالأندلس واقطعه أياها ووجه لحيازتها من الشام سعيد بن أبي ليلى وقيل إنه لما قصد المغرب من فلسطين خرج معه أربعة بدر مولى أبيه وأبو شجاع وزياد وعمرو وقيل إن بدرا لحقه ولم يخرج معه فالله أعلم وخلف من الولد عشرين منهم أحد عشر رجلا وتسع إناث
وحكى غير واحد أنه لما هرب من الشام إلى إفريقية قاصدا الأندلس نزل بمغيلة فصار بها عند شيخ من رؤساء البربر يدعى وانسوس ويكنى أبا قرة فاستتر عنده وقتا ولحق به بدر مولى أبيه بجوهر وذهب أنفذته أخته إليه فلما دخل الأندلس واستتب أمره به سار إليه أبو قرة وانسوس البربري فأحسن إليه وحظي عنده وأكرم زوجته تكفات البربرية التي خبأته تحت ثيابها عندما فتشت رسل ابن حبيب بيتها عنه فقال لها عبد الرحمن مداعبا حين استظلت بظله في الأندلس لقد عذبتني بريح إبطيك يا تكفات على ما كان بي من

كان والله يا سيدي منك خرج ولم تشعر به من فرط فزعك فاستظرف جوابها وأغض عن مواجهتها بمثل ذلك وهذا من آفات المزاح
ومن محاسنه أنه أدار السور بقرطبة رحمه الله تعالى
هشام بن عبد الرحمن
وتولى الملك بعده ابنه هشام بعهد منه إليه وأمه أم ولد اسمها حلل وأفضى إليه الملك وهو بماردة وال عليها وكان أبوه يوليه في صباه ويرشحه للأمر وكان الداخل كثيرا ما يسأل عن ابنيه سليمان وهشام فيذكر له أن هشاما إذا حضر مجلسا امتلأ أدبا وتاريخا وذكر لأمور الحرب ومواقف الأبطال وما أشبه ذلك وإذا حضر سليمان مجلسا امتلأ سخفا وهذيانا فيكبر هشام في عينه بمقدار ما يصغر سليمان وقال يوما لهشام لمن هذا الشعر
( وتعرف فيه من أبيه شمائلا ... ون خاله أو من يزيد ومن حجر )
( سماحة ذا وبر ذا ووفاء ذا ... ونائل ذا إذ صحا وإذا سكر )
فقال له يا سيدي لامرىء القييس ملك كندة وكأنه قاله في الأمير أعزه الله فضمه إليه استحسانا بما سمع منه وأمر له بإحسان كثير وزاد في عينه ثم قال لسليمان على انفراد لمن هذا الشعر وأنشده البيتين فقال لعلهما لأحد أجلاف العرب أما لي شغل غير حفظ أقوال بعض الأعراب فأطرق عبد الرحمن وعلم قدر ما بين الاثنين من المزية
ولما ولي هشام أشخص المنجم

إلى قرطبة وكان في علم النجوم والمعرفة بالحركات العلوية بطليموس زمانه حذقا وإصابة فلما اتاه خلا به وقال له يا ضبي لست أشك أنه قد عناك من أمرنا إذ بلغك ما لم يدع تجديد النظر فيه فأنشدك الله إلا ما نبأتنا بما ظهر لك فيه فلجلج وقال أعفني أيها الأمير فإني ألممت به ولم أحقق النظر فيه لجلالته في نفسي فقال له قد أجلتك لذلك فتفرغ للنظر فيما بقي عليك منه ثم أحضره بعد أيام فقال إن الذي سألتك عنه جد مني مع أني والله ما أثق بحقيقته إذ كان من غيب الله الذي استأثر به ولكني أحب أن أسمع ما عندك فيه فالنفس طلعة وألزمه الصلة أو العقوبة فقال أعلم أيها الأمير أنه سوف يستقر ملكك سعيدا جدك قاهرا لمن عاداك إلا أن مدتك فيه فيما دل عليه النظر تكون ثمانية أعوام أو نحوها فأطرق ساعة ثم رفع رأسه وقال يا ضبي ما أخوفني أن يكون النذير كلمني بلسانك والله لو أن هذه المدة كانت في سجدة لله تعالى لقلت طاعة له ووصله وخلع عليه وزهد في الدنيا والتزم أفعال البر
ومن حكاياته في الجود أنه كان قاعدا لراحته في علية على النهر في حياة والده فنظر إلى رجل من قدماء صنائعه من أهل جيان قد أقبل يوضع السير في الهاجرة فأنكر ذلك وقدر شرا وقع به من قبل أخيه سليمان وكان واليا على جيان فأمر بإدخاله عليه فقال له مهيم يا كناني فلأمر ما جئت وما أحسبك إلا مزعجا لشيء دهمك فقال نعم يا سيدي قتل رجل من قومي رجلا خطأ فحملت الدية على

علي من بنيهم خاصة وقصدني أخوك بالاعتداء إذ عرف مكاني منك فمد هشام يده إلى جارية كانت وراء الستر وقطع قلادة عقد نفيس كان في نحرها وقال له دونك هذا العقد يا كناني وشراؤه علي ثلاثة آلاف دينار فلا تخدعن عنه وبعه وأد عن نفسك وعن قومك ولا تمكن الرجل من اهتضامك فقال يا سيدي لم آتك مستجديا ولا لضيق المال عما حملته ولكني لما اعتمدت بظلم صراح أحببت أن يظهر علي عز نصرك وأثر ذبك وامتعاضك فأتمجد بذلك عند من يحسدني على الانتماء إليك فقال هشام فما وجه ذلك فقال أن تكتب إلى أخيك في الإمساك عني والقيام بذمتك لي فقال أمسك العقد وركب من حينه إلى والده الداخل واستأذن عليه فيوقت أنكره فانزعح وقال ما أتى بأبي الوليد في هذا الوقت إلا أمر مقلق ائذنوا له فلما دخل سلم عليه ومثل قائما بين يديه فقال له اجلس يا هشام فقال أصلح الله الأمير سيدي وكيف جلوسي بهم وذل مزعج وحق لمن قام مقامي أن لا يجلس إلا مطمئنا ولن يقعدني إلا طيب نفسي بإسعاف الأمير لحاجتي وإلا رجعت على عقبي فقال له حاش لك من انقلابك خائبا فاقعد مجابا مشفعا فجلس فقال له أبوه فما الحدث المقلق فأعلمه فأمر بحمل الدية عنه وعن عشيرته من بيت المال فسر هشام وأطنب في الشكر وكتب الأمير إلى ولده سليمان في ترك التعرض لهذا الكناني
ولما دخل الكناني لوداع هشام قال له يا سيدي قد تجاوزت بك حد الأمنية وبلغت غاية النصر وقد أغنى الله عن العقد المبذول بين يدي العناية الكريمة فتعيده إلى صاحبته فأبى من ذلك وقال لا سبيل إلى رجوعه إلينا
وكان

من ثقاته إلى الكور فيسألون الناس عن سير عماله ويخبرونه بحقائقها فإذا انتهى إليه حيف من احدهم أوقع به وأسقطه وأنصف منه ولم يستعمله بعد ولما وصفه زياد بن عبد الرحمن لمالك بن أنس قال ليت أن الله تعالى زين موسمنا بمثل هذا
وفي أيامه فتحت أربونة الشهيرة واشترط على المعاهدين من أهل جليقية من صعاب شروطه انتقال عدد من أحمال التراب من سور اربونة المفتتحة يحملونها إلى باب قصره بقرطبة وبنى منه المسجد الذي قدام باب الجنان وفضلت منه فضلة بقيت مكومة
وقاسى مع المخالفين له من أهل بيته وغيرهم حروبا ثم كانت الدائرة له وقصد إلى بلاد الحرب غازيا وقصد ألبة والقلاع فلقي العدو وظفر بهم وفتح الله عليه سنة خمس وسبعين وبعث العساكر إلى جليقية مع يوسف بن بخت فلقي ملكها برمند وهزمه وأثخن في العدو
وفي سنة ست وسبعين بعث وزيره عبد الملك بن عبد الواحد بن مغيث لغزاة العدو فبلغ ألبة والقلاع فأثخن في نواحيها ثم بعثه في العساكر سنة سبع وسبعين إلى

عبد الملك في بلاد الكفار وهزمهم ثم بعث العساكر مع عبد الكريم بن عبد الواحد إلى ألبة والقلاع سنة ثمان وسبعين ومع أخيه عبد الملك بن عبد الواحد إلى بلاد جليقية فانتهى إلى استرقة فجمع له ملك الجلالقة واستمد بملك البشكنس ثم خام عن اللقاء ورجع أدراجه واتبعه عبد الملك وكان هشام قد بعث الجيوش من ناحية أخرى فالتقوا بعبد الملك وأثخنوا في البلاد واعترضتهم عساكر الفرنج فنالوا منهم بعض الشيء ثم خرجوا سالمين ظافرين
ومن محاسنه أنه جدد القنطرة التي يضرب بها المثل بقرطبة كما سبق وكان بناها السمح الخولاني عامل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فأحكم هشام بناءها إلى الغاية وقال يوما لأحد وزرائه ما يقول أهل قرطبة فقال يقولون ما بناها الأمير إلا ليمضي عليها إلى صيده وقنصه فآلى هشام على نفسه أن لا يسلك عليها فلم يمر عليها بعد ووفى بما حلف عليه
ومن محاسنه أيضا إكمال بناء الجامع بقرطبة وكان أبوه شرع فيه ومن محاسنه أنه أخرج المصدق لإخذ الزكاة على الكتاب والسنة رحمه الله
ثم توفي سنة ثمانين ومائة لسبع سنين وتسعة أشهر من إمارته وقيل لثمان وكان من أهل الخير والصلاح كثير الغزو والجهاد وعمره أربعون سنة وأربعة أشهر وولد في شوال سنة 139
الحكم بن هشام

الخيل واستفحل ملكه وباشر الأمور بنفسه وفي خلال فتنة كانت بينه وبين عميه اغتنم العدو الكافر الفرصة في بلاد المسلمين وقصدوا برشلونه فملكوها سنة خمس وثمانين وتأخرت عساكر المسلمين إلى ما دونها وبعث الحكم العساكر مع الحاجب عبد الكريم بن مغيث إلى بلاد الجلالقة فأثخنوا فيها وخالفهم العدو إلى المضايق فرجع على التعبية وظفر بهم وخرج إلى بلاد الإسلام ظافرا
وكانت له الواقعة الشهيرة مع أهل الربض من قرطبة لأنه في صدر ولايته كان قد انهمك في لذاته فاجتمع أهل العلم والورع بقرطبة مثل يحيى ابن يحيى الليثي صاحب مالك وأحد رواة الموطأ عنه وطالوت الفقيه وغيرهما فثاروا به وخلعوه وبايعوا بعض قرابته وكانوا بالربض الغربي من قرطبة وكان محلة متصلة بقصره فقاتلهم الحكم فغلبهم وافترقوا وهدم دورهم ومساجدهم ولحقوا بفاس من أرض العدوة وبالإسكندرية من أرض المشرق ونزل بها جمع منهم ثم ثاروا بها فزحف إليهم عبد الله بن طاهر صاحب مصر للمأمون بن الرشيد وغلبهم وأجازهم إلى جزيرة أقريطش فلم يزالوا بها إلى أن ملكها الإفرنج من أيديهم

وكانت في أيام الحكم حروب وفتن مع الثوار المخالفين له من أهل طليطلة وغيرهم
وفي سنة ثنتين وتسعين جمع لذريق بن قارله ملك الفرنج جموعه وسار إلى حصار طرسونة فبعث الحكم ابنه عبدالرحمن في العساكر فهزمه ففتح الله على المسلمين وعاد ظافرا
ولمأ كثر عيث الفرنج في الثغور بسبب اشتغال الحكم بالخارجين عليه سار بنفسه إلى الفرنج سنة ست وتسعين فافتتح الثغور والحصون وخرب النواحي وأثخن في القتل والسبي والنهب وعاد إلى قرطبة ظافرا
وفي سنة مائتين بعث العساكر مع ابن مغيث إلى بلاد الفرنج فخرب وهدم عدة حصون وأقبل عليه أليط ملك الجلالقة في جموع عظيمة وتنازلوا على نهر واقتتلوا عليه أياما ونال المسلمون منهم أعظم النيل وأقاموا كذلك ثلاث عشرة ليلة ثم كثرت الأمطار ومد النهر وقفل المسلون ظافرين ظاهرين
وهو أول من جند الأجناد واتخذ العدة وكان أفحل بني امية بالأندلس وأشدهم إقداما ونجدة وكان يشبه بأبي جعفر المنصور من خلفاء بني العباس في شدة الملك وتوطيد الدولة وقمع الأعداء وكان يؤثر الفقيه زياد بن عبد الرحمن وحضر

إليه كتابا كره وصوله فأمر بقطع يده فقال له زياد أصلح الله الأمير فإن مالك بن أنس حدثني في خبر رفعه أن من كظم غيظا يقدر على إنفاذه ملأه الله تعالى أمنا وإيمانا يوم القيا مة فأمر أن يمسك عن الخادم ويعفى عنه فسكن غضبه وقال آلله إن مالكا حدثك بهذا فقال زياد ألله إن مالكا حدثني بهذا
وكانت المجاعة الشديدة سنة سبع وتسعين ومائة فأكثر فيها مواساة أهل الحاجات وفي ذلك يقول عباس بن ناصح الجزيري فيه
( نكد الزمان فآمنت أيامه ... من أن يكون بعصره عسر )
( ظلع الزمان بأزمة فجلا له ... تلك الكريهة جوده الغمر )
وكان نقش خاتمه بالله يثق الحكم ويعتصم
وذكور ولده عشرون وإناثهم عشرون وأمه جارية اسمها زخرف وكان أسمر طوالا أشم نحيفا
ومدة ملكه ست وعشرون سنة سامحه الله
وقال غير واحدا إنه أول من جعل للملك بأرض الأندلس أبهة واستعد بالمماليك حتى بلغوا خمسة آلاف منهم ثلاثة آلاف فارس وألفا راجل
ثم توفي الحكم بن هشام آخر سنة ست ومائتين لسبع وعشرين سنة من ولايته ومولده سنة 154
وقال ابن خلدون وغيره واحدا إنه أول من جند بالأندلس الأجناد

والمرتزقة وجمع الأسلحة والعدد واستكثر من الخدم والحواشي والحشم وارتبط الخيول على بابه واتخذ المماليك وكان يسميهم الخرس لعجمتهم وحكى في عدتهم ما تقدم ثم قال وكانت له عيون يطالعونه بأحوال الناس وكان يباشر الأمور بنفسه ويقرب الفقهاء والعلماء والصالحين وهو الذي وطأ الملك لعقبه بالأندلس انتهى
وكان له فيما حكى غير واحد ألفا فرس مرتبطة على شاطىء النهر بقبلي قصره يجمعها داران وهو القائل لما قتل أهل الربض وهدم ديارهم وحرثها
( رأبت صدوع الأرض بالسيف راقعا ... وقدما لأمت الشعب مذ كنت يافعا )
( فسائل ثغوري هل بها اليوم ثغرة ... أبادرها مستنضي السيف دارعا )
( تنبيك أني لم أكن في قراعهم ... بوان وقدما كنت بالسيف قارعا )
( وهل زدت أن وفيتهم صاع قرضهم ... فوافوا منايا قدرت ومصارعا
( فهذي بلادي إنني قد تركتها ... مهادا ولم أترك عليها منازعا )
وقال ابن حزم في حقه إنه كان من المهاجرين بالمعاصي السافكين للدماء ولذلك قام عليه الفقهاء والصلحاء وقال غيره إنه تنصل أخيرا وتاب سامحه الله
ومن نظمه قول متغزلا
( قضب من البان

ومنها
( من لي بمقتضبات الروح من بدني ... يغصبنني في الهوى عزي وسلطاني ) وقيل إنه كان يمسك أولاد الناس ويخصيهم ونقلت عنه أمور ولعله تاب منها كما قدمنا والله أعلم بحقيقة أمره
ومن بديع أخبار الحكم أن العباس الشاعر توجه إلى الثغر فلما نزل بوادي الحجارة سمع امرأة تقول واغوثاه بك يا حكم لقد أهملتنا حتى كلب العدو علينا فأيمنا وأيتمنا فسألها عن شأنها فقالت كنت مقبلة من البادية في رفقة فخرجت علينا خيل عدو فقتلت وأسرت فصنع قصيدته التي أولها
( تململت في وادي الحجارة مسهرا ... أراعي نجوما ما يردن تغورا )
( إليك أبا العاصي نضيت مطيتي ... تسير بهم ساريا ومهجرا )
( تدارك نساء العالمين ينصرة ... فإنك أحرى أن تغيث وتنصرا )
فلما دخل عليه أنشده القصيدة ووصف له خوف الثغر واستصراخ المرأة باسمه فأنف ونادى في الحين بالجهاد والاستعداد فخرج بعد ثلاث إلى وادي الحجارة ومعه الشاعر وسأل عن الخيل التي أغارت من أي أرض العدو كانت فاعلم بذلك فغزا تلك الناحية وأثخن فيها وفتح الحصون وخرب الديار وقتل عددا كثيرا وجاء إلى وادي الحجارة فأمر بإحضار المرأة وجميع من أسر له أحد في تلك البلاد فأحضر فأمر بضرب رقاب الأسرى بحضرتها وقال للعباس سلها هل أغاثها الحكم فقالت المرأة وكانت نبيلة والله لقد شغى الصدور وأنكى العدو وأغاث الملهوف فأغاثه

فارتاح لقولها وبدا السرور في وجهه وقال
( ألم تر يا عباس أني أجبتها ... على البعد أقتاد الخميس المظفر )
( فأدركت أوطارا وبردت غلة ... ونفست مكروبا وأغنيت معسرا )
فقال عباس نعم جزاك الله خيرا عن المسلمين وقبل يده
ومما عيب به أنه قتل الفقيه أبا زكريا يحيى بن مضر القيسي وكان قدوة في الدين والورع سمع من سفيان ومالك بن أنس وروى عنه مالك وقال حدثنا يحيى بن مضر عن سفيان الثوري أن الطلح المنضود هو الموز وكان قتل المذكور مع جماعة من العلماء وغيرهم
عبد الرحمن بن الحكم
وقام بأمره من بعده ابنه عبد الرحمن بعهد منه إليه ثم لأخيه المغيرة بعده فغزا عبد الرحمن لأول ولايته إلى جليقية وأبعد وأطال المغيب وأثخن في امم النصرانية هنالك ورجع
وقدم عليه سنة ست ومائتين زرياب المغني من العراق وهو مولى المهدي ومتعلم إبراهيم الموصلي واسمه علي بن نافع فركب بنفسه لتلقيه على ما حكاه ابن خلدون وبالغ في إكرامه وأقام عنده بخير حال وأورث صناعة الغناء بالأندلس وخلف أولادا فخلفه كبيرهم عبد الرحمن في صناعته وحظوته
وفي سنة

والقلاع فخرب كثيرا من البلاد وانتسفها وفتح كثيرا من حصونهم وصالح بعضها على الجزية وإطلاق أسرى المسلمين وانصرف ظافرا
وفي سنة أربع وعشرين بعث قريبه عبيد الله بن البلنسي في العساكر لغزو ألبة والقلاع فسار ولقي العدو فهزمهم وأكثر القتل والسبي ثم خرج لذريق ملك الجلالقة وأغار على مدينة سالم بالثغر فسار إليه فرتون بن موسى وقاتله فهزمه وأكثر القتل والسبي في العدو والاسر ثم سار إلى الحصن الذي بناه أهل ألبة بالثغر نكاية للمسلمين فافتتحه وهدمه ثم سار عبد الرحمن في الجيوش إلى بلاد جليقية فدوخها وافتتح عدة حصون منها وجال في أرضهم ورجع بعد طول المقام بالسبي والغنائم
وفي سنة ست وعشرين بعث عبد الرحمن العساكر إلى أرض الفرنجة وانتهوا إلى أرض بريطانية وكان على مقدمة المسلمين موسى بن موسى عامل تطليلة ولقيهم العدو فصبر حتى هزم الله عدوهم وكان لموسى في هذه الغزاة مقام محمود
وفي سنة تسع وعشرين بعث ابنه محمدا بالعساكر وتقدم إلى بنبلونة فأوقع بالمشركين عندها وقتل غرسية صاحبها وهو من أكبر ملوك النصارى
وفي ايامه ظهر المجوس ودخلوا إشبيلية فارسل إليهم عبد الرحمن العساكر مع

فهزموهم بعد مقام صعب ثم جاءت العساكر مددا من قرطبة فقاتلهم المجوس فهزمهم المسلمون وغنموا بعض مراكبهم وأحرقوها ورحل المجوس إلى شذونة فأقاموا عليها يومين وغنموا بعض الشيء ووصلت مراكب عبد الرحمن إلى إشبيلية فأقلع المجوس إلى لبلة وأغاروا وسبوا ثم إلى باجة ثم أشبونة ثم انقطع خبرهم حين أقلعوا من أشبونة وسكنت البلاد وذلك سنة ثلاثين وتقدم عبد الرحمن بإصلاح ما خربوه من البلاد وأكثف حاميتها
وفي سنة إحدى وثلاثين بعث العساكر إلى جليقية فدوخوها وحاصروا مدينة ليون ورموها بالمجانيق وهرب اهلها عنها وتركوها فغنم المسلمون ما فيها وأحرقوها وأرداوا هدم سورها فلم يقدروا عليه لأن عرضه كان سبعة عشر ذراعا فثلموا فيه ثلمة ورجعوا
ثم أغزى عبد الرحمن حاجبه عبد الكريم في العساكر إلى بلاد برشلونة فعاث في نواحيها وأجاز الدروب التي تسمى البرت إلى بلاد الفرنجة فدوخها فتلا وأسرا وسبيا وحاصر مدينتها العظمى جرندة وعاث في نواحيها وقفل
وقد كان ملك القسطنطينية من ورائهم توفلس بعث إلى الأمير عبد الرحمن سنة خمس وعشرين بهدية يطلب مواصلته ويرغبه في ملك سلفه بالمشرق من أجل ما ضيق به المأمون والمعتصم حتى إنه ذكرهما له في كتابه له وعبر عنهما بابني مراجل وماردة فكافأه الأمير عبد الرحمن عن الهدية وبعث إليه يحيى الغزال من كبار أهل الدولة وكان مشهورا

بينهما الوصلة وارتفع لعبد الرحمن ذكر عند منازعيه من بني العباس
ويعرف الأمير عبد الرحمن بالأوسط لأن الأول عبد الرحمن الداخل والثالث عبد الرحمن الناصر
ثم توفي عبد الرحمن الاوسط سنة ثمان وثلاثين ومائتين بربيع الآخر لإحدى وثلاثين سنة من إمارته ومولده بطليطلة في شعبان سنة ست وسبعين ومائة
وكان عالما بعلوم الشريعة والفلسفة وكانت أيامه أيام هدوء وسكون وكثرت الأموال عنده واتخذ القصور والمتنزهات وجلب إليها المياه من الجبال وجعل لقصره مصنعا اتخذه الناس شريعة وأقام الجسور وبنيت في أيامه الجوامع بكور الأندلس وزاد في جامع قرطبة رواقين ومات قبل أن يستتمه فأتمه ابنه محمد بعده وبنى بالأندلس جوامع كثيرة ورتب رسوم المملكة واحتجب عن العامة
وعدد ولده مائة وخمسون من الذكور وخمسون من الإناث ونقش خاتمه عابد الرحمن بقضاء الله راض وفي ذلك قيل
( خاتم للملك أضحى

وهو أول من أحدث هذا النقش وبقي وراثة لمن بعده من ولده قال ابن سعيد وفي أيامه انتهى مال الجباية إلى ألف ألف دينار في السنة وكان قبل لا يزيد على ستمائة ألف وقد ذكرنا في غير هذا الموضع ما يخالف هذا فليراجع والله أعلم
ومن توقيعاته من لم يعرف وجه طلبه فالحرمان أولى به ومن شعر عبد الرحمن المذكور قوله
( ولقد تعارض أوجه لأوامر ... فيقودها التوفيق نحو صوابها )
( والشيخ إن يحو النهي بتجارب ... فشباب رأي القوم عند شبابها )
وفي زيادته في جامع قرطبة بقول ابن المثنى رحمه الله تعالى
( بنيت لله خير بيت ... يخرس عن وصفه الأنام )
( حج إليه بكل أوب ... كأنه المسجد الحرام )
( كأن محرابه إذا ما ... حف به الركن والمقام )
وقال آخر
( بنى مسجدا لله لم يك مثله ... ولا مثله لله في الأرض مسجد )
( سوى ما ابتنى الرحمن والمسجد الذي ... بناه نبي المسلمين محمد )
( له عمد حمر وخضر كأنما ... تلوح يواقيت بها وزبرجد )
( ألا يا أمين الله لا زلت سالما ... ولا زلت في كل الأمور تسدد )
( فيا ليتنا نفديك من كل حادث ... وأنك

وكان كثير الميل للنساء وولع بجاريته طروب وكلف بها كلفا شديدا وهي التي بنى عليها الباب ببدر المال حين تجنت عليه وأعطاها حليا قيمته مائة ألف دينار فقيل له إن مثل هذا لا ينبغي أن يخرج من خزانة الملك فقال إن لا بسه أنفس منه خطرا وأرفع قدرا وأكرم جوهرا وأشرف عنصرا وفيها يقول
( إذا ما بدت لي شمس النهار ... طالعة ذكرتني طروبا )
( أنا ابن الميامين من غالب ... أشب حروبا وأطفي حروبا )
وخرج غازيا إلى جليقية فطالت غيبته فكتب إليها
( عداني عنك مزار العدا ... وقودي إليهم سهاما مصيبا )
( فكم قد تخطيت من سبسب ... ولاقيت بعد دروب دروبا )
( ألاقي بوجهي سموم الهجير ... إذ كان منه الحصى أن يذودا )
( تدارك بي الله دين الهدى ... فأحييته وأمت الصليبا )
( وسرت إلى الشرك في جحفل ... ملأت الحزون به والسهوبا )
وساق بعض المؤرخين قصة طروب هذه بقوله إن السلطان المذكور أغضها فهجرته وصدت عنه وأبت أن تأتيه ولزمت مقصورتها فاشتد قلقه لهجرها وضاق ذرعه من شوقها وجهد أن يترضاها بكل وجه فاعياه ذلك فأرسل من خصيانه من يكرهها على الوصول إليه فأغلقت باب مجلسها في وجوههم وآلت أن لا تخرج إليهم طائعة ولو انتهى الأمر إلى القتل فانصرفوا إليه وأعلموه بقولها واستأذنوه في كسر الباب عليها فنهاهم وأمرهم بسد الباب عليها من خارجه ببدر الدراهم ففعلوا وبنوا عليها بالبدر وأقبل حتى وقف بالباب وكلمها مسترضيا راغبا في

فأجابت وفتحت الباب فانهالت البدر في بيتها فأكبت على رجله تقبلها وحازت المال وكانت تبرم الأمور مع نصر الخصي فلا يرد شيئا مما تبرمه
وأحب أخرى اسمها مدثرة فأعتقها وتزوجها وأخرى كذلك اسمها الشفاء وأما جاريته قلم فكانت أديبة حسنة الخط راوية للشعر حافظة للأخبار عالمة بضروب الأدب وكان مولعا بالسماع مؤثرا له على جميع لذاته وله أخبار كثيرة رحمه الله
محمد بن عبد الرحمن
ولما مات ولي ابنه محمد فبعث لأول ولايته عساكر مع موسى بن موسى صاحب تطيلة فعاث في نواحي ألبة والقلاع وفتح بعض حصونها ورجع وبعث عساكر أخرى إلى نواحي برشلونة وما وراءها فعاثوا فيها وفتحوا حصونا من برشلونة ورجعوا
ولما استمد أهل طليطلة المخالفون من أهل بلاد الأمير محمد عليه بملكي جليقية والبشكنس لقيهم الأمير محمد على وادي سليطة وقد أكمن لهم فأوقع بهم وبلغت عدة القتلى من أهل طليطلة والمشركين عشرين ألفا
وفي سنة خمس وأربعين ظهرت مراكب المجوس وعاثوا في

فلقيهم مراكب الأمير محمد فقاتلوهم وغنموا منهم مركبين واستشهد جماعة من المسلمين
وفي سنة سبع وأربعين أغزى محمد إلى نواحي بنبلونة وصاحبها حينئذ غرسية بن ونقه وكان يظاهر أردون بن أذفنش فعاث في نواحي بنبلونة ورجع وقد دوخها وفتح كثيرا من حصونها وأسر فرتون ابن صاحبها فبقي أسيرا بقرطبة عشرين سنة
ثم بعث سنة إحدى وخمسين أخاه المنذر في العساكر إلى نواحي ألبة والقلاع فعاثوا فيها وجمع لذريق للقائهم فلقيهم وانهزم وأثخن المسلمون في المشركين بالقتل والأسر فكان فتحا لا كفاء له
ثم غزا الأمير محمد بنفسه سنة إحدى وخمسين بلاد الجلالقة فأثخن وخرب
وفي سنة ثلاث وستين أغزى الأمير محمد ابنه المنذر إلى دار الحرب وفي السنة التي بعدها إلى بلاد بنبلونة فدوخها ورجع
وفي سنة ثمان وستين أغزاه أيضا إلى دار الحرب فعاث في نواحيها وفتح حصونا
وفي أيام الأمير محمد خربت ماردة وهدمت ولم يبق لها أثر
وذكر بعضهم أنه رأى بالمشرق هذه الأبيات قبل أن تخرب ماردة بأعوام ولم يعلم قائلها وذلك سنة 254
( ويل لماردة التي مردت ... وتكبرت عن عدوة النهر )
( كانت ترى لهم بها زهر ... فخلت من الزهرات كالقفر

ثم توفي الأمير محمد في شهر صفر سنة ثلاث وسبعين ومائتين لخمس وثلاثين سنة من إمارته ومولده سنة سبع ومائتين
المنذر بن محمد
وولي بعده ابنه المنذر ولم تطل مدته وأقام في الملك سنتين إلا نصف شهر وتوفي منتصف صفر سنة خمس وسبعين ومائتين وفيه قيل
( بالمنذر بن محمد ... صلحت بلاد الأندلس )
عبد الله بن محمد
ثم ولي أخوه عبد الله قال ابن خلدون كان خراج الأندلس قبله ثلاثمائة ألف دينار مائة ألف للجيوش ومائة ألف للنفقة في النوائب وما يعرض ومائة ألف ذخيرة ووفرا فأنفق الوفر حين اضطربت عليه نواحي الأندلس بالثوار والمتغلبين في تلك السنين وقل الخراج انتهى
ومن نظم الأمير عبد الله قوله
( يا مهجة المشتاق ما أوجعك ... ويا أسير الحب ما أخشعك )
( ويا رسول العين من لحظها ... بالرد والتبليغ ما أسرعك )
( تذهب بالسر فتأتي به ... في مجلس يخفى على من

وهذه الأبيات عنوان فضله وبراعة استهلال نبله
وكان الوزراء يطالعون بآرائهم الخليفة في بطاقة فطالعه وزيره النضر بن سلمة برأيه في أمر في ورقة فلما وقف عليها لم يعجبه ذلك الرأي فكتب
( أنت يا نضر آبده ... ليس ترجى لفائدة )
( إنما أنت عدة ... لكنيف ومائدة )
وتوفي الأمير عبد الله سنة ثلاثمائة ومدة ملكه نحو من خمس وعشرين سنة
عبد الرحمن الناصر
وولي حافده عبد الرحمن الناصر ابن ابنه محمد قتيل أخيه المطرف وكانت ولايته من الغريب لأنه كان شابا وأعمامه وأعمام أبيه حاضرون فتصدى إليها واحتازها دونهم ووجد الأندلس مضطربة بالمخالفين مضطرمة بنيران المتغلبين فأطفأ تلك النيران واستنزل أهل العصيان واستقامت له الأندلس في سائر جهاتها بعد نيف وعشرين سنة من أيامه ودامت أيامه نحو خمسين سنة استفحل فيها ملك بني أمية بتلك الناحية وهو أول من تسمى منهم بالأندلس بأمير المؤمنين عندما التاث أمر الخلافة بالمشرق واستبد موالي الترك على بني العباس وبلغه أن المقتدر قتله مؤنس المظفر مولاه سنة سبع عشرة وثلاثمائة فتلقب بألقاب الخلافة وكان كثير الجهاد بنفسه والغزو إلى دار الحرب إلى أن هزم عام

المسلمين فقعد عن الغزو بنفسه وصار يردد الصوائف في كل سنة فأوطأ عساكر المسلمين من بلاد الإفرنج ما لم يطؤوه قبل في أيام سلفه ومدت إليه أمم النصرانية من وراء الدروب يد الإذعان وأوفدوا عليه رسلهم وهداياهم من رومة والقسطنطينية في سبيل المهادنة والسلم والاعتمال فيما يعن في مرضاته ووصل إلى سدته الملوك من أهل جزيرة الأندلس المتاخمين لبلاد المسلمين بجهات قشتالة وبنبلونة وما ينسب إليها من الثغور الجوفية فقبلوا يده والتمسوا رضاه واحتقبوا جوائزه وامتطوا مراكبه ثم سما إلى ملك العدوة فتناول سبتة قفل الفرضة من أيدي أهلها سنة سبع عشرة وثلاثمائة وأطاعه بنو إدريس أمراء العدوة وملوك زناتة والبربر وأجاز إليه الكثير منهم كما يعلم من أخباره وبدأ أمره أول ولايته بتخفيف المغارم عن الرعايا انتهى كلام ابن خلدون
وفيه يقول ابن عبد ربه صاحب العقد يوم تولى الملك
( بدا الهلال جديدا ... والملك غض جديد )
( يا نعمة الله زيدي ... إن كان فيك مزيد )
( إن كان للصوم فطر ... فأنت للدهر عيد )
وأراد بأول الأبيات أنه ولي مستهل ربيع الأول كما علم
وما أشار إليه ابن خلدون في غزوة الخندق فصله المسعودي فقال بعد أن أجرى ذكر مخالفة أمية بن إسحاق على الناصر ودخوله أرض النصارى ودلالته إياهم على عورات المسلمين ما ملخصه وغزا عبد الرحمن صاحب الأندلس

سمورة دار الجلالقة وكان عبد الرحمن في مائة ألف أو يزيدون وكانت الوقعة بينه وبين رذمير ملك الجلالقة في شوال سنة 327 بعد الكسوف الذي كان في هذا الشهر بثلاثة أيام فكانت للمسلمين عليهم ثم ثابوا بعد أن حوصروا وألجئوا إلى المدينة فقتلوا من المسلمين بعد عبورهم الخندق خمسين ألفا وقيل إن الذي منع رذمير من طلب من نجا من المسلمين أمية بن إسحاق وخوفه الكمين ورغبة فيما كان في عسكر المسلمين من الأموال والعدة والخزائن ولولا ذلك لأتى على جميع المسلمين ثم إن أمية استأمن بعد ذلك إلى عبد الرحمن وتخلص من رذمير وقبله عبد الرحمن أحسن قبول وقد كان عبد الرحمن بعد هذه الوقعة جهز عساكر مع عدة من قواده إلى الجلالقة فكانت لهم بهم عدة حروب هلك فيها من الجلالقة ضعف ما قتل من المسلمين في الوقعة الأولى وكانت للمسلمين عليهم إلى هذه الغاية ورذمير ملك الجلالقة إلى هذا الوقت وهو سنة 332 انتهى
وقال في موضع آخر ما ملخصه إن عبد الرحمن غزا في أزيد من مائة ألف من الناس فنزل على دار مملكة الجلالقة وهي مدينة سمورة وعليها سبعة أسوار من أعجب البنيان قد أحكمته الملوك السالفة وبين الأسوار فصلان وخنادق ومياه واسعة وافتتح منها سورين ثم إن أهلها ثاروا على المسلمين فقتلوا منهم ممن أدركه الإحصاء وممن عرف أربعين ألفا وقيل خمسين ألفا وكانت للجلالقة والبشكنس على المسلمين انتهى كلام المسعودي
رجع إلى أخبار الناصر فنقول إن الناصر رحمه الله كان له نظم ومما نسب إليه بعضهم قوله
( لا يضر الصغير

( كم مقيم فازت يداه بغنم ... لم تنله بالركض كف مغير )
هكذا ألفيت البيتين منسوبين إليه بخط بعض الأكابر ثم كتب بأثره ما نصه الصحيح أنهما لغيره والله أعلم انتهى
هدية ابن شهيد للناصر
وكان الناصر رحمه الله قد استحجب موسى بن محمد بن حدير واستوزر عبد الملك بن جهور وأحمد بن عبد الملك بن شهيد وأهدى له ابن شهيد هديته المشهورة المتعددة الأصناف وقد ذكرها ابن حيان وابن خلدون وغيرهما من المؤرخين قال ابن خلدون وهي مما يدل على ضخامة الدولة الأموية واتساع أحوالها وكان ذلك سنة سبع وعشرين وثلاثمائة لثمان خلون من شهر جمادى الأولى وهي هدية عظيمة الشأن اشتهر ذكرها إلى الآن واتفق على أنه لم يهاد أحد من ملوك الأندلس بمثلها وقد أعجبت الناصر وأهل مملكته جميعا وأقروا أن نفسا لم تسمح بإخراج مثلها ضربة عن يدها وكتب معها رسالة حسنة بالاعتراف للناصر بالنعمة والشكر عليها استحسنها الناس وكتبوها وزاد الناصر وزيره هذا خطوة واختصاصا وأسمى منزلته على سائر الوزراء جميعا وأضعف له رزق الوزارة وبلغه ثمانين ألف دينار أندلسية وبلغ مصروفه إلى ألف دينار وثنى له العظمة لتثنيته له الرزق فسماه ذا الوزارتين لذلك وكان أول من تسمى لذلك بالأندلس امتثالا لاسم صاعد بن مخلد وزير بني العباس ببغداد وأمر بتصدير فراشه في البيت وتقديم اسمه في

وتفسير هديته المذكورة على ما ثبت في كتاب ابن خلدون على ما يفسر خمسمائة ألف مثقال من الذهب العين وأربعمائة رطل من التبر ومصارفة خمسة وأربعون ألف دينار من سبائك الفضة في مائتي بدرة واقتصر ابن الفرضي على خمسمائة ألف دينار فقط واثنا عشر رطلا من العود الهندي الذي يختم عليه كالشمع ومائة وثمانون رطلا من العود المتخير ومائة رطل من العود الشبه المنتقى هكذا ذكره ابن خلدون
وقال ابن الفرضي مستندا إلى الكتاب الذي وجهه ابن شهيد مع الهدية إن العود الغالي من ذلك أربعمائة رطل منها في قطعة واحدة مائة وثمانون رطلا
وقال ابن خلدون ومائة أوقية من المسك الذكي المفضل في جنسه انتهى
وقال ابن الفرضي نقلا عن الكتاب المصحوب مع الهدية إن المسك مائتا أوقية وثانتا عشرة أوقية ومن العنبر الأشهب الباقي على خلقته بغير صناعة خمسمائة أوقية منها قطعة عجيبة ململمة الشكل وزن مائة أوقية هكذا في تاريخ ابن خلدون
وفي ابن الفرضي أن الكل مائة أوقية وأن هذه القطعة أربعون أوقية ومن الكافور المرتفع النقي الذكي ثلاثمائة أوقية
قال ابن خلدون ومن اللباس ثلاثون شقة من الحرير المختم المرقوم بالذهب كلباس الخلفاء المختلف الألوان والصنائع وعشرة أفرية من عالي جلود الفنك الخراسانية
وخالفه ابن الفرضي إذ قال ومن أنواع الثياب ثلاثون شقة خنج خاصية للباسه

عالي الفنك منها سبعة بيض خراسانية وثلاث ملونة وستة مطارف عراقية خاصية له وثمان وأربعون ملحفة زهرية لكسوته ومائة ملحفة زهرية لرقاده
ولم يذكر ابن خلدن وابن الفرضي أعرف لا سيما وقد استند إلى كتاب المهدي وصاحب البيت أدرى
قال ابن خلدون وعشرة قناطير شد فيها مائة جلد سمور وقاله ابن الفرضي أيضا وزاد ابن خلدون وستة من السرادقات العراقية وثمانية وأربعون من الملاحف البغدادية لزينة الخيل من الحرير والذهب ثم قالا معا وأربعة آلاف رطل من الحرير المغزول وألف رطل من لون الحرير المنتقى للاستغزال وزاد ابن خلدون وثلاثون شقة من الفريون لسروج الهبات وزاد ابن الفرضي في الحرير المذكور قيل إنه قبضه منه صاحب الطراز ولم يأت به مع الهدية وإنما دفعه لصاحب الطراز وأثبته في الدفتر قالا وثلاثون بساطا من الصوف مختلفة الصناعات طول كل بساط منها عشرون ذراعا وقال ابن خلدون منتقاة مختلفة الألوان قالا ومائة قطعة مصليات من وجوه الفرش المختلفة زاد ابن الفرضي الصناعات من جنس البسط قالا وخمسة عشر نخا من عمل الخز المقطوع شطرها قال ابن الفرضي وسائرها من جنس البسط الوجوه قال ابن خلدون ومن السلاح والعدة ثمانمائة من التجافيف المزينة أيام البروز والمواكب وقال ابن الفرضي مائة تجفاف بأبدع الصناعات وأغربها وأكملها قالا وألف ترس سلطانية ومائة ألف سهم زاد ابن خلدون من النبال البارعة الصنعة قال ابن خلدون ومن الظهر خمسة عشر فرسا من الخيل العراب المتخيرة لركاب السلطان فائقة النعوت وقال ابن الفرضي ومن الخيل مائة فرس منها من الخيل العراب المتخيرة لركابه خمسة عشر فرسا وخمس

مجالس سروجها خز عراقي وثمانون فرسا مما يصلح للوصفاء والحشم وقال ابن خلدون مائة فرس من الخيل التي تصلح للركوب في التصرف والغزوات وقال ابن الفرضي وخمسة أبغل عالية الركاب وقال ابن خلدون وعشرون من بغال الركاب مسرجة ملجمة لمراكب الخلافة مجالس سروجها خز جعفري عراقي قالا ومن الرقيق أربعون وصيفا وعشرون جارية من متخير الرقيق بكسوتهم وجميع آلاتهم وقال ابن خلدون في الجواري متخيرات بكسوتهن وزينتهن وقال ابن خلدون ومن سائر الأصناف قرية تغل آلافا من أمداد الزرع ومن الصخر للبنيان ما أنفق عليه في عام واحد وثمانون ألف دينار وعشرون ألف عود من الخشب من أجمل الخشب وأصلبه وأقومه قيمتها خمسون ألف دينار انتهى
وقال ابن الفرضي نقلا عن كتاب ابن شهيد المصحوب مع الهدية عندما ذكر الرقيق ما صورته وكان قد أمرني أيده الله بابتياعهم من مال الأخماس فابتعتهم من نعمته عندي وصيرتهم من بعثي ومع ذلك عشر قناطير سكر طبرزذ لا سحاق فيه
وفي آخر الكتاب ولما علمت تطلع مولاي أيده الله تعالى إلى قرية لذكرها كذا بالقنبانية المنقطعة الغرس في شرقها وترداده أيده الله تعالى لذكرها لم أهنأ بعيش حتى أعلمت الحيلة في ابتياعها بأحوازها وأكتب وكيله ابن بقية الوثيقة فيها باسمه وضمها إلى ضياعه وكذلك صنعت في قرية شيرة من نظر جيان عندما اتصل بي من وصفه لها وتطلعه إليها فما زلت أتصدى لمسرته بها حتى ابتعتها الآن باحوازها وجميع منازلها

كله الوكيل ابن بقية وصار في يده له ابقاه الله سبحانه وأرجو أنه سيرفع فيها في هذه السنة آلاف أمداد من الأطعمة إن شاء الله تعالى ولما علمت نافذ عزمه أبقاه الله تعالى في البنيان وكلفه به وفكرت في عدد الأماكن التي تطلع نفسه الكريمة إلى تخليد آثاره في بنيانها مد الله تعالى في عمره وأوفى بها على أقصى أمله علمت أن أسه وقوامه الصخر والاستكثار منه فأثارت لي همتي ونصيحتي حكمة حيلة أحكمها سعدك وجدك اللذان يبعثان ما لا يتوهم عليه حيلة أقيم لك فيها بعام واحد ما كان يقوم على يدي عبدك ابن عاصم في عشرين عاما وينتهي تحصيل النفقة فيه إلى نحو الثمانين ألفا أعجل شأنه في عام سوى التوفير العظيم الذي يبديه العيان قبلا إن شاء الله تعالى وكذلك ما ثاب إلي في أمر الخشب لهذه المنية المكرمة فإن ابن خليل عبدك المجتهد الدؤوب انتهى في تحصيل عدد ما تحتاج إليه إلى ثلاثمائة ألف عود ونيف على عشرين ألف عود على أنه لا يدخل منه في السنة إلا نحو الألفي عود ففتح لي سعدك رأيا أقيم له بتمامه جميع هذا الخشب العام على كماله بورود الجليبة لوقتها وقيمته على الرخص ما بين الخمسين ألفا والستين ألفا انتهى
عود إلى أخبار الناصر
ومن غريب ما يحكى عن أمير المؤمنين الناصر المذكور أنه أراد الفصد فقعد بالبهو في المجلس الكبير المشرف بأعلى مدينته بالزهراء واستدعى الطبيب لذلك وأخذ الطبيب الآلة وجس يد الناصر فبينما هو إذ أطل زرزور فصعد على إناء ذهب بالمجلس وأنشد
( أيها الفاصد رفقا ... بامير المؤمنينا

( إنما تفصد عرقا ... فيه محيا العالمينا )
وجعل يكرر ذلك المرة بعد المرة فاستظرف أمير المؤمنين الناصر ذلك غاية الاستظراف وسر به غاية السرور وسأل عمن اهتدى إلى ذلك وعلم الزرزور فذكر له أن السيدة الكبرى مرجانة أم ولده ولي عهده الحكم المستنصر بالله صنعت ذلك وأعدته لذلك الأمر فوهب لها ما ينيف على ثلاثين ألف دينار
وذكر ابن بسام أن أبا عامر بن شهيد أحمد بن عبد الملك الوزير أهدى له غلام من النصارى لم تقع العيون على شبهه فلمحه الناصر فقال لابن شهيد أنى لك هذا قال هو من عند الله فقال له الناصر تتحفوننا بالنجوم وتستأثرون بالقمر فاستعذر واحتفل في هدية بعثها مع الغلام وقال يا بني كن مع جملة ما بعثت به ولولا الضرورة ما سمحت بك نفسي وكتب معه هذين البيتين
( أمولاي هذا البدر سار لأفقكم ... وللأفق أولى بالبدور من الأرض )
( أرضيكم بالنفس وهي نفيسة ... ولم أر قبلي من بمهجته يرضي )
فحسن ذلك عند الناصر وأتحفه بمال جزيل وتمكنت عنده مكانته ثم إنه بعد ذلك أهديت إليه جارية من أجمل نساء الدنيا فخاف أن ينهى ذلك إلى الناصر فيطلبها فتكون كقصة الغلام فاحتفل في هدية أعظم من الأولى وبعثها معها وكتب له
( أمولاي هذي الشمس والبدر أولا ... تقدم كيما يلتقي

( قران لعمري بالسعادة قد أتى ... فدم منهما في كوثر وجنان )
( فما لهما والله في الحسن ثالث ... وما لك في ملك البرية ثاني )
فتضاعفت مكانته عنده
ثم إن أحد الوشاة رفع للملك أنه بقي في نفسه من الغلام حرارة وأنه لا يزال يذكره حين تحركه الشمول ويقرع السن على تعذر الوصول فقال للواشي لا تحرك به لسانك وإلا طار رأسك وأعمل الناصر حيلة في أن كتب على لسان الغلام رقعة منها يا مولاي تعلم أنك كنت لي على انفراد ولم أزل معك في نعيم وإني وإن كنت عند الخليفة مشارك في المنزلة محاذر ما يبدو من سطوة الملك فتحيل في استدعائي منه وبعثها مع غلام صغير السن وأوصاه أن يقول من عند فلان وإن الملك لم يكلمه قط إن سأله عن ذلك فلما وقف أبو عامر على تلك الرسالة واستخبر الخادم علم من سؤاله ما كان في نفسه من الغلام وما تكلم به في مجالس المدام فكتب على ظهر الرقعة ولم يزد حرفا
( أمن بعد إحكام التجارب يبتغي ... لدى سقوط الطير في غابة الأسد )
( وما أنا ممن يغلب الحب قلبه ... ولا جاهل ما يدعيه أولو الحسد )
( فإن كنت روحي قد وهبتك طائعا ... وكيف يرد الروح إن فار الجسد )
فلما وقف الناصر على الجواب تعجب من فطنته ولم يعد إلى استماع واش به
ودخل عليه بعد ذلك فقال له كيف خلصت من الشرك فقال لأن عقلي بالهوى غير مشترك فأنعم عليه وزادت محبته عنده

غزوات الناصر
وأخبار الناصر طويلة جدا وقد منح الظفر على الثوار واستنزلهم من معاقلهم حتى صفا له الوقت وكانت له في جهاد العدو اليد البيضاء فمن غزواته أنه غزا سنة ثمان وثلاثمائة إلى جليقية وملكها أردون بن أذفونش فاستنجد بالبشكنس والإفرنجة وظاهر شانجة بن غرسية صاحب بنبلونة أمير البشكنس فهزمهم ووطىء بلادهم ودوخ أرضهم وفتح معاقلهم وخرب حصونهم ثم غزا بنبلونة سنة ثنتي عشرة ودخل دار الحرب ودوخ البسائط وفتح المعاقل وخرب الحصون وأفسد العمائر وجال فيها وتوغل في قاصيتها والعدو يحاذيه في الجبال والأوعار ولم يظفر منه بشيء ثم بعد مدة ظفر ببعض الثوار عليه وكان استمد بالنصارى فقتل الناصر من كان مع الثائر من النصارى أهل ألبة وفتح ثلاثين من حصونهم وبلغه انتفاض طوطة ملكة البشكنس فغزاها في بنبلونة ودوخ أرضها واستباحها ورجع إلى قرطبة ثم غزا غزوة الخندق سنة سبع وعشرين إلى جليقية فانهزم وأصيب فيها المسلمون وقعد بعدها عن الغزو بنفسه وصار يردد البعوث والصوائف إلى الجهاد وبعث جيوشه إلى المغرب فملك سبتة وفاسا وغيرهما من بلاد المغرب وطار صيته وانتشر ذكره كما سبق ولما هلك غرسية بن شانجة ملك البشكنس قام بامرهم بعده أمه طوطة وكفلت ولده ثم انتفضت على الناصر سنة خمس وعشرين فغزا الناصر بلادها وخرب نواحي بنبلونة وردد عليها كما مر

ثم رحل إلى بنبلونة فجاءته طوطة بطاعتها وعقد لابنها غرسية على بنبلونة ثم عدل إلى ألبة وبسائطها فدوخها وخرب حصونها ثم اقتحم جليقية وملكها يومئذ رذمير بن أردون فخام عن لقائه ودخل وخشمة فنازله الناصر فيها وهدم برغش وكثيرا من معاقلهم وهزمهم مرارا ورجع ثم كانت بعدها غزوة الخندق السابقة وهابته أمم النصرانية
الوفود على بلاط الناصر
ثم وفدت عليه سنة ست وثلاثين رسل صاحب قسطنطينة وهديته وهو يومئذ قسطنطين واحتفل الناصر لقدومهم في يوم مشهود قال ابن خلدون ركبت في ذلك اليوم العساكر بالسلاح في أكمل شكة وزين القصر الخلافي بأنواع الزينة وأصناف الستور وجمل السرير الخلافي بمقاعد الأبناء والإخوة والأعمام والقرابة ورتب الوزراء والخدمة في مواقفهم ودخل الرسل فهالهم ما رأوه وقربوا حتى أدوا رسالتهم وأمر يومئذ الأعلام أن يخطبوا في ذلك الحفل ويعظموا من أمر الإسلام والخلافة ويشكروا نعمة الله على ظهور دينه وإعزازه وذلة عدوه فاستعدوا لذلك ثم بهرهم هول المجلس فوجموا وشرعوا في القول فارتج عليهم وكان فيهم أبو علي القالي وافد العراق كان في جملة الحكم ولي العهد وندبه لذلك استئثار بفخره فلما وجموا كلهم قام منذر بن سعيد البلوطي من غير استعداد ولا روية وما تقدم

شعرا طويلا ارتجله في ذلك الغرض ففاز بفخر ذلك المجلس وعجب الناس من شأنه أكثر من كل ما وقع وأعجب به الناصر وولاة القضاء بعدها وأصبح من رجالات المعالم وأخباره مشهورة وخطبته في ذلك اليوم منقولة في كتب ابن حيان وغيره ثم انصرف هؤلاء الرسل وبعث الناصر معهم هشام بن هذيل بهدية حافلة ليؤكد المودة ويحسن الإجابة ورجع بعد سنتين وقد أحكم من ذلك ما شاء وجاءت معه رسل قسطنطين
ثم جاء رسول من ملك الصقالبة وهو يومئذ هوتو ورسول آخر من ملك الألمان ورسول آخر من ملك الإفرنجة وراء البرت وهو يومئذ أوقه ورسول آخر من ملك الإفرنجية بقاصية المشرق وهو يومئذ كدلة واحتفل الناصر لقدومهم وبعث مع رسول الصقالبة ربيعا الأسقف إلى ملكهم هوتو ورجع بعد سنتين
وفي سنة أربع وأربعين جاء رسول أردون يطلب السلم فعقد له ثم بعث في سنة خمس وأربعين يطلب إدخال فرذلند قومس مشتيلة في عهده فأذن له في ذلك وأدخل في عهده وكان غرسية بن شانجة قد استولى على جليقية بعد أبيه شانجة بن فرويلة ثم انتض عليه أهل جليقية وتولى كبرهم قومس قشتيلية فرذلند المذكور ومال إلى أردون بن رذمير وكان غرسية بن شانجة حافدا لطوطة ملكة البشكنس فامتعضت

سبع وأربعين ملقية بنفسها في عقد السلم لها ولولدها شانجة بن رذمير الملك وإعانة حافدها غرسية بن شانجة على ملكه ونصره من عدوه وجاء الملكان معها فاحتفل الناصر لقدومهم وعقد الصلح لشانجة وأمه وبعث العساكر مع غرسية ملك جليقية فرد عليه ملكه وخلع الجلالقة طاعة أردون إليه وبعث إلى الناصر يشكره على فعلته وكتب إلى الأمم في النواحي بذلك وبما ارتكبه فرذلند قومس قشتيلة في نكثة ووثوبه ويعيره بذلك عند الأمم ولم يزل الناصر على موالاته وإعانته إلى أن هلك ولما وصل رسول كلده ملك الإفرنجة بالشرق كما تقدم وصل معه رسول ملك برشلونة وطركونة راغبا في الصلح فأجابه الناصر ووصل بعده رسول صاحب رومة يخطب المودة فأجيب انتهى كلام ابن خلدون ببعض اختصار
ولنفصل بعض ما أجمله فنقول ذكر ابن حيان وغير واحد أن ملك الناصر بالأندلس كان في غاية الضخامة ورفعه الشأن وهادته الروم وازدلفت إليه تطلب مهادنته ومتاحفته بعظيم الذخائر ولم تبق أمة سمعت به من ملوك الروم والإفرنجة والمجوس وسائر الأمم إلا وفدت عليه خاضعة راغبة وانصرفت عنه راضية ومن جملتهم صاحب القسطنطينية العظمى فإنه هاداه ورغب في موادعته وكان وصول أرساله في صفر سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة وتقدم في كلام ابن خلدون أنها ست وثلاثون فالله أعلم أيهما أصح وتأهب الناصر لورودهم وأمر أن يتلقوا أعظم تلق وأفخمه وأحسن قبول وأكرمه وأخرج إلى لقائهم ببجانة يحيى بن محمد بن الليث وغيره لخدمة أساب الطريق فلما صاروا بأقرب المحلات من قرطبة خرج إلى لقائهم القواد في العدد والعدة والتعبية فتلقوهم قائدا بعد قائد وكمل اختصاصهم بعد ذلك بأن أخرج إليهم الفتيين الكبيرين الخصيين ياسرا وتماما إبلاغا في الاحتفال بهم

فاستبان لهم بخروج الفتيين إليهم بسط الناصر وإكرامه لأن الفتيان حينئذ هم عظماء الدولة لأنهم أصحاب الخلوة مع الناصر وحرمه وبيدهم القصر السلطاني وأنزلوا بمنية ولي العهد الحكم المنسوبة إلى نصر بعدوة قرطبة في الربض ومنعوا من لقاء الخاصة والعامة جملة ومن ملابسة الناس طرا ورتب لحجابتهم رجال تخيروا من الموالي ووجوه الحشم فصيروا على باب قصر هذه المنية ستة عشر رجلا لأربع دول لكل دولة أربع منهم ورحل الناصر لدين الله من قصر الزهراء إلى قصر قرطبة لدخول وفود الروم عليه فقعد لهم يوم السب لإحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول من السنة المذكورة في بهو المجلس الزاهر قعودا حسنا نبيلا وقعد عن يمينه ولي العهد من بنيه الحكم ثم عبيد الله ثم عبد العزيز أبو الأصبغ ثم مروان وقعد عن يساره المنذ ثم عبد الجبار ثم سليمان وتخلف عبد الملك لأنه كان عليلا لم يطق الحضور وحضر الوزراء على مراتبهم يمينا وشمالا ووقف الحجاب من أهل الخدمة من أبناء الوزراء والموالي والوكلاء وغيرهم وقد بسط صحن الدار أجمع بعتاق البسط وكرائم الدرانك وظللت أبواب الدار وجناياها بظلل الديباج ورفيع الستور فوصل رسل ملك الروم حائرين مما رأوه من بهجة الملك وفخامة السلطان ودفعوا كتاب ملكهم صاحب القسطنطينية العظمى قسطنطين بن ليون وهو في رق مصبوغ لونا سماويا مكتوب بالذهب بالخط الإغريقي وداخل الكتاب مدرجة مصبوغة أيضا مكتوبة بفضة بخط إغريقي أيضا فيها وصف هديته التي أرسل بها وعددها وعلى الكتاب طابع ذهب وزنه أربعة مثاقيل على الوجه الواحد منه صورة المسيح وعلى الآخر صورة قسطنطين الملك وصورة ولده وكان الكتاب بداخل

الملك معمولة من الزجاج الملون البديع وكان الدرج داخل جعبة ملبسه بالديباج وكان في ترجمة عنوان الكتاب في سطر منه قسطنطين ورومانس المؤمنان بالمسيح الملكان العظيمان ملكا الروم وفي سطر آخر العظيم الاستحقاق المفخر الشريف النسب عبد الرحمن الخليفة الحاكم على العرب بالأندلس أطال الله بقاءه ولما احتفل الناصر لدين الله هذا الاحتفال أحب أن يقوم الخطباء والشعراء بين يديه لتذكر جلالة مقعده وعظيم سلطانه وتصف ما تهيأ من توطيد الخلافة في دولته وتقدم إلى الأمير الحكم ابنه ولي عهده فإعداد من يقوم بذلك من الخطباء ويقدمه أمان نشيد الشعراء فأمر الحكم صنيعة الفقيه محمد بن عبد البر الكسنياني بالتأهب لذلك وإعداد خطبة بليغة يقوم بها بين يدي الخليفة وكان يدعي من القدرة على تأليف الكلام ما ليس في وسع غيره وحضر المجلس السلطاني فلما قام يحاول التكلم بما رأى هاله وبهره هول المقام وأبهة الخلافة فلم يهتد إلى لفظه بل غشي عليه وسقط إلى الأرض فقيل لأبي علي البغدادي إسماعيل بن القاسم القالي صاحب الأمالي النوادر وهو حينئذ ضيف الخليفة والوافد عليه من العراق وأمير الكلام وبحر اللغة قم فارقع هذا الوهي فقام فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله وصلى على نبيه صلى الله عليه و سلم هكذا ذكر ابن حيان وغيره وكلام ابن خلدون السابق يقتضي أن القالي هو المأمور بالكلام أولا والمعد لذلك ونحوه في المطمح والخطب سهل ثم انقطع القول بالقالي فوقف ساكتا مفكرا في كلام يدخل به إلى ذكر ما أريد منه وقال في المطمح إن أبا علي القالي انقطع وبهت وما وصل إلا قطع ووقف ساكتا متفكرا لا ناسيا ولا متذكرا فلما رأى ذلك منذر بن سعيد وكان ممن حضر في زمرة الفقهاء قام من

ذاته بدرجة من مرقاته فوصل افتتاح أبي علي لأول خطبته بكلام عجيب ونادى في الإحسان من ذلك المقام كل مجيب يسحه سحا كأنما كان يحفظه قبل ذلك بمدة وبدأ من المكان الذي انتهى إليه أبو علي البغدادي فقال أما بعد حمد الله والثناء عليه والتعداد لآلائه والشكر لنعمائه والصلاة والسلام على محمد صفيه وخاتم أنبيائه فإن لكل حادثة مقاما ولكل مقام مقال وليس بعد الحق إلا الضلال وإني قد قمت في مقام كريم بين يدي ملك عظيم فأصغوا إلى معشر الملإ بأسماعكم والقنوا عني بأفئدتكم إن من الحق أن يقال للمحق صدقت وللمبطل كذبت وإن الجليل تعالى في سمائه وتقدس بصفاته وأسمائه أمر كليمه موسى صلى الله على نبينا وعليه وعلى جميع أنبيائه أن يذكر قومه بأيام الله جل وعز عندهم وفيه وفي رسول الله أسوة حسنة وإني أذكركم بأيام الله عندكم وتلافيه لكم بخلافة أمير المؤمنين التي لمت شعثكم وأمن سربكم ورفعت فرقكم أمير المؤمنين التي لمت شعثكم وأمنت سربكم ورفعت فرقكم بعد أن كنتم قليلا فكثركم ومستضعفين فقواكم ومستنذلين فنصركم ولاه الله رعايتكم وأسند إليه أمامتكم أيام ضربت الفتنة سرادقها على الآفاق وأحاطت بكم شعل النفاق حتى صرتم في مثل حدقى البعير من ضيق الحال ونكد العيش والتغيير فاستبدلتم بخلافته من الشدة بالرخاء وانتقلتم بيمن سياسته إلى تمهيد كنف العافية بعد استيطان البلاء أنشدكم الله معاشر الملإ ألم تكن الدماء مسفوكة فحقنها والسبل مخوفة فأمنها والأموال منتهبة فأحرزها وخصنها ألم تكن البلاد خرابا فعمرها وثغور المسلمين مهتضمة فحماها ونصرها فاذكروا آلاء الله عليكم بخلافته وتلافيه

كلمتكم بعد افتراقها بإمامته حتى أذهب الله عنكم غيظكم وشفى صدوركم وصرتم يدا على عدوكم بعد أن كان بأسكم بينكم ناشدتكم الله ألم تكن خلافته قفل الفتنة بعد انطلاقها من عقالها ألم يتلاف صلاح الأمور بنفسه بعد اضطراب أحوالها ولم يكل ذلك إلى القواد والأجناد حتى باشره بالقوة والمهجة والأولاد والنسوان واعتزل النسان وهجر الأوطان ورفض الدعة وهي محبوبة وترك الركون إلى الراحة وهي مطلوبة بطوية صحيحة وعزيمة صريحة وبصيرة ثابتة نافذة ثاقبة وريح هابة غالبة ونصرة من الله واقعة واجبة وسلطان قاهر وجد ظاهر وسيف منصور تحت عدل مشهور متحملا للنصب مستقلا لما ناله في جانب الله من التعب حتى لانت الأحوال بعد شدتها وانكسرت شوكة الفتنةعند حدتها ولم يبق لها غارب إلا جبة ولا نجم لأهلها قرن إلا جذه فأصبحتم بنعمة الله إخوانا وبلم أمير المؤمنين لشعثكم على أعدائه أعوانا حتى تواترت لديكم الفتوحات وفتح الله عليكم بخلافته أبواب الخيرات والبركات وصارت وفود الروم وافدة عليه وعليكم وآمال الأقصين والأدنين مستخدمة إليه وإليكم يأتون من كل فج عميق وبلد سحيق لأخذ حبل بينه وبينكم جملة وتفصيلا ليقضي الله أمرا كان مفعولا ولن يخلف الله وعده ولهذا الأمر ما بعده وتلك أسباب طاهرة بادية تدل على أمور باطنة خافية دليلها قائم وجفنها غير نائم ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ) الآية النور 55 وليس في

ولكل نبإ مستقر ولكل أجل كتاب فاحمدوا الله أيها الناس على آلائه واسألوه المزيد من نعمائه فقد أصبحتم بيمن خلافة أمير المؤمنين أيده الله بالعصمة والسداد وألهمه بخالص التوفيق إلى سبيل الرشاد أحسن الناس حالا وأنعمهم بالا وأعزهم قرارا وأمنعهم دارا وأكثفهم جمعا وأجملهم صنعا لا تهاجون ولا تذادون وأنتم بحمد الله على أعدائكم ظاهرون فاستعينوا على صلاح أحوالكم بالمناصحة لإمامكم والتزام الطاعة لخليفتكم وابن عم نبيكم فإن من نزع يدا من الطاعة وسعى في تفريق الجماعة ومرق من الدين فقد خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين وقد علمتم أن في التعلق بعصمتها والتمسك بعروتها حفظ الأموال وحقن الدماء وصلاح الخاصة والدهماء وأن بقوام الطاعة تقام الحدود وتوفى العهود وبها وصلت الأرحام ووضحت الأحكام وبها سد الله الخلل وأمن السبل ووطأ الأكناف ورفع الاختلاف وبها طاب لكم القرار واطمأنت بكم الدار فاعتصموا بما أمركم الله بالاعتصام به فإنه تبارك وتعالى يقول ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) الآية النساء 59 وقد علمتم ما أحاط بكم في جزيرتكم هذه من ضروب المشركين وصنوف الملحدين الساعين في شق عصاكم وتفريق ملاكم الآخذين في مخاذلة دينكم وهتك حريمكم وتوهين دعوة نبيكم صلوات الله وسلامه عليه وعلى جميع النبيين والمرسلين أقول قولي هذا وأختم بالحمد لله

ترجمة منذر بن سعيد البلوطي عن المغرب
وساق ابن سعيد في المغرب هذه الحكاية فقال ما صورته منذر بن سعيد البلوطي قاضي الجماعة بقرطبة خطيب مصقع وله كتب مؤلفة في القرآن والسنة والورع والرد على أهل الأهواء والبدع شاعر بليغ ولد سنة خمس وستين ومائتين وأول سببه في التعلق بعبد الرحمن الناصر لما احتفل لدخول رسول ملك الروم صاحب قسطنطينية بقصر قرطبة الاحتفال الذي اشتهر ذكره أحب أن يقوم الخطباء والشعراء بين يديه لذكر جلالة مقعده ووصف ما تهيأ له من توطيد الخلافة ورمي ملوك الأمم بسهام بأسه ونجدته وتقدم إلى الأمير الحكم ابنه وولي عهده بإعداد من يقوم لذلك من الخطباء ويقدمه أمام إنشاد الشعراء فتقدم الحكم إلى أبي علي البغدادي ضيف الخليفة وأمير الكلام وبحر اللغة أن يقوم فقام وحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه محمد ثم انقطع وبهت فما وصل ولا قطع ووقف ساكتا مفكرا فلما رأى ذلك منذر بن سعيد قام قائما بدرجة من مرقاة أبي علي ووصل افتتاحه بكلام عجيب بهر العقو جزالة وملأ الأسماع جلالة ثم ذكر الخطبة كما سبق وقال بعد إيرادها ما صورته فصلب العلج وغلب على قلبه وقال هذا كبير القوم أو كبش القوم وخرج الناس يتحدثون عن حسن مقامه وثبات جنانه وبلاغة لسانه وكان الناصر أشهدهم تعجبا منه وأقبل على ابنه الحكم ولم يكن يثبت معرفته فسأله عنه فقال له هذا منذر بن سعيد البلوطي فقال والله لقد احسن ما شاء ولئن أخرني الله بعد لأرفعن من ذكره فضع يدك يا حكم عليه واستخلصه وذكرني بشأنه فما للصنيعة

الجامع بالزهراء ثم توفي محمد بن عيسى القاضي فولاه قضاء الجماعة بقرطبة وأقره على الصلاة بالزهراء
ومن شعره في هذه الواقعة
( مقال كحد السيف وسط المحافل ... فرقت به ما بين حق وباطل )
( بقلب ذكي ترتمي جنباته ... كبارق رعد عند رعش الأنامل )
( فما دحضت رجلي ولا زل مقولي ... ولا طاش عقلي يوم تلك الزلازل )
( وقد حدقت حولي عيون إخالها ... كمثل سهام أثبتت في المقاتل )
( لخير إمام كان أو هو كائن ... لمقتبل أو في العصور الأوائل )
( ترى الناس أفواجا يؤمون بابه ... وكلهم ما بين راج وآمل )
( وفود ملوك الروم وسط فنائه ... مخافة بأس أو رجاء لنائل )
( فعش سالما أقصى حياة مؤملا ... فأنت غياث كل حاف وناعل )
( ستملكها ما بين شرق ومغرب ... إلى درب قسطنطين أو أرض بابل )
انتهى كلام ابن سعيد وهو يؤيد كلام ابن خلدون أن المأمور بالخطبة هو القالي
وذكر أن الناصر قال لابنه الحكم بعد أن سأله عنه لقد أحسن ما شاء فلئن كان حبر خطبته هذه وأعدها مخافة

لبديع من قدرته واحتياطه ولئن كان أتى بها على البديهة لوقته فإنه لأعجب وأغرب
قال ابن سعيد ولما فرغ منذر من خطبته أنشد
( هذا المقام الذي ما عابه فند ... لكن قائله أزرى به البلد )
( لو كنت فيهم غريبا كنت مطرفا ... لكنني منهم فاغتالني النكد )
ويروى بدل هذا الشطر
( ولا دهاني لهم بغي ولا حسد ... )
( لولا الخلافة أبقى الله حرمتها ... ما كنت أرضى بأرض ما بها أحد )
قلت كأنه عرض بأبي علي القالي وتقديمهم إياه في هذا المقام والله أعلم
ومن نظم منذر بن سعيد قوله
( الموت حوض وكلنا نرد ... لم ينج مما يخافه أحد )
( فلا تكن مغرما برزق غد ... فلست تدري بما يجيء غد )
( وخذ من الدهر ما أتاك به ... ويسلم الروح منك والجسد )
( والخير والشر لا تذعه فما ... في الناس إلا التشنيع والحسد )
وله وقد آذاه شخص فخاطبه بالكنية فقيل له أيؤذيك وأنت تخاطبه بالكنية فقال
( لا تعجبوا من أنني كنيته ... من بعد ما قد سبنا وأذانا )
( فالله قد كنى أبا

ترجمة منذر في المطمح
وقال في المطمح منذر بن سعيد البلوطي آية حركة وسكون وبركة لم تكن معدة ولا تكون وآية سفاهة في تحلم وجهامة ورع في طي تبسم إذا جد وجد وإذا هزل نزل وفي كلتا الحالتين لم ينزل للورع من مرقب ولا اكتسب إثما ولا احتقب ولي قضاء الجماعة بقرطبة أيام عبد الرحمن وناهيك من عدل أظهر ومن فضل أشهر ومن جور قبض ومن حق رفع ومن باطل خفض وكان مهيبا صليبا صارما غير جبان ولا عاجز ولا مراقب لأحد من خلق الله في استخارج حق ورفع ظلم واستمر في القضاء إلى أن مات الناصر لدين الله ثم ولي ابنه الحكم فأقره وفي خلافته استعفى مرارا فما أعفي وتوفي بعد ذلك لم يحفظ عنه مدة ولايته قضية جور ولا عدت عليه في حكومته زلة وكان غزير العلم كثير الأدب متكلما بالحق متبينا بالصدق له كتب مؤلفة في السنة والقرآن والورع والرد على أهل الأهواء والبدع وكان خطيبا بليغا وشاعرا محسنا ولد عند ولاية المنذر بن محمد وتوفي سنة 355 ومن شعره في الزهد قوله
( كم تصابى وقد علاك المشيب ... وتعامى عمدا وأنت اللبيب )
( كيف تلهو وقد أتاك نذير ... أن سيأتي الحمام منك قريب )
( يا سفيها قد حان منه رحيل ... بعد ذلك الرحيل يوم عصيب )
( إن للموت سكرة فارتقبها ... لا يداوي إذا أتتك

( بأمور المعاد أنت عليم ... فاعملن جاهدا له يا أريب )
( وتذكر يوما تحاسب فيه ... إن من يدكر فسوف ينيب )
( ليس من ساعة من الدهر إلا ... للمنايا بها عليك رقيب )
ولعلنا نذكر شيئا من أحوال منذر في غير هذا الموضع
رجع لأخبار الناصر لدين الله حكى أنه لما أعذر لأولاد ابنه أبي مروان عبيد الله اتخذ لذلك صنيعا عظيما بقصر الزهراء لم يتخلف أحد عنه من أهل مملكته وأمر أن ينذر لشهوده الفقهاء المشاورون ومن يليهم من العلماء والعدول ووجوه الناس فتخلف من بينهم المشاور أو إبراهيم وافتقد مكانه لارتفاع منزلته فسأل في ذلك الخليفة الناصر إذا أبو إبراهيم من أكابر علماء المالكية الذين عليهم المدار ووجد الناصر بسبب ذلك على أبي إبراهيم وأمر ابنه ولي العهد الحكم بالكتاب إليه والتفنيد له فكتب إليه الحكم رقعة نسختها بسم الله الرحمن الرحيم حفظك الله وتولاك وسددك ورعاك لما امتحن أمير المؤمنين مولاي وسيدي أبقاه الله الأولياء الذين يستعد بهم وجدك متقدما في الولاية متأخرا عن الصلة على أنه قد أنذرك أبقاه الله خصوصا للمشاركة في السرور الذي كان عنده لا أعدمه الله توالي المسرة ثم أنذرت من قبل إبلاغا في التكرمة فكان منك على ذلك كله من التخلف ما ضاقت عليك فيه المعذرة واستبلغ أمير المؤمنين في إنكاره ومعاتبتك عليه فأعيت عليك عنك الحجة فعرفني أكرمك الله ما العذر الذي أوجب توقفك عن إجابة دعوته ومشاهدة السرور الذي سر به ورغب المشاركة في ه لنعرفه أبقاه الله بذلك فتسكن نفسه العزيزة إليه إن شاء الله تعالى فأجابه أبو إبراهيم سلام على الأمير سيدي ورحمة الله قرأت أبقى

سيدي هذا الكتاب وفهمته ولم يكن توقفي لنفسي إنما كان لأمير المؤمنين سيدنا أبقى الله سلطانه لعلمي بمذهبه وسكوني إلى تقواه واقتفائه لأثر سلفه الطيب رضوان الله عليهم فإنهم يستبقون من هذه الطبقة بقية لا يمتهنوها بما يشينها ولا بما يغض منها ويطرق إلى تنقيصها يستعدون بها لدينهم ويتزينون بها عند رعاياهم ومن يفد عليهم من قصادهم فلهذا تخلفت ولعلمي بمذهبه توقفت إن شاء الله تعالى فلما أقرأ الحكم أباه الناصر لدين الله جواب أبي إبراهيم إسحاق أعجبه واستحسن اعتذاره وزال ما بنفسه عليه
وكان الفقيه أبو إبراهيم المذكور معظما عند الناصر وابنه الحكم وحق لهما أن يعظماه وقد حكى الفقيه أبو القاسم بن مفرج قال كنت أختلف إلى الفقيه أبي إبراهيم رحمه الله تعالى فيمن يختلف إليه للتفقه والرواية فإني لعنده في بعض الأيام في مجلسه بالمسجد المنسوب لأبي عثمان الذي كان يصلي به قرب داره بجوفي قصر قرطبة ومجلسه حافل بجماعة الطلبة وذلك بين الصلاتين إذ دخل عليه خصي من أصحاب الرسائل جاء من عند الخليفة الحكم فوقف وسلم وقال له يا فقيه أجب أمير المؤمنين أبقاه الله فإن الأمر خرج فيك وها هو اعفقال له سمعا وطاعة لأمير المؤمنين ولا عجلة فارجع إله وعرفه وفقه الله عني أنك وجدتني في بيت منبيوت الله تعالى معي طلاب العلم أسمعهم حديث ابن عمه رسول الله فهم يقيدونه عني وليس يمكنني ترك ما أنا فيه حتى يتم المجلس المعهود لهم في رضا الله وطاعته فذلك أوكد من مسيري إليه الساعة فإذا انقضى أمر من اجتمع إلي من هؤلاء المحتسبين في ذات الله الساعين لمرضاته مشيت إليه إن شاء الله

شأنه ومضى الخصي يهينم متضاجرا من توقفه فلم يك إلا ريثما أدى جوابه وانصرف سريعا ساكن الطيش فقال له يا فقيه أنهيت قولك على نصه إلى أمير المؤمنين أبقاه الله فأصغى إليه وهو يقول لك جزاك الله خيرا عن الدين وعن أمير المؤمنين وجماعة المسلمين وأمتعهم بك وإذا أنت أوعبت فامض إليه راشدا إن شاء الله تعالى وقد أمرت أن أبقى معك حتى ينقضي شغلك وتمضي معي فقال له حسن جميل ولكني أضعف عن المشي إلى باب السدة ويصعب علي ركب دابة لشيخوختي وضعف أعضائي وباب الصناعة الذي يقرب إلي من أبواب القصر المكرم أحوط وأقرب وأرفق بي فإن رأى أمير المؤمنين أيده الله تعالى أن يأمر بفتحه لأدخل إليه منه هون علي المشي وودع جسمي وأحب أن تعود وتنهي إليه ذلك عني حتى تعرف رأيه فيه وكذلك تعود إلي فإني أراك فتى سديدا فكن على الخير معينا ومضى عنه الفتى ثم رجع بعد حين وقال يا فقيه قد أجابك أمير المؤمنين إلى ما سألت وأمر بفتح باب الصناعة وانتظارك من قبله ومنه خرجت إليك وأمرت بملازمتك مذكرا بالنهوض عند فراغك وقال افعل راشدا وجلس الخصي جانبا حتى أكمل أو إبراهيم مجلسه كأفسح ما جرت به عادته غير منزعج ولا قلق فلما انفضضنا عنه قام إلى داره فأصلح من شأنه ثم مضى إلى الخليفة الحكم فوصل إليه من ذلك الباب وقضى حاجته من لقائه ثم صرفه على ذلك الباب فأعيد إفلاقه على إثر خروجه قال ابن مفرج ولقد تعمدنا في تلك العشية إثر قيامنا عن الشيخ أبي إبراهيم المرور بهذا الباب المعهدود إغلاقه بدبر القصر لنرى تجشم الخليفة له فوجدناه كما وصف الخص مفتوح وقد حفه الخدم والأعوان منزعجين ما بين

كناس وفراش متأهبين لانتظار أبي إبراهيم فاشتد عجبنا لذلك وطال تحدثنا عنه انتهى فهكذا تكون العلماء مع الملوك والملوك معهم قدس الله تلك الأرواح
ثم توفي الناصر لدين الله ثاني أو ثالث شهر رمضان من عام خمسين وثلاثمائة أعظم ما كان سلطانه وأعز ما كان الإسلام بملكه
قال ابن خلدون خلف الناصر في بيوت الأموال خمسة آلاف ألف ألف ألف ثلاث مرات انتهى
وقال غير واحد إنه كان يقسم الجباية أثلاثا ثلث للجند وثلث للبناء وثلث مدخر وكانت جباية الأندلس يومئذ من الكور والقرى خمسة آلاف ألف وأربعمائة ألف وثمانين ألف دينار ومن السوق والمستخلص سبعمائة ألف وخمسة وستين ألف دينار وأما أخماس الغنائم العظيمة فلا يحصيها ديوان
وحكي أنه وجد بخط الناصر رحمه الله أيام السرور التي صفت له دون تكدير يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا وعدت تلك الأيام فكانت أربعة عشر يوما فاعجب أيها العاقل لهذه الدنيا وعدم صفائها وبخلها بكمال الأحوال لأوليائها هذا الخليفة الناصر حلف السعود المضروب به المثل في الارتقاء في الدنيا والصعود ملكها خمسين سنة وستة أو سبعة أشهر وثلاثة أيام ولم تصف إلا أربعة عشر يوما فسبحان ذي العزة القائمة والمملكة الدائمة لا إله إلا هو
ومما ينسب للناصر من الشعر

( ما كل شيء فقدت إلا ... عوضني الله منه شيا )
( إني إذا ما منعت خيري ... تباعد الخير من يديا )
( من كان لي نعمة عليه ... فإنها نعمة عليا )
ترجمة أحمد بن عبد الملك بن شهيد
ومما زين الله به دولة الناصر وزراؤه الذين من جملتهم ابن شهيد قال في المطمح أحمد بن عبد الملك بن عمر بن شهيد مفخر الإمامة وزهر تلك الكمامة وحاجب الناصر عبد الرحمن وحامل الوزارتين على سموهما في ذلك الزمان استقل بالوزارة على ثقلها وتصرف فيها كيف شاء على حد نظرها والتفاف مقلها فظهر على أولئك الوزراء واشتهر مع كثرة النظراء وكانت إمارة عبد الرحمن أسعد إمارة بعد عنها كل نفس بالسوء أمارة فلم يطرقها صرف ولم يرمقها محذور بطرف ففرع الناس فيها هضاب الأماني ورباها ورتعت ظباؤها في ظلال ظباها وهو أسد على براثنه رابض وبطل أبدا على قائم سيفه قابض يروع الروم طيفه ويجوس خلال تلك الديار خوفه ويروى بل يحسم كل آونة سيفه وابن شهيد ينتج الآراء ويلقحها وينقد تلك الأنحاء وينقحها والدولة مشتملة بغنائه متجملة بسنائه وكرمه منتشر على الآمال ويكسو الأولياء بذلك الإجمال وكان له أدب تزخر لججه وتبهر حججه وشعره رقيق لا ينقد ويكاد من اللطافة يعقد فمن ذلك قوله
( ترى البدر منها طالعا فكأنما

( بعيدة مهوى القرط مخطفة الحشا ... ومفعمة الخلخال مفعمة القلب )
( من اللاء لم يرحلن فوق رواحل ... ولا سرن يوما في ركاب ولا ركب )
( ولا أبرزتهن المدام لنشوة وشدو كما تشدو القيان على الشرب )
وكان بينه وبين الوزير عبد الملك بن جهور متولي الأمر معه ومشاركه في التدبير إذا حضر مجتمعه منافسة لم تنفصل لهما بها مداخلة ولا ملابسة وكلاهما يتربص بصاحبه دائرة السوء وبغص به غصص الأفق بالنوء فاجتاز يوما على ربضه ومال إلى زيارته ولم تكن من غرضه فلما استأمر عليه تأخر خروج الإذن إليه فثنى عنانه حنقا من حجابه وضجرا من حجابه وكتب إليه معرضا وكان يلقب بالحمار
( أتيناك لا عن حاجة عرضت لنا ... إليك ولا قلب إليك مشوق )
( ولكننا زرنا بفضل حلومنا ... حمارا تولى برنا بعقوق )
فراجعه ابن جهور يغض منه بما كان يشيع عنه بأن جده أبا هشام كان بيطارا بالشام بقوله
( حجبناك لما زرتنا غير تائق ... بقلب عدو في ثياب صديق )
( وما كان بيطار الشآم بموضع ... يباشر فيه برنا بخليق
ومن شعره قوله يتغزل
( حلفت بمن رمى فأصاب قلبي ... وقلبه علىجمر الصدود )
( لقد أودى تذكره بقلبي ... ولست أشك أن النفس تودي

( فقيد وهو موجود بقلبي ... فواعجبا لموجود فقيد )
وقد تقدم الكلام على هدية ابن شهيد وبعض أخباره رحمة الله عليه
الحكم المستنصر
ولما توفي الناصر لدين الله تولى الخلافة بعده ولي عهده الحكم المستنصر بالله فجرى على رسمه ولم يفقد من ترتيبه إلا شخصه وولي حجابته جعفر المصحفي وأهدى له يوم ولايته هدية كان فيها من الأصناف ما ذكره ابن حيان في المقتبس وهي مائة مملوك من الإفرنج ناشئة على خيول صافنة كاملو الشكة والأسلحة من السيوف والرماح والدرق والتراس والقلانس الهندية وثلاثمائة ونيف وعشرون درعا مختلفة الأجناس وثلاثمائة خوذة كذلك ومائة بيضة هندية وخمسون خوذة خشبية من بيضات الفرنجة من غير الخشب يسمونها الطشطانة وثلاثمائة حربة إفرنجية ومائة ترس سلطانية وعشرة جواشن فضة مذهبة وخمسة وعشرون قرنا مذهبة من قرون الجاموس انتهى
قال ابن خلدون ولأول وفاة الناصر طمع الجلالقة في الثغور فغزا الحكم المستنصر بنفسه واقتحم بلد فرذلند بن غندشلب

وفتحها عنوة واستباحها وقفل فبادروا إلى عقد السلم معه وانقبضوا عما كانوا فيه ثم أغزى غالبا مولاه بلاد جليقية وسار إلى مدينة سالم لدخول دار الحرب فجمع له الجلالقة ولقيهم فهزمهم واستباحهم وأوطأ العساكر بلد فرذلند ودوخها وكان شانجة بن رذمير ملك البشكنس قد انتقض فأغزاه الحكم التجيبي صاحب سرقسطة في العساكر وجاء ملك الجلالقة لنصره فهزمهم وامتنعوا بقورية وعاثوا في نواحيها وقفل ثم أغزى الحكم أحمد بن يعلى ويحيى بن محمد التجيبي إلى بلاد برشلونة فعاثت العساكر في نواحيها وأغزى هذيل بن هاشم ومولاه غالبا إلى بلاد القومس فعاثا فيها وقفلا وعظمت فتوحات الحكم وقواد الثغور في كل ناحية وكان من أعظمها فتح قلهرة من بلاد البشكنس علىيد غالب فعمرها الحكم واعتنى بها ثم فتح ق طوبية على يد قائد وشقة وغنم فيها من الأموال والسلاح والأقوات والأثاث وفي بسيطها من الغنم والبقر والرمك والأطعمة والسبي ما لايحصى
وفي سنة أربع وخمسين سار غالب إلى بلد ألبة ومعه يحيى بن محمد ا لتجيبي وقاسم بن مطرف بن ذي النون فابتنى حصن غرماج ودوخ بلادهم وانصرف
وظهرت في هذه السنة مراكب المجوس في البحر الكبير وأفسدوا

القواد لاحتراس السواحل وأمر قائد البحر عبد الرحمن بن رماحس بتعجيل حركة الأسطول ثم وردت الاخبار بأن العساكر نالت منهم في كل جهة من السواحل
ثم كانت وفادة أردون بن أذفونش ملك الجلالقة وذلك أن الناصر لما أعان عليه شانجة بن رذمير وهو ابن عمه وهو الملك من قبل أردون وحمل النصرانية على طاعته واستظهر أردون بصهره فرذلند قومس قشتيلة توقع مظاهرة الحكم لشانجة كما ظاهره أبوه الناصر فبادر إلى الوفادة على الحكم مشتجيرا به فاحتفل لقدومه وعبى العساكر ليوم وفادته وكان يوما مشهودا وصفه ابن حيان كما وصف أيام الوفادات قبله ووصل إلى الحكم وأجلسه ووعده بالنصر من عدوه وخلع عليه وكتب بوصوله ملقيا بنفسه وعاقده على موالاة الإسلام ومقاطعة فرذلند القومس وأعطى على ذلك صفقة يمينه ورهن ولده غرسية ودفعت الصلات والحملان له ولأصحابه وانصرف معه وجوه نصارى الذمة ليوطدوا له الطاعة عند رعيته ويقبضوا رهنه
وعند ذلك بعث ابن عمه شانجة بن رذمير ببيعته وطاعته مع قواميس أهل جليقية وسمورة وأساقفتهم يرغب في قبوله ويمت بما فعل ابوه الناصر معه فتقبل بيعتهم على شروط شرطها كان منها هدم الحصون والأبراج القريبة من ثغور المسلمين
ثم بعث ملكا برشلونة وطركونة وغيرهما يسألان تجديد الصلح وإقرارهما على ما كانا عليه وبعثا بهدية وهي عشرون صبيا من الخصيان الصقالبة وعشرون قنطارا من صوف السمور وهمسة قناطير من القصدير وعشرة أدراع صقلبية

الحصون التي تضر بالثغور وأن لا يظاهروا عليه أهل ملتهم وأن ينذروا بما يكون من النصارى في الإجلاب على المسلمين
ثم وصلت رسل غرسية بن شانجة مك البشكنس في جماعة من الأساقفة والقواميس يسألون الصلح بعد أن كان توقف وأظهر المكر فقعد لهم الحكم فاغتبطوا ورجعوا
ثم وفدت على الحكم أم لذريق بن بلاشك القومس بالغرب من جليقية وهو القومس الأكبر فأخرج الحكم لتلقيها أهل دولته واحتفل لقدومها في يوم مشهود مشهور فوصلت وأسعفت وعقد السلم لابنها كما رغبت ودفع لها مالا تقسمه بين وفدها دون ما وصلت به هي وحملت على بغلة فارهة بسرج ولجام مثقلين بالذهب وملحفة ديباج ثم عاودت مجلس الحكم للوداع فعاودها بالصلات لسفرها وانطلقت
ثم أوطأ عساكره ارض العدوة من المغرب الأقصى والأوسط وتلقى دعوته ملوك زناتة من مغراوة ومكناسة فبثوها في أعمالهم وخطبوا بها على منابرهم وزاحموا بها دعوة الشيعة فيما بينهم ووفد عليه من بني خزر وبنى أبي العافية فأجزل صلتهم وأكرم وفادتهم وأحسن منصرفهم واستنزل بني إدريس من ملكهم بالعدوة في ناحية الريف وأجازهم البحر إلى قرطبة ثم جلاهم إلى الإسكندرية
وكان محبا للعلوم مكرما لأهلها جماعا للكتب في أنواعها بما لم يجمعه أحد من الملوك قبله قال أبو محمد بن حزم أخبرني تليد الخصي وكان على خزانة العلوم والكتب بدار بني مروان أن عدد الفهارس التي فيها تسمية الكتب أربع وأربعون فهرسة وفي كل فهرسة

إلا ذكر أسماء الدواوين لا غير وأقام للعلم والعلماء سوقا نافقة جلبت إليها بضائعه من كل قطر ووفد على أبيه أبو علي القالي صاحب كتاب الأمالي من بغداد فأكرم مثواه وحسنت منزلته عنده وأورث أهل الأندلس علمه واختص بالحكم المستنصر واستفاد علمه وكن يبعث في الكتب إلى الأقطار رجالا من التجار ويرسل إليهم الأموال لشرائها حتى جلب منها إلى الأندلس ما لميعهدوه وبعث في كتاب الأغاني إلى مصنفه أبي الفرج الأصفهاني وكان نسبه في بني امية وأرسل إليه فيه بألف دينار من الذهب العين فبعث إليه بنسخة منه قبل أن يخرجه إلى العراق وكذلك فعل مع القاضي أبي بكر الأبهري المالكي في شرحه لمختصر ابن عبد الحكم وأمثال ذلك وجمع بداره الحذاق في صناعة النسخ والمهرة في الضبط والإجادة في التجليد فأوعى من ذلك كله واجتمعت بالأندلس خزائن من الكتب لم تكن لأحد من قبله ولا من بعده إلا ما يذكر عن الناصر العباسي بن المستضيء ولم تزل هذه الكتب بقصر قرطبة إلى أن بيع أكثرها في حصار البربر وأمر بإخراجها وبيعها الحاجب واضح من موالي المنصور بن أبي عامر ونهب ما بقي منها عند دخول البربر قرطبة واقتحامهم إياها عنوى انتهى كلام ابن خلدون ببعض اختصار
ولنبسط الكلام على الحكم فنقول إن الحكم المستنصر اعتلى سرير الملك ثاني يوم وفاة أبيه يوم الخميس وقام بأعباء الملك أتم قيام وأنفذ الكتب إلى الآفاق بتمام الأمر له ودعا الناس إلى بيعته واستقبل من يومه النظر في تمهيد سلطانه وتثقيف مملكته وضبط قصوره وترتيب أجناده وأول ما أخذ

البيعة على صقالبة قصره الفتيان المعروفين بالخلفاء الأكابر كجعفر صاحب الخيل والطراز وغيره من عظمائهم وتكفلوا بأخذها على من وراءهم وتحت أيديهم من طبقتهم وغيرهم وأوصل إلى نفسه في الليل دون هؤلاء الاكابر من الكتاب والوصفاء والمقدمين والعرفاء فبايعوه فلما كملت بيعةأهل القصر تقدم إلى عظيم دولته جعفر بن عثمان بالنهوض إلى أخيه شقيقه أبي مروان عبيد الله المتخلف بأن يلزمه الحضور للبيعة دون معذرة وتقدم إلى موسى بن أحمد بن حدير بالنهوض أيضا إلى أبي الأصبغ عبد العزيز شقيقه الثاني فمضى إليهما كل واحد منهما في قطيع من الجند وأتيا بهما إلى قصر مدينة الزهراء ونفذ غيرهما من وجوه الرجال في الخيل لإتيان غيرهما من الإخوة وكانوا يومئذ ثمانية فوافى جميعهم الزهراء في الليل فنزلوا في مراتبهم بفصلان دار الملك وقعدوا في المجلسين الشرقي والغربي وقعد المستنصر بالله على سرير الملك في البهو الأوسط من الأبهاء المذهبة القبلية التي في السطح الممرد فأول من وصل إليه الإخوة فبايعوه وأنصتوا لصحيفة البيعة والتزموا الأيمان المنصوصة بكل ما انعقد فيها ثم بايع بعدهم الوزراء وأولادهم وإخوتهم ثم أصحاب الشرطة وطبقات أهل الخدمة وقعد الإخوة والوزراء والوجوه عن يمينه وشماله إلا عيسى بن فطيس فإنه كان قائما يأخذ البيعة على الناس وقام الترتيب على الرسم في مجالس الاحتفال المعروفة فاصطف في المجلس الذي قعد فيه أكابر الفتيان يمينا وشمالا إلى آخر البهوكل منهم على قدره في المنزلة عليهم الظهائر البيض شعار الحزن قد تقلدوا فوقها السيوف ثم تلاهم الفتيان الوصفاء عليهم الدروع السابغة والسيوف الحالية صفين منتظمين في السطح وفي الفصلان المتصلة به ذوو الأسنان من الفتيان الصقالبة الخصيان لابسين البياض بأيديهم السيوف يتصل بهم من دونهم من طبقات

الخصيان الصقالبة ثم تلاهم الرماة متنكبين قسيهم وجعابهم ثم وصلت صفوف هؤلاء الخصيان الصقالبة صفوف العبيد الفحول شاكين في الأسلحة الرائقة والعدة الكاملة وقامت التعبية في دار الجند والترتيب من رجاله العبيد عليهم الجواشن والأقبية البيض وعلى رؤوسهم البيضات الصقيلة وبأيديهم التراس الملونة والأسلحة المزينة انتظموا صفين إلى آخر الفصل وعلى باب السدة الأعظم البوابون وأعوانهم ومن خارج باب السدة فرسان العبيد إلى باب الأقباء واتصل بهم فرسان الحشم وطبقات الجند والعبيد والرماة موكبا إثر موكب إلى باب المدينة الشارع إلى الصحراء فلما تمت البيعة أذن للناس بالانفضاض إلا الإخوة والوزرء وأهل الخدمة فإنهم مكثوا بقصر الزهراء إلى أن احتمل جسد الناصر رحمه الله إلى قصر قرطبة للدفن هنالك في تربة الخلفاء
وفي ذي الحجة من سنة خمسين تكاثرت الوفود بباب الخليفة الحكم من البلاد للبيعة والتماس المطالب من أهل طليطلة وغيرها من قواعد الأندلس وأصقاعها فتوصلوا إلى مجلس الخليفة بمحضر جميع الوزراء والقاضي منذر ابن سعيد والملأ فأخذت عليهم البيعة ووقعت الشهادات في نسخها
وفود أردون على المستنصر
وفي آخر صفر من سنة إحدى وخمسين أخرج الخليفة الحكم المستنصر بالله مولييه محمدا وزيادا ابني أفلح الناصري بكتيبة من الحشم لتلقي غالب الناصري صاحب مدينة سالم المورد للطاغية أردون بن أذفونش الخبيث في الدولة المتملك على طوائف من أمم الجلالقة والمنازع لابن عمه المملك قبله شانجة بن رذمير وتبرع هذا

طالب إذن ولا مستظهر بعهد وذلك عندما بلغه اعتزام الحكم المستنصر بالله في عامه ذلك على الغزو إليه وأخذه في التأهب له فاحتال في تأميل المستنصر بالله والارتماء عليه وخرج قبل أمان يعقد له أو ذمة تعصمه في عشرين رجلا من وجوه أصحابه تكنفهم غالب الناصري الذي خرجوا إليه فجاء به نحو مولاه الحكم وتلقاهم ابنا أفلح بالجيش المذكور فأنزلاهم ثم تحركا بهم ثاني يوم نزولهم إلى قرطبة فأخرج المستنصر بالله إليهم هشاما المصحفي في جيش عظيم كامل التعبية وتقدموا إلى باب قرطبة فمروا بباب قصرها فلما انتهى أردون إلى ما بين باب السدة وباب الجنان سأل عن مكان رمس الناصر لدين الله فأشير إلى ما يوازي موضعه من داخل القصر في الروضة فخلع قلنسوته وخضع نحو مكان القبر ودعا ثم رد قلنسوته إلى رأسه وأمر المستنصر بإنزال أردون في دار الناعورة وقد كان تقدم في فرشها بضروب الغطاء والوطاء وانتهى من ذلك إلى الغابة وتوسع له في الكرامة ولأصحابه فأقام بها الخميس والجمعة فلما كان يوم السبت تقدم المستنصر بالله باستدعاء أردون ومن معه بعد إقامة الترتيب وتعبية الجيوش والاحتفال في ذلك من العدد والأسلحة والزينة وقعد المستنصر بالله على سرير الملك في المجلس الشرقي من مجالس السطح وقعد الإخوة وبنوهم والوزراء ونظراؤهم صفا في المجلس فيهم القاضي منذر بن سعيد والحكام والفقهاء فأتى محمد بن القاسم بن طملس بالملك أردون وأصحابه وعالي لبوسه ثوب ديباجي رومي أبيض وبليوال من جنسه وفي لونه وعلى رأسه قلنسوة رومية

بجوهر وقد حفته جماعة من نصارى وجوه الذمة بالأندلس يؤنسونه ويبصرونه فيهم وليد بن خيزران قاضي النصارى بقرطبة وعبيد الله بن قاسم مطران طليطلة وغيرهما فدخل بين صفي الترتيب يقلب الطرف في نظم الصفوف ويجيل الفكر في كثرتها وتظاهر أسحلتها ورائق حليتها فراعهم ما أبصروه وصلبوا على وجوههم وتأملوا ناكسي رؤوسهم غاضين من أجفانهم قد سكرت أبصارهم حتى وصلوا إلى باب الأقباء أول باب قصر الزهراء فترجل جميع من كان خرج إلى لقائه وتقدم الملك أردون وخاصة قوامسه على دوابهم حتى انتهوا إلى باب السدة فأمر القوامس بالترجل هنالك والمشي على الأقدام فترجلوا ودخل الملك أردون وحده راكبا مع محمد بن طملس فأنزل في برطل البهو الأوسط من الأبهاء القبلية التي بدار الجند على كرسي مرتفع مكسوالأوصال بالفضة وفي هذا المكان بعينه نزل قبله عدوه ومناوئه شانجة بن رذمير الوافد على الناصر لدين الله رحمه الله تعالى فقعد أردون على الكرسي وقعد أصحابه بين يديه وخرج الإذن لأردون الملك من المستنصر بالله بالدخول عليه فتقدم يمشي وأصحابه يتبعونه إلى أن وصل إلى السطح فلما قابل المجلس الشرقي الذي فيه المستنصر بالله وقف وكشف رأسه وخلع برنسه وبقي حاسرا إعظاما لما بان له من الدنو إلى السرير واستنهض فمضي بين الصفين المرتبين في ساحة السطح إلى أن قطع السطح وانتهى إلى باب

خر ساجدا سويعة ثم استوى قائما ثم نهض خطوات وعاد إلى السجود ووالى ذلك مرارا إلى أن قدم بين يدي الخليفة واهوى إلى يده فناوله إياها وكر راكعا مقهقرا على عقبه إلى وساد ديباج مثقل بالذهب جعل له هنالك ووضع على قدر عشرة أذرع من السرير فجلس عليه والبهر قد علاه وأنهض خلفه من استدنى من قوامسه وأتباعه فدنوا ممتثلين في تكرير الخنوع وناولهم الخليفة يده فقبلوها وانصرفوا مقهقرين فوقفوا على رأس ملكهم ووصل بوصولهم وليد بن خيزران قاضي النصارى بقرطبة فكان الترجمان عن الملك أردون ذلك اليوم فأطرق الحكم عن تكليم الملك أردون إثر قعوده أمامه وقتا كيما يفرخ روعة فلما رأى أن قد خفض عليه افتتح تكليمه فقال ليسرك إقبالك ويغبطك تأميلك فلدينا لك من حسن رأينا ورحب قبولنا فوق ما قد طلبته فلما ترجم له كلامه إياه تطلق وجه أردون وانحط عن مترتبته فقبل البساط وقال أنا عبد أمير المؤمنين مولاي المتروك على فضله القاصد إلى مجده المحكم في نفسه ورجاله فحيث وضعني من فضله وعوضني من خدمته رجوت أن أتقدم فيه بينة صادقة ونصيحة خالصة فقال له الخليفة أنت عندنا بمحل من يستحق حسن رأينا وسينالك من تقديمنا لك وتفضيلنا إياك على أهل ملتك ما يغبطك وتتعرف به فضل جنوحك إلينا واستظلالك بظل سلطاننا فعاد أردون إلى السجود عند فهمه مقالة الخليفة وابتهل داعيا وقال إن شانجة ابن عمي تقدم إلى الخليفة الماضي مستجيرا به مني فكان من إعزازه إياه ما بكون من مثله من أعاظم الملوك وأكارم الخلفاء لمن قصدهم وأملهم وكان قصده قصد مضطر قد شنأته رعيته وأنكرت سيرته واختارتني لمكانه من غير سعي مني علم الله ذلك ولا دعاء إليه فخلعته وأخرجته عن ملكه مضطرا مضطهدا فتطول عليه رحمه الله

وقوي سلطانه وأعز نصره ومع ذلك فلم يقم بفرض النعمة التي أسديت إليه وقصر في أداء المفروض عليه وحقه وحق مولاي أمير المؤمنين من بعده وأنا قد قصدت باب أمير المؤمنين لغير ضرورة من قرارة سلطاني وموضع أحكامي محكما له في نفسي ورجالي ومعاقلي ومن تحويه من رعيتي فشتان ما بيننا بقوة الثقة ومطرح الهمة فقال الخليفة قد سمعنا قولك وفهمنا مغزاك وسوف يظهر من إقراضنا إياك على الخصوصية شأنه ويترادف من إحساننا إليك أضعاف ما كان من أبينا رضي الله تعالى عنه إلى ندك وإن كان له فضل التقدم بالجنوح إلينا والقصد إلى سلطاننا فليس ذلك مما يؤخرك عنه ولا ينقصك مما أنلناك وسنصرفك مغبوطا إلى بلدك ونشد أواخي ملكك ونملكك جميع من انحاش إليك من أمتك ونعقد لك بذلك كتابا يكون بيدك نقرر به حد ما بينك وبين ابن عمك ونقبضه عن كل ما يصرفه من البلاد إلى يدك وسيترادف عليك من إفضالنا فوق ما احتسبه والله على ما نقول وكيل
فكرر أردون الخضوع ت وأسهب في الشكر وقام للانصراف مقهقرا لا يولي الخليفة ظهره وقد تكنفه الفتيان فأخرجوه إلى المجلس الغربي في السطح وقد علاه البهر وأذهله الروع من هول ما باشره وجلالة ما عاينه من فخامة الخليفة وبهاء العزة فلما أن دخل المجلس ووقعت عينه على مقعد أمير المؤمنين خاليا منه انحط ساجدا إعظاما له ثم تقدم الفتيان به إلى البهو الذي بجوفي هذا المجلس فأجلسوه هنالك على وساد مثقل بالذهب وأقبل نحوه الحاجب جعفر فلما

فقبضها الحاجب عنه وانحنى إليه فعانقه وجلس معه فغبطه ووعده من إنجاز عدات الخليفة له بما ضاعف سروره ثم أمر الحاجب جعفر فصبت عليه الخلع التي أمر له بها الخليفة وكانت دراعة منسوجة بالذهب وبرنسا مثلها له لوزة مفرغة من خالص التبر مرصعة بالجوهر والياقوت ملأت عين العلج تجلة فخر ساجدا وأعلن بالدعاء ثم دعا الحاجب أصحابه رجلا رجلا فخلع عليهم على قدر استحقاقهم فكمل جميع ذلك بحسب ما يصلح لهم وخر جميعهم خانعين شاكرين ثم انطلق الملك أردون وأصحابه وقدم لركابه في أول البهو الأوسط فرس من عتاق خيل الركاب عليه سرج حلي ولجام حلي مفرغ وانصرف مع ابن طملس إلى قصر الرصافة مكان تضييفه وقد أعد له فيه كل ما يصلح لمثله من الآلة والفرش والماعون واستقر أصحابه فيما لا كفاء له من سعة التضييف وإرغاد المعاش
واستشعر الناس من مسرة هذا اليوم وعزة الإسلام فيه ما أفاضوا في التبجح به والتحدث عنه أياما وكانت للخطباء والشعراء بمجلس الخليفة في هذا اليوم مقامات حسان وإنشادات لأشعار محكمة متان يطول القول في اختيارها فمن ذلك قول عبد الملك بن سعيد المرادي من قصيدة حيث يقول
( ملك الخليفة آية الإقبال ... وسعوده موصولة بتوالي )
( والمسلمون بعزة وبرفعة ... والمشركون بذلة وسفال )
( ألقت بأيديها الأعاجم نحوه ... متوقعين لصولة الرئبال )
( هذا أميرهم أتاه آخذا ... منه أواصر ذمة وحبال )
( متواضعا لجلاله متخشعا ... متبرعا لما يرع بقتال )
( سينال بالتأميل للملك الرضى ... عزا يعم عداه الإذلال )

( لا يوم أعظم للولاة مسرة ... وأشده غيظا على الإقيال )
( من يوم أردون الذي إقباله ... أمل المدى ونهاية الإقبال )
( ملك الأعاجم كلها ابن ملوكها ... والي الرعاة وللأعاجم والي )
( إن كان جاء ضرورة فلقد أتى ... عن عز مملكة وطوع رجال )
( فالحمد لله المنيل إمامنا ... حظ الملوك بقدره المتعالي )
( هو يوم حشر الناس إلا أنهم ... لم يسألوا فيه عن الأعمال )
( أضحى الفضاء مفعما بجيوشه ... والأفق أقتم أغبر السربال )
( لا يهتدي الساري لليل قتامة ... إلا بضوء صوارم وعوالي )
( وكأن أجسام الكماة تسربلت ... مذ عريت عنه جسوم صلال )
( وكأنما العقبان عقبان الفلا ... منقضة لتخطف الضلال )
( وكأن منتصب القنا مهتزة ... أشطان نازحة بعيدة جال )
( وكأنما قبل التجافيف اكتست ... نارا توهجها بلا إشعال )
عود إلى سيرة الحكم
وقال بعض المؤرخين في حق الحكم المستنصر عن فتاه تليد صاحب خزانته العلمية فيما حدث عنه الحافظ أبو محمد بن حزم إن عدة الفهارس التي فيها تسمية الكتب أربع وأربعون فهرسة في كل فهرسة عشرون ورقة ليس فيها إلا ذكر الدواوين فقط انتهى وقد قدمناه عن ابن خلدون ونقله ابن الأبار في التكملة
وقال بعض المؤرخين في حق الحكم إنه كان حسن السيرة

عليه جمع من الكتب ما يحد ولا يوصف كثرة ونفاسة حتى قيل إنها كانت أربعمائة ألف مجلد وإنهم لما نقلوها أقاموا ستة أشهر في نقلها وكان عالما نبيها صافي السريرة وسمع من قاسم بن أصبغ وأحمد بن دحيم ومحمد ابن عبد السلام الخشني وزكريا بن خطاب وأكثر عنه وأجاز له ثابت بن قاسم وكتب عن خلق كثير سوى هؤلاء وكان يستجلب المصنفات من الأقاليم والنواحي باذلا فيها ما أمكن من الأموال حتى ضاقت عنها خزائنه وكان ذا غرام بها قد آثر ذلك على لذات الملوك فاستوسع علمه ودق نظره وجمت استفادته وكان في المعرفة بالرجال والأخبار والأنساب أحوذيا نسيج وحده وكان ثقة فيما ينقله بهذا وصفه ابن الأبار وبأضعافه وقال عجبا لابن الفرضي وابن بشكوال كيف لم يذكراه وقلما يوجد كتاب من خزائنه إلا وله فيه قراءة أو نظر في أي فن كان ويكتب فيه نسب المؤلف ومولده ووفاته ويأتي من بعد ذلك بغرائب لا تكاد توجد إلا عنده لعنايته بهذا الشأن
ومما ينسب إليه من النظم قوله
( إلى الله أشكو من شمائل مترف ... علي ظلوم لا يدين بما دنت )
( نأت عنه داري فاستزاد صدوده ... وإني على وجدي القديم كما كنت )
( ولو كنت أدري أن شوقي بالغ ... من الوجد ما بلغته لم أكن بنت )
وقوله
( عجبت وقد ودعتها كيف لم أمت ... وكيف انثنت بعد الوداع يدي معي )
( فيما مقلتي العبرى عليها

وتوفي رحمه الله تعالى بقصر قرطبة ثاني صفر سنة ست وستين وثلاثمائة لست عشرة سنة من خلافته وكان أصابه الفالج فلزم الفراش إلى أن هلك رحمه الله تعالى وكان قد شدد في إبطال الخمر في مملكته تشديدا عظيما
خلافة هشام بن الحكم وتسلط المنصور بن أبي عامر
وولي بعده ابنه هشام صغيرا سنة تسع سنين ولا ينافيه قول ابن خلدون قد ناهز الحلم وكان الحكم قد استوزر له محمد بن أبي عامر ونقله من خطة القضاء إلى وزارته وفوض إليه أموره فاستقل
قال ابن خلدون وترقب حال ابن أبي عامر عند الحكم فلما توفي الحكم وبويع هشام ولقب المؤيد بعد أن قتل ليلتئذ المغيرة أخو الحكم المرشح لأمره تناول الفتك به محمد بن أبي عامر هذا بممالأة من جعفر بن عثمان المصحفي حاجب أبيه وغالب مولىالحكم مدينة سالم ومن خصيان القصر يومئذ ورؤسائهم فائق وجؤذر فقتل ابن أبي عامر المغيرة بممالأة من ذكر وتمت البيعة لهشام ثم سما لابن لأبي عامر أمل في التغلب على هشام لمكانه في السن وثاب له رأي في الاستبداد فمكر بأهل الدولة وضرب بين رجالها وقتل بعضا ببعض وكان من رجال اليمنية من معافر دخل جده عبد الملك مع طارق وكان عظيما في قومه وكان له في الفتح أثر وعظم ابن أبي عامر هذا وغلب على المؤيد ومنع الوزراء من الوصول إليه إلا في في النادر من الأيام يسلمون وينصرفون وأرضخ للجند في العطاء وأعلى مراتب العلماء وقمع أهل البدع وكان ذا عقل ورأي وشجاعة وبصر بالحروب ودين متين ثم تجرد لرؤساء الدولة ممن عانده وزاحمه فمال عليهم

مراتبهم وقتل بعضا ببعض كل ذلك عن أمر هشام وخطه وتوقيعه حتى استأصلهم وفرق جموعهم وأول ما بدأ بالصقالبة الخصيان الخدام بالقصر فحمل الحاجب المصحفي على نكبتهم فنكبهم وأخرجهم من القصر وكانوا ثمانمائة أو يزيدون ثم أصهر إلى غالب مولى الحكم وبالغ في خدمته والتنصح له واستعان به على المصحفي فنكبه ومحا أثره من الدولة ثم استعان على غالب بجعفر بن علي بن حمدون صاحب المسيلة وقائد الشيعة ممدوح ابن هانىء بالفائية المشهورة وغيرها وهو النازع إلى الحكم أول الدولة بمن كان معه من زناته والبربر ثم قتل جعفرا بممالأة ابن عبد الودود وابن جهور وابن ذي النون وأمثالهم من أولياء الدولة من العرب وغيرهم ثم لما خلا الجو من أولياء الخلافة والمرشحين للرياسة رجع إلى الجند فاستدعى أهل العدوة من رجال زناتة والبرابرة فرتب منهم جندا واصطنع أولياء وعرف عرفاء من صنهاجة ومغراوة وبني يفرن وبني برزال ومكناسة وغيرهم فتغلب على هشام وحجره واستولى على الدولة وملأ الدنيا وهو في جوف بيته من تعظيم الخلافة والخضوع لها ورد الأمور إليها وترديد الغزو والجهاد وقدم رجال البرابرة وزناتة وأخر رجال العرب وأسقطهم عن مراتبهم فتم له ما أراد من الاستقلال بالملك والاستبداد بالأمر وبنى لنفسه مدنة لنزله سماها الزاهرة ونقل إليها خزائن الأموال والأسلحة وقعد على سرير الملك وأمر أن يحيا بتحية الملوك وتسمى بالحاجب المنصور ونفذت الكتب والمخاطبات والأوامر باسمه وأمر بالدعاء له على المنابر باسمه عقب الدعاء للخليفة ومحا رسم الخلافة بالجملة ولم يبق لهشام المؤيد من رسوم الخلافة أكثر من الدعاء

المنابر وكتب اسمه في السكة والطرز وأغفل ديوانه مما سوى ذلك وجند البرابرة والمماليك واستكثر من العبيد والعلوج للاستيلاء على تلك الرتبة وقهر من تطاول إليها من العلية فظفر من ذلك بما أراد وردد الغزو بنفسه إلى دار الحرب فغزا ستا وخمسين غزوة في سائر أيام ملكه لم تنتكس له فيها راية ولا فل له جيش وما أصيب له بعث وما هلكت له سرية وأجاز عساكره إلى العدوة وضرب بين ملوك البرابرة وضرب بعضهم ببعض فاستوثق له ملك المغرب وأخبتت له ملوك زناتة وانقادوا لحكمه وأطاعوا سلطانه وأجاز ابنه عبد الملك إلى ملوك مغراوة بفاس من آل خزر ولما سخط زيري بن عطية ملكهم لما بلغه ما بلغه من إعلانه بالنيل منه والغض من منصبه والتأفف لحجر الخليفة هشام أوقع به عبد الملك سنة ست وثمانين ونزل بفاس وملكها وعقد لملوك زناتة على ممالك المغرب وأعماله من سجلماسة وغيرها وشرد زيري بن عطية إلى تاهرت فأبعد المفر وهلك في مفره ذلك ثم قفل عبد الملك إلى قرطبة واستعمل واضحا على المغرب وهلك المنصور أعظم ما كان ملكا وأشد استيلاء سنة أربع وتسعين وثلاثمائة بمدينة سالم منصرفة من بعض غزواته ودفن هنالك وذلك لسبع وعشرين سنة من ملكه انتهى كلام ابن خلدون وبعضه بالمعنى وزيادة يسيره
ولا بأس أن نزيد عليه فنقول مما حكي أنه مكتوب على قبر المنصور رحمه الله تعالى
( آثاره تنبيك عن أخباره ... حتى كأنك بالعيان تراه )
( تالله لا يأتي الزمان بمثله ... أبدا ولا يحمي الثغور سواه )
وعن شجاع مولى المستعين بن هود لما توجهت إلى

مدينة سالم وقد نصب على قبر المنصور بن أبي عامر سريره وامرأته متكئة إلى جانبه فقال لي يا شجاع أما تراني قد ملكت بلاد المسلمين وجلست على قبر ملكهم قال فحملتني الغيرة ان قلت له لو تنفس صاحب هذا القبر وأنت عليه ما سمع منك ما يكره سماعه ولا استقر بك قرار فهم بي فحالت امرأته بيني وبينه وقالت له صدقك فيما قال أيفخر مثلك بمثل هذا
وهذا تلخيص ترجمة المنصور من كلام ابن سعيد قال رحمه الله ترجمة الملك الأعظم المنصور أبي عامر محمد بن عبد الله بن عامر بن أبي عامر ابن الوليد بن يزيد بن عبد الملك المعافري من قرية تركش وعبد الملك جده هو الوافد على الأندلس مع طارق في أول الداخلين من العرب وأما المنصور فقد ذكره ابن حيان في كتابه المخصوص بالدولة العامرية والفتح في المطمح والحجاري في المسهب والشقندي في الطرف وذكر الجميع أن أصله من قرية تركش وأنه رحل إلى قرطبة وتأدب بها ثم اقتعد دكانا عند باب القصر يكتب فيه لمن يعن له كتب من الخدم والمرافعين للسلطان إلى أن طلبت السيدة صبح أم المؤيد من يكتب عنها فعرفها به من كان يأنس إليه بالجلوس من فتيان القصر فترقى إلى أن كتب عنها فاستحسنته ونبهت عليه الحكم ورغبت في تشريفه بالخدمة فولاه قضاء بعض المواضع فظهرت منه نجابة فترقى إلى الزكاة والمواريث بإشبيلية وتمكن في قلب السيدة بما استمالها به من التحف والخدمة ما لم يتمكن لغيره ولم يقصر مع ذلك في خدمة المصحفي الحاجب إلى أن توفي الحكم وولي ابنه هشام المؤيد وهو ابن اثنتي عشرة سنة فجاشت الروم فجهز المصحفي ابن أبي عامر لدفاعهم فنصره الله عليهم وتمكن حبه من قلوب الناس

وكان جوادا عاقلا ذكيا استعان بالمصحفي على الصقالبة ثم بغالب على المصحفي وكان غالب صاحب مدينة سالم وتزوج ابن أبي عامر ابنته أسماء وكان اعظم عرس بالأندلس ثم بجعفر بن علي الأندلسي ممدوح ابن هانىء على غالب ثم بعبد الرحمن بن محمد بن هشام التجيبي على جعفر وله في الحزم والكيد والجلد ما أفرد له ابن حيان تأليفا وعدد عزواته المنشاة من قرطبة نيف وخمسون غزوة ولم تهزم له راية وقبره بمدينة سالم في أقصى شرق الأندلس
ومن شعره
( رميت بنفسي هول كل عظيمة ... وخاطرت والحر الكريم يخاطر )
( وما صاحبي إلا جنان مشيع ... وأسمر خطي وأبيض باتر )
( فسدت بنفسي أهل كل سيادة ... وفاخرت حتى لم أجد من أفاخر )
( وما شدت بنيانا ولكن زيادة ... على ما بنى عبد المليك وعامر )
( رفعنا المعالي بالعوالي حديثه ... وأورثناها في القديم معافر )
وجوده مع صاعد البغدادي اللغوي مشهور
وصدر عن بعض غزواته فكتب إليه عبد الملك بن شهيد وكان قد تخلف عنه
( أنا شيخ والشيخ يهوى الصبايا ... يا بنفسي أقيك كل الرزايا )
( ورسول الإله أسهم في الفي ... ء لمن لم يخب فيه المطايا )
فبعث إليه بثلاث جوار من أجمل السبي

( قد بعثنا بها كشمس النهار ... في ثلاث من المها أبكار )
( وامتحنا بعذرة البكر إن كن ... ترجي بوادر الإعذار )
( فاجتهد وابتدر فإنك شيخ ... قد جلا ليلة بياض النهار )
( صانك الله من كلالك فيها ... فمن العار كلة المسمار )
فافتضهن من ليلته وكتب له بكرة
( قد مضضنا ختام ذاك السوار ... واصطبغنا من النجيع الجاري )
( وصبرنا على دفاع وحرب ... فلعبنا بالدر أو بالدراري )
( وقضى الشيخ ما قضى بحسام ... ذي مضاء عضب الظبا بتار )
( فاصطنعه فليس يجزيك كفرا ... واتخذه فحلا على الكفار )
وقدم بعض التجار ومعه كيس فيه ياقوت نفيس فتجرد ليسبح في النهر وترك الكيس وكان أحمر على ثيابه فرفعته حدأة في مخالبها فجرى تابعا لها وقد ذهل فتغلغلت في البساتين وانقطعت عن عينه فرجع متحيرا فشكا ذلك إلى بعض من يأنس به فقال له صف حالك لابن أبي عامر فتلطف في وصف ذلك بين يديه فقال ننظر إن شاء الله تعالى في شأنك وجعل يستدعي أصحاب تلك البساتين ويسأل خدامها عمن ظهر عليه تبديل حال فأخبروه أن شخصا ينقل الزبل اشترى حمارا وظهر من حاله ما لم يكن قبل ذلك فأمر بمجيئه فلما وقعت عينه عليه قال له أحضر الكيس الأحمر فتملك الرعب قلبه وارتعش وقال دعني آتي به من منزلي فوكل به

مسرة صاحبه فجبره ودفعه إلى صاحبه فقال والله لأحدثن في مشارق الأرض ومغاربها أن ابن أبي عامر يحكم على الطيور وينصف منها والتفت ابن أبي عامر إلى الزبال فقال له لو أتيت به أغنيناك لكن تخرج كفافا لا عقابا ولا ثوابا
وتوفي رحمه الله في غزاته للإفرنج بصفر سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة وحمل في سريره على أعناق الرجال وعسكره يحف به وبين يديه إلى أن وصل إلى مدينة سالم
ودامت دولته ستا وعشرين سنة غزا فيها اثنتين وخمسين غزوة واحدة في الشتاء وأخرى في الصيف انتهى كلام ابن سعيد وفي بعضه مخالفة لبعض كلام ابن خلدون
الحاجب المصحفي عن المطمح
وقال الفتح في المطمح في حق المصحفي الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي ما صورته تجرد للعليا وتمرد في طلب الدنيا حتى بلغ المنى وتسوغ ذلك الجنى ووصل إلى المنتهى وحصل علىما اشتهى دون مجد تفرع من دوحته ولا فخر نشأ بين مغداه وروحته فسما دون سابقة ورمى إلى رتبة لم تكن لنفسه مطابقة فبلغ بنفسه ونزع عن جنسه ولم يزل يستقل ويضطلع وينتقل من مطلع إلى مطلع حتى التاح في أفق الخلافة وارتاح إليها بعطفه كنشوان السلافة واستوزره المستنصر وعنه كان يسمع وبه يبصر

ما أدرك ونصب لأمانيه الحبائل والشرك فاقتنى اقتناء مدخر وأزرى بمن سواه وسخر واستعطفه ابن أبي عامر ونجمه غائر لم يلح وسره مكتوم لم يبح فما عطف ولا جنى من روضة دنياه ولا قطف وأقام في تدبير الأندلس ما أقام وبرهانه مستقيم ومن الفتن عقيم وهو يجري من السعد في ميدان رحب ويكرع من العز في مشرب عذب ويفض ختام السرور وينهض بملك على لبته مزرور وكان له أدب بارع وخاطر إلى نظم القريض مسارع فمن محاسنه التي بعثها إيناس دهره وإسعاده وقاله حين ألهته سلماه وسعاده قوله
( لعينيك في قلبي علي عيون ... وبين ضلوعي للشجون فنون )
( نصيبي من الدنيا هواك وإنه ... غذائي ولكني عليه ضنين )
وستأتي هذه الترجمة من المطمح الصغير إن شاء الله تعالى بما فيه بعض زيادة ونقصان في الباب الرابع
ترجمة ابن أبي عامر في المطمح
وقال في المطمح في حق ابن أبي عامر إنه تمرس ببلاد الشرك أعظم تمرس ومحا من طواغيتها كل تعجرف وتغطرس وغادرهم صرعى البقاع وتركهم أذل من وتد بقاع ووالى على بلادهم الوقائع وسدد إلى أكبادهم سهام الفجائع وأغص بالحمام أرواحهم ونغص بتلك الآلام بكورهم ورواحهم ومن أوضح الأمور هنالك وأفصح الأخبار في ذلك أن أحد رسله كان كثير الإنتياب لذلك الجناب فسار في بعض مسيراته

صاحب البشكنس فوالى في إكرامه وتناهى في بره واحترامه فطالت مدته فلا متنزه إلا مر عليه متفرجا ولا منزل إلا سار عليه معرجا فحل في ذلك أكثر الكنائس هنالك فبينا هو يجول في ساحتها ويجيل العين في مساحتها إذ عرضت له امرأة قديمة الأسر قويمة على طول الكسر فكلمته وعرفته بنفسها وأعلمته وقالت له أيرضى المنصور أن ينسى بتنعمه بوسها ويتمتع بلبوس العافية وقد نضت لبوسها وزعمت أن لها عدة سنين بتلك الكنيسة محبسة وبكل ذل وصغار ملبسة وناشدته الله في إنهاء قصتها وإبراء غصتها واستحلفته بأغلظ الأيمان وأخذت عليه في ذلك اوكد مواثيق الرحمن فلما وصل إلى المنصور عرفه بما يجب تعريفه به وإعلامه وهو مصغ إليه حتى تم كلامه فلما فرغ قال له المنصور هل وقفت هناك على أمر أنكرته أم لم تقف على غير ما ذكرته فأعلمه بقصة المراة وما خرجت عنه إليه وبالمواثيق التي أخذت عليه فعتبه ولامه على أن لم يبدأ بها كلامه ثم أخذ للجهاد من فوره وعرض من من الأجناد في نجده وغوره وأصبح غازيا على سرجه مباهيا مروان يوم مرجه حتى وافى ابن شانجة في جمعه فأخذت مهابته ببصره وسمعه فبادر بالكتاب إليه يتعرف ما الجلية ويحلف له بأعظم ألية أنه ما جنى ذنبا ولا جفا عن مضجع الطاعة جنبا فعنف أرساله وقال لهم كان قد عاقدني أن لا يبقى ببلاده مأسورة وما مأسور ولو حملته في حواصلها النسور وقد بلغني بعد بقاء فلانة المسلمة في تلك الكنيسة ووالله لا أنتهي عن أرضه حتى أكتسحها فأرسل إليه المرأة في اثنتين معها وأقسم أنه ما أبصرهن ولا سمع بهن وأعلمه أن الكنيسة التي أشار بعلمها فد بالغ في هدمها تحقيقا لقوله وتضرع إليه في الأخذ فيه بطوله فاستحيا منه وصرف الجيش عنه وأوصل المرأة إلى نفسه وألحف توحشها بأنسه وغير من حالها وعاد بسواكب نعماه على جدبها وإمحالها

وقال في المطمح أيضا في حقه ما نصه فرد نابه على من تقدمه وصرفه واستخدمه فإنه كان أمضاهم سنانا وأذكاهم جنانا وأتمهم جلالا وأعظمهم استقلالا فآل أمره إلى ما آل وأوهم العقول بذلك المآل فإنه كان آية الله في اتفاق برفعة القدر واستظهر بالأناة وسعة الصدر وتحرك فلاح نجم الهدو سعده وقربه من الملك بعد بعده بهر وتملك فما خفق بأرضه لواء عدو بعد خمول كابد منه غصصا وشرقا وتعذر مأمول طارد فيه سهرا وأرقا حتى أنجز له الموعود وفر نحسه أمام تلك السعود فقام بتدبير الخلافة وأقعد من كان له فيها إنافة وساس الأمور أحسن سياسة وداس الخطوب بأخشن دياسة فانتظمت له الممالك واتضحت به المسالك وانتشر الأمن في كل طريق واستشعر اليمن كل فريق وملك الأندلس بضعا وعشرين حجة لم تدحض لسعادتها حجة ولم تزخر لمكروه بها لجة ليست فيه البهاء والإشراق وتنفست عن مثل أنفاس العراق وكانت أيامه أحمد أيام وسهام بأسه أسد سهام غزا الروم شاتيا وصائفا ومضى فيما يروم زاجرا وعائقا فما مر له غير سنيح ولا فاز إلا بالمعلى لا بالمنيح فأوغل في تلك الشعاب وتغلغل حتى راع ليث الغاب ومشى تحت ألويته صيد القبائل واستجرت في ظلها بيض الظبا وسمر الذوابل وهو يقتضي الأرواح بغير سوم وينتضي الصفاح على كل روم ويتلف من لا ينساق للخلافة وينقاد ويخطف منهم كل كوكب وقاد حتى استبد وانفرد وأنس إليه من الطاعة ما نفر وشرد وانتظمت له الأندلس بالعدوة واجتمعت في ملكه اجتماع قريش بدار الندوة ومع هذا لم يخلع اسم الحجابة ولم يدع السمع لخليفته والإجابة ظاهر يخالفه الباطن واسم تنافره مواقع الحكم والمواطن وأذل قبائل الأندلس

الأكابر فإنه قاومهم بأضدادهم واستكثر من أعدادهم حتى تغلبوا على الجمهور وسلبوا عنهم الظهور ووثبوا عليهم الوثوب المشهور الذي أعاد أكثر الأندلس قفرا يبابا وملأها وحشا وذئابا وأعراها من الأمان برهة من الزمان وعلى هذه الهيئة فهو وابنه المظفر كانا آخر سعد الأندلس وحد السرور بها والتأنس وغزواته فيها شائعة الأثر رائعة كالسيف ذي الأثر وحسبه وافر ونسبه معافر ولذا قال يفتخر رميت بنفسي . . . الأبيات وزاد هنا بعد قوله أبيض باتر بيتا وهو
( وإني لزجاء الجيوش إلى الوغى ... أسود تلاقيها أسود خوادر )
( وكانت أمه تميمة فحاز الشرف بطرفيه والتحف بمطرفيه ولذا قال القسطلي فيه
( تلاقت عليه من تميم ويعرب ... شموس تلالا في العلا وبدور )
( من الحميريين الذين أكفهم ... سحائب تهمي بالندى وبحور )
وتصرف قبل ولايته في شتى الولايات وجاء من التحدث بمنتهى أمره بآيات حتى صح زجره وجاء بصبحه فجره تؤثر عنه في ذلك أخبار فيها عجب واعتبار وكان أديبا محسنا وعالما متفننا فمن ذلك قوله يمني نفسه بملك مصر والحجاز ويستدعي صدور تلك الأعجاز
( منع العين أن تذوق المناما ... حبها أن ترى الصفا والمقاما )
( لي ديون بالشرق عند أناس ... قد أحلوا بالمشعرين الحراما )
( إن قضوها نالوا الأماني وإلا

( عن قريب ترى خيول هشام ... يبلغ النيل خطوها والشآما )
انتهى ما نقلته من المطمح
أخبار في سيرة المنصور
وفي المنصور المذكور أيضا قال بعض مؤرخي المغرب مازجا كلامه ببعض كلام الفتح بعد ذكر استعانته ببعض الناس على بعض وذكر قتله لجعفر ابن علي فقال بعده ما صورته ثم انفرد بنفسه وصار ينادي صروف الدهر هل من مبارز فلما لم يجده حمل الدهر على حكمه فانقاد له وساعده فاستقام أمره منفردا بمملكة لا سلف له فيها ومن أوضح الدلائل على سعده أنه لم ينكب قط في حرب شهدها وما توجهت عليه هزيمة وما انصرف عن موطن إلا قاهرا غالبا على كثرة ما زاول من الحروب ومارس من الأعداء وواجه من الأمم وإنها لخاصة ما أحسب أحدا من الملوك الإسلامية شاركه فيها ومن أعظم ما أعين به مع قوة سعده وتمكن جده سعة جوده وكثرة بذله فقد كان في ذلك أعجوبة الزمان وأول ما اتكأ على أرائك الملوك وارتفق وانتشر عليه لواء السعد وخفق حط صاحبه المصحفي وأثار له كامن حقده الخفي حتى أصاره للهموم لبيسا وفي غيابات السجن حبيسا فكتب إليه يستعطفه بقوله
( هبني أسأت فأين العفو والكرم ... إذ قادني نحوك الإذعان والندم )

( بالغت في السخط فاصفح صفح مقتدر ... إن الملوك إذا ما استرحموا رحموا )
فما زاده ذلك إلا حنقا وحقدا وما أفادته الأبيات إلا تضرما ووقدا فراجعه بما أيأسه وأراه مرمسه وأطبق عليه محبسه وضيق تروحه من المحنة وتنفسه
( الآن يا جاهلا زلت بك القدم ... تبغي التكرم لما فاتك الكرم )
( أغريت بي ملكا لولا تثبته ... ما جاز لي عنده نطق ولا كلم )
( فايأس من العيش إذ قد صرت في طبق ... إن الملوك إذا ما استنقموا نقموا )
( نفسي إذا سخطت ليست براضية ... ولو تشفع فيك العرب والعجم )
وكان من أخباره الداخلة في أبواب البر والقربة بنيان المسجد الجامع إلى أن قال
ومن ذلك بناؤه قنطرة على نهر قرطبة الأعظم ابتدأ بناءها المنصور سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة وفرغ منها في النصف من سنة تسع وسبعين وانتهت النفقة عليها إلى مائة ألف دينار وأربعين ألف دينار فعظمت بها المنفعة وصارت صدرا في مناقبه الجليلة وكانت هنالك قطعة أرض لشيخ من العامة ولم يكن للقنطرة عدول عنها فأمرالمنصور أمناءه بإرضائه فيها فحضر الشيخ عندهم فساوموه بالقطعة وعرفوه وجه الحاجة إليها وأن المنصور لا يريد إلا إنصافه فيها فرماهم الشيخ بالغرض الأقصى عنده فيما ظنه أنها لا تخرج عنه بأقل من عشرة دنانير ذهبا كانت عنده أقصى الأمنية وشرطها صحاحا فاغتنم الأمناء غفلته ونقدوه الثمن وأشهدوا عليه ثم أخبروا المنصور بخبره فضحك من جهالته وأنف من غبنه وأمر أن يعطى عشرة أمثال

وتدفع له صحاحا كما قال فقبض الشيخ مائة دينار ذهبا فكاد أن يخرج من عقله وأن يجن عند قبضها من الفرح وجاء محتفلا في شكر المنصور وصارت قصته خبرا سائرا
ومن ذلك أيضا بناء قنطره على نهر إستجة وهو نهر شنيل وتجشم لها أعظم مؤنة وسهل الطريق الوعرة والشعاب الصعبة
ومن ذلك أيضا أنه خط بيده مصحفا كان يحمله معه في أسفاره يدرس فيه ويتبرك به
ومن قوة رجائه أنه اعتني بجمع ما علق بوجهه من الغبار في غزواته ومواطن جهاده فكان الخدم يأخذونه عنه بالمناديل في كل منزل من منازله حتى اجتمع له منه صرة ضخمة عهد بتصييره في حنوطه وكان يحملها حيث سار مع أكفانه توقعا لحلول منيته وقد كان اتخذ الأكفان من أطيب مكسبه من الضيعة الموروثة عن أبيه وغزل بناته وكان يسأل الله تعالى أن يتوفاه في طريق الجهاد فكان كذلك
وكان متسما بصحة باطنه واعترافه بذنبه وخوفه من ربه وكثرة جهاده وإذا ذكر بالله ذكر وإذا خوف من عقابه ازدجر ولم يزل متنزها عن كل ما يفتتن به الملوك سوى الخمر لكنه أقلع عنها قبل موته بسنتين وكان عدله في الخاصة والعامة وبسط الحق على الأقرب فالأقرب من خاصته وحاشيته أمرا مضروبا به المثل
ومن عدله أنه وقف عليه رجل من العامة بمجلسه فنادى يا ناصر الحق إن لي مظلمة عند ذلك الوصيف الذي على رأسك وأشار إلى الفتى صاحب الدرقة وكان له فضل محل عنده ثم قال وقد دعوته إلى الحاكم فلم يأت فقال له المنصور أوعبد الرحمن بن

نظنه أمضى من ذلك اذكر مظلمتك يا هذا فذكر الرجل معاملة كانت جارية بينهما فقطعها من غير نصف فقال المنصور ما أعلم بليتنا بهذه الحاشية ثم نظر إلى الصقلبي وقد ذهل عقله فقال له ادفع الدرقة إلى فلان وانزل صاغرا وساو خصمك في مقامه حتى يرفعك الحق أو أيضعك ففعل ومثل بين يديه ثم قال لصاحب شرطته الخاص به خذ بيد هذا الفاسق الظالم وقدمه مع خصمه إلى صاحب المظالم لينفذ عليه حكمه بأغلظ ما يوجبه الحق من سجن أو غيره ففعل ذلك وعاد الرجل إليه شاكرا فقال له المنصور قد انتصفت أنت اذهب لسبيلك وبقي انتصابي أنا ممن تهاون بمنزلتي فتناول الصقلبي بأنواع من المذلة وأبعده عن الخدمة
ومن ذلك قصة فتاه الكبير المعروف بالبورقي مع التاجر المغربي فإنهما تنازعا في خصومة توجهت فيها اليمين على الفتى المذكور وهو يومئذ أكبر خدم المنصور وإليه أمر داره وحرمه فدافع الحاكم وظن أن جاهه يمنع من إحلافه فصرخ التاجر بالمنصور في طريقه إلى الجامع متظلما من الفتى فوكل به في الوقت من حمله إلى الحاكم فأنصفه منه وسخط عليه المنصور وقبض نعمته منه ونفاه
ومن ذلك قصة محمد فصاد المنصور وخادمه وأمينه على نفسه فإن المنصور احتاجه يوما إلى الفصد وكان كثير التعهد له فأنفذ رسوله إلى محمد فألفاه الرسول محبوسا في سجن القاضي محمد بن زرب لحيف ظهر منه على امرأته قدر أن سبيله من الخدمة يحميه من العقوبة فلما عاد الرسول إلى المنصور بقصته أمر بإخراجه من

من عمله عنده ثم يرده إلى محبسه ففعل ذلك على ما رسمه وذهب الفاصد إلى شكوى ما ناله فقطع عليه المنصور وقال له يا محمد إنه القاضي وهو في عدله ولو أخذني الحق ما أطقت الامتناع منه عد إلى محبسك أو اعترف بالحق فهو الذي يطلقك فانكسر الحاجم وزالت عنه ريح العناية وبلغت قصته للقاضي فصالحه مع زوجته وزاد القاضي شدة في أحكامه
وقال ابن حيان إنه كان جالسا في بعض الليالي وكانت ليلة شديدة البرد والريح والمطر فدعا بأحد الفرسان وقال له انهض الآن إلى فج طليارش وأقم فيه فأول خاطر يخطر عليك سقه إلي قال فنهض الفارس وبقي في الفج في البرد والريح والمطر واقفا على فرسه إذ وقف عليه قرب الفجر شيخ هرم على حمار له ومعه آلة الحطب فقال له الفارس إلى أين تريد يا شيخ فقال وراء حطب فقال الفارس في نفسه هذا شيخ مسكين نهض إلى الجبل يسوق حطبا فما عسى أن يريد المنصور فيه قال فتركته فسار عني قليلا ثم فكرت في قول المنصور وخفت سطوته فنهضت إلى الشيخ وقلت له ارجع مولانا المنصور فقال له وما عسى أن يريد المنصور من شيخ مثلي سألتك بالله أن تتركني لطلب معيشتي فقال له الفارس لا أفعل ثم قدم به على المنصور ومثله بين يديه وهو جالس لم ينم ليلته تلك فقال المنصور للصقالبة فتشوه ففتشوه فلم يجدوا معه شيئا فقال فتشوا برذعة حماره فوجدوا داخلها كتابا من نصارى كانوا قد نزعوا إلى المنصور يخدمون عنده إلى أصحابهم من النصارى ليقبلوا ويضربوا في إحدى النواحي الموطومة فلما انبلج الصبح أمر بإخراج أولئك النصارى إلى

ثم ذكر هذا المؤرخ قصة الجوهري التي قدمنا نقلها من مغرب ابن سعيد ولكنا رأينا إعادتها بلفظ هذا المؤرخ لأنه أتم مساقا إذ قال عطفا على دهائه ومن ذلك قصة الجوهري التاجر وذلك أن رجلا جوهريا من تجار المشرق قصد المنصور من مدينة عدن بجوهر كثير وأحجار نفيسة فأخذ المنصور من ذلك ما استحسنه ودفع إلى التاجر الجوهري صرته وكانت قطعة يمانية فأخذ التاجر في انصرافه طريق الرملة على شط النهر فلما توسطها واليوم قائظ وعرقه منصب دعته نفسه إلى التبرد في النهر فوضع ثيابه وتلك الصرة على الشط فمرت حدأة فاختطفت الصرة تحسبها لحما وصاعدت في الأفق بها ذاهبة فقطعت الأفق الذي تنظر إليه عين التاجر فقامت قيامته وعلم أنه لا يقدر أن يستدفع ذلك بحيلة فأسر الحزن في نفسه ولحقه لأجل ذلك علة اضطراب فيها وحضر الدفع إلى التجار فحضر الرجل لذلك بنفسه فاستبان للمنصور ما بالرجل من المهانة والكآبة وفقد ما كان عنده من النشاط وشدة العارضة فسأله المنصور عن شأنه فأعلمه بقصته فقال له هلا أتيت إلينا بحدثان وقوع الأمر فكنا نستظهر على الحيلة فهل هديت إلى الناحية التي أخذ الطائر إليها قال مر مشرقا على سمت هذا الجبل الذي يلي قصرك يعني الرملة الساعة فمضى وجاء بهم سريعا فأمرهم بالبحث عمن غير حال الإقلال منهم سريعا وانتقل عن الإضافة دون تدرج فتناظروا في ذلك ثم قالوا يا مولانا ما نعلم إلا رجلا من ضعفائنا كان يعمل هو وأولاده بأيديهم ويتناولون السبق بأ قدامهم عجزا عن شراء دابة فابتاع اليوم دابة واكتسى

بالغدو إلى الباب فحضر الرجل بعينه بين يدي المنصور فاستدناه والتاجر حاضر وقا له سبب ضاع منا وسقط إليك ما فعلت به قال هوذا يا مولاي وضرب بيده إلى حجزة سراويله فأخرج الصرة بعينها فصاح التاجر طربا وكاد يطير فرحا فقال له المنصور صف لي حديثها فقال بينا أنا أعمل في جناني تحت نخلة إذ سقطت أمامي فأختها وراقني منظرها فقلت إن الطائر اختلسها من قصرك لقرب الجوار فاحترزت بها ودعتني فاقتي إلى أخذ عشرة مثاقيل عيونا كانت معها مصرورة وقلت أقل ما يكون في كرم مولاي أن يسمح لي بها فأعجب المنصور ما كان منه وقال للتاجر خذ صرتك وانظرها واصدقني عن عددها ففعل وقال وحق رأسك يا مولاي ما ضاع منها شيء سوى الدنانير التي ذكرها وقد وهبتها له فقال المنصور نحن أولى بذلك منك ولا ننغص عليك فرحك ولولا جمعه بين الإصرار والإقرار لكان ثوابه موفورا عليه ثم أمر للتاجر بعشرة دنانير عوضا من دنانيره وللجنان بعشرة دنانير ثوابا لتأنيه عن فساد ما وقع بيده وقال لو بدأنا بالاعتراف قبل البحث لأوسعنا جزاء قال فأخذ التاجر في الثناء على المنصور وقد عاوده نشاطه وقال والله لأبثن في الأقطار عظيم ملكك ولأنبئن أنك تملك طيرا أعمالك كما تملك إنسها فلا تعتصم منك ولا تمتنع ولا تؤذي جارك فضحك المنصور وقال اقصد في قولك يغفر الله لك فعجب الناس من تلطف المنصور في أمره وحيلته في تفريج كربته
ثم حكى هذا المؤرخ غزوة المنصور لمدينة شنت ياقب قاصية غليسية وأعظم مشاهد النصارى الكائنة ببلاد الأندلس وما يتصل بها من الأرض الكبيرة

كنيستها عندهم بمنزلة الكعبة عندنا وللكعبة المثل الأعلى فيها يحلفون وإليها يحجون من أقصى بلاد رومة وما وراءها ويزعمون أن القبر المزور فيها قبر ياقب الحواري أحد الاثنى عشر وكان أخصهم بعيسى على نبينا وE وهم يسمونه أخاه للزومه إياه وياقب بلسانهم يعقوب وكان أسقفا ببيت المقدس فجعل يستقري الأرضين داعيا لمن فيها حتى انتهى إلى هذه القاصية ثم عاد إلى أرض الشام فمات بها وله مائة وعشرون سنة شمسية فاحتمل أصحابه رمته فدفنوها بهذه الكنيسة التي كانت أقصى أثره ولم يكمع أحد من ملوك الإسلام في قصدها ولا الوصول إليها لصعوبة مدخلها وخشونة مكانها وبعد شقتها فخرج المنصور إليها من قرطبة غازيا بالصائفة يوم السبت لست بقين من جمادى الآخرة سنة سبع وثمانين وثلاثمائة وهي غزوته الثامنة والأربعون ودخل على مدينة قورية فلما وصل إلى مدينة غليسية وافاه عدد عظيم من القوامس المتمسكين بالطاعة في رجالهم وعلى أتم احتفالهم فصاروا في عسكر المسلمين وركبوا في المغاورة سبيلهم وكان المنصور تقدم في الأندلس وجهزه برجاله البحريين وصنوف المترجلين وحمل الأقوات والأطعمة والعدد والأسلحة استظهارا على نفوذ العزيمة إلى أن خرج بموضع برتقال على نهر دويره فدخل في النهر إلى المكان الذي عمل المنصور على العبور منه فعقد هنالك من هذا الأسطول جسرا بقرب الحصن الذي هنالك ووجه المنصور ما كان فيه من الميرة إلى الجند فتوسعوا في التزود منه إلى أرض العدو ثم نهض منه يريد شنت ياقب فقطع أرضين متباعدة الأقطار

وقطع بالعبور عدة أنهار كبار وخلجان يمدها البحر الأخضر ثم أفضى العسكر بعد ذلك إلى بسائط جليلة من بلاد فرطارش وما يتصل بها ثم أفضى إلى جبل شامخ شديد الوعر لا مسلك فيه ولا طرق ولم يهتد الأدلاء إلىسواه فقدم المنصور الفعلة بالجديد لتوسعة شعابه وتسهيل مسالكه فقطعه العسكر وعبروا بعد وادي منيه وانبسط المسلمون بعد ذلك في بسائط عريضة وأرضين أريضة وانتهت مغيرتهم إلى دير قسطان وبسيط بلنبو على البحر المحيط وفتحوا حصن شنت بلاية وغنموه وعبروا سباحة إلى جزيرة من البحر المحيط لجأ إليها خلق عظيم من أهل تلك النواحي فسبوا من فيها ممن لجأ إليها وانتهى العسكر إلى جبل مراسية المتصل من أكثر جهاته بالبحر المحيط فتخللوا أقطاره واستخرجوا من كان فيه وحازةا غنائمه ثم أجاز المسلمون بعد هذا خليجا في معبرين أرشد الأدلاء إليهما ثم نهر أيلة ثم أفضوا إلى بسائط واسعة العمارة كثيرة الفائدة ثم انتهوا إلى موضع من أقاصي بلادهم ومن بلاد القبط والنوبة وغيرهما فغادروه المسلمون قاعا وكان النزول بعده على مدينة شنت ياقب البائسة وذلك ويوم الأربعاء لليلتين خلتا من شعبان فوجدها المسلمون خالية من أهلها فحاز المسملون غنائمها وهدموا مصانعها وأسوارها وكنيستها وعفوا آثارها ووكل المنصور بقبر ياقب من يحفظه ويدفع الأذى عنه وكانت مصانعها بديعة محكمة فغودرت هشيما

كأن لم تهن بالأمس وانتسفت بعوثه بعد ذلك سائر البسائط وانتهت الجيوش إلى جزيرة شنت مانكش منقطع هذا الصفع على البحر المحيط وهي غاية لم يبلغها قبلهم مسلم ولا وطئها لغير أهلها قدم فلم يكن بعدها للخيل مجال ولا وراءها انتقال وانكفأ المنصور عن باب شنت يقب وقد بلغ غاية لم يبلغها مسلم قبله فجعل في طريقه القصد على عمل برمند بن أردون ليسقريه عائثا ومفسدا حتى وقع في عمل الفوامس المعاهدين الذين في عسكره فأمر بالكف عنها ومر مجتازا حتى خرج إلى حصن بليقية من افتتاحه فأجاز هنالك القوامس بجملتهم على أقدارهم وكساهم وكسا رجالهم وصرفهم إلى بلادهم وكتب بالفتح من بليقية وكان مبلغ ما كساه في غزواته هذه لملوك الروم ولمن حسن غناؤه من المسلمين ألفين ومائتين وخمسا وثمانين شقة من صنوف الخز الطرازي وأحدا وعشرين كساء من صوف البحر وكساءين عنبرتين وأحد عشر سقلاطونا وخمس عشرة مريشا وسبعة أنماط ديباج وثوبي ديباج رومي وفروي فنك ووافى جميع العسكر قرطبة غانما وعظمت النعمة والمنة على المسلمين ولم يجد المنصور بشنت ياقب إلا شيخا من الرهبان جالسا على القبر فسأله عن مقامه فقال أونس يعقوب فأمر بالكف عنه
قال وحدث شعلة قال قلت للمنصور ليلة طال سهره فيها قد أفرط مولانا في السهر وبدنه يحتاج إلى أكثر من هذا النوم وهو أعلم بما يحركه عدم النوم من علة العصب فقال يا شعلة الملك لا ينام إذا نامت الرعية ولو استوفيت نومي لما كان في دور هذا

أخبار المنصور من كتاب الأزهار المنثورة
وقد رأيت أن أذكر هنا أخبارا نقلتها من كتاب الأزهار المنثورة في الأخبار المأثورة
قال في الزهرة التاسعة والعشرين تقدم إلى المنصور وانزمار بن أبي بكر البرزالي أحد جند المغاربة وقد جلس للعرض والتمييز والميدان غاص بالناس فقال له بكلام يضحك الثكلى يا مولاي ما لي ولك أسكني فإني في الفحص فقال وما ذلك يا وانزمار وأين دارك الواسعة الأقطار فقال أخرجتني عنها والله نعمتك أعطيتني من الضياع ما انصب علي منها من الأطعمة ما ملأ بيوتي وأخرجني عنها وأنا بربري مجوع حديث عهد بالبؤس أتراني أبعد القمح عني ليس ذلك من رأيي فتطلق المنصور وقال لله درك من فذ عيي لعيك في شكر النعمة أبلغ عندنا وآخذ بقلوبنا من كلام كل أشدق متزيد وبليغ متفنن وأقبل المنصور على من حوله من أهل الأندلس فقال يا أصحابنا هكذا فلتشكر الأيادي وتستدام النعم لا ما أنتم عليه من الجحد اللازم والتشكي المبرح وأمر له بأفضل المنازل الخالية
وفي الموفية ثلاثين ما نصه أصبح المنصور صبيحة أحد وكان يوم راحة الخدمة الذي أعفوا فيه من قصد الخدمة في مطر وابل غب أيام مثله فقال هذا يوم لا عهد بمثله ولا حيلة للمواظبين لقصدنا في مكابدته فليت شعري هل شذ أحد منهم عن التقدير فأغرب في البكور اخرج وتأمل يقوله لحاجبه فخرج وعاد إليه ضاحكا وقال يا مولاي على الباب ثلاثة من البرابرة أبو الناس ابن صالح واثنان معه وهم بحال من البلل إنما توصف بالمشاهدة فقال أوصلهم إلي وعجل فدخلوا عليه في حال الملاح بللا

ونداوة فضحك إليهم وأدنى مجلسهم وقال خبروني كيف جئتم وعلى أي حال وصلتم وقد استكان كل ذي روح في كنه ولاذ كل طائر بوكره فقال له أبو الناس بكلامه يا مولانا ليس كل التجار قعد عن سوقه وإذا عذر التجار على طلب الربح بالفلوس فنحن أعذر بإدراكها بالبدر ومن غير رؤوس الأموال وهم يتناوبون الأسواق على أقدامهم ويذيلون في قصدها ثيابهم ونحن نأتيك على خيلك ونذيل على صهواتها ملابسك ونجعل الفضل في قصدك مضمونا إذا جعله أولئك طعما ورجاء فترى لنا أن نجلس عن سوقنا هذا فضحك المنصور ودعا بالكسا والصلات فدفعت لهم وانصرفوا مسرورين بغدوتهم
وفي الزهرة الرابعة والأربعين ما نصه كان بقرطبة على عهد الحاجب المنصور محمد بن أبي عامر فتى من أهل الأدب قد رقت حاله في الطب فتعلق بكتاب العمل واختلف إلى الخزانة مدة حتى قلد بعض الأعمال فاستهلك كثيرا من المال فلما ضم إلى الحساب أبرز عليه ثلاثة آلاف دينار فرفع خبره إلى المنصور فأمر بإحضاره فلما مثل بين يديه ولزم الإقرار بما برز عليه قال له يا فاسق ما الذي جرأك على مال السلطان تنتهبه فقال قضاء غلب الرأي وفقر أفسد الأمانة فقال المنصور والله لأجعلنك نكالا لغيرك ليحضر كبل وحداد فأحضر فكبل الفتى وقال احملوه إلى السجن وأمر الضابط بامتحانه والشدة عليه فلما قام أنشأ يقول
( أواه أواه وكم ذا أرى ... أكثر

( أما ترى عفو أبي عامر ... لا بد أن تتبعه منه )
( كذلك الله إذا ما عفا ... عن عبده أدخله الجنة )
فأمر بإطلاقه وسوغه ذلك المال وأبرأه من التبعة فيه
وفي الخامسة والأربعين عرض على المنصور بن أبي عامر اسم أحد خدمه في جملة من طال سجنه وكان شديد الحقد عليه فوقع على اسمه بأن لا سبيل إلى إطلاقه حتى يلحق بأمه الهاوية وعرف الرجل بتوقيعه فاغتم وأجهد نفسه في الدعاء والمناجاة فأرق المنصور إثر ذلك واستدعى النوم فلم يقدر عليه وكان يأتيه عند تنويمه آت كريه الشخص عنيف الأخذ يأمره بإطلاق الرجل ويتوعده على حبسه فاستدفع شأنه مرارا إلى أن علم أنه نذير من ربه فانقاد لأمره ودعا بالدواة في مرقده فكتب بإطلاقه وقال في كتابه هذا طليق الله على رغم أنف ابن أبي عامر وتحدث الناس زمانا بما كان منه
وفي الثامنة والأربعين ما نصه انتهت هيبة المنصور بن أبي عامر وضبطه للجند واستخدام ذكور الرجال وقوام الملك إلى غاية لم يصلها ملك قبله فكانت مواقفهم في الميدان على احتفاله مثلا في الإطراق حتى إن الخيل لتتمثل إطراق فرسانها فلا تكثر الصهيل والحمحمة ولقد وقعت عينه على بارقة سيف قد سله بعض الجند بأقصى الميدان لهزل أو جد بحيث ظن أن لحظ المنصور لا يناله فقال علي بشاهر السيف فمثل بين يديه لوقته فقال ما حملك على أن شهرت سيفك في مكان لا يشهر فيه إ لا عن إذن فقال إني أشرت به إلى صاحبي مغمدا فزلق من غمده فقال إن مثل هذا لا يسوغ بالدعوى وأمر به فضربت عنقه بسيفه وطيف برأسه ونودي عليه بذنبه انتهى

وحكى غير واحد أن المنصور كان به داء في رجله واحتاج إلى الكي فأمر الذي يكويه بذلك وهو قاعد في موضع مشرف على أهل مملكته فجعل يأمر وينهى ويفري الفري في اموره ورجله تكوى والناس لا يشعرون حتى شموا رائحة الجلد واللحم فتعجبوا من ذلك وهو غير مكترث
وأخبراه رحمه الله تعالى تحتمل مجلدات فلنمسك العنان على أنا ذكرنا في الباب الرابع والسادي من هذا الكتاب جملة من أخبراه رحمه الله تعالى فلتراجع إلى آخره
عود إلى النقل عن المطمح
وقال الفتح في المطمح وكان مما أعين به المنصور على المصحفي ميل الوزراء إليه وإيثارهم له عليه وسعيهم في ترقية وأخذهم بالعصبية فيه فإنها وإم لم تكن حمية أعرابية فقد كانت سلفية سلطانية يقتفي القوم فيها سبيل سلفهم ويمنعون بها ابتذال شرفهم غادروها سيرة وخلفوها عادة أثيرة تشاح الخلف فيها تشاح أهل الديانة وصانوا بها مراتبهم أعظم صيانة ورأوا أن أحدا لا يلحق فيها غاية ولا يتعاقد لها راية فلما اصطفى الحكم المستنصر بالله جعفر بن عثمان واصطنعه ووضعه من أثرته حيث وضعه وهو نزيع بينهم ونابغ في ال الحال وانتقال الرتبة وكف عن اعتراض محمد وشركته في التدبير وانقبض الناس من الرواح إليه والتبكير وانثالوا على ابن أبي عامر فخف موكبه وغار من سماء العز كوكبة وتوالى عليه سعي ابن أبي عامر وطلبه إلى أن صار يغدو إلى قرطبة ويروح وليس بيده من الحجابة إلا اسمها وابن أبي عامر مشتمل على رسمها حتى محاه وهتك ظله وأضحاه قال محمد بن إسماعيل رأيته يساق إلى مجلس الوزارة للمحاسبة راجلا فأقبل يدرم وجوارحه باللواعج تضطرم وواثق الضاغط ينهره والزمع بي فستدرك ما تحبه وتشتهيه وترى ما كنت ترتجيه ويا ليت أن الموت يباع فأغلي سومة حتى يرده من أطال عليه حومة ثم قال
( لا تأمنن من الزمان تقلبا ... إن الزمان بأهله يتقلب )

عليه والانحراف عنه إليه آل أبي عبدة وآل شهيد وآل فطيس من الخلفاء وأصحاب الردافة من أولي الشرف والإنافة وكانوا في الوقت أزمة الملك وقوام الخدمة ومصابيح الأمة وأغير الخلق على جاه وحرمة فأحظوا محمد بن أبي عامر مشايعه ولبعض أسبابه الجامعة متابعة وشادوا بناءه وقادوا إلى عنصره سناءه حتى بلغ الأمل والتحف بمناه واكتحل وعند التئام هذه الأمور لابن أبي عامر استكان جعفر بن عثمان للحادثة وأيقن بالنكبة وزوال الحال وانتقال الرتبة وكف عن اعتراض محمد وشركته في التدبير وانقبض الناس من الرواح إليه والتبكير وانثالوا على ابن أبي عامر فخف موكبه وغار من سماء العز كوكبة وتوالى عليه سعي ابن أبي عامر وطلبه إلى أن صار يغدو إلى قرطبة ويروح وليس بيده من الحجابة إلا اسمها وابن أبي عامر مشتمل على رسمها حتى محاه وهتك ظله وأضحاه قال محمد بن إسماعيل رأيته يساق إلى مجلس الوزارة للمحاسبة راجلا فأقبل يدرم وجوارحه باللواعج تضطرم وواثق الضاغط ينهره والزمع بي فستدرك ما تحبه وتشتهيه وترى ما كنت ترتجيه ويا ليت أن الموت يباع فأغلي سومة حتى يرده من أطال عليه حومة ثم قال
( لا تأمنن من الزمان تقلبا ... إن الزمان

( ولقد أراني والليوث تخافني ... فأخافني من بعد ذاك الثعلب )
( حسب الكريم مذلة ومهانة ... أن لا يزال إلى لئيم يطلب )
فلما بلغ المجلس جلس في آخره دون أن يسلم على أحد أويومىء إليه بعين أو يد فلما أخذ مجلسه تسرع إليه الوزير محمد بن حفص بن جابر فعنفه واستجفاه وأنكر عليه ترك السلام وجفاه وجعفر معرض عنه إلى أن كثر القول منه فقال له يا هذا جهلت المبرة فاستجهلت معلمها وكفرت النعم فقصدت بالأذى ولم ترهب مقدمها ولو أتيت نكرا لكان غيرك أدرى وقد وقعت في أمر ما أظنك تخلص منه ولا يسعك السكوت عنه ونسيت الأيادي الجميلة والمبرات الجليلة فلما سمع محمد بن حفص ذلك من قوله قال هذا البهت بعينه وأي أياديك الغر التي مننت بها وعينت أداء واجبها أيد كذا أم يد كذا وعد أشياء أنكرها منه أيام إمارته وتصرف الدهر طوع إشارته فقال جعفر هذ ما لا يعرف والحق الذي لا يرد ولا يصرف دفعي القطع عن يمناك وتبليغي لك إلى مناك فأصر محمد بن حفص على الجحد فقال جعفر أنشد الله من له علم بما أذكره إلا إعتراف به فلا ينكره وأنا أحوج إلى السكوت ولا تحجب دعوتي فيه عن الملكوت فقال الوزير أحمد بن عباس قد كان بعض ما ذكرته يا أبا الحسن وغير هذا أولى بك وأنت فيما أنت فيه من محنتك وطلبك فقال أحرجني الرجل فتكلمت وأحوجني إلى ما به أعلمت فأقبل الوزير ابن جهور على محمد بن

الواجب أوما علمت أن منكوب السلطان لا يسلم على أوليائه لأنه إن فعل ألزمهم الرد لقوله تعالى ( وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها ) النساء 86 فإن فعلوا لطاف بهم من إنكار السلطان ما يخشى ويخاف لأنه تأنيس لمن أوحش وتأمين لمن أخاف وإن تركوا الرد أسخطوا الله فصار الإمساك أحسن ومثل هذا لا يخفى على أبي الحسن فانكسر ابن حفص وخجل مما أتى به من النقص
وبلغه أن قوما توجعوا له وتفجعوا مما وصله فكتب إلهم
( أحن إلى أنفاسكم فأظنها ... بواعث أنفاس الحياة إلى نفسي )
( وإن زمانا صرت فيه مقيدا ... لأثقل من رضوى وأضيق من رمس )
انتهى ما ترجم به المنصور بن أبي عامر
عبد الملك المظفر الحاجب
ولنرجع فنقول ولما توفي المنصور قام بالأمر بعده ابنه عبد الملك المظفر أبو مروان فجرى على سنن أبيه في السياسة والغزو وكانت أيامه أعيادا دامت مدة سبع سنين وكانت تسمى بالسابع تشبيها بسابع العروس ولم يزل مثل اسمه مظفرا إلى أن مات سنة تسع وثلاثمائة في المحرم وقيل سنة ثمان وتسعين
وكاتبه المعز بن زيري ملك مغراوة بعد أن استرجع فاسا والمغرب إثر موت أبيه فكتب له العهد على المغرب

عبد الرحمن شنجول
قال ابن خلدون ثم قام بالأمر بعده أخوه عبد الرحمن وتلقب بالناصر لدين الله وقيل بالمأمون وجرى على سنن أبيه وأخيه في الحجر على الخليفة هشام والاستبداد عليه والاستقلال بالملك دونه ثم ثاب له رأي في الاستئثار بما بقي من رسوم الخلافة فطلب من هشام المؤيد أن يوليه عهده فأجابه وأحضر لذلك الملأ من أرباب الشورى وأهل الحل والعقد فكان يوما مشهودا فكتب عهده من إنشاء أبي حفص بن برد بما نصه هذا ما عهد به هشام المؤيد بالله أمير المؤمنين إلى الناس عامة وعاهد الله عليه من نفسه خاصة وأعطى به صفقة يمينه بيعة تامة بعد أن أمعن النظر وأطار الاستخارة وأهمه ما جعل الله إليه من الإمامة وعصب به من أمر المؤمنين واتقى حلول القدر بما لا يؤمن وخاف نزول القضاء بما لا يصرف وخشي إن هجم محتوم ذلك عليه ونزل مقدوره به ولم يرفع لهذه الأمة علما تأوي إليه وملجأ تنعطف عليه أن يكون يلقى ربه تبارك وتعالى مفرطا ساهيا عن أداء الحق إليها وتقصى عند ذلك من إحياء قريش وغيرها من يستحق أن يسند هذا الامر إليه ويعول في القيام به عليه ممن يستوجبه بدينه وأمانته وهديه وصيانته بعد اطراح الهوى والتحري للحق والتزلف إلى الله جل جلاله بما يرضيه وبعد أن قطع الأواصر وأسخط الأقارب فلم يجد أحدا أجدر أن يوليه عهده ويفوض إليه الخلافة بعده لفضل نفسه وكرم

وشرف مرتبته وعلو منصبه مع تقاه وعفافه ومعرفته وحزمه من المأمون الغيب الناصح الجيب أبي المطرف عبد الرحمن بن المنصور أبي عامر محمد ابن أبي عامر وفقه الله إذ كان أمير المؤمنين أيده الله تعالى قد ابتلاه واختبره ونظر في شأنه واعتبره فرآه مسارعا في الخيرات سابقا في الحلبات مستوليا على الغايات جامعا للمأثرات ومن كان المنصور أباه والمظفر أخاه فلا غرو أن يبلغ من سبل البر مداه ويحوي من خلال الخير ما حواه مع أن أمير المؤمنين أيده الله بما طالع من مكنون العلم ووعاه من مخزون الأثر يرى أن يكون ولي عهده القحطاني الذي حدث عنه عبد الله بن عمرو بن العاص وأبو هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه فلما استوى له الاختيار وتقابلت عنده فيه الآثار ولم يجد عنه مذهبا ولا إلى غيره معدلا خرج إليه من تدبير الأمور في حياته وفوض إليه الخلافة بعد وفاته طائعا راضيا مجتهدا وأمضى أمير المؤمنين هذا وأجازه وأنجزه وأنفذه ولم يشرط فيه مثنوية ولا خيارا وأعطى على الوفاء به في سره وجهره وقوله وفعله عهد الله وميثاقه وذمة نبيه محمد صلى الله عليه و سلم وذمم الخلفاء الراشدين من آبائه وذمة نفسه أن لا يبدل ولا يغير ولا يحول ولا يزول وأشهد الله على ذلك والملائكة وكفى بالله شهيدا وأشهد من أوقع اسمه في هذا وهو جائز الامر ماضي القول والفعل بمحضر من ولي عهده المأمون أبي المطرف عبد الرحمن بن المنصور وفقه الله تعالى وقبوله ما قلده وإلزامه نفسه ما ألزمه وذلك في شهر ربيع الأول سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة وكتب الوزراء والقضاة وسائر

بعدها بولي العهد
ونقم عليه أهل الدولة ذلك فكان فيه حتفه وانقراض دولته ودولة قومه وكان أسرع الناس كراهة لذلك الأمويين والقرشيين فغصوا بأمره وأسفوا من تحويل الأمر جملة من المضرية إلى اليمنية فاجتمعوا لشأنهم وتمشت من بعض إلى بعض رجالاتهم وأجمعوا أمرهم في غيبة من المذكور ببلاد الجلالقة في غزاة من صوائفه ووثبوا بصاحب الشرطة فقتلوه بمقعده من باب قصر الخلافة بقرطبة سنة تسع وتسعين وثلاثمائة وخلعوا هشاما المؤيد
بيعة المهدي بالله
وبايعوا محمد بن هشام بن عبد الجبار ابن أمير المؤمنين الناصر لدين الله من أعقاب الخلفاء ولقبوه بالمهدي بالله وطار الخبر إلى عبد الرحمن الحاجب ابن المنصور بمكانه من الثغر فانفض جمعه وقفل إلى الحضرة مدلا بمكانه زعيما بنفسه حتى إذا قرب من الحضرة تسلل عنه الناس من الجند ووجوه البربر ولحقوا بقرطبة وبايعوا المهدي القائم بالأمر وأغروه بعبد الرحمن الحاجب لكونه ماجنا مستهترا غير صالح للأمر فاعترضه منهم من قبض عليه واحتز رأسه وحمله إلى المهدي وإلى الجماعة وذهبت دولة العامريين كأن لم تكن ولله عاقبة الأمور
وفي المهدي يقول بعضهم
( قد قام مهدينا==

2. مجلد2. نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب
المؤلف : أحمد بن محمد المقري التلمساني

( وشارك الناس في حريم ... لولاه ما زال بالمصون )
( من كان من قبل ذا أجما ... فاليوم قد صار قرون )
خبر الفتنة البربرية
وكان رؤساء البربر وزناته لحقوا بالمهدي لما رأوا من سوء تدبير عبد الرحمن وانتفاض أمره وكانت الأموية تعتد عليهم ما كان من مظاهرتهم العامريين وتنسب تغلب المنصور وبنيه على الدولة إليهم فسخطتهم القلوب وخزرتهم العيون ولولا ما لهم من العصبية لاستأصلهم الناس ولغطت ألسنة الدهماء من أهل المدينة بكراهتهم وأمر المهدي أن لا يركبوا ولا يتسلحوا ورد بعض رؤسائهم في بعض الأيام من باب القصر فانتهب العامة دورهم وشكا بعضهم إلى المهدي ما أصابهم فاعتذر إليهم وقتل من اتهم من العامة في أمرهم وهو مع ذلك مظهر لبغضهم مجاهر بسوء الثناء عليهم وبلغهم أنه يريد الفتك بهم فتمشت رجالاتهم وأسروا نجواهم واشتوروا في تقديم هشام بن سليمان ابن أمير المؤمنين الناصر وفشا في الخاصة حديثهم فعوجلوا عن مرامهم ذلك وأغرى بهم السواد الأعظم فثاروا بهم وأزعجوهم عن المدينة وتقبض على هشام وأخيه أبي بكر وأحضر بين يدي

بيعة سليمان المستعين
ولحق سليمان ابن أخيهما الحكم بجنود البربر وقد اجتمعوا بظاهر قرطبة وتوامروا فبايعوه ولقبوه المستعين بالله ونهضوا به إلى ثغر طليطلة فاستجاش بابن أذفونش ثم نهض في جموع البرابرة والنصرانية إلى قرطبة وبرز إليه المهدي في كافة أهل البلد وخاصة الدولة فكانت الدائرة عليهم واستلحم منهم ما يزيد على عشرين ألفا وهلك من خيار الناس وأئمة المساجد وسدنتها ومؤذنيها عالم ودخل المستعين قرطبة ختام المائة الرابعة ولحق المهدي بطليطلة واستجاش بابن أذفونش ثانية فنهض معه إلى قرطبة وهزم المستعين والبرابرة بعقبة البقر من ظاهر قرطبة ودخل قرطبة اعني المهدي وملكها وخرج المستعين مع البربر وتفرقوا في البسائط ينبهون ولا يبقون على أحد ثم ارتحلوا إلى الجزيرة الخضراء فخرج المهدي ومعه ابن أذفونش لاتباعهم فكروا عليهم فانهزم المهدي وابن أذفونش ومن معه من المسلمين والنصارى واتبعهم المستعين إلى قرطبة فأخرج المهدي هشاما المؤيد للناس وبايع له وقام بأمر حجابته ظنا منه أن ذلك ينفعه وهيهات وحاصرهم المستعين والبربر فخشي أهل قرطبة من اقتحامهم عليهم فأغروا أهل القصر وحاشية المؤيد بالمهدي وأن الفتنة إنما جاءت من قبله وتولى كبر ذلك واضح العامري فقتلوا المهدي واجتمع الكافة على المؤيد وقام واضح بحجابته واستمر الحصار ولم يغن عن أهل قرطبة ما فعلوه شيئا إلى أن هلكت القرى والبسائط بقرطبة وعدمت المرافق وجهدهم الحصار وبعث المستعين إلى أهل ابن أذفونش يستقدمهم لمظاهرته فبعث إليهم هشام وحاجبه واضح يكفونهم عن ذلك بأن ينزلوا لهم عن ثغور قشتالة التي كان

افتتحها فسكن عن مظاهرتهم عزك أذفونش ولم يزل الأمر حتى دخل المستعين قرطبة ومن معه من البربر عنوة سنة ثلاث وأربعمائة وقتل هشام سرا ولحق بيوتات قرطبة معرة في نسائهم وأبنائهم
وظن المستعين أن قد استحكم أمره وتوثبت البرابرة والعبيد على الأعمال فولوا المدن العظيمة وتقلدوا البلاد الواسعة مثل باديس بن حبوس في غرناطة والبرزالي في قرمونة واليفرني في رندة وخزرون في شريش وافترق شمل الجماعة بالأندلس وصار الملك طوائف في آخرين من أهل الدولة مثل ابن عباد بإشبيلية وابن الأفطس ببطليوس وابن ذي النون بطليطلة وابن أبي عامر ببلنسية وابن هود بسرقسطة ومجاهد العامري بدانية والجزائر وكان مائلا لبني حمود يهجو سليمان المستعين
( لا رحم الله سليمانكم ... فإنه ضد سليمان )
( ذاك به غلت شياطينها ... وحل هذا كل شيطان )
( فباسمه ساحت على أرضنا ... لهلك سكان وأوطان )
وكان من أعظم الأسباب في فساد دولة المستعين أنه قال هذه الأبيات مستريحا بها إلى خواصه وهي قوله
( حلفت بمن صلى وصام وكبرا ... لأغمدها فيمن طغى وتجبرا

( فواعجبا من عبشمي مملك ... برغم العوالي والمعالي تبربرا )
( فلو أن أمري بالخيار نبذتهم ... وحاكمتهم للسيف حكما محررا )
( فإما حياة تستلذ بفقدهم ... وإما حمام لا نرى فيه ما زرى )
وقد سلك هذا المسلك المرتضى المرواني فقال
( قد بلغ البربر فينا بنا ... ما أفسد الأحوال والنظما )
( كالسهم للطائر لولا الذي ... فيه من الريش لما أصمى )
( قوموا بنا في شأنهم قومة ... تزيل عنا العار والرغما )
( إما بها نملك أو لا نرى ... ما يرجع الطرف به أعمى )
وكان علي بن حمود الحسني وأخوه قاسم من عقب إدريس ملك فاس وبانيها قد أجازوا مع البربر من العدوة إلى الأندلس فدعوا لأنفسهم واعصوصب عليهم البربر فملكوا قرطبة سنة سبع وأربعمائة وقتلوا المستعين ومحوا ملك بني أمية واتصل ذلك في خلف منهم سبع سنين ثم رجع الملك إلى بني أمية
وكان المستعين المذكور أديبا بليغا ومن شعره يعاض هرون الرشيد في قوله
( ملك الثلاث الآنسات عناني ... )
الأبيات قوله
( عجبا يهاب الليث حد سناني ... وأهاب سحر فواتر الأجفان )
( وأقارع الأهوال لا متهيبا ... منها سوى الإعراض والهجران )
( وتملكت نفسي ثلاث كالدمى

( ككواكب الظلماء لحن لناظري ... من فوق أغصان على كثبان )
( حاكمت فيهن السلو إلى الرضى ... فقضى بسلطان على سلطاني )
( هذي الهلال وتلك بنت المشتري ... حسنا وهذي أخت غصن البان )
( فأبحن من قلبي الحمى وتركنني ... في عز ملكي كالأسير العاني )
( لا تعذلوا ملكا تذلل في الهوى ... ذل الهوى عز وملك ثاني )
( ما ضر أني عبدهن صبابة ... وبنو الزمان وهن من عبداني )
( إن لم أطع فيهن سلطان الهوى ... كلفا بهن فلست من مروان )
بنو حمود
وولي الأمر بعده علي بن حمود الحسني تلفب بالناصر وخرج عليه العبيد وبعض المغاربة وبايعوا المرتضى أخا المهدي ثم اغتيل المرتضى واستقام الملك لعلي بن حمود نحو عامين إلى أن قتله صقالبته بالحمام سنة ثمان وأربعمائة فولي مكانه أخوه القاسم وتلقب بالمأمون ونازعه الأمر بعد أربع سنين من خلافته يحيى ابن أخيه وكان على سبتة فأجاز إلى الأندلس سنة عشر واحتل بمالقة وكان أخوه إدريس بها منذ عهد أبيهما فبعثه إلى سبتة ثم زحف يحيى إلى قرطبة فملكها سنة ثنتي عشرة وأربعماشة وتلقب المعتلي وفر عمه المأمون إلى إشبيلية وبايع له القاضي ابن عباد واستجاش بعض البرابرة ثم رجع إلى قرطبة سنة ثلاث عشرة وملكها ثم لحق المعتلي بمكانه من مالقة وتغلب على الجزيرة الخضراء وتغلب أخوه إدريس على طنجة من وراء البحر وكان المأمون

فلما بلغه الخبر اضطرب وثار عليه أهل قرطبة ونقضوا طاعته وخرج فحاصرهم فدافعوا ولحق بإشبيلية فمنعوه وكان بها ابنه فأخرجوه إليه وضبطوا بلدهم واستبد ابن عباد بملكها ولحق المأمون بشريش ورجع عنه البربر إلى يحيى المعتلي ابن أخيه فبايعوه سنة خمس عشرة وزحف إلى عمه المأمون فتغلب عليه ولم يزل عنده أسيرا وعند أخيه إدريس بمالقة إلى أن هلك بمحبسه سنة سبع وعشرين وقيل إنه خنق كما سيأتي واستقل المعتلي بالأمر واعتقل ابني عمه القاسم
وكان المستكفي من الأمويين استولى على قرطبة في هذه المدة عندما أخرج أهلها العلوية ثم خلع أهل قرطبة المستكفي الأموي سنة ست عشرة وصاروا إلى طاعة المعتلي واستعمل عليهم ابن عطاف من قبله ثم نقضوا سنة سبع عشرة وصرفوا عاملهم وبايعوا للمعتد الأموي أخي المرتضى وبقي المعتلي يردد لحصارهم العساكر إلى أن اتفقت الكلمة على إسلام الحصون والمدائن له فعلا سلطانه واشتد أمره إلى أن هلك سنة تسع وعشرين اغتاله أصحابه بدسيسة ابن عباد الثائر بإشبيلية فاستدعى أصحابه أخاه إدريس ابن علي بن حمود من سبتة وملكوه ولقبوه المتأيد وبايعته رندة وأعمالها والمرية والجزيرة الخضراء وبعث عساكره لحرب أبي القاسم إسماعيل ابن عباد والد المعتضد بن عباد فجاءوه برأسه بعد حروب وهلك ليومين بعد ذلك سنة إحدى وثلاثين وبويع ابنه يحيى ولم يتم له أمر وبويع حسن المستنصر بن المعتلي وفر يحيى إلى قمارش فهلك بها سنة أربع وثلاثين ويقال إنه قتله نجا وهلك حسن مسموما بيد ابنة عمه إدريس ثأرت منه بأخيها وكان إدريس بن يحيى المعتلي معتقلا بمالقة فأخرج بعد خطوب وبويع بها فأطاعته غرناطة

المشهورة بالمغرب التي قالها فيه أبو زيد عبد الرحمن بن مقانا القبذاقي الأشبوني من شعراء الذخيرة وهي
( ألبرق لائح من أندرين ... ذرفت عيناك بالماء المعين )
( لعبت أسيافه عارية ... كمخاريق بأيدي اللاعبين )
( ولصوت الرعد زجر وحنين ... ولقلبي زفراتت وأنين )
( وأناجي في الدجى عاذلتي ... ويك لا أسمع قول العاذلين )
( عيرتني بسقام وضنى ... إن هذين لدين العاشقين )
( قد بدا لي وضح الصبح المبين ... فاسقينها قبل تكبير الأذين )
( إسقنيها مزة مشمولة ... لبثت في دنها بضع سنين )
( نثر المزج على مفرقها ... دررا عامت فعادت كالبرين )
( مع فتيان كرام نجب ... يتهادون رياحين المجون )
( شربوا الراح على خد رشا )
( نور الورد به والياسمين )
( وجلت آياته عامدة ... سبج الشعر على عاج الجبين )
( لوت الصدغ على حاجبه ضمة اللام على عطفة نون )
( فترى غصنا على دعص نقا ... وترى ليلا على صبح مبين )
( وسيسقون إذا ما شربوا ... بأباريق وكأس من معين )

( مصابيح الدجى قد طفئت ... في بقايا من سواد الليل جون )
( وكأن الظل مسك في الثرى ... وكأن الطل در في الغصون )
( والندى يقطر من نرجسه ... كدموع أسبلتهن الجفون )
( والثريا قد هوت من أفقها ... كقضيب زاهر من ياسمين )
( وانبرى جنح الدجى عن صبحه ... كغراب طار عن بيض كنين )
( وكأن الشمس لما اشرقت ... فانثنت عنها عيون الناظرين )
( وجه إدريس بن يحيى بن علي ... بن حمود أمير المؤمنين )
( ملك ذو هيبة لكنه ... خاشع لله رب العالمين )
( خط بالمسك على أبوابه ... ادخلوها بسلام آمنين )
( فإذا ما رفعت راياته ... خفقت بين جناحي جبرئين )
( وإذا أشكل خطب معضل ... صدع الشك بمصباح اليقين )
( فبيسراه يسار المعسرين ... وبيمناه لواء السابقين )
( يا بني أحمد يا خير الورى ... لأبيكم كان وفد المسلمين )
( نزل الوحي عليه فاحتبى ... في الدجى فوقهم الروح الأمين )
( خلقوا من ماء عدل وتقى ... وجميع الناس من ماء وطين )
( انظروا نقتبس من نوركم ... إنه من نور رب العالمين )
وقيل إنه أشنده إياها من وراء حجاب اقتفاء لطريقة خلفاء بني العباس فلما بلغ إلى قوله
( انظرونا نقتبس من نوركم ... إنه من نور رب العالمين )
أمر حاجبه أن يرفع الحجاب وقابل وجهه وجه الشاعر دون

وأمر له بإحسان جزيل فكان هذا من أنبل ما يحكى عنه
وحلع العالي سنة ثمان وثلاثين وولي ابن عمه محمد بن إدريس بن علي وتلقب بالمهدي وتوفي سنة أربع وأربعين
وبويع إدريس بن يحيى بن إدريس ولقب الموفق ولم يخطب له بالخلافة وزحف إليه العالي إدريس المخلوع الممدوح بالقصيدة السابقة وكان بقمارش فدخل عليه مالقة وأطلق أيدي عبيدة عليها لحقده عليهم ففر كثير منهم وتوفي العالي سنة ست أو سبع وأربعين
وبويع محمد بن إدريس ولقب المستعلي ثم سار إليه باديس بن حبوس سنة تسع وأربعين وأربعمائة فتغلب على مالقة وسار محمد إلى المرية مخلوعا ثم استدعاه أهل المغرب إلى مليلة فأجاز إليهم وبايعوه سنة ست وخمسين وتوفي سنة ستين
وكان محمد بن القاسم بن حمود لما اعتقل أبوه القاسم بمالقة سنة أربع عشرة فر من الاعتقال ولحق بالجزيرة الخضراء وملكها وتلقب بالمعتصم إلى ان هلك سنة أربعين ثم ملكها بعده ابنه القاسم الواثق إلى أن هلك سنة خمسين وصارت الجزيرة للمعتضد بن عباد ومالقة لابن حبوس مزاحما لابن عباد
وانقرضت دولة الأشراف الحموديين من الأندلس بعد أن كانوا يدعون الخلافة
خلافة المستظهر
واما قرطبة فإن أهلها لما

وزحف إليهم القاسم بن حمود في البربر فهزمهم أهل قرطبة ثم اجتمعوا واتفقوا على رد الأمر لبني أمية واختاروا لذلك عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار أخا المهدي وبايعوه في رمضان سنة أربع عشرة وأربعمائة ولقبوه المستظهر وقاموا بأمره ومن شعره قوله
( طال عمر الليل عندي ... مذ تولعت بصدي )
( يا غزالا نقض العه ... ولم يوف بوعد )
( أنسيت العهد إذ بت ... على مفرش ورد )
( واجتمعنا في وشاح ... وانتظمنا نظم عقد )
( ونجوم الليل تحكى ... ذهبا في لازورد )
قال الحجاري لو قال لؤلؤا لا زورد لكان أحسن تشبيها وأنشد متمثلا
( إنا عصابتك الألى ... كنا نكابد ما تكابد )
( هذا أوان بلوغنا ال ... وإنجاز المواعد )
وكان حسان بن أبي عبيدة من وزراء المستظهر ولما أكثر المستظهر دونه الاستبداد كتب إليه بقوله )
( إذا غبت لم أحضر وإن جئت لم أسل )
( فسيان مني مشهد

( فأصبحت تيميا وما كنت قبلها ... لتيم ولكن الشبيه نسيب )
يشير إلى قول الأول
( ويقضى الأمر حين تغيب تيم ... ولا يستأذنون وهم شهود )
وعاتبه أيضا بقوله
( إذا كان مثلي لا يجازى بصبره ... فمن ذا الذي بعدي يجازى على الصبر )
( وكم مشهد حاربت فيه عدوكم ... وأملت في حربي له راحة الدهر )
( أخوض إلى أعدائكم لجج الوغى ... وأسري إليهم حيث لا أحد يسري )
( وقد نام عنهم كل مستبطن الحشا ... أكول إلى الممسى نؤوم إلى الظهر )
( فما بال هذا الأمر أصبح ضائعا ... وأنت أمين الله تحكم في الأمر )
وسيأتي إن شاء الله تعالى من كلام الوزير المذكور ما يدل على عظيم قدره وهناك نذكر تحلية الفتح له
بيعة المستكفي والمعتد
ثم ثار عليه لشهرين من خلافته محمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله ابن أمير المؤمنين الناصر لدين الله فاتبعه الغوغاء وفتك بالمستظهر وتلقب بالمستكفي واستقل بأمر قرطبة وهو والد الأديبة الشهيرة ولادة ولعلنا نلم ببعض أخبارها إن شاء الله تعالى فيما بعد وكان أبوه عبد الرحمن قتله المنصور بن أبي عامر لسعيه في الخلاف
ثم بعد ستة عشر شهرا من بيعة المستكفي رجع الأمر إلى المعتلي

المعتلي من قبله وفر المستكفي إلى ناحية الثغر ومات في مفره ثم بدا لأهل قرطبة فخلعوا المعتلي بن حمود سنة سبع عشرة وبايع الوزير أبو محمد جهور ابن محمد بن جهور عميد الجماعة وكبير قرطبة لهشام بن محمد أخي المرتضى وكان بالثغر في لاردة عند ابن هود وذلك سنة ثماني عشرة وتلقب المعتد بالله وأقام مترددا في الثغر ثلاثة أعوام واشتدت الفتن بين رؤساء الطوائف واتفقوا على أن ينزل دار الخلافة بقرطبة فاستقدمه ابن جهور والجماعة ونزلها آخر سنة عشرين وأقام بها يسيرا ثم خلعه الجند سنة ثنتين وعشرين وفر إلى لاردة فهلك بها سنة ثمان وعشرين
انقضاء الأموية وظهور ملوك الطوائف
وانقطعت الدولة الأموية من الأرض وانتثر سلك الخلافة بالمغرب وقام الطوائف بعد انقراض الخلائف وانتزى الأمراء والرؤساء من البربر والعرب والموالي بالجهات واقتسموا خطتها وتغلب بعض على بعض واستقل أخيرا بأمرها منهم ملوك استفحل أمرهم وعظم شأنهم ولاذوا بالجزى للطاغية أن يظاهر عليهم أو يبتزهم ملكهم وأقاموا على ذلك برهة من الزمان حتى قطع إليهم البحر ملك العدوة وصاحب مراكش أمير المسلمين يوسف بن تاشفين اللمتوني فخلعهم وأخلى منهم الأرض
ملوك الطوائف
1 - بنو عباد وبنو جهور
فمن أشهرهم بنو عباد ملوك إشبيلية وغرب الأندلس الذين منهم المعتمد ابن عباد الشهير الذكر

ومنهم بنو جهور كانوا بقرطبة في صورة الوزارة حتى استولى عليهم المعتمد بن عباد وأخذ قرطبة وجعل عليها ولده ثم كانت له وعليه حروب وخطوب وفرق أبناءه على قواعد الملك وأنزلهم بها واستفحل أمره بغرب الأندلس وعلت يده على من كان هنالك من ملوك الطوائف مثل ابن حبوس بغرناطة وابن الأفطس ببطليوس وابن صمادح بالمرية وغيرهم فكانوا يخطبون سلمه ويغلون في مرضاته وكلهم يدارون الطاغية ويتقونه بالجزي إلى أن ظهر يوسف بن تاشفين واستفحل ملكه فتعلقت آمال الأندلس بإعانته وضايقهم الطاغية في طلب الجزية فقتل المعتمد اليهودي الذي جاء في طلب الجزية للطاغية بسبب كلمة آسفة بها ثم أجاز البحر صريخا إلى يوسف بن تاشفين فأجاز معه البحر والتقوا مع الطاغية في الزلاقة فكانت الهزيمة المشهورة على النصارى ونصر الله تعالى الإسلام نصرا لا كفاء له حتى قال بعض المؤرخين إنه كان عدد النصارى ثلاثمائة ألف ولم ينج منهم إلا القليل وصبر فيها المعتمد صبر الكرام وكان قد أعطى يوسف بن تاشفين الجزيرة الخضراء ليتمكن من الجواز متى شاء ثم طلب الفقهاء بالأندلس من يوسف بن تاشفين رفع المكوس والظلامات عنهم فتقدم بذلك إلى ملوك الطوائف فأجابوه بالامتثال حتى إذا رجع من بلادهم رجعوا إلى حالهم وهو خلال ذلك يردد عساكره للجهاد ثم أجاز إليهم وخلع جميعهم ونازلت عساكره جميع بلادهم واستولى على قرطبة وإشبيلية وبطليوس وغرناطة وغيرها وصار المعتمد بن عباد كبير ملوك الأندلس في قبضته أسيرا بعد حروب ونقله إلى أغمات قرب مراكش سنة أربع وثمانين وأربعمائة واعتقله هنالك إلى أن مات سنة ثمان وثمانين وسنلم

وللمعتمد هذا أخبار مأثورة خصوصا مع زوجته أم أولاده الرميكية الملقبة باعتماد وقد روي أنها رات ذات يوم بإشبيلية نساء البادية يبعن اللبن في القرب وهن رافعات عن سوقهن في الطين فقالت له أشتهي أن أفعل أنا وجواري مثل هؤلاء النساء فأمر المعتمد بالعنبر والمسك والكافور وماء الورد وصير الجميع طينا في القصر وجعل لها قربا وحبالا من إبريسم وخرجت هي وجواريها تخوض في ذلك الطين فيقال إنه لما خلع وكانت تتكلم معه مرة فجرى بينهما ما يجري بين الزوجين فقالت له والله ما رأيت منك خيرا فقال لها ولا يوم الطين تذكيرا لها بهذا اليوم الذي أباد فيه من الأموال ما لا يعلمه إلا الله تعالى فاستحيت وسكتت
ومن أعظم ملوك الطوائف غير من تقدم بنو رزين أصحاب السهلة وبنو الفهري أصحاب البونت وتغلب عليهما أخيرا يوسف بن تاشفين
بنو ذي النون بطليطلة
ومن أعظم ملوك الطوائف بنو ذي النون ملوك طليطلة من الثغر الجوفي وكانت لهم دولة كبيرة وبلغوا في البذخ والترف إلى الغاية ولهم الإعذار المشهور الذي يقال له الإعذار الذنوني وبه يضرب المثل عند أهل المغرب وهو عندهم بمثابة عرس بوران عند أهل المشرق والمأمون من بني ذي النون هو صاحب ذلك وهو الذي عظم بين ملوك الطوائف سلطانه وكان بينه وبين الطاغية مواقف مشهورة وغلب على قرطبة وملكها من يد ابن عباد المعتمد وقتل

وفي أيام حافد المأمون وهو القادر بن ذي النون كان الطاغية ابن أذفونش قد استفحل أمره لما خلا الجو من مكان الدولة الخلافية وخف ما كان على كاهله من إصر العرب فاكتسح البسائط وضايق ابن ذي النون حتى أخذ من يده طليطلة فخرج له عنها سنة ثمان وسبعين وأربعمائة كما سبق وشرط عليه أن يظاهره علىأهل بلنسية فقبل شرطه وتسلمها ابن الفونش ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظم
ومن أعظم ملوك الأندلس الموالي العامريون مثل خيران وزهير وأشباههما وأخبار الجميع تطول
بنو هود بسرقسطة
ومن ملوك الطوائف بالأندلس بنو هود ملوك سرقسطة وما إليها ومن أشهرهم المقتدر بالله وابنه يوسف المؤتمن وكان المؤتمن قائما على العلوم الرياضية وله فيها تآليف ومنها كتاب الاستكمال والمناظر وولي بعده ابنه المستعين أحمد سنة أخذ طليطلة وعلى يده كانت وقعة وشقة زحف سنة تسع وثمانين في آلاف لا تحصى من المسلمين ليدافع الطاغية عن وشقة وكان محاصرا لها فلقيه الطاغية وهزمه وهلك من المسلمين نحو عشرة آلاف وهلك هو شهيدا سنة ثلاث وخمسمائة بظاهر سرقسطة في زحف الطاغية إليها وولي ابنه عبد الملك عماد الدولة وأخرجه الطاغية من سرقسطة سنة ثنتي عشرة وتولى ابنه سيف الدولة وبالغ في النكاية بالطاغية ثم اتفق معه وانتقل بحشمه إلى طليطلة فكان فيها حمامه
ومن شعر المقتدر بن هود

( قصر السرور ومجلس الذهب ... بكما بلغت نهاية الأرب )
( لو لم يحز ملكي خلافكما ... كانت لدي كفاية الطلب )
بنو الأفطس ببطليوس
ومن مشاهير ملوك الطوائف بنو الأفطس أصحاب بطليوس وما إليها والمظفر منهم هو صاحب التأليف المسمى بالمظفري في نحو الخمسين مجلدا والمتوكل منهم قتل على يد جيش يوسف بن تاشفين وفيه قال ابن عبدون قصيدته المشهورة
( الدهر يفجع بعد العين بالأثر ... فما البكاء على الأشباح والصور )
وهي من غرر القصائد
اللمتونيون ثم الموحدون
فلما استولى لمتونة على بلاد الأندلس وأزالوا ملوك الطوائف منها وبقيت عمالهم تتردد إليها وبنوهم حتى فشلت ريحهم وهبت ريح الموحدين أعني عبد المؤمن بن علي وبنيه فحاربوا لمتونة واستولوا على ملكهم بالمغرب بعد حروب كثيرة ثم أجازوا البحر إلى الأندلس وملكوا أكثر بلاد الأندلس وملك بنو مردنيش شرق الأندلس وملخص ذلك أن الأندلس كان ملكها مجموعا للمتونة بعد خلعهم ملوك الطوائف فلما

وعادت إلى الف رقة بعض الشيء ثم خلص اكثرها لعبد المؤمن وبنيه بعد حروب منها ما حصل بين عبد المؤمن وبين ابن مردنيش وقائده ابن همشك بفحص غرناطة وقد استعان ابن مردنيش بالنصارى على الموحدين فهزمهم عبد المؤمن وقتلهم أبرح قتل واستخلص غرناطة سنة سبع وخمسين وخمسمائة من يد ابن مردنيش
غزوة الأرك
وولي الأمر بعد عبد المؤمن ابنه يوسف وأجاز إلى الأندلس وكانت له مواقف في جهاد العدو وولي بعده ابنه يعقوب المنصور الطائر الصيت وكانت له في النصارى بالأندلس نكاية كبيرة ومن أعظمها غزوة الأرك التي تضاهي وقعة الزلاقة أو تزيد والأرك موضع نواحي بطليوس وكانت سنة إحدى وتسعين وخمسمائة وغنم فيها المسلمون ما عظم قدره وكان عدة من قتل من الفرنج فيما قيل مائة ألف وستة وأربعين ألفا وعدة الأساري ثلاثين ألفا وعدة الخيام مائة ألف وخمسين ألف خيمة والخيل ثمانين ألفا والبغال مائة ألف والحمير أربعمائة ألف جاء بها الكفار لحمل أثقالهم لأنهم لا إبل لهم وأما الجواهر والأموال فلا تحصى وبيع الأسير بدرهم والسيف بنصف درهم والفرس بخمسة دراهم والحمار بدرهم وقسم يعقوب الغنائم بين المسلمين بمقتضى الشرع ونجا الفنش ملك النصارى إلى طليطلة في أسوإ حال فحلق رأسه ولحيته ونكس طليبه وآلى أن لا ينام على فراش ولا يقرب النساء ولا يركب فرسا ولا دابة حتى يأخذ بالثأر وصار يجمع من الجزائر والبلاد البعيدة ويستعد ثم لقيه يعقوب وهزمه وساق خلفه

يبق إلا فتحها فخرجت إليه والدة الأذفونش وبناته ونساؤه وبكين بين يديه وسألنه إبقاء البلد عليهن فرق لهن ومن عليهن بها ووهب لهن من الأموال والجواهر ما جل وردهن مكرمات وعفا بعد القدرة وعاد إلى قرطبة فأقام شهرا يقسم الغنائم وجاءته رسل الفنش بطلب الصلح فصالحه وأمن الناس مدته وفيه يقول بعض شعراء عصره
( أهل بأن يسعى إليه ويرتجى ... ويزار من أقصى البلاد على الرجا )
( من قد غدا بالمكرمات مقلدا ... وموشحا ومختما ومتوجا )
( عمرت مقامات الملوك بذكره ... وتعطرت منه الرياح تأرجا )
بين صلاح الدين ويعقوب الموحدي
وهو الذي أرسل له السلطان صلاح الدين بن أيوب شمس الدين بن منقذ يستنجد به على الفرنج الخارجين عليه بساحل

المؤمنين فلم يجبه إلى ما طلبه وكل ذلك في سنة 587 ومدحه ابن منقذ بقوله من قصيدة
( سأشكر بحرا ذا عباب قطعته ... إلى بحر جود ما لأخراه ساحل )
( إلى معدن التقوى إلى كعبة الندى ... إلى من سمت بالذكر منه الأوائل )
( إليك أمير المؤمنين ولم تزل ... إلى بابك المأمول تزجي الرواحل )
( قطعت إليك البر والبحر موقنا ... بأن نداك الغمر بالنجح كافل )
( وحزت بقصديك العلا فبلغتها ... وأدنى عطاياك العلا والفواضل )
( فلا زلت للعلياء والجود بانيا ... تبلغك الآمال ما أنت آمل )
وعدتها أربعون بيتا فأعطاه بكل بيت ألفا وقال له إنما أعطيناك لفضلك ولبيتك
وكان عنوان الكتاب الذي أرسله صلاح الدين إلى أمير المسلمين وفي أوله الفقير إلى الله تعالى يوسف بن أيوب وبعده من إنشاء الفاضل الحمد لله الذي استعمل على الملة الحنيفية من استعمر الأرض وأغنى من أهلها من سأله القرض وأجزى من أجرى على يده النافلة والفرض وزين سماء الملة بدراري الذراري التي بعضها من بعض وهوكتاب طويل سأله فيه أن يقطع عنه مادة البحر واستنجده على الإفرنج إذ كانت له اليد عليهم وعاد ان منقذ من هذه الرسالة سنة 588 بغير فائدة وبعث معه هدية حقيرة وأما ابن منقذ فإنه أحسن إليه وأغناه لا لأجل صلاح الدين بل لبيته وفضله كما مر وما وقع من يعقوب في صلاح الدين إنما هو لأجل أنه لم يوفه حقه في الخطاب
الموحدون والأندلس
رجع ولما استفحل أمر الموحدين بالأندلس

وكانوا يسمونهم السادة واقتسموا ولاياتها بينهم ولهم مواقف في جهاد العدو مذكورة وكان صاحب الأمر بمراكش يأتي الأندلس للجهاد وهزم يعقوب المنصور كما سبق قريبا بالأرك ابن أذفونش ملك الجلالقة الهزيمة الشنعاء
العقاب والتياث أمر الموحدين
وأجاز ابنه الناصر الوالي بعده البحر إلى الأندلس من المغرب سنة تسع وستمائة ومعه من الجنود ما لا يحصى حتى حكى بعض الثقات من مؤرخي المغرب أنه اجتمع معه من أهل الأندلس والمغرب ستمائة ألف مقاتل فمحص الله المسلمين بالموضع المعروف بالعقاب واستشهد منهم عدة وكانت سبب ضعف المغرب والأندلس أما المغرب فبخلاء كثير من قراه وأقطاره وأما الأندلس فبطلب العدو عليها لأنه لما التاث أمر الموحدين بعد الناصر ابن المنصور انتزى السادة بنواحي الأندلس كل في عمله وضعف ملكهم بمراكش فصاروا إلى الاستجاشة بالطاغية بعضهم على بعض وإسلام حصون المسلمين إليه في ذلك فمشت رجالات الأندلس وأعقاب العرب منذ الدولة الأموية وأجمعوا على إخراجهم فثاروا بهم لحين واحد وأخرجوهم وتولى كبر ذلك محمد بن يوسف بن هود الجذامي الثائر بالأندلس وابن مردنيش وثوار آخرون
ابن هود ومنافسه ابن الأحمر
قال ابن خلدون ثم خرج على ابن هود في دولته من أعقاب دولة العرب أيضا وأهل نسبهم محمد بن يوسف بن نصر المعروف بابن الأحمر وتلقب محمد هذا

وكان ابن هود يخطب للعباسي صاحب بغداد ثم حصلت لابن هود وأعقابه حروب وخطوب إلى أن كان آخرهم الواثق بن المتوكل فضايقه الفنش والبرشلوني فبعث بالطاعة لابن الأحمر فبعث إليه ابن أشقيلولة وتسلم مرسية منه وخطب لابن الأحمر بها ثم خرج منها راجعا إلى ابن الأحمر فأوقع به النصارى في طريقه ثم رجع الواثق إلى مرسية ثالثة فلم يزل إلى أن ملكها العدو من يده سنة ثمان وستين وستمائة وعوضه عنها حصنا يسمى يسر وهو من عملها فبقي فيه إلى أن هلك وانقرضت دولة ابن هود والله وارث الأرض ومن عليها
دولة بني الأحمر
ولنذكر ملوك بني الأحمر إجمالا لأن لسان الدين وزير أحدهم ولأنهم آخر ملوك الأندلس ومن يدهم استولى النصارى على جميعها كما سنذكره قال ابن خلدون أصلهم من أرجونة من حصون قرطبة ولهم فيها سلف من أبناء الجند ويعرفون ببني نصر وينتسبون إلى سعد بن عبادة سيد الخزرج وكان كبيرهم لآخر دولة الموحدين محمد بن يوسف بن نصر ويعرف بالشيخ وأخوه إسماعيل وكانت له وجاهة في ناحيتهم
ولما فشلت ريح الموحدين وانتزى الثوار بالأندلس وأعطى السادة حصونها للطاغية استقل بأمر الجماعة محمد بن يوسف بن هود الثائر بمرسية بدعوة العباسية وتغلب على شرق الأندلس أجمع فتصدى الشيخ هذا للثورة وبويع له سنة تسع وعشرين وستمائة ودعا لأبي زكرياء صاحب إفريقية وأطاعته جيان

بني نصر وأصهاره بني أشقيلولة ثم بايع لبني هود سنة إحدى وثلاثين عندما بلغه خطاب الخليفة من بغداد ثم ثار بإشبيلية أبو مروان الباجلي عند خروج ابن هود عنها ورجوعه إلى مرسية فداخله محمد بن الأحمر في الصلح على أن يزوجه ابنته فأطاعه ودخل إشبيلية سنة اثنتين وثلاثين ثم فتك بابن الباجي فقتله وتناول البطش به علي بن أشقيلولة ثم راجع أهل إشبيلية بعدها بشهر دعوة ابن هود وأخرج ابن الأحمر ثم تغلب على غرناطة سنة خمس وثلاثين بمداخلة أهلها حين ثار ابن أبي خالد بدعوته فيها ووصلته بيعتها وهو بجيان فقدم إليها علي بن أشقيلولة ثم جاء على أثره ونزلها وابتنى بها حصن الحمراء لنزوله ثم تغلب على مالقة ثم تناول المرية من يد ابن الرميمي وزير ابن هود الثائر بها سنة ثلاث وأربعين ثم بايعه أهل لورقة سنة ثلاث وستين وكان ابن الأحمر أول أمره وصل يده بالطاغية استظهارا على أمره فعضده وأعطاه ابن هود ثلاثين حصنا في كف غربه بسبب ابن الأحمر وليعينه على ملك قرطبة فتسلمها ثم تغلب على قرطبة سنة ثلاث وثلاثين وستمائة أعادها الله ثم نازل إشبيلية سنة ست وأربعين وابن الأحمر معه ثم دخلها صلحا وملك أعمالها ثم ملك مرسية سنة خمس وستين ولم يزل الطاغية يقتطع ممالك المسلمين كورة كورة وثغرا ثغرا إلى أن لجأ المسلمون إلى سيف البحر ما بين رندة من الغرب وإلبيرة من شرق الأندلس نحو عشر مراحل من الغرب إلى الشرق وفي قدر مرحلة أو دونها في العرض ما بين البحر والجوف ثم سخط ابن الأحمر وطمع في الاستيلاء على سائر الجزيرة فامتنعت عليه وتلاحق بالأندلس الغزاة من بني مرين وغيرهم وعقد ملك المغرب

آلاف منهم فأجازوا في حدود الستين وستمائة وتقبل ابن الأحمر إجازتهم ودفع بهم في نحر عدوه ورجعوا ثم تناسلوا إليه بعد ذلك ولم يزل الأمر على ذلك إلى أن هلك الشيخ ابن الأحمر سنة إحدى وسبعين وستمائة وولي بعده ابنه محمد الفقيه وأوصاه باستصراخ بني مرين ملوك المغرب بعد الموحدين إن طرقه أمر أن يعتضد بهم فأجاز الفقيه إلى يعقوب بن عبد الحق سلطان فاس والمغرب سنة ثنتين وسبعين فأجاب صريخه وأرسل ابنه وعساكره معه ثم أجاز على أثره وتسلم الجزيرة الخضراء من ثائر كان بها وجعلها ركابا لجهاده ونزل إليه ابن الأحمر عن طريف وما إليها من الحصون وهزم هو وابن الأحمر زعيم النصرانية ذنبه وفرق جمعه وأوقع بجموع الطاغية من كل جهة وبث سراياه وبعوثه في أرض النصرانية ثم خاف ابن الأحمر على ملكه وصالح الطاغية ثم عاد انتهى كلام ابن خلدون ملخصا
وثبتت قدم عقب ابن الأحمر بالأندلس واستولوا على جميع ما بأيدي المسلمين من ملكها مثل الجزيرة وطريف ورندة التي كانت بيد بني مرين
بين دون بطره وأبي الوليد ابن الأحمر
وبعد مدة ألب ملوك النصارى سنة تسع عشرة وسبعمائة على غرناطة وجاءها الطاغية بدون بطره في جيش لا يحصى ومعه خمسة وعشرون ملكا وكان من خبر هذه الوقعة أن الإفرنج حشدوا وجمعوا وذهب سلطانهم دون بطره إلى طليطلة ودخل على مرجعهم الذي يقال له البابا وسجد له وتضرع وطلب منه استئصال ما بقي من المسلمين بالأندلس وأكد عزمه فقلق المسلمون بغرناطة وغيرها وعزموا على الاستنجاد بالمريني أبي سعيد

صاحب فاس وأنفذوا إليه رسلا فلم ينجع ذلك الدواء فرجعوا إلى أعظم الأدوية وهو اللجأ إلى الله تعالى وأخلصوا النيات وأقبل الإفرنج في جموع لا تحصى فقضى ناصر من لا ناصر له سواه بهزم أمم النصرانية وقتل طاغيتهم دون بطره ومن معه وكان نصرا عزيزا ويوما مشهودا
وكان السلطان إذ ذاك بالأندلس الغالب بالله أبو الوليد إسماعيل ابن الرئيس أبي سعيد فرج بن نصر المعروف بابن الأحمر رغب أن يحصن البلاد والثغور فلما بلغ النصارى ذلك عزموا على منازلة الجزيرة الخضراء فانتدب السلطان ابن الأحمر لردهم وجهز الأساطيل والرجال فلما رأوا ذلك طلبوا إلى طليطلة وعزموا على استئصال بلاد المسلمين وتأهبوا لذلك غاية الأهبة ووصلت الأثقال والمجانيق وآلات الحصار والأقوات في المراكب ووصل العدو إلى غرناطة وامتلأت الأرض بهم فتقدم السلطان إلى شيخ الغزاة الشيخ العالم أبي سعيد عثمان بن أبي العلاء المريني بالخروج إلى لقائهم بأنجاد المسلمين وشجعانهم فخرج إليهم يوم الخميس الموفى عشرين لربيع الأول
ولما كانت ليلة الأحد أغارت سرية من العدو على ضيعة من المسلمين فخرجت إليهم جماعة من فرسان الأندلس الرماة فقطعوهم عن الجيش وفرت تلك السرية أمامهم إلى جهة سلطانهم فتبعهم المسلمون إلى الصبح فاستأصلوهم وكان هذا أول النصر
ولما كان يوم الأحد ركب الشيخ أبو سعيد لقتال العدو في خمسة آلاف من أبطال المسلمين المشهورين فلما شاهدهم الفرنج عجبوا من إقدامهم مع قتلهم في تلك الجيوش العظيمة فركبوا وحملوا بجملتهم عليهم فانهزم الفرنج أقبح هزيمة وأخذتهم السيوف وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون ثلاثة أيام وخرج أهل غرناطة لجمع الأموال وأخذ الأسرى فاستولوا على أموال عظيمة منها من الذهب فيما قيل ثلاثة وأربعون قنطارا ومن الفضة مائة وأربعون قنطارا ومن السبي سبعة

بعض الغرناطيين إلى الديار المصرية وكان من جملة الأسرى امرأة الطاغية وأولاده فبذلت في نفسها مدينة طريف وجبل الفتح وثمانية عشر حصنا فيما حكى بعض المؤرخين فلم يقبل المسلمون ذلك وزادت عدة القتلى في هذه الغزوة على خمسين ألفا ويقال إنه هلك منهم بالوادي مثل هذا العدد لعدم معرفتهم بالطريق وأما الذين هلكوا بالجبال والشعاب فلا يحصون وقتل الملوك الخمسة والعشرون جميعهم واستمر االبيع في الأسرى والأسباب والدواب ستة أشهر ووردت البشائر بهذا النصر العظيم إلى سائر البلاد
ومن العجب أنه لم يقتل من المسلمين والأجناد سوى ثلاثة عشر فارسا وقيل عشرة أنفس وقيل كان عسكر الإسلام نحو ألف وخمسمائة فارس والرجالة نحوا من أربعة آلاف راجل وقيل دون ذلك
وكانت الغنيمة تفوت الوصف وسلخ الطاغية دون بطره وحشي جلده قطنا وعلق على باب غرناطة وبقي معلقا سنوات وطلبت النصارى الهدنة فعقدت لهم بعد أن ملكوا جبل الفتح الذي كان من أعمال سلطان فاس والمغرب وهو جبل طارق ولم يزل بأيديهم إلى أن ارتجعه أمير المسلمين أبو الحسن المريني صاحب فاس والمغرب بعد ان أنفق عليه الأموال وصرف إليه الجنود والحشود ونازلته جيوشه مع ولده وخواصه وضيقوا به إلى أن استرجعوه ليد المسلمين واهتم ببنائه وتحصينه وأنفق عليه أحمال مال في بنائه وحصنه وسوره وأبراجه وجامعه ودوره ومخازنه ولما كاد يتم ذلك نازله العدو برا وبرحا فصبر المسلمون وخيب الله سعي الكافرين فأراد السلطان المذكور أن يحصن سفح الجبل بسور محيط به من جميع جهاته حتى لا يطمع عدو في منازلته ولا يجد سبيلا للتضييق عند محاصرته ورأى الناس ذلك

الهالة بالهلال وكان بقاء هذا الجبل بيد العدو نيفا وعشرين سنة وحاصره السلطان أبو الحسن ستة أشهر وزاد في تحصينه ابنه السلطان أبو عنان ولما أجاز السطان أبو الحسن المذكور إلى الأندلس واجت مع عليه ابن الأحمر وقاتلهم الطاغية هزمهم في وقعة طريف واستولى على الجزيرة الخضراء حتى قيض الله من بني الاحمر الغني بالله محمدا الذي كان لسان الدين بن الخطيب وزيره فاسترجعها وجملة بلاد كجيان وغيرها
وكانت له في الجهاد مواقف مشهورة وامتد ملكه واشتد حتى محا دولة سلاطين فاس مما وراء البحر وملك جبل الفتح ونصر الله الإسلام على يده كما ستقف عليه في بعض مكاتبات لسان الدين رحمه الله في مواضع من هذا الكتاب وسعد هذا الغني بالله من العجائب
وبقي ملك الأندلس في عقبه إلى أن أخذ ما بقي من الأندلس العدو الكافر واستولى على حضرة الملك غرناطة أعادها الله للإسلام كما تبين إن شاء الله وخلت جزيرة الأندلس من أهل الإسلام وأبدلت من النور بالظلام حسبما اقتضته الأقدار النافذة والأحكام والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين
شيخ الغزاة أيام بني الأحمر
قال ابن خلدون واتفق بنو الأحمر سلاطين غرناطة أن يجعلوا مشيخة الغزاة لواحد يكون من أقارب بني مرين سلاطين المغرب لأنهم أول من ولي الأندلس عند استيلاء بني عمهم على ملك المغرب لما بينهم

وكان لهؤلاء في الجهاد مواقف مشهورة وسأذكر لك ما كتب على قبر شيخ الغزاة عثمان بن أبي العلاء لتستدل عند ذلك على ما ذكرناه بحمد الله تعالى هذا قبر شيخ الحماة وصدر الأبطال الكماة واحد الجلالة ليث الإقدام والبسالة علم الأعلام حامي ذمار الإسلام صاحب الكتائب المنصورة والأفعال المشهورة والمغازي المسطورة وإمام الصفوف القائم بباب الجنة تحت ظلال السيوف سيف الجهاد وقاصم الأعاد وأسد الآساد العالي الهمم الثابت القدم الهمام المجاهد الأرضى البطل الباسل الأمضى المقدس المرحوم أبي سعيد عثمان ابن الشيخ الجليل الهمام الكبير الأصيل الشهير المقدس المرحوم أبي العلاء إدريس بن عبد الله بن عبد الحق كان عمره ثمانيا وثمانين سنة أنفقه ما بين روحة في سبيل الله وغدوة حتى استوفى في المشهور سبعمائة واثنتين وثلاثين غزوة وقطع عمره مجاهدا مجتهدا في طاعة الرب محتسبا في إدارة الحرب ماضي العزائم في جهاد الكفار مصادما بين جموعهم تدفق التيار وصنع الله تعالى له فيهم من الصنائع الكبار ما سار ذكره في الأقطار أشهر من المثل السيار حتى توفي رحمه الله وغبار الجهاد طي أثوابه وهو مراقب لطاغية الكفار وأحزابه فمات على ما عاش عليه وفي ملحمة الجهاد قبضه الله تعالى إليه واستأثر به سعيدا مرتضى وسيفه على رأس ملك الروم منتضى مقدمة قبول وإسعاد ونتيجة جهاد وجلاد ودليلا على نيته الصاحلة وتجارته الرابحة فارتجت الأندلس لبعده أتحفه الله تعالة رحمة الله من عنده توفي يوم الأحد الثاني لذي الحجة من عام ثلاثين وسبعمائة انتهى
ومنها ما كتب به لسان الدين بن الخطيب رحمه الله في تولية علي ابن بدر الدين

أبواب السراء وراق طرازا مذهبا على عاتق الدولة الغراء وأعمل عوامل الجهاد في طاعة رب العباد شارعة لأهل الكفر والعناد من باب الإعمال والإغراء أمر به فلان صدر صدور أددائه وحسامه المشهور على أعدائه ووليه الذي خبر صدق وفائه وجلى في مضمار الخلوص له مغبرا في وجوه أكفائه شيخ شيوخ المجاهدين وقائد كتائبه المنصورة إلى غزو الكافرين المعتدين وعترته التي يدافع بها عن الدين وسابق وده المبرز في الميادين الشيخ الأجل إلى آخر ما وصفه به مما ضاق الوقت عن مثله والله ولي

الباب الرابع في ذكره قرطبة التي كانت الخلافة بمصرها للأعداء قاهرة وجامعها الأموي ذي البدائع الباهية الباهرة والإلماع بحضرتي الملك الناصرية الزهراء والعامرية الزاهرة ووصف جملة من منتزهات تلك الأقطار ومصانعها ذات المحاسن الباطنة والظاهرة وما يجر إليه شجون الحديث من أمور تقضي بحسن إيرادها القرائح الوقادة والأفكار الماهرة
نقول في وصف قرطبة
قال ابن سعيد رحمه الله مملكة قرطبة في الإقليم الرابع وإيالته للشمس وفي هذه المملكة معدن الفضة الخالصة في قرية كرتش ومعدن الزئبق والزنجفر في بلد بسطاسة ولأجزائها خواص مذكورة في متفرقاتها وأرضها أرض كريمة للنبات انتهى
وقدم رحمه الله في المغرب الكلام عليها على سائر أقطار الأندلس وقال إنما قدمنا هذه المملكة من بين سائر الممالك الأندلسية لكون سلاطين الأندلس الأول اتخذوها سريرا لسلطنة الأندلس ولم يعدلوا عن حضرتها قرطبة ثم سلاطين بني أمية وخلفاؤهم لم يعدلوا عن هذه المملكة وتقلبوا منها

اتخذوها لهذا الشأن لما رأوها لذلك أهلا وقرطبة أعظم علما وأكثر فضلا بالنظر إلى غيرها من الممالك لاتصال الحضارة العظيمة والدولة المتوارثة فيها
ثم قسم ابن سعيد كتاب الحلة المذهبة في حلى ممالك قرطبة بالنظر إلى الكور إلى أحد عشر كتابا
الكتاب الأول كتاب الحلة الذهبية في حل الكورة القرطبية
الكتاب الثاني كتاب الدرر المصونة في حلى كورة بلكونة
الكتاب الثالث كتاب محادثة السمير في حلى كورة القصير
الكتاب الرابع كتاب الوشي المصور في حلى كورة المدور
الكتاب الخامس كتاب نيل المراد في حلى كورة مراد
الكتاب السادس كتاب المزنة في حلى كورة كزنة
الكتاب السابع كتاب الدر النافق في حلى كورة غافق
الكتاب الثامن كتاب النفحة الأرجة في حلى كورة إستجة
الكتاب التاسع كتاب الكواكب الدرية في حلى الكورة القبرية
الكتاب العاشر كتاب رقة المحبة في حلى كورة إستبة الكتاب الحادي عشر كتاب السوسانة في حلى كورة اليسانة انتهى
ثم قال رحمه الله تعالى إن العمارة اتصلت في مباني قرطبة والزهراء والزاهرة بحيث إنه كان يمشى فيها لضوء السرج المتصلة عشرة أميال حسبما ذكره الشقندي في رسالته ثم قال ولكل مدينة من مدن قرطبة وأعمالها ذكر مختص به ثم ذكر المسافات التي بين ممالك قرطبة المذكورة فقال بين المدور وقرطبة ستة عشر ميلا وبين قرطبة ومراد خمسة وعشرون ميلا وبين قرطبة والقصير ثمانية عشر ميلا وبين قرطبة وغافق مرحلتان

مرحلتان وبين قرطبة واليسانة أربعون ميلا وبين قرطبة وقبره ثلاثون ميلا وبين قرطبة وبيانة مرحلتان وبين قرطبة وإستجة ثلاثون ميلا وكورة رندة كانت من في القديم عمل قرطبة ثم صارت من مملكة إشبيلية وهي أقرب وأدخل في المملكة الإشبيلية انتهى
ثم قسم رحمه الله تعالى كتاب الحلة الذهبية في حلى الكورة القرطبية إلى خمسة كتب
الكتاب الأول كتاب النغم المطربة في حلى حشرة قرطبة
الكتاب الثاني كتاب الصبيحة الغراء في حلى حضرة الزهراء
الكتاب الثالث كتاب البدائع الباهرة في حلى حضرة الزاهرة الكتاب الرابع كتاب الوردة في حلى مدينة شقندة
الكتاب الخامس كتاب الجرعة السيغة في حلى كورة وزغة
وقال رحمه الله تعالى في كتاب النغم المطربة في حلى حضرة قرطبة إن حضرة قرطبة إحدى عرائس مملكتها وفي اصطلاح الكتاب أن للعروس الكاملة الزينة منصة وهي مختصة بما يتعلق بذكر المدينة في نفسها وتاجا وهو مختص بالإيالة السلطانية وسلكا وهو مختص بأصحاب درر الكلام من النثار والنظام وحلة وهي مختصة بأعلام العلماء المصنفين الذين ليس لهم نظم ولا نثر ولا يحب إهمال تراجمهم وأهدابا وهي مختصة بأصحاب فنون الهزل وما ينحو منحاه انتهى
ثم فصل رحمه الله تعالى ذلك كله بما تعددت منه الأجزاء وقد لخصت منه هنا بعض ما ذكره ثم أردفته بكلام غيره فأقول قال في كتاب أجار

إن قرظبه بالظاء المعجمة ومعناه أجر ساكنها يعني عربت بالطاء ثم قال ودور مدينة قرطبة ثلاثون ألف ذراع انتهى
وقال غيره إن تكسيرها ومساحتها التي دار السور عليها دون الأرباض طولا من القبلة إلى الجوف ألف وستمائة ذراع واتصلت العمارة بها أيام بني أمية ثمانية فراسخ طولا وفرسخين عرضا وذلك من الأميال أربعة وعشرون في الطول وفي العرض ستة وكل ذلك ديار وقصور ومساجد وبساتين بطول ضفة الوادي المسمى بالوادي الكبير وليس في الأندلس واد يسمى باسم عربي غيره ولم تزل قرطبة في الزيادة منذ الفتح الإسلامي إلى سنة أربعمائة فانحطت واستولى عليها الخراب بكثرة الفتن إلى أن كانت الطامة الكبرى عليها بأخذ العدو الكافر لها ثالث عشري شوال سنة ستمائة وثلاث وثلاثين
ثم قال هذا القائل ودور قرطبة أعني المسورمنها دون الأرباض ثلاثة وثلاثون ألف ذراع ودور قصر إمارتها ألف ذراع ومائة ذراع انتهى
وعدد أرباضها واحد وعشرون في كل ربض منها من المساجد والأسواق والحمامات ما يقوم باهله ولا يحتاجون إلى غيره وبخارج قرطبة ثلاثة آلاف قرية في كل واحدة منبر وفقيه مقلص تكون الفتيا في الأحكام والشرائع له وكان لا يجعل القالص عندهم على رأسه إلا من حفظ الموطأ وقيل من حفظ عشرة آلاف حديث عن النبي صلى الله عليه و سلم وحفظ المدونة وكان هؤلاء المقلصون المجاورون لقرطبة يأتون يوم الجمعة للصلاة مع الخليفة بقرطبة ويسلمون عليه ويطالعونه بأحوال بلدهم

قال وانتهت جباية قرطبة أيام ابن أبي عامر إلى ثلاثة آلاف ألف دينار بالإنصاف وقد ذكرنا في موضع آخر ما فيه مخالفة لهذا فالله أعلم
وما أحسن قول بعضهم
( دع عنك حضرة بغداد وبهجتها ... ولا تعظم بلاد الفرس والصين )
( فما على الأرض قطر مثل قرطبة ... وما مشى فوقها مثل ابن حمدين )
وقال بعضهم قرطبة قاعدة الأندلس ودار الملك التي يجبي لها ثمرات كل جهة وخيرات كل ناحية واسطة بين الكور موفية علىالنهر زاهرة مشرقة أحدقت بها المنى فحسن مرآها وطاب جناها
وفي كتاب فرحة الأندلس لابن غالب أما قرطبة فإنه اسم ينحو إلى لفظ اليونانيين وتأويله القلوب المشككة
وقال أبو عبيد البكري إنها في لفظ القوط بالظاء المعجمة وقال الحجاري الضبط فيها بإهمال الطاء وضمها وقد يكسرها المشرقيون في الضبط كما يعجمها آخرون انتهى
وقال بعض العلماء أما قرطبة فهي قاعدة الأندلس وقطبها وقطرها الأعظم وأم مدائنها ومساكنها ومستقر الخلفاء ودار المملكة في النصرانية والإسلام

وتابعي التابعين ويقال نزلها بعض من الصحابة وفيه كلام
وهي مدينة عظيمة أزلية من بنيان الأوائل طيبة الماء والهواء أحدقت بها البساتين والزيتون والقرى والحصون والمياه والعيون من كل جانب وبها المحرث العظيم الذي ليس في بلاد الأندلس مثله ولا أعظم منه بركة
وقال الرازي قرطبة أم المدائن وسرة الأندلس وقرارة الملك في القديم والحديث والجاهلية والإسلام ونهرها أعظم أنهار الأندلس وبها القنطرة التي هي إحدى غرائب الأرض في الصنعة والإحكام والجامع الذي ليس في بلاد الأندلس والإسلام أكبر منه
وقال ابن حوقل هي أعظم مدينة بالأندلس وليس بجميع المغرب لها عندي شبيه كثرة أهل وسعة محل وفسحة أسواق ونظافة محال وعمارة مساجد وكثرة حمامات وفنادق ويزعم قوم من أهلها أنها كأحد جانبي بغداد وإن لم تكن كأحد جانبي بغداد فهي قريبة من ذلك ولاحقة به وهي مدينة حصينة ذات سور من حجارة ومحال حسنة وفيها كان سلاطينهم قديما ودورهم داخل سورها المحيط بها وأكثر أبواب القصر السلطاني من البلد وجنوب قرطبة على نهرها
قال وقرطبة هذه بائنة عن مساكن أرباضها ظاهرة ودرت بها في غير يوم في قدر ساعة وقد قطعت الشمس خمس عشرة درجة ماشيا
وقال الحجاري وكانت قرطبة في الدولة المروانية قبة الإسلام

الديار الكثيرة المنفسحة والشوارع المتسعة والمباني الضخمة والنهر الجاري والهواء المعتدل والخارج النضر والمحرث العظيم والشعراء الكافية والتوسط بين شرق الأندلس وغربها قال فقلت ما أبقى لي أمير المؤمنين ما أقول
ثم قال ابن سعيد ومن كلام والدي في شأنها هي من أحسن بلاد الأندلس مباني وأوسعها مسالك وأبرعها ظاهرا وباطنا وتفضل إشبيلية بسلامتها في فصل الشتاء من كثرة الطين ولأهلها رياسة ووقار لا تزال سمة العلم متوارثة فيهم إلا أن عامتها أكثر الناس فضولا وأشدهم تشنيعا وتشغيبا ويضرب بهم المثل ما بين أهل الأندلس في القيام علىالملوك والتشنيع على الولاة وقلة الرضى بأمورهم حتى إن السيد أبا يحيى بن أبي يعقوب بن عبد المؤمن لما انفصل عن ولايتها قيل له كيف وجدت أهل قرطبة قال مثل الجمل إن خففت عنه الحمل صاح وإن أثقلته به صاح ما ندري أين رضاهم فنقصده ولا أين سخطهم فنتجنبه وما سلط الله عليهم حجاج الفتنة حتى كان عامتها شرا من عامة العراق وإن العزل عنها لما قاسيت من أهلها عندي ولاية وإني إن كلفت العود إليها لقائل لايلدغ المؤمن من جحر مرتين
قال والدي ومن محاسنها ظرف اللباس والتظاهر بالدين والمواظبة على الصلاة وتعظيم أهلها لجامعها الأعظم وكسر أواني الخمر حيثما وقع عين أحد من أهلها عليها والتستر بأنواع المنكرات والتفاخر بأصالة البيت وبالجندية وبالعلم وهي أكثر بلاد الأندلس كتبا وأشد الناس اعتناء بخزائن الكتب صار ذلك عندهم من الآت لتعين والرياسة حتى إن الرئيس منهم الذي لا تكون عنده معرفة يحتفل في أن تكون في بيته خزانة كتب وينتخب فيها ليس إلا لأن يقال فلان

ليس هو عند أحد غيره والكتاب الذي هو بخط فلان قد حصله وظفربه
قال الحضرمي أقمت مرة بقرطبة ولازمت سوق كتبها مدة أترقب فيها وقوع كتاب كان لي بطلبه اعتناء إلى أن وقع وهو بخط جيد وتسفير مليح ففرحت به أشد الفرح فجعلت أزيد في ثمنه فيرجع إلي المنادي بالزيادة علي إلى أن بلغ فوق حده فقلت له يا هذا أرني من يزيد في هذا الكتاب حتى بلغه إلى ما لا يساوي قال فأراني شخصا عليه لباس رياسة فدوت منه وقلت له أعز الله سيدنا الفقيه إن كان لك غرض في هذا الكتاب تركته لك فقد بلغت به الزيادة بيننا فوق حده قال فقال لي لست بفقيه ولا أدري ما فيه ولكني أقمت خزانة كتب واحتفلت فيها لأتجمل بها بين أعيان البلد وبقي فيها موضع يسع هذا الكتاب فلما رأيته حسن الخط جيد التجليد استحسنته ولم أبال بما أزيد فيه والحمد لله على ما أنعم به من الرزق فهو كثير قال الحضرمي فأحرجني وحملني على أن قلت له نعم لا يكون الرزق كثيرا إلا عند مثلك يعطي الجوز من لا عنده أسنان وأنا الذي أعلم ما في هذا الكتاب وأطلب الانتفاع به يكون الرزق عندي قليلا وتحول قلة ما بيدي بيني وبينه
قال ابن سعيد وجرت مناظرة بين يدي منصور بني عبد المؤمن بين الفقيه العالم أبي الوليد بن رشد والرئيس أبي بكر بن زهر فقال ابن رشد لابن زهر في كلامه ما أدري ما تقول غير أنه إذا مات عالم بإشبيلية فأريد بيع كتبه حملت إلى قرطبة حتى تباع فيها وإذا مات مطرب بقرطبة فأريد بيع تركته حملت إلى إشبيلية
ولما ذكر ابن بشكوال قصر قرطبة قال هو قصر أولي تداولته

الأمم من لدن عهد موسى النبي صلى الله على نبينا وعليه وسلم وفيه من المباني الأولية والآثار العجيبة لليونانيين ثم للروم والقوط والأمم السالفة ما يعجز الوصف ثم ابتدع الخلفاء من بني مروان منذ فح الله عليهم الأندلس بما فيها في قصرها البدائع الحسان وأثروا فيه الآثار العجيبة والرياض المونقة وأجروا فيه المياه العذبة المجلوبة من جبال قرطبة على المسافات البعيدة وتمونوا المؤن الجسيمة حتى أوصلوها إلى القصر المكرم وأجروها في كل ساحة من ساحاته وناحية من نواحيه في قنوات الرصاص تؤديها منها إلى المصانع صور مختلفة الأشكال من الذهب الإبريز والفضة الخالصة والنحاس المموه إلى البحيرات الهائلة والبرك البديعة والصهاريج الغريبة في أحواض الرخام الرومية المنقوشة العجيبة
قال وفي هذا القصر القصاب العالية السمو المنيفة العلو التي لم ير الراؤون مثلها في مشارق الأرض ومغاربها
قال ومن قصوره المشهورة وبساتينه المعروفة الكامل والمجدد وقصر الحائر والروضة والزاهر والمعشوق والمبارك والرشيق وقصر السرور والتاج والبديع
قال ومن أبوابه التي فتحها الله لنصر المظلومين وغياث الملهوفين والحكم بالحق الباب الذي عليه السطح المشرف الذي لا نظير له في الدنيا وعلى هذا الباب باب حدي وفيه حلق لاطون قد أثبتت في قواعدها وقد صورت صورة إنسان فتح فمه وهي حلق باب مدينة أربونة من بلد الإفرنج وكان الأمير محمد قد افتتحها فجلب حلقها إلى هذا الباب وله باب قبلي أيضا وهو المعروف بباب الجنان وقدام هذين البابين

المشرف على النهر الأعظم مسجدان مشهوران بالفضل كان الأمير هشام الرضى يستعمل الحكم في المظالم فيهما ابتغاء ثواب الله الجزيل وله باب ثالث يعرف بباب الوادي وله باب بشماليه يعرف بباب قورية وله باب رابع يدعى بباب الجامع وهو باب قديم كان يدخل منه الخلفاء يوم الجمعة إلى المسجد الجامع على الساباط وعدد أبوابا بعد هذا طمست أيام فتنة المهدي ابن عبد الجبار
وذكر ابن بشكوال رحمه الله أن أبواب قرطبة سبعة أبواب باب القنطرة إلى جهة القبلة ويعرف بباب الوادي وبباب الجزيرة الخضراء وهو على النهر وباب الحديد ويعرف بباب سرقسطة وباب ابن عبد الجبار وهو باب طليطلة وباب رومية وفيه تجتمع الثلاثة الرصف التي تشق دائرة الأرض من جزيرة قادس إلى قرمونة إلى قرطبة إلى سرقسطة إلى طركونة إلى أربونة مارة في الأرض الكبيرة ثم باب طلبيرة وهو أيضا باب ليون ثم باب عامر القرشي وقدامه المقبرة المنسوبة إليه ثم باب الجوز ويعرف بباب بطليوس ثم باب العطارين وهو باب إشبيلية انتهى
وذكر أيضا أن عدد أرباض قرطبة عند انتهائها في التوسيع والعمارة واحد وعشرون ربضا منها القبلية بعدوة النهر ربض شقندة وربض منية عجب وأما الغريبة فتسعة ربض حوانيت الريحان وربض الرقاقين وربض مسجد الكهف

حمام الإلبيري وربض مسجد المسرور وربض مسجد الروضة وربض السجن القديم وأما الشمالية فثلاثة ربض باب اليهود وربض مسجد أم سلمة وربض الرصافة وأما الشرقية فسبعة ربض شبلار وربض فرن بريل وربض البرج وربض منية عبد الله وربض منية المغيرة وربض الزاهرة وربض المدينة العتيقة
قال ووسط هذه الأرباض قصبة قرطبة التي تختص بالسور دونها وكانت هذه الأرباض دون سور فلما كانت أيام الفتنة صنع لها خندق يدور بجميعها وحائط مانع وذكر ابن غالب أنه كان دور هذا الحائط أربعة عشر ميلا وشقندة معدودة في المدينة لأنها مدينة قديمة كانت مسورة
منتزهات قرطبة
قال ابن سعيد في المغرب ولنذكر الآن من منتزهات قرطبة ومعاهدها المذكورة في الألسن نظما ونثرا ما انتهى إليه الضبط من غير تغلغل في غير المشهور منها والأهم ونوشي ذلك بجميع ما يحضرني من مختار النظم في قرطبة وما يحتوي عليه نطاقها المذكور
فأول ما نذكر من المنتزهات منتزه الخلفاء المروانية وهو قصر الرصافة قال والدي رحمه الله كان مما ابتناه عبد الرحمن بن معاوية في أول أيامه لنزهه

منحرفة إلى الغرب فاتخذ بها قصرا حسنا ودحا جنانا واسعة ونقل إليها غرائب الغروس وأكارم الشجر من كل ناحية وأودعها ما كان استجلبه يزيد وسفر رسولاه إلى الشأم من النوى المختار والحبوب الغريبة حتى نمت بيمن الجد وحسن التربية في المدة القريبة أشجارا معتمة أثمرت بغرائب من الفواكه انتشرت عما قليل بأرض الأندلس فاعترف بفضلها على أنواعها قال وسماها باسم رصافة جده هشام بأرض الشأم الأثيرة لديه وامتثله في اختيار رصافته هذه وكلفه بها وكثرة تردده عليها وسكناه أكثر أوقاته بها فطار لها الذكر في أيامه واتصل من بعده في إيثارها
قال وكلهم فضلها وزاد في عمارتها وانبرى وصاف الشعراء لها فتناغوا في ذلك فيما هو إلى الآن مأثور عنهم مستجاد منهم
قال ابن سعيد والرمان السفري الذي فاض على أرجاء الأندلس وصاروا لا يفضلون عليه سواه أصله من هذه الرصافة وقد ذكر ابن حيان شأنه وأفرد له فصلا فقال إنه الموصوف بالفضيلة المقدم على أجناس الرمان بعذوبة الطعم ورقة العجم وغزارة الماء وحسن الصورة وكان رسوله إلى الشأم في توصيل أخيته منها إلى الأندلس قد جلب طرائف منها من رمان الرصافة المنسوبة إلى هشام قال فعرضه عبد الرحمن على خواص رجاله مباهيا به وكان فيمن حضره منهم سفر بن عبيد الكلاعي من جند الأردن ويقال هو من الأنصار الذين كانوا يحملون ألوية رسول

أمية فأعطاه من ذلك الرمان جزءا فراقه حسنه وخبره فسار به إلى قرطبة بكورة رية فعالج عجمه واحتال لغرسه وغذائه وتنقيله حتى طلع شجرا أثمر وأينع فنزع إلى عرقه وأغرب في حسنه فجاء به عما قليل إلى عبد الرحمن فإذا هو أشبه شيء بذلك الرصافي فسأله الأمير عنه فعرفه وجه حيلته فاستبرع استنباطه واستنبل همته وشكر صنعه وأجزل صلته واغترس منه بمنية الرصافة وبغيرها من جناته فانتشر نوعه واستوسع الناس في غراسه ولزمه النسب إليه فصار يعرف إلى الآن بالرمان السفري
قال وقد وصف هذا الرمان أحمد بن فرج الشاعر في أبيات كتب بها إلى بعض من أهداه له فقال
( ولابسة صدفا أحمرا ... أتتك وقد ملئت جوهرا )
( كأنك فاتح حق لطيف ... تضمن مرجانه الأحمرا )
( حبوبا كمثل لثات الحبيب ... رضابا إذا شئت أو منظرا )
( وللسفر تعزى وما سافرت ... فتشكو النوى أو تقاسي السرى )
( بلى فارقت أيكها ناعما ... رطيبا وأغصانها نضرا )
( وجاءتك معتاضة إذ أتتك ... بأكرم من عودها عنصرا )
( بعود ترى فيه ماء الندى ... ويورق من قبل أن يثمرا )
( هدية من لو غدت نفسه ... هديته ظنه قصرا )
وقال ابن سعيد وأخبرني والدي قال أخبرني الوشاح المبرز المحسن أبو الحسن المريني قال بينما أنا أشرب مع ندماني بإزاء

رث الهيئة مجفوا الطلعة قد جاء فجلس معنا فقلنا له ما هذا الإقدام على الجلوس معنا دون سابق معرفة فقال لا تعجلوا علي ثم فكر قليلا ورفع رأسه فأنشدنا
( أسقنيها إزاء قصر الرصافة ... واعتبر في مآل أمر الخلافة )
( وانظر الأفق كيف بدل أرضا ... كي يطيل اللبيب فيه اعترافه )
( ويرى أن كل ما هو فيه ... من نعيم وعز أمر سخافة )
( كل شيء رأيته غير شيء ... ما خلا لذة الهوى والسلافة )
قال المريني فقلبت رأسه وقلت له بالله من تكون فقال قاسم بن عبود الرياحي الذي يزعم الناس أنه موسوس أحمق قال فقلت له ما هذا شعر أحمق وإن العقلاء لتعجز عنه فبالله إلا ما تممت مسرتنا بمؤانستك ومنادمتك ومناشدة طرف أشعارك فنادم وأنشد وما زلنا معه في طيبة عيش إلى أن ودعناه وهو يتلاطم مع الحيطان سكرا ويقول اللهم

قال ومن أبدع قصور خارج قرطبة قصر السيد أبي يحيى بن أبي يعقوب بن عبد المؤمن وهو على متن النهر الأعظم تحمله أقواس وقيل للسيد كيف تأنقت في بنيان هذا القصر مع انحرافك عن أهل قرطبة فقال علمت أنهم لا يذكرون واليا بعد عزله ولا له عندهم قدر لما بقي في رؤوسهم من الخلافة المروانية فأحببت أن يبقى لي في بلادهم أثر أذكر به على رغمهم
قال ابن سعيد وأخبرني والدي أن ناهض بن إدريس شاعر وادي آش في عصره أنشده لنفسه في هذا القصر
( ألا حبذا القصر الذي ارتفعت به ... على الماء من تحت الحجارة وأقواس )
( هو المصنع الأعلى الذي أنف الثرى ... ورفعه عن لثمه المجد والباس )
( فأركب متن النهر عزا ورفعة ... وفي موضع الأقدام لا يوجد الراس )
( فلا زال معمور الجناب وبابه ... يغص وحلت أفقه الدهر أعراس أعراس )
وقال الفتح في قلائده لما ذكر الوزير ابن عمار وتنزه بالدمشق بقرطبة وهو قصر شيده بنو أمية بالصفاح والعمد وجري في إتقانه إلى غير أمد وأبدع بناؤه ونمقت ساحاته وفناؤه وانخذوه ميدان مراحهم ومضمار أفراحهم وحكوا به قصرهم بالمشرق وأطلعوه كالكوكب المشرق وأنشد فيه لابن عمار
( كل قصر بعد الدمشق يذم ... فيه طاب الجنى ولذ المشم )
( منظر رائق وماء نمير ... وثرى عاطر وقصر أشم )
( بت فيه والليل والفجر عندي

وهي منسوبة للحاجب أبي عثمان جعفر بن عثمان المصحفي
وذكر الحجاري في المسهب أن الرئيس أبا بكر محمد بن أحمد بن جعفر المصحفي اجتاز بالمنية المصحفية التي كانت لجده أيام حجابته للخليفة الحكم المستنصر فاستعبر حين بذكر ما آل إليه حال جده مع المنصور بن أبي عامر واستيلاءه على ملكه وأملاكه فقال
( قف قليلا بالمصحفية واندب ... مقلة أصبحت لا إنسان )
( واسألنها عن جعفر وسطاه ... ونداه في سالف الأزمان )
( جعفر مثل جعفر حكم الدهر ... عليه بعسرة وهوان )
( ولكم حذر الردى فصممنا ... لاأمان لصاحب السلطان )
( بينما يعتلي إذا خافضا منه ... اكتساب ككفة الميزان )
ومنية الزبير منسوبة إلى الزبير بن عمر الملثم ملك قرطبة
قال ابن سعيد أخبرني والدي عن أبيه قال خرج معي إلى هذه المنية في زمان فتح النوار أبو بكر بن بقي الشاعر المشهور فجلسنا تحت سطر من أشجار اللوز قد نورت فقال ابن بقي
( سطر من اللوز في البستان قابلني ... ما زاد على شيء ولا نقصا )
( كأنما كل غصن كم جارية ... إذا النسيم ثنى أعطافه رقصا )

ثم قال شعرا منه
( عجبت لمن أبعتي على خمر دنه ... غداة رأى لوز الحديقة نورا )
ولا أذكر بقية الأبيات قال جدي ثم اجتمعت به بعد ذلك بغرناطة فذكرته باجتماعه في منية الزبير فتنهد وفكر ساعة وقال اكتبوا عني فكتبنا
( سقى الله بستان الزبير ودام في ... مجاريه سيل النهر ما غنت الورق )
( فكائن لنا من نعمة في ج نابه ... كبزته الخضراء طالعها طلق )
( هو الموضع الزاهي على كل موضع ... أما ظله ضاف أما ماؤه دفق )
( أهيم به في حالة القرب والنوى ... وحق له مني التذكر والعشق )
( ومن ذلك النهر الخفوق فؤاده ... بقلبي ما غيبت عن وجهه خفق )
قال فقلت له جمع الله بينك وبينه على الحالة التي تشتهي قال ذلك لك قلت وكيف ذلك قال تدفع لي هذا السيف الذي تقلدت به أتزود به إليه وأنفق الباقي فيه على ما تعلم قال فقلت له هذا سيف شرفني به السلطان أبو زكرياء ابن غانية وما لعطائه سبيل ولكن أعطيك قيمته فرخج وأتى بشخص يعرف قيمة السيوف فقدره وجعل يقول إنه سيف السلطان ابن غانية ليعظم قدره في عينه فيزيد في قيمته ثم قبض ما قدر به وأنشد ارتجالا
( أطال الله عمر فتى سعيد ... وبقاه ورقته السعود )
( غدا لي جوده سببا لعودي ... إلى وطني فها أنا ذا أعود )
( وألثم كفه شكرا ويتلو

( حباني من ذخائره بسيف
به لم يبق للأحزان جيد )
والقصر الفارسي من القصور المقصودة للنزاهة بخارج قرطبة وقد ذكره الوزير أبو الوليد ابن زيدون في قصيد ضمنه من منتزهات قرطبة ما تقف عليه وكان قد فر من قرطبة أيام بني جهور فحضره في فراره عيد ذكره بأعياد وطنه ومعاهده الأنسية مع ولادة التي كان يهواها ويتغزل فيها فقال
( خليلي لا فطر يسر ولا أضحى ... فما حال من أمسى مشوقا كما أضحى )
وستأتي هذه القصيدة في هذا الباب كما ستأتي قصيدة أبي القاسم ابن هشام القرطبي التي أولها
( يا هبة باكرت من نحو دارين ... )
وفيها كثير من منتزهات قرطبة
قال ابن سعيد كان والدي كثيرا ما يأمرني بقراءتها عليه ويقول والله لقد أنبأت عن فضل لهذا الرجل قال وكان أبو يحيى الحضرمي يحفظها ويزين بها مجالسه ويحلف أن لا ينشدها بمحضر جاهل لا يفهم أو حاسد لا ينصف في الاهتزاز لها وإنه لجدير بذلك وإنها لمن كنوز الأدب
ثم قال والمرج النضير المذكور بها هو مرج الخز أخبرني والدي أنه حضر في زمان الصبا بهذا المرج على راحة ومعه الرئيس الفاضل أبو الحسين ابن الوزير أبي جعفر الوقشي والمسن ابن دريدة المشهور بخفة الروح

والمرج قد أحدق به الوادي والشمس قد مالت عليه للغروب فقال لي أبو الحسين بالله صف يومنا وحسن هذا المنظر فقلت لا أصفه أو تصفه أنت فقال ولك مني ذلك فأفكر كل منا على انفراد بعدما ذكرنا ما نضف نثرا فقال أبو الحسين الوقشي
( لله يوم بمرج الخز طاب لنا ... فيه النعيم بحيث الروض والنهر )
( وللإوز على أرجائه لعب ... إذا جرت بددت ما بيننا الدرر )
( والشمس تجخ نحو البين ماثلة ... كأن عاشقها في الغرب ينتظر )
( والكأس جاثلة باللب حائرة ... وكلنا غفلات الدهر نبتدر )
قال فقلت
( ألا حبذا يوم ظفرنا بطيبة ... بأكناف مرج الخز والنهر يبسم )
( وقد مرحت فيه الإوز وأرسلت ... على سندس درا به يتنظم )
( ومد به للشمس فهور كأنه ... لثام لها ملقى من النور معصم )
( أدرنا عليه أكؤسا بعثت به ... من الأنس ميتا عاد وهو يكلم )
( غدونا إليه صامتين سكينة ... فرحنا وكل بالهوى يترنم )
فأظهر كل منا لصاحبه استحسان ما قال تنشيطا وتتميما للمسرة ثم قلنا للمسن ما عندك أنت ما تعارض به هاتين القطعتين قال بهذا ورفع رجله وحبق حبقة فرقعت منها أرجاؤه فقال له أبو الحسين ما هذا يا شيخ السوء فقال الطلاق له لازم إن لم تكن أوزن من شعركما وأطيب رائحة وأغن صوتا وأطرب معنى

الاهتزاز لموقع نادرته فقال والدليل على ذلك انه أنكم طربتم لما جئت به أكثر مما طربتم من شعركم
ثم قال ابن سعيد ومن منتزهات قرطبة المشهورة فحص السرادق مقصود للفرجة يسرح فيه البصر وتبتهج فيه النفس أخبرني والدي عن أخيه أبي جعفر بن عبد الملك بن سعيد قال خرجت مع الشريف الأصم القرطبي إلى بسيط الجزيرة الخضراء وقد تدبج بالأنوار فلما حركنا حسن المكان وتشوقنا إلى الأركان قال الشريف لقد ذكرني هذا البسيط بسيط السرادق فقلت له فهل ثار في خاطرك نظم فيه قال نعم ثم أنشد
( ألا فدعوا ذكر العذيب وبارق ... ولا تسأموا من ذكر فحص السرادق مجر ذيول السكر من كل مترف ... ومجرى الكؤوس المترعات السوابق )
( قصرت عليه اللحظ ما دمت حاضرا ... وفكري في غيب لمرآة شائقي )
( أيا طيب أيام تقضت بروضة ... على لمح غدران وشم حدائق )
( إذا غردت فيها حمائم دوحها ... تخيلتها الكتاب بين المهارق )
( وما باختيار الطرف فارقت حسنها ولكن بكيد من زمان منافق )
قال أبو جعفر فلما سمعت هذا الشعر لم أتمالك من الاستعبار وحركني ذلك إلى أن قلت في حور مؤمل سيد منتزهات غرناطة ولم يذكر هنا ما قاله فيه وذكره في موضع آخر لم يحضرني الآن حتى أورده هنا والله أعلم
ومن منتزهات قرطبة السد قال

المبرز أبا شهاب المالقي أنشده لنفسه واصفا يوم راحة بهذا السد
( ويوم لنا بالسد لو رد عيشه ... بعيشه أيام الزمان رددناه )
( بكرنا له والشمس في خدر شرقها ... إلى أن أجابت إذ دعا الغرب دعواه )
( قطعناه شدوا واغتباقا ونشوة ... ورجع حديث لو رقى الميت أحياه )
( علىمثله من منزه تبتغي المنى ... فلله ما أحلى وأبدع مرآه )
( شدتنا به الأرحا وألقت نثارها ... علينا فأصغينا له وقبلناه )
( لئن بان إنا بالأنين لفقده ... وبالدمع في إثر الفراق حكيناه )
وأنشدني والدي موشحة لأبي الحسن المريني معاصره وصاحبه يذكر فيها هذا السد وهي
( في نغمة العود والسلافه ... والروض والنهر والنديم )
( أطال من لامني خلافه ... فظل في نصحه مليم )
( دعني على منهج التصابي ... ما قام لي العذر بالشباب )
( ولا تطل في المنى عتابي ... فلست أصغي إلى عتاب )
( لا ترج ردي إلى صواب ... والكأس تفتر عن حباب )
( والغصن يبدي لنا انعطافه ... إذا هفا فوقه النسيم

( يا حبذا عهدي القديم ... ومن به همت مسعدي )
( ريم عن الوصل لا يريم ... مولع بالتودد )
( ما تم إلا به النعيم ... طوعا على رغم حسدي )
( معتدل القد ذو نحافة ... أسقمني طرفه السقيم )
( ورام طرفي به انتصافه ... فخذ في خده الكليم )
( غض الصبا عاطر المقبل ... أحلى من الأمن والأمل )
( ظامي الحشا مفعم المخلخل ... حلو اللمى ساحر المقل )
( لكل من رامه توصل ... لم يخشى ردا بما فعل )
( اشكو فيبدي لي اعترافه ... إن حاد عن نهجه القويم )
( لا أعدم الدهر فيه رافه ... فحق لي فيه أن أهيم )
( لله عصر لنا تقضى ... بالسد والمنبر البهيج )
( أرى أدكاري إليه فرضا ... وشوقه دائما يهيج )
( فكم خلعنا عليه غمضا ... وللصبا مسرح أريج )
( ورد أطال المنى ارتشافه ... حتى انقضى شربه الكريم )
( لله ما أسرع انحرافه ... وهكذا الدهر لا يديم )
( يا من يحث المطي غربا ... عرج على حضرة الملوك )
( وانثر بها إن سفحت غربا ... من مدمع عاطل سلوك )
(

( بلغ سلامي قصر الرصافة ... وذكروا عهدي القديم )
( وحي عني دار الخلافة ... وقف بها وقفة الغريم )
قال ابن سعيد والمنبر المذكور في هذه الموشحة من منتزهات قرطبة والسد هو الأرحا التي ذكرها في زجلة قاسم بن عبود الرياحي رويته عن والدي عن قائله وهو
( بالله أين نصيب ... من ليس لي فيه نصيب )
( محبوبا مخالف ... ومعو رقيب )
( حين نقصد مكانو ... يقم ف المقام )
( ويبخل علينا ... برد السلام )
( أدخلت يا قلبي ... روحك في زحام )
( سلامتك عندي ... هي شي عجيب )
( وكف بالله يسلم ... من هو في لهيب )
( بالله يا حبيبي ... أترك ذا النفار )
( واعمل أن نطيبوا ... في هذا النهار )
( واخرج معي للوادي ... لشرب العقار )
( نتمم

( أو عند النواعر ... والروض الشريق )
( أو قصر الرصافة ... أو وادي العقيق )
( رحق والله دونك ... هو عندي الحريق )
( وفي حبك أمسيت ... في أهلي غريب )
( وما الموت عندي ... إلا حن تغيب )
( اتكل على الله ... وكن فظ جسور )
( وإن ريت فضولي ... وقل إين تمور )
( كمش عنو وجهك ... فإن راك نفور )
( يهرب عنك خايف ... ويبقى مريب )
( وامش أنت موقر ... كأنك خطيب )
( ما أعجب حديثي ... إش هذا الجنون )
( نطلب وندبر ... أمرا لا يكون )
( وكم ذا نهون ... شيئا لا يهون )
( وإش مقدار ما نصبر ... لبعد الحبيب )
( رب اجمعني معو ... عاجلا

نهرها وقنطرتها
قال ابن سعيد وأما نهر قرطبة فإنه يصغر عن عظمه عند إشبيلية بحيث صنع عليه قنطرة من حجارة لا يتأتى مثلها في نهر إشبيلية ومنبعه من جهة شقورة يمر النصف منه إلى مرسية مشرقا والنصف إلى قرطبة وإشبيلية مغربا
ولما ذكر الرازي قرطبة قال ونهرها الساكن في جريه اللين في انصبابه الذي تؤمن مغبة ضرره في حمله وقال هذا لأنه يعظم عند إشبيلية فإذا حان حمله في أيام الأمطار أشفت إشبيلية على الغرق وتوقع أهلها الهلاك
والقنطرة التي على هذا النهر عند قرطبة من أعظم آثار الأندلس وأعجبها اقواسها سبع عشرة قوسا وبانيها على ما ذكره ابن حيان وغيره السمح ابن مالك الخولاني صاحب الأندلس بأمر عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وشيدها بنو أمية بعد ذلك وحسنوها قال ابن حيان وقيل إنه قد كانت في هذا المكان قنطرة من بنيان الأعاجم قبل دخول العرب بنحو مائتي سنة أثرت فيها الأزمان بمكابدة المدود حتى سقطت حناياها ومحيت أعاليها وبقيت أرجلها واسافلها وعليها بني السمح في سنة إحدى ومائة انتهى
وقال في مناهج الفكر إن قنطرة قرطبة ' حدى أعاجيب الدنيا بنيت زمن عمر بن عبد العزيز على يد عبد الرحمن بن عبيد الله الغافقي وطولها ثمانمائة ذراع وعرضها عشرون باعا وارتفاعها ستون ذراعا وعدد حناياها ثماني عشرة حنية وعدد أبراجها تسعة عشر برجا انتهى

رجع إلى قرطبة
ذكر ابن حيان والرازي والحجاري أن أكتبيان ثاني قياصرة الروم الذي ملك أكثر الدنيا وصفح نهر رومية بالصفر فأرخت الروم من ذلك العهد وكان من قبل ميلاد المسيح عليه السلام بثمان وثلاثين سنة أمر ببناء المدن العظيمة بالأندلس فبنيت في مدته قرطبة وإشبيلية وماردة وسرقسطة وانفرد الحجاري بأن أكتبيان المذكور وجه أربعة من أعيان ملوكه للأندلس فبنى كل واحد منهم مدينة في الجهة التي ولاه عليها وسماها باسمه وأن هذه المدن مشتقة مما تقتضيه أوضاعها كما مر وذكروا أنه قد تداولت على قرطبة ولاة الروم الأخيرة الذين هم بنو عيصو بن إسحاق بن إبراهيم على نبينا وعليهم الصلاة والسلام إلى أن انتزعها من أيديهم القوط من ولد يافث المتغلبون على الأندلس إلى أن أخذها منهم المسلمون ولم تكن في الجاهلية سريرا لسلطنة الأندلس بل كرسيا لخاص مملكتها وسعدت في الإسلام فصارت سريرا للسلطنة العظمى الشاملة وقطبا للخلافة المروانية وصارت إشبيلية وطليطلة تبعا لها بعدما كان الأمر بالعكس والله يفعل ما يشاء بيده الملك والتدبير وهو على كل شيء قدير لا إله إلا هو العلي الكبير
وقال صاحب نشق الأزهارعندما تعرض لذكر قرطبة هي مدينة مشهورة دار خلافة وأهلها أعيان ناس في العلم والفضل وبها

الفتنة البربرية والنزاع بين الحموديين والأمويين
ومن الأسباب في سلب محاسن قرطبة عيث البربر بها في دخولهم مع سليمان المستين الأموي حين استولى على قرطبة في دولته التي افتتحت بالقهر وسفك الدماء وكان من أمراء البربر المعاضدين لسليمان علي بن حمود من بني علي بن إدريس بن إدريس بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين وجده إدريس هرب من هرون الرشيد إلى البربر فتبربر ولده وبنى ابنه إدريس مدينة فاس وكان المؤيد هشام يشتغل بالملاحم ووقف على أن دولة بني أمية تنقرض بالأندلس على يد علوي أول اسمه عين فلما دخل سليمان مع البربر قرطبة ومحوا كثيرا من محاسنها ومحاسن أهلها كان من أكبر أمرائهم على بن حمود وبلغ هشاما المؤيد وهو محبوس خبره واسمه ونسبه فدس إليه أن الدولة صائرة إليك وقال له إن خاطري يحدثني أن هذا الرجل يقتلني يعني سليمان فإن فعل فخذ بثأري وكان هذا الأمر هو الذي قوى نفس ابن حمود على طلب الإمامة وحمله على الأخذ بثأر هشام المؤيد فكان المؤيد أحد من أخذ بثأره بعد موته
وتولى بعد ذلك علي بن حمود وبويع بقرطبة في قصرها في اليوم الذي قتل فيه سليمان المستعين وأخذ الناس بالإرهاب والسطوة وأذل رؤوس البربر وبرقت للعدل في أيامه بارقة خلب لم تكد تقد حتى خبت وجلس للمظالم وقدمت له جماعة من البربر في إجرام فضرب رقابهم وأهلهم وعشائرهم ينظرون وخرج يوما على باب عامر فالتقى فارسا من البربر وأمامه حمل عنب فاستوقفه وقال له من أين لك هذا فقال أخذته كما يأخذ الناس

وعبادة بن ماء السماء وكان معروفا بالتشيع وفيه يقول من قصيدة
( أبوكم علي كان بالشرق بدء ما ... ورثتم وذا بالغرب أيضا سميه )
( فصلوا عليه أجمعون وسلموا ... له الأمر إذ ولاه فيكم وليه )
ومدحه ابن دراج القسطلي بقوله
( لعلك يا شمس عند الأصيل ... شجيت لشجو الغريب الذليل )
( فكوني شفيعي لابن الشفيع ... وكوني رسولي لابن الرسول )
وكان أخوه القاسم بن حمود أكبر منه بعشر سنين وأمهما واحدة وهي علوية ولما قتل الناصر كان القاسم واليا على إشبيلية وكان يحيى بن علي واليا على سبتة فاختلفت أهواء البربر فمال اكثرهم إلى القاسم لكونه غين أولا وقدم عليه أخوه الأصغر وكونه قريبا من قرطبة وبينهم وبين يحيى البحر فلما وصلت رسلهم إلى القاسم لم يظهر فرحا بالإمامة وخاف أن تكون حيلة من أخيه عليه فتقهقر إلى ان اتضح له الحق فركب إلى قرطبة وبويع فيها بعة ستة أيام من قتل أخيه وأحسن السيرة وأحس من البربر الميل إلى يحيى ابن أخيه علي صاحب سبتة فتهالك في اقتناء السودان وابتاع منهم كثيرا وقودهم على أعماله فأنفت البرابر من ذلك وانحرفوا عنه
وفي سنة تسع وأربعمائة قام عليه بشرق الأندلس المرتضى عبد الرحمن من أعقاب الناصر لأن أهل الأندلس صعب عليهم ملك بني حمود العلويين بسبب البرابر أرادوا رجوع الإمامة إلى بني مروان واجتمع له أكثر

وخيران العامري الصقلبي صاحب المرية وانضاف إليهم جمع من الفرنج وتأهب القاسم والبرابرة للقائهم فكان من الاتفاق العجيب أن فسدت نية منذر وخيران على المرتضى وقالا أرانا في الأول وجها ليس بالوجه الذي نراه حين اجتمع إليه الجم الغفير وهذا ماكر غير صافي النية فكتب خيران إلى ابن زيري الصنهاجي المتغلب على غرناطة وهو داهية البربر وضمن له أنه متى قطع الطريق على المرتضى عند اجتيازه عليه إلى قرطبة خذل عن نصرته الموالي العامريين أعداء المروانيين وأصحاب رياسة الثغور فأصغى ابن زيري إلى ذلك وكتب المرتضى إلى ابن زيري يدعوه لطاعته فقلب الكتاب وكتب في ظهره ( قل يا أيها الكافرون - السورة ) السورة 109 فأرسل إليه كتابا ثانيا يقول فيه قد جئتك بجميع أبطال الأندلس وبالفرنج فماذا تصنع وختم الكتاب بهذا البيت
( إن كنت منا أبشر بخير ... أو لا فأيقن بكل شر )
فأمر الكاتب أن يحول الكتاب ويكتب في ظهره ( ألهاكم التكاثر - السورة ) السورة 102 فازاداد حنقه وحمله الغيظ إلى أن ترك السير إلى خضرة الإمامة قرطبة وعدل إلى محاربته وهو يرى أنه يصطلمه في ساعة من نهار ودامت الحرب أياما وأرسل ابن زيري إلى خيران يستنجزه وعده فأجابه إنما توقفت حتىترى مقدار حربنا وثبرنا ولو كنا ببواطننا معه ما ثبت جمعك لنا ونحن ننهزم عنه ونخذله في غد
ولما كان من الغد رأى أعلام خيران وأعلام منذر وأصحاب الثغور قد ولت عنه فسقط في يد المرتضى وثبت حتى كادوا يأخذونه واستحر القتل وصرع كثير من أصحابه فلما خاف القبض عليه ولى فوضع عليه خيران عيونا فلحقوه بقرب وادي آش وقد جاوز بلاد البربر وأمن على نفسه فهجموا عليه فقتلوه وجاؤوا برأسه إلى المرية وقد حل بها خيران ومنذر

فتحدث الناس أنهما اصطبحا عليه سرورا بهلاكه
وبعد هذه الواقعة أذعن أهل الأندلس للبرابرة ولم يجتمع لهم بعدها جمع ينهضون به إليهم وضرب القاسم بن حمود سرادق المرتضى على نهر قرطبة وغشية خلق من النظارة وقلوبهم تتقطع حسرات وأنشد عبادة ابن ماء السماء قصيدته التي أولها
( لك الخير خيران مضى لسبيله ... وأصبح أمر الله في ابن رسوله )
وتمكنت أمور القاسم وولى وعزل وقال وفعل إلى أن كشف وجهه في خلع طاعته ابن أخيه يحيى بن علي وكتب من سبتة إلى أكابر البرابر بقرطبة إن عمي أخذ ميراثي من أبي ثم إنه قدم في ولاياتكم التي أخذتموها بسيوفكم العبيد والسودان وأنا أطلب ميراثي وأوليكم مناصبكم وأجعل العبيد والسودان كما هم عند الناس فأجابوه إلى ذلك فجمع ما عنده من المراكب وأعانه أخوه إدريس صاحب مالقة فجاز البحر بجمع وافر وحصل بمالقة مع أخيه وكتب له خيران صاحب المرية مذكرا بما أسلفه في إعانته أبيه وأكد المودة فقال له أخوه إدريس إن خيران رجل خداع فقال يحيى ونحن منخدعون فيما لا يضرنا ثم إن يحيى أقبل إلى قرطبة واثقا بأن البرابر معه فقر القاسم إلى إشبيلية في خمسة فرسان من خواصه ليلة السبت 28 من شهر ربيع الآخر سنة 412 وحل يحيى بقرطبة فبايعه البرابر والسودان وأهل البلد يوم السبت مستهل جمادى الآخرة وكان يحيى من النجباء وأمه فاطمية وإنما

واشتط أكابر البرابر عليه وطلبوا من إسقاط مراتب السودان فبذل لهم ذلك فلم يقنعوا منه وصاروا معه ما يخرق ويفرغ بيت المال وهر السودان إلى عمه بإشبيلية ومن البرابر ومن جند الأندلس من احتجب عنهم يحيى وتكبر عليهم ولم إليه ملوط الطوائف وبقي منهم كثير على الخطبة لعمه القاسم إلى أن اختلت الحال بحضرة قرطبة وأيقن يحيى أنه متى أقام بها قبض عليه وكان قد ولى على سبتة أخاه إدريس وبلغه أن أهل مالقة خاطبوا خيران وكاتبوه فطمع خيران فيها وفر يحيى في خواصه تحت الليل إلى مالقة ولما بلغ القاسم فراره ركب من إشبيلية إلى قرطبة فخطب له بها يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة سنة 413 ولم تصلح الحال للقاسم منذ وصل إلى الحضرة ووقع الاختلاف وكان هوى السودان معه وهوى كثير من البرابر مع يحيى وهوى أهل قرطبة مع قائم من بني أمية يشيعون ذكره ولا يظهر وكثر الإرجاف بذلك ووقع الطلب على بني أمية فتفرقوا في البلاد ودخلوا في أغمار الناس وأخفوا زيهم ثم إن الخلاف وقع بين البربروأهل قرطبة وتكاثر البلد كثير وابن عباد يضحك على الجميع فيش القاسم وقنع أن يخرجوا إليه ابنه وأصحابه ويسير عنهم فأخرجوهم إليه فسار بهم إلى شريش وعندما استقر بها وصل إليه يحيى ابن أخيه مالقة ومعه وجمع عظيم وحاصره في المدينة عشرين يوما كانت فيها حروب صعاب وقتل من الفريقين خلق كثير وأجلت الحرب عن قهر يحيى لعمه وإسلام أهل شريش له وفر سودانه وحصل القاسم وابنه في يد يحيى وكان قد أقسم أنه إن حصل في يده ليقتله ولا يتركه حتى يلي الإمامة بقرطبة مرة ثانية فرأى التربص في قتله حتى يرى رأيه فيه فحدث عنه بعض أصحابه أنه حمله بقيد إلى مالقة وحبسه عنده وكان كلما سكر وأراد قتله رغبه ندماؤه في الإبقاء عليه لأنه لا قدرة له على الخلاص وكان كلما نام رأى والده عليا في النوم ينهاه عن قتله ويقول له أخي أكبر مني وامتدت الحال على ذلك إلى أن قتله خنقا بعد ثلاث عشرة سنة من حين القبض عليه لأنه كان قد حبسه في حصن من حصون مالقة فنمي إليه أنه قد تحدث مع أهل الحصن في القيام والعصيان فقال أوبقي في رأسه حديث بعد هذا العمر فقتله سنة 427 وبقي أهل قرطبة بعد فرار القاسم عنها نيفا عن شهرين يرون رأيهم فيمن يبايعونه بالإمامة
ولما كان يوم الثلاثاء نصف شهر رمضان سنة 414 أحضر المستظهر وسليمان بن المرتضى وأموي آخر معه فبايعا المستظهر وقبلا يده بعدما كان قد كتب عقد البيعة باسم سليمان بن المرتضى على ما ارتضاه الأماثل

جد المعتمد بن عباد وأطمع ابن زيري في التملك فأغلق الأبواب في وجه مصطنعة وحاربه فقتل من البرابر والسودان خلق كثير وابن عباد يضحك على الجميع فيش القاسم وقنع أن يخرجوا إليه ابنه وأصحابه ويسير عنهم فأخرجوهم إليه فسار بهم إلى شريش وعندما استقر بها وصل إليه يحيى ابن أخيه من مالقة ومعه جمع عظيم وحاصره في المدينة عشرين يوما كانت فيها حروب صعاب وقتل من الفريقين خلق كثير وأجلت الحرب عن قهر يحيى لعمه وإسلام أهل شريش له وفر سودانه وحصل القاسم وابنه في يد يحيى وكان قد أقسم أنه إن حصل في يده ليقتلنه ولا يتركه حتى يلي الإمامة بقرطبة مرة ثانية فرأى التربص في قتله حتى يرى رأيه فيه فحدث عنه بعض أصحابه أنه حمله بقيد إلى مالقة وحبسه عنده وكان كلما سكر وأراد قتله رغبه ندماؤه في الإبقاء عليه لأنه لا قدرة له على الخلاص وكان كلما نام رأى والده عليا في النوم ينهاه عن قتله ويقول له أخي أكبر مني وكان محسنا إلي في صغري ومسلما لي عند إمارتي الله الله فيه وامتدت الحال على ذلك إلى أن قتله خنقا بعد ثلاث عشرة سنة من حين القبض عليه لأنه كان قد حبسه في حصن من حصون مالقة فنمي إليه أنه قد تحدث مع أهل الحصن في القيام والعصيان فقال أوبقي في رأسه حديث بعد هذا العمر فقتله سنة 427 وبقي أهل قرطبة بعد فرار القاسم عنها نيفا عن شهرين يرون رأيهم فيمن يبايعونه بالإمامة
ولما كان يوم الثلاثاء نصف شهر رمضان سنة 414 أحضر المستظهر وسليمان بن المرتضى وأموي آخر معه فبايعا المستظهر وقبلا يده بعدما كان قد

فبشر اسمه وكتب اسم المستظهر وركب إلى القصر وحمل معه ابني عمه المذكورين فحبسهما وكان قد رفع جماعة من الأتباع ذهب بهم العجب كل مذهب كأبي عامر ابن شهيد المنهمك في بطالته وأبي محمد ابن حزم المشهور بالرد على العلماء في مقالته وابن عمه عبد الوهاب بن حزم الغزل المترف في حالته فأحقد بذلك مشايخ الوزراء والأكابر وبادر المستظهر باصطناع البرابر وأكرم مثواهم وأحسن مأواهم واشتغل مع ابن شهيد وابني حزم بالمباحثة في الآداب ونظم الشعر والتمسك بتلك الأهداب والناس في ذلك الوقت أجهل ما يكون وكان جماعة من أهل الشر في السجون يتعين أن لا يخرج منهم إنسان فأخرج منهم شخصا يقال له أبو عمران وقد كان أشار بعض الوزراء عليه بعدم إخراجه فأخرجه وخالفه في ذلك ولم يقبل النصيحة وفعل ما أداه إلى الفضيحة فسعى القوم الذين خرجوا من الحبوس على إفساد دولته وإبدال فرحه بالبوس لما اشتغل عنهم بالأدباء والشعراء حسبما اقتضاه رأيه المعكوس فسعوا في خلعه مع البرابر وقتل في ذي القعدة من السنة التي بويع فيها وصار كامس الدابر بعد سبعة وأربعين يوما من يوم بويع بالخلافة وإذا أراد الله أمرا فلا يقدر أحد أن يأتي خلافه وعمره ثلاث وعشرون سنة كأنها سنة
ومن شعر المستظهر المذكور وهو من القريض الممدوح صاحبه بالبلاغة المشكور
( طال عمر الليل عندي ... مذ تولعت بصدي )
( يا غزالا نقض العهد ... ولم يوف بوعد )
( أنسيت العهد إذ تبنا ... على

( واعتنقنا في وشاح ... وانتظمنا نظم عقد )
ونجوم الليل تسري ... ذهبا في لازورد )
وكتب إليه شاعر في طرس مكشوط
( والطرس مبشور وفيه بشارة ... ببقا الإمام الفاضل المستظهر )
( ملك أعاد العيش غضا ملكه ... وكذا يكون به طوال الأعصر )
فأجزل صلته وكتب في ظهر الورقة
( قبلنا العذر في بشر الكتاب ... لما أحكمت في فصل الخطاب )
وقد قدمنا في الباب الثالث شيئا من هذه الأخبار وما حصل بعد ذلك بقرطبة إلى أن تولى الأمر ابن جهور في صورة الوزارة ثم ابنه إلى أن أخذ قرطبة منه المعتمد بن عباد حسبما ذكر في أخباره
ثم آل الأمر بعد ذلك كله إلى استيلاء ملوك العدوة من الملثمين والموحدين على قرطبة إلى أن تسلمها النصارى أعادها الله تعالى للإسلام كما يذكر في الباب الثامن
وقال صاحب مناهج الفكر في ذكر قرطبة ما ملخصه فأما ما اشتمل عليه غرب الجزيرة من البلاد الخطيرة فمنها قرطبة وكانت مقر الملك ودار الإمارة وأم ما عداها من البلاد منذ افتتحها المسلمون سنة 92 زمن الوليد بن عبد الملك إلى أن خرجت عن أيديهم وتنقلت في أيدي ملوك المسلمين إلى أن وصلت إلى الناصر عبد الرحمن فبنى في تجاهها مدينة سماها الزهراء يجري بينهما نهر عظيم انتهى
استطراد في وصف المباني العامرة
واعلم أن المباني دالة على عظيم قدر بانيها كما ذكرناه في كلام الناصر

الذي طابت له من الزهراء مجانيها ولم يزل البلغاء يصفون المباني بأحسن الألفاظ والمعاني ورأينا أن نذكر هنا بعض ذلك زيادة في توسيع المسالك فمن ذلك قول ابن حمديس الصقلي يصف دارا بناها المعتمد على الله
( ويا حبذا دار قضى الله أنها ... يجدد فيها كل عز ولا يبلى )
( مقدسة لو أن موسى كليمه ... مشى قدما في أرضها خلع النعلا )
( وما هي إلا خطة الملك الذي ... يخط إليه كل ذي أمل رجلا )
( إذا فتحت أبوابها خلت أنها ... تقول بترحيب لداخلها أهلا )
( وقد نقلت صناعها من صفاته ... إليها أفانينا فأحسنت النقلا )
( فمن صدره رحبا ومن نوره سنا ... ومن صيته فرعا ومن حلمه أصلا )
( فأعلت به في رتبة الملك ناديا ... وقل له فوق السماكين أن يعلى )
( نسيت به إيوان كسرى لأنني ... أراه له مولى من الحسن لا مثلا )
( كأن سليمان بن داود لم تبح ... مخافته للجن في صنعه مهلا )
( ترى الشمس فيه ليقة تستمدها ... أكف أقامت من تصاويرها شكلا )
( لها حركات أودعت في سكونها ... فما تبعت في نقلهن يد رجلا )
( ولما عشينا من توقد نورها ... تخذنا سناه في نواظرنا كملا )
وقال من أخرى يصف دارا بناها المنصور بن

( اعمر بقصر الملك ناديك الذي ... أضحى بمجدك بيته معمورا )
( قصر لو أنك قد كحلت بنوره ... أعمى لعاد إلى المقام بصيرا )
( واشتق من معنى الحياة نسيمه ... فيكاد يحدث للعظام نشورا )
( نسي الصبيح مع المليح بذكره ... وسما ففاق خورنقا وسديرا )
( ولو أن بالإيوان قوبل حسنه ... ما كان شيئا عنده مذكورا )
( أعيت مصانعه علىالفرس الألى ... رفعوا البناء وأحكموا التدبيرا )
( ومضت على الروم والدهور وما بنوا ... لملوكهم شبها له ونظيرا )
( أذكرتنا الفردوس حين أريتنا ... غرفا رفعت بناءها وقصورا )
( فالمحسنون تزيدوا أعمالهم ... ورجعوا بذلك جنة وحريرا )
( والمذنبون هدوا الصراط وكفرت ... حسناتهم لذنوبهم تكفيرا )
( فلك من الأفلاك إلا أنه ... حقر البدور فأطلع المنصورا )
( أبصرته فرأيت أبدع منظر ... ثم انثنيت بناظري محسورا )
( وظننت أني حالم في جنة ... لما رأيت الملك فيه كبيرا )
( وإذا الولائد فتحت أبوابه ... جعلت ترحب بالعفاة صريرا )
( عضت على حلقاتهن ضراغم ... فغرت بها أفواهها تكشيرا )
( فكأنها لبدت لتهصر عندها ... من لم يكن بدخوله مأمورا )
( تجري الخواطر مطلقات أعنة ... فيه فتكبو عن مداه قصورا )
( بمرخم الساحات تحسب أنه ... فرش المها وتوشح الكافورا )
( ومحصب بالدر تحسب تربه ... مسكا تضوع نشره وعبيرا )
( تستخلف الأبصار

ثم ذكر بركة فيه عليها أشجار من ذهب وفضة ترمي فروعها المياه وتفنن فذكر أسودا على حافاتها قاذفة بالمياه أيضا فقال
( وضراغم سكنت عرين رياسة ... تركت خرير الماء فيه زئيرا )
( فكأنما غشى النضار جسومها ... وأذاب في أفواهها البلورا )
( أسد كأن سكونها متحرك ... في النفس لو وجدت هناك مثيرا )
( وتذكرت فتكاتها فكأنما ... أقعت على أدبارها لتثورا )
( وتخالها والشمس تجلو لونها ... نارا وألسنها اللواحس نورا )
( فكأنما سلت سيوف جداول ... ذابت بلا نار فعدن غديرا )
( وكأنما نسج النسيم لمائه ... درعا فقدر سردها تقديرا )
( وبديعة الثمرات تعبر نحوها ... عيناي بحر عجائب مسجورا )
( شجرية ذهبية نزعت إلى ... سحر يؤثر في النهى تأثيرا )
( قد صولجت أغصانها فكأنما ... قنصت بهن من الفضاء طيورا )
( وكأنما تأبى لواقع طيرها ... أن تستقل بنهضها وتطيرا )
( من كل واقعة ترى منقارها ... ماء كسلسال اللجين نميرا )
( خرس تعد من الفصاح فإن شدت ... جعلت تغرد بالمياه صفيرا )
( وكأنما في كل غصن فضة ... لانت فأرسل خيطها مجرورا )
( وتريك في الصهريج موقع قطرها ... فوق الزبرجد لؤلؤا منثورا )
( ضحكت محاسنه إليك كأنما ... جعلت لها زهر النجوم ثغورا )
( ومصفح الأبواب تبرا نظروا ... بالنقش فوق شكوله تنظيرا )
( تبدو مسامير النضار كما علت ... تلك النهود من الحسان صدورا

( خلعت عليه غلائد ورسية ... شمس ترد الطرف عنه حسيرا )
( وإذا نظرت إلى غرائب سقفه ... أبصرت روضا في السماء نضيرا )
( وعجبت من خطاف عسجده التي ... حامت لتبني في ذراه وكورا )
( وضعت به صناعة أقلامها ... فأرتك كل طريدة تصويرا )
( وكأنما للشمس فيه ليقة ... مشقوا بها التزويق والتشجيرا )
( وكأنما باللازورد مخرم ... بالخط في ورق السماء سطورا )
( وكأنما وشوا عليه ملاءة ... تركوا مكان وشاحها مقصورا )
ثم مدح المنصور بعد ذلك وختم القصيدة بقوله
( يا مالك الأرض الذي أضحى له ... ملك السماء على العداة نصيرا )
( كم من قصور للملوك تقدمت ... واستوجبت بقصورك التأخيرا )
( فعمرتها وملكت كل رياسة ... منها ودمرت العدا تدميرا )
قلت لم أر لهذه القصيدة من نظير في معناها اليانع النضير ولفظها النمير الذي شمر فيه قائلها عن ساعد الإجادة أي تشمير غير أن فيها عندي عيبا واحدا وهو ختمها بلفظ التدمير وعلى كل حال فالحسن والإحسان يقادان في أرسان لعبد الجبار بن حمديس المذكور ذي المقاصد الحسان وخصوصا في وصف المباني والبرك فما أبقى لسواه في ذلك حسنا ولا ترك
ومن ذلك قوله في وصف بركة تجري إليها

طيور وزرافات وأسود وكل ذلك في قصر أطنب في وصفه في قصيدة طويلة
( والماء منه سبائك فضية ... ذابت على دوحات شاذروان )
( وكأنما سيف هناك مشطب ... ألقته يوم الحرب كف جبان )
( كم شاخص فيه يطيل تعجبا ... من دوحة نبتت من العقيان )
( عجبا لها تسقي الرياض ينابعا ... نبعت من الثمرات والأغصان )
( خصت بطائره على فنن لها ... حسنت فأفرد حسنها من ثاني )
( قس الطيور الخاشعات بلاغة ... وفصاحة من منطق وبيان )
( فإذا أتيح لها الكلام تكلمت ... بخرير ماء دائم الهملان )
( وكأن صانعها استبد بصنعة ... فخر الجماد بها على الحيوان )
( أوفت على حوض لها فكأنها ... منها على العجب العجاب رواني )
( فكأنها ظنت حلاوة مائها ... شهدا فذاقته بكل لسان )
( وزرافة في الجوف من أنبوبها ... ماء يريك الجري في الطيران )
( مركوزة كالرمح حيث ترى له ... من طعنه الخلق انعطاف وسنان )
( وكأنما ترمي السماء ببندق ... مستنبط من لؤلؤ وجمان ) ( لو عاد ذاك الماء نفطا أحرقت ... في الجو منه قميص كل عنان )
( في بركة قامت على حافاتها ... أسد تذل لعزة السلطان )
( نزعت إلى ظلم النفوس نفوسها ... فلذلك انتزعت من الأبدان )
( وكأن برد الماء منها مطفىء ... نارا مضرمة من العدوان )
( وكانما الحيات من أفواهها ... يطرحن أنفسهن في الغدران )
( وكانما الحيتان إذ لم تخشها ... أخذت من المنصور

وهاتان القصيدتان لابن حمديس كما في المناهج مع طولهما تدلان على الإبداع الذي ابتكره والاختراع الذي ما ولج سمع أحد من الفضلاء إلا شكره
وقال أبو الصلت أمية بن عبد العزيز الاندلسي يصف قصرا بمصر يسمى منزل العز بناه حسن بن علي بن يحيى بن تميم بن المعز العبيدي
( منزل العز كاسمه معناه لا عدا العز من به سماه )
( منزل ودت المنازل في أعلى ... ذراه لو صيرت إياه )
( فأجل فيه لحظ عينيك تبصر ... أي حسن دون القصور حواه )
( سال في سقفه النضار ولكن ... جمدت في قراره الأمواه )
( وبأرجائه مجال طراد ... ليس تنفك من وغى خيلاه )
( تبصر الفارس المدجج فيه ... ليس تدمى من الطعان قناه )
( وترى النابل المواصل للنزع ... بعيدا من قرنه مرماه )
( وصفوفا من الوحوش وطير الجو ... كل مستحسن مرآه )

( كمحيا الحبيب حرفا بحرف ... ما تعدى صفاته إذ حكاه )
( ورده وجنتاه نرجسه الفتان ... عيناه آسه عارضاه )
( وكأن الكافور والمسك في الطيب ... وفي اللون صبحه ومساه )
( منظر يبعث السرور ومرآى ... يذكر المرء طيب عصر صباه )
وقال أبو الصلت أمية الأندلسي المذكور يذكر بناء بناه علي بن تميم ابن المعز العبيدي
( لله مجلسك المنيف قبابه ... بموطد فوق السماك مؤسس )
( موف على حبك المجرة تلتقي ... فيه الجواري بالجواري الكنس )
( تتقابل الأنوار من جنباته ... فالليل فيه كالنهار المشمس )
( عطفت حناياه دوين سمائه ... عطف الأهلة والحواجب والقسي )
( واستشرفت عمد الرخام وظوهرت ... بأجل من زهر الربيع وأنفس )
( فهواؤه من كل قد أهيف ... وقراره من كل خد أملس )
( فلك تحير فيه كل منجم ... وأقر بالتقصير كل مهندس )
( قبدا للحظ العين أحسن منظر ... وغدا لطيب العيش خير معرس )
( فاطلع به قمرا إذا ما أطلعت ... شمس الخدور عليك شمس الأكؤس )
فالناس أجمع دون قدرك رتبة ... والأرض أجمع دون هذا المجلس )
ويعجبني قول أبي الصلت أمية المذكور يصف حال زيادة النيل ونقصانه
( ولله مجرى النيل منها إذا الصبا ... أرتنا به من مرها عسكرا مجرا )
( إذا زاد يحكي الورد لونا وإن صفا ... حكى

وقال رحمه الله تعالى يصف الرصد الذي بظاهر مصر
( يا نزهة الرصد اللائي قد اشتملت ... من كل شيء حلا في جانب الوادي )
( فذا غدير وذا روض وذا جبل ... والضب والنون والملاح والحادي )
وهو مأخوذ من قول الأول يصف قصر أنس بالبصرة
( زر وادي القصر نعم القصر والوادي ... لا بد من زورة من غير ميعاد )
( زره فليس له ند يشاكله ... من منزل حاضر إن شئت أو بادي )
( تلقى به السفن والظلمان حاضرة ... والضب والنون والملاح والحادي )
وقال رحمه الله تعالى يذكر الهرمين
( بعيشك هل أبصرت أحسن منظرا ... على طول ما عاينت من هرمي مصر )
( أنافا بأعنان السماء وأشرفا ... على الجو إشراف السماك أو النسر )
( وقد وافيا نشزا من الأرض عاليا ... كأنهما ثديان قاما على صدر )
وستأتي ترجمته إن شاء الله تعالى في الباب الخامس
وعلى ذكر الأنهار والبرك فما أحسن قول بعض الأندلسيين يصف بركة عليها عدة فوارات
( عضبت مجاريها فأظهر غيظها ... ما في حشاها من خفي مضمر

( وكأن نبع الماء من جنباتها ... والعين تنظر منه أحسن منظر )
( قضب من البلور أثمر فرعها ... لما انتهت باللؤلؤ المتحدر )
وقال ابن صارة الأندلسي يصف ماء بالرقة والصفاء
( والنهر قد رقت غلاله خصره ... وعليه من صيغ الأصيل طراز )
( تترقرق الأمواج فيه كأنها ... عكن الخصور تهزها الأعجاز )
وما أحسن قول بعض الأدباء ولم يحضرني الآن اسمه
( والنهر مكسو غلالة فضة ... فإذا جرى سيلا فثوب نضار )
( وإذا استقام رأيت صفحة منصل ... وإذا استدار رأيت عطف سوار )
وقال ابن حمديس المغربي يصف نهرا بالصفاء
( ومطرد الأمواج يصقل متنه ... صبا أعلنت للعين ما في ضميره )
( جريح بأطراف الحصى كلما جرى ... عليها شكا أوجاعه بخريره )
وهذا المنهج متسع ولم نطل السير في هذه المهامه وإنما ذكرنا بعض كلام المغاربه ليتنبه به منتقصهم من سنة أوهامه ولأن في أمرها عبرة لمن عقل

البكاء على خراب العمران
وقد وقفت على كلام لصاحب المنهاج في هذا المعنى فأحببت ذكره ملخصا وهو ونلحق بذكر المنازل التي راق منظرها وفاق مخبرها وارتفع بناؤها واتسع فناؤها طرفا من الكلام على ما عفاه الدهر من رسومها ومحاه من محاسن صور كانت أرواحا لجسومها
وصف أعرابي محلة قوم ارتحلوا عنها فقال نثرا ارتحلت عنها ربات الخدور وأقامت بها أثافي القدور ولقد كان أهلها يعفون آثار الرياح فعفت الرياح أثارهم وذهبت بأبدانهم وأبقت أخبارهم والعهد قريب واللقاء بعيد
وقال عمر بن أبي ربيعة فأحسن
( يا دار أمسى داسا رسمها ... وحشا قفارا ما بها آهل )
( قد جرت الريح بها ذيلها ... واستن في أطلالها الوابل )
ومن كلام الفتح بن خاقان في قلائد العقيان يذكر آل عباد من فصل أكثر فيه التفجع وأطال به التوجع والغصون تختال في أدواحها والأزاهر يحيى ميت الصبابة شذا أرواحها وأطيار الرياض قد أشرفت عليهم كثكالى ينحن على خرابها وانقراض أطرابها والوهي بمشيدها لاعب وعلى كل جدار منها غراب ناعب وقد محت الحوادث ضياءها وقلصت ظلالها

شذاهم وأرجت أيام نزلوا خلالها وتفيأوا ظلالها وعمروا حدائقها وجناتها ونبهوا الآمال من سناتها وزاعوا الليوث في آجامها وأخجلوا الغيوث عند انسجامها فأصبحت ولها التداعي تفلع واعتجاز ولم يبق من آثارها إلا نؤي وأحجار قد هوت قبابها وهرم شبابها وقد يلين الحديد ويبلى على طيه الجديد
وقال أبو صخر القرطبي يذكر ذلك من أبيات ينعاهم بها
( ديار عليها من بشاشة أهلها ... بقايا تسر النفس أنسا ومنظرا )
( ربوع كساها المزن من خلع الحيا ... برودا وحلاها من النور جوهرا )
( تسرك طورا ثم تشجيك تارة ... فترتاح تأنيسا وتشجى تذكرا )
ومن كلام أبي الحسن القاشاني يصف نادي رئيس خلا من ازدحام الملا وعوضه الزمان من تواصل أحبابه هجرا وقلى قد كان منزله مألف الأضياف ومأنس الأشراف ومنتجع الركب ومقصد الوفد فاستبدل بالأنس وحشة وبالضياء ظلمة واعتاض من تزاحم المواكب تلاطم النوادب ومن ضجيج النداء والصهيل عجيج البكاء والعويل
ومن رسالة لابن الأثير الجزري يصف دمنة دار لعبت بها أيدي الزمن وفرقت بين المسكن والسكن كانت مقاصير جنة فأصبحت وهي ملاعب جنة وقد عميت أخبار قطانها وآثار أوطانها حتى شابهت إحداهما في الخفاء الأخرى في العفاء وكنت أظن أنها لا تسقى بعدهم بغمام ولا يرفع عنها جلباب ظلام غير أن السحاب بكاهم فأجرى بها هوامع دموعه والليل شق عليهم جيوبه

وقد لمح في بعض كلامه قول الشريف من أيبات يصف فيها ما كان في الحيرة من منازل النعمان بن المنذر
( ما زلت أطرق المنازل باللوى ... حتى نزلت منازل النعمان )
( بالحيرة البيضاء حيث تقابلت ... شم العماد عريضة الأعطان )
( شهدت بفضل الرافعين قبابها ... ويبين بالبنيان فضل الباني )
( ما ينفع الماضين أن بقيت لهم ... خطط معمرة بعمر فاني )
يقول فيها
( ولقد رأيت بدير هند منزلا ... ألما من الضراء والحدثان )
( يغضي كمستمع الهوان تغيبت ... أنصاره وخلا من الأعوان )
( بالي المعالم أطرقت شرفاته ... إطراق منجذب القرينة عاني )
( أمقاصر الغزلان غيرك البلى ... حتى غدوت مرابض الغزلان )
( وملاعب الإنس الجميع طوى الردى ... منهم فصرت ملاعب الجنان )
ومنها
( مسكية النفحات تحسب تربها ... برد الخليع معطر الأردان )
( وكأنما نسي التجار لطيمة ... جرت الرياح بها على القيعان )
( ماء كجيب الدرع يصقله الصبا ... ويفي بدوحته النسيم الواني )
( زفر

وقال أبو إسحاق الصابي وتوارد مع الشريف الرضي في المعنى والقافية يصف قصر روح بالبصرة
( أحبب إلي بقصر روح منزلا ... شهدت بنيته بفضل الباني )
( سور علا وتمنعت شرفاته ... فكأن إحداهن هضب أبان )
( وكأنما يشكو إلى زواره ... بين الخليط وفرقة الجيران )
( وكأنما يبدي لهم من نفسه ... إطراق محزون الحشا حران )
ولأحمد بن فرج الإلبيري من أبيات
( سألت بها فما ردت جوابا ... عليك وكيف تخبرك الطلول )
( ومن سفه سؤالك رسم دار ... مضى لعفائه زمن طويل )
( فإن تك أصبحت قفرا خلاء ... لعينيك في مغانيها همول )
( فقدما قد نعمت قرير عين ... بها وبربعها الرشأ الكحيل )
وقال أبو عبد الله بن الحناط الأندلسي الأعمى
( لو كنت تعلم ما بالقلب من نار ... لم توقد النار بالهندي والغار
( يا دار علوة قد هيجت لي شجنا ... وزدتني حرقا حييت من دار )
( كم بت فيك على اللذات معتكفا ... والليل مدرع ثوبا من القار )
( كأنه راهب في المسح ملتحف ... شد المجد له وسطا بزنار )
( يدير فيه كؤوس الراح ذو حور ... يدير من طرفه ألحاظ سحار )
ولا مزيد في التفجع على الديار والتوجع للدمن والآثار على قول البحتري

( محل على القاطول أخلق دائرة ... وعادت صروف الدهر جيشا تغاوره )
( كأن الصبا توفي نذورا إذا انبرت ... تراوحه أذيالها وتباكره )
( ورب زمان ناعم ثم عهده ... ترق حواشيه ويونق ناضره )
( تغير حسن الجعفري وأنسه ... وقوض بادي الجعفري وحاضره )
( تحمل عنه ساكنوه فجاءة ... فعادت سواء دوره ومقابره )
( إذا نحن زرناه أجد لنا الأسى ... وقد كان قبل اليوم يبهج زائره )
( ولم أنس وحش القصر إذ ريع سربه ... إذ ذعرت أطلاؤه وجآذره )
( وإذ صيح فيه بالرحيل فهتكت ... على عجل أستاره وستائره )
( وأوحشه حتى كأن لم يكن به ... أنيس ولم تحسن لعين مناظره )
( كأن لم تبت فيه الخلافة طلقة ... بشاشتها والملك يشرق زاهره )
( ولم تجمع الدنيا إليه بهاءها ... وبهجتها والعيش غض مكاسره )
( فاين الحجاب الصعب حيث تمنعت ... بهيبتها أبوابه ومقاصره )
( وأين عميد الناس في كل نوبة ... تنوب وناهي الدهر فيهم وآمره )
وعلى قول أبي إسحاق بن خفاجة الأندلسي
( ومرتبع حططت الرحل فيه ... بحيث الظل والماء القراح )
( تخرم حسن منظره مليك ... تخرم ملكه القدر المتاح )
( فجرية ماء جدوله بكاء ... عليه وشدو طائره نواح )

كثير جدا لا يعرف الباحث عنه له حدا وذلك لشدة ولوع النفوس بذكر أحبابها وحنينها إلى أماكنها التي هي مواطن أطرابها ولهذا اقتصرنا على هذه النبذة القليلة وجعلناها نغبة يشفي المشوق بها غليله وقد كره بعض العقلاء التأسف على الديار لعلمهم أنه لا يجدي ولايدفع عادية الدهر الخؤون ولا يعدي ونهوا عنه لما فيه من تجديد المصاب المجرع لصاحبه الصاب والأوصاب
قال أبو عمر بن عبد البر
( عفت المنازل غير أرسم دمنة ... حييتها من دمنة ورسوم )
( كم ذا الوقوف ولم تقف في منسك ... كم ذا الطواف ولم تطف بحريم )
( فكل الديار إلى الجنائب والصبا ... ودع القفار إلى الصدى والبوم )
انتهى كلامه رحمه الله تعالى بأكثر لفظه مع بعض اختصار
رجع إلى قرطبة فنقول
رسائل للسان الدين
وقد ألم لسان الدين بن الخطيب رحمه الله تعالى بذكر قرطبة وبعض أوصافها في كتاب له كتبه على لسان سلطانه إلى رسول الله وقد ذكرناه بجملته في الباب الخامس من القسم الثاني فليراجع ثمة ونص محل الحاجة منه هنا ثم كان الغزو إلى أم البلاد ومثوى الطارف والتلاد قرطبة وما قرطبة المدينة التي على عمل أهلها في القديم بهذا الإقليم كان العمل والكرسي الذي بعصاه رعي الهمل والمصر الذي له في خطة المعمور الناقة والجمل

في عقوتها المستباحة وأجاز نهرها المعيي على السباحة وعم دوحها الأشب بوارا وأدار المحلات بسورها سوارا وأخذ بمخنقها حصارا وأعمل النصر بشجرة أصلها اجتناء ما شاء واهتصار وجدل من أبطالها لم يرض انجحارا فأعمل إلى المسلمين إصحارا حتى قرع بعض جهاتها غلابا جهارا ورفعت الأعلام إعلاما بعز الإسلام وإظهارا فلولا استهلال الغوادي وأن اتى الوادي لأفضت إلى فتح الفتوح تلك المبادي ولقضى تفثه العاكف والبادي انتهى
ومما كتب به لسان الدين رحمه الله تعالى في وصف هذه الغزوة لسلطان بني مرين على لسان صاحب الأندلس ما صورته المقام الذي نطالعه بأخبار الجهاد ونهدي إليه عوالي العوالي صحيحة الإسناد ونبشره بأخبار الفتح البعيد الآماد ونسأل الله تعالى له توالي الإسعاق ودوام الإسعاد والإمداد ونرتقب من صنع الله تعالى على يديه تكييفا يخرق حجاب المعتاد وامتعاضا يطلع بآفاق البلاد نجوم غرر الجياد ويفتح أبواب الفتوح بأقاليد السيوف الحداد وينبىء عن مكارم من سلف من الآباء الكرام والأجداد مقام محل أخينا الذي نستفتح له بالفتح والظهور ونهدي إلى مجده لما نعلم من فضل نيته وحسن قصده لطائف السرور ونستظهر بملكه المؤيد المؤمل ومجده المشهور ونتوعد منهما العدو بالحبيب المذخور والولي المنصور السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ابن السلطان الكذا أبقاه الله تعالى عالي القدر قرير العين منشرح الصدر ولا زال حديث فخره سائرا مسير الشمس والبدر

مجده الصميم وفضله العميم أمير المسلمين عبد الله الغني بالله محمد ابن أمير المسلمين أبي الحجاج ابن أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر سلام كريم بر عميم يخص مقامكم الأعلى وأخوتكم الفضلى ورحمة الله وبركاته أما بعد حمد الله رب العباد وملهم الرشاد ومكيف الإسعاف والإسعاد الولي النصير الذي نلقي إلى التوكل عليه مقاليد الاعتماد ونمد إلى إنجاده أيدي الاعتداد ونرفع إليه أكف الاستمداد ونخلص لوجهه الكريم عمل الجهاد فنتعرف عوارف الفضل المزداد ونجتني ثمار النصر من أغصان القنا المياد ونجتلي وجوه الصنع الوسيم أبهر من وجه الصباح الباد ونظفر بالنعيم العاجل في الدنيا والنعيم الآجل يوم قيام الأشهاد ونتفيأ ظلال الجنة من تحت أوراق السيوف الحداد والصلاة على سيدنا ومولانا محمد رسوله النبي الهاد رسول الملحمة المؤيد بالملائكة الشداد ونبي الرحمة الهامية العهاد أكرم الخلق بين الرائح والغاد ذي اللواء المعقود والحوض المورود والشفاعة في يوم التناد الذي بجاهه نجدع أنوف الآساد يوم الجلاد وببركته ننال أقصى الأمل والمراد وفي مرضاته نصل اسباب الوداد فنعود بالتجر الرابح من مرضاة رب العباد ونستولي من ميدان السعادة المعادة على الآماد والرضي عن أله وصحبه وأنصاره وحزبه الكرماء الأمجاد دعائم الدين من بعده وهداة العباد أنجاد الانجاد وآساد الآساد الذين ظاهروه في حياته بالحلوم الراجحة الأطواد والبسالة التي لا تنال بالعدد في سبيل الله والاعداد حتى بوأوا الإسلام في القواعد الشهيرة والبلاد وأرغموا أنوف أهل الجحد والإلحاد فأصبح الدين رفيع العماد منصور العساكر والأجناد مستصحب العز في الإصدار والإيراد والدعاء لمقامكم الأعلى بالسعد الذي يغني

جنح ليل المداد والصنع الذي تشرع له أبواب التوفيق والسداد من حمراء غرناطة حرسها الله واليسر وثيق المهاد والخير واضح الأشهاد والحمد لله في المبدإ والمعاد والشكر له على آلائه المتصلة الترداد ومقامكم ومقامكم الذخر الكافي العتاد والمردد المتكفل بالإنجاد وإلى هذا وصل الله سعدكم وحرس مجدكم ووالى نصركم وعضدكم وبلغكم من فضله العميم أملكم وقصدكم فإننا نؤثر تعريف كم بتافه المتزيداتونورد عليكم أشتات الأحوال المتجددات إقامة لرسم الخلوص في التعريف بما قل ومودة خالصة في الله عز و جل فكيف إذا كان الترعيف بما تهتز منابر الإسلام ارتياحا لوروده وتنشرح الصدور منه لمواقع فضل الله وجوده والمكيفات البديعة الصفات في وجوده وهو أننا قدمنا إعلامكم بما نويناه من غزو مدينة قرطبة أم البلاد الكافرة ومقر الحامية المشهودة والخيرات الوافرة والقطر الذي عهده بإلمام الإسلام متقادم والركن الذي لا يتوقع صدمة صادم وقد اشتمل سورها من زعماء ملة الصليب على كل رئيس بئيس وهزبر خيس وذي مكر وتلبيس ومن له سمة تذيع مكانه وتشيعه وأتباع على المنشط والمكره تطيعه فاستدعينا المسلمين من أقاصي البلاد وأذعنا في الجهات نفير الجهاد وتقدمنا إلى الناس بسعة الأزواد وأعطينا الحركة التي تخلف المسلمون فيها وراءهم جمهور الكفر من الأقطار والاعداد حقها من الاستعداد وأفضنا العطاء

وأبطال الجلاد فحشر الخلق في صعيد وأخذوا الأهبة والزينة في عيد سعيد وشمل الاستدعاء كل قريب وبعيد عن وعد ووعيد ورحلنا وفضل الله شامل والتوكل عليه كاف كافل وخيمنا بظاهر الحضرة حتى استوفى الناس أرابهم واستكملوا أسرابهم ودسنا منهم بلاد النصارى بجموع كثرها الله وله الحمد وأنماها وأبعد في التماس ما عنده من الاجر منتماها وعندما حللنا قاشرة وجدنا السلطان دون بطره مؤمل نصرنا وإنجادنا ومستعيد حظه من لواحق جهادنا ومقتضي دين كدحه بإعانتنا إياه وإنجادنا قد نزل بظاهرها في محلات ممن استقر على دعوته وتمسك بطاعته وشمله حكم جماعته فكان لقاؤنا إياه على حال أقرت عيون المسلمين وتكفلت بإعزاز الدين ومجملها يغني عن التعيين والشرح والتبيين ورأى هو ومن معه من وفور جيش الله ما هالهم وأشك في حال اليقظة خيالهم من جموع تسد الفضا وأبطال تقارع أسود الغضا وكتائب منصورة ورايات منشورة وأمم محشورة تفضل عن مرأى العين وتردي العدو في مهاوي الحين فاعترفوا بما لم يكن في حسابهم واعتبر في عزة الله سبحانه أولو ألبابهم وإذا كثر الله تعالى العدد نما وزكا وإذا أزاح العلل ما اعتذر غاز ولا شكا وسالت من الغد الأباطح بالأعراف وسمت الهوادي إلى الاستشراف وأخذ الترتيب حقه من المواسط الجهادية والأطراف وأحكمت التعبية التي لا ترى العين فيها خللا ولا يجد الاعتبار عندها دخلا وكان النزول على فرسخ من عدوة النهر الأعظم من خارج المدينة أنجز الله تعالى وعد دمارها وأعادها إلى عهدها في الإسلام وشعارها ومحا ظلام الكفر من آفاقها بملة الإسلام وأنوارها وقد برزت من حاميتها شوكة سابغة الدروع وافرة الجموع

من أسوار القنطرة العظمى بحمى لا يخفر وأخذ أعقابها من الحماة والكماة العدد الأوفر فبادر إليهم سرعان خيل المسلمين فصدقوهم الدفاع والقراع والمصال والمصاع وخالطوهم هبرا بالسيوف ومباكرة بالحتوف فتركوهم حصيدا وأذاقوهم وبالا شديدا وجدلوا منهم جملة وافرة وأمة كافرة وملكوا بعض تلك الأسوار فارتفعت بها راياتهم الخافقة وظهرت عليها عزماتهم الصادقة واقتحم المسلمون الوادي سبحا في غمرة واستهانة في سبيل الله بأمره وخالطوا حامية العدو في ضفته فاقتلعوها وتعلقوا بأوائل الأسوار ففرعوها فلو كنا في ذلك اليوم على عزم من القتال وتيسير الآلات وترتيب الرجال لدخل البلد وملك الأهل والولد لكن أجار الكفار من الليل كافر وقد هلك منهم عدد وافر ورجع المسلمون إلى محلاتهم ونصر الله سافر والعزم ظافر ومن الغد خضنا البحر الذي جعلنا العزم فيه سفينا والتوكل على الله للبلاغ ضمينا ونزلنا من ضفته القصوى منزلا عزيزا مكينا بحيث يجاور سورها طنب القباب وتصيب دورها من بين المخيمات بوارق النشاب وبرزت حاميتها على متعددات الأبواب مقيمة أسواق الطعان والضراب فآبت بصفقة الخسر والثباب ولما شرعنا في قتالها ورتبنا أشتات النكايات لنكالها وإن كنا لم نبق على مطاولة نزالها أنزل الله المطر الذي قدم بعهاده العهد وساوى النجد من طوفانه الوهد وعظم به الجهد ووقع الإبقاء على السلاح والكف بالضرورة عن الكفاح وبلغ المقام عليها والأخذ بمخنقها والثواء لديها خمسة أيام لم تخل فيها الأسوار من اقتراع ولا الأبواب من دفاع عليها وقراع

أهلها الجراح والعيث الصراح وساءهم المساء بعزة الله والصباح ولولا عائق المطر لكان الإجهاز والاستفتاح والله بعدها الفتاح وصرفت الوجوه إلى تخريب العمران وتسليط النيران وعقر الأشجار وتعفية الآثار وأتى منها العفاء على المصر الشهير في الأمصار وتركت زروعها المائحة عبرة لأولي الأبصار ورحلنا عنها وقد ألبسها الدخان حدادا ونكس من طغاتها أجيادا فاعتادت الذل اعتي ادا وألفت الهون قيادا وكادت أن تستباح عنوة لولا أن الله تعالى جعل لها ميعادا وأتى القتل من أبطالها ومشاهير رجالها ممن يبارز ويناطح ويماسي بالناس ويصابح على عدد جم أخبرت سيماهم المشهورة بأسمائهم ونبهت علاماتها على نبهائهم وظهر إقدام المسلمين في المعتركات وبروزهم بالحدود المشتركات وتنفيلهم الأسلاب وقودهم الخيل المسومة قود الغلاب وكان القفول وقد شمل الأمن والقبول وحصل الجهاد المقبول وراع الكفر العز الذي يهول والإقدام الذي شهدت به الرماح والخيول وخاض المسلمون من زرع الطرق التي ركبوها والمنازل التي استباحوها وانتهبوها بحورا بعد منها الساحل وفلاحة مدركة تتعدد فيها المراحل فصيروها صريما وسلطوا عليها النار غريما وحلوا بظاهر حصن أندوجر وقد أصبح مألف أذمار غير أوشاب ووكر طيور نشاب فلما بلونا مراسه صعبا وأبراجه ملئت حرسا شديدا وشهبا ضننا بالنفوس أن تفيض دون افتتاحه فسلطنا العفاء

مساحة وأغرينا الغارات باستيعاب ما بأحوازه واكتساحه وسلطنا النار على حزونه وبطاجه وألصقنا بالرغام ذوائب أدواحه وانصرفنا بفضل الله والمناهل دامية والأجور نامية وقد وطئنا المواطىء التي كانت على الملوك قبلنا بسلا ولم نترك بها حرثا يرفد ولا نسلا ولا ضرعا يرسل رسلا والحمد لله الذي يتمم النعيم بحمده ونسأله صلة النصر فما النصر إلا من عنده عرفناكم بهذه الكيفيات الكريمة الصفات والصنائع الروائع التي بعد العهد بمثلها في هذه الأوقات علما بأنها لديكم من أحسن الهديات الوديات ولما نعلمه لديكم من حسن النيات وكرم الطويات فإنكم سلالة الجهاد المقبول والرفد المبذول ووعد النصر المفعول ونرجو الله عز و جل أن ينتقل خيالكم للمعاهد الجهادية إلى المعاينة في نصر الملة المحمدية وأن يجمع الله بكم كلمة الإسلام على عبدة الأصنام ويتم النعمة على الأنام وودنا لكم ما علمتم يزيد علىممر الأيام والله يجعله في ذاته لكم متصل الدوام مبلغا إلى دار السلام وهو سبحانه يصل سعدكم ويحرس مجدكم ويضاعف الآلاء عندكم والسلام الكريم يخصكم ورحمة الله وبركاته انتهى
ومن هذا المنحنى ما كتب به لسان الدين رحمه الله تعالى عن سلطانه ونصه المقام الذي أحاديث سعادته لا تمل على الإعادة والتكرار وسبيل مجادته الشهيرة أوضح من شمس الظهيرة عند الاستظهار وأخبار صنائع الله لملكه ونظم فرائد الآمال في سلكه تخلدها اقلام الأقدار بمداد الليل في قرطاس النهار وترسمها بتذهيب الإسفار في صفحات الأقمار وتجعلها هجيري حملاء الأسفار وحداة

محل أخينا الذي نلذ عادة هنائه مع الإعادة ونتلقى أنباء علائه بالإذاعة والإشادة ونطرز بأعلام ثنائه صحائف المجادة ونشكر الله أن وهب لنا من أخوته المضافة إلى المحبة والودادة ما يرجح في ميزان الاعتبار أخوة الولادة وعرفنا بيمن ولايته عوارف السعادة السلطان الكذا ابن السلطان الكذا بن السطان الكذا أبقاه الله تعالى في أعلام الملك السعيد بيت القصيد ووسطى القلادة ومجلي الكمال الذي تبارى بميدان باسه وجوده جنسا الإبادة والإفادة ولا زالت آماله القاصية تنثال طوع الإرادة ويمن نقيبته يجمع من أشتات الفتوح والعز الممنوح بين الحسنى وزيادة معظم سلطانه العالي المثني على مجده المرفوع إسناده في عوالي المعالي المسرور بما يسنيه الله له من الصنع المتوالي والفتح المقدم والتالي أمير المسلمين عبد الله الغني بالله محمد ابن أمير المسلمين أبي الحجاج ابن أمير المسلمين أبي الوليد بن فرج بن نصر أيد الله أمره وأسعد عصره سلام كريم يتأرج في الآفاق شذا طيبه وتسمع في ذروة الود بلاغة خطيبه ويتضمن نوره سواد المداد عند مراسلة الوداد فيكاد يذهب بعبوسه المجهول وتقطيبه ورحمة الله وبركاته اما بعد حمد الله فاتح الأبواب بمقاليد الأسباب مهما استصعبت وميسر الأمور بمحكم المقدور إذا أجهدت الحيل وأتعبت مخمد نيران الفتن ما التهبت وجامع كلمة الإسلام وقد تصدعت وتشعبت ومسكن رجفان الأرض بعدما اضطربت ومحييها بعهاد الرحمة مهما اهتزت وربت اللطيف الخبير الذي قدرت حكمته الأمور ورتبت منهي كل نفس إلى ما خطت الأقلام

بما كسبت والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله هازم الأحزاب لما تألفت وتألبت وجالب الحتف إليها عندما أجلبت رسول الملحمة إذا الليوث وثبت ونبي الرحمة التي هيأت النجاة وسببت وأبلغت النفوس المطمئنة من السعادة ما طلبت ومداوي القلوب المريضة وقد انتكبت وانقلبت بلطائفه التي راضت وهذبت وقادت إلى الجنة العليا واستجلبت وأدت عن الله وأدبت الذي بجاهه نستكشف الغماء إذا طنبت ونستوكف النعماء إذا أخلفت البروق وكذبت ونتحاب في طاعته ابتغاء الوسيلة إلى شفاعته فنقول وجبت حسبما ثبت والرضى عن آله وأصحابه وأنصاره وأحزابه التي استحقت المزية المرضية واستوجبت لما انتمت إلى كماله وانتسبت وببذل نفوسها في الله ومرضاته تقربت وإلى نصرته في حياته انتدبت والمناصل قد رويت من دماء الأعداء واختضبت وخلفته في أمته بعد مماته بالهمم التي عن صدق اليقين أعربت فتداعت لمجاهدة الكفار وانتدبت وأبعدت المغار وأدربت حتىبلغ ملك أمته أقاصي البلاد التي نبت فكسرت الصلب التي نصبت ونفلت التيجان التي عصبت ما همت السحب وانسحبت وطلعت الشمس وغربت والدعاء لمثابتكم العليا بالنصر العزيز كلما جهزت الكتائب وتكتبت والفتح المبين كلما ركنت عقائل القواعد إذا خطبت والصنائع التي مهما حدقت فيها العيون تعجبت أو جالت في لطائفها الأفكار استطابت مذاق الشكر واستعذبت حتى تنجز لكم مواعيد النصر فقد اقتربت فإنا كتبنا إليكم كتب الله لكم أغيا ما سألت الألسن السائلة

حمراء غرناطة حرسها الله تعالى وجنود الله بفضل الله تعالى ونعمته قد غلبت وفتحت وسلبت وأسود جهاده قد أردت الأعداء بعدما كلبت ومراعي الآمال قد أخصبت والحمد لله حمدا يجلو وجوه الرضى بعدما احتجبت ويفتح أبواب المزيد فكلما استقبلها الأمل رحبت والشكر لله شكرا يقيد شوارد النعم مما أبقت وما هربت وإلى هذا وصل الله لمقامكم أسباب الظهور والاعتلاء وعرفكم عوارف الآلاء على الولاء فإننا لما ورد علينا كتابكم البر الوفادة الجم الإفادة والجامع بين الحسنى والزيادة جالي غرة الفتح الأعظم من ثنايا السعادة وواهب المنن المتاحة وواصف النعم المعادة فوقفنا من رقة المنشور على تحف سنية وأماني هنية وقطاف للنصر جنية ضمنت سكون البلاد وقرارها وأن الله قد أذهب أذهب الفتن وأوردها وأخمد نارها ونضح عن وجه الإسلام عارها وجمع الأهواء على من هويته السعادة بعد أن أجهد اختيارها فأصبح الشتيت مجتمعا وجنح الجناح مرتفعا والجبل المخالف خاشعا متصدعا وأصحب في القياد من كان متمنعا فاستوثقت الطاعة وتبجحت السنة والجماعة وارتفعت الشناعة وتمسكت البلاد المكرهة بأذيال وليها لما راته وعادت الأجياد العاطلة إلى حليها بعدما أنكرته أجلنا جياد الأقلام في ملعب الهناء وميدانه لأول أوقات إمكانه على بعد مكانه وأجهدنا عبارة الكلام في إجلال هذا الصنع وتعظيم شأنه وأغرينا الثناء بشيم مجدكم في شرحه لنا وبيانه رأينا أن لا نكل ذلك إلى اليراع ونفرده فيه بالاجتماع وما يتعاطاه من منة الذراع وأن نشد بردء من المشافهة أزره ونعضد بمعين من اللسان امره فعينا لذلك من يفسر منه المجمل ويمهد المقصد المعمل

والسر ويقيم شتى الأدلة على الوداد المستقر ووجهنا في غرض الرسالة به إليكم واخترنا لشرحه بين يديكم خطيب الوفود وبركة المشايخ في هذا المقام المحمود الشيخ الجليل الشهير الكبير الصالح الفاضل أبا البركات ابن الحاج وصل الله حفظه وأجزل من الحمد واللطف حظه وهو البطل الذي لا يعلم الإجالة في الميدان ولا يبصر بوظائف ذلك الشأن ومرادنا منه أن يطيل ويطيب ويجيل في وصف محاسنكم اللسان الرطيب ويقرر ما عندنا لمقامكم من التشيع الذي قام على الحب المتوارث أساسه واطرد حكمه وانتج قياسه وليجعل تلو مقصد الهناء بمجلسكم الباهر السناء الصارف إلى الجهاد في سبيل الله والفناء وجه التهمم والاعتناء على مر الآناء ما تجدد لدينا من الأنباء في جهاد الأعداء وإن كان رسولكم أعزه الله تعالى قد شارك في السرى والسير ويمن الطير وأغنى في الحكاية عن الغير فلا سرف في الخير وهو أننا لما انصرفنا من منازلة قرطبة نظرا للحشود التي نفدت معدات أزوادها وشابت بهشيم الغلة المستغلة مفارق بلادها وإشفاقا لفساد أقواتها بفوات أوقاتها رحلنا عنها وقد انطوينا من إعفاء أكثر تلك الزروع المائلة الفروع الهائلة الروع على هم ممض وأسف للمضاجع مقض إذ كان عاذل المطر يكف ألسنة النار عن المبالغة في التهابها وحلاق إهابها ونفض أغوارها ونهب شوارها وإذاعة أسرارها وهي البحور المتلاطمة إذا حطمتها

السوافي الماخرة تود العيون أن تتحدى حدودها القاصية فلا تطيق والركائب الراكضة ان تشرف على غايتها فيفضل عن مراحلها الطريق قد جللها الربيع ارزاقا تغص بها الخزائن والأطباق وحبوبا مفضلة لا يرزؤها الإنفاد والإنفاق ولو اعتصبت على انتسافها الآفاق فخففنا في سبيل الله لتعقيب غزو تلك الأقطار المخالفة بمحق الصائفة وإحانة تلك الطائفة بكلوم المجاعة الجائفة خفوفا لم نقنع فيه بالاستنابة حرصا علىاستئصال الصبابة وأعفينا الرحل من اتصال الكد وقابلنا قبولهم على استصحابنا فيها بالرد وأطللنا على قرطبة بمحلاتنا ننسف جبال النعم نسفا ونعم الأرض زلزالا وخسفا ونستقري مواقع البذر إحراقا ونخترق أجوابها المختلفة بحب الحصيد اختراقا ونسلط عليها من شرر النار أمثال الجمالات الصفر مدت من الشواظ أعناقا ونوسع القرى الواسعة قتلا واسترقاقا وندير على مستديرها أكواس الحتوف دهاقا وأخذت النيران واديها الأعظم من كلا جانبيه حتى كأن القيون أحمت سبيكته فاستحالت وأذابت صحيفته فسالت وأتت الكفار سماؤهم بالدخان المبين وصارت الشمس من بعد سفورها وعموم نورها منقبة المحيا معصبة الجبين وخضنا أحشاء الفرنتيرة نعم أشتات النعم انتسافا وأقوات أهلها إتلافا وآمال سكانها إخلافا وقد بهتوا لسرعة الرجوع ودهشوا

لوقوع الجوع وتسبيب تخريب الربوع فمن المنكر البعيد أن يتأتى بعد عمرانها المعهود وقد اصطلم الزرع واجتث العود وصار إلى العدم منها الوجود ورأوا من عزائم الإسلام خوارق تشذ عن نطاق العوائد وعجائب تستريب فيها عين المشاهد إذ اشتمل هذا العام المتعرف فيه من الله تعالى الإنعام على غزوات أربع دمرت فيها القواعد الشهيرة تدميرا وعلا فوق مراقيها الأذان عزيزا جهيرا وضويقت كراسي الملك تضييقا كبيرا وأذيقت وبالا مبيرا ورياح الإدالة إن شاء الله تعالى تستأنف هبوبا وبأسا مشبوبا والثقة بالله قد ملأت نفوسا مؤمنة وقلوبا والله سبحانه المسؤول أن يوزع شكر هذه النعم التي أثقلت الأكتاد وأبهضت الطوق المعتاد وأبهجت المسيم والمرتاد فبالشكر يستدر مزيدها ويتوالى تجديدها وقطعنا في بحبوحة تلك العمالة المستبحرة العمارة والفلج المغني وصفها عن الشرح والعبارة مراحل ختمنا بالتعريج على حزب جيان حربها ففللنا ثانية غربها وجددنا كربها واستوعبنا حرقها وخربها ونظمنا البلاد في سلك البلاء وحثثنا في أنجادها وأغوارها ركائب الاستيلاء فلم نترك بها ملقط طير فضلا عن معاف عير ولا أسأرنا لفلها المحروب بلالة خير وقفلنا وقد تركنا بلاد النصارى التي منها لكيادنا المدد والعدة والعدد وفيها الخصام واللدد قد لبست الحداد حريقا وسلكت إلى الخلاء والجلاء طريقا ولم نترك بها مضغة تخالط ريقا ولا نعمة تصون من الفراق فريقا وما كانت تلك النعم لولا أن أعان الله تعالى من عنصري النار والهواء بجنود كونه الواسع ومدركه البعيد الشاسع لتتولى

لتمتاح بالاغتراف غديرها بل لله القدرة جميعا فقدرته لا تتحامى ريعا ولا حمى مريعا منيعا وعدنا والعود في مثلها أحمد وقد بعد في شفاء النفوس الأمد ونسخ بالسرور الكمد ورفعت من عز الإسلام العمد والحمد لله حمد الشاكرين ومنه نلتمس عادة النصر على أعدائه فهو خير الناصرين عرفناكم به ليسر دينكم المتين ومجدكم الذي راق منه الجبين والله يصل سعدكم ويحرس مجدكم ويبلغكم أملكم من فضله وقصدكم بمنه وطوله والسلام الكريم يخصكم ورحمة الله تعالى وبركاته انتهى
رجع إلى ما كنا بسبيله من أخبار قرطبة الجليلة الوصف وذكر جامعها البديع الإتقان والرصف فنقول
قد شاع وذاع على ألسنة الجم الغفير من الناس في هذه البلاد المشرقية وغيرها أن في جامع قرطبة ثلاثمائة ونحو ستين طاقا على عدد أيام السنة وأن الشمس تدخل كل يوم من طاق إلى أن يتم الدور ثم تعود وهذا شيء لم أقف عليه في كلام المؤرخين من أهل المغرب والأندلس ولو كان كما شاع لذكروه وتعرضوا له لأنه من أعجب ما يسطر مع أنهم ذكروا ما هو دونه فالله أعلم بحقيقة الحال في ذلك وستأتي في الباب السابع رسالة الشقندي الطويلة وفيها من محاسن قرطبة وسائر بلاد الأندلس الطم والرم وقد ذكرنا في الباب الأول جملة من محاسن قرطبة فأغنى ذلك عن إعادتها هنا على أن رسالة الشقندي تكرر فيها بعض ما ذكرناه لأنا لم نرد أن نخل منها بحرف فأتينا بها بلفظها وإن تكرر بعض ما فيها مع بعض ما أسلفناه والعذر واضح للمنصف المفضي والله نسأل سلوك السبيل الذي يرضي بمنه وكرمه

المنصورفي مذاهبها وتنافرت في مفاخرها فإليه مفزعها وهو المقنع في فصل القضية بينها لاستيلائه على المفاخر بأسرها وعلمه بسرها وجهرها وقد ذهب البهار والنرجس في وصف محاسنهما والفخر بمشابههما كل مذهب وما منها إلا ذو فضيلة غير أن فضلي عليهما أوضح من الشمس التي تعلونا وأعذب من الغمام الذي يسقينا وإن كانا قد تشبها في شعرهما ببعض ما في العالم من جواهر الأرض ومصابيح السماء وهي من الموات الصامت فإني أتشبه بأحسن ما زين الله به الإنسان وهو الحيوان الناطق مع أني أعطر منهما عطرا وأحمد خبرا وأكرم إمتاعا شاهدا وغائبا ويانعا وذابلا وكلاهما لا يمتع إلا ريثما يينع ثم إذا ذبل تستكره النفوس شمه وتستدفع الأكف ضمه وأنا أمتع يابسا ورطبا وتدخرني الملوك في خزائنها وسائر الأطباء وأصرف في منافع الأعضاء فإن فخرا باستقلالهما على ساق هي أقوى من ساقي فلا غرو أن الوشي ضعيف والهوى لطيف والمسك خفيف وليس المجد يدرك بالصراع وقد أودعت أيد الله مولانا قوافي الشعر من وصف مشابهي ما أودعاه وحضرت بنفسي لئلا أغيب عن حضرتهما فقديما فضل الحاضر وإن كان مفضولا ولذا قالوا ألذ الطعام ما حضر لوقته وأشعر الناس من أنت في شعره فلمولانا أتم الحكم في أن يفصل بحكمه العدل وأقول شهدت لنوار البنفسج ألسن ... من لونه الأحوى ومن إيناعه

لمشابه الشعر الأعم أعاره القمر ... المنير الطلق نور شعاعه )
( ولربما جمع النجيع من الطلى ... من صارم المنصور يوم قراعه )
( فحكاه غير مخالف في لونه ... لا في روائحه وطيب طباعه )
( ملك جهلنا قبله سبل العلاة ... حتى وضحن بنهجه وشراعه )
( في سيفه قصر لطول نجاده ... وتمام ساعده وفسحة باعه )
( ذو همة كالبرق في إسراعه ... وعزيمة كالحين في إيقاعه )
( تلقى الزمان له مطيعا سامعا ... وترى الملوك الشم من أتباعه ) وما أحسن قول بعض الأندلسيين يصف حديقة
( وحديقة مخضرة أثوابها ... في قضبها للطير كل مغرد )
( نادمت فيها فتية صفحاتهم ... مثل البدور تنير بين الأسعد )
( والجدول الفضي يضحك ماؤه ... فكأنه في العين صفح مهند )
( وإذا تجعد بالنسيم حسبته ... لما تراه مشبها للمبرد )
( وتناثرت نقط على حافاته ... كالعقد بين مجمع ومبدد )
( وتدحرجت للناظرين كأنها ... در نثير في بساط زبرجد )
( وكان بحمام الشطارة بإشبيلية صورة بديعة الشكل فوصفها بعض أهل الأندلس بقوله
( ودمية مرمر تزهى بجيد ... تناهى في التورد والبياض )
( لها ولد ولم تعرف حليلا ... ولا ألمت بأوجاع المخاض )
( ونعلم أنها حجر ولكن ... تتيمنا بألحاظ مراض )

وكان بسر قسطة في القصر المسمى بدار السرور مجلس الذهب أحد قصور المقتدر بن هود وفيه يقول ذو الوزارتين بن غندشلب يهجو وزيرا كان ينبز بتحقون
( ضج من تحقون بيت الذهب ... ودعا مما به واحربي )
( رب طهرني فقد دنسني ... عار تحقون الموفى الذنب )
وكتب بعض كبراء الأندلس إلى إخوانه كتابي هذا من وادي الزيتون ونحن فيه مختلفون ببقعة اكتست من السندس الأخضر وتحلت بأنواع الزهر وتخايلت بأنهار تتخللها وأشجار تظللها تحجب أدواحها الشمس لالتفافها وتأذن للنسيم فيميل من أعطافها وما شئم من محاسن تروق وتعجب واطيار تتجاوب بألحان تلهي وتطرب في مثلها يعود الزمان كله صبا وتجري الحياة على الأمل والمنى وأنا فيها أبقاكم الله سبحانه بحال من طاب غذاؤه وحسن استمراؤه وصحا من جنون العقار واستراح من مضض الخمار وزايلته وساوسه وخلصت من الخباط هواجسه ثم ذكر كلاما من هذا النمط في وصف الخمار والدعاء إلى العقار

فراجعه أبو الفضل بن حسداي برقعة قال في صدرها إلى سيدنا الذي ألزمنا بامتنانه الشكر وكبيرنا الذي علمنا ببيانة السحر وعميدنا الذي عقدنا بحرمه وانحل ورمانا بدائه وانسل أبقاك الله تعالى لتوبة نصوح تمرها ويمين غموس تبرها ورد أبقاك الله تعالى كتابك الذي أنفذته من معرسك بوادي الزيتون ووقفنا على ما لقنت في أوصافه من حجة المفتون وإعجابك بالتفاف شجره ودوحاته واهتزازك بلطيف بواكره وروحاته وغرورك به وهو حو تلاعه مورودة هضابه وأجراعه وكل المشارب ما خلاه ذميم وماؤه الدهر خصر والمياه حميم وتلك عادة تلونك وسجية تخضرمك وشاكلة ملالك وسأمك وأشعر الناس عندك من أنت في شعره وأحب البلاد إليك ما أنت في عقره فأين منك بساتين جلق وجنانه ورياضة المونقة وخلجانه وقبابه البيض في حدائقه الخضر وجوه العطر في جنابه النضر وما تضمه حيطانه وتمجه أنجاده وغيطانه من أمهات الراح التي طلقتها بزعمك ومواد الشمول التي

طلقتها برغمك وهيهات فوالله ما فارقتك تلك الأجارع والمجاني ولا شاقتك تلك المنازل والمغاني إلا تذكرا لما لدينا من طيب المعاهد وحنينا إلى ما عندنا من جميل المشاهد وأين من المشتاق عنقاء مغرب ثم ذكر كلاما في جواب ما مر من الخمار لم يتعلق لي به غرض وما أحلى ما كتب به أبو إسحاق بن خفاجة من رسالة في ذكر منتزه ولما أكب الغمام إكبابا لم أجد منه إغبابا واتصل المطر اتصالا لم ألف منه انفصالا أذن الله تعالى للصحو أن يطلع صفحته وينشر صحيفته فقشعت الريح السحاب كما طوى السجل الكتاب وطفقت السماء تخلع جلبابها والشمس تحط نقابها وتطلعت الدنيا تبتهج كأنها عروس تجلت وقد تحلت ذهبت في لمة من الإخوان نستبق إلى الراحة ركضا ونطوي للتفرج أرضا فلا ندفع إلى غدير نمير قد استدارت منه في حباب فترددنا بتلك الأباطح نتهادى تهادي أغصانها ونتضاحك تضاحك أقحوانها وللنسيم أثناء ذلك المنظر الوسيم تراسل مشي على بساظ وشي فإذا مر بغدير نسجه درعا وأحكمه صنعا وإن عثر بجدول شطب منه نصلا وأخلصه صقلا فلا ترى إلا بطاحا مملوءة سلاحا كأنما انهزمت هنالك كتائب فألقت بما لبسته من درع مصقول وسيف مسلول
ومن فصل منها فاحتللنا قبة خضراء ممدودة أشطان الأغصان سندسية رواق الأوراق وما زلنا نلتحف منها ببرد ظل ظليل ونشتمل عليه برداء

نسيم عليل ونجيل الطرف في نهر صقيل صافي لجين الماء كأنه مجرة السماء مؤتلف جوهر الحباب كأنه من ثغور الأحباب وقد حضرنا مسمع يجري مع النفوس لطافة فهو يعلم غرضها وهواها ويغني لها مقترحها ومناها فصيح لسان النقر يشفي من الوقر كأنه كاتب حاسب تمشق يمناه وتعقد يسراه
( يحرك حين يشدو سكنات ... وتنبعث الطبائع للسكون )
وكانت بين أبي إسحاق وبعض إخوانه مقاطعة فاتفق أن ولي ذلك الصديق حصنا فخاطبه أبو إسحاق برقعة منها أطال الله بقاء سيدي النبيهة أوصافه النزيهة عن الاستثناء المرفوعة إمارته الكريمة بالابتداء ما انحذفت ياء يرمي للجزم واعتلت والو يغزو لموضع الضم كتبت عن ود قديم هو الحال لم يلحقها انتقال وعهد كريم هو الفعل لم يدخله الاعتلال والله ويجعل هاتيك من الأحوال الثابتة اللازمة ويعصم هذا بعد من الحروف الجازمة وأنا أستنهض طولك إلى تجديد عهدك بمطالعة ألف الوصل وتعدية فعل الفصل وعدولك عن باب ألف القطع إلى باب الوصل والجمع حتى يسقط لدرج الكلام بيننا هاء السكت ويدخل الانتقال حال الصمت فلا تتخيل أعزك الله أن رسم إخائك عندي ذو حسا قد درس عفاء ولا أن صدري دار مية أمسى من ودك خلاء وإنما أنا فعل إذا ثني ظهر من ضمير وده ما بطن وبدا منه ما كمن وهنيئا أعزك الله أن فعل وزارتك حاضر لا يلحق رفعه تغيير وأن فعل سيفك ماض ما به للعوامل تأثير وأنت بمجدك جماع أبواب الظرف تأخذ نفسك العلية بمطالعة باب الصرف

ودرس حروف العطف وتدخل لام التبرئة على ما حدث من عتبك وتوجب بعد النفي ما سلف من قربك وتدع ألف الألفة أن تكون بعد من حروف اللين وترفع بالإضافة بيننا وجود التنوين وتسوم ساكن الود أن يتحرك ومعتل الإخاء أن يصح وكتابي هذا حرف صلة فلا تحذفه حتى تعود الحال الأولى صفة وتصير هذه النكرة معرفة فأنت أعزك الله مصدر فعل السرور والنبل ومنك اشتقاق اسم السؤدد والفضل وإنك وإن تأخر العصر بك كالفاعل وقع مؤخرا وعدوك وإن تكبر كالكميت لم يقع إلا مصغرا وللأيام علل تبسط وتقبض وعوامل ترفع وتخفض فلا دخل عروضك قبض ولا عاقب رفعك خفض ولا زلت مرتبطا بالفضل شرطك وجزاؤك جاريا على الرفع سروك الكريم وسناؤك حتى يخفض الفعل وتبنى على الكسر قبل إن شاء الله
وكتب رحمه الله تعالى يستدعي عود غناء انتظم من إخوانك - أعزك الله تعالى ! - عقد شرب يتساقون في ودك ويتعاطون ريحانة شكرك وحمدك وما منهم إلا شره المسامع إلى رنة حمامة ناد لا حمامة بطن واد والطول لك في صلتها بجماد ناطق قد استعار من بنان لسانا وصار لضمير صاحبه ترجمانا وهو على الإساءة والإحسان لا ينفك من إيقاع به من غير إيجاع له فإن هفا عركت أذنه وأدب وإن تأتى واستوى بعج بطنه وضرب لا زلت منتظم الجذل ملتئم الأمل انتهى
قصيدة لابن خفاجة
ومن نظمه رحمه الله تعالى يتفجع ويتوجع

حذف

( شراب الأماني لو علمت سراب ... وعتبي الليالي لو عرفت عتاب )
( وهل مهجة الإنسان إلا طريدة ... يحوم عليها للحمام عقاب )
( يخب بها في كل يوم وليلة ... مطايا إلى دار البلى وركاب )
( وكيف يغيض الدمع أو يبرد الحشا ... وقد باد أقران وفات شباب )
( أقلب طرفي لا أرى غير ليلة ... وقد حط عن وجه الصباح نقاب )
( كأني وقد طار الصباح حمامة ... يمد جناحيه علي غراب )
( دعا بهم داعي الردى فكأنما ... تبارت بهم خيل هناك عراب )
( فهام وسلم الدهر حرب كأنما ... جثا بهم طعن لهم وضراب )
( هجود ولا غير التراب حشية ... لجنب ولا غير القبور قباب )
( ولست بناس صاحبا من ربيعة ... إذا نسيت رسم الوفاء صحاب )
( ومما شجاني أن قضى حتف أنفه ... وما اندق رمح دونه وكعاب )
( وأنا تجارينا ثلاثين حجة ... ففات سباقا والحمام قصاب )
( كأن لم نبت في منزل القصف ليلة ... نجيب بها داعي الصبا ونجاب )
( إذا قام منا قائم هز عطفه ... شباب أرقناه بها وشراب )
( ولما تراءت لمشيب بريقة ... وأقشع من ظل الشباب سحاب )
( نهضنا بأعباء الليالي جزالة ... وأرست بنا في النائبات هضاب )
( فيا ظاعنا قد حط من ساحة البلى ... بمنزل بين ليس عنه مآب )
( كفى حزنا أن لم يزرني على النوى ... رسول ولم ينفذ إليك كتاب )
( وأني إذا يممت قبرك زائرا ... وقفت ودوني للتراب حجاب )
( ولو أن حيا كان حاور ميتا ... لطال كلام بيننا وخطاب )
( وأعرب عما عنده من جلية ... فأقشع عن شمس هناك ضباب )

عود إلى عمران قرطبة
وقد أبعدنا عما كنا بصدده من ذكر قرطبة أعادها الله للإسلام فنقول قال في بعض من أرخ الأندلس
انتهت مساجد قرطبة أيام عبدالرحمن الداخل إلى أربعمائة وتسعين مسجدا ثم زادت بعد ذلك كثيرا كما يأتي ذكره شرفاتها أربعة آلاف وثلاثمائة وكانت عدة الدور في القصر الكبير أربعمائة دار ونيفا وثلاثين وكانت عدة دور الرعايا والسواد بها الواجب على أهلها المبيت في السور مائة ألف دار وثلاثة عشر ألف دار حاشا دور الوزراء وأكابر الناس والبياض
ورأيت في بعض الكتب أن هذا العدد كان أيام لمتونة والموحدين قال وكانت ديار أهل الدولة إذ ذاك ستة آلاف دار وثلاثمائة دار انتهى
وعدد أرباضها ثمانية وعشرون وقيل أحد وعشرون ومبلغ المساجد بها ثلاثة آلاف وثمانمائة وسبعة وثلاثون مسجدا وعدد الحمامات المبرزة للناس سبعمائة حمام وقيل ثلاثمائة حمام وقال ابن حيان إن عدة المساجد عند تناهيها في مدة ابن أبي عامر ألف وستمائة مسجد والحمامات تسعمائة حمام وفي بعض التواريخ القديمة كان بقرطبة في الزمن السالف ثلاثة آلاف مسجد وثمانمائة وسبعة وسبعون مسجدا منها بشقندة ثمانية عشر مسجدا وتسعمائة حمام وأحد عشر حماما ومائة ألف دار وثلاثة عشر ألف دار للرعية خصوصا وربما نصف العدد أو أكثر لأرباب الدولة وخاصتها هكذا نقله

في المغرب وهو أعلم بما يأتي ويذر رحمه الله تعالى ! وقال بعض المؤرخين - بعد ذكره نحو ما تقدم - ووسط الأرباض قبة قرطبة التي تحيط بالسور دونها وأما اليتيمة التي كانت في المجلس البديع فإنها كانت من تحف قصر اليونانيين بعث بها صاحب القسطنطينية إلى الناصر مع تحف كثيرة سنية انتهى
ونحوه لابن الفرضي وغير واحد لكن خالفهم صاحب المسالك والممالك فذكر أن عدد المساجد بقرطبة أربعمائة مسجد وأحد وسبعون مسجدا وهو بعيد وقال قبله إن دور قرطبة في كمالها ثلاثون ألف ذراع وتفسيرها باللسان القوطي القلوب المختلفة وهي بالقوطية بالظاء المشالة وقيل إن معنى قرطبة أجر فاسكنها قال وبقرطبة أقاليم كثيرة وكور جليلة وكانت جبايتها في أيام الحكم بن هشام مائة ألف دينار وعشرة آلاف دينار وعشرين دينارا وسبق ما يخالف هذا ومن القمح أربعة آلاف مدي وستمائة مدي ومن الشعير سبعة آلاف مدي وستمائة مدي وسبعة وأربعين مديا
وقال بعض العلماء أحصيت دور قرطبة التي بها وأرباضها أيام ابن أبي عامر فكان مائتي ألف دار وثلاثة عشر ألف دار وسبعا وسبعين دارا وهذه دور الرعية وأما دور الأكابر والوزراء والكتاب والأجناد وخاصة الملك فستون ألف دار وثلاثمائة دار سوى مصاري الكراء والحمامات والخانات وعدد الحوانيت ثمانون ألف حانوت وأربعمائة وخمسة وخمسون ولما كانت الفتنة على رأس المائة الرابعة غيرت رسوم ذلك العمران ومحيت آثار تلك

القرى والبلدان انتهى ملخصا وسيأتي في رسالة الشقندي ما هو أشمل من هذا قصيدة القرطبي والمتنزهات ولما رقت حال أبي القاسم عامر بن هشام القرطبي بقرطبة وزين له بعض أصحابه الرحلة إلى حضرة ملك الموحدين مراكش قال وذكر المنتزهات القرطبية
( يا هبة باكرت من نحو دارين ... وافت إلي على بعد تحييني )
( سرت على صفحات النهر ناشرة ... جناحها بين خيري ونسرين )
( ردت إلى جسدي روح الحياة وما ... خلت النسيم إذا ما مت يحييني )
( لولا تنسمها من نشر أرضكم ... ما أصبحت من أليم الوجد تبريني )
( مرت على عقدات الرمل حاملة ... من سركم خبرا بالوحي يشفيني )
( عرفت من عرفه ما لست أجهله ... لما تنسم في تلك الميادين )
( نزوت من طرب لما هفا سحرا ... وظل ينشرني طورا ويطويني )
( خلت الشمال شمولا إذ سكرت بها ... سكرا بما لست أرجوه يمنيني )
( أهدت إلي أريجا من شمائلكم ... فقلت قربني من كان يقصيني )
( وخلت من طمع أن اللقاء على ... إثر النسيم وأضحى الشوق يحدوني )
( فظلت ألثم من تعظيم حقكم ... مجر أذيالها والوجد يغريني )
( مسارح كم بها سرحت من كمد ... قلبي وطرفي ولا سلوان يثنيني )
( بين المصلى إلى وادي العقيق وما ... يزال مثل اسمه مذ بان يبكيني )
( إلى الرصافة فالمرج النضير فوادي ... الدير فالعطف من بطحاء عبدون )

( لباب عبد سقته السحب وابلها ... فلم يزل بكؤوس الأنس يسقيني )
( لا باعد الله عيني عن منازهه ... ولا يقرب لها أبواب جيرون )
( حاشا لها من محلات مفارقة ... من شيق دونها في القرب محزون )
( أين المسير ورزق الله أدركه ... من دون جهد وتأميل يعنيني )
( يا من يزين لي الترحال عن بلدي ... كم ذا تحاول نسلا عند عنين )
( وأين يعدل عن أرجاء قرطبة ... من شاء يظفر بالدنيا وبالدين )
( قطر فسيح ونهر ما به كدر ... حفت بشطيه ألفاف البساتين
( يا ليت لي عمر نوح في إقامتها ... وأن مالي فيه كنز قارون ) كلاهما كنت أفنيه على نشوات ... الراح نهبا ووصل الخرد والعين )
( وإنما أسفي أني أهيم بها ... وأن حظي منها حظ مغبون )
( أرى بعيني ما لا تستطيل يدي ... له وقد حازه من قدره دوني )
( وأنكد الناس عيشا من تكون له ... نفس الملوك وحالات المساكين )
( يغض طرف التصابي حين تبهته ... قضبان نعمان في كثبان يبرين )
( قالوا الكفاف مقيم قلت ذاك لمن ... لا يستخف إلى بيت الزراجين )
( ولا يبلبله هب الصبا سحرا ... ولا يلطفه عرف الرياحين )
( ولا يهيم بتفاح الخدود ورمان ... الصدور وترجيع التلاحين )
( لا تجتنى راحة إلا على تعب ... ولا تنال العلا إلا من الهون )
( وصاحب العقل في الدنيا أخو كدر ... وإنما الصفو فيها للمجانين )
( يا آمري أن أحث العيس عن وطني ... لما رأى الرزق فيه ليس يرضيني )
( نصحت لكن لي قلبا ينازعني ... فلو ترحلت عنه حله دوني )
( لألزمن وطني طورا تطاوعني ... قود الأماني وطورا فيه تعصيني )

( مدللا بين عرفاني وأضرب عن سير ... لأرض بها من ليس يدريني )
( هذا يقول غريب ساقه طمع ... وذاك حين أريه البر يجفوني )
( إليك عني آمالي فبعدك يهديني ... وقربك يطغيني ويغويني )
( يا لحظ كل غزال لست أملكه ... يدنو وما لي حال منه تدنيني )
( ويا مدامة دير لا ألم به ... لولا كما كان ما أعطيت يكفيني )
( لأصبرن على ما كان من كدر لمن عطاياه بين الكاف والنون )
وتسمى هذه القصيدة عند أهل الأندلس كنز الأدب وقد أشرنا في الباب الأول إلى كثير مما يتعلق بقرطبة أعادها الله تعالى إلى الإسلام ! فأغنى عن إعادته وإن كان ذكره هنا أنسب لأن ما تقدم إنما هو في ذكرها مع غيرها من بلاد الأندلس وهذا الباب لها بالاستقلال
وأنشد أبو العاصي غالب بن أمية الموروري لما جلس على نهر قرطبة بإزاء الربض ملتفتا إلى القصر بديهة بهدية
( يا قصر كم حويت من نعم ... عادت لقى في عوارض السكك )
( يا قصر كم قد حويت من ملك ... دارت عليه دوائر الفلك )
( اتق بما شئت كل متخذة ... يعود يوما بحال متروك ) وقال القاضي أبو الفضل عياض عند ارتحاله عن قرطبة

( أقول وقد جد ارتحالي وغردت ... حداتي وزمت للفراق ركائبي )
( وقد غمضت من كثرة الدمع مقلتي ... وصارت هواء من فؤادي ترائبي )
( ولم يبق إلا وقفة يستحثها ... وداعي للأحباب لا للحبائب )
( رعى الله جيرانا بقرطبة العلا ... وجاد رباها بالعهاد السواكب )
( وحيا زمانا بينهم قد ألفته ... طليق المحيا مستلان الجوانب )
( أإخواننا بالله فيها تذكروا ... مودة جار أو مودة صاحب )
( غدوت بهم من برهم واحتفائهم ... كأني في أهلي وبين أقاربي )
عود إلى مسجد قرطبة
وأما مسجد قرطبة فشهرته تغني عن كثرة الكلام فيه ولكن نذكر من أوصافه وننشر من أحواله ما لا بد منه فنقول : بعض المؤرخين : ليس في بلاد الإسلام أعظم منه ولا أعجب بناء وأتقن صنعة وكلما اجتمعت منه أربع سواري كان رأسها واحدا ثم صف رخام منقوش بالذهب واللازورد في أعلاه وأسفله انتهى . الذي ابتدأ بناء هذا المسجد العظيم عبد الرحمن بن معاوية المعروف بالداخل ولم يكمل في زمانه وكمله ابنه هشام ثم توالى الخلفاء من بني أمية على الزيادة فيه حتى صار المثل مضروبا به والذي ذكره غير واحد أنه لم يزل كل خليفة يزيد فيه على من قبله إلى أن كمل على يد نحو الثمانية من الخلفاء . بعض المؤرخين : إن عبد الرحمن الداخل لما استقر أمره وعظم بنى القصر بقرطبة وبنى المسجد الجامع وأنفق عليه ثمانين ألف دينار وبنى بقرطبة الرصافة تشبيها برصافة جده هشام بدمشق

وقال بعض : إنه أنفق على الجامع ثمانين ألف دينار واشترى موضعه إذ كان كنيسة بمائة ألف دينار فالله تعالى أعلم . 546 وقال بعض المؤرخين : في ترجمة عبد الرحمن الداخل ما صورته : إنه لما تمهد ملكه شرع في تعظيم قرطبة فجدد مغانيها وشيد مبانيها وحصنها بالسور وابتنى قصر الإمارة والمسجد الجامع ووسع فناءه وأصلح مساجد الكور ثم ابتنى مدينة الرصافة منتزها له واتخذ بها قصرا حسنا وجنانا واسعة نقل إليها غرائب الغراس وكرائم الشجر من بلاد الشام وغيرها من الأقطار انتهى . أخته أم الأصبغ ترسل إليه من الشام بالغرائب مثل الرمان العجيب الذي أرسلته إليه من دمشق الشام كما مر وسيأتي كلام ابن سعيد بما هو أتم من هذا . ذكر ابن بشكوال زيادة المنصور بن أبي عامر في جامع قرطبة قال : ومن أحسن ما عاينه الناس في بنيان هذه الزيادة العامرية أعلاج النصارى مصفدين في الحديد من أرض قشتالة وغيرها وهم كانوا يتصرفون في البنيان عوضا من رجالة المسلمين إذلالا للشرك وعزة للإسلام ولما عزم على زيادته هذه جلس لأرباب الدور التي نقل أصحابها عنها بنفسه فكان يؤتى بصاحب المنزل فيقول له : إن هذه الدار التي لك يا هذا أريد أن أبتاعها لجماعة المسلمين من مالهم ومن فيئهم لأزيدها في جامعهم وموضع صلاتهم فشطط واطلب ما شئت فإذا ذكر له أقصى الثمن أمر أن يضاعف له وأن تشترى له بعد ذلك دار عوضا منها حتى أتى بامرأة لها دار بصحن الجامع فيها نخلة فقالت : لا أقبل عوضا إلا دارا بنخلة فقال : تبتاع لها دار بنخلة ولو ذهب

بيت المال فاشتريت لها دار بنخلة وبولغ في الثمن وحكى ذلك ابن حيان أيضا . : إن إنفاق الحكم في زيادة الجامع كان مائة ألف وواحدا وستين ألف دينار ونيفا وكله من الأخماس . صاحب كتاب مجموع المفترق : وكان سقف البلاط من المسجد الجامع من القبلة إلى الجوف قبل الزيادة مائتين وخمسا وعشرين ذراعا والعرض من الشرق إلى الغرب قبل الزيادة مائة ذراع وخمسة أذرع ثم زاد الحكم في طوله مائة ذراع وخمسة أذرع فكمل الطول ثلاثمائة ذراع وثلاثين ذراعا وزاد محمد بن أبي عامر بأمر هشام بن الحكم في عرضه من جهة المشرق ثمانين ذراعا فتم العرض مائتي ذراع وثلاثين ذراعا وكان عدد بلاطه أحد عشر بلاطا عرض أوسطها ستة عشر ذراعا وعرض كل واحد من اللذين يليانه غربا واللذين يليانه شرقا أربعة عشر ذراعا وعرض كل واحد من الستة الباقية إحدى عشرة ذراعا وزاد ابن أبي عامر فيه ثمانية عرض كل واحد عشرة أذرع وكان العمل في زيادة المنصور سنتين ونصفا وخدم فيه بنفسه وطول الصحن من المشرق إلى المغرب مائة ذراع وثمان وعشرون ذراعا وعرضه من القبلة إلى الجوف مائة ذراع وخمسة أذرع وعرض كل واحدة من السقائف المستديرة بصحنه عشرة أذرع فتكسيره ثلاثة وثلاثون ألف ذراع ومائة وخمسون ذراعا وعدد أبوابه تسعة : ثلاثة في صحنه غربا وشرقا وجوفا وأربعة في بلاطاته : اثنان شرقيان واثنان غربيان وفي مقاصير النساء من السقائف بابان وجميع ما فيه من الأعمدة ألف عمود ومائتا عمود وثلاثة وتسعون عمودا رخاما كلها وباب مقصورة الجامع ذهب وكذلك جدار المحراب وما يليه قد أجري فيه الذهب على الفسيفساء وثريات المقصورة فضة محضة وارتفاع الصومعة اليوم - وهي من بناء عبد الرحمن بن محمد - ثلاثة وسبعون ذراعا إلى أعلى القبة المفتحة التي يستدير بها المؤذن

وفي رأس هذه القبة تفافيح ذهب وفضة ودور كل تفاحة ثلاثة أشبار ونصف فاثنان من التفافيح ذهب إبريز وواحدة فضة وتحت كل واحدة منها وفوقها سوسنة قد هندست بأبدع صنعة ورمانة ذهب صغيرة على رأس الزج وهي إحدى غرائب الأرض . بالجامع المذكور في بيت منبره مصحف أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه الذي خطه بيده وعليه حلية ذهب مكللة بالدر والياقوت وعليه أغشية الديباج وهو على كرسي من العود الرطب بمسامير الذهب . إلى المنارة - وارتفاع المنارة إلى مكان الأذان أربع وخمسون ذراعا وطول كل حائط من حيطانها على الأرض ثمان عشرة ذراعا انتهى بحروفه . بعض مخالفة لما ذكره ابن الفرضي وبعضهم إذ قال في ترجمة المنصور بن أبي عامر ما صورته : وكان من أخبار المنصور الداخلة في أبواب الخير والبر والقرب بنيان المسجد الجامع والزيادة فيه سنة سبع وسبعين وثلاثمائة وذلك أنه لما زاد الناس بقرطبة وانجلب إليها قبائل البربر من العدوة وإفريقية وتناهى حالها في الجلالة ضاقت الأرباض وغيرها وضاق المسجد الجامع عن حمل الناس فشرع المنصور في الزيادة بشرقيه حيث تتمكن الزيادة لاتصال الجانب الغربي بقصر الخلافة فبدأ ابن أبي عامر في هذه الزيادة على بلاطات تمتد طولا من أول المسجد إلى آخره وقصد ابن أبي عامر في هذه الزيادة المبالغة في

الإتقان والوثاقة دون الزخرفة ولم يقصر - مع هذا - عن سائر الزيادات جودة ما عدا زيادة الحكم . وأول ما عمله ابن أبي عامر تطييب نفوس أرباب الدور الذين اشتريت منهم للهدم لهذه الزيادة بإنصافهم من الثمن وصنع في صحنه الجب العظيم قدره الواسع فناؤه وهو - أعني ابن أبي عامر - هو الذي رتب إحراق الشمع بالجامع زيادة للزيت فتطابق بذلك النوران وكان عدد سواري الجامع الحاملة لسمائه واللاصقة بمبانيه وقبابه ومناره بين كبيرة وصغيرة ألف سارية وأربعمائة سارية وسبع عشرة سارية وقيل : أكثر وعدد ثريات الجامع ما بين كبيرة وصغيرة مائتان وثمانون ثريا وعدد الكؤوس سبعة آلاف كأس وأربعمائة كأس وخمسة وعشرون كأسا وقيل : عشرة آلاف وثمانمائة وخمس كؤوس وزنة مشاكي الرصاص للكؤوس المذكورة عشرة أرباع أو نحوها وزنة ما يحتاج إليه من الكتان للفتائل في كل شهر رمضان ثلاثة أرباع القنطار وجميع ما يحتاج إليه الجامع من الزيت في السنة خمسمائة ربع أو نحوها يصرف منه في رمضان خاصة نحو نصف العدد ومما كان يختص برمضان المعظم ثلاثة قناطير من الشمع وثلاثة أرباع القنطار من الكتان المقطن لإقامة الشمع المذكور والكبيرة من الشمع التي تؤخذ بجانب الإمام يكون وزنها من خمسين إلى ستين رطلا يحترق بعضها بطول الشهر ويعم الحرق لجميعها ليلة الختمة وكان عدد من يخدم الجامع المذكور بقرطبة في دولة ابن أبي عامر ويتصرف فيه من أئمة ومقرئين وأمناء ومؤذنين وسدنة وموقدين وغيرهم من المتصرفين مائة وتسعة وخمسين شخصا ويوقد من البخور ليلة الختمة أربع أواق من العنبر الأشهب وثمان أواق من العود الرطب انتهى

وقال بعض المؤرخين : كان للجامع كل ليلة جمعة رطل عود وربع رطل عنبر يتبخر به انتهى . ابن سعيد نقلا عن ابن بشكوال : طول جامع قرطبة الأعظم الذي هو بداخل مدينتها من القبلة إلى الجوف ثلاثمائة وثلاثون ذراعا الصحن المكشوف منه ثمانون ذراعا وغير ذلك مقرمد وعرضه من الغرب إلى الشرق مائتان وخمسون ذراعا وعدد أبهائه عند اكتمالها بالشمالية التي زادها المنصور بن أبي عامر بعد هذا تسعة عشر بهوا وتسمى البلاطات وعدد أبوابه الكبار والصغار أحد وعشرون بابا في الجانب الغربي تسعة أبواب منها واحد كبير للنساء يشرع إلى مقاصيرهن وفي الجهة الشرقية تسعة أبواب منها لدخول الرجال ثمانية أبواب وفي الجهة الشمالية ثلاثة أبواب منها لدخول الرجال بابان كبيران وباب لدخول النساء إلى مقاصيرهن وليس لهذا الجامع في القبلي سوى باب واحد بداخل المقصورة المتخذة في قبلته متصل بالساباط المفضي إلى قصر الخلافة منه كان السلطان يخرج من القصر إلى الجامع لشهود الجمعة وجميع هذه الأبواب ملبسة بالنحاس الأصفر بأغرب صنعة وعدد سواري هذا المسجد الجامع الحاملة لسمائه واللاصقة بمبانيه وقبابه ومناره وغير ذلك من أعماله بين كبار وصغار ألف وأربعمائة سارية وتسع سوار منها بداخل المقصورة مائة وتسع عشرة سارية وذكر المقصورة البديعة التي صنعها الحكم المستنصر في هذا الجامع فقال : إنه خطر بها على خمس بلاطات من الزيادة الحكمية وأطلق حفافيها على الستة الباقية ثلاثة من كل جهة فصار طولها من الشرق إلى الغرب خمسا وسبعين ذراعا وعرضها من جدار الخشب إلى سور المسجد بالقبلة اثنين

وعشرين ذراعا وارتفاعها في السماء إلى حد شرفاتها ثمان أذرع وارتفاع كل شرفة ثلاثة أشبار ولهذه المقصورة ثلاثة أبواب بديعة الصنعة عجيبة النقش شارعة إلى الجامع شرقي وغربي وشمالي ثم قال : وذرع المحراب في الطول من القبلة إلى الجوف ثمان أذرع ونصف وعرضه من الشرق إلى الغرب سبع أذرع ونصف وارتفاع قبوه في السماء ثلاث عشرة ذراعا ونصف والمنبر إلى جنبه مؤلف من أكارم الخشب ما بين آبنوس وصندل ونبع وبقم وشوحط وما أشبه ذلك ومبلغ النفقة فيه خمسة وثلاثون ألف دينار وسبعمائة دينار وخمسة دنانير وثلاثة دراهم وثلث درهم وقيل غير ذلك وعدد درجه تسع درجات صنعه الحكم المستنصر رحمه الله وذكر أن عدد ثريات الجامع التي تسرج فيها المصابيح بداخل البلاطات خاصة - سوى ما منها على الأبواب - مائتان وأربع وعشرون ثريا جميعها من لاطون مختلفة الصنعة منها أربع ثريات كبار معلقة في البلاط الأوسط أكبرها الضخمة المعلقة في القبة الكبرى التي فيها المصاحف حيال المقصورة وفيها من السرج - فيما زعموا - ألف وأربعمائة وأربعة وخمسون تستوقد هذه الثريات الضخام في العشر الأخير من شهر رمضان تسقى كل ثريا منها سبعة أرباع في الليلة وكان مبلغ ما ينفق من الزيت على جميع المصابيح في هذا المسجد في السنة أيام تمام وقوده في مدة ابن أبي عامر مكملة بالزيادة المنسوبة ألف ربع منها في شهر رمضان سبعمائة وخمسون ربعا قال : وفي بعض التواريخ القديمة كان عدد القومة بالمسجد الجامع بقرطبة في زمن الخلفاء وفي زمن ابن أبي عامر ثلاثمائة انتهى . وفيه مخالفة لبعض ما تقدم . بعضهم الزيت - ولكن قوله أولى بالاتباع لنقله عن ابن بشكوال

ولمعرفة ابن سعيد بمثل هذا وتحقيقه فيه أكبر من غيره والله سبحانه أعلم - فقال : ألف ربع وثلاثون ربعا منها في رمضان خمسمائة ربع وفي الثريات التي من الفضة - وهي ثلاثة - اثنان وسبعون رطلا لكل واحدة ثمانية عشر في ليلة وقدها . وقال في المنبر : إنه مركب من ستة وثلاثين ألف وصل قام كل واحد منها بسبعة دراهم فضة وسمرت بمسامير الذهب والفضة وفي بعضها نفيس الأحجار واتصل العمل فيه تسعة ثم قال : ودور الثريا العظيمة خمسون شبرا وتحتوي على ألف كأس وأربعة وثمانين كلها موشاة بالذهب إلى غير ذلك من الغرائب . الفقيه الكاتب أبو محمد إبراهيم ابن صاحب الصلاة الولبني يصف جامع قرطبة بما نصه : عمر الله سبحانه بشمول السعادة رسمك ووفر من جزيل الكرامة قسمك ولا برحت سحائب الإنعام تهمي عليك ثرة وأنامل الأيام تهدي إليك كل مسرة لئن كان أعزك الله طريق الوداد بيننا عامرا وسبيل المحبة غامرا لوجب أن نفض ختمه ونرفض كتمه لا سيما فيما يدر أخلاف الفضائل ويهز أعطاف الشمائل وإني شخصت إلى حضرة قرطبة - حرسها الله تعالى ! - منشرح الصدر لحضور ليلة القدر والجامع - قدس الله تعالى بقعته ومكانه وثبت أساسه وأركانه ! - قد كسي ببردة الازدهاء وجلي في معرض البهاء كأن شرفاته فلول في سنان أو أشر في أسنان وكأنما ضربت في سمائه كلل أو خلعت على أرجائه حلل وكأن الشمس خلفت فيه ضياءها ونسجت على أقطارها أفياءها فترى نهارا

قد أحدق به ليل كما أحدق بربوة سيل ليل دامس ونهار شامس وللذبال تألق كنضنضة الحيات أو إشارة السبابات في التحيات قد أترعت من السليط كؤوسها ووصلت بمحاجن الحديد رؤوسها ونيطت بسلاسل كالجذوع القائمة أو كالثعابين العائمة عصبت بها تفاح من الصفر كاللقاح الصفر : بولغ في صقلها وجلائها حتى بهرت بحسنها ولألائها كأنها جليت باللهب وأشربت ماء الذهب إن سمتها طولا رأيت منها سبائك عسجد أو قلائد زبرجد وإن أتيتها عرضا رأيت منها أفلاكا ولكنها غير دائرة ونجوما ولكنها ليست بسائرة تتعلق تعلق القرط من الذفرى وتبسط شعاعها بسط الأديم حين يفرى والشمع قد رفعت على المنار رفع البنود وعرضت عليها عرض الجنود ليجتلي طلاقة روائها القريب والبعيد ويستوي في هداية ضيائها الشقي والسعيد وقد قوبل منها مبيض بمحمر وعورض مخضر بمصفر تضحك ببكائها وتبكي بضحكها وتهلك بحياتها وتحيي بهلكها والطيب تفغم أفواحه وتتنسم أرواحه وقتار الألنجوج والند يسترجع من روح الحياة ما ند وكلما تصاعد وهو محاصر أطال من العمر ما كان تقاصر في صفوف مجامر ككعوب مقامر وظهور القباب مؤللة وبطونها مهللة كأنها تيجان رصع فيها ياقوت ومرجان قد قوس محرابها أحكم تقويس ووشم بمثل ريش الطواويس حتى كأنه بالمجرة مقرطق وبقوس قزح ممنطق وكأن اللازورد حول وشومه وبين رسومه نتف من قوادم الحمام أو كسف من ظلل الغمام والناس أخياف في دواعيهم وأوزاع في أغراضهم ومراميهم بين ركع وسجد وأيقاظ وهجد ومزدحم على الرقاب يتخطاها ومقتحم على الظهور يتمطاها

كأنهم برد خلال قطر أو حروف في عرض سطر حتى إذا قرعت أسماعهم روعة التسليم تبادروا بالتكليم وتجاذبوا بالأثواب وتساقوا بالأكواب كأنهم حضور طال عليهم غياب أو سفر أتيح لهم إياب وصفيك مع إخوان صدق تنسكب العلوم بينهم انسكاب الودق في مكان كوكر العصفور أستغفر الله أو ككناس اليعفور كأن إقليدس قد قسم بيننا مساحته بالموازين وارتبطنا فيه ارتباط البيادق بالفرازين حتى صار عقدنا لا يحل وحدنا لا يفل بحيث نسمع سور التنزيل كيف تتلى ونتطلع صور التفصيل كيف تجلى والقومة حوالينا يجهدون في دفع الضرر ويعمدون إلى قرع العمد بالدرر فإذا سمع بها الصبيان قد طبقت الخافقين وسرت نحوهم سرى القين توهموا أنها إلى أعطافهم واصلة وفي أقحافهم حاصلة ففروا بين الأساطين كما تفر من النجوم الشياطين كأنما ضربهم أبو جهم بعصاه أو حصبهم عمير بن ضابئ بحصاه فأكرم بها مساع تشوق إلى جنة الخلد ويهون في السعي إليها إنفاق الطوارف والتلد تعظيما لشعائر الله وتنبيها لكل ساه ولاه حكمة تشهد لله تعالى بالربوبية وطاعة تذل لها كل نفس أبية فلم أرد أدام الله سبحانه عزك منظرا منها أبهى ولا مخبرا أشهى وإذ لم تتأمله عيانا فتخيله بيانا وإن كان حظ منطقي من الكلام حظ السفيح من الأزلام لكن ما بيننا من مودة أكدنا وسائلها وذمة تقلدنا حمائلها يوجب قبول إتحافي سمينا وغثا ولبس إلطافي جديدا

ورثا لا زلت لزناد النبل موريا وإلى آماد الفضل مجريا والتحية العبقة الريا المشرقة المحيا عليك ما طلع قمر وأينع ثمر ورحمة الله تعالى وبركاته انتهى . ابن بشكوال أن الحكم المستنصر هدم الميضأة القديمة التي كانت بفناء الجامع الذي يستقي لها الماء من بئر السانية وبنى موضعها أربع ميضآت في كل جانب من جانبي المسجد الشرقي والغربي منها ثنتان كبرى للرجال وصغرى للنساء أجرى في جميعها الماء في قناة اجتلبها من سفح جبل قرطبة إلى أن صبت ماءها في أحواض رخام لا ينقطع جريانه الليل والنهار وأجرى فضل هذا الماء العذب إلى سقايات اتخذهن على أبواب هذا المسجد بجهاته الثلاث الشرقية والغربية والشمالية أجراها هنالك إلى ثلاث جواب من حياض الرخام استقطعها بمقطع المنستير بسفح جبل قرطبة بالمال الكثير وألقاه الرخامون هنالك واحتفروا أجوافها بمناقيرهم في المدة الطويلة حتى استوت في صورها البديعة لأعين الناس فخفف ذلك من ثقلها وأمكن من إهباطها إلى أماكن نصبها بأكناف المسجد الجامع وأمد الله تعالى على ذلك بمعونته فتهيأ حمل الواحدة منها فوق عجلة كبيرة اتخذت من ضخام خشب البلوط على فلك موثقة بالحديد

التولية ويبطل الشرط تخريجا على أحد الأقوال في الشرط الفاسد في البيع للمازري عن بعض الناس انتهى مختصرا . ابن غازي : إن ابن عرفة نسب للطرطوشي البطلان مطلقا وابن شاس إنما نسب له التفصيل انتهى . ذكر مولاي الجد الإمام قاضي القضاة بفاس سيدي أبو عبد الله المقري التلمساني في كتابه القواعد شرط أهل قرطبة المذكور قال بعده ما نصه :

وعلى هذا الشرط ترتب إيجاب عمل القضاة بالأندلس ثم انتقل إلى المغرب فبينما نحن ننازع الناس في عمل المدينة ونصيح بأهل الكوفة مع كثرة من نزل بها من علماء الأمة كعلي وابن مسعود ومن كان معهما : [ البسيط ] التكحل في العينين كالكحلسنح لنا بغض الجمود ومعدن التقليد : [ الكامل ] أخر مدتي فتأخرت حتى رأيت من الزمان عجائبايا لله وللمسلمين ذهبت قرطبة وأهلها ولم يبرح من الناس جهلها ما ذاك إلا لأن الشيطان يسعى في محو الحق فينسيه والباطل لا زال يلقنه ويلقيه ألا ترى خصال الجاهلية كالنياحة والتفاخر والتكاثر والطعن والتفضيل والكهانة والنجوم والخط والتشاؤم وما أشبه ذلك وأسماؤها كالعتمة ويثرب وكذا التنابز بالألقاب وغيره مما نهي عنه وحذر منه كيف لم تزل من أهلها وانتقلت إلى غيرهم مع تيسر أمرها حتى كأنهم لا يعرفون بالدين رأسا بل يجعلون العادات القديمة أسا وكذلك محبة الشعر والتلحين والنسب وما انخرط في هذا السلك ثابتة الموقع من القلوب والشرع فينا منذ سبعمائة سنة وسبع وستين سنة لا نحفظه إلا قولا ولا نحمله إلا كلا انتهى . الحافظ ابن غازي - بعد ذكر كلام مولاي الجد - ما نصه : وحدثني ثقة ممن لقيت أنه لما قدم مدينة فاس العلامة أبو يحيى الشريف التلمساني وتصدى لإقراء التفسير بالبلد الجديد وأمر السلطان أبو سعيد المريني الحفيد أعيان الفقهاء

بحضور مجلسه كان مما ألقاه إليهم منزع المقري هذا فبالغوا في إنكاره ورأوا أنه لا معدل عما عول عليه زعماء الفقهاء كابن رشد وأصحاب الوثاق كالمتيطي من اعتماد أهل قرطبة ومن في معناهم انتهى . بعض المؤرخين - حين ذكر قرطبة - ما ملخصه : هي قاعدة بلاد الأندلس ودار الخلافة الإسلامية وهي مدينة عظيمة وأهلها أعيان البلاد وسراة الناس في حسن المآكل والمشارب والملابس والمراكب وعلو الهمم وبها أعلام العلماء وسادات الفضلاء وأجلاد الغزاة وأنجاد الحروب وهي في تقسيمها خمس مدن يتلو بعضها بعضا وبين المدينة والمدينة سور عظيم حصين حاجز وكل مدينة مستقلة بنفسها وفيها ما يكفي أهلها من الحمامات والأسواق والصناعات وطول قرطبة ثلاثة أميال في عرض ميل واحد وهي في سفح جبل مطل عليها وفي مدينتها الثالثة وهي الوسطى القنطرة والجامع الذي ليس في معمور الأرض مثله وطوله مائة ذراع في عرض ثمانين وفيه من السواري الكبار ألف سارية وفيه مائة وثلاثة عشر ثريا للوقود أكبرها تحمل ألف مصباح وفيه من النقوش والرقوم ما لا يقدر أحد على وصفه وبقبلته صناعات تدهش العقول وعلى فرجة المحراب سبع قسي قائمة على عمد طول كل قوس فوق القامة قد تحير الروم والمسلمون في حسن وضعها وفي عضادتي المحراب أربعة أعمدة اثنان أخضران واثنان لازورديان ليس لها قيمة لنفاستها وبه منبر ليس على معمور الأرض أنفس منه ولا مثله في حسن صنعته وخشبه

ساج وآبنوس وبقم وعود قاقلي ويذكر في تاريخ بني أمية أنه أحكم عمله ونقشه في سبع سنين وكان يعمل فيه ثمانية صناع لكل صانع في كل يوم نصف مثقال محمدي فكان جملة ما صرف على المنبر لا غير عشرة آلاف مثقال وخمسون مثقالا وفي الجامع حاصل كبير ملآن من آنية الذهب والفضة لأجل وقوده وبهذا الجامع مصحف يقال : إنه عثماني وللجامع عشرون بابا مصفحات بالنحاس الأندلسي مخرمة تخريما عجيبا بديعا يعجز البشر ويبهرهم وفي كل باب حلقة في نهاية الصنعة والحكمة وبه الصومعة العجيبة التي ارتفاعها مائة ذراع بالمكي المعروف بالرشاشي وفيه من أنواع الصنائع الدقيقة ما يعجز الواصف عن وصفه ونعته وبهذا الجامع ثلاثة أعمدة حمر مكتوب على الواحد اسم محمد وعلى الآخر صورة عصا موسى وأهل الكهف وعلى الثالث صورة غراب نوح والجميع خلقة ربانية وأما القنطرة التي بقرطبة فهي بديعة الصنعة عجيبة المرأى فاقت قناطر الدنيا حسنا وعدد قسيها سبعة عشر قوسا سعة كل قوس منها خمسون شبرا وبين كل قوسين خمسون شبرا وبالجملة فمحاسن قرطبة أعظم من أن نحيط بها وصفا انتهى ملخصا . وإن تكرر بعضه مع ما قدمته فلا يخلو من فائدة زائدة والله الموفق . ذكره في طول المسجد وعرضه مخالف لما مر ويمكن الجواب بأن هذا الذراع أكبر من ذلك كما أشار إليه هو في أمر الصومعة وكذا ما ذكره في

عدد السواري إلا أن يقال : ما تقدم باعتبار الصغار والكبار وهذا العدد الذي ذكره هنا إنما هو للكبار فقط كما صرح به والله تعالى أعلم . الثريات فقد خالف في عددها ما تقدم مع أن المتقدم هو قول ثقات مؤرخي الأندلس ونحن جلبنا النقل من مواضعه وإن اختلفت طرقه ومضموناته . في المغرب - عند تعرضه لذكر جامع قرطبة - ما نصه : اعتمدت فيما نقلته في هذا الفصل على كتاب ابن بشكوال فقد اعتنى بهذا الشأن أتم اعتناء وأغنى عن الاستطلاع إلى كلام غيره . الرازي أنه لما افتتح المسلمون الأندلس امتثلوا ما فعله أبو عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد عن رأي عمر رضي الله تعالى عنه بالشام من مشاطرة الروم في كنائسهم مثل كنيسة دمشق وغيرها مما أخذوه صلحا فشاطر المسلمون أعاجم قرطبة كنيستهم العظمى التي كانت داخل مدينتها تحت السور وكانوا يسمونها بسنت بنجنت وابتنوا في ذلك الشطر مسجدا جامعا وبقي الشطر الثاني بأيدي النصارى وهدمت عليهم سائر الكنائس بحضرة قرطبة واقتنع المسلمون بما في أيديهم إلى أن كثروا وتزيدت عمارة قرطبة ونزلها أمراء العرب فضاق عنهم ذلك المسجد وجعلوا يعلقون منه سقيفة بعد سقيفة يستكنون بها حتى كان الناس ينالون في الوصول إلى داخل المسجد الأعظم مشقة لتلاصق تلك السقائف وقصر أبوابها وتطامن سقفها حتى ما يمكن أكثرهم القيام على اعتدال لتقارب سقفها من الأرض ولم يزل المسجد على هذه الصفة إلى أن دخل الأمير عبد الرحمن بن معاوية المرواني إلى الأندلس واستولى على إمارتها وسكن دار سلطانها قرطبة وتمدنت به فنظر في أمر الجامع وذهب إلى توسعته وإتقان بنيانه فأحضر أعاظم النصارى

وسامهم بيع ما بقي بأيديهم من كنيستهم لصق الجامع ليدخله فيه وأوسع لهم البذل وفاء بالعهد الذي صولحوا عليه فأبوا من بيع ما بأيديهم وسألوا بعد الجد بهم أن يباحوا بناء كنيستهم التي هدمت عليهم بخارج المدينة على أن يتخلوا للمسلمين عن هذا الشطر الذي طولبوا به فتم الأمر على ذلك وكان ذلك سنة ثمان وستين ومائة فابتنى عند ذلك عبد الرحمن المسجد الجامع على صفة ذكرها لا حاجة إلى تفسير الزيادة فيه وإنما الحاجة في وصفه بكماله وفي بنائه لهذه الزيادة يقول دحية بن محمد البلوي من قصيدة : [ الطويل ] في دين الإله ووجهه ثمانين ألفا من لجين وعسجدتوزعها في مسجد أسه التقى ومنهجه دين النبي محمدترى الذهب الناري فوق سموكه يلوح كبرق العارض المتوقدقال : وكمل سنة سبعين ومائة ثم ذكر زيادة ابنه هشام الرضا وما جدده فيه وأنه بناه من خمس فيء أربونة ثم زيادة ابنه عبد الرحمن الأوسط لما تزايد الناس قال : وهلك قبل أن يتم الزخرفة فأتمها ولده محمد بن عبد الرحمن ثم رم المنذر بن محمد ما وهى منه وذكر ما جدده خليفتهم الناصر ونقضه للصومعة الأولى وبنيانه للصومعة العظيمة قال : ولما ولي الحكم المستنصر بن الناصر - وقد اتسع نطاق قرطبة وكثر أهلها وتبين الضيق في جامعها - لم يقدم شيئا على النظر في الزيادة فبلغ الجهد وزاد الزيادة العظمى قال : وبها كملت محاسن هذا الجامع وصار في حد يقصر الوصف عنه وذكر حضوره لمشاورة العلماء في تحريف القبلة إلى نحو المشرق حسبما فعله

والده الناصر في قبلة جامع الزهراء لأن أهل التعديل يقولون بانحراف قبلة الجامع القديمة إلى نحو الغرب فقال له الفقيه أبو إبراهيم : يا أمير المؤمنين إنه قد صلى إلى هذه القبلة خيار هذه الأمة من أجدادك الأئمة وصلحاء المسلمين وعلمائهم منذ افتتحت الأندلس إلى هذا الوقت متأسين بأول من نصبها من التابعين كموسى بن نصير وحنش الصنعاني وأمثالهم رحمهم الله تعالى ! وإنما فضل من فضل بالاتباع وهلك من هلك بالابتداع فأخذ الخليفة برأيه وقال : نعم ما قلت وإنما مذهبنا الاتباع . ابن بشكوال : ونقلت من خط أمير المؤمنين المستنصر أن النفقة في هذه الزيادة وما اتصل بها انتهت إلى مائتي ألف دينار وأحد وستين ألف دينار وخمسمائة دينار وسبعة وثلاثين دينارا ودرهمين ونصف . ذكر الصومعة نقلا عن ابن بشكوال فقال : أمر الناصر عبد الرحمن بهدم الصومعة الأولى سنة 340 وأقام هذه الصومعة البديعة فحفر في أساسها حتى بلغ الماء مدة من ثلاثة وأربعين يوما ولما كملت ركب الناصر إليها من مدينة الزهراء وصعد في الصومعة من أحد درجيها ونزل من الثاني ثم خرج الناصر وصلى ركعتين في المقصورة وانصرف قال : وكانت الأولى ذات مطلع واحد فصير لهذه مطلعين فصل بينهما البناء فلا يلتقي الراقون فيها إلا بأعلاها تزيد مراقي كل مطلع منها على مائة سبعا . : وخبر هذه الصومعة مشهور في الأرض وليس في مساجد المسلمين صومعة تعدلها . ابن سعيد : قال ابن بشكوال هذا لأنه لم ير صومعة مراكش ولا صومعة إشبيلية اللتين بناهما المنصور من بني عبد المؤمن فهما أعظم وأطول لأنه ذكر أن طول صومعة قرطبة إلى مكان موقف المؤذن أربعة وخمسون ذراعا

وإلى أعلى الرمانة الأخيرة بأعلى الزج ثلاثة وسبعون ذراعا وعرضها في كل تربيع ثمانية عشر ذراعا وذلك اثنان وسبعون ذراعا قال ابن سعيد : وطول صومعة مراكش مائة وعشرة أذرع وذكر أن صومعة قرطبة بضخام الحجارة الفظيعة منجدة غاية التنجيد وفي أعلى ذروتها ثلاث شمسات يسمونها رمانات ملصقة في السفود البارز في أعلاها من النحاس : الثنتان منها ذهب إبريز والثالثة منها وسطى بينهما من فضة إكسير وفوقها سوسنة من ذهب مسدسة فوقها رمانة ذهب صغيرة في طرف الزج البارز بأعلى الجو وكان تمام هذه الصومعة في ثلاثة عشر شهرا . ابن بشكوال في رواية أن موضع الجامع الأعظم بقرطبة كان حفرة عظيمة يطرح فيها أهل قرطبة قمامتهم وغيرها فلما قدم سليمان بن داود صلى الله عليهما ودخل قرطبة قال للجن : اردموا هذا الموضع وعدلوا مكانه فسيكون فيه بيت يعبد الله فيه ففعلوا ما أمرهم به وبني فيه بعد ذلك الجامع المذكور قال : ومن فضائله أن الدارات الماثلة في تزاويق سمائه مكتوبة كلها بالذكر والدعاء إلى غيره بأحكم صنعة انتهى . مصحف عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه الذي كان في جامع قرطبة وصار إلى بني عبد المؤمن فقال : هو مصحف أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه مما خطه بيمينه وله عند أهل الأندلس شأن عظيم انتهى . فهي زيادة على هذا

لدين الله وقد تقدم ذكره وهي من المدن الجليلة العظيمة القدر قال ابن الفرضي وغيره كان يعمل في جامعها حين شرع فيه من حذاق الفعلة كل يوم ألف نسمة منها ثلاثمائة بناء ومائتا نجار وخمسمائة من الأجراء وسائر الصنائع فاستتم بنيانه وإتقانه في مدة من ثمانية وأربعين يوما وجاء في غاية الإتقان من خمسة أبهاء عجيبة الصنعة وطوله من القبلة إلى الجوف - حاشا المقصورة - ثلاثون ذراعا وعرض البهو الأوسط من أبهائه من الشرق إلى الغرب ثلاثة عشر ذراعا وعرض كل بهو من الأربعة المكتنفة له اثنا عشر ذراعا وطول صحنه المكشوف من القبلة إلى الجوف ثلاثة وأربعون ذراعا وعرضه من الشرق إلى الغرب واحد وأربعون ذراعا وجميعه مفروش بالرخام الخمري وفي وسطه فوارة يجري فيها الماء فطول هذا المسجد أجمع من القبلة إلى الجوف - سوى المحراب - سبع وتسعون ذراعا وعرضه من الشرق إلى الغرب تسعة وخمسون ذراعا وطول صومعته في الهواء أربعون ذراعا وعرضها عشرة أذرع في مثلها
وأمر الناصر لدين الله باتخاذ منبر بديع لهذا المسجد فصنع في نهاية من الحسن ووضع في مكانه منه وحظرت حوله مقصورة عجيبة الصنعة وكان وضع هذا المنبر في مكانه من هذا المسجد عند إكماله يوم الخميس لسبع بقين من شعبان سنة تسع وعشرين وثلاثمائة
قال وفي صدر هذه السنة كمل للناصر بنيان القناة الغريبة الصنعة التي وجرى فيها الماء العذب من جبل قرطبة إلى قصر الناعورة غربي قرطبة في المناهر المهندسة وعلى الحنايا المعقودة يجري ماؤها بتدبير عجيب وصنعة محكمة إلى بركة عظيمة

أبهى منه فيما صور الملوك في غابر الدهر مطلي بذهب إبريز وعيناه جوهرتان لهما وميض شديد يجوز هذا الماء إلى عجز هذا الأسد فيمجه في تلك البركة من فيه فيبهر الناظر بحسنه وروعة منظره وثجاجة صبه فتسقى من مجاجه جنان هذا القصر على سعتها ويستفيض على ساحاته وجنباته ويمد النهر الأعظم بما فضل منه فكانت هذه القناة وبركتها والتمثال الذي يصب فيها من أعظم آثار الملوك في غابر الدهر لبعد مسافتها واختلاف مسالكها وفخامة بنيانها وسمو أبراجها التي يترقى الماء منها ويتصوب من أعاليها وكانت مدة العمل فيها من يوم ابتدئت من الجبل إلى أن وصلت - أعني القناة - إلى هذه البركة أربعة عشر شهرا وكان انطلاق الماء في هذه البركة الانطلاق الذي اتصل واستمر يوم الخميس غرة جمادى الآخرة من السنة وكانت للناصر في هذا اليوم بقصر الناعورة دعوة حسنة أفضل فيها على عامة أهل مملكته ووصل المهندسين والقوام بالعمل بصلات حسنة جزيلة
وأما مدينة الزهراء فاستمر العمل فيها من عام خمسة وعشرين وثلاثمائة إلى آخر دولة الناصر وابنه الحكم وذلك نحو من أربعين سنة
ولما فرغ من بناء مسجد الزهراء على ما وصف كانت أول جماعة صليت فيه صلاة المغرب من ليلة الجمعة لثمان بقين من شعبان وكان الإمام القاضي أبا عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي عيسى ومن الغد صلى الناصر فيه الجمعة وأول من خطيب به القاضي المذكور
ولما بنى الناصر قصر الزهراء المتناهي في الجلالة والفخامة أطبق الناس على أنه لم يبن مثله في الإسلام البتة وما دخل إليه قط أحد من سائر البلاد النائية والنحل المختلفة من ملك وارد ورسول وافد وتاجر

من الناس تكون المعرفة والفطنة إلا وكلهم قطع أنه لم ير له شبها بل لم يسمع به بل لم يتوهم كون مثله حتى إنه كان أعجب ما يؤمله القاطع إلى الأندلس في تلك العصور النظر إليه والتحدث عنه والأخبار عن هذا تتسع جدا والأدلة عليه تكثر ولو لم يكن فيه إلا السطح الممرد المشرف على الروضة المباهى بمجلس الذهب والقبة وعجيب ما تضمنه من إتقان الصنعة وفخامة الهمة وحسن المستشرف وبراعة الملبس والحلة ما بين مرمر مسنون وذهب موضون وعمد كأنما أفرغت في القوالب ونقوش كالرياض وبرك عظيمة محكمة الصنعة وحياض وتماثيل عجيبة الأشخاص لا تهتدي الأوهام إلى سبيل استقصاء التعبير عنها فسبحان الذي أقدر هذا المخلوق الضعيف على إبداعها واختراعها من أجزاء الأرض المنحلة كيما يري الغافلين عنه من عباده مثالا لما أعده لأهل السعادة في دار المقامة التي لا يتسلط عليها الفناء ولا تحتاج إلى الرم لا إله إلا هو المنفرد بالكرم
وذكر المؤرخ أبو مروان بن حيان صاحب الشرطة أن مباني قصر الزهراء اشتملت على أربعة آلاف سارية ما بين كبيرة وصغيرة حاملة ومحمولة ونيف هو ثنتا عشرة على ثلاثمائة سارية هو قال منها ما جلب من مدينة رومة ومنها ما أهداه صاحب القسطنطينية وأن مصاريع أبوابها صغارها وكبارها كانت تنيف على خمسة عشر ألف باب وكلها ملبسة بالحديد والنحاس المموه والله سبحانه أعلم فإنها كانت من أهول ما بناه الإنس وأجله خطرا وأعظمه شأنا انتهى
قلت فسر بعضهم ذلك النيف في كلامه بثلاث عشرة والله أعلم

وقال بعض من أرخ الأندلس كان عدد الفتيان بالزهراء ثلاثة عشر ألف فتى وسبعمائة وخمسين فتى ودخالتهم من اللحم في كل يوم - حاشا أنواع الطير والحوت - ثلاثة عشر ألف رطل وعدة النساء بقصر الزهراء الصغار والكبار وخدم الخدمة ستة آلاف وثلاثمائة امرأة وأربع عشرة انتهى
وقيل إن عدد الفتيان الصقالبة ثلاثة آلاف وسبعمائة وخمسون وجعل بعض مكان الخمسين سبعة وثمانين وقال آخر ستة آلاف صقلبي وسبعة وثمانون والمرتب من الخبز لحيتان بحيرة الزهراء اثنا عشر ألف خبزة كل يوم وينقع لها من الحمص الأسود ستة أقفزة كل يوم انتهى
ثم قال الأول وكان لهؤلاء من اللحم ثلاثة عشر ألف رطل تقسم من عشرة أرطال للشخص إلى ما دون ذلك سوى الدجاج والحجل وصنوف الطير وضروب الحيتان انتهى
وقال ابن حيان ألفيت بخط ابن دحون الفقيه قال مسلمة بن عبد الله العريف المهندس بدأ عبد الرحمن الناصر لدين الله بنيان الزهراء أول سنة خمس وعشرين وثلاثمائة وكان مبلغ ما ينفق فيها كل يوم من الصخر المنحوت المنجور المعدل ستة آلاف صخرة سوى الصخر المصرف في التبليط فإنه لم يدخل في هذا العدد وكان يخدم في الزهراء كل يوم ألف وأربعمائة بغل وقيل أكثر منها أربعمائة زوامل الناصر لدين الله ومن دواب الأكرياء الراتبة للخدمة ألف بغل لكل بغل منها ثلاثة مثاقيل في الشهر يجب لها في الشهر

ثلاثة آلاف مثقال وكان يرد الزهراء من الجيار والجص في كل ثالث من الأيام ألف ومائة حمل وكان فيها حمامان واحد للقصر وثان للعامة وذكر بعض أهل الخدمة في الزهراء أنه قدر النفقة فيها في كل عام بثلاثمائة ألف دينار مدة خمسة وعشرين عاما التي بقيت من دولة الناصر من حين ابتدأها لأنه توفي سنة خمسين فحصل جميع الإنفاق فيها فكان مبلغه خمسة عشر بيت مال
قال وجلب إليها الرخام من قرطاجنة وإفريقية وتونس وكان الذين يجلبونه عبد الله بن يونس عريف البنائين وحسن وعلي بن جعفر الإسكندراني وكان الناصر يصلهم على كل رخامة صغيرة وكبيرة بعشرة دنانير انتهى
وقال بعض ثقات المؤرخين إنه كان يصلهم على كل رخامة صغيرة بثلاثة دنانير وعلى كل سارية بثمانية دنانير سجلماسية قيل وكان عدد السواري المجلوبة من إفريقية ألف سارية وثلاث عشرة سارية ومن بلاد الإفرنج تسع عشرة سارية وأهدى إليه ملك الروم مائة وأربعين سارية وسائرها من مقاطع الأندلس طركونة وغيرها فالرخام المجزع من رية والأبيض من غيرها والوردي والأخضر من إفريقية من كنيسة إسفاقس وأما الحوض المنقوش المذهب الغريب الشكل الغالي القيمة فجلبه إليه أحمد اليوناني من القسطنطينية مع ربيع الأسقف القادم من إيلياء وأما الحوض الصغير الأخضر المنقوش بتماثيل الإنسان فجلبه أحمد من الشام وقيل من القسطنطينية مع ربيع

أيضا وقالوا إنه لا قيمة له لفرط غرابته وجماله وحمل من مكان إلى مكان حتى وصل في البحر ونصبه الناصر في بيت المنام في المجلس الشرقي المعروف بالمؤنس وجعل عليه اثني عشر تمثالا من الذهب الأحمر مرصعة بالدر النفيس الغالي مما عمل بدار الصناعة بقرطبة صورة أسد بجانبه غزال إلى جانبه تمساح وفيما يقابله ثعبان وعقاب وفيل وفي المجنبتين حمامة وشاهين وطاووس ودجاجة وديك وحدأة ونسر وكل ذلك من ذهب مرصع بالجوهر النفيس ويخرج الماء من أفواهها وكان المتولي لهذا البنيان المذكور ابنه الحكم لم يتكل فيه الناصر على أمين غيره وكان يخبز في أيامه في كل يوم برسم حيتان البحيرات ثمانمائة خبزة وقيل أكثر إلى غير ذلك مما يطول تتبعه
قال وكان الناصر كما قدمنا قسم الجباية أثلاثا ثلث للجند وثلث للبناء وثلث مدخر وكانت جباية الأندلس يومئذ من الكور والقرى خمسة آلاف ألف وأربعمائة ألف وثمانين ألف دينار ومن السوق والمستخلص سبعمائة ألف وخمسة وستين ألف دينار وأما أخماس الغنائم العظيمة فلا يحصيها ديوان
وقد سبق هذا كله وإنما كررته لقول بعضهم إثر حكايته له ما صورته وقيل إن مبلغ تحصيل النفقة في بناء الزهراء مائة مدي من الدراهم القاسمية بكيل قرطبة وقيل إن مبلغ النفقة فيها بالكيل المذكور ثمانون مديا وسبعة أقفزة من الدراهم المذكورة واتصل بنيان الزهراء أيام الناصر خمسا وعشرين سنة شطر خلافته ثم اتصل بعد وفاته خلافة ابنه الحكم كلها وكانت خمسة عشر عاما وأشهرا فسبحان الباقي بعد فناء الخلق لا إله

بين الناصر ومنذر بن سعيد في شأن المباني بين المنذر
وقال ابن أصبغ الهمداني والفتح في المطمح كان الناصر كلفا بعمارة الأرض وإقامة معالمها وانبساط أمرها واستجلابها من أبعد بقاعها وتخليد الآثار الدالة على قوة الملك وعزة السلطان وعلو الهمة فأفضى به الإغراق في ذلك إلى أن ابتنى مدينة الزهراء البناء الشائع ذكره الذائع خبره المنتشر في الأرض خبره واستفرغ وسعه في تنميقها وإتقان قصورها وزخرفة مصانعها وانهمك في ذلك حتى عطل شهود الجمعة بالمسجد الجامع الذي اتخذه ثلاث جمع متواليات فأراد القاضي منذر أن يغض منه بما يتناوله من الموعظة بفصل الخطاب والحكمة والتذكر بالإنابة والرجوع فابتدأ في أول خطبته بقوله تعالى ( أتبنون بكل ريع ) إلى قوله تعالى ( فلا تكن من الواعظين ) [ الشعراء ثم وصله بقوله فمتاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى وهي دار القرار ومكان الجزاء ومضى في ذم تشييد البنيان والاستغراق في زخرفته والإسراف في الإنفاق عليه بكل جزل وقول فصل قال الحاكي فجرى فيه طلقا وانتزع فيه قوله تعالى أفمن أسس بنيانه [ التوبة 109 ] إلى آخر الآية وأتى بما يشاكل المعنى من التخويف بالموت والتحذير من فجأته والدعاء إلى الزهد في هذه الدار الفانية والحض على اعتزالها والرفض لها والندب إلى الإعراض عنها والإقصار عن طلب اللذات ونهى النفس عن اتباع هواها فأسهب في ذلك كله وأضاف إليه من آي القرآن ما يطابقه وجلب من الحديث والأثر ما يشاكله

وخشعوا ورقوا واعترفوا وبكوا وضجوا ودعوا وأعلنوا التضرع إلى الله تعالى في التوبة والابتهال في المغفرة وأخذ خليفتهم من ذلك بأوفر حظ وقد علم أنه المقصود به فبكى وندم على ما سلف له من فرطه واستعاذ بالله من سخطه إلا أنه وجد على منذر لغلظ ما قرعه به فشكا ذلك لولده الحكم بعد انصراف منذر وقال والله لقد تعمدني منذر بخطبته وما عنى بها غيري فأسرف علي وأفرط في تقريعي ولم يحسن السياسة في وعظي فزعزع قلبي وكاد بعصاه يقرعني استشاط غيظا عليه فأقسم أن لا يصلي خلفه صلاة الجمعة خاصة فجعل يلتزم صلاتها وراء أحمد بن مطرف صاحب الصلاة بقرطبة ويجانب الصلاة بالزهراء وقال له الحكم فما الذي يمنعك من عزل منذر عن الصلاة بك والاستبدال بغيره منه إذ كرهته ! فزجره وانتهره وقال له أمثل منذر بن سعيد في فضله وخيره وعلمه لا أم لك يعزل لإرضاء نفس ناكبة عن الرشد سالكة غير القصد هذا ما لا يكون وإني لأستحي من الله أن لا أجعل بيني وبينه في صلاة الجمعة شفيعا مثل منذر في ورعه وصدقه ولكنه أحرجني فأقسمت ولوددت أني أجد سبيلا إلى كفارة يميني بملكي بل يصلي بالناس حياته وحياتنا إن شاء الله تعالى فما أظننا نعتاض منه أبدا وقيل إن الحكم اعتذر عما قال منذر وقال يا أمير المؤمنين إنه رجل صالح وما أراد إلا خيرا ولو رأى ما أنفقت وحسن تلك البنية لعذرك فأمر حينئذ الناصر بالقصور ففرشت وفرش ذلك المسجد بأصناف فرش الديباج وأمر بالأطعمة وقد أحضر العلماء وغيرهم من الأمراء وغص بهم المجلس فدخل منذر في آخرهم

فأومأ إليه الناصر أن يقعد بقربه فقال له يا أمير المؤمنين إنما يقعد الرجل حيث انتهى به المجلس ولا يتخطى الرقاب فجلس في آخر الناس وعليه ثياب رثة ثم ذكر هذا القائل بعد هذا كلاما من كلام المنذر يأتي قريبا
وقحط الناس آخر مدة الناصر فأمر القاضي منذر المذكور بالبروز إلى الاستسقاء بالناس فتأهب لذلك وصام بين يديه أياما ثلاثة تنفلا وإنابة ورهبة واجتمع له الناس في مصلى الربض بقرطبة بارزين إلى الله تعالى في جمع عظيم وصعد الخليفة الناصر في أعلى مصانعه المرتفعة من القصر ليشارف الناس ويشاركهم في الخروج إلى الله تعالى والضراعة له فأبطأ القاضي حتى اجتمع الناس وغصت بهم ساحة المصلى ثم خرج نحوهم ماشيا متضرعا مخبتا متخشعا وقام ليخطب فلما رأى بدار الناس إلى ارتقائه واستكانتهم من خيفة الله وإخباتهم له وابتهالهم إليه - رقت نفسه وغلبته عيناه فاستعبر وبكى حينا ثم افتتح خطبته بأن قال يا أيها الناس سلام عليكم ثم سكت ووقف شبه الحصر ولم يك من عادته فنظر الناس بعضهم إلى بعض لا يدرون ما عراه ولا ما أراد بقوله ثم اندفع تاليا قوله تعالى ( كتب ربكم على نفسه الرحمة ) إلى قوله تعالى رحيم [ الأنعام 54 ] ثم قال استغفروا ربكم إنه كان غفارا استغفروا ربكم ثم توبوا إليه وتزلفوا بالأعمال الصالحة لديه قال الحاكي فضج الناس بالبكاء وجأروا بالدعاء ومضى على تمام خطبته ففزع النفوس بوعظه وانبعث الإخلاص بتذكيره فلم ينقض النهار حتى أرسل الله السماء بماء منهمر روى الثرى وطرد المحل وسكن الأزل والله لطيف بعباده وكان لمنذر في خطب الاستسقاء استفتاح عجيب ومنه أن قال يوما - وقد سرح طرفه في ملأ الناس عندما شخصوا

إليه بأبصارهم فهتف بهم كالمنادي - يا أيها الناس وكررها عليهم مشيرا بيده في نواحيهم أنتم الفقراء إلى الله [ فاطر 15 ] إلى بعزيز فاشتد وجد الناس وانطلقت أعينهم بالبكاء ومضى في خطبته وقيل إن الخليفة الناصر طلبه مرة للاستسقاء واشتد عزمه عليه فتسابق الناس للمصلى فقال للرسول - وكان من خواص الناس - ليت شعري ! ما الذي يصنعه الخليفة سيدنا فقال له ما رأينا قط أخشع منه في يومنا هذا إنه منتبذ حائر منفرد بنفسه لابس أخس الثياب مفترش التراب وقد رمد به على رأسه وعلى لحيته وبكى واعترف بذنوبه وهو يقول هذه ناصيتي بيدك أتراك تعذب بي الرعية وأنت أحكم الحاكمين لن يفوتك شيء مني قال الحاكي فتهلل وجه القاضي منذر عندما سمع قوله وقال يا غلام احمل المطر معك فقد أذن الله تعالى بالسقيا إذا خشع جبار الأرض فقد رحم جبار السماء وكان كما قال فلم ينصرف الناس إلا عن السقيا وكان منذر شديد الصلابة في أحكامه والمهابة في أقضيته وقوة الحكومة والقيام بالحق في جميع ما يجري على يده لا يهاب في ذلك الأمير الأعظم فمن دونه وقال ابن الحسن النباهي وأصله في المطمح وغيره ومن أخبار منذر المحفوظة له مع الخليفة الناصر

اتخذ لسطح القبيبة المصغرة الاسم للخصوصية التي كانت مائلة على الصرح الممرد المشهور شأنه بقصر الزهراء قراميد ذهب وفضة أنفق اتخذ لسطح القبيبة المصغرة الاسم للخصوصية التي كانت مائلة على الصرح الممرد المشهور شأنه بقصر الزهراء قراميد مغشاة ذهبا وفضة أنفق عليها مالا جسيما وقرمد سقفها به وجعل سقفها صفراء فاقعة إلى بيضاء ناصعة تستلب الأبصار بأشعة نورها وجلس فيها إثر تمامها يوما لأهل مملكته فقال لقرابته ومن حضر من الوزراء وأهل الخدمة مفتخرا عليهم بما صنعه من ذلك مع ما يتصل به من البدائع الفتانة هل رأيتم أو سمعتم ملكا كان قبلي فعل مثل هذا أو قدر عليه فقالوا لا والله يا أمير المؤمنين وإنك لأوحد في شأنك كله وما سبقك إلى مبتدعاتك هذه ملك رأيناه ولا انتهى إلينا خبره فأبهجه قولهم وسره وبينما هو كذلك إذ دخل عليه القاضي منذر بن سعيد وهو ناكس الرأس فلما أخذ مجلسه قال له كالذي قال لوزرائه من ذكر السقف المذهب واقتداره على إبداعه فأقبلت دموع القاضي تنحدر على لحيته وقال له والله يا أمير المؤمنين ما ظننت أن الشيطان لعنه الله يبلغ منك هذا المبلغ ولا أن تمكنه من قيادك هذا التمكين مع ما آتاك الله من فضله ونعمته وفضلك به على العالمين حتى ينزلك منازل الكافرين قال فانفعل عبد الرحمن لقوله وقال له انظر ما تقول وكيف أنزلني منزلتهم قال نعم أليس الله تعالى يقول ( ولولا أن يكون الناس أمة واحدة ) الآية فوجم الخليفة وأطرق مليا ودموعه تتساقط خشوعا لله تعالى قال الحاكي ثم أقبل على منذر وقال له جازاك الله يا قاضي عنا وعن نفسك خيرا وعن الدين والمسلمين أجل جزائه وكثر في الناس أمثالك ! فالذي قلت هو الحق وقام عن مجلسه ذلك وهو يستغفر الله تعالى وأمر بنقض سقف القبيبة وأعاد قرمدها ترابا على صفة غيرها انتهى ما حكاه ابن الحسن النباهي

ولنذكر هذه الحكاية وغيرها وإن خالف السياق ما سبق وهذا منقول من كلام الحجاري في المسهب في أخبار المغرب فإنه أتم فائدة إذ قال رحمه الله دخل منذر بن سعيد يوما على الناصر باني الزهراء وهو مكب على الاشتغال بالبنيان فوعظه فأنشده عبد الرحمن الناصر
( همم الملوك إذا أرادوا ذكرها ... من بعدهم فبألسن البنيان )
( أو ما ترى الهرمين قد بقيا وكم ... ملك محاه حوادث الأزمان )
( إن البناء إذا تعاظم شأنه ... أضحى يدل على عظيم الشان ) قال فما أدري أهذا شعره أم تمثل به فإن كان شعره فقد بلغ به إلى غاية الإحسان وإن كان تمثل به فقد استحقه بالتمثل به في هذا المكان وكان منذر يكثر تعنيته على البنيان ودخل عليه مرة وهو في قبة قد جعل قرمدها من ذهب وفضة واحتفل فيها احتفالا ظن أن أحدا من الملوك لم يصل إليه فقام خطيبا والمجلس قد غص بأرباب الدولة فتلا قوله تعالى ( ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون ) الآية وأتبعها بما يليق بذلك فوجم الملك وأظهر الكآبة ولم يسعه إلا الاحتمال لمنذر بن سعيد لعظم قدره في علمه ودينه
وحضر معه يوما في الزهراء فقام الرئيس أبو عثمان بن إدريس فأنشد الناصر قصيدة منها
( سيشهد ما أبقيت أنك لم تكن ... مضيعا وقد مكنت للدين والدنيا )
( فبالجامع المعمور للعلم والتقى ... وبالزهرة الزهراء للملك والعليا )

فاهتز الناصر وابتهج وأطرق منذر بن سعيد ساعة ثم قام منشدا
( يا باني الزهراء مستغرقا ... أوقاته فيها أما تمهل )
( له ما أحسنها رونقا ... لو لم تكن زهرتها تذبل ) فقال الناصر إذا هب عليها نسيم التذكار والحنين وسقتها مدامع الخشوع يا أبا الحكم لا تذبل إن شاء الله تعالى فقال منذر اللهم اشهد أني قد بثثت ما عندي ولم آل نصحا انتهى
ولقد صدق القاضي منذر رحمه الله تعالى فيما قال فإنها ذبلت بعد ذلك في الفتنة وقلب ما كان فيها من منحة محنة وذلك عندما ولي الحجابة عبد الرحمن بن المنصور بن أبي عامر الملقب بشنجول وتصرف في الدولة مثل ما تصرف أخوه المظفر وأبوهما المنصور فأساء التدبير ولم يميز بين القبيل والدبير فدس إلى المؤيد هشام بن الحكم من خوفه منه حتى ولاه عهده كما بينا نص العهد فيما سبق فأطبق الخاصة والعامة على بغضه وإضمار السوء له وذلك سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة فعند ذلك خرج عليه محمد بن هشام بن عبد الجبار بن الناصر سنة تسع وتسعين وتلقب بالمهدي وخلع المؤيد وحبسه وأسلمت الجيوش شنجول فأخذ وأسر وقتل
قال ابن الرقيق ومن أعجب ما روي أنه من نصف نهار يوم الثلاثاء لأربع بقين من جمادى الآخرة إلى نصف نهار يوم الأربعاء فتحت قرطبة وهدمت الزهراء وخلع خليفة وهو المؤيد وولي خليفة وهو المهدي وزالت دولة بني عامر العظيمة وقتل وزيرهم محمد بن عسقلاجة وأقيمت جيوش من العامة ونكب خلق من الوزراء وولي الوزارة آخرون وكان ذلك كله على يد عشرة رجال فحامين وجزارين وزبالين وهم جند المهدي هذا انتهى

وقد تقدم بعض الكلام على المهدي هذا وهو الذي قيل فيه لما قام على الدولة
( قد قام مهدينا ولكن ... بملة الفسق والمجون )
( وشارك الناس في حريم ... لولاه ما زال بالمصون )
( من كان من قبل ذا أجما ... فاليوم قد صار ذا قرون )
ومن شعر المهدي هذا وقد حياه في مجلس شرابه غلام بقضيب آس
( أهديت شبه قوامك المياس ... غصنا رطيبا ناعما من آس )
( وكأنما يحكيك في حركاته ... وكأنما تحكيه في الأنفاس ) وقد ذكرنا فيما سبق في الفصل الثالث خبر المهدي هذا وقتله ولقد كان قيامه مشؤما على الدين والدنيا فإنه فاتح أبواب الفتنة بالأندلس وماحي معالمها حتى تفرقت الدولة وانتثر السلك وكثر الرؤساء وتطاول العدو إليها وأخذها شيئا فشيئا حتى محا اسم الإسلام منها أعادها الله تعالى
حديث ابن خلدون عن الزهراء
وقد ألم الوالي ابن خلدون في تاريخه بذكر الزهراء في جملة مباني الناصر فقال ما نصه ولما استفحل ملك الناصر صرف نظره إلى تشييد القصور والمباني وكان جده الأمير محمد وأبوه عبد الرحمن الأوسط وجده الحكم قد احتفلوا في ذلك وبنوا قصورهم على أكمل الإتقان والضخامة وكان فيها المجلس الزاهر

والبهو والكامل والمنيف فبنى هو إلى جانب الزاهر قصره العظيم وسماه دار الروضة وجلب الماء إلى قصورهم من الجبل واستدعى عرفاء المهندسين والبنائين من كل قطر فوفدوا عليه حتى من بغداد والقسطنطينية ثم أخذ في بناء المنتزهات فاتخذ منية الناعورة خارج القصور وساق لها الماء من أعلى الجبل على أبعد مسافة ثم اختط مدينة الزهراء واتخذها لنزله وكرسيا لملكه وأنشأ فيها من المباني والقصور والبساتين ما عفى على مبانيهم الأولى واتخذ فيها محلات للوحش فسيحة الفناء متباعدة السياج ومسارح للطيور مظللة بالشباك واتخذ فيها دورا لصناعة الآلات من آلات السلاح للحرب والحلى للزينة وغير ذلك من المهن وأمر بعمل الظلة على صحن الجامع بقرطبة وقاية للناس من حر الشمس انتهى
وأما الزهرة
فهي من مباني المنصور محمد بن أبي عامر
قال ابن خلدون في أثناء كلامه على المنصور ما صورته وابتنى لنفسه مدينة لنزله سماها الزاهرة ونقل إليها جزءا من الأموال والأسلحة انتهى الزاهرة وقال غيره وأظنه صاحب المطمح وفي سنة ثمان وستين وثلاثمائة أمر المنصور بن أبي عامر ببناء الزاهرة وذلك عندما واستفحل أمره واتقد جمره وظهر استبداده وكثر حساده وأنداده وخاف على نفسه في الدخول إلى قصر السلطان وخشي أن يقع في أشطان فتوثق لنفسه وكشف

له ما ستر عنه في أمسه من الاعتزاز عليه ورفع الاستناد إليه وسما إلى ما سمت إليه الملوك من اختراع قصر ينزل فيه ويحله بأهله وذويه ويضم إليه رياسته ويتم به تدبيره وسياسته ويجمع فيه فتيانه وغلمانه فارتاد موضع مدينته المعروفة بالزاهرة الموصوفة بالقصور الباهرة وأقامها بطرف البلد على نهر قرطبة الأعظم ونسق فيها كل اقتدار معجز ونظم وشرع في بنائها في هذه السنة المؤرخة وحشد الصناع والفعلة وجلب إليها الآلات الجليلة وسربلها بهاء يرد الأعين كليلة وتوسع في اختطاطها وتولع بانتشارها في البسيطة وانبساطها وبالغ في رفع أسوارها وثابر على تسوية أنجادها وأغوارها فاتسعت هذه المدينة في المدة القريبة وصار بناؤها من الأنباء الغريبة وبنى معظمها في عامين
وفي سنة سبعين وثلاثمائة انتقل المنصور إليها ونزلها بخاصته وعامته فتبوأها وشحنها بجميع أسلحته وأمواله وأمتعته واتخذ فيها الدواوين والأعمال وعمل في داخلها الأهراء وأطلق بساحتها الأرحاء ثم أقطع ما حولها لوزرائه وكتابه وقواده وحجابه فابتنوا بها كبار الدور وجليلات القصور واتخذوا خلالها المستغلات المفيدة والمنازة المشيدة وقامت بها الأسواق وكثرت فيها الأرفاق وتنافس الناس بالنزول بأكنافها والحلول بأطرافها للدنو من صاحب الدولة وتناهى الغلو في البناء حوله حتى اتصلت أرباضها بأرباض قرطبة وكثرت بحوزتها العمارة واستقرت في بحبوحتها الإمارة وأفرد الخليفة من كل شيء إلا من الاسم الخلافي وصير ذلك هو الرسم العافي ورتب فيها جلوس وزرائه ورؤوس أمرائه وندب إليها كل ذي خطه بخطته ونصب ببابها كرسي شرطته وأجلس عليها واليا على رسم كرسي الخليفة وفي صفة تلك المرتبة المنيفة وكتب إلى الأقطار بالأندلس والعدوة

بأن تحمل إلى مدينته تلك أموال الجبايات ويقصدها أصحاب الولايات وينتابها طلاب الحوائج وحذر أن يعوج عنها إلى باب الخليفة عائج فاقتضيت إليها اللبانات والأوطار وانحشد الناس إليها من جميع الأقطار وتم لمحمد بن أبي عامر ما أراد وانتظم بلبة أمانيه المراد وعطل قصر الخليفة من جميعه وصيره بمعزل من سامعه ومطيعه وسد باب قصره عليه وجد في خير ألا يصل إليه وجعل فيه ثقة من صنائعه يضبط القصر ويبسط فيه النهي والأمر ويشرف منه على كل داخل ويمنع ما يحذره من الدواخل ورتب عليه الحراس والبوابين والسمار والمنتابين يلازمون حراسة من فيه ليلا ونهارا ويراقبون حركاتهم سرا وجهارا وقد حجر على الخليفة كل تدبير ومنعه من تملك قبيل أو دبير وأقام الخليفة هشام مهجور الفناء معجوز الغناء خفي الذكر عليل الفكر مسدود الباب محجوب الشخص عن الأحباب لا يراه خاص ولا عام ولا يخاف منه بأس ولا يرجى منه إنعام ولا يعهد منه إلا الاسم السلطاني في السكة والدعوة وقد نسخه ولبس أبهته وطمس بهجته وأغنى الناس عنه وأزال أطماعهم منه وصيرهم لا يعرفونه وأمرهم أنهم لا يذكرونه واشتد ملك محمد بن أبي عامر منذ نزل قصر الزاهرة وتوسع مع الأيام في تشييد بنيتها حتى كملت أحسن كمال وجاءته في نهاية الجمال نقاوة بناء وسعة فناء واعتدال هواء رق أديمه وصقالة جو اعتل نسيمه ونضرة بستان وبهجة للنفوس فيها افتنان وفيها يقول صاعد اللغوي
( يا أيها الملك المنصور من يمن ... والمبتني نسبا غير الذي انتسبا )

( بغزوة في قلوب الشرك رائعة ... بين المنايا تناغي السمر والقضبا )
( أما ترى العين تجري فوق مرمرها ... هوى زهوا فتجري على أحفافها الطربا )
( أجريتها فطما الزاهي بجريتها ... كما طموت فسدت العجم والعربا )
( تخال فيه جنود الماء رافلة ... مستلئمات تريك الدرع واليلبا )
( تحفها من فنون الأيك زاهرة ... قد أورقت فضة إذ أورقت ذهبا )
( بديعة الملك ما ينفك ناظرها ... يتلو على السمع منها آية عجبا )
( لا يحسن الدهر أن ينشي لها مثلا ... ولو تعنت فيها نفسه طلبا ) المنية ودخل عليه ابن أبي الحباب في بعض قصوره من المنية المعروفة بالعامرية والروض قد تفتحت أنواره وتوشحت أنجاده وأغواره وتصرف فيها الدهر متواضعا ووقف بها السعد خاضعا فقال
( لا يوم كاليوم في أيامك الأول ... بالعامرية ذات الماء والظلل )
( هواؤها في جميع الدهر معتدل ... طيبا وإن حل فصل غير معتدل )
( ما إن يبالي الذي يحتل ساحتها ... بالسعد أن لا تحل الشمس بالحمل ) وما زالت هذه المدينة رائقة والسعود بلبتها متناسقة تراوحها الفتوح وتغاديها وتجلب إليها منكسرة أعاديها لا تزحف عنها راية إلا

إلى فتح ولا يصدر عنها تدبير إلا إلى نجح إلى أن حان يومها العصيب وقيض لها من المكروه أوفر نصيب فتولت فقيدة وخلت من بهجتها كل عقيدة انتهى
وقد حكى الحميدي في جذوة المقتبس هذه الحكاية الواقعة لابن أبي الحباب بزيادة فقال - بعد أن ذكر هذه المنية العامرية التي إلى جانب الزهراء - إن أبا المطرف بن أبي الحباب الشاعر دخل إلى المنصور في هذه المنية فوقف على روضة فيها ثلاث سوسنات ثنتان منها قد تفتحا وواحدة لم تفتح فقال
( لا يوم كاليوم في أيامنا الأول ... بالعامرية ذات الماء والظلل )
( هواؤها في جميع الدهر معتدل ... طيبا وإن حل فصل غير معتدل )
( ما إن يبالي الذي يحتل ساحتها ... بالسعد ألا تحل الشمس في الحمل )
( كأنما غرست في ساعة وبدا السوسان ... من حينه فيها على عجل )
( أبدت ثلاثا من السوسان مائلة ... أعناقهن من الإعياء والكسل )
( فبعض نوارها للبعض منفتح ... والبعض منغلق عنهن في شغل )
( كأنها راحة ضمت أناملها ... من بعدما ملئت من جودك الخضل )
( وأختها بسطت منها أناملها ... ترجو نداك كما عودتها فصل ) وقد ذكر ابن سعيد أن ابن العريف النحوي دخل على المنصور بن أبي عامر وعنده صاعد اللغوي البغدادي فأنشده وهو بالموضع المعروف بالعامرية من أبيات
( فالعامرية تزهى ... على جميع المباني

)
( وأنت فيها كسيف ... قد حل في غمدان ) فقام صاعد وكان مناقضا له فقال أسعد الله تعالى الحاجب الأجل ! ومكن سلطانه ! هذا الشعر الذي قاله قد أعده وروى فيه أقدر أن أقول أحسن منه ارتجالا فقال له المنصور قل ليظهر صدق دعواك فجعل يقول من غير فكرة طويلة
( يا أيها الحاجب المعتلي ... على كيوان )
( ومن به قد تناهى ... فخار كل يمان )
( العامرية أضحت ... كجنة الرضوان )
( فريدة لفريد ... ما بين أهل الزمان )
ثم مر في الشعر إلى أن قال في وصفها
( انظر إلى النهر فيها ... ينساب كالثعبان )
( والطير يخطب شكرا ... على ذرا الأغصان )
( والقضب تلتف سكرا ... بميس القضبان )
( والروض يفتر زهوا ... عن مبسم الأقحوان )
( والنرجس الغض يرنو ... بوجنة النعمان )
( وراحة الريح تمتار ... نفحة الريحان )
( فدم مدى الدهر فيها ... في غبطة وأمان ) فاستحسن المنصور ارتجاله وقال لابن العريف مالك فائدة في مناقضة

من هذا ارتجاله فكيف تكون رويته فقال ابن العريف إنما أنطقه وقرب عليه المأخذ إحسانك فقال له صاعد فيخرج من هذا أن قلة إحسانه لك أسكتتك وبعدت عليك المأخذ فضحك المنصور وقال غير هذه المنازعة أليق بأدبكما كثرة المنى قلت وقد ذكر مؤرخو الأندلس منى كثيرة بها منها منية الناعورة السابقة ومنية العامرية هذه ومنية السرور ومنية الزبير منسوبة إلى الزبير بن عمر الملثم ملك قرطبة قال أبو الحسن بن سعيد أخبرني أبي عن أبيه قال خرج معي إلى هذه المنية في زمان فتح نوار اللوز أبو بكر بن بقي الشاعر المشهور فجلسنا تحت سطر لوز قد نور فقال ابن بقي
( سطر من اللوز في البستان قابلني ... ما زاد شيء على شيء ولا نقصا )
( كأنما كل غصن كم جارية ... إذا النسيم ثنى أعطافه رقصا ) ثم قال
( عجبت لمن أبقى على خمر دنه ... غداة رأى لوز الحديقة نورا ) وذكر بعض مؤرخي الأندلس أن المنصور بن أبي عامر كان يزرع كل سنة ألف مدي من الشعير قصيلا لدوابه الخاصة به وأنه كان إذا قدم من غزوة من غزواته لا يحل عن نفسه حتى يدعو صاحب الخيل فيعلم ما مات منها وما عاش وصاحب الأبنية لما وهي من أسواره ومبانيه وقصوره ودوره

والحيتان وكان يصنع في كل عام اثني عشر ألف ترس عامرية لقصر الزاهرة والزهراء قال وابتنى على طريق المباهاة والفخامة مدينة الزاهرة ذات القصور والمنتزهات المخترعة كمنية السرور وغيرها من مناشئه البديعة انتهى
رجع إلى المنصور
وكان المنصور إذا أراد أمرا مهما شاور أرباب الدولة الأكابر من خدام الدولة الأموية فيشيرون عليه بالوجه الذي عرفوه وجرت الدولة الأموية عليه فيخالفهم

بالهلاك في الطريق الذي سلكه والمهيع الذي اخترعه فتسفر العاقبة عن السلامة التامة التي اقتضاها سعده فيكثرون التعجب من موارد أموره ومصادرها
وقيل له مرة إن فلانا مشؤوم فلا تستخدمه فقال أف لسعد لا يغطي على شؤمه فاستخدمه ولم ينله من شؤمه الذي جرت به العادة شيء
وحكي عنه أنه كان في قصره بالزاهرة فتأمل محاسنه ونظر إلى مياهه المطردة وأنصت لأطياره المغردة وملأ عينه من الذي حواه من حسن وجمال والتفت في الزاهرة من اليمين إلى الشمال فانحدرت دموعه وتجهم وقال ويها لك يا زاهرة فليت شعري من الخائن الذي يكون خرابك على يديه عن قريب فقال له بعض خاصته ما هذا الكلام الذي ما سمعناه من مولانا قط وما هذا الفكر الرديء الذي لا يليق بمثله شغل البال به فقال والله لترون ما قلت وكأني بمحاسن الزاهرة قد محيت وبرسومها قد غيرت وبمبانيها قد هدمت ونحيت وبخزائنها قد نهبت وبساحاتها قد أضرمت بنار الفتنة وألهبت قال الحاكي فلم يكن إلا أن توفي المنصور وتولى المظفر ولم تطل مدته فقام بالأمر أخوه عبد الرحمن الملقب بشنجول فقام عليه المهدي والعامة وكانت منهم عليه وعلى قومه الطامة وانقرضت دولة آل عامر ولم يبق منهم آمر
( كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر )
( بلى نحن كنا أهلها فأبادنا ... صروف الليالي والجدود العواثر ) وخربت الزاهرة وذهبت كأمس الدابر وخلت منها الدسوت الملوكية

المهدي المذكور فسلطه الله تعالى على كل ما أسسه المنصور حتى هدمه وأخر كل ما قدمه ولم ينفع في ذلك احتياط ولا حزم ولا راد للقضاء المبرم الجزم
( والله يحكم ما يشاء ... فلا تكن متعرضا )
طرف من أخبار المنصور
وقد قدمنا شيئا من أخبار المنصور ولا بأس أن نلم هنا ببعضها وإن حصل منه نوع تكرار في نبذة منها لارتباط الكلام بعضه ببعض قال بعض المحققين من المؤرخين حجر المنصور بن أبي عامر على هشام المؤيد بحيث لم يره أحد منذ ولي الحجابة وربما أركبه بعد سنين وجعل عليه برنسا وعلى جواريه مثل ذلك فلا يعرف منهن ويأمر من ينحي الناس من طريقه حتى ينتهي المؤيد إلى موضع تنزهه ثم يعود غير أنه أركبه بأبهة الخلافة في بعض الأيام لغرض له كما ألمعنا به فيما سبق وكان المنصور إذا سافر وكل بالمؤيد من يفعل معه ذلك فكان هذا من فعله سببا لانقطاع ملك بني أمية من الأندلس وأخذ مع ذلك في قتل من يخشى منه من بني أمية خوفا أن يثوروا به ويظهر أنه يفعل ذلك شفقة على المؤيد حتى أفنى من يصلح منهم للولاية ثم فرق باقيهم في البلاد وأدخلهم زوايا الخمول عارين من الطراف والتلاد وربما سكن بعضهم البادية وترك مجلس الأبهة وناديه حتى قال بعض من ينقم على المنصور ذلك الفعل من قصيدة
( أبني أمية أين أقمار الدجى ... منكم وأين نجومها والكوكب
( غابت أسود منكم عن غابها ... فلذاك حاز الملك هذا الثعلب ) مع أن للمنصور مفاخر بذ بها الأوائل والأواخر من المثابرة على جهاد

العدو وتكرار الذهاب بنفسه في الرواح والغدو وله مع المصحفي وغيره أخبار مرت ويأتي بعضها ولا بأس أن نلخص ترجمة المصحفي فنقول رسالة ابن عبد البر إلى المنصور الصغير وقد تذكرت هنا والحديث شجون وبذكر المناسبات يبلغ الطلاب ما يرجون كتابا كتبه الأديب الكاتب أبو محمد ابن الإمام الحافظ محدث

] صفراء تطرق في الزجاج فإن سرت في الجسم دبت مثل صل لادغ خفيت على شرابها فكأنما يجدون ريا من إناء فارغ وله [ السريع ] يا ذا الذي أودعني سره لا ترج أن تسمعه مني لم أجره بعدك في خاطري كأنه ما مر في أذني وأنشد له صاحب بدائع التشبيهات [ الطويل ] سألت نجوم الليل هل ينقضي الدجى فخطت جوابا بالثريا كخط لا

الأندلس أبي عمر بن عبد البر النميري إلى المنصور بن أبي عامر وهو من ذرية المنصور الكبير الذي كنا نتحدث في أخباره يمت إليه بسلفه ومعاملتهم لمن تقدم من آبائه بتعظيم قدره وإكباره وهو عمر الله ببقاء سيدي ذي السابقتين بهجة أوطانه وملكه عنان زمانه ومد عليه ظلال أمانه

أو يخلي أفقي من أنوارك فأراني منخرطا في غير سلكه ومنحطا إلى غير ملكه لا جرم أنه من استضاء بالهلال غني عن الذبال ومن استنار بالصباح ألقى سنا المصباح وتالله ما هزت آمالي ذوائبها إلى سواك ولا حدت أوطاري ركائبها إلى من مداك ليكون في أثر الوسمي في الماحل وعلي جمال الحلي على العاطل لسيادتك السنية ورياستك الأولية التي يقصر عنها لسان إفصاحي ويعيا في بعضها بياني وإيضاحي فالقراطيس عند بث مناقبك تفنى والأقلام في رسم مآثرك تخفى وما أمل المجدب في

ليهنكم مجد تليد بنيتم أغار سناه في البلاد وأنجدا ومثله أبقاه الله سبحانه يستثمر إيراقه فيثمر جناه ويستمطر إبراقه فيمطر حياه لا سيما وإني نشأة حفها إحسان أوائلك الطاهرين وألفها إنعام أكابرك الأخيار الطيبين وجدير بقبولك وإقبالك وبرك وإجمالك من أصله ثابت في أهل محبتكم وفرعه نابت في خاصتكم [ الطويل ] وما رغبتي في عسجد أستفيده ولكنها في مفخر أستجده فكل نوال كان أو هو كائن فلحظة طرف منك عندي نده فكن في اصطناعي محسنا كمجرب يبن لك تقريب الجواد وشده إذا كنت في شك من السيف فابله فإما تنافيه وإما تعده وما الصارم الهندي إلا كغيره إذا لم يفارقه النجاد وغمده ولا بأس أن يتطول مولاي بغرس الصنيعة في أزكى الترب

يعني بالخليفة هشاما المؤيد لكونه كان صغيرا وأمه صبح البشكنشية كان الأعداء يتهمون بها المنصور وذلك بهتان وزور وأفظع منه رميهم القاضي بالفجور والله عالم بسرائر الأمور ونعوذ بالله من ألسنة الشعراء الذين لا يراعون إلا ولا ذمة ويطلقون ألسنتهم في العلماء والأئمة [ الطويل ] وأظلم أهل الأرض من كان حاسدا لمن بات في نعمائه يتقلب جدير بأن لا يدرك ما يؤمل ويتطلب لأنه يعترض على الله سبحانه في أحكامه نعوذ بالله من شر أنفسنا ومن شر كل ذي شر بجاه نبينا عليه أزكى صلوات الله وأفضل سلامه وقد قدمنا أن المنصور بن أبي عامر كان أولا يخدم جعفر بن عثمان المصحفي مدبر مملكة هشام المؤيد ويريه النصيحة وأنه ما زال يستجلب القلوب بجوده وحسن خلقه والمصحفي ينفرها ببخله وسوء خلقه إلى أن كان من أمره ما كان فاستولى على الحجابة وسجن المصحفي وفي ذلك يقول المصحفي [ الطويل ] غرست قضيبا خلته عود كرمة وكنت عليه في الحوادث قيما وأكرمه دهري فيزداد خبثه ولو كان من أصل كريم تكرما ولما يئس المصحفي من عفو المنصور قال [ الكامل ] لي مدة لا بد أبلغها فإذا انقضت أيامها مت لو قابلتني الأسد ضارية والموت لم يقرب لما خفت فانظر إلي وكن على حذر في مثل حالك أمس قد كنت ومن أحسن ما نعى به نفسه قوله حسبما تقدم [ الطويل ] صبرت على الأيام حتى تولت

] صبرت على الأيام حتى تولت وألزمت نفسي صبرها فاستمرت فوا عجبا للقلب

أرى أني بآخر ليلتي فأطرق حتى خلته عاد أولا وما عن هوى سامرتها غير أنني أنافسها المجرى إلى طرق العلا مآل مصحف عثمان الذي كان بالأندلس 114 مآل مصحف عثمان الذي كان بالأندلس رجع - وكان كما تقدم بقرطبة المصحف العثماني وهو متداول بين أهل الأندلس قالوا ثم آل أمره إلى الموحدين ثم إلى بني مرين قال الخطيب بن مرزوق في كتابه المسند الصحيح الحسن ما ملخصه وكان السلطان أبو الحسن لا يسافر موضعا إلا ومعه المصحف الكريم العثماني وله عند أهل الأندلس

من الأندلس فألفيت خطهما سواء وما توهمو أنه خطه بيمينه فليس بصحيح فلم يخط عثمان واحدا منها وإنما جمع عليها بعضا من الصحابة كما هو مكتوب على ظهر المدني ونص ما على ظهره هذا ما أجمع عليه جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم منهم زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاصي وذكر العدد الذي جمعه عثمان رضي الله تعالى عنه من الصحابة رضي الله تعالى عنهم على كتب المصحف انتهى
واعتنى به عبد المؤمن بن علي ولم يزل الموحدون يحملونه في أسفارهم

المنصور بتحلية المصحف [ الطويل ] ونفلته من كل ملك ذخيرة كأنهم كانوا برسم مكاسبه فإن ورث الأملاك شرقا ومغربا فكم قد أخلوا جاهلين بواجبه وكيف يفوت النصر جيشا جعلته أمام قناه في الوغى وقواضبه وألبسته الياقوت والدر

وتراءى مع نفسه المطمئنة المرضية وسجاياه الحسنة الرضية في معنى اجتلابه من مدينة قرطبة محل مثواه القديم ووطنه الموصل بحرمته للتقديم فتوقع أن يتأذى أهل ذلك القطر بفراقه ويستوحشوا لفقدان إضاءته في أفقهم وإشراقه فتوقف عن ذلك لما جبل عليه من رحمته وإشفاقه فأوصله الله إليه تحفة سنية وهدية هنية وتحية من عنده مباركة زكية دون أن يكدرها من البشر اكتساب أو يتقدمها استدعاء أو اجتلاب بل أوقع الله سبحانه وتعالى في نفوس أهل ذلك القطر من الفرح بإرساله إلى مستحقه والتبرع به إلى القائم إلى الله تعالى بحقه ما اطلع بالمشاهدة والتواتر على صحته وصدقه وعضدت مخايل برقه سواكب ودقه وكان ذلك من كرامات سيدنا ومولانا الخليفة معدودا وإلى أمره الذي هو أمر الله مردودا وجمع عند ذلك بحضرة مراكش - حرسها الله تعالى ! - سائر الأبناء الكرام والسادة الأعلام بدور الآفاق وكواكب الإشراق وأهل الاستئهال للمقامات الرفيعة وذوو الاستحقاق فانتظم عند ذلك هذا القصيد مشيرا إلى اجتماع هذه الدراري الزاهرة والتئام خطوطها على مركز الدائرة ووصول المتقدم ذكره المشهور في جميع المعمور أمره وهو هذا [ الطويل ] دراري من نور

تشب بهم ناران للحرب والقرى ويجري بهم سيلان جيش وعسجد ويستمطرون البرق والبرق عندهم سيوف على أفق العداة تجرد إذا من سجف الساريات مضاؤها فماذا الذي يغني الحديد المسرد ويسترشدون النجم والنجم عندهم نصول إلى حب القلوب تسدد تزاحم في جو السماء كأنما عواملها في الأفق صرح ممرد تخازر ألحاظ الكواكب دونها ويفرق منها المرزمان وفرقد ألم ترها في الأفق خافقة الحشا كما تطرف العينان والقلب يزأد وليس احمرار الفجر من أثر السنى ولكنه ذاك النجيع المورد وما انبسطت كف الثريا فدافعت ولكنها في الحرب شلو مقدد وحط سهيلا ذعره عن سميه فأضحى على أفق البسيطة يرعد ولما رأى نسر وقوع أليفه تطاير من خوف فما زال يجهد مواقع أمر الله في كل حالة يكاد لها رأس الثرى يتميد أهاب بأقصى الخافقين فنظمت وهيب جمع المخفقين فبددوا وأضفى على الدنيا ملابس رحمة نضارتها في كل حين تجدد وأخضل أرجاء الربا فكأنما عليها من النبت النضير زبرجد فمن طرب ما أصبح البرق باسما ومن فرح ما أضحت المزن ترعد وغنى على أفنان كل أراكة غذاها حيا النعمى حمام مغرد وكبر ذو نطق وسبح صامت وكاد به المعدوم يحيا ويوجد وأبرز للأذهان

بعزمة شيحان الفؤاد مصمم يقوم به أقصى الوجود ويقعد مشيئته ما شاءه الله إنه إذا هم فالحكم الإلهي يسعد كتائبه مشفوعة بملائك ترادفها في كل حال وترفد وما ذاك إلا نية خلصت له فليس له فيما سوى الله مقصد إذا خطبت راياته وسط محفل ترى قمم الأعداء في الترب تسجد وإن نطقت بالفصل فيهم سيوفه أقر بأمر الله من كان يجحد معيد علوم الدين بعد ارتفاعها ومبدي علوم لم تكن قبل تعهد وباسط أنوار الهداية في الورى وقد ضم قرص الشمس في الغرب ملحد وقد كان ضوء الشمس عند طلوعها يغان بأكنان الضلال ويغمد فما زال يجلو عن مطالعها الصدا ويبرزها بيضاء والجو أسود جزى الله عن هذا الأنام خليفة به شربوا ماء الحياة فخلدوا وحياه ما دامت محاسن ذكره على مدرج الأيام تتلى وتنشد لمصحف عثمان الشهيد وجمعه تبين أن الحق بالحق يعضد تحامته أيدي الروم بعد انتسافه وقد كاد لولا سعده يتبدد فما هو إلا أن تمرس صارخ بدعوته العليا فصين المبدد وجاء ولي الثأر يرغب نصره فلباه

مشاعرها الأجسام والروح أمركم ومنكم لها يرضى المقام المخلد فلله حج واعتمار وزورة أتتنا ولم يبرحك بالغرب مشهد ولله سبع نيرات تقارنت بها فئة الإسلام تحمى وتسعد إذا لم يكن إلا فناءك عصمة فماذا الذي يرجو القصي المبعد فدم للورى غيثا وعزا ورحمة فقربك في الدارين منج ومسعد وزادت بك الأعياد حسنا وبهجة كأنك للأعياد زي مجدد ولا زلت للأيام تبلي جديدها وعمرك في ريعانه ليس ينفد ثم إنهم أدام الله سبحانه تأييدهم ووصل سعودهم لما أرادوا من المبالغة في تعظيم المصحف المذكور واستخدام البواطن والظواهر فيما يجب له من التوقير والتعزير شرعوا في انتخاب كسوته وأخذوا في اختيار حليته وتأنقوا في استعمال أحفظته وبالغوا في استجادة أصونته فحشروا له الصناع المتقنين والمهرة المتفننين ممن كان بحضرتهم العلية أو سائر بلادهم القريبة والقصية فاجتمع لذلك حذاق كل صناعة ومهرة كل طائفة

تترقى فوق معارجهم وتتخلص كالشهاب الثاقب وراء موالجهم وتنيف على ما ظنوه الغاية القصوى من لطيف مدارجهم فسلكوا من عمل هذه الأمثلة كل شعب ورأبوا من منتشرها كل شعب وأشرفوا عند تحقيقها وإبراز دقيقها على كل صعب فكانت منهم وقفة كادت لها النفس تيأس عن مطلبها والخواطر تكر راجعة عن خفي مذهبها حتى أطلع الله خليفته في خلقه وأمينه المرتضى لإقامة حقه على وجه انقادات فيه تلك الحركات بعد اعتياصها وتخلصت أشكالها عن الاعتراض على أحسن وجوه خرصها ألقوا ذلك - أيدهم الله بنصره وأمدهم بمعونته ويسره ! - إلى المهندسين والصناع فقبلوه أحسن القبول وتصوروه بأذهانهم فرأوه على مطابقة المأمول فوقفهم حسن تنبيهه مما جهلوه على طور غريب من موجبات التعظيم وعلموا أن الفضل لله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم وسيأتي بعد هذا إشارة إلى تفصيل تلك الحركات المستغربة والأشكال المونقة

واتقاده وأشبهه الروض المزخرف غب سماء أقلعت عن إمداده وأتى هذا الصوان الموصوف رائق المنظر آخذا بمجامع القلب والبصر مستوليا بصورته الغريبة على جميع الصور يدهش العقول بهاء ويحير الألباب رواء ويكاد يعشي الناظر تألقا وضياء فحين تمت خصاله واستركبت أوصاله وحان ارتباطه بالمصحف العظيم واتصاله رأوا - أدام الله تأييدهم وأعلى كلمتهم ! - مما رزقهم الله تعالى من ملاحظة الجهات والإشراف على جميع الثنيات أن يتلطف في وجه يكون به هذا الصوان المذكور

والصدور على محفوظ أفكارها مكعب الشكل سام في الطول حسن الجملة والتفصيل

الله تعالى ! - فبدئ ببنائه وتأسيس قبلته في العشر الأول من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة وكمل منتصف شعبان المكرم من العام المذكور على أكمل الوجوه وأغرب الصنائع وأفسح المساحة وأبعد البناء والنجارة وفيه من شمسيات الزجاج ودرجات المنبر والمقصورة ما لو عمل في السنين العديدة لاستغرب تمامه فكيف في هذا الأمد اليسير الذي لم يتخيل أحد من الصناع أن يتم فيه فضلا عن بنائه وصليت فيه صلاة الجمعة منتصف شعبان المذكور ونهضوا - أدام الله سبحانه تأييدهم ! - عقب ذلك لزيادة البقعة المكرمة والروضة المعظمة بمدينة تينملل أدام الله رفعتها فأقاموا بها بقية شعبان المكرم وأكثر شهر رمضان المعظم وحملوا في صحبتهم المصحف العزيز ومعه مصحف الإمام المهدي المعلوم رضي الله تعالى عنه في التابوت الموصوف إذ كان قد صنع له غرفة في أعلاه وأحكمت فيه إحكاما كمل به معناه واجتمع في مشكاته فعاد النور إلى مبتداه وختم القرآن العزيز في مسجد الإمام المعلوم

] أستودع الله أهل قرطبة حيث وجدت الحياء والكرما والجامع الأعظم العتيق ولا زال مدى الدهر مأمنا حرما وقال أبو الربيع بن سالم حدثني بذلك أبو الحسن عبد الرحمن بن ربيع الأشعري قال أنشدني أبو محمد بن عطية لنفسه فذكرهما بعد أن قال إنه لما أزمع القاضي أبو محمد بن عطية الارتحال عن قرطبة قصد المسجد الجامع وأنشدني البيتين انتهى وقال ابن عطية أيضا رحمه الله تعالى [ البسيط ] بأربع فاقت الأمصار قرطبة وهن قنطرة الوادي وجامعها هاتان ثنتان والزهراء ثالثة والعلم أكبر شيء وهو رابعها وقد تقدم إنشادنا لهذين البيتين من غير نسبتهما لأحد من أخبار الوزير أبي المغيرة بن حزم 124 من أخبار الوزير أبي المغيرة بن حزم ومما يدخل في أخبار الزاهرة من غير ما قدمناه ما حكاه عن نفسه الوزير

الكاتب أبو المغيرة بن حزم قال نادمت يوما المنصور بن أبي عامر في منية السرور بالزاهرة ذات الحسن النضير وهي جامعة بين روضة وغدير فلما تضمخ النهار

القلب فكرة فتكلم الحب على لساني وبرح الشوق بكتماني والعفو مضمون لديك عند المقدرة والصفح معلوم منك عند المعذرة ثم بكت فكأن دمعها در تناثر من عقد أو طل تساقط من ورد وأنشدت أذنبت ذنبا عظيما فكيف منه اعتذاري والله قدر هذا

الرشيد ما هذا ضعي الإبريق من يدك ففعلت فقال لها والله لئن لم تصدقيني لأقتلنك فقالت يا سيدي أشار إلي كأنه يقبلني فأنكرت ذلك عليه فالتفت إلى المأمون فنظر إليه كأنه ميت لما داخله من الجزع والخجل فرحمه وضمه إليه وقال يا عبد

ترجمة الوزير أبي المغيرة بن حزم وأبو المغيرة بن حزم قال في حقه في المطمح

ما أنصفت في جنب توضح إذ قرت ضيف الوداد بلابلا وشجونا أضحى الغرام قطين ربع فؤاده إذ لم يجد بالرقمتين قطينا وله [ المنسرح ] لما رأيت الهلال منطويا في غرة الفجر قارن الزهره شبهته والعيان يشهد لي بصولجان انثنى لضرب كره ترجمة أبي عامر بن شهيد 127 ترجمة أبي عامر بن شهيد وأبو عامر بن شهيد المذكور قال

إن الكريم إذا نابته مخمصة أبدى إلى الناس ريا وهو ظمآن يحني الضلوع على مثل اللظى حرقا والوجه غمر بماء البشر ريان وهو مأخوذ من قول الرضي [ الكامل ] ما إن رأيت كمعشر صبروا عزا على الأزلات والأزم بسطوا الوجوه وبين أضلعهم حر الجوى ومآلم الكلم وله أيضا [ البسيط ] كلفت بالحب حتى لو دنا أجلي لما وجدت لطعم الموت من ألم كلا الندى والهوى قدما ولعت به ويلي من الحب أو ويلي من الكرم وأخبرني الوزير أبو الحسين بن سراج - وهو بمنزل ابن شهيد - وكان من البلاغة في مدى غاية البيان ومن الفصاحة في أعلى مراتب التبيان وكنا نحضر مجلس شرابه

ذنبها وهي متنقبة خائفة ممن يرقبها مترقبة وأمامها طفل لها كأنه غصن آس أو ظبي يمرح في كناس فلما وقعت عينها على أبي عامر ولت سريعة وتولت مروعة خيفة أن يشبب بها أو يشهرها باسمها فلما نظرها قال قولا فضحها به وشهرها [ المتقارب ] وناظرة تحت طي القناع دعاها إلى الله بالخير داعي سعت خفية تبتغي منزلا لوصل التبتل والانقطاع فجاءت تهادى كمثل الرؤوم تراعي غزالا بروض اليفاع وجالت بموضعنا جولة فحل الربيع بتلك البقاع أتتنا تبختر في مشيها فحلت بواد كثير السباع وريعت حذارا على طفلها فناديت يا هذه لا تراعي غزالك تفرق منه الليوث وتفزع منه كماة المصاع فولت وللمسك في ذيلها على الأرض خط كظهر الشجاع انتهى المقصود منه استيلاء المعتمد بن عباد على قرطبة 129 استيلاء المعتمد بن عباد على قرطبة رجع - ومما

الوزراء والكتاب بالزهراء في يوم قد غفل عنه الدهر فلم يرمقه بطرف ولم يطرقه بصرف أرخت به المسرات عهدها وأبرزت له الأماني خدها ونهدها وأرشفت فيه لماها وأباحت للزائرين حماها وما زالوا ينتقلون من قصر إلى قصر ويبتذلون الغصون بجنى وهصر ويتوقلون في تلك الغرفات ويتعاطون الكؤوس بين تلك الشرفات حتى استقروا بالروض من بعد ما قضوا من تلك الآثار أوطارا ووفروا بالاعتبار قطارا فحلوا منها في درانك ربيع مفوفة بالأزهار مطرزة بالجداول والأنهار والغصون تختال في أدواحها وتتثنى في أكف أرواحها وآثار الديار قد أشرفت عليهم كثكالى ينحن على خرابها وانقراض أترابها وأطرابها والوهى بمشيدها لاعب وعلى كل جدار غراب ناعب وقد محت الحوادث ضياءها وقلصت ظلالها وأفياءها وطالما أشرقت بالخلائف وابتهجت وفاحت من شذاهم وتأرجت أيام نزلوا خلالها وتفيؤوا ظلالها وعمروا حدائقها وجناتها ونبهوا الآمال من سناتها وراعوا الليوث في آجامها وأخجلوا الغيوث عند انسجامها فأضحت ولها بالتداعي تلفع واعتجار ولم يبق من آثارها إلا نؤي وأحجار قد وهت قبابها وهرم شبابها وقد يلين الحديد ويبلى على طيه الجديد فبينما هم يتعاطونها صغارا وكبارا ويديرونها أنسا واعتبارا إذا برسول المعتمد قد وافاهم برقعة

قد طلعتم بها شموسا صباحا فاطلعوا عندنا بدورا مساء فساروا إلى قصر البستان بباب العطارين فألفوا مجلسا قد حار فيه الوصف واحتشد فيه اللهو والقصف وتوقدت نجوم مدامه وتأودت قدود خدامه وأربى على الخورنق والسدير وأبدى صفحة البدر من أزرار المدير فأقاموا ليلتهم ما عراهم نوم ولا عداهم من طيب اللذات سوم وكانت قرطبة منتهى أمله وكان روم أمرها أشهى عمله وما زال يخطبها بمداخلة أهليها ومواصلة واليها إذ لم يكن في منازلتها قائد ولم يكن لها إلا حيل ومكايد لاستمساكهم بدعوة خلفائها وأنفتهم من طموس رسوم الخلافة وعفائها وحين اتفق له تملكها وأطلعه فلكها وحصل في قطب دائرتها ووصل إلى تدبير رياستها وإدارتها قال [ البسيط ] من للملوك بشأو الأصيد البطل هيهات جاءتكم مهدية الدول خطبت قرطبة الحسناء إذ منعت من جاء يخطبها بالبيض والأسل وكم غدت عاطلا حتى عرضت لها فأصبحت في سري الحلي والحلل عرس الملوك لنا في قصرها عرس كل الملوك بها في مأتم الوجل فراقبوا عن قريب لا أبا لكم هجوم ليث بدرع البأس مشتمل ولما انتظمت في سلكه واتسمت بملكه أعطى ابنه الظافر زمامها وولاه نقضها وإبرامها فأفاض فيها نداه وزاد على أمده ومداه وجملها بكثرة حبائه واستقل بأعبائها على فتائه ولم يزل فيها آمرا

وهيهات كم من ملك كفنوه في دمائه ودفنوه بذمائه وكم من عرش ثلوه وكم من عزيز ملك أذلوه إلى أن ثار فيها ابن عكاشة ليلا وجر إليها حربا وويلا فبرز الظافر منفردا عن كماته عاريا من حماته وسيفه في يمينه وهاديه في الظلماء نور جبينه فإنه كان غلاما قد بلله الشباب بأندائه وألحفه الحسن بردائه فدافعهم أكثر ليله وقد منع منه تلاحق رجله وخيله حتى أمكنتهم منه عثرة لم يقل لها لعا ولا استقال منها ولا سعى فترك ملتحفا في الظلماء تحت نجوم السماء معفرا في وسط أكماء تحرسه الكواكب بعد المواكب ويستره الحندس بعد السندس فمر بمصرعه سحرا أحد أئمة الجامع المغلسين فرآه وقد ذهب ما كان عليه ومضى وهو أعرى من الحسام المنتضى فخلع رداءه عن منكبيه ونضاه وستره به سترا أقنع المجد به وأرضاه وأصبح لا يعلم رب تلك الصنيعة ولا يعرف فتشكر له يده الرفيعة فكان المعتمد إذا تذكر صرعته وسعر الحزن لوعته رفع بالعويل نداءه وأنشد ولم أدر من ألقى عليه رداءه ولما كان من الغد حز رأسه ورفع على سن رمح وهو يشرق كنار على علم ويرشق نفس كل ناظر بألم فلما رمقته الأبصار وتحققته الحماة والأنصار رموا أسلحتهم وسووا للفرار

ثاره ونصب الحبائل لوقوع ابن عكاشة وعثاره وعدل عن تأبينه إلى البحث عن مفرقه وجبينه فلم تحفظ له فيه قافية ولا كلمة للوعته شافية إلا إشارته إليه في تأبين أخويه المأمون والراضي المقتولين في أول النائرة والفتنة الثائرة انتهى وقد رأيت أن أزيد على ما تقدم - مما قصدت جلبه في هذا الموضع - نبذة من كلام الفتح في ذكر منتزهات قرطبة وغيرها من بلاد الأندلس ووصف مجالس الأنس التي كانت بها مما تنشرح له الأنفس ووقع ذكر غير قرطبة والزهراء لهما تبعا ولا يخلو ذلك من عبرة بحال من جعل في اللهو مصيفا ومرتبعا ثم طواه الدهر طي السجل ومحا آثاره التي كانت تسمو وتجل وما قصدنا علم الله غير الاعتبار بهذه الأخبار لا الحث على الحرام وتسهيل القصد إليه والمرام والأعمال بالنيات والله سبحانه كفيل بفضله وكرمه ببلوغ الأمنيات وتعويضنا عن هذه النعم الفانيات بالنعم الباقيات السنيات وصف المتنزهات من موشحة ابن الوكيل 135 وصف المتنزهات من موشحة ابن الوكيل ومن أغرب ماوقفت عليه موشحة لابن الوكيل دخل فيها على أعجاز نونية ابن زيدون وهي غدا منادينا محكما فينا يقضي علينا الأسى لولا تأسينا بحر الهوى يغرق من فيه جهده عام وناره تحرق من هم أو قد هام وربما يقلق فتى عليه نام قد غير الأجسام

وعند ما قد جاد بالوصل أو قد كاد أضحى التنائي بديلا من تدانينا بحق ما بيني وبينكم إلا أقررتم عيني فتجمعوا الشملا فالعين بالبين بفقدكم أبلى جديد ما قد كان بالأهل والإخوان ومورد اللهو صاف من تصافينا يا جيرة بانت عن مغرم صب لعهده خانت من غير ما ذنب ما هكذا كانت عوائد العرب لا تحسبوا البعدا يغير العهدا إذ طالما غير النأي المحبينا يا نازلا بالبان بالشفع والوتر والنمل والفرقان والليل إذا يسر وسورة الرحمن والنحل والحجر هل حل في الأديان أن يقتل الظمآن من كان صرف الهوى والود يسقينا يا سائل القطر عرج على الوادي من ساكني بدر وقف بهم نادي عسى صبا تسري لمغرم صادي إن شئت تحيينا بلغ تحيتنا من لو على البعد حيا كان يحيينا وافت لنا أيام كأنها أعوام وكان لي أعوام كأنها أيام

تمر كالأحلام بالوصل لي لو دام والكأس مترعة حثت مشعشعة فينا الشمول وغنانا مغنينا وصف المتنزهات من رجع إلى ما يتعلق بقرطبة 136 وصف المتنزهات من رجع إلى ما يتعلق بقرطبة رجع إلى ما يتعلق بقرطبة - قال الوزير أبو بكر بن القبطرنة

بالحير ما عبست هناك غمامة إلا تضاحك إذخرا وجليلا يوما وليلا كان ذلك كله سحرا وهذا بكرة وأصيلا لا أدركت تلك الأهلة دهرها نقصا ولا تلك النجوم أفولا وصف حير الزجالي بقرطبة 137 وصف حير الزجالي بقرطبة قال أبو نصر الحير الذي ذكره هنا هو حير الزجالي خارج باب اليهود بقرطبة الذي يقول فيه أبو عامر بن شهيد لقد أطلعوا عند باب اليهو د شمسا أبى الحسن أن تكسفا تراه اليهود على بابها أميرا فتحسبه يوسفا وهذا الحير من أبدع المواضع وأجملها وأتمها حسنا

على قبره [ البسيط ] يا صاحبي قم فقد أطلنا أنحن طول المدى هجود فقال لي لن نقوم منها ما دام من فوقنا الصعيد تذكر كم ليلة نعمنا في ظلها والزمان عيد وكم سرورا همى علينا سحابه ثرة تجود فخيره مسرعا تقضى وشؤمه حاضر عتيد حصله كاتب حفيظ وضمه صادق شهيد يا ويلنا إن تنكبتنا رحمة من بطشه شديد يا رب عفوا فأنت مولى قصر في أمرك العبيد انتهى وصف المتنزهات من ترجمة بني القبطرنة 138

نصر في حقهم ما صورته هم للمجد كالأثافي وما منهم إلا موفور القوادم والخوافي إن ظهروا زهروا وإن تجمعوا تضوعوا وإن نطقوا صدقوا ماؤهم صفو وكل واحد منهم لصاحبه كفو أنارت بهم نجوم المعالي وشموسها ودانت لهم أرواحها ونفوسها ولهم النظام الصافي الزجاجة المضمحل العجاجة انتهى ثم قال وبات منهم أبو محمد مع أخويه في أيام صباه واستطابته جنوب الشباب وصباه بالمنية المسماة بالبديع وهو روض كان المتوكل يكلف بموافاته ويبتهج بحسن صفاته ويقطف رياحينه وزهره ويقف عليه إغفاءه وسهره ويستفزه الطرب متى ذكره وينتهز فرص الأنس فيه روحاته وبكره ويدير حمياه على ضفة نهره ويخلع سره فيه لطاعة جهره ومعه أخواه فطاردوا اللذات حتى

في رياض تعانق الزهر فيها مثل ما عانق الخليل الخليلا ثم استيقظ أخوهما أبو الحسن وقد هب من غفلة الوسن فقال [ البسيط ] يا صاحبي ذرا لومي ومعتبتي قم نصطبح خمرة من خير ما ذخروا وبادرا غفلة الأيام واغتنما فاليوم خمر ويبدو في غد خبر وساق صاحب البدائع هذه القصة فقال وذكر الفتح ما هذا معناه أنه خرج الوزراء بنو القبطرنة إلى المنية المسماة بالبديع وهو روض قد اخضرت مسارح نباته واخضلت مساري هباته ودمعت بالطل عيون أزهاره وذاب على زبرجده بلور أنهاره وتجمعت فيها المحاسن المتفرقة وأضحت مقل الحوادث عنه مطرقة فخيول النسيم تركض في ميادينه فلا تكبو ونصول السواقي تحسم أدواء الشجر فلا تنبو والزروع قد نقبت وجه الثرى وحجبت الأرض عن العيون فما تبصر ولا ترى وكان المتوكل بن الأفطس يعده غاية الأرب ويعده مشهدا للطرب ومدفعا للكرب فباتوا فيه ليلتهم يديرون لمع لهب يتمنون

كبيرهم أبو محمد مستعجلا وأنشد مرتجلا يا شقيقي - إلخ فانتبه أخوه أبو بكر لصوته وتخوف لذهاب ذلك الوقت وفوته وأنبه أخاهما أبا الحسن وهو يرتجل يا أخي قم تر النسيم - إلى آخره فانتبه أخوه لكلامه دافعا لذة منامه للذة قيامه وارتجل يا صاحبي ذرا - إلخ انتهى بين أبي بكر بن القبطرنة والوزير ابن اليسع 140 بين أبي بكر بن القبطرنة والوزير ابن اليسع قال الفتح ولما أمر المعتمد بن عباد أبا بكر بن القبطرنة السابق الذكر مع الوزير أبي الحسين بن سراج بلقاء ذي الوزارتين أبي الحسن بن اليسع القائد والمشي إليه والنزول عليه تنويها بمقدمه وتنبيها على حظوته لديه وتقدمه فصارا إلى بابه فوجداه مقفرا من حجابه فاستغربا خلوه من خول وظن كل واحد منهما وتأول ثم أجمعا على قرع الباب ورفع ذلك الارتياب فخرج وهو دهش وأشار إليهما بالتحية ويده ترتعش وأنزلهما خجلا ومشى بين أيديهما عجلا وأشار إلى شخص فتوارى بالحجاب وبارى الريح سرعة في الاحتجاب فقعدا ومقلة الخشف ترمق من خلال السجف فانصرفا عنه وعزما أن يكتبا إليه بما فهما منه فكتبا

فراجعهما في الحين بقطعة منها [ الهزج ] أيا أسفي على حال سلبت بها من الظرف ويا لهفي على جهلي بضيف كان من صنف ولأهل الأندلس في مغاني الأنس الحسان ما لا يفي به لسان وصف المتنزهات من ترجمة ابن حسداي 142 وصف المتنزهات من ترجمة ابن حسداي وقال الفتح في ترجمة الوزير أبي الفضل بن حسداي بعد كلام ما صورته فمنها هذه القطعة التي أطلعها نيرة وترك الألباب بها متحيرة في يوم كان عند المقتدر بالله مع علية قد اتخذوا المجد حلية والأمل قد سفر لهم عن محياه وعبق لهم عن رياه فصافحه الكل منهم وحياه وشمس الراح دائرة على فلك الراح والملك ينشر فضله وينصر وابله وطله يسدي العلاء ويهب الغنى والغناء فصدحت الغواني وأفصحت المثالث والمثاني بما استنزل من مرقب الوقار وسرى في النفوس مسرى العقار [ البسيط ] توريد خدك للأحداق لذات عليه من عنبر الأصداغ لامات نيران هجرك للعشاق نار لظى لكن وصلك إن واصلت جنات كأنما الراح والراحات تحملها بدور تم وأيدي الشرب هالات حشاشة ما تركنا الماء يقتلها إلا لتحيا بها منا حشاشات

قد كان في كأسها من قبلها ثقل فخف إذ ملئت منها الزجاجات عهد للبنى تقاضته

محلك أعزك الله في طي الجوانح ثابت وإن نزحت الدار وعيانك في أحناء الضلوع باد وإن شحط المزار فالنفس فائزة منك بتمثل الخطار بأوفر الحظ والعين نازعة إلى إن تمتع من لقائك بظفر اللحظ فلا عائدة أسبغ بردا ولا موهبة أسوغ وردا من تفضلك بالخفوف إلى مأنس يتم بمشاهدتك التئامه ويتصل بمحاضرتك انتظامه ولك فضل الإجمال

وقال ابن ظافر في وصف هذا المجلس حاذيا حذو الفتح ما صورته حضر الأستاذ أبو محمد بن السيد أبو محمد بن السيد عند المأمون ابن ذي النون في بعض منتزهاته في وقت طاب نعيمه وسرت بالسعود نجومه والروض قد أجاد وشيه راقمه والماء قد جرت بين الأعشاب أراقمه وثم بركة مملوة كأنها مرآة مجلوة قد اتخذت سباع الصفر

باطله ونفقت محالاته وطبقت أرضه وسماءه استحالاته فليثه كأسد وذئبه مستأسد وأضغاثه تنسر وبغاثه قد استنسر فلا استراحة إلا في معاطاة حميا ومواخاة وسم المحيا وقد كان ابن عمار ذهب مذهب وفضضه بالإبداع وذهبه حين دخل سرقسطة ورأى غباوة أهلها وتكاثف جهلها وشاهد منهم من لا يعلم معنى ولا فصلا وواصل من لا

حتى ترى زهر النجوم كأنها حول المجرة ربرب في مشرب والليل منفجر يطير غرابه والصبح يطرده بباز أشهب ثم قال الفتح بعد كلام كثير ما صورته ودخل - يعني ابن السيد - سرقسطة أيام المستعين وهي جنة الدنيا وفتنه المحيا ومنتهى الوصف وموقف السرور القصف ملك نمير البشاشة كثير الهشاشة وملك أبهج الفناء أرج الأرجاء يروق المجتلى ويفوق النجم المعتلى وحضرة منسابة الماء منجابة السماء يبسم زهرها

أناخت بنا في أرض شنتمرية هواجس ظن خان والظن خوان وشمنا بروقا للمواعيد أتعبت نواظرنا دهرا ولم يهم تهتان فسرنا وما نلوي على متعذر إذا وطن أقصاك آوتك أوطان ولا زاد إلا ما انتشته من الصبا أنوف وحازته من الماء أجفان رحلنا سوام الحمد منها لغيرها فلا ماؤها صدا ولا النبت سعدان إلى ملك حاباه بالمجد يوسف وشاد له البيت الرفيع سليمان إلى مستعين بالإله مؤيد له النصر حزب والمقادير

فيا مستعينا مستغاثا لمن نبا به وطن يوما وعضته أزمان كسوتك من نظمي قلادة مفخر يباهي بها جيد المعالي ويزدان وإن قصرت عما لبست فربما تجاور در في النظام ومرجان معان حكت غنج الحسان كأنني بهن حبيب أو بطليوس بغدان إذا غرست كفاك غرس مكارم بأرضي أحنتك الثنا منه أغصان وقال في وصف مجلس لأبي عيسى بن لبون أحضر إليه ابن السيد منوها بقدره ما صورته وأحضره إلى مجلس نام عنه الدهر وغفل وقام لفرط أنسه واحتفل قد بانت صروفه ودنت من الزائر قطوفه وقال هل بنا إلى

إليه المسرات أبكارها وفارقت إليه الطير أوكارها فقال يصف [ الزجر ] لم تر عيني مثله ولا ترى أنفس في نفسي وأبهى منظرا إذا تردى وشيه المصورا من حوك صنعاء وحوك عبقرا ونسج قرقوب ونسج تسترا خلت الربيع الطلق فيه نورا كأنما الإبريق حين قرقرا قد أم لثم الكأس حين فغرا وحشية ظلت تناغي جؤذرا ترضعه الدر ويرنو حذرا كأنما مج عقيقا أحمرا أوفت من رياه مسكا أذفرا أو عابد الرحمن يوما ذكرا فنم مسكا ذكره وعنبرا الظافر الملك الذي من ظفرا بقربه نال العلاء الأكبرا لو أن كسرى راءه أو قيصرا هلل إكبارا له وكبرا تبدي سماء الملك منه قمرا إذا حجاب المجد عنه سفرا يا أيها المنضي المطايا بالسرى تبغى غمام المكرمات الممطرا وصف المتنزهات من ترجمة ابن العطار 149 وصف المتنزهات من ترجمة ابن العطار وقال الفتح في ترجمة الأديب أبي القاسم بن العطار ما صورته هو أحد أدباء إشبيلية ونحاتها العامرين لأرجاء المعارف وساحاتها لولا مواصلة راحاته وتعطيل بكره

زهر ولا يحفل بملام ولا يتنقل إلا في طاعة غلام ناهيك من رجل مخلوع العنان في ميدان الصبابة مغرم بالحسان غرام يزيد بحبابة لا تراه إلا في ذمة انهماك ولا تلقاه إلا في لمة انهتاك رافعا لرايات الهوى فارعا لثنيات الجوى لا يقفر فؤاده من كلف ولا يبيت إلا رهن تلف أكثر خلق الله تعالى علاقة وأحضرهم لمشهد خلاقة مع جزالة تحرك السكون وتضحك الطير في الوكون وقد أثبت له مما ارتجله في أوقات أنسه وساعاته ونفث به أثناء زفراته ولوعاته فمن ذلك ما قاله في يوم ركب فيه النهر على عادات انكشافه وارتضاعه لثغور اللذات وارتشافه [ الطويل ] عبرنا سماء النهر والجو مشرق وليس لنا إلا الحباب نجوم وقد ألبسته الأيك برد ظلالها وللشمس في تلك البرود رقوم وله فيه [ الطويل ] مررنا بشاطي النهر بين حدائق بها حدق الأزهار تستوقف الحدق وقد نسجت كف النسيم مفاضة عليه وما غير الحباب لها حلق وله [ الخفيف ] هبت الريح بالعشي فحاكت زردا للغدير ناهيك جنه وانجلى البدر بعد هدء فصاغت كفه للقتال منه أسنه

وقوله [ الكامل ] لله بهجة منزه ضربت به فوق الغدير رواقها الأنسام فمع الأصيل النهر درع سابغ ومع الضحى يلتاح منه حسام وله [ الكامل ] ما كالعشية في

ومستعجم لا يبين ولا يوضح متنمر تنمر الليث متشمر كالبطل الفارس عند العيث وقد أفاض على نفسه درعا تضيق بها الأسنة ذرعا وهو يريد استشارة المؤتمن في التوجه إلى موضع بعثه إليه ووجهه وكل من صده عنه نهره ونجهه حتى وصل إلى مكان انفراده ووقف بإزاء وساده فلما وقعت عين ابن عمار عليه أشار بيده إليه وقربه واستدناه وضمه إليه كأنه تبناه وأراد أن يخلع عنه ذلك الغدير وأن يكون هو الساقي والمدير فأمره المؤتمن بخلعه وطاعة أمره وسمعه فنضاه عن جسمه وقام يسقي على

وأورد هذه القصة صاحب البدائع بقوله حضر أبو المطرف بن عبد العزيز عند المؤتمن بن هود في يوم أجرى الجو فيه أشقر برقه ورمى بنبل ودقه وتحملت الرياح فيه أوقار السحاب على أعناقها وتمايلت قامات الأغصان في الحلل الخضر من أوراقها والرياح قد أشرقت نجومها في بروج الراح وحاكت شمسها شمس الأفق فتلفعت بغيوم الأقداح ومديرها قد ذاب ظرفا فكاد يسيل من إهابه وأخجل خدها حسنا فتظلل بعرق حبابه إذا بفتى رومي من فتيان المؤتمن قد أقبل متدرعا كالبدر اجتاب سحابا والخمر قد اكتست حبابا وقد جاء يريد استشارة المؤتمن في الخروج إلى موضع قد كان عول

إياك بادرة الوغى من فارس ما صورته يضع السنان على العذار الأملس ولابن عمار الرائية المشهورة في مدح المعتضد عباد والد المعتمد وهي [ الكامل ] أدر المدامة فالنسيم قد انبرى والنجم قد صرف العنان عن السرى والصبح قد أهدى لنا كافوره لما استرد الليل منا العنبرا والروض كالحسنا كساه زهره وشيا وقلده نداه جوهرا أو كالغلام زها بورد خدوده خجلا وتاه بآسهن معذرا روض كأن النهر فيه معصم صاف أطل على رداء أخضرا وتهزه ريح الصبا فتخاله سيف ابن عباد يبدد عسكرا عباد المخضر نائل كفه والجو قد لبس الرداء الأغبرا ملك إذا ازدحم الملوك بمورد ونحاه لا يردون حتى يصدرا أندى على الأكباد من قطر الندى وألذ في الأجفان من سنة الكرى يختار إذ يهب الخريدة كاعبا والطرف أجرد والحسام مجوهرا قداح زند المجد لا ينفك من نار الوغى إلا إلى نار القرى لا خلق أفرى من شفار حسامه إن كنت شبهت المواكب أسطرا أيقنت أني من ذراه بجنة لما سقاني من نداه الكوثرا وعلمت حقا

قاد الكتائب كالكواكب فوقهم من لأمهم مثل السحاب كنهورا من كل أبيض قد تقلد أبيضا عضبا وأسمر قد تقلد أسمرا ملك يروقك خلقه أو خلقه كالروض يحسن منظرا أو مخبرا أقسمت باسم الفضل حتى شمته فرأيته في بردتيه مصورا وجهلت معنى الجود حتى زرته فقرأته في راحتيه مفسرا فاح الثرى متعطرا بثنائه حتى حسبنا كل ترب عنبرا وتتوجت بالزهر صلع هضابه حتى ظننا كل هضب قيصرا هصرت يدي غصن الغنى من كفه وجنت به روض السرور منورا حسبي على الصنع الذي أولاه أن أسعى بجد أو أموت فأعذرا يا أيها الملك الذي حاز العلا وحباه منه بمثل حمدي أنورا السيف أفصح من زياد خطبة في الحرب إن كانت يمينك منبرا ما زلت تغني من عنا لك راجيا نيلا وتفني من عتا وتجبرا حتى حللت من الرياسة محجرا رحبا وضمت منك طرفا أحورا شقيت بسيفك أمة لم تعتقد إلا اليهود وإن تسمت بربرا أثمرت رمحك من رؤوس ملوكهم لما رأيت الغصن يعشق مثمرا وصبغت درعك من دماء كماتهم لما علمت الحسن يلبس أحمرا وإليكها كالروض زارته الصبا وحنا عليه الظل حتى نورا نمقتها وشيا بذكرك مذهبا وفتقتها مسكا بحمدك أذفرا من ذا ينافحني وذكرك مندل أوردته من نار فكري

من ترجمة ابن وهبون وقال في ترجمة عبد الجليل بن وهبون المرسي ركب بإشبيلية زورقا في نهرها الذي لا تدانيه الصراة ولا يضاهيه الفرات في ليلة تنقبت في ظلمتها ولم يبد وضح في دهمتها وبين أيديهم شمعتان قد انعكس شعاعهما في اللجة وزاد في تلك البهجة فقال [ المنسرح ] كأنما الشمعتان إذ سمتا خدا غلام محسن الغيد وفي حشا النهر من شعاعهما طريق نار الهوى إلى كبدي وكان معه غلام البكري معاطيا للراح وجاريا في ميدان ذلك المراح فلما جاء عبد الجليل بما جاء وحلى للإبداع الجوانب والأرجاء حسده على ذلك الارتجال وقال بين البطء والاستعجال [ الكامل ] أعجب بمنظر ليلة ليلاء تجنى بها اللذات فوق الماء في زورق يزهو بغرة أغيد يختال مثل البانة الغيناء قرنت يداه الشمعتين بوجهه كالبدر بين النسر والجوزاء والتاح تحت الماء ضوء جبينه كالبرق يخفق في غمام سماء وصف الفتح لمجلس أنس بمنية المنصور 154 وصف الفتح لمجلس أنس بمنية المنصور وقال الفتح رحمه الله دعيت يوما إلى منية المنصور بن أبي عامر ببلنسية

وهي منتهى الجمال ومزهى الصبا والشمال على وهي بنائها وسكنى الحوادث برهة بفنائها فوافيتها والصبح قد ألبسها قميصه والحسن قد شرح بها عويصه وبوسطها

منتزهنا بالأمس وما لقينا فيه من الأنس فقال لي ما بهجة موضع قد بان قطينه وذهب وسلب الزمان بهجته وانتهب وباد فلم يبق إلا رسمه ومحاه الحدثان فما كاد يلوح رسمه عهدي به عند ما فرغ من تشييده وتنوهي في تنسيقه وتنضيده وقد استدعاني

مرتشف ولا زال للمجد يتملكه والسعد يحمله فلكه أما وقد وافقتني أيامه

علينا قادم وخدود سقاتها قد اكتست من سناها وقدودهم تتهيل علينا بجناها ونحن بين سكر وصحو وإثبات لها ومحو وإصاخة إلى بم وزير والتفاتة إلى ملك ووزير إلى أن ولى النهار فحيانا وأقبل الليل المميت فأحيانا فوصلنا بلهو وقصف وعيش يتجاوز كل وصف فكأن يومنا مقيم أو كأن ليلنا من الظلام عقيم ولما سل الفجر حسامه وأبدى لعبوس الليل ابتسامه وجاء يختال اختيالا ويمحو من بقايا الليل نيالا قمنا نتنادب للمسير وكلنا في يد النشوة أسير فسرنا والملك الأجل يقدمنا والأيام تخدمنا فلا زالت الأيام به زاهية وعن سواه لاهية ما عمر وكرا عقاب وكان للشهور غرر وأعقاب انتهى وصف المتنزهات من ترجمة الراضي بالله بن عباد 157 وصف المتنزهات من ترجمة الراضي بالله بن عباد وقال الفتح في ترجمة الراضي بالله أبي خالد يزيد بن المعتمد بن عباد بعد كلام ما صورته وأخبرني المعتد بالله أن أباه المعتمد وجهه - يعني أخاه الراضي - إلى شلب واليا وكانت ملعب شبابه ومألف أحبابه

الشباب كمائمه وكان يعتدها مشتهى آماله ومنتهى أعماله إلى بهجة جنباتها وطيب نفحاتها وهباتها والتفاف خمائلها وتقلدها بنهرها مكان حمائلها وفيها يقول ابن اللبانة [ الطويل ] أما علم المعتد بالله أنني بحضرته في جنة شقها نهر وما هو نهر أعشب النبت حوله ولكنه سيف حمائله خضر فلما صدر عنها وقد حسنت آثاره في تدبيرها وانسدلت رعايته على صغيرها وكبيرها نزل المعتمد عليه مشرفا لأوبته ومعرفا بسمو قدره لديه ورتبته وأقام يومه عنده مستريحا وجرى في ميدان الأنس بطلا مشيحا وكان واجدا على الراضي فجلت الحميا أفقه ومحت غيظه عليه وحنقه وصورته له عين حنوه وذكرته بعده فجنح إلى دنوه وبين ما استدعى وأوفى مالت بالمعتمد نشوته وأغفى وألقاه صريعا في منتداه طريحا في منتهى مداه فأقام تجاهه يرتقب انتباهه وفي أثناء ذلك صنع شعرا أتقنه وجوده فلما استيقظ أنشده [ المتقارب ] ألآن تعود

فمثلك - وهو الذي لم نجد ه عاد بحلم على من جهل وصف المتنزهات من ترجمة المتوكل على الله بن الأفطس 158 وصف المتنزهات من ترجمة المتوكل على الله بن الأفطس وقال في ترجمة المتوكل على الله ابن الأفطس ما صورته وأخبرني الوزير أبو محمد بن عبدون أن الأرض توالى عليها الجدب بحضرته حتى جفت مذانبها واغبرت جوانبها وغرد المكاء في غير روضه وخاض الياس بالناس أعظم خوضه وأبدت الخمائل عبوسها وشكت الأرض للسماء بوسها فأقلع المتوكل عن الشرب واللهو ونزع ملابس الخيلاء والزهو وأظهر الخشوع وأكثر السجود والركوع إلى أن غيم الجو وانسجم النو وصاب الغمام وتزنمت الحمام وسفرت الأنوار وزهت النجود والأغوار واتفق أن وصل أبو يوسف المغني والأرض قد لبست زخارفها ورقم الغمام مطارفها وتتوجت الغيطان والربا وأرجت نفحات الصبا والمتوكل ما فض لتوبته ختاما ولا قوض عن قلبه منها خياما فكتب إليه [ المتقارب ] ألم أبو يوسف والمطر فياليت شعري ما ينتظر ولست

وركضي فيها جياد المدام محثوثة بسياط الوتر فبعث إليه مركوبا وكتب معه [ المتقارب ] بعثت إليك جناحا فطر على خفية من عيون البشر على ذلل من نتاج البروق وفي ظلل من نسيج الشجر فحسبي ممن نأى من دنا ومن غاب كان فدى من حضر فوصل القصبة المطلة على البطحاء المزرية بمنازل الروحاء فأقام منها حيث قال عدي بن زيد يصف صنعاء [ الكامل ] في قباب حول دسكرة حولها الزيتون قد ينعا ومر لهم من السرور يوم ما مر لذي رعين ولا تصور قبل عيونهم لعين وأخبرني أنه سايره إلى شنترين قاصية أرض الإسلام السامية الذرا والأعلام التي لا يروعها صرف ولا يفزعها طرف لأنها متوعرة المراقى معقرة للراقي متمكنة الرواسي والقواعد من ضفة نهر استدار بها استدارة القلب بالساعد قد أطلت على خمائلها إطلال العروس من منصتها واقتطعت من الجو أكثر من حصتها فمروا بألبش قطر سالت به جداوله واختالت فيه خمائله فما يجول الطرف منه إلا في حديقة

أو بقعة أنيقة فتلقاهم ابن مقانا قاضي حضرته وأنزلهم عنده وأورى لهم بالمبرة زنده وقدم لهم طعاما واعتقد قبوله منا وإنعاما وعندما طعموا قعد القاضي بباب المجلس رقيبا لا يبرح وعين المتوكل حياء منه لا تجول ولا تمرح فخرج أبو محمد

في بعض أيامه بروض مفتر المباسم معطر الرياح النواسم قد صقل الربيع حوذانه وأنطق بلبله وورشانه وألحف غصونه برودا مخضرة وجعل إشراقه للشمس ضرة وأزاهره تتيه على الكواكب وتختال في خلع الغمائم السواكب فارتاح إلى الكون به بقية

والفصول فقال أحد الحاضرين إني لأعجب من قعود ابن عمار عن هذا المضمار مع ميله إلى السماع وكلفه بمثل هذا الاجتماع فقال ذو الرياستين إن الجواب تعذر فلذا اعتذر لأنه يعاني قوله ويعلله ويرويه ولا يرتجله ويقوله في المدة والساعات

مرينا نداك الغمر فانهل صيبا كما سكبت وطفاء أو سكب البحر وجاء الربيع الطلق يبدي غضارة فحيتك منه الشمس والروض والنهر إلى أن قال ثم وجه فيه إلى روضة قد أرجت نفحاتها وتدبجت ساحاتها وتفتحت كمائمها وأفصحت حمائمها وتجردت جداولها كالبواتر ورمقت أزهارها بعيون فواتر وأقاموا يعملون أكواسهم ويشتملون

من كل ثنية ويواصلهم بكل أمنية فسكر أحد الحاضرين سكرا مثل له ميدان الحرب وسهل عليه مستوعر الطعن والضرب فقلب مجلس الأنس حربا وقتالا وطلب الطعن وحده والنزالا فقال ذو الرياستين نفس الذليل تعز بالجريال فيقاتل الأقران دون قتال كم من جبان ذي افتخار باطل بالراح تحسبه من الأبطال كبش الندي تخمطا وعرامة وإذا تشب الحرب شاة نزال وصف المتنزهات من ترجمة ابن طاهر 163 وصف المتنزهات من ترجمة ابن طاهر وقال في ترجمة ابن طاهر ما صورته وجئته يوما وقد وقفت بباب الحنش فقال لي من أين فأعلمته ووصفت له ما عاينته من حسنه وتأملته فقال لي

به المكانس وفي أذنيه قرطان كأنهما كوكبان وهو يتأود تأود غصن البان والمتنبي يقول [ الرمل ] معشر الناس بباب الحنش بدر تم طالع في غبش علق القرط على مسمعه من عليه آفة العين خشي فلما رآني أمسك وسبح كأنه قد تنسك وصف المتنزهات من ترجمة ابن عمار 163 وصف المتنزهات من ترجمة ابن عمار وقال في ترجمة ابن عمار ما صورته وتنزه بالدمشق بقرطبة وهو قصر شيده بنو أمية بالصفاح والعمد وجروا من إتقانه إلى غاية وأمد وأبدع بناؤه ونمقت ساحته وفناؤه واتخذوه ميدان مراحهم ومضمارا لانشراحهم وحكوا به قصرهم بالمشرق وأطلعوه كالكوكب الثاقب المشرق فحله أبو بكر بن عمار على أثر بوسه وابتسم له دهره بعد عبوسه والدنيا قد أعطته عفوها وسقته صفوها وبات فيه مع لمة من أتباعه ومتفيئي رباعه وكلهم يحييه بكاس ويفديه

عنه وصرفوه وأجروه على إرادتهم وصرفوه وذهبوا سقفه وفضضوها ورخموا أرضه وروضوها فبات به والسعد يلحظه بطرفه والروض يحييه بعرفه فلما استنفد كافور الصباح مسك الغسق ورصع آبنوس الظلام نضار الشفق قال مرتجلا كل قصر بعد الدمشق يذم إلخ انتهى وصف المتنزهات من ترجمة أبي عيسى بن لبون 164 وصف المتنزهات من ترجمة أبي عيسى بن لبون وقال في ترجمة ذي الوزارتين أبي عيسى بن لبون أخبرني الوزير أبو عامر بن الطويل أنه كان بقصر مربيطر بالمجلس الشرقي منها والبطحاء قد لبست زخرفها ودبج الغمام مطرفها وفيها حدائق ترنو عن مقل نرجسها وتبث طيب تنفسها والجلنار قد لبس أردية الدماء وراع أفئدة الندماء فقال [ الكامل ] قم يا نديم أدر علي القرقفا أو ما ترى زهر الرياض مفوفا فتخال محبوبا مدلا وردها وتظن نرجسها محبا مدنفا والجلنار دماء قتلى معرك والياسمين حباب ماء قد طفا إلى

لو كنت تشهد يا هذا عشيتنا والمزن يسكب أحيانا وينحدر والأرض مصفرة بالشمس كاسية أبصرت تبرا عليه الدر ينتثر وترجمة أبي بكر بن رحيم الجزء 1 وصف المتنزهات من ترجمة ابن مالك 166 وصف المتنزهات من ترجمة ابن مالك وقال في ترجمة الوزير أبي محمد بن مالك بعد كلام له فيه وإنشاده بيتيه

البديعين اللذين هما [ الخفيف ] لا تلمني بأن طربت لشجو يبعث الأنس فالكريم طروب ليس شق الجيوب حقا علينا إنما الشأن أن تشق القلوب ما صورته وخرجت من إشبيلية مشيعا لأحد زعماء المرابطين فألفيته معه مسايرا له في جملة من شيعه فلما انصرفنا مال بنا إلى معرس أمير المسلمين أدام الله تعالى تأييده الذي ينزله عند حلوله بإشبيلية وهو موضع مستبدع كأن الحسن فيه مودع ما شئت من نهر ينساب انسياب الأراقم وروض كما وشت البرد يد راقم وزهر يحسد المسك رياه ويتمنى الصبح أن يسم به محياه فقطف غلام وسيم من غلمانه نورة ومد يده إلي وهي في كفه فعزم على أن أقول بيتا في وصفه فقلت [ الطويل ] وبدر بدا والطرف مطلع حسنه وفي كفه من رائق النور كوكب

ومعنا الوزير أبو محمد بن مالك وجماعة من أعيان تلك الممالك فحللنا بضيعة لم ينحت المحل أثلها ولم ترمق العيون مثلها وجلنا بها في أكناف جنات ألفاف فما شئت من دوحة لفاء وغصن يميس كمعطفي هيفاء وماء يناسب في جداوله وزهر يضمخ بالمسك راحة متناوله ولما قضينا من تلك الحدائق أربا وافتنا منها أترابا عربا ملنا إلى موضع المقيل ونزلنا بمنازه تزري بمنازه جذيمة مع مالك وعقيل وعند وصولنا بدا لي من أحد الأصحاب تقصير في المبرة عرض لي منه تكدير لتلك العين الثرة فأظهرت التثاقل أكثر ذلك اليوم ثم عدلت عنهم إلى الاضطجاع والنوم فما استيقظت إلا والسماء قد نسخ صحوها وغيم جوها والغمام منهمل والثرى من سقياه ثمل فبسطني بتحفيه وأبهجني يبر له لم يزل يتمه ويوفيه وأنشدني [ البسيط ] يوم تجهم فيه الأفق وانتثرت مدامع الغيث في خد الثرى هملا رأى وجومك فاربدت طلاقته مضاهيا لك

حضرة غرناطة فحللنا قرية على ضفة نهر أحسن من شاذمهر تشقها جداول كالصلال ولا ترمقها الشمس من تكاثف الظلال ومعنا جملة من أعيانها فأحضرنا من أنواع الطعام وأرانا من فرط الإكرام والإنعام ما لا يطاق ولا يحلو ويقصر عن بعضه العد وفي أثناء مقامنا بدا لي من ذلك الفتى المذكور ما أنكرته فقابلته بكلام اعتقده وملام أحقده فلما كان من الغد لقيت منه اجتنابه ولم أر منه ما عهدته من الإنابة فكتبت إليه مداعبا فراجعني بهذه القطعة [ الطويل ] أتتني أبا نصر نتيجة خاطر سريع كرجع الطرف في الخطرات فأعربت عن وجد كمين طويته بأهيف طاو فاتر اللحظات غزال أحم المقلتين عرفته بخيف منى للحين أو عرفات رماك فأصمى والقلوب زمية لكل كحيل الطرف ذي فتكات وظن بأن القلب منك محصب فلباك من عينيه بالجمرات تقرب بالنساك في كل منسك وضحى غداة النحر بالمهجات وكانت له جيان مثوى فأصبحت ضلوعك مثواه بكل فلاة يعز علينا أن تهيم فتنطوي كئيبا على الأشجان والزفرات فلو قبلت للناس

بعقب سيل أعاد الديار آثارا وقضى عليها وهيا وانتثارا [ الطويل ] ألا عرس الإخوان في ساحة البلى وما رفعوا غير القبور قبابا فدمع كما سح الغمام ولوعة كما أضرمت ريح الشمال شهابا إذا استوقفتني في الديار عشية تلذذت فيها جيأة وذهابا أكر بطرفي في معاهد فتية ثكلتهم بيض الوجوه شبابا فطال وقوفي بين وجد وفرقة أنادي رسوما لا تحير جوابا وأمحوا جميل الصبر طورا بعبرة أخط بها في صفحتي كتابا وقد درست أجسامهم وديارهم فلم أر إلا أعظما ويبابا وحسبي شجوا أن أرى الدار بلقعا خلاء وأشلاء الصديق ترابا ولقد أحلني بهذه الديار المندوبة وهي كعهدها في جودة مبناها وعودة سناها في ليلة اكتحلنا ظلامها إثمدا ومحونا بها من نفوسنا كمدا ولم يزل ذلك الأنس يبسطه والسرور ينشطه حتى نشر لي ما طواه وبث مكتوم لوعته وجواه وأعلمني بلياليه فيها مع أترابه وما قضى بها من أطرابه انتهى ما وقع عليه اختياري من كلام أبي نصر الفتح بن عبيد الله رحمه الله تعالى في وصف بعض منتزهات الأندلس البديعة ورياضها المونقة المريعة وصف المتنزهات

من ترجمة ابن عطية 169 وصف المتنزهات من ترجمة ابن عطية وقال رحمه الله تعالى في ترجمة الفقيه القاضي الحافظ أبي محمد عبد الحق بن عطية صاحب التفسير الشهير بعد كلام كثير ما صورته ومررنا في إحدى نزهنا بمكان مقفر وعن المحاسن مسفر وفيه بكير نرجس كأنه عيون مراض يسيل وسطه ماء رضراض بحيث لا حس إلا للهام ولا أنس إلا ما يتعرض للأوهام فقال [ الرمل ] نرجس باكرت منه روضة لذ قطع الدهر فيها وعذب حثت الريح بها خمر حيا رقص النبت لها ثم شرب

فغدا يسفر عن وجنته نوره الغض ويهتز طرب خلت لمع الشمس في مشرقه لهبا يخمد منه في لهب وبياض الطل في صفرته نقط الفضة في خط الذهب وسيأتي إن شاء الله تعالى كثير من وصف بلاد الأندلس ومنتزهاتها وما اشتملت عليه من المحاسن في كلام غير واحد ممن يجري ذكره في هذا الكتاب وخصوصا أديب زمانه غير مدافع من اعترف له أهل الشرق بالسبق وأهل المغرب بالإبداع المغرب النور أبو الحسن علي بن سعيد العنسي فإنه لما اتصل بمصر ودخلها اشتاق إلى تلك المواطن الأندلسية الرائقة ووصفها بالقصائد والمقطوعات الفائقة وقد أسلفنا أيضا فيما مر من هذا الكتاب بعض ما يتعلق بمحاسن الأندلس فليراجع في محله من هذا الكتاب وصف المتنزهات من ترجمة

ما مثاله وهذه كنت لو خيرت أختار وكذا رأيت بخط الحافظ التنسي والأول رأيته بخط العلامة الوانشريشي رحمهما الله تعالى ! وحكي أن الخليلي لما قدم من الأندلس رسولا إلى سلطان المغرب أبي عنان فارس ابن السلطان أبي الحسن المريني أنشد بحضرة السلطان المذكور أبيات ابن خفاجة هذه كالمفتخر ببلاد الأندلس فقال السلطان أبو عنان كذب هذا الشاعر يشير إلى كونه جعلها جنة الخلد وأنه لو خير لاختارها على ما في الآخرة وهذا خروج من ربقة الدين ولا أقل من الكذب والإغراق وإن جرت عادة الشعراء بذلك الإطلاق فقال الخليلي يا مولانا بل صدق الشاعر لأنها موطن جهاد ومقارعة للعدو وجلاد والنبي صلى الله عليه و سلم الرؤوف الودود الرحيم العطوف يقول الجنة تحت ظلال السيوف فاستحسن منه هذا الكلام ورفع عن قائل الأبيات الملام

وكمامة حدر الصباح قناعها عن صفحة تندى من الأزهار في أبطح رضعت ثغور أقاحه أخلاف كل غمامة مدرار نثرت بحجر الأرض فيه يد الصبا درر الندى ودراهم النوار وقد ارتدى غصن النقا وتقلدت حلي الحباب سوالف الأنهار فحللت حيث الماء صفحة ضاحك جذل وحيث الشط بدء عذار والريح تنفض بكرة لمم الربا والطل ينضح أوجه الأشجار متقسم الألحاظ بين محاسن من ردف رابية وخضر قرار وأراكة سجع الهديل بفرعها والصبح يسفر عن جبين نهار هزت له أعطافها ولربما خلعت عليه ملاءة الأنوار وقوله [ الكامل ] سقيا ليوم قد أنخت بسرحة ريا تلاعبها الرياح فتلعب سكرى يغنيها الحمام فتنثني طربا ويسقيها الغمام فتشرب يلهو فترفع للشبيبة راية فيه ويطلع للبهارة كوكب والروض وجه أزهر والظل فر ع أسود والماء ثغر أشنب في حيث أطربنا الحمام عشية فشدا يغنينا الحمام المطرب واهتز عطف الغصن من طرب بنا وافتر عن ثغر الهلال المغرب فكأنه والحسن مقترن به طوق على برد الغمامة مذهب في فتية تسري فينصدع

سمح الخيال على النوى بمزار والصبح يمسح عن جبين نهار فرفعت من ناري لضيف طارق يعشو إليها من خيال طاري ركب الدجى أحسن به من مركب وطوى السرى أحسن به من ساري وأناخ حيث دموع عيني منهل يروي وحيث حشاي موقد نار وسقى فأروى غلة من ناهل أورى بجانحتيه زند أوار يلوي الضلوع من الولوع لخطرة من شيم برق أو شميم عرار والليل قد نضح الندى سرباله فانهل دمع الطل فوق صدار مترقب رسل الرياح عشية بمساقط الأنواء والأنوار ومجر ذيل غمامة لبست به وشي الحباب معاطف الأنهار خفقت ظلال الأيك فيه ذوائبا وارتج ردفا مائج التيار ولوى القضيب هناك جيدا أتلعا قد قبلته مباسم النوار باكرته والغيم قطعة عنبر مشبوبة والبرق لفحة نار والريح تلطم فيه أرداف الربا لعبا وتلثم أوجه الأزهار ومنابر الأشجار قد قامت بها خطباء مفصحة من الأطيار في فتية جنبوا العجاجة ليلة ولربما سفروا عن الأقمار ثار القتام بهم دخانا وارتمى زند الحفيظة منهم بشرار شاهدت من هيئاتهم وهباتهم إشراف أطواد وفيض بحار من كل منتقب بوردة خجلة كرما ومشتمل بثوب وقار في عمة خلعت عليه للمة وذؤابة قرنت بها لعذار ضافي رداء المجد طماح العلا طامي

جرار أذيال المعالي والقنا حامي الحقيقة والحمى والجار طرد القنيص بكل قيد طريدة زجل الجناح مورد الأظفار ملتفة أعطافه بحبيرة مكحولة أجفانه بنضار يرمى به الأمل القصي فينثني مخضوب مرأى الظفر والمنقار وبكل نائي الشوط أشدق أخزر طاوي الحشى حالي المقلد ضاري يفتر عن مثل النصال وإنما يمشي على مثل القنا الخطار مستقريا أثر القنيص على الصفا والليل مشتمل بشملة قار من كل مسود تلهب طرفه ترميك فحمته بشعلة نار ومورس السربال يخلع قيده عن نجم رجم في سماء غبار يستن في سطر الطريق وقد عفا قدما فتقرأ أحرف الآثار عطف الضمور سراته فكأنه والنقع يحجبه هلال سرار ولرب رواغ هنالك أنبط ذلق المسامع أطلس الأطمار يجري على حذر فيجمع بسطه يهوي فينعطف انعطاف سوار ممتد حبل الشاو يعسل رائغا فيكاد يفلت أيدي الأقدار متردد يرمي به خوف الردى كرة تهادتها أكف قفار ولرب طيار خفيف قد جرى فشلا بجار خلفه طيار من كل قاصرة الخطا مختالة مشي الفتاة تجر فضل إزار مخضوبة المنقار تحسب أنها كرعت على ظمإ بكأس عقار ولو استجارت منهما بحمى أبي يحيى لأمنها أعز جوار خدم القضاء مراده فكأنما ملكت يداه أعنة الأقدار وعنا الزمان لأمره فكأنما أصغى الزمان به إلى أمار وجلا الإمارة في رفيف نضارة جلت الدجى في حلة الأنوار

والماء في حلي الحباب مقلد زرت عليه جيوبها الأشجار وقال ملتزما ما لا يلزم [ الكامل ] خذها إليك وإنها لنضيرة طرأت إليك قليلة النظراء حملت وحسبك بهجة من نفحة عبق العروس وخجلة العذراء من كل وارسة القميص كأنما نشأت تعل

يا رب وضاح الجبين كأنما رسم العذار بصفحتيه كتاب تغرى بطلعته العيون مهابة وتبيت تعشق عقله الألباب خلعت عليه من الصباح غلالة تندى ومن شفق المساء نقاب فكرعت من ماء الصبا في منهل قد شف عنه من القميص سراب في حيث للريح الرخاء تنفس أرج وللماء الفرات عباب ولرب غض الجسم مد بحوضه سبحا كما شق السماء شهاب ولقد أنخت بشاطئيه يهزني طربا شباب راقني وشراب وبكيت دجلته يضاحكني بها مرحا حبيب شاقني وحباب تجلى من الدنيا عروس بيننا حسناء ترشف والمدام رضاب ثم ارتحلت وللنهار ذؤابة شيباء تخضب والنهار خضاب تلوي معاطفي الصبابة والصبا والليل دون الكاشحين حجاب وقال [ البسيط ] مر بنا وهو بدر تم يسحب من ذيله سحابا بقامة تنثني قضيبا وغرة تلتظي شهابا يقرأ والليل مدلهم لنور إجلائه كتابا ورب ليل شهرت فيه أزجر من جنحه غرابا حتى إذا الليل مال سكرا وشق سرباله وجابا

وحام من سدفه غراب طالت به سنه فشابا ازددت من لوعتي خبالا فحث من غلتي شرابا وما خطا قادما فوافى حتى انثنى ناكصا فآبا وبين جفني بحر شوق يعب في وجنتي عبابا قد شب في وجهه شعاع وشب في قلبي التهابا وروضة طلقة حياء غناء مخضرة جنابا ينجاب عن نورها كمام يحط عن وجهه نقابا بات بها مبسم الأقاحي يرشف من طلها رضابا ومن خفوق البروق فيها ألوية حمرت خضابا كأنهاأنمل وراد تحصر قطر الحيا حسابا وله أيضا [ البسيط ] رحلت عنكم ولي فؤاد تنقض أضلاعه حنينا أجود فيكم بعلق دمع كنت به قبلكم ضنينا يثور في وجنتي جيشا وكان في جفنه كمينا كأنني بعدكم شمال قد فارقت منكم يمينا وقال [ الطويل ] فيا لشجا قلب من الصبر فارغ ويا لقذى طرف من الدمع ملآن ونفس إلى جو الكنيسة صبة وقلب إلى أفق الجزيرة حنان

تعوضت من واها بآه ومن هوى بهون ومن إخوان صدق بخوان وما كل بيضاء تروق بشحمة وما كل مرعى ترتعيه بسعدان فيا ليت شعري هل لدهري عطفة فتجمع أوطاري علي وأوطاني ميادين أوطاري ولذة لذتي ومنشأ تهيامي وملعب غزلاني كأن لم يصلني فيه ظبي يقوم لي لماه وصدغاه براحي وريحاني فسقيا لواديهم وإن كنت إنما أبيت لذكراه بغلة ظمآن فكم يوم لهو قد أدرنا بأفقه نجوم كؤوس بين أقمار ندمان وللقضب والأطيار ملهى بجزعه فما شئت من رقص على رجع ألحان وبالحضرة الغراء غر علقته فأحببت

ونقلي أقاح الثغر أو سوسن الطلى ونرجسه الأجفان أو وردة الخد إلى أن سرت في جسمه الكاس والكرى ومالا بعطفيه فمال على عضدي فأقبلت أستهدي لما بين أضلعي من الحر ما بين الضلوع من البرد وعاينته قد سل من وشي برده فعانقت منه السيف سل من الغمد ليان مجسن واستقامة قامة وهزة أعطاف ورونق إفرند أغازل منه الغصن في مغرس النقا وألثم وجه الشمس في مطلع السعد فإن لم يكنها أو تكنه فإنه أخوها كما قد الشراك من الجلد تسافر كلتا راحتي بجسمه فطورا إلى خصر وطورا إلى نهد فتهبط من كشحيه كفي تهامة وتصعد من نهديه أخرى إلى نجد وقال أيضا [ الكامل ] ورداء ليل بات فيه معانقي طيف ألم بظبية الوعساء فجمعت بين رضابه وشرابه وشربت من ريق ومن صهباء ولثمت في ظلماء ليلة وفرة شفقا
القسم الأول فيما يتعلق بالأندلس من الأخبار المترعة الأكواب والأنباء المنتحية صوب الصواب الرافلة من الإفادة في سوابغ الأثواب وفيه بحسب القصد والاختصار وتحري التوسط في بعض المواضع دون الاختصار

وقال ها لثمي نقلا ولا تشم إلا عرفي الأطيبا وأقطف بخدي الورد والآس والن لا تحفل بزهر الربا أسعفته غصنا غدا مثمرا ومن جناه ميسه قربا قد كنت ذا نهي وذا إمرة حتى تبدى فحللت الحبا ولم أصن عرضي في حبه ولم أطع فيه الذي أنبا حتى إذا ما قال لي حاسد ترجوه والكوكب أن يقربا أرسلت من شعري سحرا له ييسر المرغب والمطلبا وقال عرفه بأني سأح فما أجتنب المكتبا فزاد في شوقي له وعده ولم أزل مقتعدا مرقبا أمد طرفي ثم أثنيه من خوف أخي التنغيص أن يرقبا أصدق الوعد وطورا أرى تكذيبه والحر لن يكذبا أتى ومن سخره بعد ما أيأس بطء كاد أن يغضبا قبلت في الترب ولم أستطع من حصر اللقيا سوى مرحبا هنأت ربعي إذ غدا هالة وقلت يا من لم يضع أشعبا بالله مل معتنقا لاثما فمال كالغصن ثنته الصبا فقال ما ترغب قلت ائتد أدركت إذ كلمتني المرغبا فقال لا مرغب عن ذكر ما ترغبه

وستأتي هذه القصيدة بكمالها في جملة من نظم ابن سعيد المذكور وقال يتشوق إلى إشبيلية وهي حمص الأندلس [ الكامل ] أن الخليج وغنت الورقاء هل برحا إذ هاجت

صفو تكدر بالتحرك ليته ما زال لكن لا يرد قضاء إن الفراق هو المنية إنما أهل النوى ماتوا وهم أحياء لولا تذكر لذة طابت لنا بذرى الجزيرة حيث طاب هواء وجرى النسيم على الخليج معطرا وتبددت في الدوحة الأنداء ما كابدت نفسي أليم تفكر ألوى به عن جفني الإغضاء يا نهر حمص لا عدتك مسرة ماء يسيل لديك أم صهباء كل النفوس تهش فيك كأنما جمعت عليك شتاتها الأهواء ودي إليك مع الزمان مجدد ما إن يحول تذكر وعناء ولو أنني لم أحي ذكرا للذي أوليته ما كان في حياء ما كنت أطمع في الحياة لو أنني أيقنت أن لا يسترد لقاء غيري إذا ما بان حان وإنما أبقى حياتي حين بنت رجاء وسيأتي إن شاء الله تعالى لهذا النمط وغيره مزيد أثناء الكتاب بحسب ما اقتضته المناسبة والله تعالى المرجو في حسن المتاب وهو سبحانه

0 كلامه يحقق قول القائل كما تدين تدان ورحم الله تعالى ابن مالك فلقد أحيا من العلم رسوما دراسة وبين معالم طامسة وجمع من ذلك ما تفرق وحقق ما لم يكن تبين منه ولا تحقق ورحم شيخه ثابت بن الخيار فإنه كان من الثقات الأخيار وهو أبو المظفر ثابت بن محمد بن يوسف بن الخيار الكلاعي - بضم الكاف على ما كان يضبط بيده فيما حكاه ابن الخطيب في الإحاطة - وأصله من لبلة ويعد في أهل جيان وتوفي بغرناطة سنة 628 وكان أبو حيان يغض من هذا الكتاب ويقول ما فيه من الضوابط والقواعد حائد عن مهيع الصواب والسداد وكثيرا ما يشير إلى ذلك في شرحه المسمى منهج السالك ومن غضه منه بالنظم في ملأ من الناس من جملتهم شيخه بهاء الدين ابن النحاس والأقسراني يجاريه مقتفيا له ومتأسيا في تسويد القرطاس
( ألفية ابن مالك ... مطموسة المسالك )
( وكم بها مشتغل ... أوقع في المهالك )
ولا تغتر أنت بهذا الغرر فإنه ما كل سحاب أبرق مطر ولا كل عود أورق ثمر وقيل معاوضة للقوم وتنبيها لهم مما هم فيه من النوم
( ألفية ابن مالك ... مشرقة المسالك )
( وكم بها من مشغل ... علا على الأرائك )
وما أحسن قول ابن الوردي في هذا المعنى
( يا عائباألفية ابن مالك ... وغائبا عن حفظها وفهمها )
( أما تراها قد حوت فضائلا ... كثيرة فلا تجر في ظلمها )
( وازجر لمن جادل من يحفظها ... برابع وخامس من اسمها )
يعني صه فإنه عند الاستقلال بمعنى اسكت انتهى ملخصا

0
( لا يعرفون تسترا ... السكر عندهم مباح )
( متهتكون لدى المنى ... وفسادهم فيها صلاح )
( ساقيهم متبذل ... هل يمنع الماء القراح )
( غصن يميل به الصبا ... ردته طوع الراح راح )
( طوع الأماني كل ما ... يأتي به فهو اقتراح )
( ما إن نبالي إن بدا ... أن لا يلوح لنا الصباح )
( ما زلت أرشف ثغره ... وعليه من عضدي وشاح )
( والقلب يهفو طائرا ... ولعا ولا يخشى افتضاح )
( ولو اننا نخشاه كان ... لنا من الظلما جناح )
( لكننا في عصبة ... ما في تهتكهم جناح )
( لا ينكرون سوى ثقيل ... لا يميل به مزاح )
( أفنى الذي قد جمعوه ... الكأس والحدق الملاح )
وقلت بمراكش
( قم هاتها لاح الصباح ... ) ما العيش إلا الاصطباح )
( مع فتية ما دأبهم ... إلا المروءة والسماح ) جربتهم فوجدتهم ... ما للمنى عنهم براح )
( يثنيهم نحو الصبا ... نقر المثاني والمراح )
( ما نادموا شخصا فكا ن لهم ... بخدمته استراح )
( بل يعرفون مكانه ... فله إذا شاء اقتراح )
( هم يتعبون وضيفهم ... ما دام عندهم يراح )
( ما إن يملون النزيل ... وبالرضى منه السراح )

الباب الخامس
في التعريف ببعض من رحل من الأندلسيين إلى بلاد المشرق الزاكية العرار والبشام ومدح جماعة من أولئك الأعلام ذوي العقول الراجحة والأخلام لشامة وجنة الأرض دمشق الشام وما اقتضته المناسبة من كلام أعيانها وأرباب بيانها ذوي السؤدد والاحتشام ومخاطباتهم للفقير المؤلف حين حلها سنة ألف وسبع وثلاثين للهجرة
( وشاهد برق فضلها المبين وشام ... )
اعلم جعلني الله تعالى وإياك ممن له للمذهب الحق انتحال أن حصر أهل الارتحال لا يمكن بوجه ولا بحال ولا يعلم ذلك على الإحاطة إلا علام الغيوب الشديد المحال ولو أطلقنا عنان الأقلام فيمن عرفناه فقط من هؤلاء الأعلام لطال الكتاب وكثر الكلام ولكنا نذكر منهم لمعا على وجه التوسط من غير إطناب داع إلى الملال واختصار مؤد للملام فنقول مستمدين من واهب العقول
1 - منهم عالم الأندلس عبد الملك بن حبيب السلمي وقد عرف به القاضي عياض في المدارك وغير واحد ورأيت في بعض التواريخ أن تواليفه

بلغت ألفا ومن أشهرها كتاب الواضحة في مذهب مالك كتاب كبير مفيد ولابن حبيب مذهب في كتب المالكية مسطور وهو مشهور عند علماء المشرق وقد نقل عنه الحافظ ابن حجر وصاحب المواهب وغيرهما
ومن نظمه يخاطب سلطان الأندلس :
( لا تنس لا ينسك الرحمن عاشورا ... واذكره لا زلت في التاريخ مذكورا )
( قال النبي صلاة الله تشمله ... قولا وجدنا عليه الحق والنورا )
( فيمن يوسع في إنفاق موسمه ... أن لا يزال بذاك العام ميسورا )
وهذا البيت الثالث نسيت لفظه فكتبته بالمعنى والوزن إذ طال عهدي به والله تعالى أعلم
وقال الفتح في المطمح الفقيه العالم أبو مروان عبد الملك بن حبيب السلمي أي شرف لأهل الأندلس ومفخر وأي بحر بالعلوم يزخر خلدت منه الأندلس فقيها عالما أعاد مجاهل جهلها معالما وأقام فيها للعلوم سوقا نافقة ونشر منها ألوية خافقة وجلا عن الألباب صدأ الكسل وشحذها شحذ الصوارم والأسل وتصرف في فنون العلوم وعرف كل معلوم وسمع بالأندلس وتفقه حتى صار أعلم من بها وأفقه ولقي أنجاب مالك وسلك من مناظرتهم أوعر المسالك حتى أجمع عليه الاتفاق ووقع على تفضيله الإصفاق ويقال إنه لقي مالكا أخر عمره وروى عنه عن سعيد

ابن المسيب أن سليمان بن داود صلى عليهما وسلم كان يركب إلى بيت المقدس فيتغدى به ثم يعود فيتعشى بإصطخر وله في الفقه كتاب الواضحة ومن أحاديثه غرائب قد تحلت بها للزمان نحور وترائب
وقال محمد بن لبابة فقيه الأندلس عيسى بن دينار وعالمها عبد الملك ابن حبيب وراويها يحيى بن يحيى وكان عبد الملك قد جمع إلى علم الفقه والحديث علم اللغة والإعراب وتصرف في فنون الآداب وكان له شعر يتكلم به متبحرا ويرى ينبوعه بذلك متفخرا وتوفي بالأندلس في رمضان سنة 238 وهو ابن ثلاث وخمسين سنة بعدما جال في الأرض وقطع طولها والعرض وجال في أكنافها وانتهى إلى أطرافها
ومن شعره قوله
( قد طاح أمري والذي أبتغي ... هين على الرحمن في قدرته )
( ألف من الحمر وأقلل بها ... لعالم أربى على بغيته )
( زرياب قد أعطيها جملة ... وحرفتي أشرف من حرفته )
وكتب إلى الزجالي رسالة وصلها بهذه الأبيات
كيف يطيق الشعر من أصبحت ... حالته اليوم كحال الغرق )

( والشعر لا يسلس إلا على ... فراغ قلب واتساع الخلق )
( فاقنع بهذا القول من شاعر ... يرضى من الحظ بأذني العنق )
( فضلك قد بان عليه كما ... بان لأهل الأرض ضوء الشفق )
( أما ذمام الود مني لكم ... فهو من المحتوم فيما سبق )
ولم يكن له علم بالحديث يعرف به صحيحه من معتله ولا يفرق بين مستقيمه ومختله وكان غرضه الإجازة وأكثر رواياته غير مستجارة قال ابن وضاح قال إبراهيم بن المنذر أتى صاحبكم الأندلس يعني عبد الملك هذا بغرارة مملوءة فقال لي هذا علمك قلت له نعم ما قرأ علي منه حرفا ولا قرأته عليه وحكى أنه قال في دخوله المشرق وحضر مجلس بعض الأكابر فازداره من رآه
( لا تنظرن إلى جسمي وقلته ... وأنظر لصدري وما يحوي من السنن )
( فرب ذي منظر من غير معرفة ... ورب من تزدريه العين ذو فطن )
( ورب لؤلؤة في عين مزبلة ... لم يلق بال لها إلا إلى زمن )
انتهى ما في المطمح الصغير
قلت أما ما ذكره من عدم معرفته بالحديث فهو غير مسلم وقد نقل عنه غير واحد من جهابذة المحدثين نعم لأهل الأندلس غرائب لم يعرفها كثير من المحدثين حتى إن في شفاء عياض أحاديث لم يعرف أهل المشرق النقاد مخرجها مع اعترافهم بجلالة حفاظ الأندلس الذين نقلوها كبقي ابن مخلد وابن حبيب وغيرهما على ما هو معلوم وأما ما ذكره عنه في الإجازة بما في الغرارة فذلك على مذهب من يرى الإجازة وهو مذهب مستفيض واعتراض من اعترض عليه إنما هو بناء على القول بمنع الإجازة فاعلم ذلك والله سبحانه الموفق

2 - ومن الراحلين من الأندلس الفقيه المحدث يحيى بن يحيى الليثي راوي الموطإ عن مالك رضي الله تعالى عنه ويقال إن أصله من برابر مصمودة وحكي أنه لما ارتحل إلى ملك لازمه فبينما هو عنده في مجلسه مع جماعة من أصحابه إذ قال قائل حضر الفيل فخرج أصحاب مالك كلهم ولم يخرج يحيى فقال له مالك ما لك لم تخرج وليس الفيل في بلادك فقال إنما جئت من الأندلس لأنظر إليك وأتعلم من هديك وعلمك ولم أكن لأنظر إلى الفيل فأعجب به مالك وقال هذا عاقل الأندلس ولذلك قيل إن يحيى هذا عاقل الأندلس وعيسى بن دينار فقيهها وعبد الملك بن حبيب عالمهما ويقال إن يحيى راويها ومحدثها وتوفي يحيى بن يحيى سنة 234 برجب وقبره يستسقى به بقرطبة وقيل إن وفاته في السنة قبلها والله تعالى أعلم
وروايته الموطأ مشهورة حتى أن أهل المشرق الآن يسندون الموطأ من روايته كثيرا مع تعدد رواة الموطأ والله أعلم وكان يحيى بن يحيى روى الموطأ بقرطبة عن زياد بن عبد الرحمن اللخمي المعروف بشبطون وسمع من يحيى بن مضر القيسي الأندلسي ثم أرتحل إلى المشرق وهو ابن ثمان وعشرين سنة فسمع من مالك بن أنس الموطأ غير أبواب في كتاب الاعتكاف شك في سماعها فأثبت روايته فيها عن زياد وذلك مما يدل على ورعه
وسمع بمصر من الليث بن سعد وبمكة من سفيان بن عيينة وتفقه

بالمدنيين والمصريين كعبد الله بن وهب وعبد الرحمن بن القاسم العتقي وسمع منهما وهما من أكابر أصحاب مالك بعد انتفاعه بمالك وملازمته له
وانتهت إليه الرياسة بالأندلس وبه اشتهر مذهب مالك في تلك الديار وتفقه به جماعة لا يحصون عددا وروى عنه خلق كثير وأشهر رواة الموطإ وأحسنهم رواية يحيى المذكور وكان مع أمانته ودينه معظما عند الأمراء يكنى عندهم عفيفا عن الولايات متنزها جلت رتبته عن القضاء وكان أعلى من القضاة قدرا عند ولاة الأمر بالأندلس لزهده في القضاء وامتناعه
قال الحافظ ابن حزم مذهبان انتشرا في بدء أمرهما بالرياسة والسلطان مذهب أبي حنيفة فإنه لما ولي القضاء أبو يوسف كانت القضاة من قبله من أقصى المشرق إلى أقصى عمل إفريقية فكان لا يولي إلا أصحابه والمنتسبين لمذهبه ومذهب مالك عندنا بالأندلس فإن يحيى بن يحيى كان مكينا عند السلطان مقبول القول في القضاة وكان لا يلي قاض في أقطار بلاد الأندلس إلا بمشورته واختياره ولا يشير إلا بأصحابه ومن كان على مذهبه والناس سراع إلى الدنيا فأقبلوا على ما يرجون بلوغ أغراضهم به على أن يحيى لم يل قضاء قط ولا أجاب إليه وكان ذلك زائدة في جلالته عندهم وداعيا إلى قبول رأيه لديهم انتهى
وذكرنا في غير هذا الموضع قولا آخر في سبب انتشار مذهب مالك بالأندلس والله سبحانه أعلم بحقيقة الأمر انتهى
وقال ابن أبي الفياض جمع الأمير عبد الرحمن بن الحكم الفقهاء في

قصره وكان على جارية يحبها في رمضان ثم ندم أشد ندم فسألتهم عن التوبة والكفارة فقال يحيى تكفر بصوم شهرين متتابعين فلما بادر يحيى بهذه الفتيا سكت الفقهاء حتى خرجوا فقال بعضهم له لم لم تفت بمذهب مالك بالتخيير فقال لو فتحنا له هذا الباب سهل عليه أن يطأ كل يوم ويعتق رقبة ولكن حملته على أصعب الأمور لئلا يعود
وقال بعض المالكية إن يحيى ورى بهذا ورأى أنه لم يملك شيئا إذ هو مستغرق الذمة فلا عتق له ولا إطعام فلم يبق إلا الصيام انتهى
ولما انفصل يحيى عن مالك ووصل إلى مصر رأى ابن القاسم يدون سماعه من مالك فنشط للرجوع إلى مالك ليسمع منه المسائل التي رأى ابن القاسم يدونها فرحل رحلة ثانية فألقى مالكا عليلا فأقام عنده إلى أن مات وحضر جنازته فعاد إلى ابن القاسم وسمع منه سماعه من مالك هكذا ذكره ابن الفرضي في تاريخه وهو مما يرد الحكاية المشهورة الآن بالمغرب أن يحيى سأل مالكا عن زكاة التين فقال له لا زكاة فيها فقال إنها تدخر عندنا ونذر إن وصل إلى الأندلس أن يرسل لمالك سفينة مملوءة تينا فلما وصل أرسلها فإذا مالك قد مات انتهى
قال ابن الفرضي ولما انصرف يحيى إلى الأندلس كان إمام وقته وواحد بلاده وكان ممن اتهم بالهيج في وقعة الربض المشهورة ففر إلى طليطلة ثم استأمن فكتب له الأمير الحكم أمانا وانصرف إلى قرطبة
وقيل لم يعط أحد من أهل الأندلس منذ دخلها الإسلام ما أعطى يحيى من الحظوة وعظم القدر وجلالة الذكر

وقال ابن بشكوال إن يحيى بن يحيى كان مجاب الدعوة وإنه أخذ في سمته وهيئته ونفسه ومقعده هيئات مالك
ويحكى عنه أنه قال أخذت بركاب الليث بن سعد فأراد غلامه أن يمنعني فقال دعه ثم قال لي الليث خدمك العلم فلم تزل بي الأيام حتى رأيت مالكا انتهى
3 - ومنهم القاضي أبو عبد الله محمد بن أبي عيسى
قال في المطمح من بني يحيى بن يحيى الليثي وهذه ثنية علم وعقل وصحة ضبط ونقل كان علم الأندلس وعالمها الندس ولي القضاء بقرطبة بعد رحلة رحلها إلى المشرق وجمع فيها من الروايات والسماع كل مفترق وجال في آفاق ذلك الآفق لا يستقر في بلد ولا يستوطن في جلد ثم كر إلى الأندلس فسمت رتبته وتحلت بالأماني لبته وتصرف في ولايات أحمد فيها منابه واتصلت بسببها بالخليفة أسبابه وولاه القضاء بقرطبة فتولاه بسياسة محمودة ورياسة في الدين مبرمة القوى مجهودة والتزم فيها الصرامة في تنفيذ الحقوق والحزامة في إقامة الحدود والكشف عن البينات في السر والصدع بالحق في الجهر لم يستمله مخادع ولم

يكده مخاتل ولم يهب ذا كرمة ولا داهن ذا مرتبة ولا أغضى لأحد من أسباب السلطان وأهله حتى تحاموا جانبه فلم يجسر أحد منهم عليه وكان له نصيب وافر من الأدب وحظ من البلاغة إذا نظم وإذا كتب
ومن ملح شعره ما قاله عند أوبته عن غربته
( كأن لم يكن بين ولم تك فرقة ... إذا كان من بعد الفراق تلاق )
( كأن لم تؤرق بالعراقين مقلي ... ولم تمر كف الشوق ماء مآقي )
( ولم أزر الأعراب في جنب أرضهم ... بذات اللوى من رامة وبراق )
( ولم أصطبح بالبيد من قهوة الندى ... وكأس سقاها في الأزاهر ساق )
وله أيضا
( ماذا أكابد من ورق مغردة ... على قضيب بذات الجزع مياس )
( رددن شجوا شجا قلب الخلي فهل ... في عبرة ذرفت في الحب من باس )
( ذكرنه الزمن الماضي بقرطبة ... بين الأحبة في أمن وإيناس )
( هم الصبابة لولا همة ... شرفت فصيرت قلبه كالجندل القاسي ) وله أخبار تدل على رقة العراق والتغذي بماء تلك الآفاق فمنها أنه خرج إلى حضور جنازة بمقابر قريش ورجل من بني جابر كان يواخيه له منزل هناك فعزم عليه في الميل إليه وعلى أخيه فنزلا عليه فأحضر لهما طعاما وأمر جارية له بالغناء فغنت

( طابت بطيب لثاتك الأقداح ... وزهت بحمرة خدك التفاح )
( وإذا الربيع تنسمت أرواحه ... طابت بطيب نسيمك الأرواح )
( وإذا الحنادس ألبست ظلماءها ... فضياء وجهك في الدجى مصباح )
فكتبها القاضي في ظهر يده وخرج من عنده قال يونس بن عبد الله فلقد رأيته يكبر للصلاة على الجنازة والأبيات مكتوبة على ظهر كفه
وكان رحمه الله تعالى في غاية اللطف حكى بعض أصحابه قال ركبنا معه في موكب حافل من وجوه الناس إذ عرض لنا فتى متأدب قد خرج من بعض الأزقة سكران يتمايل فلما رأى القاضي هابه وأراد الانصراف فخانته رجلاه فاستند إلى الحائط وأطرق فلما قرب القاضي رفع رأسه وأنشأ يقول
( ألا أيها القاضي الذي عم عدله ... فأضحى به بين الأنام فريدا )
( قرأت كتاب الله تسعين مرة ... فلم أر فيه للشراب حدودا )
( فإن شئت جلدا لي فدونك منكبا ... صبورا على ريب الزمان جليدا )
( وإن شئت أن تعفو تكن لك منة ... تروح بها في العالمين حميدا )
( وإن أنت تختار الحديد فإن لي ... لسانا على هجو الزمان حديدا )
فلما سمع شعره وميز أدبه أعرض عنه وترك الإنكار عليه ومضى لشأنه انتهى ملخصا من المطمح
ورأيت بخطي في بعض مسوداتي ما صورته محمد بن عبد الله بن يحيى بن يحيى الليثي قاضي الجماعة بقرطبة سمع عم أبيه عبيد الله بن يحيى ومحمد

بن عمر بن لبابة وأحمد بن خالد ورحل من قرطبة سنة 312 ودخل مصر وحج وسمع بمكة من ابن المنذر والعقيلي وابن الأعرابي وغيرهم كان حافظا معتنيا بالآثار جامعا للسنن متصرفا في علم الإعراب ومعاني الشعر شاعرا مطبوعا وشاوره القاضي أحمد بن بقي واستقضاه الناصر عبد الرحمن بن محمد على إلبيرة وبجانة ثم ولاه قضاء الجماعة بقرطبة بعد أبي طالب سنة 326 وجمعت له مع القضاء الصلاة وكان كثيرا ما يخرج إلى الثغور ويتصرف في إصلاح ما وهى منها فاعتل في آخر خرجاته ومات في بعض الحصون المجاورة لطليطلة سنة 337 ومولده سنة 284 انتهى وأظن أني نقلته من كتاب ابن الأبار الحافظ والله أعلم
4 - ومنهم عتيق بن أحمد بن عبد الباقي الأندلسي الدمشقي وفاة يكنى أبا بكر نزيل دمشق كان مشهورا بالصلاح وانتفع به جماعة من الفقراء وولد على ما قيل سنة 516 وتوفي سنة 616 بدمشق 1ودفن بمقابر الصوفية فيكون عمره على هذا مائة سنة رحمه الله تعالى ونفعنا ببركاته وبركات أمثاله
5 - ومنهم أبو إبراهيم إسماعيل بن محمد بن يوسف الأنصاري الأندلسي الأبذي الملقب في البلاد المشرقية ببرهان الدين وأبذة - بضم الهمزة وتشديد الباء الموحدة وفتحها وبعدها ذال معجمة - بلد بالأندلس سمع المذكور بمكة وغيرها من البلاد وبدمشق من الحافظ ابن طبرزذ وأم بالصخرة وكان فاضلا صالحا شاعرا توفي سنة 656 وأخبر عن بعض الأولياء المجاورين ببيت المقدس أنه سمع هاتفا يقول لما خربت القدس

( إن يكن بالشآم قل نصيري ... ثم خربت واستمر هلوكي ) فلقد أثبت الغداة خرابي ... مر العار في حياة الملوك (
هكذا رأيته بخط الصفدي في حياة ويحتمل أن يكون في جباه جمع جبهة والله أعلم ترجمة
6 - ومنهم القاضي منذر بن سعيد البلوطي قاضي الجماعة بقرطبة وقد قدمنا جملة من أخباره في الباب الثالث والرابع من هذا القسم وكان لا يخاف في الله لومة لائم ومن مشهور ما جرى له في ذلك قصته في أيتام أخي نجدة وحدث بها جماعة من أهل العلم والرواية وهي أن الخليفة الناصر احتاج إلى شراء دار بقرطبة لحظية من نسائه تكرم عليه فوقع استحسانه على دار كانت لأولاد زكريا أخي نجدة وكانت بقرب النشارين في الربض الشرقي منفصلة عن دوره ويتصل بها حمام له غلة واسعة وكان أولاد زكريا أخي نجدة أيتاما في حجر القاضي فأرسل الخليفة من قومها له بعدد ما طابت نفسه وأرسل ناسا أمرهم بمداخله وصي الأيتام في بيعها عليهم فذكر أنه لا يجوز إلا بأمر القاضي إذ لم يجز بيع الأصل إلا عن رأيه ومشورته فأرسل الخليفة إلى القاضي منذر في بيع هذه الدار فقال لرسوله البيع على الأيتام لا يصح إلا لوجوه منها الحاجة ومنها الوهي الشديد ومنها الغبطة فأما الحاجة فلا حاجة لهؤلاء الأيتام إلى البيع وأما الوهي فليس فيها وأما الغبطة فهذا مكانها فإن أعطاهم أمير المؤمنين فيها ما تستبين به الغبطة أمرت

وصيهم بالبيع وإلا فلا فنقل جوابه إلى الخليفة فأظهر الزهد في شراء الدار طمعا أن يتوخى رغبته فيها وخاف القاضي أن تنبعث منه عزيمة تلحق الأيتام سورتها فأمر وصي الأيتام بنقض الدار وبيع أنقاضها ففعل ذلك وباع الأنقاض فكانت لها قيمة أكثر مما قومت به للسلطان فاتصل الخبر به فعز عليه خرابها وأمر بتوقيف الوصي على ما أحدثه فيها فأحال الوصي على القاضي أنه أمره بذلك فأرسل عند ذلك للقاضي منذر وقال له أنت أمرت بنقض دار أخي نجدة فقال 14 له نعم فقال وما دعاك إلى ذلك قال أخذت فيها بقول الله تعالى ( أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ) الكهف 79 ] مقوموك لم يقدروها إلا بكذا وبذلك تعلق وهمك فقد نض في أنقاضها أكثر من ذلك وبقيت القاعة والحمام فضلا ونظر الله تعالى للأيتام فصبر الخليفة عبد الرحمن على ما أتى من ذلك وقال نحن أولى من انقاد إلى الحق فجزاك الله تعالى عنا وعن أمانتك خيرا قالوا وكان على متانته وجزالته حسن الخلق كثير الدعابة فربما ساء ظن من لا يعرفه حتى إذا رام أن يصيب من دينه شعرة ثار له ثورة الأسد الضاري فمن ذلك ما حدث به سعيد ابنه قال قعدنا ليلة من ليالي شهر رمضان المعظم مع أبينا للإفطار بداره البرانية فإذا سائل يقول أطعمونا من عشائكم أطعمكم الله تعالى من ثمار الجنة هذه الليلة ويكثر من ذلك فقال القاضي إن استجيب لهذا السائل فيكم فليس يصبح منا واحد

وحكى عنه قاسم بن أحمد الجهني أنه ركب يوما لحيازة أرض محبسة في ركب من وجوه الفقهاء وأهل العدالة فيهم أبو إبراهيم اللؤلؤي ونظراؤه قال فسرنا نقفوه وهو أمامنا وأمامه أمناؤه يحملون خرائطه وذووه عليهم السكينة والوقار وكانت القضاة حينئذ لا تراكب ولا تماشي فعرض له في بعض الطريق كلاب مع مستوحمة والكلاب تلعق هنها وتدور حولها فوقف وصرف وجهه إلينا وقال ترون يا أصحابنا ما أبر الكلاب بالهن الذي تلعقه وتكرمه ونحن لا نفعل ذلك ثم لوى عنان دابته وقد أضحكنا وبقينا متعجبين من هزله
وحضر عند الحكم المستنصر بالله يوما في خلوة له في بستان الزهراء على بركة ماء طافحة وسط روضة نافحة في يوم شديد الوهج وذلك إثر منصرفه من صلاة الجمعة فشكا إلى الخليفة من وهج الحر الجهد وبث منه ما تجاوز الحد فأمره بخلع ثيابه والتخفيف عن جسمه ففعل ولم يطف ذلك ما به فقال له الصواب أن تنغمس في وسط الصهريج انغماسة يبرد بها جسمك وليس مع الخليفة إلا الحاجب جعفر الخادم الصقلبي أمين الخليفة الحكم لا رابع لهم فكأنه استحيا من ذلك وانقبض عنه وقارا وأقصر عنه إقصارا فأمر الخليفة حاجبه جعفرا بسبقه إلى النزول في الصهريج ليسهل عليه الأمر فيه فبادر جعفر لذلك وألقى نفسه في الصهريج وكان يحسن السباحة فجعل يجول يمينا وشمالا فلم يسع القاضي إلا إنفاذ أمر الخليفة فقام وألقى بنفسه خلف جعفر ولاذ بالقعود في درج الصهريج وتدرج فيه بعض تدريج ولم ينبسط في السباحة وجعفر يمر مصعدا ومصوبا فدسه الحكم على القاضي وحمله على مساجلته في العوم فهو يعجزه في إخلاده إلى القعود ويعابثه

بإلقاء الماء عليه والإشارة بالجذب إليه وهو لا ينبعث معه ولا يفارق موضعه إلى أن كلمه الحكم وقال له ما لك لا تساعد الحاجب في فعله وتنقيل صنعه فمن أجلك نزل وبسببك تبذل فقال له يا سيدي يا أمير المؤمنين الحاجب سلمه الله تعالى لا هوجل معه وإنا بهذا الهوجل الذي معي يعقلني ويمنعني من أن أجول معه مجاله يعني أن الحاجب خصي لا هوجل معه والهوجل الذكر فاستفرغ الحكم ضحكا من نادرته ولطيف تعريضه لجعفر وخجل جعفر من قوله وسبه سب الأشراف وخرجا من الماء وأمر لهما الخليفة بخلع ووصلهما بصلات سنية تشاكل كل واحد منهما وحكي أن الخليفة الحكم قال له يوما لقد بلغني أنك لا تجتهد للأيتام وأنك تقدم لهم أوصياء سوء يأكلون أموالهم فقال نعم وإن أمكنهم نيك أمهاتهم لم يعفوا عنهن قال وكيف تقدم مثل هؤلاء قال لست أجد غيرهم ولكن أحلني على اللؤلؤي وأبي إبراهيم ومثل هؤلاء فإن أبوا أجبرتهم بالسوط والسجن ثم لا تسمع إلا خيرا
وقال القاضي منذر أتيت وأبو جعفر بن النحاس في مجلسه بمصر يملي في أخبار الشعراء شعر قيس المجنون حيث يقول
( خليلي هل بالشام عين حزينة ... تبكي على نجد لعلي أعينها )
( قد أسلمها الباكون إلا حمامة ... مطوقة باتت وبات قرينها )
( تجاوبها أخرى على خيزرانة ... يكاد يدنيها من الأرض لينها )
فقلت له يا أبا جعفر ماذا أعزك الله تعالى باتا يصنعان فقال لي وكيف تقول أنت يا أندلسي فقلت له بانت 13 وبان قرينها فسكت وما

زال يستثقلني بعد ذلك حتى منعني كتاب العين وكنت ذهبت إلى الانتساخ من نسخته فلما قطع بي قيل لي أين أنت عن أبي العباس بن ولاد فقصدته فلقيت رجلا كامل العلم حسن المروءة فسألته الكتاب فأخرجه إلي ثم ندم أبو جعفر لما بلغه إباحة أبي العباس الكتاب لي وعاد إلى ما كنت أعرفه منه
قال وكان أبو جعفر لئيم النفس شديد التقتير على نفسه وربما وهبت له العمامة فيقطعها ثلاث عمائم وكان يأبى شراء حوائجه بنفسه ويتحامل فيها على أهل معرفته انتهى
وأبو جعفر هذا يقال إن تواليفه تزيد على خمسين منها شرح عشرة دواوين للعرب وإعراب القرآن ومعاني القرآن وشرح أبيات الكتاب وغير ذلك
رجع - وقال منذر بن سعيد كتبت إلى أبي علي البغدادي أستعير منه كتابا من الغريب وقلت
( بحق ربهم مهفهف ... وصدغه المتعطف )
( إبعث إلي بجزء ... من الغريب المصنف )
فقضى حاجتي وأجاب بقوله
( وحق در تألف ... بفيك أي تألف )
) ( لأبعثن بما قد حوى ... الغريب المصنف )
( ولو بعثت بنفسي ... إليك ما كنت أسرف )
فرحم الله تعالى تلك الأرواح الطاهرة
وذكر ابن أصبغ الهمداني عن منذر أنه خطب يوما وأراد التواضع فكان من فصول خطبته أن قال حتى متى أعظ ولا أتعظ وأزجر ولا

أزدجر أدل الطريق على المستدلين وأبقى مقيما مع الحائرين كلا إن هذا لهو البلاء المبين ( إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء ) [ الأعراف 155 ] اللهم فرغني لما خلقتني له ولا تشغلني بما تكفلت لي به ولا تحرمني وأنا أسألك ولا تعذبني وأنا أستغفرك يا أرحم الراحمين وسمع منذر بالأندلس من عبيد الله بن يحيى بن يحيى ونظرائه ثم رحل حاجا سنة ثمان وثلاثمائة فاجتمع بعدة أعلام وظهرت فضائله بالمشرق وممن سمع عليه منذر بالمشرق ثم بمكة محمد بن المنذر النيسابوري سمع عليه كتابه المؤلف في اختلاف العلماء المسمى بالإشراف وروى بمصر كتاب العين للخليل عن أبي العباس بن ولاد وروى عن أبي جعفر بن النحاس
وكان منذر متفننا في ضروب العلوم وغلب عليه التفقه بمذهب أبي سليمان داود بن علي الأصبهاني المعروف بالظاهري فكان منذر يؤثر مذهبه ويجمع كتبه ويحتج لمقالته ويأخذ به في نفسه وذويه فإذا جلس للحكومة قضى بمذهب الإمام مالك وأصحابه وهو الذي عليه العمل بالأندلس وحمل السلطان أهل مملكته عليه وكان خطيبا بليغا عالما بالجدل حاذقا فيه شديد العارضة حاضر الجواب عتيده ثابت الحجة ذا شارة عجيبة ومنظر جميل وخلق حميد وتواضع لأهل الطلب وانحطاط إليهم وإقبال عليهم وكان - مع وقاره التام - فيه دعابة مستملحة وله نوادر مستحسنة وكانت ولايته القضاء بقرطبة للناصر في شهر ربيع الآخر سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة ولبث قاضيا من ذلك التاريخ للخليفة الناصر إلى وفاته ثم للخليفة الحكم المستنصر إلى أن توفي رحمه الله تعالى عقب ذي القعدة من سنة خمس وخمسين وثلاثمائة فكانت ولايته لقضاء

عارفا بتعبير الرؤيا حسن المقاصد مخلصا فيما يقول ويفعل وكان يجتنب فضول الكلام ولا ينطق في سائر أوقاته إلا بما تدعو إليه ضرورة ولا يجلس للقراءة إلا على طهارة في هيئة حسنة وتخشع واستكانة وكان يعتل العلة الشديدة فلا يشتكي ولا يتأوه وإذا سئل عن حاله قال العافية لا يزيد على ذلك
وكان كثيرا ما ينشد هذا اللغز في النعش وهو لأبي زكريا يحيى بن سلامة الخطيب
( أتعرف شيئا في السماء نظيره ... إذا سار صاح الناس حيث يسير )
( فتلقاه مركوبا وتلقاه راكبا ... وكل أمير يعتليه أسير )
( يحض على التقوى ويكره قربه ... وتنفر منه النفس وهو نذير )
( ولم يستزر عن رغبة في زيارة ... ولكن على رغم المزور يزور ) وكان يقال عند دخوله إلى مصر إنه يحفظ وقر بعير من العلوم وكان نزيل القاضي الفاضل ورتبه بمدرسته بالقاهرة وقيل إن كنيته أبو محمد حسبما وجد في بعض إجازاته رحمه الله تعالى
8 - ومن الراحلين إلى المشرق من الأندلس الإمام القاضي أبو بكر بن العربي

الجماعة المعبر عنها في المشرق بقضاء القضاة ستة عشر عاما كاملة لم يحفظ عليه فيها جور في قضية ولا قسم بغير سوية ولا ميل بهوى ولا إصغاء إلى عناية رحمه الله تعالى ورضي عنه ودفن بمقبرة قريش بالربض الغربي من قرطبة أعادها الله تعالى جوفي مسجد السيدة الكبرى بقرب داره
وله رحمه الله تعالى تواليف مفيدة منها كتاب أحكام القرآن و الناسخ والمنسوخ وغير ذلك في الفقه والكلام في الرد على أهل المذاهب تغمده الله تعالى برضوانه
وكتب بعض الأدباء إلى القاضي منذر بقوله
( مسألة جئتك مستفتيا ... عنها وأنت العالم المستشار )
( علام تحمر وجوه الظبا ... وأوجه العشاق فيها اصفرار )
فأجاب منذر بقوله
( احمر وجه الظبي إذ لحظه ... سيف على العشاق فيه احورار )
( واصفر وجه الصب لما نأى ... والشمس تبقي للمغيب اصفرار ) ترجمة أبي القاسم الشاطبي الرعيني المقري 196 ترجمة أبي القاسم الشاطبي الرعيني المقري
7 - وممن رحل إلى المشرق من الأندلس فشهد له بالسبق كل أهل المغرب والشرق الإمام العلامة أبو القاسم الشاطبي صاحب حرز الأماني و العقيلة وغيرهما

وهو أبو القاسم بن فيره بن خلف بن أحمد الرعيني الشاطبي المقرىء الفقيه الحافظ الضرير أحد العلماء المشهورين والفضلاء المذكورين خطب ببلده شاطبة مع صغر سنه ودخل الديار المصرية سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة وحضر عند الحافظ السلفي وابن بري وغيرهما وولد بشاطبة آخر سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة وتوفي بالقاهرة يوم الأحد الثامن والعشرين وقيل الثامن عشر من جمادى الآخرة سنة تسعين وخمسمائة بعد العصر ودفن من الغد بالتربة الفاضلية بسفح المقطم وحكي أن الأمير عز الدين موسك الذي كان والد ابن الحاجب حاجبا له بعث إلى الشيخ الشاطبي يدعوه إلى الحضور عنده فأمر الشيخ بعض أصحابه أن يكتب إليه
( قل للأمير مقالة ... من ناصح فطن نبيه )
( إن الفقيه إذا أتى ... أبوابكم لا خير فيه )
ومن نظمه رحمه الله تعالى
( خالصت أبناء الزمان فلم أجد ... من لم أرم منه ارتيادي مخلصي )
( رد الشباب وقد مضى لسبيله ... أهيا وأمكن من صديق مخلص )
وكان رحمه الله تعالى قرأ بشاطبة القراءات وأتقنها على النفري ثم انتقل إلى بلنسية فقرأ بها التيسير من حفظه على ابن هذيل وسمع الحديث منه ومن ابن النعمة وابن سعادة وابن عبد الرحيم وغيرهم وارتحل إلى المشرق فاستوطن القاهرة واشتهر اسمه وبعد صيته وقصده الطلبة من النواحي

وكان إماما علامة ذكيا كثير الفنون منقطع القرين رأسا في القراءات حافظا للحديث بصيرا بالعربية واسع العلم وقد سارت الركبان بقصيدته حرز الأماني و عقيلة أتراب الفضائل اللتين في القراءات والرسم وحفظهما خلق لا يحصون وخضع لهما فحول الشعراء وكبار البلغاء وحذاق القراء ولقد أوجز وسهل الصعب
وممن روى عنه أبو الحسن بن خيرة ووصفه من قوة الحفظ بأمر معجب وممن قرأ عليه بالروايات الإمام الشهير محمد بن عمر القرطبي
وتصدر الشاطبي رحمه الله تعالى للإقراء بالمدرسة الفاضلية وكان موصوفا بالزهد والعبادة والانقطاع وقبره بالقرافة يزار وترجى استجابة الدعاء عنده وقد زرته مرارا ودعوت الله بما أرجو قبوله وترك أولادا منهم أبو عبد الله محمد عاش نحو ثمانين سنة
وقال السبكي في حق الإمام الشاطبي إنه كان قوي الحافظة واسع المحفوظ كثير الفنون فقيها مقرئا محدثا نحويا زاهدا عابدا ناسكا يتوقد ذكاء قال السخاوي أقطع أنه كان مكاشفا وأنه سأل الله كتمان حاله ما كان أحد يعلم أي شيء هو انتهى
وترجمته واسعة رحمه الله تعالى ونفعنا به آمين
وقال ابن خلكان ولقد إنه أبدع كل الإبداع في حرز الأماني وهي عمدة قراء هذا الزمان في نقلهم فقل من يشتغل بالقراءات إلا ويقدم حفظها ومعرفتها وهي مشتملة على رموز عجيبة وإشارات لطيفة وما أظنه سبق إلى أسلوبها وقد روي عنه أنه كان يقول لا يقرأ أحد قصيدتي هذه إلا وينفعه

الله عز و جل لأني نظمتها لله تعالى مخلصا
وكان عالما بكتاب الله تعالى قراءة وتفسيرا وبحديث رسول الله مبرزا فيه وكان إذا قرئ عليه صحيحا البخاري ومسلم والموطأ يصحح النسخ من حفظه ويملي النكت على المواضع المحتاج إليها وكان أوحد في علم النحو واللغة

قال ابن سعيد هو الإمام العالم القاضي الشهير فخر المغرب أبو بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري قاضي قضاة كورة إشبيلية ذكره الحجاري في المسهب طبق الآفاق بفوائده وملأ الشام والعراق بأوابده وهو إمام في الأصول والفروع وغير ذلك
ومن شعره وقد ركب مع أحد أمراء الملثمين وكان ذلك الأمير صغيرا فهز عليه رميحا كان في يده مداعبا فقال
( يهز علي الرمح ظبي مهفهف ... لعوب بألباب البرية عابث )
( فلو أنه رمح إذن لاتقيته ... ولكنه رمح وثان وثالث )
وقوله وقد دخل عليه غلام جميل الصورة في لباس خشن
( لبس الصوف لكي أنكره ... وأتانا شاحبا قد عبسا ) قلت إيه قد عرفناك وذا ... جل سوء لا يعيب الفرسا )
( كل شيء أنت فيه حسن ... لا يبالي حسن ما لبسا )
( وزعم بعض أن الأبيات ليست له وإنما تمثل بها فالله تعالى أعلم
وممن عرف بابن العربي وذكره ابن الإمام في سمط الجمان

والشقندي في الطرف وكان قد صحب المهدي محمد بن تومرت بالمشرق فأوصى عليه عبد المؤمن وكان مكرما عنده وحكي أنه كتب كتابا فأشار عليه أحد من حضر أن يذر عليه نشارة فقال قف ثم فكر ساعة وقال اكتب
( لا تشنه بما تذر عليه ... فكفاه هبوب هذا الهواء )
( فكأن الذي تذر عليه ... جدري بوجنة حسناء )
ولقي أبا بكر الطرطوشي وما برح معظما إلى أن تولى خطة القضاء ووافق ذلك أن احتاج سور إشبيلية إلى بنيان جهة منه ولم يكن فيها مال متوفر ففرض على الناس جلود ضحاياهم وكان ذلك في عيد أضحى فأحضروها كارهين ثم اجتمعت العامة العمياء وثارت عليه ونهبوا داره وخرج إلى قرطبة
وكان في أحد أيام الجمع قاعدا ينتظر الصلاة فإذا بغلام رومي وضيء قد جاء يخترق الصفوف بشمعة في يده وكتاب معتق فقال
( وشمعة تحملها شمعة ... يكاد يخفي نورها نارها )
( لولا نهى نفس نهت غيها ... لقبلته وأتت عارها )
ولما سمعهما أبو عمران الزاهد قال إنه لم يكن يفعل ولكنه هزته أريحية الأدب ولو كنت أنا لقلت
( لولا الحياء وخوف الله يمنعني ... وأن يقال صبا موسى على كبره )
( إذا لمتعت لحظي في نواظره ... حتى أوفي جفوني الحق من نظره )

رجع إلى أخبار ابن العربي - فنقول إنه سمع بالأندلس أباه وخاله أبا القاسم الحسن الهوزني وأبا عبد الله السرقسطي وببجاية أبا عبد الله الكلاعي وبالمهدية أبا الحسن بن الحداد الخولاني وسمع بالإسكندرية من الأنماطي وبمصر من أبي الحسن الخلعي وغيره وبدمشق غير واحد كأبي الفتح نصر المقدسي وبمكة أبا عبد الله الحسين الطبري وابن طلحة وابن بندار وقرأ الأدب على التبريزي وعمل رحمه الله تعالى على مدينة إشبيلية سورا بالحجارة والآجر بالنورة من ماله وكان - كما في الصلة - مقدما في المعارف كلها حريصا على آدابها ونشرها ثاقب الذهن في تمييز الصواب فيها ويجمع إلى ذلك كله آداب الأخلاق مع حسن المعاشرة ولين الكنف وكثرة الاحتمال وكرم النفس وحسن العهد وثبات الود
وذكره ابن بشكوال في الصلة وقال فيه هو الإمام الحافظ ختام علماء الأندلس رحل إلى المشرق مع أبيه مستهل ربيع الأول سنة خمس وثمانين وأربعمائة ودخل الشام والعراق وبغداد وسمع بها من كبار العلماء ثم حج في سنة تسع وثمانين وعاد إلى بغداد ثم صدر منها
وقال ابن عساكر خرج من دمشق راجعا إلى مقره سنة 491 ولما غرب صنف عارضة الأحوذي ولقي بمصر والإسكندرية جملة من العلماء ثم عاد إلى الأندلس سنة ثلاث وتسعين وقدم إشبيلية بعلم كثير وكان موصوفا بالفضل والكمال وولي القضاء بإشبيلية ثم صرف عنه ومولده ليلة يوم الخميس لثمان بقين من شعبان سنة ثمان وستين وأربعمائة

وتوفي بمغيلة بمقربة من مدينة فاس ودفن بفاس في ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة انتهى كلام ابن سعيد وغيره ملخصا
وما وفى ابن سعيد حافظ الإسلام أبا بكر بن العربي حقه فلنعززه بما حضرنا من التعريف به فنقول إنه لقي ببغداد الشاشي أبا بكر والإمام أبا حامد الطوسي الغزالي ونقل عنه أنه قال كل من رحل لم يأت بمثل ما أتيت به من العلم إلا الباجي أو كلاما هذا معناه وكان من أهل التفنن في العلوم متقدما في المعارف كلها متكلما على أنواعها حريصا على نشرها وقام بأمر القضاء أحمد قيام مع الصرامة في الحق والقوة والشدة على الظالمين والرفق بالمساكين وقد روي عنه أنه أمر بثقب أشداق زامر ثم صرف عن القضاء وأقبل على نشر العلم وبثه وقرأ عليه الحافظ ابن بشكوال بإشبيلية
وقال ابن الأبار إن الإمام الزاهد العابد أبا عبد الله بن مجاهد الإشبيلي لازم القاضي ابن العربي نحوا من ثلاثة أشهر ثم تخلف عنه فقيل له في ذلك فقال كان يدرس وبغلته عند الباب ينتظر الركوب إلى السلطان انتهى
وذكره ابن الزبير في صلته وقال إنه رحل مع أبيه أبي محمد عند انقراض الدولة العبادية وسنه نحو سبعة عشر عاما إلى أن قال وقيد الحديث وضبط ما روى واتسع في الرواية وأتقن مسائل الخلاف والأصول والكلام على أئمة هذا الشأن ومات أبوه - رحمه الله تعالى - بالإسكندرية أول سنة ثلاث وتسعين فانصرف حينئذ إلى إشبيلية فسكنها وشوور فيها وسمع ودرس الفقه والأصول وجلس للوعظ والتفسير وصنف في غير فن تصانيف مليحة حسنة مفيدة وولي القضاء مدة أولها في رجب من سنة ثمان وعشرين فنفع الله تعالى به لصرامته ونفوذ أحكامه والتزم الأمر بالمعروف والنهي عن

المنكر حتى أوذي في ذلك بذهاب كتبه وماله فأحسن الصبر على ذلك كله ثم صرف عن القضاء وأقبل على نشر العلم وبثه وكان فصيحا حافظا أديبا شاعرا كثير الملح مليح المجلس
ثم قال قال القاضي عياض - بعد أن وصفه بما ذكرته - ولكثرة حديثه وأخباره وغريب حكاياته ورواياته أكثر الناس فيه الكلام وطعنوا في حديثه وتوفي منصرفه من مراكش من الوجهة التي توجه فيها مع أهل بلده إلى الحضرة بعد دخول الموحدين مدينة إشبيلية فحبسوا بمراكش نحو عام ثم سرحوا فأدركته منيته وروى عنه خلق كثير منهم القاضي عياض وأبو جعفر بن الباذش وجماعة انتهى ملخصا
ووقع في عبارة ابن الزبير تبعا لجماعة أنه دفن خارج باب الجيسة بفاس والصواب خارج باب المحروق كما أشبعت الكلام على ذلك في أزهار الرياض وقد زرته مرارا وقبره هنالك مقصود للزيارة خارج القصبة وقد صرح بذلك بعض المتقدمين الذين حضروا وفاته وقال إنه دفن بتربة القائد مظفر خارج القصبة وصلى عليه صاحبه أبو الحكم بن حجاج رحمه الله تعالى ومن بديع نظمه
( أتتني تؤنبني بالبكاء فأهلا بها وبتأنيبها )
( تقول وفي نفسها حسرة ... أتبكي بعين تراني بها )
( فقلت إذا استحسنت 7 غيركم ... أمرت جفوني بتعذيبها )
وقال رحمه الله تعالى دخل علي الأديب ابن صارة وبين يدي نار علاها رماد فقلت له قل في هذه فقال

( شابت نواصي النار بعد سوادها ... وتسترت عنا بثوب رماد )
ثم قال لي أجز فقلت
( شابت كما شبنا وزال شبابنا ... فكأنما كنا على ميعاد )
وقد اختلف حذاق الأدباء في قوله ولكنه رمح وثان وثالث ما هو الثاني والثالث 11 فقيل القد واللحظ وقيل غير ذلك
ولما ذكر رحمه الله تعالى في كتابه قانون التأويل ركوبه البحر في رحلته من إفريقية قال وقد سبق في علم الله تعالى أن يعظم علينا البحر بزوله ويغرقنا في هوله فخرجنا من البحر خروج الميت من القبر وانتهينا بعد خطب طويل إلى بيوت بني كعب بن سليم ونحن من السغب على عطب ومن العري في أقبح زي قد قذف البحر زقاق زيت مزقت الحجارة منيئتها ودسمت الأدهان وبرها وجلدتها فاحترمناها أزرا واشتملناها لفافا تمجنا الأبصار وتخذلنا الأنصار فعطف أميرهم علينا فأوينا إليه فآوانا وأطعمنا الله تعالى على يديه وسقانا وأكرم مثوانا وكسانا بأمر حقير ضعيف وفن من العلم طريف وشرحه أنا لما وقفنا على بابه ألفيناه يدير أعواد الشاه فعل السامد اللاه فدنوت منه في تلك الأطمار وسمح لي بياذقته إذ كنت من الصغر في حد يسمح فيه للأغمار ووقفت بإزائهم أنظر إلى تصرفهم من ورائهم إذ كان علق بنفسي بعض ذلك من بعض القرابة في خلس البطالة مع غلبة الصبوة والجهالة فقلت للبياذقة الأمير أعلم من

صاحبه فلمحوني شزرا وعظمت في أعينهم بعد أن كنت نزرا وتقدم إلى الأمير من نقل إليه الكلام فاستدناني فدنوت منه وسألني هل لي بما هم فيه بصر فقلت لي فيه بعض نظر سيبدو لك ويظهر حرك تلك القطعة ففعل وعارضه صاحبه فأمرته أن يحرك أخرى وما زالت الحركات بينهم كذلك تترى حتى هزمهم الأمير وانقطع التدبير فقالوا ما أنت بصغير وكان في أثناء تلك الحركات قد ترنم ابن عم الأمير منشدا
( وأحلى الهوى ما شك في الوصل ربه ... وفي الهجر فهو الدهر يرجو ويتقي )
فقال لعن الله أبا الطيب أو يشك الرب فقلت له في الحال ليس كما ظن صاحبك أيها الأمير إنما أراد بالرب ههنا الصاحب يقول ألذ الهوى ما كان المحب فيه من الوصال وبلوغ الغرض من الآمال على ريب فهو في وقته كله على رجاء لما يؤمله وتقاة لما يقطع به كما قال
( إذا لم يكن في الحب سخط ولا رضا ... فأين حلاوات الرسائل والكتب ) وأخذنا نضيف إلى ذلك من الأغراض في طرفي الإبرام والانتقاض ما حرك منهم إلى جهتي داعي الانتهاض وأقبلوا يتعجبون مني ويسألونني كم سني ويستكشفونني عني فبقرت لهم حديثي وذكرت لهم نجيثي وأعلمت الأمير بأن أبي معي فاستدعاه وقمنا الثلاثة إلى مثواه فخلع علينا خلعه وأسبل علينا أدمعه وجاء كل خوان بأفنان والألوان
ثم قال بعد المبالغة في وصف ما نالهم من إكرامه فانظر إلى هذا العلم الذي هو إلى الجهل أقرب مع تلك الصبابة اليسيرة من الأدب كيف أنقذا من العطب وهذا الذكر يرشدكم إن عقلتم إلى المطلب وسرنا حتى انتهينا إلى ديار مصر انتهى مختصرا
والزول العجب ونجيث الخبر ما ظهر من قبيحه يقال بدا نجيث

القوم إذا ظهر سرهم الذي كانوا يخفونه قالهما الجوهري
وذكر - رحمه الله تعالى - في رحلته عجائب منها أنه حكى دخوله بدمشق بيوت بعض الأكابر أنه رأى فيه النهر جائيا إلى موضع جلوسهم ثم يعود من ناحية أخرى فلم أفهم معنى ذلك حتى جاءت موائد الطعام في النهر المقبل إلينا فأخذها الخدم ووضعوها بين يدينا فلما فرغنا ألقى الخدم الأواني وما معها في النهر الراجع فذهب بها الماء إلى ناحية الحريم من غير أن يقرب الخدم تلك الناحية فعلمت السر وإن هذا لعجيب انتهى بمعناه
وقال في قانون التأويل ورد علينا دانشمند - يعني الغزالي - فنزل برباط أبي سعد بإزاء المدرسة النظامية معرضا عن الدنيا مقبلا على الله تعالى فمشينا إليه وعرضنا أمنيتنا عليه وقلت له أنت ضالتنا التي كنا ننشد وإمامنا الذي به نسترشد فلقينا لقاء المعرفة وشاهدنا منه ما كان فوق الصفة وتحققنا أن الذي نقل إلينا من أن الخبر على الغائب فوق المشاهدة ليس على العموم ولو رآه علي بن العباس لما قال
( إذا ما مدحت امرأ غائبا ... فلا تغل في مدحه واقصد )
( فإنك إن تغل تغل الظنون ... فيه إلى الأمد الأبعد )
( فيصغر من حيث عظمته ... لفضل المغيب على المشهد )
وكنت نقلت من المطمح في حقه ما صورته علم الأعلام الطاهر الأثواب الباهر الألباب الذي أنسى ذكاء إياس وترك التقليد للقياس وأنتج الفرع

من الأصل وغدا في يد الإسلام أمضى من النصل سقى الله تعالى به الأندلس بعدما أجدبت من المعارف ومد عليها منه الظل الوارف وكساها رونق نبله وسقاها ريق وبله وكان أبوه أبو محمد بإشبيلية بدرا في فلكها وصدرا في مجلس ملكها واصطفاه معتمد بني عباد اصطفاء المأمون لابن أبي دواد وولاه الولايات الشريفة وبوأه المراتب المنيفة فلما أقفرت حمص من ملكهم وخلت وألقتهم منها وتخلت رحل به إلى المشرق وحل فيه محل الخائف الفرق فجال في أكنافه وأجال قداح الرجاء في العز واستئنافه فلم يسترد ذاهبا ولم يجد كمعتمده باذلا له وواهبا فعاد إلى الرواية والسماع وما استفاد من آمال تلك الأطماع وأبو بكر إذ ذاك في ثرى الذكاء قضيب ما دوح وفي روض الشباب زهر ما صوح فألزمه مجالس العلم رائحا وغاديا ولازمه سائقا إليها وحاديا حتى استقرت به مجالسه واطردت له مقايسه فجد في طلبه واستجد به أبوه متمزق أربه ثم أدركه حمامه ووارته هناك رجامه وبقي أبو بكر متجردا وللطلب متحردا حتى أصبح في العلم وحيدا ولم تجد عنه رياسته محيدا فكر إلى الأندلس فحلها والنفوس إليه متطلعة ولأنبائه مستمعة فناهيك من خطوة لقي ومن عزة سقي ومن رفعة سما إليها ورقي وحسبك من مفاخر قلدها ومحاسن أنس أثبتها فيها وخلدها وقد أثبت من بديع نظمه ما يهز أعطافا وترده الأفهام نطافا فمن ذلك قوله يتشوق إلى بغداد ويخاطب فيها أهل الوداد
( أمنك سرى والليل يخدع بالفجر ... خيال حبيب قد حوى قصب الفخر )
( جلا ظلم الظلماء مشرق نوره ... ولم يخبط الظلماء بالأنجم الزهر )

( ولم يرض بالأرض البسيطة مسحبا ... فسار على الجوزا إلى فلك يجري )
( وحث مطايا قد مطاها بعزة ... فأوطأها قسرا على قنة النسر )
( فصارت ثقالا بالجلالة فوقها ... وسارت عجالا تتقي ألم الزجر )
( وجرت على ذيل المجرة ذيلها ... فمن ثم يبدو ما هناك لمن يسري )
( ومرت على الجوزاء توضع فوقها ... فآثر ما مرت به كلف البدر )
( وساقت أريج الخلد من جنة العلا ... فدع عنك رملا بالأنيعم يستذري )
( فما حذرت قيسا ولا خيل عامر ... ولا أضمرت خوفا لقاء بني ضمر )
( سقى الله مصرا والعراق وأهلها ... وبغداد والشامين منهمل القطر ) انتهى
ومن تأليف الحافظ أبي بكر بن العربي المذكور كتاب القبس في شرح موطإ مالك بن أنس وكتاب ترتيب المسالك في شرح موطإ مالك وكتاب أنوار الفجر وكتاب أحكام القرآن وكتاب عارضة الأحوذي في شرح الترمذي والأحوذي - بفتح الهمزة وسكون الحاء المهملة وفتح الواو وكسر الذال المعجمة وآخره ياء مشددة وكتاب مراقي الزلف وكتاب الخلافيات وكتاب نواهي الدواهي وكتاب سراج المريدين وكتاب المشكلين مشكل القرآن والسنة وكتاب الناسخ والمنسوخ في القرآن وكتاب قانون التأويل وكتاب النيرين في الصحيحين وكتاب سراج المهتدين وكتاب الأمد الأقصى بأسماء الله الحسنى وصفاته العلا وكتاب في الكلام على مشكل حديث السبحات والحجاب وكتاب العقد الأكبر للقلب الأصغر و تبيين الصحيح في تعيين الذبيح و تفصيل التفضيل بين

التحميد والتهليل ورسالة الكافي في أن لا دليل على النافي وكتاب السباعيات وكتاب المسلسلات وكتاب المتوسط في معرفة صحة الاعتقاد والرد على من خالف أهل السنة من ذوي البدع والإلحاد وكتاب شرح غريب الرسالة وكتاب الإنصاف في مسائل الخلاف عشرون مجلدا وكتاب حديث الإفك وكتاب شرح حديث جابر في الشفاعة وكتاب شرح حديث أنم زرع وكتاب ستر العورة وكتاب المحصول في علم الأصول وكتاب أعيان الأعيان وكتاب ملجأة المتفقهين إلى معرفة غوامض النحويين وكتاب ترتيب الرحلة وفيه من الفوائد ما لا يوصف ومن فوائد القاضي أبي بكر بن العربي رحمه الله تعالى قوله قال علماء الحديث ما من رجل يطلب الحديث إلا كان على وجهه نضرة لقول النبي " نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها - الحديث " قال وهذا دعاء منه عليه الصلاة و السلام لحملة علمه ولا بد بفضل الله تعالى من نيل بركته انتهى
وإلى هذه النضرة أشار أبو العباس العزفي بقوله
( أهل الحديث عصابة الحق ... فازوا بدعوة سيد الخلق )
( فوجوههم زهر منضرة لألاؤها كتألق البرق )
( يا ليتني معهم فيدركني ... ما أدركوه بها من السبق )
انتهى ولا بأس أن نذكر هنا بعض فوائد الحافظ أبي بكر بن العربي رحمه الله تعالى فمنها قوله في تصريف المحصنات يقال أحصن الرجل فهو محصن - بفتح العين في اسم الفاعل - وأسهب في الكلام فهو مسهب إذا أطال

البحث فيه وألفج فهو ملفج إذا كان عديما لا رابع لها والله تعالى أعلم انتهى
ومنها قوله سمعت الشيخ فخر الإسلام أبا بكر الشاشي وهو ينتصر لمذهب أبي حنيفة في مجلس النظر يقول يقال في اللغة العربية لا تقرب كذا بفتح الراء أي لا تتلبس بالفعل وإذا كان بضم الراء كان معناه لا تدن من الموضع وهذا الذي قاله صحيح مسموع انتهى
ومنها قوله شاهدت المائدة بطورزيتا مرارا وأكلت عليها ليلا ونهارا وذكرت الله سبحانه وتعالى فيها سرا وجهارا وكان ارتفاعها أشف من القامة بنحو الشبر وكان لها درجتان قبليا وجنوباي وكانت صخرة صلودا لا تؤثر فيها المعاول وكان الناس يقولون مسخت صخرة إذ مسخ أربابها قردة وخنازير والذي عندي أنها كانت صخرة في الأصل قطعت من الأرض محلا للمائدة النازلة من السماء وكل ما حولها حجارة مثلها وكان ما حولها محفوفا بقصور وقد نحتت في ذلك الحجر الصلد بيوت أبوابها منها ومجالسها منها مقطوعة فيها وحناياها في جوانبها وبيوت خدمتها قد صورت من الحجر كما تصور من الطين والخشب فإذا دخلت في قصر من قصورها ورددت الباب وجعلت من ورائه صخرة مقدار ثمن درهم لم يفتحه أهل الأرض للصوقه بالأرض وإذا هبت الريح وحثت تحته التراب لم يفتح إلا بعد صب الماء تحته والإكثار منه حتى يسيل بالتراب وينفرج منفرج الباب وقد بار بها قوم بهذه العلة وقد كنت أخلو فيها كثيرا للدرس ولكني كنت في كل حين أكنس حول الباب مخافة مما جرى لغيري فيها وقد شرحت أمرها في كتاب ترتيب الرحلة بأكثر من هذا انتهى
ومنها قوله رحمه الله تعالى تذاكرت بالمسجد الأقصى مع شيخنا أبي بكر الفهري الطرطوشي في حديث أبي ثعلبة المرفوع " إن من ورائكم أياما للعامل فيها أجر خمسين منكم فقالوا بل منهم فقال بل منكم لأنكم تجدون على الخير أعوانا وهم لا يجدون عليه أعوانا " وتفاوضنا كيف يكون أجر من يأتي من الأمة أضعاف أجر الصحابة مع أنهم قد أسسوا الإسلام وعضدوا الدين وأقاموا المنار وافتتحوا الأمصار وحموا البيضة ومهدوا الملة وقد قال في الصحيح " لو أنفق أحدكم كل يوم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه " فتراجعنا القول وتحصل ما أوضحناه في شرح الصحيح وخلاصته أن الصحابة كانت لهم أعمال كثيرة لا يلحقهم فيها أحد ولا يدانيهم فيها بشر وأعمال سواها من فروع الدين يساويهم فيها في الأجر من أخلص إخلاصهم وخلصها من شوائب البدع والرياء بعدهم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باب عظيم هو ابتداء الدين والإسلام وهو أيضا انتهاؤه وقد كان قليلا في ابتداء الإسلام صعب المرام لغلبة الكفار على الحق وفي آخر الزمان أيضا يعود كذلك لوعد الصادق بفساد الزمان وظهور الفتن وغلبة الباطل واستيلاء التبديل والتغيير على الحق من الخلق وركوب من يأتي سنن من مضى من أهل الكتاب كما قال " لتركبن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب خرب لدخلتموه " وقال " بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ " فلا بد والله تعالى أعلم بحكم هذا الوعد الصادق أن يرجع الإسلام إلى واحد كما بدأ من واحد ويضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى إذا قام به قائم مع احتواشه بالمخاوف وباع نفسه من الله تعالى في الدعاء إليه كان له من الأجر أضعاف

ما كان لمن كان متمكنا منه معانا عليه بكثرة الدعاة إلى الله تعالى وذلك قوله " لأنكم تجدون على الخير أعوانا وهم لا يجدون عليه أعوانا " حتى ينقطع ذلك انقطاعا باتا لضعف اليقين وقلة الدين كما قال " لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله " يروى برفع الهاء ونصبها فالرفع على معنى لا يبقى موحد يذكر الله عز و جل والنصب على معنى لا يبقى آمر بمعروف ولا ناه عن المنكر يقول أخاف الله وحينئذ يتمنى العاقل الموت كما قال " لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتني كنت مكانه " انتهى وأنشد رحمه الله تعالى لبعض الصوفية
( امتحن الله بذا خلقه ... فالنار والجنة في قبضته )
( فهجره أعظم من ناره ... ووصله أطيب من جنته ) ومن فوائد ابن العربي رحمه الله تعالى أنه قال كنت بمجلس الوزير العادل أبي منصور ابن جهير على رتبة بيناها في كتاب الرحلة للترغيب في الملة فقرأ القارئ ( تحيتهم يوم يلقونه سلام ) [ الأحزاب 44 ] وكنت في الصف الثاني من الحلقة بظهر أبي الوفاء علي بن عقيل إمام الحنبلية بمدينة السلام وكان معتزلي الأصول فلما سمعت الآية قلت لصاحب لي كان يجلس على

يساري هذه الآية دليل على رؤية الله في الآخرة فإن العرب لا تقول لقيت فلانا إلا إذا رأته فصرف وجهه أبو الوفاء مسرعا إلينا وقال ينتصر لمذهب الاعتزال في أن الله تعالى لا يرى في الآخرة فقد قال الله تعالى ( فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه ) [ التوبة 77 ] وعندك أن المنافقين لا يرون الله تعالى في الآخرة وقد شرحنا وجه الآية في المشكلين وتقدير الآية فأعقبهم هو نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه فيحتمل ضمير يلقونه أن يعود إلى ضمير الفاعل في ( أعقبهم ) المقدر بقولنا هو ويحتمل أن يعود إلى النفاق مجازا على تقدير الجزاء انتهى
ومنها ما نقله عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لا يقل أحدكم انصرفنا من الصلاة فإن قوما قيل فيهم ( ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم ) [ التوبة 127 ] وقد أخبرنا محمد بن عبد الملك القيسي الواعظ أخبرنا أبو الفضل الجوهري سماعا منه كنا في جنازة فقال المنذر بها انصرفوا رحمكم الله تعالى فقال لا يقل أحدكم انصرفوا فإن الله تعالى قال في قوم ذمهم ( ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم ) [ التوبة 127 ] ولكن قولوا انقلبوا رحمكم الله فإن الله تعالى قال في قوم مدحهم ( فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء ) [ آل عمران 174 ]
انتهى ومنها وقد ذكر الخلاف في شاهد يوسف ما صورته فإذا قلنا إنه القميص فكان يصح من جهة اللغة أن يخبر عن حاله بتقدم مقاله فإن لسان الحال أبلغ من لسان المقال في بعض الأمور وقد تضيف العرب الكلام إلى الجمادات بما تخبر عنه بما عليها من الصفات ومن أحلاه قول بعضهم قال الحائط للوتد لم تشقني قال سل من يدقني ما يتركني ورائي هذا الذي ورائي لكن قوله تعالى بعد ذلك ( من أهلها ) [ يوسف 26 ] في

صفة الشاهد يبطل أن يكون القميص وأما من قال إنه ابن عمها أو رجل من أصحاب العزيز فإنه يحتمل لكن قوله ( من أهلها ) [ يوسف 26 ] يعطي اختصاصها من جهة القرابة انتهى
ومنها قوله إنه كان بمدينة السلام إمام من الصوفية وأي إمام يعرف بابن عطاء فتكلم يوما على يوسف وأخباره حتى ذكر تبرئته مما ينسب إليه من مكروه فقام رجل من آخر مجلسه وهو مشحون بالخليقة من كل طائفة فقال يا شيخ يا سيدنا فإذن يوسف هم وما تم فقال نعم لأن العناية من ثم فانظروا إلى حلاوة العالم والمتعلم وفطنة العامي في سؤاله والعالم في اختصاره واستيفائه ولذا قال علماؤنا الصوفية إن فائدة قوله تعالى ( ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما ) [ يوسف 22 ] إن الله تعالى أعطاه العلم والحكمة أيام غلبة الشهوة لتكون له سببا للعصمة انتهى ومنها قوله كنت بمكة مقيما في ذي الحجة سنة تسع وثمانين وأربعمائة وكنت أشرب من ماء زمزم كثيرا وكلما شربته نويت به العلم والإيمان ففتح الله تعالى لي ببركته في المقدار الذي يسره لي من العلم ونسيت أن أشربه للعمل ويا ليتني شربته لهما حتى يفتح الله تعالى لي فيهما ولم يقدر فكان صفوي للعلم أكثر منه للعمل وأسأل الله تعالى الحفظ والتوفيق برحمته
ومنها قوله سمعت إمام الحنابلة بمدينة السلام أبا الوفاء علي بن عقيل يقول إنما تبع الولد الأم في المالية وصار بحكمها في الرق والحرية لأنه انفصل عن الأب نطفة لا قيمة له ولا مالية فيه ولا منفعة مبثوثة عليه وإنما اكتسب ما اكتسب بها ومنها فلذلك تبعها كما لو أكل رجل تمرا في أرض رجل وسقطت منه نواة في الأرض من يد الآكل فصارت نخلة فإنها ملك صاحب

الأرض دون الآكل بإجماع من الأمة لأنها انفصلت عن الآكل ولا قيمة لها وهذه من البدائع انتهى
ومنها قوله ومن نوادر أبي الفضل الجوهري ما أخبرنا عنه محمد بن عبد الملك الواعظ وغيره أنه كان يقول إذا أمسكت علاقة الميزان بالإبهام والسبابة وارتفعت سائر الأصابع كان شكلها مقروا بقولك الله فكأنها إشارة منه سبحانه في تيسير الوزن كذلك إلى أن الله سبحانه مطلع عليك فاعدل في وزنك انتهى
ومنها قوله كان ابن الكازروني يأوي إلى المسجد الأقصى ثم تمتعنا به ثلاث سنوات ولقد كان يقرأ في مهد عيسى عليه السلام فيسمع من الطور فلا يقدر أحد أن يصنع شيئا دون قراءته إلا الإصغاء إليه انتهى
ومنها قوله في تفسير قوله تعالى ( في أيام نحسات ) [ فصلت 16 ] قيل إنها كانت آخر شوال من الأربعاء إلى الأربعاء والناس يكرهون السفر يوم الأربعاء لأجل هذه الرواية حتى إني لقيت يوما مع خالي الحسن بن أبي حفص رجلا من الكتاب فودعنا بنية السفر فلما فارقنا قال لي خالي إنك لا تراه أبدا لأنه سافر في يوم أربعاء لا يتكرر وكذا كان مات في سفره وهذا ما لا أراه لأن يوم الأربعاء يوم عجيب بما جاء في الحديث من الخلق فيه والترتيب فإن الحديث ثابت بأن الله تعالى خلق يوم السبت التربة ويوم الأحد الجبال ويوم الاثنين الشجر ويوم الثلاثاء المكروه ويوم الأربعاء النور وروي النون وفي غريب الحديث أنه خلق يوم الأربعاء التقن وهو كل شيء تتقن به الأشياء يعني المعادن من الذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص فاليوم الذي خلق فيه المكروه لا يعافه الناس واليوم الذي خلق فيه النور أو التقن يعافونه إن هذا لهو الجهل المبين وفي المغازي أن النبي دعا على الأحزاب من يوم الاثنين إلى يوم الأربعاء بين الظهر والعصر فاستجيب له وهي ساعة فاضلة فالآثار الصحاح تدل على

فضل هذا اليوم فكيف يدعى فيه التحذير والنحس بأحاديث لا أصل لها وقد صور قوم أياما من الأشهر الشمسية ادعوا فيها الكراهية لا يحل لمسلم أن ينظر إليها ولا يشغل بالا بها والله حسبهم انتهى
ومنها وكان يقرأ معنا برباط أبي سعيد على الإمام دانشمند من بلاد المغرب خنثى ليس له لحية وله ثديان وعنده جارية فربك أعلم به ومع طول الصحبة عقلني الحياء عن سؤاله وبودي اليوم لو كاشفته عن حاله انتهى
ومن شعر ابن العربي مما نسبه له الشيخ أبو حيان قوله
( ليت شعري هل دروا ... أي قلب ملكوا )
( وفؤادي لو درى ... أي شعب سلكوا )
( أتراهم سلموا ... أم تراهم هلكوا )
( حار أرباب الهوى ... في الهوى وارتبكوا )
ومن فوائده أخبرني المهرة من السحرة بأرض بابل أنه من كتب آخر آية من كل سورة ويعلقها لم يبلغ إليه سحرنا قال هكذا قالوا والله تعالى أعلم بما نقلوه وقال رحمه الله تعالى حذقت القرآن ابن تسع سنين ثم ثلاثا لضبط القرآن والعربية والحساب فبلغت ست عشرة وقد قرأت من الأحرف نحوا من عشرة بما يتبعها من إظهار وإدغام ونحوه وتمرنت في العربية والشعر واللغة ثم رحل بي أبي إلى المشرق ثم ذكر تمام رحلته رحمه الله تعالى
9 - ومنهم أبو بكر محمد بن أبي عامر بن حجاج الغافقي الإشبيلي ومن نظمه بالمدينة المشرفة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام

( لم يبق لي سؤل ولا مطلب ... مذ صرت جارا لحبيب الحبيب )
( لا أبتغي شيئا سوى قربه ... وها أنا منه قريب قريب )
( من غاب عن حضرة محبوبه ... فلست عن طيبة ممن يغيب )
( لا تسأل المغبوط عن حاله ... جار كريم ومحل خصيب )
( العيش والموت هنا طيب ... بطيبة لي كل شيء بطيب )
وممن روى عنه هذه الأبيات الأشرف بن الفاضل
10 - ومنهم الشيخ الأديب الفاضل البارع جمال الدين أبو عبد الله محمد ابن الفقيه الخطيب أبي الحسن محمد بن أبي عبد الله محمد بن عيسى بن محمد بن علي بن ذي النون الأنصاري المالقي من أشياخ أبي حيان لقيه ببلبيس من ديار مصر قال وأنشدني لشيخه أبي عبد الله الإستجي من قصيدة
( ما للنسيم سرى الأصيل عليلا ... أتراه يشكو لوعة وغليلا )
( جر الذيول على ديار أحبتي ... فأتى يجر من السقام ذيولا )
وأنشد رحمه الله تعالى لرضوان المخزومي
( إن كنت يوسف حسنا ... وكنت عبد العزيز )
( فإن يوسف من قبل ... كان عبد العزيز )
وأخذ ابن ذي النون المذكور عن أبي عبد الله بن صالح وقرأ للسبعة على أبي جعفر الفحام وأبي زيد القمارشي وعلى أبي جعفر السهيلي وولد ابن

ذي النون سنة 617 بمالقة ومن تواليفه نفح المسك الأذفر في مدح المنصور بن المظفر و أزهار الخميلة في الآثار الجميلة و استطلاع البشير و محض اليقين و روض المتقين
11 - ومنهم زياد بن عبد الرحمن بن زياد اللخمي المعروف بشبطون يكنى أبا عبد الله كان فقيه الأندلس على مذهب مالك وهو أول من أدخل مذهبه الأندلس وكانوا قبله يتفقهون على مذهب الأوزاعي وأراده الأمير هشام على القضاء بقرطبة وعزم عليه فهرب فقال هشام ليت الناس كلهم كزياد حتى أكفى أهل الرغبة في الدنيا وأرسل إلى زياد فأمنه حتى رجع إلى داره
ويحكى أنه لما أراده للقضاء كلمه الوزراء في ذلك عن الأمير وعرفوه عزمه عليه فقال لهم أما إن أكرهتموني على القضاء فزوجتي فلانة طالق ثلاثا لئن أتاني مدع في شيء مما في أيديكم لأخرجنه عنكم ثم أجعلكم مدعين فيه فلما سمعوا منه ذلك علموا صدقه فتكلموا عند الأمير في معافاته
سمع من مالك الموطأ ويعرف سماعه بسماع زياد وسمع من معاوية بن صالح وكانت ابنة معاوية تحته وروى يحيى بن يحيى الليثي عن زياد هذا الموطأ قبل أن يرحل إلى مالك ثم رحل فأدرك مالكا فرواه عنه إلا أبوابا في كتاب الاعتكاف شك في سماعها من مالك فأبقى روايته فيها عن زياد عن مالك
وتوفي سنة أربع ومائتين وقيل سنة 193 وقيل في التي بعدها وقيل سنة 199 والأول أولى بالقبول والله تعالى أعلم
ورحل في ذلك العصر جماعة من أنظار شبطون كفرغوس بن العباس

وعيسى بن دينار وسعيد بن أبي هند وغيرهم ممن رحل إلى الحج أيام هشام بن عبد الرحمن والد الحكم فلما رجعوا وصفوا من فضل مالك وسعة علمه وجلالة قدره ما عظم به صيته بالأندلس فانتشر يومئذ رأيه وعلمه بالأندلس وكان رائد الجماعة في ذلك شبطون
وهو أول من أدخل موطأ مالك إلى الأندلس مكملا متقنا فأخذه عنه يحيى بن يحيى كما مر وهو إذ ذاك صدر في طلاب الفقه فأشار عليه زياد بالرحيل إلى مالك ما دام حيا فرحل سريعا وأخذ يحيى عن زياد هذا الكتب العشرة المنسوبة إلى يحيى
ولقي أيضا عبد الله بن وهب صاحب مالك وسمع منه الموطأ ولقي أيضا عبد الله بن نافع المدني صاحب مالك وسمع منه ومن الليث بن سعد فقيه مصر ومن سفيان بن عيينة بمكة وقدم يحيى الأندلس أيام الحكم فانتشر به وبزياد وعيسى بن دينار علم مالك بالأندلس رضي الله تعالى عن الجميع
وقد قدمنا الحديث الذي رواه زياد بن عبد الرحمن عن مالك فليراجع في الباب الثالث
12 - ومنهم سوار بن طارق مولى عبد الرحمن بن معاوية قرطبي حج ودخل البصرة ولقي الأصمعي ونظراءه وانصرف إلى الأندلس وأدب الحكم ومن ولده محمد بن عبد الله بن سوار حج أيضا ولقي أبا حاتم بالبصرة والرياشي وغيرهما وأدخل الأندلس علما كثيرا رحم الله

تعالى الجميع
13 - ومنهم بقي بن مخلد الشهير الذكر صاحب التآليف التي لم يؤلف مثلها في الإسلام ولقي مائتين وأربعة وثمانين شيخا وكانت له خاصة من الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى وستأتي جملة فيما يتعلق ببقي بن مخلد في رسالة ابن حزم في الباب السابع وبقي على وزن علي رحمه الله تعالى ورضي عنه وقد عرف ببقي بن مخلد غير واحد من العلماء كصاحب النبراس وغيره
14 - ومنهم قاسم بن أصبع بن محمد بن يوسف أبو محمد البياني وبيانه من أعمال قرطبة وأصل سلفه من موالي الوليد بن عبد الملك وسمع المذكور بقرطبة من بقي بن مخلد ومحمد بن وضاح ومطرف بن قيس وأصبغ ابن خليل وابن مسرة وغير واحد ورحل إلى المشرق مع محمد بن زكريا بن عبد الأعلى سنة أربع وسبعين ومائتين فسمع بمكة من محمد بن إسماعيل الصائغ وعلي بن عبد العزيز ودخل العراق فلقي من أهل الكوفة إبراهيم بن أبي العنبس قاضيها وإبراهيم بن عبد الله القصار وسمع ببغداد من القاضي إسماعيل وأحمد بن زهير بن حرب وغيرهما كعبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل والحارث بن أبي أسامة وكتب عن ابن أبي خيثمة

تاريخه وسمع من ابن قتيبة كثيرا من كتبه وسمع من المبرد وثعلب وابن الجهم في آخرين وسمع بمصر من محمد بن عبد الله العمري ومطلب بن شعيب وغيرهما وسمع بالقيروان من أحمد بن يزيد المعلم وبكر بن حماد التاهرتي الشاعر وانصرف إلى الأندلس بعلم كثير فمال الناس إليه في تاريخ أحمد ابن زهير وكتب ابن قتيبة وأخذوا ذلك عنه دون صاحبيه ابن أيمن وابن عبد الأعلى وكان بصيرا بالحديث والرجال نبيلا في النحو والعربية والشعر وكان يشاور في الأحكام وصنف على كتاب السنن لأبي داود كتابا في الحديث وسببه أنه لما قدم العراق سنة ست وسبعين ومائتين مع صاحبه محمد ابن أيمن فوجدا أبا داود قد مات قبل وصولهما بيسير فلما فاتهما عمل كل واحد منهما مصنفا في السنن على أبواب كتاب أبي داود وخرجا الحديث من روايتهما عن شيوخهما وهما مصنفان جليلان ثم أختصر قاسم ابن اصبغ كتابه وسماه المجتنى بالنون وابتدأ اختصاره في المحرم سنة أربع وعشرين وثلاثمائة وجعله باسم الحكم المستنصر وفيه من الحديث المسند ألفان وأربعمائة وتسعون حديثا في سبعة أجزاء
ومولده يوم الأثنين عاشر ذي الحجة سنة سبع وأربعين ومائتين رحمه الله تعالى
وحكى القرطبي في تفسيره عند قوله تعالى ( قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا ) أن قاسم بن أصغ قال لما رحلت إلى المشرق نزلت القيروان فأخذت عن بكر بن حماد حديث مسدد فقرأت عليه يوما فيه حديث النبي أنه قدم عليه قوم من مضر مجتابي التمار فقال إنما هو مجتابي الثمار فقلت إنما هو مجتابي النمار هكذا قرأته

على كل من لقيته بالأندلس والعراق فقال لي بدخولك العراق تعارضنا وتفخر علينا أو نحو هذا ثم قال لي قم بنا إلى ذلك الشيخ لشيخ كان في المسجد فإن له بمثل هذا علما فقمنا إليه وسألناه عن ذلك فقال إنما هو مجتابي النمار كما قلت وهم قوم كانوا يلبسون الثياب مشققة جيوبهم أمامهم والنمار جمع نمرة فقال بكر بن حماد وأخذ بأنفه رغم أنفي للحق وانصرف انتهى
وهذه الحكاية دالة على عظيم قدر الرجلين رحمهما الله تعالى ورضي عنهما ونفعنا بهما
15 - ومنهم قاسم بن ثابت أبو محمد العوفي السرقسطي رحل مع أبيه فسمع بمصر من أحمد بن شعيب النسائي وأحمد بن عمرو البزار وبمكة من عبد الله بن علي بن الجارود ومحمد بن علي الجوهري واعتنى بجمع الحديث واللغة هو وأبوه فأدخلا إلى الأندلس علما كثيرا ويقال إنهما أول من أدخل كتاب العين إلى الأندلس وألف قاسم في شرح الحديث كتابا سماه الدلائل بلغ فيه الغاية في الإتقان ومات قبل إكماله فأكمله أبوه ثابت بعده وقد روي عن أبي علي البغدادي أنه كان يقول كتبت كتاب الدلائل وما أعلم أنه وضع بالأندلس مثله وكان قاسم عالما بالحديث واللغة متقدما في معرفة الحديث والنحو والشعر وكان مع ذلك ورعا ناسكا وأريد على القضاء بسرقسطة فأبى ذلك فأراد أبوه إكراهه عليه فسأله أن يتركه ينظر في أمره ثلاثا ويستخير الله تعالى فمات في هذه الثلاثة الأيام فيروون أنه دعا لنفسه بالموت وكان مجاب

الدعوة توفي سنة302 بسرقسطة رحمه الله تعالى
16 - ومنهم علم الدين أبو محمد المرسي اللورقي وهو قاسم بن أحمد بن موفق بن جعفر العلامة المقرىء الأصولي النحوي ولد سنة خمس وسبعين وخمسمائة وقرأ بالروايات قبل الستمائة على أبي جعفر الحصار وأبي عبد الله المرادي وأبي عبد الله بن نوح الغافقي وقدم مصر فقرأ بها على أبي الجود غياث بن فارس وبدمشق على التاج زيد الكندي وسمع ببغداد من أبي محمد بن الأخضر وأخذ العربية عن أبي البقاء ولقي الجزولي بالمغرب وسأله عن مسألة مشكلة في مقدمته فأجابه وبرع في العربية وفي علم الكلام والفلسفة وكان يقرئ ذلك ويحققه وأقرأ بدمشق ودرس وشرح المفصل في النحو في أربع مجلدات فأجاد وأفاد وشرح الجزولية والشاطبية وكان مليح الشكل حسن البزة موطأ الأكناف قرأ عليه جماعة وتوفي سابع رجب سنة 661 وكان معمرا مشتغلا بأنواع العلوم وسماه بعضهم أبا القاسم والأول أصح
17 - ومنهم قاسم بن محمد بن قاسم بن محمد بن سيار أبو محمد من أهل قرطبة وجده مولى الوليد بن عبد الملك رحل فسمع بمصر من محمد بن عبد الله بن عبد الحكم والمزني والبرقي والحارث بن مسكين ويونس بن عبد الأعلى وإبراهيم بن المنذر وغيرهم ولزم ابن عبد الحكم للتفقه وتحقق به وبالمزني وكان يذهب مذهب الحجة والنظر وترك التقليد ويميل إلى مذهب

الشافعي ولما قال له ابنه محمد بن القاسم يا أبت أوصني قال أوصيك بكتاب الله فلا تنس حظك منه واقرأ منه كل يوم جزءا واجعل ذلك عليك واجبا وإن أردت أن تأخذ من هذا الأمر بحظ يعني الفقه فعليك برأي الشافعي فإني رأيته أقل خطأ قال أبو الوليد بن الفرضي ولم يكن بالأندلس مثله في حسن النظر والبصر بالحجة وقال أحمد بن خالد ومحمد بن عمر بن لبابة ما رأينا أفقه من قاسم بن محمد ممن دخل الأندلس من أهل الرحلة وقال أسلم بن عبد العزيز سمعت عن ابن عبد الحكم أنه قال لم يقدم علينا من الأندلس أحد أعلم من قاسم بن محمد ولقد عاتبته في حين انصرافه إلى الأندلس وقلت له أقم عندنا فإنك تقتعد ههنا رياسة ويحتاج الناس إليك فقال لا بد من الوطن وقال سعيد بن عثمان قال لي أحمد بن صالح الكوفي قدم علينا من بلادكم رجل يسمى قاسم بن محمد فرأيت رجلا فقيها وألف رحمه الله تعالى كتابا نبيلا في الرد على ابن مزين وعبد الله بن خالد والعتبي يدل على علمه وله كتاب في خبر الواحد وكان يلي وثائق الأمير محمد طول أيامه روى عنه ابن لبابة وابن أيمن والأعناقي وابنه محمد بن قاسم في آخرين توفي سنة ست - أو سبع أو ثمان - وسبعين ومائتين رحمه الله تعالى !
18 - ومنهم أبو بكر الغساني وهو محمد بن إبراهيم بن أحمد بن أسود من أهل المرية قدم إلى مصر ولقي بها أبا بكر الطرطوشي ثم عاد إلى بلده

وشوور واستقضي بمرسية مدة طويلة ثم صرف وسكن مراكش قال ابن بشكوال توفي بمراكش في رجب سنة 636 وقال أبو جعفر بن الزبير إن له كتاب تفسير القرآن وبيته بيت علم ودين
19 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن حيون من أهل وادي الحجارة قال ابن الفرضي سمع من ابن وضاح والخشني ونظرائهما بالأندلس ورحل إلى المشرق فتردد هنالك نحوا من خمس عشرة سنة وسمع بصنعاء ومكة وبغداد ولقي جماعة من أصحاب الإمام أحمد بن حنبل منهم عبد الله بن أحمد وسمع بمصر من الخفاف النيسابوري وإبراهيم بن موسى وغيرهما وبالمصيصة والقيروان وكان إماما في الحديث عالما حافظا للعلل بصيرا بالطرق ولم يكن بالأندلس قبله أبصر بالحديث منه وهو ضابط متقن حسن التوجيه للحديث صدوق ولم يذهب مذهب مالك وممن روى عنه ابن أيمن وقاسم بن أصبغ ووهب بن مسرة وأحمد بن سعيد بن حزم وقال خالد بن سعيد لو كان الصدق إنسانا لكان ابن حيون وكان يزن بالتشييع لشيء كان يظهر منه في حق معاوية رضي الله تعالى عنه وكان شاعرا وتوفي بقرطبة سنة 305 سامحه الله تعالى
20 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن غالب المالقي قال ابن نقطة سمع بالإسكندرية من أبي الحسن بن المقدسي وكان فاضلا

رأيت بخطه إجازة بمصر لبعض المصريين في رجب سنة 604 وسمع بمصر شيئا من الخلعيات قال ابن فرتون الفاسي في ذيل تاريخ الأندلس روى بمالقة ورحل إلى المشرق وحج ولقي أبا الحسن علي بن المفضل المقدسي وأخذ عنه كتاب تحقيق الجواب عمن أجيز له ما فاته من الكتاب من تآليفه ورجع إلى الأندلس ثم نهض إلى مراكش فتوفي في أقصى بلاد السوس في حدود سنة 645 رحمه الله تعالى
21 - ومنهم اليقوري وهو أبو عبد الله محمد بن إبراهيم مصنف كتاب إكمال الإكمال للقاضي عياض على صحيح مسلم وكتب على كتاب الشهاب القرافي في الأصول وسمع الحديث وقدم إلى مصر ومعه مصحف قرآن حمل بغل بعثه ملك المغرب ليوقف بمكة ثم عاد بعد حجه ومات بمراكش سنة 707 وقد زرت قبره بها مرارا قال الحافظ المقريزي واليقوري نسبة إلى يقورة - بياء آخر الحروف مفتوحة وقاف مشددة وراء مهملة - بلد بالأندلس انتهى
22 - ومنهم أبو عبد الله الأنصاري وهو محمد بن إبراهيم بن موسى بن عبد السلام ويعرف بابن شق الليل من أهل طليطلة سمع بمصر أبا الفرج الصوفي وأبا القاسم الطحان الحافظ وأبا محمد بن النحاس وأبا القاسم بن ميسرة وأبا الحسن بن بشر وغيرهم وسمع بطليطلة من جماعة وحدث عن جماعة من المحدثين كثيرة
قال ابن بشكوال وكان فقيها عالما وإماما متكلما حافظا للفقه والحديث قائما بهما متقنا لهما إلا أن المعرفة بالحديث وأسماء رجاله والبصر

بمعانيه وعلله كان أغلب عليه وكان مليح الخط جيد الضبط من أهل الرواية والدراية والمشاركة في العلوم وكان أديبا شاعرا مجيدا لغويا دينا فاضلا كثير التصانيف والكلام على علم الحديث حلو الكلام في تآليفه وله عناية بأصول الديانات وإظهار الكرامات وتوفي بطلبيرة يوم الجمعة منتصف شعبان سنة 455 رحمه الله تعالى
23 - ومنهم الشيخ الإمام الشهير الكبير الولي العارف بالله تعالى سيدي أبو عبد الله القرشي الهاشمي الأندلسي شيخ السالكين وإمام العارفين وقدوة المحققين قدم مصر بعدما صحب ببلاد المغرب جماعة من أعلام الزهاد وكان يقول صحبت ستمائة شيخ اقتديت منهم بأربعة الشيخ أبي الربيع والشيخ أبي الحسن بن طريف والشيخ أبي زيد القرطبي والشيخ أبي العباس الجوزي وسلك على يده جماعة منهم أبو العباس القسطلاني فإنه أخذ عنه كلامه وجمعه في جزء وخرج سيدي أبو عبد الله القرشي من مصر إلى بيت المقدس فأقام به إلى حين وفاته عشية الخميس السادس من ذي الحجة سنة 599 عن خمس وخمسين سنة ودفن هنالك وقبره ظاهر يقصد للزيارة زرته أول قدماتي على بيت المقدس سنة 1028 ومن كلامه من لم يدخل في الأمور بالأدب لم يدرك مطلوبه منها وقوله العاقل يأخذ ما صفا ويدع التكلف فإنه تعالى يقول ( وإن يردك بخير فلا راد لفضله ) [ يونس 107 ] وقال من لم يراع حقوق الإخوان بترك حقوقه حرم بركة الصحبة وقال سمعت الشيخ أبا إسحاق إبراهيم بن طريف يقول لما حضرت الشيخ أبا الحسن بن غالب الوفاة قال لأصحابه اجتمعوا وهللوا سبعين ألف مرة واجعلوا ثوابها لي فإنه بلغني أنها فداء كل مؤمن من النار قال فعملناها واجتمعنا عليها وجعلنا ثوابها له

ثم حكى عن شيخه أبي زيد القرطبي ما حكاه السنوسي عنه في أواخر شرح صغراه وقد أنكر غير واحد من الحفاظ كابن حجر وغيره كون ما ذكر حديثا ولعل هؤلاء أخذوه من جهة الكشف ونحوه والله تعالى أعلم وقال رحمه الله تعالى دخلت على الشيخ أبي محمد عبد الله المغاور فقال لي أعلمك شيئا تستعين به إذا احتجت لشيء فقل يا واحد يا أحد يا واجد يا جواد انفحنا منك بنفحة خير إنك على كل شيء قدير قال فأنا أنفق منها منذ سمعتها وقال رحمه الله تعالى ما من حال ذكر في رسالة القشيري إلا وقد شاهدته نفسي وتزوج رحمه الله تعالى بنساء حدثن عنه بكرامات ومنهن أم القطب القسطلاني وحكت أنها خرجت عنه يوما لحاجتها ثم عادت فسمعت عنده في طبقته حس رجل فتوقفت وافتقدت الباب فوجدته مغلقا فلما انقطع الكلام دخلت إليه فإذا هو وحده كما تركته ومسألته عن ذلك فقال هو الخضر دخل علي وفي يده حية فقال هذه جئتك بها من أرض نجد وفيها شفاء مرضك فقلت لا أريد اذهب أنت وحيتك لا حاجة لي بها ودخل عليه بعض نسائه يوما فوجدته بصيرا نقي الجسم من الجذام فلما نظرته قال لها أتريدين أن أبقى لك هكذا فقالت له يا سيدي كن كيف شئت إنما مقصودي خدمتك وبركتك وقيل له وقد تكاثرت منه رؤية الأشياء وإخباره بها مع كونه ضريرا عن ذلك فقال كلي عين بأي الشام فلما وصلت إلى بلد الخليل عليه السلام تلقاني رسول الله الخليل حين ورودي عليه فقلت له يا رسول الله اجعل ضيافتي عندك أهل مصر فدعا لهم ففرج الله عنهم ومناقبه رحمه الله تعالى وكراماته لا يفي بها هذا المختصر وإنما قصدنا بذكرها البركة وكفارة ما وقع في هذا الكتاب من الإحماض والله المرجو في العفو

ومن فوائده ما نقله عن شيخه أبي الربيع المالقي أنه قال له ألا أعلمك كنزا تنفق منه ولا ينفد قلت بلى قال قل يا الله يا أحد يا واحد يا موجود يا جواد يا باسط يا كريم يا وهاب يا ذا الطول يا غني يا مغني يا فتاح يا رزاق يا عليم يا حي يا قيوم يا رحمن يا رحيم يا بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حنان يا منان انفحني منك بنفحة خير تغنيني بها عمن سواك ( إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ) [ الأنفال 19 ] ( إنا فتحنا لك فتحا مبينا ) [ الفتح 1 ] ( نصر من الله وفتح قريب ) [ الصف 13 ] اللهم يا غني يا حميد يا مبدىء يا معيد يا ودود يا ذا العرش المجيد يا فعالا لما يريد اكفني بحلالك عن حرامك وأغنني بفضلك عمن سواك واحفظني بما حفظت به الذكر وانصرني بما نصرت به الرسل إنك على كل شيء قدير فمن داوم على قراءته بعد كل صلاة خصوصا صلاة الجمعة حفظه الله تعالى من كل مخوف ونصره على أعدائه وأغناه ورزقه من حيث لا يحتسب ويسر عليه معيشته وقضى عنه دينه ولو كان عليه أمثال الجبال دينا بكرمه وإحسانه انتهى نقله عنه العلامة ابن داود البلوي الأندلسي ومن خطه نقلت رحم الله تعالى الجميع ! ونقله اليافعي كما ذكر رحمه الله تعالى إلا أنه لم يقل فيه يا ودود واتفقا فيما عدا ذلك والله سبحانه أعلم وقال ابن خلكان في حقه محمد بن أحمد بن إبراهيم القرشي الهاشمي العبد الصالح الزاهد من أهل الجزيرة الخضراء كانت له كرامات ظاهرة ورأيت أهل مصر يحكون عنه أشياء خارقة ولقيت جماعة ممن صحبه وكل منهم قد نمى عليه من بركته وذكروا عنه أنه وعد جماعته الذين صحبوه مواعيد

من الولايات والمناصب العلية وأنها صحت كلها وكان من السادات الأكابر والطراز الأول وهو مغربي صحب بالمغرب أعلام الزهاد وانتفع بهم فلما وصل إلى مصر انتفع به من صحبه أو شاهده ثم سافر إلى الشام قاصدا زيارة بيت المقدس وفأقام بها إلى أن مات وصلي عليه بالمسجد الأقصى وهو ابن خمس وخمسين سنة وقبره ظاهر للزيارة والتبرك به والجزيرة الخضراء في بلاد الأندلس مدينة تقابل سبتة من بر العدوة ومن جملة وصاياه لأصحابه سيروا إلى الله تعالى عرجا ومكاسير فإن انتظار الصحة بطالة انتهى ببعض اختصار
24 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن علي بن الحسن بن أبي الحسين القرطبي سمع من قاسم بن أصبغ وغيره وقدم مصر فسمع بها من ابن الورد وابن أبي الموت والياوزدي وابن السكن في آخرين وسمع بالرملة وبيت المقدس وكان ضابطا بصيرا بالنحو واللغة فصيحا بليغا طويل اللسان ولي الشرطة ببلاد المغرب توفي سنة 372
25 - ومنهم أبو بكر محمد بن علي بن خلف التجيبي الإشبيلي الحافظ الكاتب روى عن ابن الجد وغيره ومر بمصر حاجا فلقي بمكة أبا حفص الميانشي وأبا الحسن المكناسي ولقي بالإسكندرية السلفي وابن عوف وغيرهما وكان مدرسا للفقه فقيها جليلا متقدما فيه عارفا فاضلا سنيا توفي بعد امتحان من منصور بني عبد المؤمن سنة 596 وذلك أنه وشي به للمنصور

أيام عزم على ترك التقليد والعمل بالحديث
26 - ومنهم أبو بكر الأندلسي الجياني محمد بن علي بن عبد الله بن محمد بن ياسر الأنصاري الجياني سافر من بلده ودخل ديار مصر والشام والعراق وخراسان وما وراء النهر ولقي أئمتها وتفقه ببخارى حتى تمهر في المذهب والخلاف والجدل ثم اشتغل بالحديث وسماعه وحفظه وحصل منه كثيرا ثم سكن بلخ مدة وعاد إلى بغداد ودخلها سنة 559 وتوجه إلى مكة فحج ورجع إلى الشام واستوطن حلب إلى أن توفي بها ووقف كتبه وكان متدينا صدوقا حافظا عالما بالحديث وفيه فضل ولد بجيان سنة 492 ومات بحلب سنة 563
27 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن علي التجيبي الدهان الغرناطي كان حسن السمت بارع الخط والخلق والخلق رحل إلى الحج وجال في البلاد في حدود سنة ست وستمائة فأخذ بمكة والشام ومصر والإسكندرية عن جماعة كثيرة وكان عدلا فاضلا على خير ودين وكان متحرفا بالتجارة بغرناطة ثم خرج منها آخر عمره فمات بقوص بعدما حج سنة 650 وصدر من مكة سنة 653 فمات قبل منتصف السنة رحمه الله تعالى أبو عمر محمد بن علي الإشبيلي 224 أبو عمر محمد بن علي الإشبيلي 28 - ومنهم أبو عمر محمد بن علي بن محمد بن أبي الربيع القرشي العثماني

الأندلسي الإشبيلي النحوي ولد سنة 617 بإشبيلية وقدم مصر فسمع الكثير بها وبدمشق وغيرها وكان إماما عالما نحويا فاضلا كتب عنه أبو محمد الدمياطي والقطب عبد الكريم وناهيك بهما
29 - ومنهم أبو بكر وأبو عبد الله محمد بن علي بن محمد بن علي بن هذيل البلنسي رحل وسمع من السلفي وحج قال أبو الربيع بن سالم هو شيخ صدوق متيقظ سمع أباه وأبا الوليد بن الدباغ وأبا الحسن طارق بن موسى بن يعيش وجماعة وأخذ بمكة سنة 539 عن أبي علي الحسن المقريء وقفل إلى الأندلس سنة 546 فأخذ عنه بها وسمع منه جماعة قال ابن الأبار كان غاية في الصلاح وأعمال البر والورع توفي ببعض قرى بلنسية سنة 583 ومولده سنة سبع أو تسع عشرة وخمسمائة وله حظ من علم التعبير واللغة رحمه الله تعالي
30 - ومنهم أبو عبد الله ويقال أبو سلمة محمد بن علي البياسي الغرناطي الأنصاري ناصر الدين روى عن الحافظ أبي جعفر بن الزبير وغيره وقدم إلى القاهرة واستوطنها بعد الحج حتى مات بها سنة 703 وكان عارفا بعلم الحديث وكتب منه كثيرا ومال إلى مذهب الظاهرية وانتفع به جماعة من طلبة الحديث وكان ثقة رحمه الله تعالى
31 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن علي بن يحيى بن علي بن الشامي الأندلسي الغرناطي قدم مصر حاجا وأقام بمكة والمدينة وكان إماما فاضلا عالما متفننا في علوم ما بين فقه وأصول ونحو ولغة وقراءات ونظم ونثر ومع

معرفته بمذهب مالك ينقل كثيرا من مذهب الشافعي وسمع الموطأ بتونس من أبي محمد بن هرون القرطبي ومولده بغرناطة سنة 671 وتوفي سنة 715 ومن شعره رضي الله تعالى عنه
( إذا كنت جارا للنبي وصحبه ... ومكة بيت الله مني على قرب )
( فما ضرني أن فاتني رغد عيشة ... وحسبي الذي أوتيته نعمة حسبي ) وقوله
( نزيل الكرام عزيز الجوار ... وإني نزيل عليكم وجار )
( حللت ذراك وأنت الكريم ... ومن حل مثوى كريم يجار )
32 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عمار الكلاعي الميورقي قدم مصر وروى عن ابن الوليد بها وكان عالما وله قصيدة طويلة فيها حكم ومواعظ يوصي ابنه بها منها قوله
( وطاعة من إليه الأمر فالزم ... وإن جاروا وكانوا مسلمينا )
( فإن كفروا ككفر بني عبيد ... فلا تسكن ديار الكافرينا ) واسم ابنه حسن وسمع من المذكور الحافظ القاضي أبو بكر بن العربي في رحلته سنة 485 ووصفه بالعلم وعمار بالراء
33 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عمر بن يوسف بن الفخار القرطبي الحافظ - روى عن أبي عيسى الليثي وابن عون الله وأبي جعفر التميمي

وأبي محمد الباجي وقدم مصر وحج وجاور بالمدينة النبوية على ساكنها الصلاة والسلام وأفتى بها وافتخر بذلك على أصحابه وقال لقد شوورت بمدينة الرسول دار مالك بن أنس ومكان شوراه ولقي جماعة من العلماء وأخذ عنهم وكان من أهل العلم والذكاء والحفظ والفهم عارفا بمذاهب الأئمة وأقوال العلماء ذاكرا للروايات يحفظ المدونة والنوادر لابن أبي زيد ويوردها من صدره دون كتاب قال ابن حيان مؤرخ الأندلس توفي الفقيه المشاور الحافظ المتبحر الرواية الطويل الهجرة في طلب العلم الناسك المتقشف بمدينة بلنسية في ربيع الأول سنة 417 لعشر خلون من الشهر وكان الحفل في جنازته عظيما وعاين الناس فيها آية من ظهور أشباه الخطاطيف بها تجللت الجمع رافة فوق النعش لم تفارق نعشه إلى أن ووري فتفرقت ومكث مدة ببلنسية مطاعا عظيم القدر عند السلطان والعامة وذكر جماهر بن عبد الرحمن حديث الطير وكذا ذكر الحسن بن محمد القيسي خبر الطير قال وكانت سنه نحو الثمانين سنة وكان مجاب الدعوة وظهرت في دعوته الإجابة وقال أبو عمرو الداني إن وفاته يوم السبت لسبع خلون من شهر ربيع الأول سنة تسع عشرة وأربعمائة ودفن يوم الأحد بمدينة بلنسية وبلغ نحو ست وسبعين سنة وهو آخر الفقهاء الحفاظ الراسخين العالمين بالكتاب والسنة بالأندلس رحمه الله تعالى ! محمد
34 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عمروس القرطبي - سمع علي بن مفرج وغيره من شيوخ قرطبة وقدم مصر فأخذ بها عن ابن المهندس وغيره

وحج ودخل العراق وسمع من أبي بكر الأبهري والدارقطني وجماعة وعاد إلى الأندلس وشهر بالعلم والمال وولي الأحباس بقرطبة حدث عنه أبو عمر بن عبد البر وغيره ومات في جمادى الآخرة سنة أربعمائة رحمه الله تعالى
35 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عيسى بن عبد الواحد بن نجيح المعافري المعروف بالأعشى القرطبي - رحل سنة 179 فسمع سفيان بن عيينة ووكيع بن الجراح ويحيى بن سعيد القطان وعبد الله بن وهب وجماعة وكان الغالب عليه الحديث ورواية الآثار وكان صالحا عاقلا سريا جوادا يذهب إلى مذهب أهل العراق وتوفي سنة 221 ذكره ابن يونس وغيره
36 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن فطيس الغافقي الإلبيري الزاهد - قال الحميدي في حقه هو من أهل الحديث والحفظ والفهم والبحث عن الرجال وله رحلة سمع فيها من محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ومن ابن وهب ابن أخي عبد الله بن وهب وغيرهما وروى بالأندلس عن جماعة منهم بقي بن مخلد وابن وضاح وسمع بمكة وغيرها من مائة شيخ قال ابن الفرضي كان شيخا نبيلا ضابطا لكتبه ثقة في روايته صدوقا في حديثه وكانت الرحلة إليه بإلبيرة وبها مات في شوال سنة 319 وهو ابن تسعين سنة رحمه الله تعالى
37 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن قاسم بن محمد بن قاسم بن محمد بن سيار القرطبي من موالي بني أمية سمع من أبيه ومن بقي بن مخلد وغيره ورحل سنة 294 فسمع بمصر من النسائي ومن أحمد بن حماد زغبة وسمع بمكة والبصرة والكوفة وبغداد ودمياط والإسكندرية والقيروان

من مائة وستين رجلا قال أبو محمد الباجي لم أدرك بقرطبة أكثر حديثا منه وكان عالما بالفقه متقدما في علم الوثائق رأسا فيها وكان مشاورا سمع من الناس كثيرا وكان ثقة صدوقا وغزا سنة 327 ومات ثالث ذي الحجة منها ومولده سنة 263 وقيل توفي سنة 328 قاله ابن يونس والحميدي
38 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن قاسم بن محمد بن قاسم القرشي الفهري عرف بابن رمان الغرناطي - قرأ على أبي جعفر بن الزبير بها وقدم إلى القاهرة سنة 722 ومات بالمدينة المنبوية على صاحبها الصلاة والسلام سنة 729 ومن شعره قوله
( فديتم خبروني كيف صحت ... فريضة هالك من غير مين )
( لزيد زوجة ولها ابن أم ... فماتت عنهما لا غير ذين )
( فحاز البعل ما تركته إرثا ... وولى غيره صفر اليدين )
( ولا رق فديت على أخيها ... وليس بكافر يرمى بشين )
( وليس معجلا إرثا بقتل ... مخافة أن ينال شقاوتين )
39 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن لب الشاطبي حدث بالقاهرة وتوفي قريبا من سنة 640 وهو أحد أصحاب الشيخ أبي الحسن بن الصباغ ومن كلامه اشتغالك بوقت لم يأت تضييع للوقت الذي أنت فيه ولعمري لقد صدق
40 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن سراقة الشاطبي بن محمد بن إبراهيم ابن الحسين بن سراقة محيي الدين ويكنى أيضا أبا القاسم وأبا بكر

الأنصاري الشاطبي المالكي ولد بشاطبية سنة 592 وسمع من أبي القاسم ابن بقي ورحل في طلب الحديث فسمع ببغداد من الشيخ أبي حفص عمر السهروردي وأبث طالب القبيطي وأبي حفص الدينوري وجماعة وسمع بحلب من ابن شداد وغيره وتولى مشيخة دار الحديث البهائية بحلب ثم قدم مصر وتولى مشيخة دار الحديث الكاملية بالقاهرة بعد وفاة بن سهل القصرى سنة 642 وبقي بها إلى أن توفي بالقاهرة في شعبان سنة 662 ودفن بسفح المقطم وكان الجمع كبيرا وهو أحد الأئمة المشهورين بغزارة الفضل وكثرة العلم والجلالة والنبل وأحد المشايخ الصوفية له في ذلك إشارات لطيفة مع الدين والعفاف والبشر والوقار والمعرفة الجيدة بمعاني الشعر وكان صالح الفكرة في حل التراجم مع ما جبل عليه من كرم الأخلاق واطراح التكلف ورقة الطبع ولين الجانب
ومن شعره قوله
( نصبت ومثلي للمكارم ينصب ... ورمت شروق الشمس وهي تغرب )
( وحاولت إحياء النفوسى بأسرها ... وقد غرغرت يا بعد ما أنا أطلب )
( وأتعب إن لم تمنح الخلق راحة ... وغيري إن لم تتعب الخلق يتعب )
( مرادي شيء والمقادير غيره ... ومن عاند الأقدار لا شك يغلب )
وقوله
( إلى كم أمني النفس ما لا تناله ... فيذهب عمري والأماني لا تقضى )
( وقد مر لي النفس مالا تناله ... فيذهب عمري والأماني لا تقضي )
( وقد مر لي خمس وعشرون حجة ... ولم أرض فيها عيشي فمتى أرضى )
( وأعلم أني والثلاثون مدتي ... حر بمغاني اللهو أوسعها رفضا )

( فماذا عسى في هذه الخمس أرتجي ... ووجدي إلى أوب من العشر أفضي )
وقال رحمه الله تعالى
( وصاحب كالزلال يمحو ... صفاؤه الشك باليقين )
لم يحص إلا الجميل مني ... كأنه كاتب اليمن )
وهذا عكس قول المنازي
( وصاحب خلته خليلا ... وما جرى غدره ببالي )
( لم يحص إلا القبيح مني ... كأنه كاتب الشمال )
41 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن محمد بن أحمد الفريشي - بكسر الفاء وتشديد الراء المهملة بعدها شين معجمة - نسبة إلى فريش إحدى مدائن قرطبة ولد بغرناطة سنة 557 وقرأ بالروايات على أبي القاسم بن غالب وسمع عليه وعلى أبي القاسم بن بشكوال وغيره وسمع بمكة وحدث بمصر وعاد إلى الأندلس فمات بقرطبة سنة 633 وكان مشهورا بالصلاح معروفا بإجابة الدعاء ورعا ثقة زاهدا فاضلا رحمه الله تعالى
42 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن محمد بن خيرون وقيل محمد بن عمر بن خيرون أندلسي سكن القيروان ورحل إلى المشرق وأخذ القراءات بمصر عن محمد بن سعيد الأنماطي وغيره كعبيد بن رجاء وأبي الحسن

إسماعيل بن يعقوب الأزرق المدني ودخل العراق وسمع به من أصحاب علي بن المديني ويحيى بن معين وعاد إلى القيروان وسمع بها وبقرطبة وقدم بقراءة نافع على أهل إفريقية وكان الغالب على قراءتهم حرف حمزة ولم يكن يقرأ بحرف نافع إلا الخواص حتى قدم بها فاجتمع إليه الناس ورحل إليه أهل القيروان من الآفاق وكان يأخذ أخذا شديدا على مذهب المشيخة من أصحاب ورش وتوفي بشعبان سنة 306 وكان رجلا صالحا فاضلا كريم الأخلاق إماما في القراءات مشهورا بذلك ثقة مأمونا واحد أهل زمانه وأئمتهم في علم القرآن رحمه الله تعال
43 - ومنهم ضياء الدين أبو جعفر محمد بن محمد بن صابر بن بندار القيسي الأندلسي المالقي ولد بمالقة سنة 625 وسمع الكثير وقدم القاهرة حاجا فسمع بها وبدمشق وكتب بخطه كثيرا وكان سريع الكتابة سريع القراءة كثير الفوائد دينا خيرا فاضلا له مشاركة جيدة في عدة علوم توفي شابا بالقاهرة سنة 662 رحمه الله تعالى
44 - ومنهم أبو بكر محمد الزهري المعروف بابن محرز البلنسي ولد بها سنة 529 وقدم مصر فسمع ابن الفضل وغيره وروى عنه جماعة وكان أحد رجال الكمال علما وإدراكا وفصاحة وحفظا للفقه وتفننا في العلوم ومتانة في الأدب حافظا للغة والغريب وله شعر رائق ودين متين وأخذ الناس عنه ببلده وبمرسية وإشبيلية ومالقة وغرناطة في اجتيازه عليها وبغيرها من البلاد وعلا صيته وعرف بالدين والعلم والفضل وكان أبو الخطاب

يثني على علمه ودينه توفي ببجاية سنة 655 عن سن عالية رحمه الله تعال
45 - وممن ارتحل من الأندلس إلى المشرق القاضي أبو الوليد الباجي صاحب التصانيف المشهورة وقال ابن ماكولا في حقه إنه فقيه متكلم أديب شاعر سمع بالعراق ودرس الكلام وصنف إلى أن مات وكان جليلا رفيع القدر والخطر وقال غير واحد إنه ولد سنة 403 وارتحل سنة 426 وجاور ثلاثة أعوام ملازما لأبي ذر الحافظ يخدمه ورحل إلى بغداد ودمشق ولقي في رحلته غير واحد وتفقه بالقاضي أبي الطيب الطبري وغيره وقال أبو علي بن سكرة ما رأيت مثل أبي الوليد الباجي وما رأيت أحدا على هيئته وسمته وتوقير مجلسه ولما كنت ببغداد قدم ولده أبو القاسم فسرت معه إلى شيخنا قاضي القضاة الشاشي فقلت له أدام الله تعالى عزك هذا ابن شيخ الأندلس فقال لعله ابن الباجي فقلت نعم فأقبل عليه قال القاضي عياض وكثرت القالة في القاضي أبي الوليد لمداخلته الرؤساء وولي قضاء أماكن تصغر عن قدره وكان يبعث إلى تلك النواحي خلفاءه وربما أتاها المرة ونحوها وكان في أول أمره مقلا حتى احتاج إلى القصد بشعره واستأجر نفسه مدة مقامه ببغداد فيما سمعته مستفيضا لحراسة درب وقد جمع ابنه شعره قال ولما قدم الأندلس وجد لكلام ابن حزم طلاوة إلا أنه كان خارجا عن المذهب ولم يكن بالأندلس من يشتغل بعلمه فقصرت ألسنة الفقهاء عن

مجادلته وكلامه واتبعه على رأيه جماعة من أهل الجهل وحل بجزيرة ميورقة فرأس فيها واتبعه أهلها فلما قدم أبو الوليد كلموه في ذلك فدخل إليه وناظره وشهر باطله وله معه مجالس كثيرة ولما تكلم أبو الوليد في حديث الكتابة يوم الحديبية الذي في البخاري قال بظاهر لفظه فأنكر عليه الفقيه أبو بكر الصائغ وكفره بإجازة الكتب على الرسول الأمي وأنه تكذيب للقرآن فتكلم في ذلك من لم يفهم الكلام حتى أثاروا عليه الفتنة وقبحوا عليه عند العامة ما أتى به وتكلم به خطباؤهم في الجمع وقال شاعرهم
( برئت ممن شرى دنيا بآخرة ... وقال إن رسول الله قد كتبا ) فصنف أبو الوليد رحمه الله تعالى رسالة بين فيها أن ذلك غير قادح في المعجزة فرجع بها جماعة إذ ليس من عرف أن يكتب اسمه فقط بخارج عن كونه أميا لأنه لا يسمى كاتبا وجماعة من الملوك قد أدمنوا على كتابة العلامة وهم أميون والحكم للغالب لا للصور النادرة وقد قال عليه الصلاة و السلام " إنا أمة أميون " أي أكثرهم كذلك لندور الكتابة في الصحابة وقال تعالى ( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم ) [ الجمعة 2 ] انتهى وبعضه بالمعنى وذكر ابن بسام أن أبا الوليد الباجي نشأ وهمته في العلم وأنه بدأ بالأدب فبرز في ميادينه وجعل الشعر بضاعته فنال به من كل الرغائب ثم رحل فما حل بلدا إلا وجده ملآن بذكره نشوان من قهوتي نظمه ونثره فمال إلى علم الديانة فمشى بمقياس وبنى على أساس حتى صار كثير من العلماء يسمعون منه ويرتاحون للأخذ عنه ثم كر واستقضي في طريقه بحلب فأقام بها نحوا من عام قال وبلغني عن ابن حزم أنه كان يقول لو لم يكن لأصحاب المذهب

المالكي بعد عبد الوهاب إلا مثل أبي الوليد الباجي لكفاهم وصنف أبو الوليد كتبا كثيرة منها كتاب التسديد إلى معرفة التوحيد وكتاب سنن المنهاج وترتيب الحجاج وكتاب إحكام الفصول في أحكام الأصول وكتاب التعديل والتجريح لمن خرج عنه البخاري في الصحيح وكتاب شرح الموطأ وهو نسختان نسخة سماها الاستيفاء ثم انتقى منها فوائد سماها المنتقى في سبع مجلدات وهو أحسن كتاب ألف في مذهب مالك لأنه شرح فيه أحاديث الموطأ وفرع عليها تفريعا حسنا وأفرد منه شيئا سماه الإيماء وقال بعضهم إنه صنف كتاب المعاني في شرح الموطأ فجاء عشرين مجلدا عديم النظير وكان أيضا صنف كتابا كبيرا جامعا بلغ فيه الغاية سماه الاستيفاء وله كتاب الإيماء في الفقه خمس مجلدات انتهى ومن تصانيفه مختصر المختصر في مسائل المدونة وله كتاب اختلاف الموطأ وكتاب الإشارة في أصول الفقه وكتاب الحدود وكتاب سنن الصالحين وكتاب التفسير لم يتمه وكتاب شرح المنهاج وكتاب التبيين لسبيل المهتدين في اختصار فرق الفقهاء وكتاب السراج في الخلاف ولم يتم وغير ذلك وحج الباجي رحمه الله تعالى أربع حجج جاور فيها ثلاثة أعوام ملازما لأبي ذر عبد بن أحمد الهروي وكان يسافر معه للسروات لأن أبا ذر تزوج من العرب وسكن بها

أبو ذر المذكور هو عبد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن غفير الأنصاري المالكي ويعرف بابن السماك سمع بهراة وسرخس وبلخ ومرو والبصرة وبغداد ودمشق ومصر وجاور بمكة وألف معجما لشيوخه وعمل الصحيح وصنف التصانيف قال الخطيب قدم أبو ذر بغداد وأنا غائب فحدث بها ثم حج وجاور ثم تزوج في العرب وسكن السروات وكان يحج كل عام ويحدث ويرجع وكان ثقة ضابطا دينا وقال الحسن بن بقي المالقي حدثني شيخي قال قيل لأبي ذر من أين تمذهبت بمذهب مالك ورأي الأشعري مع أنك هروي فقال قدمت بغداد وكنت ماشيا مع الدارقطني فلقينا أبا بكر بن الطيب فالتزمه الدارقطني وقبل وجهه وعينيه فلما افترقنا قلت من هذا قال هذا إمام المسلمين والذاب عن الدين القاضي أبو بكر بن الطيب فمن ذلك الوقت تكررت إليه وتمذهبت بمذهبه انتهى قلت هذا صريح في أن القاضي أبا بكر الباقلاني مالكي وهو الذي جزم به غير واحد ولذا ذكره عياض في المدارك في جملة المالكية وكذلك شيخ السنة الإمام أبو الحسن الأشعري مالكي المذهب فيما ذكره غير واحد من الأئمة وذكر بعض الشافعية أنهما شافعيان والله تعالى أعلم وقال عبد الغافر في تاريخ نيسابور كان أبو ذر زاهدا ورعا عالما سخيا لا يدخر شيئا وصار كبير مشيخة الحرم مشارا إليه في التصوف خرج على الصحيح تخريجا حسنا وكان حافظا كثير الشيوخ توفي سنة 435 وقال أبو علي بن سكرة توفي عقب شوال سنة 434 وقال الخطيب في ذي القعدة من سنة أربع وثلاثين رحمه الله تعالى وأكثر

نسخ البخاري الصحيحة بالمغرب إما من رواية الباجي عن أبي ذر عبد بن أحمد الهروي المذكور وإما من رواية أبي علي الصدفي الشهير المعروف بابن سكرة بسنده واعلم أن هراة المنسوب إليها الحافظ أبو ذر ليست بهراة التي وراء النهر نظيرة بلخ وإنما هي هراة بني شيمانة بالحجاز وبها كان سكنى أبي ذر والله تعالى أعلم
رجع إلى القاضي أبي الوليد الباجي رحمه الله تعالى
- ثم إنه - أعني الباجي - قدم بغداد وأقام بها ثلاثة أعوام يدرس الفقه ويقرأ الحديث فلقي بها عدة من العلماء كأبي الطيب الطبري والإمام الشهير أبي إسحاق الشيرازي والصيمري وابن عمروس المالكي وأقام بالموصل سنة مع أبي جعفر السمناني يأخذ عنه علم الكلام فبرع في الحديث وعلله ورجاله وفي الفقه وغوامضه وخلافه وفي الكلام ومضايقه وتدبج مع الحافظ أبي بكر الخطيب البغدادي بحيث روى كل واحد منهما عن الآخر رضي الله تعالى عنهما ونفع بهما ورجع إلى الأندلس بعد ثلاث عشرة سنة بعلم جم حصله مع الفقر والتعفف ومما يفتخر به أنه روى عنه حافظا المغرب والمشرق أبو عمر بن عبد البر والخطيب أبو بكر بن ثابت البغدادي وناهيك بهما وهما أسن منه وأكبر وأبو عبد الله الحميدي وعلي بن عبد الله الصقلي وأحمد بن علي بن غزلون وأبو بكر الطرطوشي وأبو علي بن الحسين السبتي وأبو بحر سفيان بن العاصي

وممن روى عنه ابنه أبو القاسم أحمد وكان لما رجع إلى الأندلس فشا علمه وتهيأت الدنيا له وعظم جاهه وأجزلت له الصلات فمات عن مال وافر وترسل للملوك وولي القضاء بعدة مواضع رحمه الله تعالى وأما ما تقدم عن القاضي أبي الوليد الباجي من إجراء حديث الكتابة على ظاهره فهو قول بعض والصواب خلافه قال القاضي أبو الفضل عياض حدثنا محمد بن علي المعروف بابن الصيقل الشاطبي من لفظه قال حدثني أبو الحسن بن مفوز قال كان أبو محمد بن أحمد بن الحاج الهواري من أهل جزيرة شقر ممن لازم الباجي وتفقه عنده وكان يميل إلى مذهب الباجي في جواز مباشرة النبي الكتابة بيده في حديث المقاضاة في الحديبية على ما جاء في ظاهر بعض رواياته ويعجب به وكنت أنكر ذلك عليه فلما كان بعد برهة أتاني زائرا على عادته وأعلمني أن رجلا من إخوانه كان يرى في النوم أنه بالمدينة وأنه يدخل المسجد فيرى قبر النبي أمامه فيجد له قشعريرة وهيبة عظيمة ثم يراه ينشق ويميد ولا يستقر فيعتريه منه فزع عظيم وسألني عن عبارة رؤياه فقلت أخشى على صاحب هذا المنام أن يصف رسول الله بغير صفته أو ينحله ما ليس له بأصل أو لعله يفتري عليه فسألني من أين قلت هذا قلت له من قول الله تعالى ( تكاد السماوات يتفطرن منه ) - إلى قوله تعالى - ( وولدا ) [ مريم 90 ] فقال لي لله درك يا سيدي وأقبل يقبل رأسي وبين عيني ويبكي مرة ويضحك أخرى ثم قال لي أنا صاحب الرؤيا واسمع تمامها يشهد لك بصحة تأويلك قال إنه لما رأيتني في ذلك الفزع العظيم كنت أقول والله ما هذا إلا أنني أقول وأعتقد أن رسول الله كتب فكنت أبكي وأقول أنا تائب يا رسول الله وأكرر ذلك مرارا فأرى القبر قد عاد إلى هيأته أولا وسكن فاستيقظت ثم قال لي وأنا أشهد أن رسول الله ما كتب قط حرفا

وعليه ألقى الله تعالى فقلت الحمد لله الذي أراك البرهان فاشكر له كثيرا انتهى وقال ابن الأبار حدثني بهذه الحكاية أبو الربيع بن سالم بقراءتي عليه عن الكاتب أبي بكر عبد الرحمن بن مغاور قراءة عليه عن القاضي أبي حفص أحمد بن عبد الرحمن بن جحدر عن أبي الحسن طاهر بن مفوز قال كان أبو محمد - إلى آخرها وهي أتم من هذه انتهى
رجع إلى الباجي
ذكر أبو العرب عبد الوهاب البقساني بسنده إلى القاضي أبي الوليد الباجي أنه كان يقول وقد ذكرت له صحبة السلطان لولا السلطان لنقلتني الذر من الظل إلى الشمس أو ما هذا معناه انتهى ومن فوائد الباجي أنه حكى أن الطلبة كانوا ينتابون مجلس أبي علي البغدادي واتفق أن كان يوما مطر ووحل فلم يحضر من الطلبة سوى واحد فلما رأى الشيخ حرصه على الاشتغال وإتيانه في تلك الحال أنشده
( دببت للمجد والساعون قد بلغوا ... حد النفوس وألقوا دونه الأزرا )
( وكابدوا المجد حتى مل أكثرهم ... وعانق المجد من وافى ومن صبرا )
( لا تحسب المجد تمرا أنت آكله ... لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا )
انتهى وروى عن القاضي أبي الوليد الباجي رحمه الله تعالى الخطيب البغدادي قوله رحمه الله تعالى

( إذا كنت أعلم علم اليقين ... بأن جميع حياتي كساعه )
( فلم لا أكون ضنينا بها ... وأجعلها في صلاح وطاعه ) وقد ذكرناهما فيما يأتي قريبا من كلام الفتح لكوننا نقلنا كلامه بلفظه رحمه الله تعالى ورضي عنه وقال في القلائد في حق الباجي رحمه الله تعالى ما صورته بدر العلوم اللائح وقطرها الغادي الرائح وثبيرها الذي لا يزحم ومنيرها الذي ينجلي به ليلها الأسحم كان إمام الأندلس الذي تقتبس أنواره وتنتجع نجوده وأغواره رحل إلى المشرق فعكف على الطلب ساهرا وقطف من العلم أزاهرا وتفنن في اقتنائه وثنى إليه عنان اعتنائه حتى غدا مملوء الوطاب وعاد بلح طلبه إلى الإرطاب فكر إلى الأندلس بحرا لا تخاض لججه وفجرا لا يطمس منهجه فتهادته الدول وتلقته الخيل والخول وانتقل من محجر إلى ناظر وتبدل من يانع بناضر ثم استدعاه المقتدر بالله فصار إليه مرتاحا وبدا بأفقه ملتاحا وهناك ظهرت تواليفه وأوضاعه وبدا وخده في سبل العلم وإيضاعه وكان المقتدر يباهي بانحياشه إلى سلطانه وإيثاره لحضرته باستيطانه ويحتفل فيما يرتبه له ويجريه وينزله في مكانه متى كان يوافيه وكان له نظم يوقفه على ذاته ولا يصرفه في رفث القول وبذاته فمن ذلك قوله في معنى الزهد
( إذا كنت أعلم علم اليقين ... بأن جميع حياتي كساعه )
( فلم لا أكون ضنينا بها ... وأجعلها في صلاح وطاعه )
وله يرثي ابنيه وماتا مغتربين وغربا كوكبين وكانا ناظري الدهر

وساحري النظم والنثر
( رعى الله قبرين استكانا ببلدة ... هما أسكناها في السواد من القلب )
( لئن غيبا عن ناظري وتبوءا ... فؤادي لقد زاد التباعد في القرب )
( يقر بعيني أن أزور ثراهما ... وألصق مكنون الترائب بالترب )
( وأبكي وأبكي ساكنيها لعلني ... سأنجد من صحب وأسعد من سحب )
( فما ساعدت ورق الحمام أخا أسى ... ولا روحت ريح الصبا عن أخي كرب )
( ولا استعذبت عيناي بعدهما كرى ... ولا ظمئت نفسي إلى البارد العذب )
( أحن ويثني اليأس نفسي عن الأسى ... كما اضطر محمول على المركب الصعب ) وله يرثى ابنه محمدا
( أمحمدا إن كنت بعدك صابرا ... صبر السليم لما به لا يسلم )
( ورزئت قبلك بالنبي محمد ... ولرزؤه أدهى لدي وأعظم )
( فلقد علمت بأنني بك لاحق ... من بعد ظني أنني متقدم )
( لله ذكر لا يزال بخاطري ... متصرف في صبره مستحكم فإذا نظرت فشخصه متخيل ... وإذا أصخت فصوته متوهم )
( وبكل أرض لي من اجلك لوعة ... وبكل قبر وقفة وتلوم )
( فإذا دعوت سواك حاد عن اسمه ... ودعاه باسمك معول بك مغرم )
( حكم الردى ومناهج قد سنها ... لأولي النهى والحزن قبل متمم )
انتهى ولعمري إنه لم يوف القاضي أبا الوليد الباجي حقه الواجب المفترض ووددت أنه مد النفس في ترجمته بعبارتة التي يعترف ببراعتها من سلم

له ومن اعترض فإن ترجمة المذكور مما سطره أفسح مجالا وأفصح روية وارتجالا وبالجملة فهو أحد الأعلام الأندلس وهو سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث التجيبي وذكره ابن بسام في الذخيرة وابن خلكان وغير واحد وأصله من بطليوس وانتقل جده إلى باجة قرب إشبيلية وليس هو من باجة القيروان ومولده سنة 403 ورحل سنة 426 فقدم مصر وسمع بها وأجر نفسه ببغداد لحراسة الدروب وكان لما رجع إلى الأندلس يضرب ورق الذهب ويعقد الوثائق إلى أن فشا علمه وتهيأت له الدنيا وشهرته تغني عن
وصفه ومن نظمه قوله
( ما طال عهدي بالديار وإنما ... أنسى معاهدها أسى وتبلد )
( لو كنت أنبأت الديار صبابتي ... رق الصفا بفنائها والجلمد )
وله في المعتضد بن عباد والد المعتمد
( عباد استعبد البرايا ... بأنعم تبلغ النعائم )
( مديحه ضمن كل قلب ... حتى تغنت به الحمائم )
ومن أشهر نظمه قوله
إذا كنت أعلم - البيتين وقد سبقا
وممن ذكره أيضا الحجاري في المسهب وابن بشكوال في الصلة وأنه حج أربع حجج رحمه الله تعالى ! وتوفي في المرية لإحدى عشرة بقيت من رجب وقيل ليلة

سنة أربع وسبعين وأربعمائة ومن تواليفه المنتقى في شرح الموطأ ذهب فيه مذهب الاجتهاد وإيراد الحجج وهو مما يدل على تبحره في العلوم في الفنون ولما قدم من المشرق إلى الأندلس بعد ثلاثة عشر عاما وجد ملوك الطوائف أحزابا مفترقة فمشى بينهم في الصلح وهم يجلونه في الظاهر ويستثقلونه في الباطن ويستبردون نزعته ولم يفد شيئا فالله تعالى يجازيه عن نيته ولما ناظر ابن حزم قال له الباجي أنا أعظم منك همة في طلب العلم لأنك طلبته وأنت معان عليه تسهر بمشكاة الذهب وطلبته وأنا أسهر بقنديل بائت السوق فقال ابن حزم هذا الكلام عليك لا لك لأنك إنما طلبت العلم وأنت في تلك الحال رجاء تبديلها بمثل حالي وأنا طلبته في حين ما تعلمه وما ذكرته فلم أرج به إلا علو القدر العلمي في الدنيا والآخرة فأفحمه قال عياض قال لي أصحابه كان يخرج إلينا للإقراء وفي يده أثر المطرقة إلى أن فشا علمه ونوهت الدنيا به وعظم جاهه وأجزلت صلاته حتى مات عن مال وافر وكان يستعمله الأعيان في ترسلهم ويقبل جوائزهم وولي القضاء بمواضع من الأندلس
ترجمة ابن حزم
وابن حزم المذكور هو أبو محمد بن حزم الظاهري قال ابن حيان وغيره كان ابن حزم صاحب حديث وفقه وجدل وله كتب كثيرة في المنطق

والفلسفة لم يخل فيها من غلط وكان شافعي المذهب يناضل الفقهاء عن مذهبه ثم صار ظاهريا فوضع الكتب في هذا المذهب وثبت عليه إلى أن مات وكان له تعلق بالأدب وشنع عليه الفقهاء وطعنوا فيه وأقصاه الملوك وأبعدوه عن وطنه وتوفي بالبادية عشية يوم الأحد لليلتين بقيتا من شعبان سنة ست وخمسين وأربعمائة وقال صاعد في تاريخه كان ابن حزم أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام وأوسعهم معرفة مع توسعه في علم اللسان والبلاغة والشعر والسير والأخبار أخبرني ابنه الفضل أنه اجتمع عنده بخط أبيه من تواليفه نحو أربعمائة مجلد نقله عن تاريخ صاعد الحافظ الذهبي قال الذهبي وهو العلامة أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح الأموي مولاهم الفارسي الأصل الأندلسي القرطبي الظاهري صاحب المصنفات وأول سماعه سنة 399 وكان إليه المنتهى في الذكاء وحدة الذهن وسعة العلم بالكتاب والسنة والمذاهب والملل والنحل والعربية والآداب والمنطق والشعر ومع الصدق والديانة والحشمة والسؤدد والرياسة والثروة وكثرة الكتب قال الغزالي رحمه الله تعالى وجدت في أسماء الله تعالى كتابا لأبي محمد بن حزم يدل على عظم حفظه وسيلان ذهنه انتهى باختصار وعلى الجملة فهو نسيج وحده لولا ما وصف به من سوء الاعتقاد والوقوع في السلف الذي أثار عليه الانتقاد سامحه الله تعالى وذكر الذهبي أن عمره اثنتان وسبعون سنة وهو لا ينافي قول غيره إنه كان عمره إحدى وسبعين سنة وعشرة أشهر لأنه ولد رحمه الله تعالى بقرطبة بالجانب الشرقي في ربض منية المغيرة قبل طلوع الشمس وبعد سلام

الإمام من صلاة الصبح آخر ليلة الأربعاء آخر يوم من شهر رمضان سنة أربع وثمانين وثلاثمائة بطالع العقرب وتوفي ليومين بقيا من شعبان سنة 456 وكان كثير المواظبة على التأليف ومن جملة تآليفه كتاب الفصل بين أهل الأهواء والنحل وكتاب الصادع والرادع على من كفر أهل التأويل من فرق المسلمين والرد على فرق التقليد وكتاب شرح حديث الموطإ والكلام على مسائله وكتاب الجامع في صحيح الحديث باختصار الأسانيد والاقتصار على أصحها وكتاب التلخيص والتخليص في المسائل النظرية وفروعها التي لا نص عليها في الكتاب والحديث وكتاب منتقى الإجماع وبيانه من جملة ما لا يعرف فيه اختلاف وكتاب الإمامة والخلافة في سير الخلفاء ومراتبها والندب والواجب منها وكتاب أخلاق النفس وكتاب الإيصال إلى فهم كتاب الخصال وكتاب كشف الالتباس ما بين أصحاب الظاهر وأصحاب القياس انتهى وقال ابن سعيد في حق ابن حزم ما ملخصه الوزير العالم الحافظ أبو محمد علي بن الوزير أبي عمر أحمد بن سعيد بن حزم الفارسي وشهرته تغني عن وصفه وتوفي منفيا بقرية من بلد لبلة ووصله من ابن عمه أبي المغيرة رسالة فيها ما أوجب أن جاوبه بهذه الرسالة وهي سمعت وأطعت لقوله تعالى ( وأعرض عن الجاهلين ) [ الأعراف 199 ] وأسلمت وانقدت لقول نبيه عليه الصلاة و السلام " صل من قطعك واعف عمن ظلمك " ورضيت بقول الحكماء كفاك انتصارا ممن تعرض لأذاك إعراضك عنه وأقول
( تتبع سواي امرأ يبتغي ... سبابك إن هواك السباب ) فإني أبيت طلاب السفاه ... وصنت محلي عما يعاب )

( وقل ما بدا لك من بعد ذا ... وأكثر فإن سكوتي خطاب )
وأقول
( كفاني بذكر الناس لي ومآثري ... ومالك فيهم يا ابن عمي ذاكر )
( عدوي وأشياعي كثير كذاك من ... غدا وهو نفاع المساعي وضائر )
( وإني وإن آذيتني وعققتني ... لمحتمل ما جاءني منك صابر ) فوقع له أبو المغيرة على ظهر رقعته قرأت هذه الرقعة العاقة فحين استوعبتها أنشدتني
( نحنح زيد وسعل ... لما رأى وقع الأسل )
فأردت قطعها وترك المراجعة عنها فقالت لي نفسي قد عرفت مكانها بالله لا قطعتها إلا يده فأثبت على ظهرها ما يكون سببا إلى صونها فقلت
( نعقت ولم تدر كيف الجواب ... وأخطأت حتى أتاك الصواب
( وأجريت وحدك في حلبة ... نأت عنك فيها الجياد العراب )
( وبت من الجهل مستبحبا ... لغير قرى فأتتك الذئاب )
( فكيف تبينت عقبى الظلوم ... إذا ما انقضت بالخميس العقاب )
( لعمرك ما لي طباع تذم ... ولا شيمة يوم مجد تعاب )
( أنيل المنى والظبا سخط ... وأعطي الرضى والعوالي غضاب )
وأقول
( وغاصب حق أوبقته المقادر ... يذكرني حاميم والرمح شاجر )
( غدا يستعير الفخر من خيم خصمه ... ويجهل أن الحق أبلج ظاهر )

( ألم تتعلم يا أخا الظلم أنني ... برغمك ناه منذ عشر وآمر )
( تذل لي الأملاك حر نفوسها ... وأركب ظهر النسر والنسر طائر )
( وأبعث في أهل الزمان شواردا ... تلينهم وهي الصعاب النوافر )
( فإن أثو في أرض فإني سائر ... وإن أنا عن قوم فإني حاضر )
( وحسبك أن الأرض عندك خاتم ... وأنك في سطح السلامة عاثر )
( ولا لوم عندي في استراحتك التي ... تنفست عنها والخطوب فواقر )
( فإني للحلف الذي مر حافظ ... وللنزعة الأولى بحاميم ذاكر )
( هنيئا لكل ما لديه فإننا ... عطية من تبلى لديه السرائر )
ومن شعر أبي محمد ابن حزم يخاطب قاض الجماعة بقرطبة عبد الرحمن ابن بشر
( أنا الشمس في جو العلوم منيرة ... ولكن عيبي أن مطلعي الغرب )
( ولو أنني من جانب الشرق طالع ... لجد على ما ضاع من ذكري النهب )
( ولي نحو آفاق العراق صبابة ... ولا غرو أن يستوحش الكلف الصب )
( فإن ينزل الرحمن رحلي بينهم ... فحينئذ يبدو التأسف والكرب )
( فكم قائل أغفلته وهو حاضر ... وأطلب ما عنه تجيء به الكتب )
( هنالك يدري أن للعبد قصة ... وإن كساد العلم آفته القرب )
( فيا عجبا من غاب عنهم تشوقوا ... له ودنو المرء من دارهم ذنب )
( وإن مكانا ضاق عني لضيق ... على أنه فيح مهامهه سهب وإن رجالا ضيعوني لضيع وإن زمانا لم أنل خصبه جدب

ومنها في الاعتذار عن مدحه لنفسه
( ولكن لي في يوسف خير أسوة ... وليس على من بالنبي ائتسى ذنب )
( يقول مقال الصدق والحق إنني ... حفيظ عليم ما على صادق عتب )
وقوله
( لا يشمتن حاسدي إن نكبة عرضت ... فالدهر ليس على حال بمترك )
( ذو الفضل كالتبر يلقى تحت متربة ... طورا وطورا يرى تاجا على ملك )
وقوله لما أحرق المعتضد بن عباد كتبه بإشبيلية
( دعوني من إحراق رق وكاغد ... وقولوا بعلم كي يرى الناس من يدري )
( فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي ... تضمنه القرطاس بل هو في صدري )
( يسير معي حيث استقلت ركائبي ... وينزل إن أنزل ويدفن في قبري )
وقوله
( لئن أصبحت مرتحلا بشخصي ... فقلبي عندكم أبدا مقيم )
( ولكن للعيان لطيف معنى ... لذا سأل المعاينة الكليم ) وقوله
( وذي عذل فيمن سباني حسنه ... يطيل ملامي في الهوى ويقول )
( أمن أجل وجه لاح لم تر غيره ... ولم تدر كيف الجسم أنت عليل )
( فقلت له أسرفت في اللوم فاتئد فعندي رد لو أشاء طويل )
( ألم تر أني ظاهري وأنني ... على ما أرى حتى يقوم دليل

وهو أبو محمد علي بن أبي عمر أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن مزيد القرطبي قال ابنه أبو رافع الفضل اجتمع عندي بخط أبي من تواليفه نحو أربعمائة مجلد تشتمل على قريب من نحو ثمانين ألف ورقة انتهى وأبوه الوزير أبو عمر المذكور كان من وزراء المنصور بن أبي عامر وتوفي - كما قال ابن حيان - بذي القعدة سنة اثنتين وأربعمائة وكان منشؤه ومولده بقرية تعرف بالزاوية وحكي أن الحافظ أبا محمد بن حزم قصد أبا عامر بن شهيد في يوم غزير المطر والوحل شديد الريح فلقيه أبو عامر وأعظم قصده على تلك الحال وقال له يا سيدي مثلك يقصدني في مثل هذا اليوم فأنشده أبو محمد بن حزم بديها
( فلو كانت الدنيا دوينك لجة ... وفي الجو صعق دائم وحريق )
( لسهل ودي فيك نحوك مسلكا ... ولم يتعذر لي إليك طريق )
قال الحافظ ابن حزم أنشدني الوزير أبي في بعض وصاياه لي
( إذا شئت أن تحيا غنيا فلا تكن ... على حالة إلا رضيت بدونها ) وهذا كاف في فضل الفرع والأصل سامح الله الجميع قال ابن حزم في طوق الحمامة إنه مر يوما هو وأبو عمر بن عبد البر صاحب الاستيعاب بسكة الحطابين من مدينة إشبيلية فلقيهما شاب حسن الوجه فقال أبو محمد هذه صورة حسنة فقال له أبو عمر لم نر إلا الوجه فلعل ما سترته الثياب ليس كذلك فقال ابن حزم ارتجالا

( وذي عذل فيمن سباني حسنه ... )
الأبيات ولابن حزم أيضا قوله
( لا تلمني لأن سبقة لحظ ... فات إدراكها ذوي الألباب )
( يسبق الكلب وثبة الليث في العد ... و ويعلو النخال فوق اللباب )
ولأبي بكر بن مفوز جزء يرد فيه على أبي محمد بن حزم وفيه قال معرضا
( يا من تعاني أمورا لن تعانيها ... خل التعاني واعط القوس باريها )
( تروي الأحاديث عن كل مسامحة ... وإنما لمعانيها معانيها )
وقيل إنه خاطب بهما بعض أصحاب ابن حزم
رجع إلى القاضي أبي الوليد الباجي
- ومن نظمه قوله من مرثية
( أحن ويثني اليأس نفسي على الأسى ... كما اضطر محمول على المركب الصعب )
ومن جيد نظمه قوله
( أسروا على الليل البهيم سراهم ... فنمت عليهم في الشمال شمائل )
( متى نزلوا ثاوين بالخيف من منى ... بدت للهوى بالمأزمين مخايل )
( فلله ما ضمت منى وشعابها ... وما ضمنت تلك الربى والمنازل )
( ولما التقينا للجمار وأبرزت ... أكف لتقبيل الحصى وأنامل )
( أشارت إلينا بالغرام محاجر ... وباحت به منا جسوم نواحل )

وقال الباجي أبو الوليد رحمه الله تعالى
( مضى زمن المكارم والكرام ... سقاه الله من صوب الغمام )
( وكان البر فعلا دون قول ... فصار البر نطقا بالكلام )
وذيله بعضهم بقوله
( وزال النطق حتى لست تلقى ... فتى يسخو برد للسلام )
( وزاد الأمر حتى ليس إلا ... سخي بالأذى أو بالملام )
46 - ومنهم الفقيه العالم الشهير أبو بكر محمد بن الوليد بن محمد بن خلف بن سليمان بن أيوب الفهري الطرطوشي صاحب سراج الملوك ويعرف بابن أبي رندقة - بالراء المهملة المفتوحة وسكون النون - وكفى بسراج الملوك دليلا على فضله ذكره ابن بشكوال في الصلة وتوفي بالإسكندرية في شعبان وقيل جمادى الأولى سنة عشرين وخمسمائة وزرت قبره بالإسكندرية وممن أخذ عنه الحافظ القاضي أبو بكر بن العربي وغيره ومن نظم الطرطوشي قوله من رسالة
( أقلب طرفي في السماء ترددا ... لعلي أرى النجم الذي أنت تنظر )
( وأستعرض الركبان من كل وجهة ... لعلي بمن قد شم عرفك أظفر )

( وأستقبل الأرواح عند هبوبها ... لعل نسيم الريح عنك يخبر )
( وأمشي وما لي في الطريق مآرب ... عسى نغمة باسم الحبيب ستذكر )
( وألمح من ألقاه من غير حاجة ... عسى لمحة من نور وجهك تسفر )
ومن نظمه أيضا قوله
( يقولون ثكلى ومن لم يذق ... فراق الأحبة لم يثكل )
( لقد جرعتني ليالي الفراق ... كؤوسا أمر من الحنظل ) ومما نسب إليه
( إذا كنت في حاجة مرسلا ... وأنت بإنجازها مغرم )
( فأرسل بأكمه جلابة ... به صمم أغطش أبكم )
( ودع عنك كل رسول سوى ... رسول يقال له الدرهم )
وكان كثيرا ما ينشد
( إن لله عبادا فطنا ... طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا )
( فكروا فيها فلما علموا ... أنها ليست لحي وطنا )
( جعلوها لجة واتخذوا ... صالح الأعمال فيها سفنا )
وقال رحمه الله تعالى كنت ليلة نائما بالبيت المقدس إذ سمعت في الليل صوتا حزينا ينشد
( أخوف ونوم إن ذا لعجيب ... ثكلتك من قلب فأنت كذوب )
( أما وجلال الله لو كنت صادقا ... لما كان للإغماض فيك نصيب )

قال فأيقظ النوام وأبكى العيون وكان رحمه الله تعالى زاهدا متورعا متقللا من الدنيا قوالا للحق وكان يقول إذا عرض لك أمر دنيا وأخرى فبادر بأمر الأخرى يحصل لك أمر الدنيا والأخرى وله طريقة في الخلاف ودخل مرة على الأفضل بن أمير الجيوش فوعظه وقال له إن الأمر الذي أصبحت فيه من الملك إنما صار إليك بموت من كان قبلك وهو خارج عن يدك بمثل ما صار إليك فاتق الله فيما خولك من هذه الأمة فإن الله عز و جل سائلك عن النقير والقطمير والفتيل واعلم أن الله عز و جل آتى سليمان بن داود ملك الدنيا بحذافيرها فسخر له الإنس والجن والشياطين والطير والوحش والبهائم وسخر له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب ورفع عنه حساب ذلك أجمع فقال عز من قائل ( هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب ) [ ص 39 ] فما عد ذلك نعمة كما عددتموها ولا حسبها كرامة كما حسبتموها بل خاف أن يكون استدراجا من الله عز و جل فقال ( هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ) [ النمل 40 ] فافتح الباب وسهل الحجاب وانصر المظلوم وكان إلى جانب الأفضل رجل نصراني فأنشده
( يا ذا الذي طاعته قربة ... وحقه مفترض واجب )
( إن الذي شرفت من أجله ... يزعم هذا أنه كاذب )
( وأشار إلى النصراني فأقامه الأفضل من مكانه والطرطوشي - بضم الطاءين - نسبة إلى طرطوشة من بلاد الأندلس

وقد تفتح الطاء الأولى وعبر عنه ابن الحاجب في مختصره الفقهي في باب العتق بالأستاذ وكان رحمه الله تعالى صحب القاضي أبا الوليد الباجي رحمه الله تعالى بسرقسطة وأخذ عنه مسائل الخلاف وسمع منه وأجازه وقرأ الفرائض والحساب بوطنه وقرأ الأدب على أبي محمد بن حزم بمدينة إشبيلية ثم رحل إلى المشرق سنة ست وسبعين وأربعمائة ودخل بغداد والبصرة فتفقه هناك عند أبي بكر الشاشي وأبي محمد الجرجاني وسمع بالبصرة من أبي علي التستري وسكن الشام مدة ودرس بها وكان راضيا باليسير وقال الصفدي في ترجمة الطرطوشي إن الأفضل بن أمير الجيوش أنزله في مسجد شقيق الملك بالقرب من الرصد وكان يكرهه فلما طال مقامه به ضجر وقال لخادمه إلى متى نصبر اجمع لي المباح فجمعه وأكله ثلاثة أيام فلما كان عند صلاة المغرب قال لخادمه رميته الساعة فلما كان من الغد ركب الأفضل فقتل وولي بعده المأمون بن البطائحي فأكرم الشيخ إكراما كثيرا وله ألف الشيخ سراج الملوك انتهى ومقامه - أعني الطرطوشي - مشهور وهذه الحكاية تكفي في ولايته ومن تآليفه مختصر تفسير الثعالبي والكتاب الكبير في مسائل الخلاف وكتاب في تحريم جبن الروم وكتاب بدع الأمور ومحدثاتها وكتاب شرح رسالة الشيخ ابن أبي زيد وولد سنة إحدى وخمسين وأربعمائة تقريبا ولما توفي صلى عليه ولده محمد ودفن رحمه الله تعالى قبل الباب الأخضر بإسكندرية وزرت قبره مرارا رحمه الله تعالى ورضي عنه ونفعنا به ! وكان القاضي عياض ممن استجازه فأجازه ولم يلقه وشهرته رضي الله

تعالى عنه تغني عن الإطناب وحكي أنه كتب على سراج الملوك الذي أهداه لولي الأمر بمصر
( الناس يهدون على قدرهم ... لكنني أهدي على قدري )
( يهدون ما يفنى وأهدي الذي ... يبقى على الأيام والدهر )
( وحكي أنه لما سمع رضي الله تعالى عنه منشدا ينشد للوأواء
( قمر أتى من غير وعد ... في ليلة طرقت بسعد )
( بات الصباح إلى الصباح ... معانقي خدا بخد ) يمتاز في وناظري ... ما شئت من خمر وشهد )
فقال أو يظن هذا الدمشقي أن أحدا لا يحسن ينظم الكذب غيره لو شئنا لكذبنا مثل هذا ثم أنشد لنفسه يعارضه
( قمر بدا من غير وعد ... حفت شمائله بسعد )
( قبلته ورشفت ما ... في فيه من خمر وشهد )
( فرشفت مزن السلسبيل ... بزنجبيل مستعد )
( ولثمت فاه من الغروب ... إلى الصباح المستجد )
( وسكرت من رشفي العقيق ... على أقاح تحت رند )
( فنزعت عن فمه فمي ... ووضعت خدا فوق خد )
( وشممت عرف نسيمه الجاري ... على مسك وند )
( وصحوت من ريا القرنفل ... بين ريحان وورد )
( وألذ من وصلي به ... شكواه وجدا مثل وجدي )
( ومن نظم الطرطوشي قوله أيضا

( كأن لساني والمشكلات ... سنا الصبح ينحر ليلا بهيما )
( وغيري إن رام ما رمته ... خصي يحاول فرجا عقيما )
وقوله أيضا
( فاعمل لمعادك يا رجل فالقوم لدنياهم عملوا )
( وادخر لمسيرك من زاد ... فالقوم بلا زاد رحلوا )
47 - ومنهم محمد بن عبد الجبار الطرطوشي - وفد إلى المشرق وذكره العماد في الخريدة وله في الآمدي العلي بمصر وكان يخضب بسواد الرمان يخضب بأقبح سواد خضب به
( خلط العفص فيه يا أحوج الناس ... إلى العفص حين يعكس عفص )
48 - ومنهم القاضي الشهير الشهيد أبو علي الصرفي وهو حسين بن محمد بن فيره بن حيون ويعرف بابن سكرة وهو من أهل سرقسطة سكن مرسية وروى بسرقسطة عن الباجي وأبي محمد عبد الله بن محمد بن إسماعيل وغيرهما وسمع ببلنسية من أبي العباس العذري وسمع بالمرية من أبي عبد الله محمد بن سعدون القروي وأبي عبد الله بن المرابط وغيرهما

ورحل إلى المشرق أول المحرم من سنة إحدى وثمانين وأربعمائة وحج من عامه ولقي بمكة أبا عبد الله الحسن بن علي الطبري وأبا بكر الطرطوشي وغيرهما ثم سار إلى البصرة فلقي بها أبا يعلى المالكي وأبا العباس الجرجاني وأبا القاسم بن شعبة وغيرهم وخرج إلى بغداد فسمع بواسط من أبي المعالي محمد بن عبد السلام الأصبهاني وغيره ودخل بغداد سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة فأطال الإقامة بها خمس سنين كاملة وسمع بها من أبي الفضل بن خيرون مسند بغداد ومن أبي الحسين المبارك بن عبد الجبار الصيرفي وطراد الزينبي والحميدي وغيرهم وتفقه عند أبي بكر الشاشي وغيره ثم رحل منها سنة سبع وثمانين فسمع بدمشق من أبي الفتح نصر المقدسي وأبي الفرج الإسفراييني وغيرهما وسمع بمصر من القاضي أبي الحسن الخلعي وأبي العباس أحمد بن إبراهيم الرازي وأجاز له الحبال مسند مصر في وقته ومكثرها وسمع بالإسكندرية من أبي القاسم الوراق وشعيب بن سعيد وغيرهما ووصل إلى الأندلس في صفر من سنة سبعين وأربعمائة وقصد مرسية فاستوطنها وقعد يحدث الناس بجامعها ورحل الناس من البلدان إليه وكثر سماعهم عليه وكان عالما بالحديث وطرقه عارفا بعلله وأسماء رجاله ونقلته وكان حسن الخط جيد الضبط وكتب بخطه علما كثيرا وقيده وكان حافظا لمصنفات الحديث قائما عليها ذاكرا لمتونها وأسانيدها ورواتها وكتب منها صحيح البخاري في سفر وصحيح مسلم في سفر وكان قائما على الكتابين مع مصنف أبي عيسى الترمذي وكان فاضلا دينا متواضعا حلوما وقورا عالما عاملا واستقضي بمرسية ثم استعفى فأعفي

وأقبل على نشر العلم وبثه وقد ذكره أبو القاسم بن عساكر في تاريخه لدخوله الشام قال وبعد أن استقرت به النوى واستمرت إفادته بما قيد وروى رفعته ملوك أوانه وشفعته في مطالب إخوانه فأوسعته رعيا وأحسنت فيه رأيا ومن أبنائهم من جعل يقصده لسماع يسنده وعلى وقاره الذي كان به يعرف ندر له مع بعضهم ما يستطرف وهو أن فتى يسمى يوسف لازم مجلسه معطرا رائحته ومنظفا ملبسه ثم غاب لمرض قطعه أو شغل منعه ولما فرغ أو أبل عاود ذلك النادي المبارك والمحل وقبل إفضائه إليه دل طيبه عليه فقال الشيخ على سلامته من المجون وخلاصه من الفتون ( إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون ) [ يوسف 94 ] وهي من طرف نوادره رحمة الله عليه ولما قلد قضاء مرسية وعزم عليه صاحب الأمر فيه فر إلى المرية فأقام بها سنة خمس وبعض سنة ست وخمسمائة وفي سنة ست قبل قضاءها على كره إلى أن استخفى آخر سنة سبع في قصة يطول إيرادها وبطول مقامه بالمرية أخذ الناس عنه بها فلما كانت وقعة كتندة كان ممن حضرها ففقد فيها سنة أربع عشرة وخمسمائة رحمه الله تعالى ! وقال القاضي عياض ولقد حدثني الفقيه أبو إسحاق إبراهيم بن جعفر أنه قال له خذ الصحيح واذكر أي متن شئت منه أذكر لك سنده أو أي سند شئت أذكر لك متنه انتهى

وذكر غير واحد أنه حدث ببغداد بحديث واحد والله أعلم وهو من أبناء الستين
49 - ومنهم ابن أبي روح الجزيري - ومن شعره لما تغرب بالمشرق قوله
( أحن إلى الخضراء في كل موطن ... حنين مشوق للعناق والضم )
( وما ذاك إلا أن جسمي رضيعها ... ولا بد من شوق الرضيع إلى الأم )
50 - ومنهم العالم أبو حفص عمر بن حسن الهوزني الحسيب العالم المحدث - ذكره ابن بسام في الذخيرة والحجاري في المسهب وسبب رحلته للمشرق أنه لما تولى المعتضد بن عباد خاف منه فاستأذنه في الحج سنة 444 ورحل إلى مصر ثم إلى مكة وسمع في طريقه كتاب صحيح البخاري وعنه أخذه أهل الأندلس ورجع وسكن إشبيلية وخدم المعتضد فقتله ومن خاف من شيء سلط عليه وكان قتله يوم الجمعة لإحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة ستين وأربعمائة ومن شعره يحرضه على الجهاد
( أعباد جل الرزء والقوم هجع ... على حالة من مثلها يتوقع )
( فلق كتابي من فراغك ساعة ... وإن طال فالموصوف للطول موضع )
( إذا لم أبث الداء رب شكاية ... أضعت وأهل للملام المضيع )
ووصله بنثر وهو وما أخطأ السبيل من أتى البيوت من أبوابها

ولا أرجأ الدليل من أناط الأمور بأربابها ولرب أمل بين أثناء المحاذير مدمج ومحبوب في طي المكاره مدرج فانتهز فرصتها فقد بان من غيرك العجز وطبق مفاصلها فقد أمكنك الحز ولا غرو أن يستمطر الغمام في الجدب ويستصحب الحسام في الحرب وله
( صرح الشر فلا يستقل ... إن نهلتهم جاءكم بعد عل )
( بدء صعق الأرض رش وطل ... ورياح ثم غيم أبل )
( خفضوا فالداء رزء أجل ... واغمدوا سيفا عليكم يسل )
وابنه أبو القاسم هو الذي كان سبب فساد دولة المعتمد بن عباد بسبب قتل المعتضد والده كما مروبيت بنى الهوزاني بالأندلس بيت كبير مشهور ومنهم عدة علماء وكبراء رحم الله الجميع
51 - ومنهم أبو عمرو عثمان بن الحسين أخو الحافظ أبي الخطاب بن دحية الآتي ذكره كان أسن من أخيه أبي الخطاب وكان حافظا للغة العرب قيما بها وعزل الملك الكامل أبا الخطاب عن دار الحديث الكاملية التي أنشأها بين القصرين ورتب مكانه أخاه أبا عمرو المذكور ولم يزل بها إلى أن توفي

سنة 634 بالقاهرة ودفن بسفح المقطم كأخيه وكان موت أبي عمرو بعد أبي الخطاب بسنة رحمهما الله تعالى
52 - ومنهم الكاتب أبو بكر محمد بن القاسم - من أهل وادي الحجارة ويعرف باشكنهادة وارتحل إلى المشرق لما نبت به حضرة قرطبة عند تقلب دولها وتحول ملوكها وخولها فجال في العراق وقاسى ألم الفراق واجتاز بحلب وأقام بها مقام غريب لم يصف له حلب وقال
( أين أقصى الغرب من أرض حلب ... أمل في الغرب موصول التعب )
( حن من شوق إلى أوطانه ... من جفاه صبره لما اغترب )
( جال في الأرض لجاجا حائرا ... بين شوق وعناء ونصب )
( كل من يلقاه لا يعرفه ... مستغيثا بين عجم وعرب )
( لهف نفسي أين هاتيك العلا ... واضياعاه ويا غبن الحسب )
( والذي قد كان ذخرا وبه ... أرتجي المال وإدراك الرتب )
( صار لي أبخس ما أعددته ... بين قوم ما دروا طعم الأدب )
( يا أحباي اسمعوا بعض الذي ... يتلقاه الطريد المغترب )
( وليكن زجرا لكم عن غربة ... يرجع الرأس لديها كالذنب )
( واحملوا طعنا وضربا دائما ... فهو عندي بين قومي كالضرب )
( ولئن قاسيت ما قاسيته ... فبما أبصر لحظي من عجب )
( ولقد أخبركم أن ألتقي ... بكم حتى تقولوا قد كذب )

واجتاز بدمشق فقال من أبيات رحمه الله تعالى
( دمشق جنة الدنيا حقيقا ... ولكن ليس تصلح للغريب )
( بها قوم لهم عدد ومجد ... وصحبتهم تؤول إلى حروب )
ثم إنه ودع الشرق بلا سلام وحل بحضرة دانية لدى ملكها مجاهد العامري في بحبوحة عز لا يخشى فيه الملام واستقبل الأندلس بخاطر جديد ونال بها بعد من بلوغ الآمال ما ليس له عليه مزيد وقال
( وكم قد لقيت الجهد قبل مجاهد ... وكم أبصرت عيني وكم سمعت أذني )
( ولاقيت من دهري وصرف خطوبه ... كما جرت النكباء في معطف الغصن )
( فلا تسألوني عن فراق جهنم ... ولكن سلوني عن دخولي إلى عدن )
وله من كتاب وحامل كتابي - سلمه الله تعالى وأعانه - ممن أخنى عليه الزمان وأدار عليه وما صحا إلى الآن كؤوس الهوان وقد قصد على بعد جنابك الرحيب الخصيب قصد الحسن محل الخصيب ويمم جناب ابن طاهر حبيب وإني لأرجو أن يرجع منك رجوع نصيب عن سليمان ويستعين في شكرك بكل لسان وأنت عليم بأن الثناء هو الخلف وقد قال الأول
( أرى الناس أحدوثة ... فكوني حديثا حسن )
وأنا القائل
( فلا تزهدن في الخير قد مات حاتم ... وأخباره حتى القيامة تذكر )

ومع هذا فهو عليه بقدر ما يحتمل من التكليف هذا الأوان عارف وجوه الأعذار غير ذي عجل في العتب قبل البيان وعند سيدي من التهدي للإيصاء ما يحقق فيه جميع الرجاء دامت أرجاؤه مؤملة ولا برحت نعمه سابغة مكملة
53 - ومنهم الكاتب أبو عبد الله محمد بن عبد ربه المالقي - وقال بعضهم إنه من الجزيرة الخضراء له رحلة إلى الديار المصرية صنع فيها مقامه يقول فيها
( وفي جنبات الروض نهر ودوحة ... يروقك منها سندس ونضار )
( تقول وضوء البدر فيه مغرب ... ذراع فتاة دار فيه سوار )
ومن شعره
( ما كل إنسان أخ منصف ... ولا الليالي أبدا تسعف )
( فلا تضع إن أمكنت فرصة ... واصحب من الإخوان من ينصف )
( وانتف من الدهر ولو ريشة ... فإنما حظك ما تنتف )
وقوله يرثي السيد أبا عمران ابن أمير المؤمنين يوسف ابن أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي ملك المغرب والأندلس
( بجيد المعالي أي عقد تبددا ... وصدر العوالي أي رمح تقصدا )

( لما دهت خيل الشقي فجاءة ... وسال العدا بحرا من الموت مزبدا )
( شهدت بوجه كالغزالة مشرقا ... وإن كان وجه الشمس بالنقع مربدا )
( عزائم صدق ليس تصرف هكذا ... إلى الموت تسعى أو على الموت يعتدى )
وكان السيد أبو عمران المرثي قتله الميورقي صاحب فتنة إفريقية في الهزيمة المشهورة على تاهرت وجمع ابن عبد ربه المذكور شعر السيد أبي الربيع بن عبد الله بن أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي وكان ابن عبد ربه المذكور كاتبا للسيد أبي الربيع سليمان المذكور ولما أنشد لبعض الشعراء
( حاكت يمين الرياح محكمة ... في نهر واضح الأسارير )
( فكلما ضعفت به حلقا ... قام لها القطر بالمسامير )
أنشد لنفسه
( بين الرياض وبين الجو معترك ... بيض من البرق أو سمر من السمر )
( إن أوترت قوسها كف السماء رمت ... نبلا من الماء في زغف من الغدر )
( لأجل ذاك إذا هبت طلائعها ... تدرع النهر واهتزت قنا الشجر ) واجتمع ابن عبد ربه المذكور في رحلته بالسعيد بن سناء الملك وأخذ عنه شيئا من شعره ورواه بالمغرب

54 - ومنهم الشاعر الأديب أبو محمد عبد المنعم بن عمر بن حسان المالقي ومن نظمه في السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب من قصيدة رحمه الله تعالى
( في صهوات المقربات وفي القنا ... حصون حمى لا في هضاب المعاقل )
ومنها
( ولا ملك يأتي كيوسف آخرا ... كما لم يجئ مثل له في الأوائل )
55 - ومنهم الحافظ أبو الخطاب بن دحية وهو مجد الدين عمر بن الحسن بن علي بن محمد بن الجميل بن فرح بن خلف الظاهري المذهب الأندلسي كان من كبار المحدثين ومن الحفاظ الثقات الأثبات المحصلين استوطن بجاية في مدة أبي عبد الله بن يومور وروى بها وأسمع وكان من أحفظ أهل زمانه باللغة حتى صار حوشي اللغة عنده مستعملا غالبا ولا يحفظ الإنسان من اللغة حوشيها إلا وذلك أضعاف أضعاف محفوظه من مستعملها وكان قصده - والله تعالى أعلم - أن ينفرد بنوع يشتهر به دون غيره كما فعل كثير من الأدباء حيث تركوا طريق المعرب وانفردوا بالطريق الآخر ولو سلكوا طريق المعرب لكانوا فيه كآحاد الناس وكذا الشيخ أبو الخطاب ابن دحية له رسائل ومخاطبات كلها مغلقات مقفلات وكان - رحمه الله تعالى - إذا كتب اسمه فيما يجيزه أو غير ذلك يكتب ابن دحية ودحية معا المتشبه به جبريل وجبرائيل ويذكر ما ينيف على ثلاث عشرة لغة مذكورة

في جبريل ويقول عند فاطر السموات والأرض وهذا فرع انفرد به عمن عداه من أهل العلم قال صاحب عنوان الدراية رأيت له تصنيفا في رجال الحديث لا بأس به وارتحل إلى المشرق في دولة بني أيوب فرفعوا شأنه وقربوا له مكانه وجمعوا له علماء الحديث وحضروا له مجلسا أقروا له بالتقدم وعرفوا أنه من أولي الضبط والإتقان والتفهم وذكروا أحاديث بأسانيد حولوا متونها فأعاد المتون المحولة وعرف عن تغييرها ثم ذكر الأحاديث على ما هي عليه من متونها الأصلية ومثل هذه الحكاية اتفق لأبي عمر بن عات في كتاب مسلم بمراكش ببيت الطلبة منها ومن شعر أبي الخطاب ما كتب به إلى الكامل بن العادل بن أيوب
( ما لي أسائل برق بارق عنكم ... من بعد ما بعدت دياري منكم )
( فمحلكم قلبي وأنتم بالحشا ... لا بالعقيق ولا برامة أنتم )
( وأنا المقيم على الوفاء بعهدكم ... يا مالكين وفيتم أو خنتم )
( وهي طويلة ومنها
( رفعت له الأملاك منه سجية ... ملك السماك الرمح وهو محرم )
ومنها أيضا
( لذوي النهى والفهم سر حكومة ... قد حار فيها كاهن ومنجم )
( فاقصد مرادك حيث سرت مظفرا ... والله يكلأ والكواكب نوم )
( وليهنك الشهر السعيد تصومه ... وتفوز فيه بالثواب وتغنم )
( فلأنت في الدنيا كليلة قدره ... قدرا فقدرك في الملوك معظم )
فأجابه السلطان مكافأة بنثر ونظم فمن النظم
( وهيجن شوقي للأجارع باللوى ... وأين اللوى مني وأين الأجارع )
( مرابع لو أن المرابع أنجم ... لكان نجوم الأرض تلك المرابع )
( رعى الله أياما بها ولو أنها ... إلي وقد ولى الشباب رواجع )
( ليالي لا ليلى إذا رمت وصلها ... يلوح لها من صبح شيبي مواقع ) في جملة أبيات ومن النثر الحمد لله ولي الحمد وقف ولده على الأبيات التي حسن شعرها وصفا درها وليس من البديع أن يقذف البحر درا أو ينظم الخليل شعرا وقد أخذت الورقة لأتنزه في معانيها وأستفيد بما أودعه فيها فالله تعالى لا يخلينا من فوائد فكرته وصالح أدعيته والسلام فأجابه الحافظ أبو الخطاب عن الأبيات بقوله من قصيدة
( شجتني شواج في الغصون سواجع ... ففاضت هوام للجفون هوامع ) وأكثر فيها من التغزل إلى أن قال
( ولا حاكم أرضاه بيني وبينها ... سوى حاكم دهري له اليوم طائع )
( يدافع عني الضيم قائم سيفه ... إذا عز من للضيم عني يدافع )
( هو الكامل الأوصاف والملك الذي تشير إليه بالكمال الأصابع )
( وبيض أياديه الكريمة في الورى ... قلائد في الأعناق وهي الصنائع )
( ويوماه يوماه اللذان هما هما ... إذا جمعت غلب الملوك المجامع )
( ومنها فما روضة غنا بها مرت الصبا ... ونشر شذاها الطيب النشر ذائع )

( له من شذي الزهر برد مفوف ... أتيح له من أرض صنعاء صانع )
( فراقك منها أخضر الثوب ناضر ... وشاقك منها أصفر اللون فاقع )
( وأحمر قان للخدود مورد ... وأبيض كالثغر المفلج ناصع )
( بأحسن من توشيع مدحي الذي له ... بدائع من وشي البديع وشائع )
( وما ضائع من نشر شكري الذي به ... تأرجت الأرجاء عندك ضائع )
( ولو لم يقيدني نداك لكان لي ... مجال فسيح في البسيطة واسع )
( فأنت الذي لي والأعادي كثيرة ... فويق مكان النجم في الأفق دافع )
ومنها
( بقيت لعبد جده دحية الذي ... يشابه جبريل له ويضارع )
( وجدته الزهراء بنت محمد ... عليه السلام الدائم المتتابع )
( ولا عدمت منك الممالك مالكا ... يقرب للآمال ما هو شاسع )
( ومنك عيون للمهمات يقظ ... وعنك عيون الحادثات هواجع )
وقال المقريزي في ترجمة الملك الكامل إنه كان مشغوفا بسماع الحديث النبوي وتقدم عنده أبو الخطاب بن دحية وبنى له دار الحديث الكاملية بين القصرين بالقاهرة انتهى وقال أبو الخطاب بن دحية أنشدني أبو القاسم السهيلي لنفسه وذكر أنه ما سأل الله تعالى بها إلا أعطاه
( يا من يرى ما في الضمير ويسمع ... أنت المعد لكل ما يتوقع )
( يا من يرجى للشدائد كلها ... يا من إليه المشتكى والمفزع )

( يا من خزائن رزقه في قول كن ... امنن فإن الخير عندك أجمع )
( ما لي سوى فقري إليك وسيلة ... فبالافتقار إليك فقري أدفع )
( ما لي سوى قرعي لبابك حيلة ... فلئن رددت فأي باب أقرع )
( ومن الذي أدعو وأهتف باسمه ... إن كان فضلك عن فقيرك يمنع )
( حاشا لجودك أن يقنط عاصيا ... الفضل أجزل والمواهب أوسع )
( ومن نظم السهيلي رضي الله تعالى عنه
( أسائل عن جيرانه من لقيته ... وأعرض عن ذكراه والحال تنطق )
( وما بي إلى جيرانه من صبابة ... ولكن نفسي عن صبوح ترقق )
وله
( لما أجاب بلا طمعت بوصله ... إذ حرف لا حرفان معتنقان )
( وكذا نعم بنعيم وصل آذنت ... فنعم ولا في اللفظ متفقان )
ولد أبو الخطاب بن دحية في ذي القعدة سنة سبع - أو ثمان - وأربعين وخمسمائة وتوفي في انفجار الفجر ليلة الثلاثاء رابع عشر ربيع الأول سنة ثلاث وثلاثين وستمائة بالقاهرة ودفن بسفح المقطم وتكلم فيه جماعة فيما ذكره ابن النجار وقدره أجل مما ذكروه وقد روى رحمه الله تعالى بالمغرب ومصر والشام والعراق وخراسان وعراق العجم وكل ذلك في طلب الحديث وسمع بالأندلس من ابن بشكوال وابن

زرقون في جمع كبير وببغداد من أبي الفرج بن الجوزي وبأصبهان من أبي جعفر الصيدلاني معجم الطبراني ومن غيره وبنيسابور من أبي سعيد بن الصفار ومنصور بن الفراوي والمؤيد الطوسي وحصل الكتب والأصول وحدث وأفاد وكان من أعيان العلماء ومشاهير الفضلاء متقنا لعلم الحديث وما يتعلق به عارفا بالنحو واللغة وأيام العرب وأشعارها وصنف كتبا كثيرة مفيدة جدا منها كتاب التنوير في مولد السراج المنير صنفه عند قدومه إلى إربل سنة أربعة وستمائة وهو متوجه إلى خراسان لما رأى ملك إربل مظفر الدين كوكبري معتنيا بعمل المولد النبوي في شهر ربيع الأول كل عام مهتما به غاية الاهتمام وكمله وقرأه عليه بنفسه وختمه بقصيدة طويلة فأجازه بألف دينار وصنف أيضا العلم المشهور في فضائل الأيام والشهور و الآيات البينات في ذكر ما في أعضاء رسول الله من المعجزات وكتاب شرح أسماء النبي وكتاب النبراس في أخبار خلفاء بني العباس وكتاب الإعلام المبين في المفاضلة بين أهل صفين وولي قضاء بلد أصوله دانية مرتين ثم صرف عن ذلك لسيرة نعيت عليه فرحل عنها وحدث بتونس سنة 595 ثم حج وكتب بالمشرق عن جماعة بأصبهان ونيسابور وعاد إلى مصر فاستأدبه العادل لولده الكامل وأسكنه القاهرة فنال بذلك دنيا عريضة ثم زادت حظوته عند الكامل وأقبل عليه إقبالا عظيما وكان يعظمه ويحترمه ويعتقد فيه الخير ويتبرك به حتى كان يسوي له المداس حين يقوم وهو بلنسي كما قاله ابن خلكان وغيره وبلنسية مشهورة بشرق الأندلس
56 - ومنهم خلف بن القاسم بن سهل بن الدباغ الحافظ الأندلسي رحل إلى المشرق وكان حافظا فهما عارفا بالرجال حدث حديث مالك وشعبة وأشياء في الزهد وسمع بمصر أبا الحسن بن الورد البغدادي ومسلم بن الفضل والحسن بن رشيق وجماعة وسمع بدمشق علي بن أبي العقب وأبا الميمون بن راشد وبمكة من بكير الحداد وأبي الحسن الخزاعي والأجري وبقرطبة من أحمد بن يحيى بن الشاهد ومحمد بن معاوية وتوفي سنة 393
57 - ومنهم خلف بن سعيد بن عبد الله بن زرارة أبو القاسم بن المرابط الكلبي من ذرية الأبرش الكلبي ويعرف بالمبرقع المحتسب القرطبي رحل إلى المشرق مرتين أولاهما سنة 332 وهو ابن ثلاث وعشرين سنة وسمع أبا سعيد بن الأعرابي وابن الورد وأبا بكر الآجري وروى عنه أبو إسحاق بن شنظير وأبو جعفر الزهراوي وقال ابن شنظير إنه توفي في نحو الأربعمائة رحمه الله تعالى ورضي عنه
58 - ومنهم سابق فضلاء زمانه أبو الصلت أمية بن عبد العزيز بن أبي الصلت الإشبيلي يقال إن عمره ستون سنة منها عشرون في بلده إشبيلية وعشرون في إفريقية عند ملوكها الصنهاجيين وعشرون في مصر محبوسا في خزانة الكتب وكان وجهه صاحب المهدية إلى ملك مصر فسجن بها طول تلك المدة في خزانة الكتب فخرج في فنون العلم إماما وأمتن علومه الفلسفة والطب والتلحين

وله في ذلك تواليف تشهد بفضله ومعرفته وكان يكنى بالأديب الحكيم وهو الذي لحن الأغاني الإفريقية قال ابن سعيد وإليه تنسب إلى الآن وذكره العماد في الخريدة وله كتاب الحديقة على أسلوب يتيمة الدهر للثعالبي وتوفي سنة 520 وقيل سنة 528 بالمهدية وقيل مستهل السنة بعدها ودفن بها وله فيمن اسمه واصل
( يا هاجرا سموه عمدا واصلا ... وبضدها تتبين الأشياء )
( ألغيتني حتى كأنك واصل ... وكأنني من طول هجري الراء )
وقوله وهو من بدائعه
( لا غرو أن سبقت لهاك مدائحي ... وتدفقت جدواك ملء إنائها )
( يكسى القضيب ولم يحن إثماره ... وتطوق الورقاء قبل غنائها )
وقال في الأفضل
( تردي بكل فتى إذا شهد الوغى ... نثر الرماح على الدروب كعوبا )
( قد لوحته يد الهواجر فاغتدى ... مثل القناة قضافة وشحوبا )
( تخذوا القنا أشطانهم واستنبطوا ... في كل قلب بالطعان قليبا )
ومنها
( تعطي الذي أعطتكه سمر القنا ... أبدا فتغدو سالبا مسلوبا )

ومنها
( وأنا الغريب مكانه وبيانه ... فاجعل صنيعك في الغريب غريبا )
وله
( ومهفهف شربت محاسن وجهه ... ما مجه في الكاس من إبريقه )
( ففعالها من مقلتيه ولونها ... من وجنتيه وطعمها من ريقه )
أخذه من ابن حيوس وقصر عنه في قوله
( ومهفهف يفني بلحظ جفونه ... عن كاسه الملأى وعن إبريقه )
( فعل المدام ولونها ومذاقها ... في مقلتيه ووجنتيه وريقه ) ولأبي الصلت فيمن اسمه محسن
( أيها الظالم المسيء ... مدى دهره بنا )
( ما لهم أخطأوا الصواب ... فسموك محسنا )
وله في لابس قرمزية حمراء
( أقبل يسعى أبو الفوارس في ... مرأى عجيب ومنظر أنق )
( أقبل في قرمزية عجب ... قد صبغت لون خده الشرق )
( كأنما جيده وغرته ... من دونها إذ بدون في نسق )
( عمود فجر من فوقه قمر ... دارت به قطعة من الشفق )

وله في ثقيل
( لي جليس عجبت كيف استطاعت ... هذه الأرض والجبال تقله )
( أنا أرعاه مكرها وبقلبي ... منه ما يقلق الجبال أقله )
( فهو مثل المشيب أكره مرآه ... ولكن أصونه وأجله )
أخذه من قول أبي الحسن جعفر بن الحاج اللورقي وهما في عصر واحد
( لي صاحب عميت علي شؤونه ... حركاته مجهولة وسكونه )
( يرتاب بالأمر الجلي توهما ... فإذا تيقن نازعته ظنونه )
( إني لأهواه على شرقي به ... كالشيب تكرهه وأنت تصونه )
وأوصى أن يكتب على قبره أبو الصلت المذكور مما نظمه قبيل موته
( سكنتك يا دار الفناء مصدقا ... بأني إلى دار البقاء أصير )
( وأعظم ما في الأمر أني صائر ... إلى عادل في الحكم ليس يجور )
( فيا ليت شعري كيف ألقاه عندها ... وزادي قليل والذنوب كثير )
( فإن أك مجزيا بذنبي فإنني ... بشر عقاب المذنبين جدير )
( وإن يك عفو ثم عني ورحمة ... فثم نعيم دائم وسرور )
وله أيضا

( إذا كان أصلي من تراب فكلها ... بلادي وكل العالمين أقاربي )
( ولا بد لي أن أسأل العيس حاجة ... تشق على شم الذرا والغوارب )
وقال
( دب العذار بخده ثم انثنى ... عن لثم مبسمه البرود الأشنب )
( لا غرو أن خشي الردى في لثمه ... فالريق سم قاتل للعقرب )
( وقد ذكروا أن من خواص ريق ... الإنسان أنه يقتل العقرب وهو مجرب ) وقال
( لا تدعني ولتدع من شئته ... إليك من عجم ومن عرب )
( فنحن أكالون للسحت في ... ذراك سماعون للكذب )
وقال
( لا تسألني عن صنيع جفونها ... يوم الوداع وسل بذلك من نجا )
( لو كنت أملك خدها للثمته ... حتى أعيد به الشقيق بنفسجا )
( أو كنت أهجع لاحتضنت خيالها ... ومنعت ضوء الصبح أن يتبلجا )
( وبثثت في الظلماء كحل جفونها ... وعقدت هاتيك الذوائب بالدجى )
وقال مهنئا بمولود
( يلوح في المهد على وجهه ... تجهم البأس وبشرى الندى )

( والشمس والبدر إذا استجمعا ... لم يلبثا أن يلدا فرقدا )
( فابق له حتى ترى نجله ... وإن عرا خطب فنحن الفدا )
قال ابن سعيد وهذا البيت الأخير من أثقل الشعر يتطير من سماعه وتركه أولى وقال رحمه الله تعالى في الرصد
( فذا غدير وذا روض وذا جبل ... فالضب والنون والملاح والحادي )
59 - ومنهم الفقيه أبو محمد عبد الله بن يحيى بن محمد بن بهلول السرقسطي ذكره العماد الأصبهاني في الخريدة وذكره السمعاني في الذيل وأنه دخل بغداد في حدود سنة ست عشرة وخمسمائة ومن شعره
( يا شمس إني إن أتتك مدائحي ... وهن لآل نظمت وقلائد )
( فلست بمن يبغي على الشعر ... رشوة أبى ذاك لي جد كريم ووالد )
( وأني من قوم قديما ومحدثا ... تباع عليهم بالألوف القصائد )
60 - ومنهم الفقيه المقرئ أبو عامر التياري من رجال الذخيرة رحل إلى المشرق وقرأ على أبي جعفر الديباجي كتابه في العروض وسائر كتبه ولقي شيخ القيروان في العربية ابن القزاز وأديبها الحصري وأخبر عن نفسه أنه كان بين يديه تلميذ له وسيم فمر به أبو جعفر التجاني

بسحاءة كتب له فيها وخلاها بين يديه وهو قد غلب النوم عليه فقال
( يا نائما متعمدا ... إبصار طيف حبيبه )
( هو جوهر فاثقبه إن ... الطيب في مثقوبه )
( أو أركبني ظهره ... إن لم تقل بركوبه )
فلما قرأها علم أنها للتجاني فكتب تحتها
( يا طالبا أضحى حجاب ... دون ما مطلوبه )
( لو لم يكن في ذاك إثم ... لم أكن أسخو به )
( إني أغار عليه من ... أثوابه ورقيبه )
وأنشد يوما في حلقته لابن الرومي في خباز
( إن أنس لا أنس خبازا مررت به ... يدحو الرقاقة وشك اللمح بالبصر )
( ما بين رؤيتها في كفه كرة ... وبين رؤيتها قوراء كالقمر )
( إلا بمقدار ما تنداح دائرة ... في صفحة الماء يرمى فيه بالحجر )
فقال بعض تلامذته أما إنه لا يقدر على الزيادة على هذا فقال
( فكاد يضرط إعجابا برؤيتها ... ومن رأى مثل ما أبصرت منه خري )
فضحك من حضر وقال البيت لائق بالقطعة لولا ما فيه من ذكر الرجيع فقال
( إن كان بيتي هذا ليس يعجبكم ... فعجلوا محوه أو فالعقوه طري )
61 - ومنهم الأديب الطبيب أبو الحجاج يوسف بن عتبة الإشبيلي

مطبوع في الشعر والتوشيح قال ابن سعيد اجتمعت به في القاهرة مرارا بمجلس الأمير جمال الدين أبي الفتح موسى بن يغمور بن جلدك وفي غيره وتوفي في مارستان القاهرة ومن شعره
( أما الغراب فإنه سبب النوى ... لا ريب فيه وللنوى أسباب )
( يدعو الغراب وبعد ذاك يجيبه ... جمل وتعوي بعد ذاك ذئاب )
( لا تكذبن فهذه أسبابه ... لكن منها بدأة وجواب )
62 - ومنهم الإمام المحدث الحافظ جمال الدين أبو أبو بكر محمد بن يوسف بن موسى الأندلسي المعروف بابن مسدي وهو من الأئمة المشهورين بالمشرق والمغرب قال رحمه الله تعالى أنشدني رئيس الأندلس وأديبها أبو الحسن سهل بن مالك الأزدي الغرناطي لنفسه سنة 637 في شوال بداره بغرناطة
( منغص العيش لا يأوي إلى دعة ... من كان ذا بلد أو كان ذا ولد )
( والساكن النفس من لم ترض همته ... سكنى مكان ولم يسكن إلى أحد )
63 - ومنهم الإمام الحافظ أبو عبد الله محمد بن فتوح بن عبد الله الأزدي

الحميدي نسبة لجده حميد الأندلسي ولد أبوه بقرطبة وولد هو بالجزيرة بليدة بالأندلس قبل العشرين وأربعمائة وكان يحمل على الكتف للسماع سنة 425 فأول ما سمع من الفقيه أبي القاسم أصبغ قال وكنت أفصح من يقرأ عليه وكان قد لقي ابن أبي زيد وقرأ عليه وتفقه وروى عنه رسالته ومختصر المدونة ورحل سنة 448 وقدم مصر وسمع بها من الضراب والقضاعي وغير واحد وكان سمع بالأندلس من ابن عبد البر وابن حزم ولازمه وقرأ عليه مصنفاته وأكثر من الأخذ عنه وشهر بصحبته وصار على مذهبه إلا أنه لم يكن يتظاهر به وسمع بدمشق وغيرها وروى عن الخطيب البغدادي وكتب عنه أكثر مصنفاته وسمع بمكة من الزنجاني وأقام بواسط مدة بعد خروجه من بغداد ثم عاد إلى بغداد واستوطنها وكتب بها كثيرا من الحديث والأدب وسائر الفنون وصنف مصنفات كثيرة وعلق فوائد وخرج تخاريج للخطيب ولغيره وروى عنه أبو بكر الخطيب أكثر مصنفاته وابن ماكولا وكان إماما من أئمة المسلمين في حفظه ومعرفته وإتقانه وثقته وصدقه ونبله وديانته وورعه ونزاهته حتى قال بعض الأكابر ممن لقي الأئمة لم تر عيناي مثل أبي عبد الله الحميدي في فضله ونبله ونزاهة وغزارة علمه وحرصه على نشر العلم وبثه في أهله وكان ورعا ثقة إماما في علم الحديث وعلله ومعرفة متونه ورواته محققا في علم الأصول على مذهب أصحاب الحديث متبحرا في علم الأدب والعربية ومن تصانيفه كتاب جذوة المقتبس في أخبار علماء الأندلس وكتاب تاريخ الإسلام وكتاب من ادعى الأمان من أهل الإيمان وكتاب الذهب المسبوك في وعظ الملوك وكتاب تسهيل السبيل إلى علم الترسيل وكتاب مخاطبات الأصدقاء في

المكاتبات واللقاء وكتاب ما جاء من النصوص والأخبار في حفظ الجار وكتاب النميمة وكتاب الأماني الصادقة وغير ذلك من المصنفات و الأشعار الحسان في المواعظ والأمثال وكان من كثرة اجتهاده ينسخ بالليل في الحر ويجلس في إجانة ماء يتبرد به ومن مشهور مصنفاته كتاب الجمع بين الصحيحين وذكره الحجاري في المسهب وقال عنه إنه طرق ميورقة بعدما كانت عطلا من هذا الشأن وترك لها فخرا تباري به خواص البلدان وهو من علماء أئمة الحديث ولازم أبا محمد بن حزم في الأندلس واستفاد منه ورحل إلى بغداد وبها ألف كتاب الجذوة ومن شعره قوله رضي الله تعالى عنه
( ألفت النوى حتى أنست بوحشها ... وصرت بها لا في الصبابة مولعا )
( فلم أحص كم رافقته من مرافق ... ولم أحص كم خيمت في الأرض موضعا )
( ومن بعد جوب الأرض شرقا ومغربا ... فلا بد لي من أن أوافي مصرعا ) وقال رحمه الله تعالى
( لقاء الناس ليس يفيد شيئا ... سوى الهذيان من قيل وقال )
( فأقلل من لقاء الناس إلا ... لأخذ العلم أو إصلاح حال ) وذكره ابن بشكوال في الصلة وتوفي ببغداد سنة ثمان وثمانين وأربعمائة رحمه الله تعالى ! قال ابن ماكولا أخبرنا صديقنا أبو عبد الله الحميدي وهو من أهل العلم والفضل والتيقظ لم أر مثله في عفته ونزاهته وورعه وتشاغله بالعلم وكان أوصى مظفرا ابن رئيس الرؤساء أن يدفنه عند قبر بشر الحافي فخالف وصيته

ودفنه في مقبرة باب أبرز فلما كانت مدة رآه مظفر في النوم كأنه يعاتبه على مخالفته فنقل في صفر سنة 491 إلى مقبرة باب حرب ودفن عند قبر بشر وكان كفنه جديدا وبدنه طريا تفوح منه رائحة الطيب ووقف كتبه على أهل العلم رحمه الله تعالى ومن مناقبه أنه قال لمن دخل عليه فوجده مكشوف الفخذ تعديت بعين إلى موضع لم ينطره أحد منذ عقلت انتهى ومن شعر الحميدي أيضا قوله
( طريق الزهد أفضل ما طريق ... وتقوى الله تالية الحقوق )
( فثق بالله يكفك واستعنه ... يعنك ودع بنيات الطريق )
وقوله
( كلام الله عز و جل قولي ... وما صحت به الآثار ديني )
( وما اتفق الجميع عليه بدءا ... وعودا فهو عن حق مبين
( فدع ما صد عن هذي خذها ... تكن منها على عين اليقين )
64 - ومنهم الكمال أبو العباس أحمد الشريشي وهو أحمد بن عبد المؤمن بن موسى بن عيسى بن عبد المؤمن القيسي من أهل شريش روى عن أبي الحسن بن لبال وأبي بكر بن أزهر وأبي عبد الله بن زرقون وأبي الحسين بن جبير وغيرهم وأقرأ العربية وله تواليف أفاد بما حشر فيها منها شرح الإيضاح للفارسي والجمل للزجاج وله في العروض تواليف وجمع مشاهير قصائد العرب واختصر نوادر أبي علي القالي

قال ابن الأبار لقيته بدار شيخنا أبي الحسن بن حريق من بلنسية قبل توجهي إلى إشبيلية في سنة ست عشرة وستمائة وهو إذ ذاك يقرأ عليه شرحه للمقامات فسمعت عليه بعضه وأجاز لي سائره مع رواياته وتواليفه وأخذ عنه أصحابنا ثم لقيته ثانية مقدمه من مرسية انتهى ومن بديع نظمه وهو بمصر يتشوق إلى الشام
( يا جيرة الشام هل من نحوكم خبر ... فإن قلبي بنار الشوق يستعر )
( بعدت عنكم فلا والله بعدكم ... ما لذ للعين لا نوم ولا سهر )
( إذا تذكرت أوقاتا نأت ومضت ... بقربكم كادت الأحشاء تنفطر )
( كأنني لم أكن بالنير بين ضحى ... والغيم يبكي ومنه يضحك الزهر )
( والورق تنشد والأغصان راقصة ... والدوح يطرب بالتصفيق والنهر )
( والسفح أين عشياتي التي سلفت ... لي منه فهي لعمري عندي العمر )
( سقاك يا سفح سفح الدمع منهملا ... وقل ذاك له إن أعوز المطر )
وله رحمه الله تعالى شروح لمقامات الحريري كبير ووسط وصغير وفي الكبير من الآداب ما لا كفاء له وكان رحمه الله تعالى معجبا بالشام وقال ابن الأبار عندما ذكره إنه شرح مقامات الحريري في ثلاث نسخ كبراها الأدبية ووسطاها اللغوية وصغراها المختصرة انتهى وتوفي بشريش بلده سنة تسع عشرة وستمائة رحمه الله تعالى
65 - ومنهم أبو بكر يحيى بن سعدون بن تمام بن محمد الأزدي القرطبي الملقب بضياء الدين أحد الأئمة المتأخرين في القراءات وعلوم القرآن الكريم والحديث والنحو واللغة وغير ذلك

قال القاضي الشمس ابن خلكان إنه رحل من الأندلس في عنفوان شبابه وقدم مصر فسمع بالإسكندرية أبا عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم الرازي وبمصر أبا صادق مرشد بن يحيى بن القاسم المدني المصري وأبا طاهر أحمد بن محمد الأصبهاني المعروف بالسلفي وغيرهم ودخل بغداد سنة 517 وقرأ بها القرآن الكريم على الشيخ أبي محمد عبد الله بن علي المقرىء المعروف بابن بنت الشيخ أبي منصور الخياط وسمع عليه كتبا كثيرة منها كتاب سيبويه وقرأ الحديث على أبي بكر محمد بن عبد الباقي البزار المعروف بقاضي المارستان وأبي القاسم بن الحصين وأبي العز وغيرهم وكان دينا ورعا عليه وقار وسكينة وكان ثقة صدوقا ثبتا نبيلا قليل الكلام كثير الخير مفيدا أقام بدمشق مدة واستوطن الموصل ورحل منها إلى أصبهان ثم عاد إلى الموصل وأخذ عنه شيوخ ذلك العصر وذكره الحافظ ابن السمعاني في كتاب الذيل وقال إنه اجتمع به بدمشق وسمع عنه مشيخة أبي عبد الله الرازي وانتخب عليه أجزاء وسأله عن مولده فقال ولدت سنة 486 في مدينة قرطبة ورأيت في بعض الكتب أن مولده سنة 487 والأول أصح وكان شيخنا القاضي بهاء الدين أبو المحاسن يوسف بن رافع بن تميم المعروف بابن شداد قاضي حلب رحمه الله تعالى يفتخر بروايته وقراءته عليه وقال كنا نقرأ عليه بالموصل ونأخذ عنه وكنا نرى رجلا يأتي إليه كل يوم فيسلم عليه وهو قائم ثم يمد يده إلى الشيخ بشيء ملفوف فيأخذه الشيخ من يده ولا نعلم ما هو ويتركه ذلك الرجل ويذهب ثم تقفينا ذلك فعلمنا أنها دجاجة مسموطة كانت ترسم للشيخ في كل يوم يبتاعها له ذلك الرجل ويسمطها ويحضرها وإذا دخل الشيخ إلى منزله تولى طبخها بيده

وذكر في كتاب دلائل الأحكام أنه لازم القراءة عليه إحدى عشرة سنة آخرها سنة 567 وكان الشيخ أبو بكر القرطبي المذكور كثيرا ما ينشد مسندا إلى أبي الخير الكاتب الواسطي
( جرى قلم القضاء بما يكون ... فسيان التحرك والسكون )
( جنون منك أن تسعى لرزق ... ويرزق في غشاوته الجنين )
وتوفي القرطبي المذكور بالموصل يوم عيد الفطر سنة 567 رحمه الله تعالى
انتهى كلام ابن خلكان ببعض اختصار
66 - ومنهم الوزير أبو عبد الله محمد ابن الشيخ الأجل أبي الحسن بن عبد ربه وهو من حفداء صاحب كتاب العقد المشهور حدث الشيخ الأجل أبو عبد الله محمد بن علي اليحصبي القرموني رفيقه قال اصطحبت معه في المركب من المغرب إلى الإسكندرية فلما قربنا منها هاج علينا البحر وأشفينا على الغرق فلاح لنا ونحن على هذه الحال منار الإسكندرية فسررنا برؤيته وطمعنا في السلامة فقال لي لا بد أن أعمل في المنار شيئا فقلت له أعلى مثل هذه الحال التي نحن فيها فقال نعم فقلت فاصنع فأطرق ثم عمل بديها
( لله در منار اسكندرية كم ... يسمو إليه على بعد من الحدق )
( من شامخ الأنف في عرنينه شمم ... كأنه باهت في دارة الأفق ) يكسر الموج منه جانبي رجل ... مشمر الذيل لا يخشى من الغرق )
( لا يبرح الدهر من ورد على سفن ... ما بين مصطبح منها ومغتبق

( للمنشآت الجواري عند رؤيته ... كموقع النوم من أجفان ذي أرق )
وتقدمت ترجمة الكاتب أبي عبد الله بن عبد ربه وأظنه هذا فليتنبه له بل أعتقد أنه هو لا غيره والله تعالى أعلم
67 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن الصفار القرطبي قال في القدح المعلى بيتهم مشهور بقرطبة لم يزل يتوارث في العلم والجاه وعلو المرتبة ونشأ أبو عبد الله هذا حافظا للآداب إماما في علم الحساب مع أنه كان أعمى مقعدا مشوه الخلقة ولكنه إذا نطق علم كل منصف حقه ومن عجائبه أنه سافر على تلك الحالة حتى غدت بغداد له هالة اجتمعت به بحضرة تونس فرأيت بحرا زاخرا وروضا ناضرا إلا أنه حاطب ليل وساحب ذيل لا يبالي ما أورده ولا يلتفت إلى ما أنشده جامعا بين السمين والغث حافظا للمتين والرث وكان يقرئ الأدب بمراكش وفاس وتونس وغيرها ومن مشهور حكاياته أنه لما قال أبو زيد الفازازي في أبي العلاء المستنصر قصيدته ! ! ! ! ! ! ! التي مطلعها
( الحزم والعزم منسوبان للعرب ... ) عارضه بقصيدة ثم قال فيه وفي ابن أخيه يحيى بن الناصر الذي نازعه في ذلك الأوان رداء السلطان

( وإن ينازعك في المنصور ذو نسب ... فنجل نوح ثوى في قمة العطب )
( وإن يقل أنا عم فالجواب له ... عم النبي بلا شك أبو لهب )
وشاعت القصيدة فبلغت أبا العلاء فحرض على قتله وسلمه الله تعالى منه ومات سنة 639
ومن شعره قوله
( لا تحسب الناس سواء متى ... تشابهوا فالناس أطوار )
( وانظر إلى الأحجار في بعضها ... ماء وبعض ضمنها نار )
وقوله
( يا طالعا في جفوني ... وغائبا في ضلوعي )
( بالغت في السخط ظلما ... وما رحمت خضوعي )
( إذا نويت انقطاعا ... فاحسب حساب الرجوع )
انتهى باختصار يسير 68 - ومنهم أبو الوليد بن الجنان محمد بن المشرف أبي عمرو بن الكاتب أبي بكر بن العالم الجليل أبي العلاء بن الجنان الكناني الشاطبي
قال ابن سعيد توارثوا بشاطبة مراتب تحسدها النجوم الثاقبة وأبو الوليد أشعرهم وقد تجدد به في أقطار المشرق مفخرهم وهو معروف هناك بفخر الدين ومتصدر في أئمة النحويين ومرتب في شعراء الملك الناصر صاحب الشام ومقطعاته الغرامية قلائد أهل الغرام صحبته بمصر ودمشق

وحلب وجريت معه طلق الجموح في ميادين الأدب وأنشدني بدمشق
( أنا من سكر هواهم ثمل ... لا أبالي هجروا أم وصلوا (
( فبشعري وحديثي فيهم ... زمزم الحادي وسار المثل )
( إن عشاق الحمى تعرفني ... والحمى يعرفني والطلل )
( رحلوا عن ربع عيني فلذا ... أدمعي عن مقلتي ترتحل )
( ما لها قد فارقت أوطانها ... وهي ليست لحماهم تصل )
( لا تظنوا أنني أسلو فما ... مذهبي عن حبكم ينتقل )
وقوله رحمه الله تعالى
( بالله يا بانة الوادي إذا خطرت ... تلك المعاطف حيث الشيح والغار )
( فعانقيها عن الصب الكئيب فما ... على معانقة الأغصان إنكار )
( وعرفيها بأني فيك مكتئب ... بعض هذا لها بالحب إخبار )
( وأنتم جيرة الجرعاء من إضم ... لي في حماكم أحاديث وأسمار )
( وأنتم أنتم في كل آونة ... وإنما حبكم في الكون أطوار )
( ويا نسيما سرى تحدو ركائبه ... لي بالغوير لبانات وأوطار )
وله
( يا رعى الله أنسنا بين روض ... حيث ماء السرور فيه يجول )
( تحسب الزهر عنده يتثنى ... وتخال الغصون فيه تميل )
وله

( هات المدام فقد ناح الحمام ... على فقد الظلام وجيش الصبح في غلب )
( وأعين الزهر من طول البكا رمدت ... فكحلتها يمين الشمس بالذهب )
( والكأس حلتها حمراء مذهبة ... لكن أزرتها من لؤلؤ الحبب )
( كم قلت للأفق لما أن بدا صلفا ... بشمسه عندما لاحت من الحجب )
( إن تهت بالشمس يا أفق السماء فلي ... شمسان وجه نديمي وابنة العنب )
( قم اسقنيها وثغر الصبح مبتسم ... والليل تبكيه عين البدر بالشهب )
( والسحب قد لبست سود الثياب وقد ... قامت لترثيه الأطيار في القضب )
وله عليك من ذاك الحمى يا رسول ... بشرى علامات الرضى والقبول )
( جئت وفي عطفيك منهم شذا ... يسكر من خمر هواه العذول )
ومنها
( أحبابنا ودعتم ناظري ... أنتم بين ضلوعي نزول )
( حللتم قلبي وهو الذي ... يقول في دين الهوى بالحلول )
( أنا الذي حدث عني الهوى ... بأنني عن حبكم لا أحول )
( فليزد العاذل في عذله ... وليقل الواشي لكم ما يقول ) انتهى كلام النور بن سعيد
وقال غيره ولد المذكور بشاطبة منتصف شوال سنة 615 ومات بدمشق ودفن بسفح قاسيون وكان عالما فاضلا دمث الأخلاق كريم الشمائل كثير الاحتمال واسع الصدر صحب الشيخ كمال الدين بن العديم وولده قاضي

القضاة مجد الدين فاجتذبوه إليهم وصار حنفي المذهب ودرس بالمدرسة الإقبالية الحنفية بدمشق وله مشاركة في علوم كثيرة وله يد في النظم ومن قوله
) لله قوم يعشقون ذوي اللحى ... لا يسألون عن السواد المقبل )
( وبمهجتي قوم وإني منهم ... جبلوا على حب الطراز الأول )
وله أيضا
( قم اسقنيها وليل الهم منهزم ... والصبح أعلامه محمرة العذب )
( والسحب قد نثرت في الأرض لؤلؤها ... تضمه الشمس في ثوب من الذهب )
وقد تقدم عن ابن سعيد له ما يقارب هذا
وله - رحمه الله تعالى في كاتب
( بي كاتب أضمرت في القلب حبه ... مخافة حسادي عليه وعذالي )
( له صنعة في خط لام عذاره ... ولكن سها إذ نقط اللام بالخال )
69 - ومنهم أبو محمد القرطبي قال ابن سعيد لقيته بالقاهرة وكأنه لا خبر عنده من الآخرة وقد طال عمره في أكل الأعراض وفساد الأغراض ومما بقي في أذني من شعره قوله
( رحم الله من لقيت قديما ... فلقد كان بي رؤوفا رحيما )
( أتمنى لقاء حر وقد أعوز ... بختي كما عدمت الكريما )

وتوفي بالقاهرة سنة 643 انتهى
70 - ومنهم علي بن أحمد القادسي الكناني قال ابن سعيد لقيته ببيت المقدس على زي الفقراء وحصلت منه هذه الأبيات وندمت بعد ذلك على ما فات وهي
( ذاك العذار المطل ... دمي عليه يطل )
( كأنما الخد ماء ... وقد جرى فيه ظل )
( عقود صبري عليه ... مذ حل قلبي تحل )
( جرت دموعي عليه ... فقلت آس وطل )
71 - ومنهم أبو عبد الله بن العطار القرطبي قال ابن سعيد هو حلو المنازع ظريف المقاطع والمطالع مطبوع النوادر موصوف بالأديب الشاعر مازجته بالإسكندرية وبهذه الحضرة العلية وما زال يدين بالانفراد والتجول في البلاد حتى قضى مناه وألقى بهذه المدينة عصاه لا يخطر الهم له ببال ولا يبيت إلا على وعد من وصال وله حين سمع ما ارتجلته في السكين بالإسكندرية حين داعبني باختلاسها القاضي زين القضاة بن الريغي وقال ما لي إليه سبيل حتى يحضر مصري نبيل
( أيا سارقا ملكا مصونا ولم يجب ... على يده قطع وفيه نصاب )
( ستندبه الأقلام عند عثارها ... ويبكيه إن يعد الصواب كتاب )
فقال

( أحاجيك ما شيء إذا ما سرقته ... وفيه نصاب ليس يلزمك القطع )
( على أن فيه القطع والحد ثابت ... ولا حد فيه هكذا حكم الشرع )
انتهى كلام ابن سعيد من كتابه القدح المعلى فيما أظن
ورسالة للسان الدين
ويعني والله سبحانه وتعالى أعلم بقوله وبهذه الحضرة العلية حضرة تونس المحروسة فإنها كانت محط رحال الأفاضل من الأواخر والأوائل حتى إن قاضي القضاة ابن خلدون أقام بها مدة ومنها ارتحل إلى مصر وكذلك الخطيب الجليل سيدي أبو عبد الله بن مرزوق رحمه الله تعالى ومنها خاطب الوزير لسان الدين بن الخطيب وسلطانه في الشفاعة له عند سلطان المغرب فكتب لسان الدين عن سلطانه في ذلك ما نصه المقام الذي نؤكد إليه ببر سلفه الوداد ونغري بتخليد فخره وأمره القلم والمداد ونصل به الاستظهار على عدو الله تعالى والاعتداد ونخطب له من الله بهز أعطافه للخير والتوفيق والسداد والإعانة منه والإمداد مقام محل أخينا الذي اشتهر فضله ودينه ووضح سعده متألقة براهينه وحياه الصنع الجميل وبياه مشرقا جبينه السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ابن السلطان الكذا أبقاه الله يرعى الذمم ويسلك من الفضائل المنهج الأمم ويغلي البضائع النافقة عند الله تعالى ويعلي الهمم معظم قدره وملتزم بره الحريص على توفير أجره وتخليد فخره فلان
أما بعد حمد الله تعالى ناصر الإمرة المطاعة المحافظة على السنة والجماعة

وحافظها من الإضاعة إلى قيام الساعة الذي جعل المودة فيه أنفع الوسائل النفاعة والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله المخصوص بمقام الشفاعة على العموم والإشاعة متمم مكارم الأخلاق من الفضل والبذل والحياء والشجاعة والرضى عن آله وصحبه الذين اقتدوا بهديه بحسب الاستطاعة وزرعوا الخير في العاجلة ففازوا في الآجلة بفائدة تلك الزراعة والدعاء لمقامكم الأعلى بصنع يروي فيه عن الأشمط الباتر خبر النصر المتواتر لسان البراعة وتأييد لا ترضى فيه القنا بمقام القناعة فإنا كتبناه إليكم كتب الله تعالى لثنائكم العاطر بتخليد المفاخر منشور الإذاعة في أيدي النواسم الضواعة من حمراء غرناطة - حرسها الله تعالى - عن خير هامي السحاب وبشر مفتح الأبواب وعز للإسلام ببركة الاعتداد بملككم المنصور الأعلام مقتبل الشباب ويمن ضافي الجلباب والحمد لله على تضافر الأيدي في ذاته وتوفر الأسباب وجانبكم الرفيع الأمل للمنتاب إذا حدت الحداة ذوات الأقتاب ومطمح الوسائل المطرزة المسائل بتصحيح الود اللباب وإلى هذا وصل الله تعالى سوابغ نعمه وآلائه دائمة الانسكاب وجعل ما عجل لكم من نعمه كفيلة بالزلفى وحسن المآب وألهمكم تقييد شواردها بالشكر قولا وعملا فالشكر مستدعي المزيد كما وعد في الكتاب فإن من المنقول الذي اشتهر وراق فضله وبهر قوله اشفعوا تؤجروا وما في معناه من المعتبر في الخبر وتنفيس كربة عن مسلم وسماع شكوى من متظلم ولولا أن مقامكم السني أغنى لجلبنا الكثير من هذا المعنى ولما تحقق ما أنتم عليه من سلوك سبيل والدكم الملك الصالح - قدس الله تربته وضاعف قربته - من يمن الظفر وسلوك سبيل الخير وإقامة رسوم الدين والاهتداء من هديه بالنور المبين خف علينا أن نقصدكم بالشفاعات مع الساعات ونتجر لكم مع الله بأنفس البضاعات فما أثمر من ذلك شكرنا الله تعالى عليه حقيقة وشكرناكم عليه شريعة وما تأخر أوسعناكم فيه عذرا يسد ذريعة وعلمنا أن الله تعالى لم يأذن في تعجيله

وسألناه في تيسيره وتسهيله سواء لدينا في ذلك ما عاد بإعانة عامة وإمداد وساهم في قصد جهاد وما لم يعد علينا خصوصا وعلى المسلمين عموما بإعانة ولا إرفاد إنما علينا أن نجلب الخير الباقي والأجر الراقي إلى بابكم وندل عليه كريم جنابكم بمقتضى وداد صبحه باد وجميل ظن في دينكم المتين واعتقاد سلم مجمله ومفصله من انتقاد وذلك أن الشيخ الخطيب الفقيه الكبير الشهير الصدر الأوحد سلالة الصالحين وخطيب والدكم كبير الخلفاء والسلاطين ويا لها من مزية دنيا ودين أبا عبد الله بن مرزوق جبر الله تعالى على يدكم البرة حاله وسنى من مقامكم السني آماله جرى عليه من المحن وتباريح الإحن ما يعلم كل ذي مروءة وعقل واجتهاد ونقل أن ذلك من الجنايات على والدكم السلطان محسوب وإلى معقاته منسوب ولو كانت ذنوبه رضوى وثبيرا لاستدعت إلى تعمدها عفوا كبيرا رعيا لذلك الإمام الصالح الذي كبر خلفه وأحرم وتشهد وسلم وأمن عقب دعائه ونصب كفه لمواهب الله تعالى وآلائه وأنصت لخطبته ووعظه وأوجب المزية لسعة حفظه وعذوبة لفظه فأحبط ذلك من أحبط الأعمال الصالحة وعطل المتاجر الرابحة وأسف الملك المذكور بدم ولده وإحراق خزائنه وعدده وتغيير رسومه وحدوده وإسخاطه وإسخاط الله معبوده إلى أن طهر سيفكم الملك من عاره وأخذ منه بثاره وتقرب إلى الله وإلى السلف الكريم بمحو آثاره والحمد لله على ما خصه من إيثاره وتدارك الإسلام بإقالة عثاره وإنه خاطبنا الآن من حضرة تونس يقرر من حاله ما يفت الفؤاد ويوجب الامتعاض له والاجتهاد يطلب منا الإعانة بين يديكم والإنجاد ويشكو العيلة والأولاد والغربة التي أحلته الأقطار النازحة والبلاد والحوادث التي سلبته الطارف

والتلاد وأن نذكركم بوسيلته وضعف حيلته فبادرنا لذلك عملا بالواجب وسلوكا من بره ورعي حقه على السنن اللاحب وإن كنا نطوقه في أمرنا عند الحادثة علينا تقصيرا ولا نشكر إلا الله وليا ونصيرا فحقه علينا أوجب فهو الذي لا يجحد ولا يحجب ولا يلتبس منه المذهب وكيف لا يشفع فيمن جعله السلف إلى الله تعالى شفيعا وأحله محلا منيعا رفيعا إلى وليه الذي جبر ملكه سريعا وصير جنابه بعد المحول مريعا وجدد رسومه تأصيلا لها وتفريعا ومثلكم من اغتنم بره في نصر مظلوم وسبر مكلوم وإعداء كرم على لوم وهي منا ذكرى تنفع وحرص على أجر من يشفع وإسعاف لمن سأل ما يعلي من قدركم ويرفع وتأدية لحق سلفكم الذي توفرت حقوقه وإبلاغ نصيحة دينية إلى مجدكم الذي لا يمنعه عن المجد مانع ولا يعوقه ومطلبه في جنب ملككم الكبير حقير وهو إلى ما يفتح الله تعالى به على يد صدقتكم فقير ومنهلكم الأروى وباعكم في الخير أطول وساعدكم أقوى ( وما تفعلوا من خير يعلمه الله ) ( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ) [ البقرة 197 ] والله عز و جل يسلك بكم ؟ المسالك التي تخلد بالجميل ذكركم وتعظم عند الله أجركم فما عند الله خير للأبرار والدنيا دار الغرور والآخرة دار القرار وهو سبحانه يصل سعدكم ويحرس مجدكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته انتهى
والسلطان المخاطب بهذا هو أبو فارس عبد العزيز ابن لسلطان الكبير الشهير أبي الحسن المريني وكان ابن مرزوق غالبا على دولة السلطان أبي سالم أخي أبي فارس المذكور فقتله الوزير عمر بن عبد الله الفودودي وتغلب على الملك ونصب أخا لأبي سالم معتوها وسجن ابن مرزوق ورام قتله فخلصه الله تعالى منه ثم إن السلطان أبا فارس ثار على الوزير المتغلب وقتله واستقل بالملك فخوطب في شأن ابن مرزوق بما ذكر

رجع إلى ما كنا فيه من ذكر الراحلين من أعلام الأندلسيين إلى البلاد المشرقية المحروسة بالله سبحانه وتعالى فنقول 72 - ومنهم أبو الوليد وأبو محمد عبد الله بن محمد بن يوسف بن نصر الأزدي القرطبي المعروف بابن الفرضي الحافظ المشهور كان فقيها عالما عارفا بعلم الحديث ورجاله بارعا في الأدب وغيره وله من التصانيف تاريخ علماء الأندلس وقفت عليه بالمغرب وهو بديع في بابه وهو الذي ذيل عليه ابن بشكوال بكتاب الصلة وله كتاب حسن في المؤتلف والمختلف وفي مشتبه النسبة وكتاب في أخبار شعراء الأندلس وغير ذلك ورحل من الأندلس إلى المشرق سنة 382 فحج وسمع من العلماء وأخذ منهم وكتب من أماليهم وروى عن شيوخ عدة من أهل المشرق
ومن شعره
( أسير الخطايا عند بابك واقف ... على وجل مما به أنت عارف )
( يخاف ذنوبا لم يغب عنك غيبها ... ويرجوك فيها فهو راج وخائف )
( ومن ذا الذي يرجى سواك ويتقى ... وما لك في فصل القضاء مخالف )
( فيا سيدي لا تخزني في صحيفت ... ي إذا نشرت يوم الحساب الصحائف )
( وكن مؤنسي في ظلمة القبر عندما ... يصد ذوو القربى ويجفو المؤالف )
( لئن ضاق عني عفوك الواسع الذي ... أرجي لإسرافي فإني لتالف )
وكان - رحمه الله تعالى - حسن الشعر والبلاغة ومن شعره أيضا

رحمه الله تعالى
( إن الذي أصبحت طوع يمينه ... إن لم يكن قمرا فليس بدونه )
( ذلي له في الحب من سلطانه ... وسقام جسمي من سقام جفونه )
وله شعر كثير
ومولده في ذي القعدة ليلة الثلاثاء لتسع بقين منه سنة 351 وتولى القضاء بمدينة بلنسية في دولة محمد المهدي المرواني وقتله البربر يوم فتح قرطبة يوم الإثنين لست خلون من شوال سنة 403 وبقي في داره ثلاثة أيام ودفن متغيرا من غير غسل ولا كفن ولا صلاة رحمه الله تعالى
وروي عنه أنه قال تعلقت بأستار الكعبة وسألت الله تعالى الشهادة ثم انحرفت وفكرت في هول القتل فندمت وهممت أن أرجع فأستقيل الله سبحانه وتعالى فاستحييت وأخبر من رآه بين القتلى ودنا منه فسمعه يقول بصوت ضعيف لا يكلم أحد في سبيل الله والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب دما اللون لون الدم والريح ريح المسك كأنه يعيد على نفسه الحديث الوارد في ذلك قال ثم قضى على اثر ذلك
وهذا الحديث أخرجه مسلم في صحيحه
وقد ساق في المطمح حكايته فقال كان حافظا عالما كلفا بالرواية رحل في طلبها وتبحر في المعارف بسببها مع حظ من الأدب كثير واختصاص بنظيم منه ونثير حج وبرع في الزهادة والورع فتعلق بأستار الكعبة يسأل الله الشهادة ثم فكر في القتل ومرارته والسيف وحرارته فأراد أن يرجع ويستقيل الله تعالى فاستحيا وآثر نعيم الآخرة على شقاء الدنيا فأصيب في تلك الفتن مكلوما وقتل مظلوما ثم ذكر مثل ما مر
ومما قال في طريقه يتشوق إلى فريقه

( مضت لي شهور منذ غبتم ثلاثة ... وما خلتني أبقى إذا غبتم شهرا )
( وما لي حياة بعدكم أستلذها ... ولو كان هذا لم أكن في الهوى حرا )
( ولم يسلني طول التنائي عليكم ... بلى زادني وجدا وجدد لي ذكرى )
( يمثلكم لي طول شوقي إليكم ... ويدنيكم حتى أناجيكم سرا )
( سأستعتب الدهر المفرق بيننا ... وهل نافعي أن صرت أستعتب الدهرا )
( أعلل نفسي بالمنى في لقائكم ... وأستسهل البر الذي جبت والبحرا )
( ويؤنسني طي المراحل عنكم ... أروح على أرض وأغدو على أخرى )
( وتالله ما فارقتكم عن قلى لكم ... ولكنها الأقدار تجري كما تجرى )
( رعتكم من الرحمن عين بصيرة ... ولا كشفت أيدي النوى عنكم سترا )
وقد عرف به ابن حيان في المقتبس وذكر قصة شهادته رحمه الله تعالى
73 - ومنهم الشيخ أبو بكر محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله البكري الشريشي المالكي ولد بشريش سنة 601 ورحل إلى العراق فسمع به المشايخ كالقطيعي وابن روزبة وابن الكثير وغيرهم واشتغل وساد أهل زمانه واشتهر بين أقرانه ثم عاد إلى مصر فدرس بالفاضلية ثم انتقل إلى القدس الشريف فأقام به شيخ الحرم ثم جاء إلى دمشق المحروسة بالله وتولى مشيخة الحديث بتربة أم صالح ومشيخة الرباط الناصري ومشيخة المالكية وعرض عليه القضاء فلم يقبل وكانت وفاته يوم الاثنين الرابع والعشرين من رجب بالرباط الناصري ودفن بسفح قاسيون رحمه الله تعالى وذلك سنة خمس وثمانين وستمائة
وليس هو بشارح المقامات بل هو غيره وقد اشتركا في البلد فبسبب

ذلك ربما يقع في الأذهان الوهم في أمرهما وشارح المقامات أحمد وهذا محمد وقد ترجمنا صاحب شرح المقامات فيما تقدم من هذا الباب فليراجع والله سبحانه وتعالى أعلم
74 - ومنهم أبو محمد عبد العزيز بن أحمد بن السيد بن المغلس القيسي الأندلسي البلنسي كان من أهل العلم باللغة والعربية مشارا إليه فيهما رحل من الأندلس وسكن بمصر واستوطنها وقرأ الأدب على أبي العلاء صاعد اللغوي صاحب كتاب الفصوص وعلى أبي يعقوب يوسف بن يعقوب بن خرزاذ بن النجيرمي ودخل بغداد واستفاد وأفاد وله شعر حسن فمن ذلك قوله
( مريض الجفون بلا علة ... ولكن قلبي به ممرض )
( أعان السهاد على مقلتي ... بفيض الدموع فما تغمض )
( وما زار شوقا ولكن أتى ... يعرض لي أنه معرض )
وله أشعار كثيرة
وتوفي يوم الأربعاء لست بقين من جمادى الأولى سنة 427 وقيل سنة 429 بمصر وكان استوطنها وصلى عليه الشيخ أبو الحسن علي بن إبراهيم الحوفي صاحب التفسير في مصلى الصدفي ودفن عند أبي إسحاق رحمه الله تعالى
ومغلس بضم الميم وفتح الغين وتشديد اللام المكسورة وبعدها سين مهملة
وكانت بينه وبين أبي الطاهر إسماعيل بن خلف صاحب كتاب

العنوان معارضات في قصائد
ومن شعر ابن المغلس أيضا قوله في حمام
( ومنزل أقوام إذا ما اغتدوا به ... تشابه فيه وغده ورئيسه )
( يخالط فيه المرء غير خليطه ... ويضحي عدو المرء وهو جليسه )
( يفرج كربي إن تزايد كربه ... ويؤنس قلبي أن يعد أنيسه )
( إذا ما أعرت الحوض ماء تكاثرت ... على مائه أقماره وشموسه )
75 - ومنهم أبو الحكم عبيد الله بن المظفر بن عبد الله الحكيم الأديب المعروف بالمغربي وهو من أهل المرية وانتقل إلى المشرق وكان كامل الفضيلة وجمع بين الأدب والحكمة وله ديوان شعر جيد والخلاعة والمجون غالبة عليه وذكر العماد في الخريدة أنه كان طبيب المارستان المستصحب في معسكر السلطان السلجوقي حيث خيم وكان السديد يحيى بن سعيد المعروف بابن المرخم الذي صار أقضى القضاة ببغداد في أيام المقتفى فاصدا وطبيبا في هذا المارستان
وأثنى العماد على أبي الحكم المذكور وذكر فضله وما كان عليه وأن له كتابا سماه نهج الوضاعة لأولي الخلاعة ثم إن أبا الحكم انتقل إلى الشام وسكن دمشق وله فيها أخبار ومجاريات ظريفة تدل على خفة روحه
قال ابن خلكان رأيت في ديوانه أن أبا الحسين أحمد بن منير الطرابلسي كان عند الأمراء بني منقذ بقلعة شيزر وكانوا مقبلين عليه وكان بدمشق شاعر يقال له أبو الوحش وكانت فيه دعابة وبينه وبين أبي الحكم المذكور

مداعبات فسأل منه كتابا إلى ابن منير بالوصية عليه فكتب أبو الحكم
( أبا الحسين استمع مقال فتى ... عوجل فيما يقول فارتجلا )
( هذا أبو الوحش جاء ممتدحا ... للقوم فاهنأ به إذا وصلا )
( واتل عليهم بحسن شرحك ما ... أنقله من حديثه جملا )
( وخبر القوم أنه رجل ... ما أبصر الناس مثله رجلا )
( تنوب عن وصفه شمائله ... لا يبتغي عاقل به بدلا )
ومنها
( وهو على خفة به أبدا ... معترف أنه من الثقلا )
( يمت بالثلب والرقاعة والسخف ... وأما بغير ذاك فلا )
( إن أنت فاتحته لتخبر ما ... يصدر عنه فتحت منه خلا )
( فنبه إن حل خطة الخسف والهون ... ورحب به إذا رحلا )
( واسقه السم إن ظفرت به ... وامزج له من لسانك العسلا )
وله أشياء مستملحة منها مقصورة هزلية ضاهى بها مقصورة ابن دريد من جملتها
( وكل ملموم فلا بد له ... من فرقة لو ألزقوه بالغرا )
وله مرثية في عماد الدين زنكي بن آق سنقر الأتابكي شاب فيها الجد الهزبل والغالب على شعره الانطباع
وتوفي ليلة الأربعاء رابع ذي القعدة سنة 549 وقيل في السنة التي قبلها بدمشق رحمه الله تعالى
والقاضي ابن المرخم المذكور هو الذي يقول فيه أبو القاسم هبة الله بن الفضل الشاعر المعروف بابن القطان

( يا ابن المرخم صرت فينا قاضيا ... خرف الزمان تراه أم جن الفلك )
( إن كنت تحكم بالنجوم فربما ... أما بشرع محمد من أين لك )
وكان أبو الحكم المذكور فاضلا في العلوم الحكمية متقنا للصناعة الطبية حسن النادرة كثير المداعبة محبا للهو والخلاعة والشراب وكان يعرف صنعة الموسيقى ويلعب بالعود ويجلس في دكان بجيرون للطب وسكناه باللبادين وأتى في ديوانه نهج الوضاعة بكل غريب يدل على أنه أريب سامحه الله تعالى وغفر له
76 - ومن الراحلين من الأندلس إلى المشرق من هو الأحق بالتقديم والسبق الشهير عند أهل الغرب والشرق الحافظ المقريء الإمام الرباني أبو عمرو الداني عثمان بن سعيد بن عثمان بن سعيد بن عمر الأموي مولاهم القرطبي صاحب التصانيف التي منها المقنع والتيسير وعرف بالداني لسكناه دانية وولد سنة 371 وابتدأ بطلب العلم سنة 387 ورحل إلى المشرق سنة 397 فمكث بالقيروان أربعة أشهر ودخل مصر في شوالها فمكث بها سنة وحج ورجع إلى الأندلس في ذي القعدة سنة 399 وقرأ بالروايات على عبد العزيز بن جعفر الفارسي وغيره بقرطبة
وعلى أبي الحسن بن غلبون وخلف بن خاقان المصري وأبي الفتح فارس بن أحمد وسمع من أبي مسلم الكاتب وهو أكبر شيخ له ومن عبد الرحمن بن عثمان القشيري وحاتم بن عبد الله البزار وغير واحد من أهل مصر وسواها وسمع من الإمام أبي الحسن القابسي وخلف كتبه بالحجاز ومصر والمغرب والأندلس وتلا عليه خلق منهم مفرج الأقفالي وأبو داود بن نجاح صاحب

التنزيل في الرسم وهو من أشهر تلامذته وحدث عنه خلق كثير منهم خلف بن إبراهيم الطليطلي
قال أبو محمد عبيد الله الحجري ذكر بعض الشيوخ أنه لم يكن في عصر الحافظ أبي عمرو الداني ولا بعد عصره أحد يدانيه ولا يضاهيه في حفظه وتحقيقه وكان يقول ما رأيت شيئا قط إلا كتبته ولا كتبته إلا حفظته ولا حفظته فنسيته
قال ابن بشكوال كان أبو عمرو أحد الأئمة في علم القرآن ورواياته وتفسيره ومعانيه وطرقه وإعرابه وجمع في ذلك كله تواليف حسانا وله معرفة بالحديث وطرقه وإعرابه وأسماء رجاله وكان حسن الخط والضبط من أهل الحفظ والذكاء واليقين وكان دينا فاضلا ورعا سنيا
وقال بعضهم وأظنه المغامي كان أبو عمرو مجاب الدعوة مالكي المذهب
وقال بعض أهل مكة إن أبا عمرو الداني مقرىء متقدم وإليه المنتهى في علم القراءات وإتقان القرآن والقراء خاضعون لتصانيفه واثقون بنقله في القراءات والرسم والتجويد والوقف والابتداء وغير ذلك وله مائة وعشرون مصنفا وروى عنه بالإجازة رجلان أحمد بن محمد بن عبد الله الخولاني وأبو العباس أحمد بن عبد الملك بن أبي حمزة وكانت وفاته رحمه الله تعالى بدانية في نصف شوال سنة أربع وأربعين وأربعمائة
77 - ومنهم أبو محمد عبد الله بن عيسى بن عبد الله بن أحمد بن أبي حبيب الأندلسي من بيت علم ووزارة صرف عمره في طلب العلم

وكان غزير العلم في الفقه والحديث والأدب وولي القضاء بالأندلس مدة ثم دخل الإسكندرية ومصر وجاور بمكة المشرفة ثم قدم العراق وأقام ببغداد مدة ثم وافى خراسان فأقام بنيسابور وبلخ وكانت ولادته ببلاد الأندلس وتوفي بهراة في شعبان سنة 548 رحمه الله تعالى ورضي عنه
78 - ومنهم أبو العباس أحمد بن علي بن محمد بن علي بن شكر الأندلسي المقرىء رحل وأخذ القراءات عن أبي الفضل جعفر الهمداني وسمع من أبي القاسم بن عيسى وسكن الفيوم واختصر التيسير وصنف شرحا للشاطبية وتوفي سنة 640 رحمه الله تعالى
79 - ومنهم العلامة ذو الفنون علم الدين القاسم بن أحمد المريني اللورقي المقرىء النحوي ولد سنة 575 وقرأ القراءات وأحكم العربية وبرع فيها واجتمع بالجزولي وسأله عن مسألة في مقدمته وقرأ علم الكلام والأصوليين والفلسفة وكان خبيرا بهذه العلوم مقصودا بإقرائها وولي مشيخة قراءة العادلية ودرس بالعزيزية نيابة وصنف شرحا للشاطبية وشرحا للمفصل في عدة مجلدات وشرح الجزولية وغير ذلك وكان مليح الشكل حسن البزة وتوفي سنة 661 رحمه الله تعالى ورضي
80 - ومنهم أبو عبد الله بن أبي الربيع القيسي الأندلسي الغرناطي

قدم مصر سنة 515 أو بعدها فسمع على السلفي وبقراءته على جماعة من شيوخ مصر وكان لديه فقه وأدب ثم سافر إلى باب الأبواب وكان حيا سنة 556
ومن نظمه يمدح كتاب الشهاب
( إن الشهاب له فضل على الكتب ... بما حوى من كلام المصطفى العربي )
( كم ضم من حكمة غرا وموعظة ... ومن وعيد ومن وعد ومن أدب )
( أما القضاعي فالرحمن يرحمه ... كما حباه من التأليف بالعجب )
81 - ومنهم الحافظ أبو عامر محمد بن سعدون بن مرجى القرشي العبدري من أهل ميورقة من بلاد الأندلس سكن بغداد وسمع بها من أبي الفضل بن خيرون وطراد الزينبي وأبي عبد الله الحميدي وجماعة ولم يزل يسمع إلى حين وفاته وكتب بخطه كثيرا من الكتب والأجزاء وجمع وخرج وكان صحيح العقل معتمد الضبط مرجوعا إليه في الإتقان وكفاه فخرا وشرفا أن روى عنه الحافظان أبو طاهر السلفي وأبو الفضل محمد بن ناصر وكان فهامة علامة ذا معرفة بالحديث متعففا مع فقره وكان يذهب إلى أن المناولة والعرض كالسماع
وقال السلفي فيه إنه من أعيان علماء الإسلام بمدينة السلام متصرف في فنون من العلم أدبا ونحوا ومعرفة بأنساب العرب والمحدثين وكان داودي المذهب قرشي النسب وقد كتب عني وكتبت عنه وسمعنا معا كثيرا على شيوخ بغداد ومولده بقرطبة من مدن الأندلس
وقبل اجتماعي به كنت أسمع إسماعيل بن محمد بن الفضل الحافظ بأصبهان يثني عليه فلما اجتمعنا وجدته فوق ما وصفه انتهى

وقال ابن عساكر كان أحفظ شيخ لقيته وربما حكى عنه بعضهم كابن عساكر أمورا منكرة فالله أعلم وتوفي في ربيع الآخر سنة 524 ببغداد رحمه الله تعالى
82 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن سعدون الباجي سمع بمصر من ابن الورد وابن السكن وابن رشيق وبمكة من الآجري وكان صالحا فاضلا زاهدا ورعا حدث ومات ببطليوس فجأة سنة 392 ومولده سنة 322
83 - ومنهم أبو بكر محمد بن سعدون التميمي الجزيري المتعبد كانت آدابه كثيرة وحج غير مرة ورابط ببلاد المغرب وكان حسن الصوت بالقرآن سمع بمصر من جماعة وبمكة وصحب الفقراء وطاف بالشام وغزا غزوات وتعرض للجهاد وحرض عليه وساح بجبل المقطم وذكر أنه صلى بمصر الضحى اثنتي عشرة ركعة ثم نام فرأى النبي فقال يا رسول الله إن مالكا والليث اختلفا في الضحى فمالك يقول اثنتا عشرة ركعة والليث يقول ثمان فضرب عليه الصلاة و السلام بين وركي ابن سعدون وقال رأي مالك هو الصواب ثلاث مرات قال وكان في وركي وجع فمن تلك الليلة زال عني وكان له براهين من نور يضيء عليه إذا صلى ونحوه وأنشد
( سجن اللسان هو السلامة للفتى ... من كل نازلة لها استئصال )
( إن اللسان إذا حللت عقاله ... ألقاك في شنعاء ليس تقال )
توفي سنة 344

84 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن سعد الأعرج الطليطلي الخطيب وقال فيه ابن سعيد سمع بمصر ابن الورد وابن السكن وحدث مولده سنة 309 وتوفي في ربيع الآخر سنة 384
85 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن سعيد بن إسحاق بن يوسف الأموي القرطبي وأصله من لبلة ولكن سكن قرطبة وقدم مصر وحج وسمع في طريقه من الشيخ أبي محمد بن أبي زيد صاحب الرسالة وأخذ عن القابسي وعن جماعة من علماء مصر والحجاز ومولده سنة 352 ورحلته سنة 418
86 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن سعيد بن حسان بن الحكم بن هشام القرطبي سمع من أبيه ويحيى بن يحيى وعبد الملك بن حبيب ورحل فسمع من أشهب بن عبد العزيز وعبد الله بن نافع وعبد الله بن عبد الحكم وعاد إلى الأندلس وبها توفي سنة 260 رحمه الله تعالى
87 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن سليمان المعافري الشاطبي نزيل الإسكندرية ويعرف بابن أبي الربيع أحد أولياء الله تعالى شيخ الصالحين صاحب الكرامات المشهورة جمع بين العلم والعمل والورع والزهد والانقطاع إلى الله تعالى والتخلي عن الناس والتمسك بطريقة السلف قرأ القرآن ببلده بالقراءات السبع على أبي عبد الله محمد بن سعادة الشاطبي وغيره وقرأ بدمشق على الواسطي وسمع عليه الحديث ورحل فسمع من الزاهد أبي يوسف يعقوب

خادم أضياف رسول الله بين قبره ومنبره سنة 617 وسمع بدمشق على أبي القاسم بن صصرى وأبي المعالي بن خضر وأبي الوفاء بن عبد الحق وغيرهم وانقطع لعبادة الله تعالى في رباط سوار من الإسكندرية بتربة أبي العباس الراسي وتلمذ للشاطبي تلميذ الراسي وصنف كتبا حسنة منها كتاب المسلك القريب في ترتيب الغريب وكتاب اللمعة الجامعة في العلوم النافعة في تفسير القرآن العزيز وكتاب شرف المراتب والمنازل في معرفة العالي في القراءات والنازل وكتاب المباحث السنية في شرح الحصرية وكتاب الحرقة في لباس الخرقة وكتاب المنهج المفيد فيما يلزم الشيخ والمريد وكتاب النبذة الجلية في ألفاظ اصطلح عليها الصوفية وكتاب زهر العريش في تحريم الحشيش وكتاب الزهر المضي في مناقب الشاطبي وكتاب الأربعين المضية في الأحاديث النبوية ومولده بشاطبة سنة 585 ووفاته بالإسكندرية في رمضان سنة 672 ودفن بتربة شيخه المجاورة لزاويته رحمهما الله تعالى ونفع بهما ! محمد بن شريح الرعيني 289 محمد بن شريح الرعيني 88 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن شريح الرعيني الإشبيلي قدم مصر وسمع بها من ابن نفيس وأبي علي الحسن البغدادي وأبي جعفر النحوي وأبي القاسم بن الطيب البغدادي الكاتب وبمكة من أبي ذر الهروي قال ابن بشكوال كان من جملة المقرئين وخيارهم ثقة في روايته وكانت رحلته إلى المشرق سنة 423 وولد سنة 392 وتوفي سنة 476 وعمره أربع وثمانون سنة إلا خمسة وخمسين يوما وروى بإشبيلية عن جماعة

رحمه الله تعالى
89 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن صالح الأنصاري المالقي قال السلفي هو شاب من أهل الأدب له خاطر سمح كان يحضر عندي بالإسكندرية كثير السماع للحديث وذكر أنه قرأ الأدب على أبي الحسين بن الطراوة النحوي بالأندلس وعلى نظرائه وأنشدني لنفسه
( كم ذا تقلقلني النوى وتسوقني ... وإلى متى أشجى بها وأسام )
( ألفت ركائبي الفلا فكأنما ... للبين عهد بيننا وذمام )
( يا ويح قلبي من فراق أحبة ... أبدا تصدعه به الأيام )
90 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن صالح القحطاني المعافري الأندلسي المالكي رحل إلى المشرق فسمع بالشام خيثمة بن سليمان وبمكة أبا سعيد بن الأعرابي وببغداد إسماعيل بن محمد الصفار وسمع بالمغرب بكر بن حماد التاهرتي ومحمد بن وضاح وقاسم بن أصبغ وبمصر جماعة من أصحاب يونس والمزني
روى عنه أبو عبد الله الحاكم وقال اجتمعنا به بهمذان مات ببخارى سنة 383 وقيل سنة ثمان وقيل سنة تسع وسبعين
وقال فيه أبو سعيد الإدريسي إنه كان من أفاضل الناس ومن ثقاتهم
وقال غنجار إنه كان فقيها حافظا جمع تاريخا لأهل الأندلس
وقال السمعاني فيه كان فقيها حافظا رحل في طلب العلم إلى المشرق والمغرب رحمه الله تعالى
91 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن طاهر بن علي بن عيسى الخزرجي

الداني النحوي أخو أبي العباس بن عيسى سمع بدانية من أبي داود المقرىء وغيره وقدم دمشق سنة 554 حين خرج حاجا وأقرأ بدمشق النحو مدة ثم خرج إلى بغداد وأقام بها إلى أن مات سنة 619 وولد سنة 512 وقدم مصر سنة 572 وله من المصنفات كتاب تحصيل عين الذهب من معدن جوهر الأدب في علم مجازات العرب ومن كلامه ليست هيبة الشيخ لشيبه ولا لسنه ولا لشخصه ولكن لكمال عقله والعقل هو المهاب ولو رأيت شخصا جمع جميع الخصال وعدم العقل لما هبته وقال من جهل شيئا عابه ومن قصر عن شيء هابه
92 - ومنهم القاضي الشهير محمد بن بشير وهو محمد بن سعيد بن بشير بن شراحيل المعافري وقيل في آبائه غير ذلك كما يأتي ولما أشير على الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل بتقديم ابن بشير إلى خطة القضاء بقرطبة وجه إليه بباجة فأقبل ولا يعلم ما دعي إليه ونزل على صديق له من العباد فتحدث في شأن استدعائه وقدم أنه يصرف في الكتابة فقال له العابد ما أراه بعث فيك إلا للقضاء فإن القاضي بقرطبة مات وهي الآن دون قاض فقال ابن بشير فأنا أستشيرك في ذلك إن وقع فقال أسألك عن أشياء ثلاثة وأعزم عليك أن تصدقني فيها ثم أشير بعد ذلك عليك فقال ما هي فقال كيف حبك للأكل الطيب واللباس اللين وركوب الفاره فقال والله لا أبالي ما رددت به جوعي وسترت به عورتي وحملت به

رحلي فقال هذه واحدة فكيف حبك للتمتع بالوجوه الحسان والتبطن للكواعب الغيد وما شاكل ذلك من الشهوات فقال هذه حال والله ما استشرفت قط إليها ولا خطرت ببالي ولا اكترثت لفقدها فقال وهذه ثانية فكيف حبك لمدح الناس لك وثنائهم عليك وكيف حبك للولاية وكراهيتك للعزل فقال والله ما أبالي في الحق من مدحني وذمني وما أسر للولاية ولا أستوحش للعزل فقال وهذه الثالثة أقبل الولاية فلا بأس عليك فقدم قرطبة فولاه الأمير الحكم القضاء والصلاة
قال ابن وضاح أخبرني من كان يرى محمد بن بشير القاضي داخلا على باب المسجد الجامع يوم الجمعة وعليه رداء معصفر وفي رجله نعل صرارة وله جمة مفرقة ثم يقوم فيخطب ويصلي وهو في هذا الزي وبه كان يجلس للقضاء بين الناس فإن رام أحد من دينه شيئا وجده أبعد من الثريا
وأتاه رجل لا يعرفه فلما رأى ما هو فيه من زي الحداثة من الجمة المفرقة والرداء المعصفر وظهور الكحل والسواك وأثر الحناء في يديه توقف وقال دلوني على القاضي فقيل له ها هو وأشير إليه فقال إني رجل غريب وأراكم تستهزئون بي أنا أسألكم عن القاضي وأنتم تدلونني على زامر فصححوا له أنه القاضي فتقدم إليه واعتذر فأدناه وتحدث معه فوجد عنده من العدل والإنصاف فوق ما ظنه فكان يحدث بقصته معه
وعوتب في إرسال لمته ولبسه الخز والمعصفر فقال حدثني مالك بن أنس أن محمد بن المنكدر - وكان سيد القراء - كانت له لمة وأن هشام بن عروة فقيه هذا البلد - يعني المدينة - كان يلبس المعصفر وأن القاسم بن محمد كان يلبس الخز

ولقد سئل يحيى بن يحيى عن لباس العمائم فقال هي لباس الناس في المشرق وعليه كان أمرهم في القديم فقيل له لو لبستها لاتبعك الناس في لباسها فقال قد لبس محمد بن بشير الخز فما تبعه الناس فيه وكان ابن بشير أهلا أن يقتدى به فلعلي لو لبست العمامة لتركني الناس ولم يتبعوني كما تركوا ابن بشير
وكان أول ما نظر فيه محمد بن بشير - حين ولي القضاء - التسجيل على الخليفة الحكم في أرحي القنطرة إذ قيم عليه فيها وثبت عنده حق المدعي وأعذر إلى الحكم فلم يكن عنده مدفع فسجل فيها وأشهد على نفسه فما مضت مديدة حتى ابتاعها الحكم ابتياعا صحيحا فسر بذلك وقال رحم الله محمد بن بشير فلقد أحسن فيما فعل بنا على كره منا كان في أيدينا شيء مشتبه فصححه لنا وصار حلالا طيب الملك في أعقابنا وحكم على ابن فطيس الوزير ولم يعرفه بالشهود فرفع الوزير ذلك إلى الحكم وتظلم من ابن بشير فأومأ الحكم إليه أن الوزير ذكر حكمك عليه بشهادة قوم لم تعرفه بهم ولا أعذرت إليه فيهم وإن أهل العلم يقولون إن ذلك له فكتب إليه ابن بشير ليس ابن فطيس ممن يعرف بمن شهد عليه لأنه إن لم يجد سبيلا إلى تجريحهم لم يتحرج عن طلب أذاهم في أنفسهم وأموالهم فيدعون الشهادة هم ومن ائتسى بهم وتضيع أموال الناس
وأكثر موسى بن سماعة أحد خواص الأمير الحكم في ابن بشير الشكاية وأنه يجور عليه فقال له الحكم أنا أمتحن قولك الساعة فاخرج إليه فورا واستأذن عليه فإن أذن لك عزلته وصدقت قولك فيه وإن لم يأذن لك دون خصمك ازددت بصيرة فيه فليس هو عندي بجائر على حال وإنما

مقصده الحق في كل ما يتصرف فيه فخرج يؤم دار ابن بشير وقد أمر الحكم من يثق به من الفتيان الصقالبة أن يقفوا أثره ويعلموا ما يكون منه فلم يكن إلا ريثما بلغ ثم انصرف فحكى للحكم أنه لما خرج الآذن إلى موسى وعلم القاضي بمكانه عاد إليه فقال له إن كانت لك حاجة فاقصد فيها إذا جلس القاضي مجلس القضاء فتبسم الحكم وقال قد أعلمته أن ابن بشير صاحب حق لا هوادة فيه عنده لأحد
وولي القضاء مرتين فلما عزل المرة الأولى انصرف إلى بلده وكان بعض إخوانه يعاتبه في صلابته ويقول له أخشى عليك العزل فيقول له ليته قدر إن الشقراء - يعني بغلته - تقطع الطريق بي جاثة نحو باجة
فما مضى إلا يسير حتى عتب عليه الأمير في قصة اشتد فيها على بعض خاصته فكانت سببا لعزله وانصرف كما تمنى فلم يمكث إلا يسيرا حتى أتى فيه رقاص من قبل الأمير الحكم والرقاص عند المغاربة هو الساعي عند المشارقة فعاد إلى قرطبة وجبره على القعود للقضاء الأمير الحكم فلاذ منه باليمين بطلاق زوجته وبصدقة ما يملك في سبيل الله تعالى إن حكم بين اثنين فلم يعذره وأخرجه من ماله وعوضه من طيب ما عنده ووهب له جارية من جواريه فعاد إلى القضاء ثانية
ومما يحكى عنه في العدل أن سعيد الخير ابن السلطان عبد الرحمن الداخل وكل عند ابن بشير وكيلا يخاصم عنه لشيء اضطر إليه وكانت بيده فيه وثيقة فيها شهادات شهود قد ماتوا ولم يكن فيها من الأحياء إلا الأمير الحكم وشاهد آخر مبرز فشهد لسعيد الخير ذلك الشاهد وضربت على وكيله الآجال في شاهد ثان وجد به الخصام فدخل سعيد الخير بالكتاب إلى الحكم وأراه شهادته في الوثيقة وقد كان كتبها قبل الخلافة في حياة أبيه وعرفه مكان

حاجته إلى أدائها عند قاضيه خوفا من بطلان حقه وكان الحكم يعظم سعيد الخير عمه ويلتزم مبرته فقال له يا عم إنا لسنا من أهل الشهادات وقد التبسنا من هذه الدنيا بما لا تجهله ونخشى أن توقفنا مع القاضي موقف مخزاة كنا نفديه بملكنا فصر في خصامك حيث صيرك الحق إليه وعلينا خلف ما انتقصك فأبى عليه وقال سبحان الله وما عسى أن يقول قاضيك في شهادتك وأنت وليته وهو حسنة من حسناتك وقد لزمتك في الديانة أن تشهد لي بما علمته ولا تكتمني ما أخذ الله عليك فقال بلى إن ذلك لمن حقك كما تقول ولكنك تدخل علينا به داخلة فإن أعفيتنا منه فهو أحب إلينا وإن اضطررتنا لم يمكنا عقوقك فعزم عليه عزم من لم يشك أن قد ظفر بحاجته وضايقته الآجال فألح عليه فأرسل الحكم عند ذلك إلى فقيهين من فقهاء زمانه وخط شهادته بيده في قرطاس وختم بخاتمه ودفعها إلى الفقيهين وقال لهما هذه شهادتي بخطي تحت ختمي فأدياها إلى القاضي فأتياه بها إلى مجلسه وقت قعوده للسماع من الشهود فأدياها إليه فقال لهما قد سمعت منكما فقوما راشدين في حفظ الله تعالى وجاء وكيل سعيد الخير وتقدم إليه مدلا واثقا وقال له أيها القاضي قد شهد عندك الأمير - أصلحه الله تعالى - فما تقول فأخذ كتاب الشهادة ونظر فيه ثم قال للوكيل هذه شهادة لا تعمل عندي فجئني بشاهد عدل فدهش الوكيل ومضى إلى سعيد الخير فأعلمه فركب من فوره إلى الحكم وقال ذهب سلطاننا وأزيل بهاؤنا يجترئ هذا القاضي على رد شهادتك والله سبحانه قد استخلفك على عباده وجعل الأمر في دمائهم وأموالهم إليك هذا ما لا يجب أن تحمل عليه وجعل يغريه بالقاضي ويحرضه على الإيقاع به فقال له الحكم وهل شككت أنا في هذا يا عم القاضي رجل صالح والله

لا تأخذه في الله لومة لائم فعل ما يجب عليه ويلزمه وسد دونه بابا كان يصعب عليه الدخول منه فأحسن الله تعالى جزاءه فغضب سعيد الخير وقال هذا حسبي منك فقال له نعم قد قضيت الذي كان لك علي ولست والله أعارض القاضي فيما احتاط به لنفسه ولا أخون المسلمين في قبض يد مثله
ولما عوتب ابن بشير فيما أتاه من ذلك قال لمن عاتبه يا عاجز أما تعلم أنه لا بد من الإعذار في الشهادات فمن كان يجترئ على الدفع في شهادة الأمير لو قبلتها ولو لم أعذر لبخست المشهود عليه حقه
وتوفي القاضي محمد بن بشير سنة 198 قبل الشافعي بست سنين كما يأتي قريبا ومحاسنه - رحمه الله تعالى - كثيرة وقد استوفى ترجمته بقدر الإمكان القاضي عياض في المدارك فليراجعها من أرادها فإن عهدي بها في المغرب
وقال بعض من عرف به ما نصه القاضي محمد بن بشير بن محمد المعافري أصله من جند باجة من عرب مصر ولاه الحكم بن هشام قضاء القضاة الذي يعبرون عنه بالمغرب بقضاء الجماعة بقرطبة بعد المصعب بن عمران ثم صرفه وولى مكانه الفرج بن كنانة
وعن ابن حارث قال أحمد بن خالد طلب محمد بن بشير العلم بقرطبة عند شيوخ أهلها حتى أخذ منه بحظ وافر ثم كتب لأحد أولاد عبد الملك بن عمر المرواني لمظلمة نالته على وجه الاعتصام به وتصرف معه تصرفا لطيفا ثم انقبض عنه وخرج حاجا قال ابن حارث وكتب محمد بن بشير في حداثته للقاضي مصعب بن عمران ثم خرج حاجا فلقي مالك بن أنس وجالسه وسمع منه وطلب العلم أيضا بمصر ثم انصرف فلزم ضيعته في باجة

وقال ابن حيان إنه استقدم من باجة للقضاء برأي العباس بن عبد الملك
وقال ابن شعبان في الرواة عن مالك من أهل الأندلس محمد بن بشير بن سرافيل ويقال شراحبل ولي القضاء وكان رجلا صالحا وبعدله تضرب الأمثال واستوطن قرطبة وتوفي بها سنة ثمان وتسعين ومائة انتهى وبعضه عن غيره
ومن شعره قوله
( إنما أزرى بقدري أنني ... لست من بابة أهل البلد )
( ليس منهم غير ذي مقلية ... لذوي الألباب أو ذي حسد )
( يتحامون لقائي مثلما ... يتحامون لقاء الأسد )
( مطلعي أثقل في أعينهم ... وعلى أنفسهم من أحد )
( لو رأوني وسط بحر لم يكن ... أحد يأخذ منهم بيدي )
93 - ومنهم محمد بن عيسى بن دينار الغافقي من أهل قرطبة كان فقيها زاهدا وحج وحضر افتتاح إقريطش واستوطنها قاله الرازي
94 - ومنهم محمد بن يحيى بن يحيى الليثي خرج حاجا ولقي سحنون بن سعيد بإفريقية ولقي بمصر رجالا من أصحاب مالك فسمع منهم وعرف بالفقه والزهد وجاور بمكة وتوفي هنالك
95 - ومنهم محمد بن مروان بن خطاب المعروف بابن أبي جمرة

رحل حاجا هو وابناه خطاب وعميرة في سنة اثنتين وعشرين ومائتين وسمعوا ثلاثتهم من سحنون بن سعيد المدونة بالقيروان وأدركوا أصبغ بن الفرج وأخذوا عنه
96 - ومنهم محمد بن أبي علاقة البواب من أهل قرطبة كانت له رحلة إلى المشرق ولقي فيها جماعة من أهل العلم وأخذ عن أبي إسحاق الزجاجي وعن أبي بكر بن الأنباري وعن أبي الحسن علي بن سليمان الأخفش وأبي عبد الله نفطويه وغيرهم وسمع من الأخفش الكامل للمبرد وقال الحكم المستنصر لم يصح كتاب الكامل عندنا من رواية إلا من قبل ابن أبي علاقة وكان ابن جابر الإشبيلي قد رواه قبل بمصر بمدة وما علمت أحدا رواه غيرهما وكان ابن الأحمر القرشي يذكر أنه رواه وكان صدوقا ولكن كتابه ضاع ولو حضر ضاهى الرجلين المتقدمين
97 - ومنهم محمد بن حزم بن بكر التنوخي من أهل طليطلة وسكن قرطبة يعرف بابن المديني سمع من أحمد بن خالد وغيره وصحب محمد بن مسرة الجبلي قديما واختص بمرافقته في طريق الحج ولازمه بعد انصرافه وكان من أهل الورع والانقباض وحكي عن ابن مسرة أنه كان في سكناه المدينة يتتبع آثار النبي قال ودله بعض أهل المدينة على دار مارية أم إبراهيم سرية النبي فقصد إليها فإذا هي دويرة لطيفة بين البساتين بشرقي المدينة عرضها وطولها واحد قد شق في وسطها بحائط وفرش على حائطها خشب غليظ يرتقى إلى ذلك الفرش

على خارج لطيف وفي أعلى ذلك بيتان وسقيفة كانت مقعد النبي في الصيف قال فرأيت أبا عبد الله بعد ما صلى في البيتين والسقيفة وفي كل ناحية من نواحي تلك الدار ضرب أحد البيتين بشبره فكشفته بعد انصرافي وهو ساكن في الجبل عن ذلك فقال هذا البيت الذي تراني فيه بنيته على تلك الحالة في العرض والطول بلا زيادة ولا نقصان انتهى
98 - ومنهم محمد بن يحيى بن مالك بن يحيى بن عائذ ولد أبي زكريا الراوية من أهل طرطوشة يكنى أبا بكر تأدب بقرطبة وسمع بها من قاسم بن أصبغ ومحمد بن معاوية القرشي وأحمد بن سعيد ومنذر بن سعيد وأبي علي القالي وغيرهم وكان حافظا للنحو واللغة والشعر يفوت من جاراه على حداثة سنة شاعرا مجيدا مرسلا بليغا ورحل مع أبيه إلى المشرق سنة تسع وأربعين وثلاثمائة فسمع بمصر من ابن الورد وابن السكن وحمزة الكناني وغيرهم وسمع أيضا بالبصرة وبغداد كثيرا وخرج إلى أرض فارس فسمع هنالك وجمع كتبا عظيمة وأقام بها إلى أن توفي بأصبهان معتبطا مع الستين وثلاثمائة ومولده بطرطوشة صدر ذي القعدة سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة ذكره ابن حيان رحمه الله تعالى
99 - ومنهم محمد بن عبدون الجبلي العدوي من أهل قرطبة أدب بالحساب والهندسة ورحل في سنة سبع وأربعين وثلاثمائة فدخل مصر والبصرة وعني بعلم الطب فمهر فيه ودبر في مارستان الفسطاط ثم رجع

إلى الأندلس في سنة ستين وثلاثمائة فاتصل بالمستنصر بالله وابنه المؤيد بالله وله في التكسير تأليف حسن رحمه الله تعالى
100 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن الأزدي الفراء القرطبي صحب أبا بكر بن يحيى بن مجاهد واختص به ولطف محله منه وقرأ عليه القرآن ورحل صحبته لأداء فريضة الحج وكان رجلا صالحا كثير التلاوة للقرآن والخشوع إذا قرأ بكى ورتل وبين في مهل ويقول أبو بكر علمني هذه القراءة وحكي أنه سرد الصوم اثنتي عشرة سنة قبل موت ابن مجاهد مفطرا كل ليلة وقت الإفطار ثم تمادى على ذلك بعد موته مفطرا عقب العشاء الآخرة لالتزامه الصلاة من المغرب إليها تزيدا من الخير واجتهادا في العمل
101 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن صالح المعافري الأندلسي رحل إلى المشرق فسمع خيثمة بن سليمان وأبا سعيد بن الأعرابي وإسماعيل بن محمد الصفار وبكر بن حماد التاهرتي وغيرهم روى عنه أبو عبد الله الحاكم وقال اجتمعنا بهمذان سنة إحدى وأربعين يعني وثلاثمائة فتوجه منها إلى أصبهان وكان قد سمع في بلاده وبمصر من أصحاب يونس وبالحجاز وبالشام وبالجزيرة من أصحاب علي بن حرب وببغداد وورد نيسابور في ذي الحجة سنة إحدى وأربعين فسمع الكثير ثم خرج إلى مرو ومنها إلى بخارى فتوفي بها في رجب من سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة وروى عنه أيضا أبو القاسم بن حبيب النيسابوري وغيرهما ذكره ابن عساكر وأسند إليه قوله
( ودعت قلبي ساعة التوديع ... وأطعت قلبي وهو غير مطيعي )
( إن لم أشيعهم فقد شيعتهم ... بمشيعين تنفسي ودموعي )

وذكره ابن الفرضي وقال إنه استوطن بخارى وجعل وفاته بها سنة ثمان وسبعين والأول قول الحاكم وهو أصح
102 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصارى السرقسطي روى عن الباجي وابن عبد البر ورحل حاجا فقدم دمشق وحدث بها عن شيوخه الأندلسيين وعن أبي حفص عمر بن أبي القاسم بن أبي زيد القفصي وذكره ابن عساكر وقال سمع عنه أبو محمد الأكفاني وحكى عنه تدليسا ضعفه به وتوفي سنة 477
103 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عيسى بن بقاء الأنصاري من بلاد الثغر الشرقي أخذ القراءات عن أبي داود سليمان بن نجاح ورحل حاجا فقدم دمشق وأقرأ بها القرآن بالسبع وأخذ عنه جماعة من أهلها وكان شيخا فاضلا حافظا للحكايات قليل التكلف في اللباس ذكره ابن عساكر وقال رأيته وسمعته ينشد قصيدة يوم خرج الناس للمصلى للاستسقاء على المنبر أولها
( أستغفر الله من ذنبي وإن كبرا ... وأستقل له شكري وإن كثرا )
وكان يسكن في دار الحجارة ويقرئ بالمسجد الجامع
ولد في الثاني والعشرين من شعبان سنة أربع وخمسين وأربعمائة وتوفي يوم الأربعاء عند صلاة العصر ودفن يوم الخميس لصلاة الظهر الثاني من ذي الحجة سنة اثنتي عشرة وخمسمائة ودفن في مقابر الصحابة بالقرب من قبر أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال وشهدت أنا غسله والصلاة عليه

ودفنه وذكره السلفي محمد
104 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن طاهر بن علي بن عيسى الأنصاري الخزرجي من أهل دانية سمع كتاب التقصي لابن عبد البر ولقي أبا الحسن الحصري ثم خرج حاجا فقدم دمشق سنة أربع وخمسمائة وأقام بها مدة يقرىء العربية وكان شديد الوسوسة في الوضوء
ذكره ابن عساكر وقال أنشدني أخي أبو الحسين هبة الله بن الحسن الفقيه قال أنشدنا ابن طاهر الأندلسي بدمشق قال أنشدني الحصري لنفسه
( يموت من في الأنام طرا ... من طيب كان أو خبيث )
( فمستريح ومستراح ... منه كما جاء في الحديث )
قال وأنشدني الحصري لنفسه
( لو كان تحت الأرض أو فوق الذرى ... حر أتيح له العدو ليوذى )
( فاحذر عدوك وهو أهون هين ... إن البعوضة أردت النمروذا )
105 - ومنهم محمد بن أبي سعيد الفرج بن عبد الله البزار من أهل سرقسطة لقي بدانية الحصري وسمع منه بعض منظومه ورحل حاجا فأدى الفريضة ودخل العراق فسمع من جماعة وأجازوا له منهم ابن خيرون والحميدي وأبو زكريا التبريزي والمبارك بن عبد الجبار وثابت بن بندار وهبة الله بن الأكفاني وغيرهم ونزل الإسكندرية وحدث بها وأخذ الناس عنه وتوفي هنالك وأنشد للحصري

( الناس كالأرض ومنها هم ... من خشن اللمس ومن لين )
( صلد تشكى الرجل منه الوجى ... وإثمد يجعل في الأعين )
وروى عنه ابن الحضرمي وابن جارة وغيرهما
106 - ومنهم أبو بكر محمد بن الحسين الشهير بالميورقي لأن أصله منها وسكن غرناطة وروى عن أبي علي الصدفي ورحل حاجا فسمع بمكة من أبي الفتح عبد الله بن محمد البيضاوي وأبي نصر عبد الملك بن أبي مسلم النهاوندي في شوال وذي القعدة من سنة 517 وبالإسكندرية من أبي عبد الله الرازي وأبي الحسن بن مشرف وأبي بكر الطرطوشي وغيرهم وعاد إلى الأندلس بعد مدة طويلة فحدث في غير ما بلد لتجوله وكان فقيها ظاهريا عارفا بالحديث وأسماء الرجال متقنا لما رواه يغلب عليه الزهد والصلاح روى عنه أبو عبد الله النميري الحافظ ويقول فيه الأزدي تدليسا لأن الأنصار من الأزد وأبو بكر بن رزق وأبو عبد الله بن عبد الرحيم وابنه عبد المنعم وسواهم وصار أخيرا إلى بجاية هاربا من صاحب المغرب حينئذ بعد أن حمل إليه هو وأبوه العباس بن العريف وأبو الحكم بن برجان وحدث هنالك وسمع منه في سنة 537 رحمه الله تعالى
107 - ومنهم أبو الحسن محمد بن عبد الرحمن بن الطفيل العبدي الإشبيلي ويعرف بابن عظيمة أخذ القراءات عن أبي عبد الله السرقسطي

وروى عن أبي عبد الله الخولاني وأبي عبد الله بن فرج وأبي علي الغساني وأبي داود المقرىء وأبي جعفر بن عبد الحق وأبي الوليد بن طريف ورحل حاجا فروى بمكة عن رزين بن معاوية ثم بالإسكندرية عن ابن الحضرمي أبي عبد الله محمد بن منصور وأبي الحسن بن مشرف الأنماطي وبالمهدية عن المازري وكانت رحلته مع أبي علي منصور بن الخير الأحدب للقاء أبي معشر الطبري فبلغهما نعيه بمصر فلما قفلا من حجهما قعد منصور يقول قرأت على أبي معشر واقتصر أبو الحسن في تصدره للإقراء على التحديث عمن لقي فعرف مكانه من الصدق والعدالة وولي الصلاة ببلده وتقدم في صناعته واشتهر بها وتلاه أهل بيته فيها فأخذ عنهم الناس وله أرجوزة في القراءات السبع وأخرى في مخارج الحروف وشرح قصيدة الشقراطسي وله أيضا كتاب الفريدة الحمصية في شرح القصيدة الحصرية وإليه وإلى بنيه بعده كانت الرياسة في هذا الشأن ومن جلة الرواة عنه أبو بكر بن خير قرأ عليه الشهاب للقضاعي وأجاز له جميع رواياته وتواليفه في رجب سنة 536 وتوفي في حدود الأربعين وخمسمائة وروى عنه أبو الضحاك الفزاري
108 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم بن عيسى بن هشام بن جراح الخزرجي من أهل جيان ويعرف بالبغدادي لطول سكناه إياها روى عن أبي علي الغساني وأبي محمد بن عتاب ورحل حاجا فلقي أبا الحسن الطبري المعروف بالكيا وأبا طالب الزينبي وأبا بكر الشاشي

وغيرهم وكان فقيها مشاورا حدث عنه أبو عبد الله النميري وأبو محمد بن عبيد الله وأبو عبد الله بن حميد وأبو القاسم عبد الرحيم بن الملجوم وغير واحد وتوفي بفاس سنة 546
109 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن علي بن ياسر الأنصاري الجياني ونزل حلب يكنى أبا بكر رحل إلى المشرق وأدى الفريضة وقدم دمشق قبل العشرين وخمسمائة وسكن قنطرة سنان منها وكان يعلم القرآن ويتردد إلى أبي عبد الله نصر الله بن محمد يسمع الحديث منه ثم رحل صحبة أبي القاسم بن عساكر صاحب تاريخ الشام إلى بغداد سنة عشرين وكان زميله فسمع بها معه من هبة الله بن الحصين وغيره ثم خرج إلى خراسان فسمع بها من حمزة الحسيني وأبي عبد الله الفراوي وأبي القاسم الشحامي وغيرهم وسمع ببلخ جماعة منهم أبو محمد الحسن بن علي الحسيني وأبو النجم مصباح بن محمد المسكي وغيرهما وبلغ الموصل فأقام بها مدة يسمع منه ويؤخذ عنه ثم انتهى إلى حلب فاستوطنها وسلمت إليه خزانة الكتب النورية وأجريت عليه جراية وكان فيه عسر في الرواية والإعارة معا ووقف كتبه على أصحاب الحديث وله عوال مخرجة من حديثه ساوى بها بعض شيوخه البخاري ومسلما وأبا داود والترمذي والنسائي روى عنه أبو حفص الميانشي وأبو المنصور مظفر بن سوار اللخمي وأبو محمد عبد الله بن علي بن سويدة وابن أبي السنان وغيرهم
ذكره ابن عساكر في تاريخه وقال سمعت منه ومات بحلب في جمادى الأولى سنة ثلاث وستين وخمسمائة على ما بلغني

وقال ابن نقطة حدث عن جماعة منهم أبو القاسم سهل بن إبراهيم النيسابوري وأبو يعقوب يوسف بن إبراهيم الهمداني حدثنا عنه أبو محمد عبد الرحمن بن عبد الله بن علوان الحلبي وأخوه أبو العباس أحمد وحكي عن الحسن بن هبة الله بن صصرى أنه توفي بحلب في جمادى الأولى سنة ثلاث وستين وخمسمائة كما تقدم وقد بلغ السبعين قاله ابن الأبار
110 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن يوسف بن سعادة مرسي سكن شاطبة ودار سلفه بلنسية سمع أبا علي الصدفي واختص به وأكثر عنه وإليه صارت دواوينه وأصوله العتاق وأمهات كتبه الصحاح لصهر كان بينهما وسمع أيضا أبا محمد بن أبي جعفر ولازم حضور مجلسه للتفقه به وحمل ما كان يرويه ورحل إلى غرب الأندلس فسمع أبا محمد بن عتاب وأبا بحر الأسدي وأبا الوليد بن رشد وأبا عبد الله الخولاني وأبا عبد الله بن الحاج وأبا بكر العربي وغيرهم وكتب إليه أبو عبد الله الخولاني وأبو الوليد بن طريف وأبو الحسن بن عفيف وأبو القاسم بن صواب وأبو محمد بن السيد وغيرهم ثم رحل إلى المشرق سنة عشرين وخمسمائة فلقي بالإسكندرية أبا الحجاج بن نادر الميورقي وصحبه وسمع منه وأخذ عنه الفقه وعلم الكلام وأدى فريضة الحج في سنة إحدى وعشرين ولقي بمكة أبا الحسن رزين بن معاوية العبدري إمام المالكية بها وأبا محمد بن صدقة المعروف بابن غزال من أصحاب كريمة المروزية فسمع منهما وأخذ عنهما وروى عن أبي الحسن علي بن سند بن عياش الغساني ما حمل عن أبي حامد الغزالي من تصانيفه ثم انصرف إلى ديار مصر فصحب ابن نادر إلى حين وفاته بالإسكندرية ولقي أبا طاهر بن عوف وأبا عبد الله بن مسلم القرشي وأبا طاهر السلفي وأبا

زكريا الزناتي وغيرهم فأخذ عنهم وكان قد كتب إليه منها أبو بكر الطرطوشي وأبو الحسن بن مشرف الأنماطي ولقي في صدره بالمهدية أبا عبد الله المازري فسمع منه بعض كتاب المعلم وأجاز له باقيه وعاد إلى مرسية في سنة ست وعشرين
وقد حصل في رحلته علوما جمة ورواية فسيحة وكان عارفا بالسنن والآثار مشاركا في علم القرآن وتفسيره حافظا للفروع بصيرا باللغة والغريب ذا حظ من علم الكلام مائلا إلى التصوف مؤثرا له أديبا بليغا خطيبا فصيحا ينشىء الخطب مع الهدي والسمت والوقار والحلم جميل الشارة محافظا على التلاوة بادي الخشوع راتبا على الصوم وولي خطة الشورى بمرسية مضافة إلى الخطبة بجامعها وأخذ في إسماع الحديث وتدريس الفقه ثم ولي القضاء بها بعد انقراض دولة الملثمين ونقل إلى قضاء شاطبة فاتخذها وطنا وكان يسمع الحديث بها وبمرسية وبلنسية ويقيم الخطب أيام الجمع في جوامع هذه الأمصار الثلاثة متعاقبا عليها وقد حدث بالمرية وهناك أبو الحسن بن موهب وأبو محمد الرشاطي وغيرهما وسمع منه أبو الحسن بن هذيل جامع الترمذي وألف كتابه شجرة الوهم المترقية إلى ذروة الفهم ولم يسبق إلى مثله وليس له غيره وجمع فهرسة حافلة
ووصفه غير واحد بالتفنن في العلوم والمعارف والرسوخ في الفقه وأصوله والمشاركة في علم الحديث والأدب
وقال ابن عياد في حقه إنه كان صليبا في الأحكام مقتفيا للعدل حسن الخلق والخلق جميل المعاملة لين الجانب فكه المجالسة ثبتا حسن الخط من أهل الإتقان والضبط وحكي أنه كانت عنده أصول حسان

بخط عمه مع الصحيحين بخط الصدفي في سفرين قال ولم يكن عند شيوخنا مثل كتبه في صحتها وإتقانها وجودتها ولا كان فيهم من رزق عند الخاصة والعامة من الحظوة والذكر وجلالة القدر ما رزقه
وذكره أبو سفيان أيضا وأبو عمر بن عات ورفعوا جميعا بذكره
وتوفي بشاطبة مصروفا عن قضائها آخر ذي الحجة سنة خمس وستين وخمسمائة ودفن أول يوم من سنة ست وستين وخمسمائة وفن بالروضة المنسوبة إلى أبي عمر بن عبد البر ومولده في رمضان سنة 496
111 - ومنهم محمد بن إبراهيم بن وضاح اللخمي من أهل غرناطة ونزل جزيرة شقر يكنى أبا القاسم وأخذ القراءة عن أبي الحسن بن هذيل وسمع منه كثيرا ورحل حاجا فأدى الفريضة وأخذ القراءات بمكة عن أبي علي بن العرجاء في سنة ست وأربعين وخمسمائة وسنة سبع بعدها وحج ثلاث حجات ودخل بغداد وأقام في رحلته نحوا من تسعة أعوام وقفل إلى الأندلس فنزل جزيرة شقر من أعمال بلنسية وأقرأ بها القرآن نحوا من أربعين سنة لم يأخذ من أحد أجرا ولا قبل هدية وولي الصلاة والخطبة بجامعها وكان رجلا صالحا زاهدا يشار إليه بإجابة الدعوة معروفا بالورع والانقباض وتوفي في صفر سنة 587
112 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن التجيبي نزيل تلمسان من أهل لقنت عمل مرسية وسكن أبوه أوريوله رحل إلى

المشرق فأدى الفريضة وأطال الإقامة هنالك واستوسع في الرواية وكتب العلم عن جماعة كثيرة أزيد من مائة وثلاثين من أعيانهم المشرقيين أبو طاهر السلفي صحبه واختص به وأكثر عنه وحكى أنه لما ودعه في قفوله إلى المغرب سأله عما كتب عنه فأخبره أنه كتب كثيرا من الأسفار ومئين من الأجزاء فسر بذلك وقال له تكون محدث المغرب إن شاء الله تعالى قد حصلت خيرا كثيرا قال ودعا لي بطول العمر حتى يؤخذ عني ما أخذت عنه وقد جمع في أسماء شيوخه على حروف المعجم تأليفا مفيدا أكثر فيه من الآثار والحكايات والأخبار وقفل من رحلته وله أربعون حديثا في المواعظ وأخرى في الفقر وفضله وثالثة في الحب في الله تعالى ورابعة في فضل الصلاة على النبي ومسلسلاته في جزء وكتاب فضائل الأشهر الثلاثة رجب وشعبان ورمضان وكتاب فضل عشر ذي الحجة وكتاب مناقب السبطين وكتاب الفوائد الكبرى مجلد و الفوائد الصغرى جزء وكتاب الترغيب في الجهاد خمسون بابا في مجلد وكتاب المواعظ والرقائق أربعون مجلسا سفران وكتاب مشيخة السلفي وغير ذلك
ومولده بلقنت الصغرى في نحو الأربعين وخمسمائة وتوفي سنة عشر وستمائة رحمه الله تعالى
113 - ومنهم الشيخ الأكبر ذو المحاسن التي تبهر سيدي محيي الدين بن عربي محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن عبد الله الحاتمي من ولد

عبد الله بن حاتم أخي عدي بن حاتم الصوفي الفقيه المشهور الظاهري ولد بمرسية يوم الإثنين سابع عشر رمضان سنة 560 قرأ القرآن على أبي بكر بن خلف بإشبيلية بالسبع وبكتاب الكافي وحدثه به عن ابن المؤلف أبي الحسن شريح بن محمد بن شريح الرعيني عن أبيه وقرأ أيضا السبع بالكتاب المذكور على أبي القاسم الشراط القرطبي وحدثه به عن ابن المؤلف وسمع على ابن أبي بكر محمد بن أبي جمرة كتاب التيسير للداني عن أبيه عن المؤلف وسمع على ابن زرقون وأبي محمد عبد الحق الإشبيلي الأزدي وغير واحد من أهل المشرق والمغرب يطول تعدادهم
وكان انتقاله من مرسية لإشبيلية سنة 568 فأقام بها إلى سنة 598 ثم ارتحل إلى المشرق وأجازه جماعة منهم الحافظ السلفي وابن عساكر وأبو الفرج بن الجوزي ودخل مصر وأقام بالحجاز مدة ودخل بغداد والموصل وبلاد الروم ومات بدمشق سنة 638 ليلة الجمعة الثامن والعشرين من شهر ربيع الآخر ودفن بسفح قاسيون وأنشدني لنفسه مؤرخا وفاته الشيخ محمد بن سعد الكلشني سنة 1037 حفظه الله تعالى
( إنما الحاتمي في الكون فرد ... وهو غوث وسيد وإمام )
( كم علوم أتى بها من غيوب ... من بحار التوحيد يا مستهام )
( إن سألتم متى توفي حميدا ... قلت أرخت مات قطب همام )
وقال ابن الأبار هو من أهل المرية وقال ابن النجار أقام بإشبيلية

إلى سنة 598 ثم دخل بلاد المشرق وقال ابن الأبار إنه أخذ عن مشيخة بلده ومال إلى الآداب وكتب لبعض الولاة ثم رحل إلى المشرق حاجا ولم يعد بعدها إلى الأندلس وقال المنذري ذكر أنه سمع بقرطبة من أبي القاسم بن بشكوال وجماعة سواه وطاف البلاد وسكن بلاد الروم مدة وجمع مجاميع في الطريقة وقال ابن الأبار إنه لقيه جماعة من العلماء والمتعبدين وأخذوا عنه وقال غيره إنه قدم بغداد سنة 608 وكان يومأ إليه بالفضل والمعرفة والغالب عليه طرق أهل الحقيقة وله قدم في الرياضة والمجاهدة وكلام على لسان أهل التصوف ووصفه غير واحد بالتقدم والمكانة من أهل هذا الشأن بالشام والحجاز وله أصحاب وأتباع
ومن تآليفه مجموع ضمنه منامات رأى فيها النبي وما سمع منه ومنامات قد حدث بها عمن رآه قال ابن النجار وكان قد صحب الصوفية وأرباب القلوب وسلك طريق الفقر وحج وجاور وكتب في علم القوم وفي أخبار مشايخ المغرب وزهادها وله أشعار حسنة وكلام مليح اجتمعت به في دمشق في رحلتي إليها وكتبت عنه شيئا من شعره ونعم الشيخ هو ذكر لي أنه دخل بغداد سنة 601 فأقام بها اثني عشر يوما ثم دخلها ثانيا حاجا مع الركب سنة 608 وأنشدني لنفسه
( أيا حائرا ما بين علم وشهوة ... ليتصلا ما بين ضدين من وصل )
( ومن لم يكن يستنشق الريح لم يكن ... يرى الفضل للمسك الفتيق على الزبل )
وسألته عن مولده فقال ليلة الاثنين 17 رمضان سنة 560 بمرسية من بلاد الأندلس انتهى

وقال ابن مسدي إنه كان جميل الجملة والتفصيل محصلا لفنون العلم أخص تحصيل وله في الأدب الشأو الذي لا يلحق والتقدم الذي لا يسبق سمع ببلاده من ابن زرقون والحافظ ابن الجد وأبي الوليد الحضرمي وبسبتة من أبي محمد بن عبد الله وقدم عليه إشبيلية أبو محمد عبد المنعم بن محمد الخزرجي فسمع منه وأبو جعفر بن مصلي وذكر أنه لقي عبد الحق الإشبيلي وفي ذلك عندي نظر انتهى
قلت لا نظر في ذلك فإن سيدي الشيخ محيي الدين ذكر في إجازته للملك المظفر غازي بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب ما معناه أو نصه ومن شيوخنا الأندلسيين أبو محمد عبد الحق بن عبد الرحمن بن عبد الله الإشبيلي رحمه الله تعالى حدثني بجميع مصنفاته في الحديث وعين لي من أسمائها تلقين المهتدي والأحكام الكبرى والوسطى والصغرى وكتاب التهجد وكتاب العاقبة ونظمه ونثره وحدثني بكتب الإمام أبي محمد علي بن أحمد بن حزم عن أبي الحسن شريح بن محمد بن شريح عنه انتهى
وقال إن الحافظ السلفي أجاز له انتهى قال بعض الحفاظ وأحسبها الإجازة العامة
وكان ظاهري المذهب في العبادات باطني النظر في الاعتقادات وكان دفنه يوم الجمعة بجبل قاسيون واتفق أنه لما أقام ببلاد الروم زكاه ذات يوم الملك فقال هذا تذل له الأسود أو كلاما هذا معناه فسئل عن ذلك فقال خدمت بمكة بعض الصلحاء فقال لي يوما الله يذل لك أعز خلقه وأمر له ملك الروم مرة بدار تساوي مائة ألف درهم فلما نزلها وأقام بها مر به في بعض الأيام سائل فقال له شيء لله فقال ما لي غير هذه الدار خذها لك فتسلمها السائل وصارت له

وقال الذهبي في حقه إن له توسعا في الكلام وذكاء وقوة خاطر وحافظة وتدقيقا في التصوف وتواليف جمة في العرفان لولا شطحه في كلامه وشعره ولعل ذلك وقع منه حال سكره وغيبته فيرجى له الخير انتهى
وقال القطب اليونيني في ذيل مرآة الزمان عن سيدي الشيخ محيي الدين - رضي الله تعالى عنه ونفعنا به - أنه كان يقول إني أعرف اسم الله الأعظم وأعرف الكيمياء انتهى
وقال ابن شودكين عنه إنه كان يقول ينبغي للعبد أن يستعمل همته في الحضور في مناماته بحيث يكون حاكما على خياله يصرفه بعقله نوما كما كان يحكم عليه يقظة فإذا حصل للعبد هذا الحضور وصار خلقا له وجد ثمرة ذلك في البرزخ وانتفع به جدا فليهتم العبد بتحصيل هذا القدر فإنه عظيم الفائدة بإذن الله تعالى
وقال إن الشيطان ليقنع من الإنسان بأن ينقله من طاعة إلى طاعة ليفسخ عزمه بذلك
وقال ينبغي للسالك أنه متى حضر له أنه يعقد على أمر ويعاهد الله تعالى عليه أن يترك ذلك الأمر إلى أن يجيء وقته فإن يسر الله تعالى فعله فعله وإن لم ييسر الله فعله يكون مخلصا من نكث العهد ولا يكون متصفا بنقض الميثاق

ومن نظم الشيخ محيي الدين رحمه الله تعالى - قوله
( بين التذلل والتدلل نقطة ... فيها يتيه العالم النحرير )
( هي نقطة الأكوان إن جاوزتها ... كنت الحكيم وعلمك الإكسير )
وقوله أيضا رحمه الله
( يا درة بيضاء لاهوتية ... قد ركبت صدفا من الناسوت )

( جهل البسيطة قدرها لشقائهم ... وتنافسوا في الدر والياقوت )
وحكى العماد بن النحاس الأطروش أنه كان في سفح جبل قاسيون على مستشرف وعنده الشيخ محيي الدين والغيث والسحاب عليهم ودمشق ليس عليها شيء قال فقلت للشيخ أما ترى هذه الحال فقال كنت بمراكش وعندي ابن خروف الشاعر يعني أبا الحسن علي بن محمد القرطبي القبذاقي وقد اتفق الحال مثل هذه فقلت له مثل هذه المقالة فأنشدني
( يطوف السحاب بمراكش ... طواف الحجيج ببيت الحرم )
( يروم نزولا فلا يستطيع ... لسفك الدماء وهتك الحرم )
وحكى المقريزي في ترجمة سيدي عمر بن الفارض - أفاض الله علينا من أنواره - أن الشيخ محيي الدين بن العربي بعث إلى سيدي عمر يستأذنه في شرح التائية فقال كتابك المسمى بالفتوحات المكية شرح لها انتهى
وقال بعض من عرف به إنه لما صنف الفتوحات المكية كان يكتب كل يوم ثلاث كراريس حيث كان وحصلت له بدمشق دنيا كثيرة فما ادخر منها شيئا وقيل إن صاحب حمص رتب له كل يوم مائة درهم وابن الزكي كل يوم ثلاثين درهما فكان يتصدق بالجميع واشتغل الناس بمصنفاته ولها ببلاد اليمن والروم صيت عظيم وهو من عجائب الزمان وكان يقول أعرف الكيمياء بطريق المنازلة لا بطريق الكسب
ومن نظمه

( حقيقتي همت بها ... وما رآها بصري )
( ولو رآها لغدا ... قتيل ذاك الحور )
( فعندما أبصرتها ... صرت بحكم النظر )
( فبت مسحورا بها ... أهيم حتى السحر )
( يا حذري من حذري ... لو كان يغني حذري )
( والله ما هيمني ... جمال ذاك الخفر )
( في حسنها من ظبية ... ترعى بذات الخمر ) إذا رنت أو عطفت ... تسبي عقول البشر )
( كأنما أنفاسها ... أعراف مسك عطر )
( كأنها شمس الضحى ... في النور أو كالقمر )
( إن أسفرت أبرزها ... نور صباح مسفر )
( أو سدلت غيبها ... سواد ذاك الشعر )
( يا قمرا تحت دجى ... خذي فؤادي وذري )
( عيني لكي أبصركم ... إذ كان حظي نظري )
وقال الخويي قال الشيخ سيدي محيي الدين بن عربي رضي الله تعالى عنه رأيت بعض الفقهاء في النوم في رؤيا طويلة فسألني كيف حالك مع أهلك فقلت
( إذا رأت أهل بيتي الكيس ممتلئا ... تبسمت ودنت مني تمازحني )
( وإن رأته خليا من دراهمه ... تجهمت وانثنت عني تقابحني )
فقال لي صدقت كلنا ذلك الرجل
وذكر الإمام العالم بالله تعالى لسان الحقيقة وشيخ الطريقة صفي الدين

حسين بن الإمام العلامة جمال الدين أبي الحسن علي ابن الإمام مفتي الأنام كمال الدين أبي منصور ظافر الأزدي الأنصاري رضي الله تعالى عنه في رسالته الفريدة المحتوية على من رأى من سادات مشايخ عصره بعد كلام ما صورته ورأيت بدمشق الشيخ الإمام العارف الوحيد محيي الدين بن عربي وكان من أكبر علماء الطريق جمع بين سائر العلوم الكسبية وما وفر له من العلوم الوهبية ومنزلته شهيرة وتصانيفه كثيرة وكان غلب عليه التوحيد علما وخلقا وحالا لا يكترث بالوجود بالوجود مقبلا كان أو معرضا وله علماء أتباع أرباب مواجيد وتصانيف وكان بينه وبين سيدي الأستاذ الحرار إخاء ورفقة في السياحات رضي الله تعالى عنهما في الآصال والبكرات ومن نظم سيدي الشيخ محيي الدين رضي الله تعالى عنه قوله
( يا من يراني ولا أراه ... كم ذا أراه ولا يراني )
قال رحمه الله تعالى قال لي بعض إخواني لما سمع هذا البيت كيف تقول إنه لا يراك وأنت تعلم أنه يراك فقلت له مرتجلا 7
( يا من يراني مجرما ... ولا أراه آخذا )
( كم ذا أراه منعما ... ولا يراني لائذا )
قلت من هذا وشبهه تعلم أن كلام الشيخ رحمه الله تعالى مؤول وأنه لا يقصد ظاهره وإنما له محامل تليق به وكفاك شاهدا هذه الجزئية الواحدة فأحسن الظن به ولا تنتقد بل اعتقد وللناس في هذا المعنى كلام كثير والتسليم أسلم والله سبحانه بكلام أوليائه أعلم
ومن النظم المنسوب لمحاسن الشيخ سيدي محيي الدين رضي الله تعالى عنه في ضابط ليلة القدر

( وإنا جميعا إن نصم يوم جمعة ... ففي تاسع العشرين خذ ليلة القدر )
( وإن كان يوم السبت أول صومنا ... فحادي وعشرين اعتمده بلا عسر )
( وإن كان صوم الشهر في أحد فخذ ... ففي سابع العشرين ما شئت فاستقري )
( وإن هل بالاثنين فاعلم بأنه ... يواتيك نيل الوجد في تاسع العشر )
( ويوم الثلاثا إن بدا الشهر فاعتمد ... على خامس العشرين فاعمل بها تدري )
( وفي الأربعا إن هل يا من يرومها ... فدونك فاطلب وصلها سابع العشر )
( ويوم خميس إن بدا الشهر فاجتهد ... ففي ثالث العشرين تظفر بالنصر )
( وضابطها بالقول ليلة جمعة ... توافيك بعد النصف في ليلة الوتر )
قلت لست على يقين من نسبة هذا النظم إلى الشيخ رحمه الله تعالى فإن نفسه أعلى من هذا النظم ولكني ذكرته لما فيه من الفائدة ولأن بعض الناس نسبه إليه فالله تعالى أعلم بحقيقة ذلك ومما نسبه إليه رحمه الله تعالى غير واحد قوله
( قلبي قطبي وقالبي أجفاني ... سري خضري وعينه عرفاني )
( روحي هرون وكليمي موسى ... نفسي فرعون والهوى هاماني )
وذكر بعض الثقات أن هذين البيتين يكتبان لمن به القولنج في كفه ويلحسهما فإنه يبرأ بإذن الله تعالى قال وهو من المجربات
وقد تأول بعض العلماء قول الشيخ رحمه الله تعالى بإيمان فرعون أن مراده بفرعون النفس بدليل ما سبق وحكى في ذلك حكاية عن بعض الأولياء ممن كان ينتصر للشيخ رحمه الله تعالى

وولد للشيخ محيي الدين - رحمه الله تعالى - ابنه محمد المدعو سعد الدين بملطية في رمضان سنة 618 وسمع الحديث ودرس وقال الشعر الجيد
وله ديوان شعر مشهور وتوفي بدمشق سنة 656 سنة دخل هولاكو بغداد وقتل الخليفة المستعصم ودفن المذكور عند والده بسفح قاسيون وكان قدم القاهرة وسكن حلبا ومن شعره
( لما تبدى عارضاه في نمط ... قيل ظلام بضياء اختلط )
( وقيل سطر الحسن في خديه خط ... وقيل نمل فوق عاج انبسط )
( وقيل مسك فوق ورد قد نقط ... وقال قوم إنها اللام فقط حكاية عن ابن جزى )
قلت تذكرت بهذا ما قاله الكاتب أبو عبد الله بن جزي الأندلسي كاتب سلطان المغرب أبي عنان حين تنازع الكتاب أرباب الأقلام والرؤساء أصحاب السيوف في تشبيه العذار وقالت كل فرقة لا نشبهه إلا بما هو مناسب لصنعتنا فلما فرغوا قال ابن جزي
( أتى أولو الكتب والسيف الأولى عزموا ... من بعد سلمي على حربي وإسلامي )

( بكل معنى بديع في العذار على ... ما تقتضي منهم أفكار أحلامي )
( فقال ذو الكتب لا أرضى المحارب في ... تشبيهه لا وأنقاسي وأقلامي )
( وقال ذو الحرب لا أرضى الكتائب في ... تشبيهه ومظلاتي وأعلامي )
( فقلت أجمع بين المذهبين معا ... باللام فاستحسنوا التشبيه باللام )
وهذه الغاية التي لا تدرك مع البديهة ولزوم ما لا يلزم
رجع - ومن نظم سعد الدين قوله
( سهري من المحبوب أصبح مرسلا ... وأراه متصلا بفيض مدامع )
( قال الحبيب بأن ريقي نافع ... فاسمع رواية مالك عن نافع )
ومن نظمه أيضا قوله
( وقالوا قصير شعر من قد هويته ... فقلت دعوني لا أرى منه مخلصا )
( محياه شمس قد علت غصن قده ... فلا عجب للظل أن يتقلصا )
وقوله
( ورب قاض لنا مليح ... يعرب عن منطق لذيذ )
( إذا رمانا بسهم لحظ ... قلنا له دائم النفوذ )
وقوله
( لك والله منظر ... قل فيه المشارك )
( إن يوما تكون فيه ... ليوم مبارك )

ومن نظمه أيضا ما كتب به إلى أخيه عماد الدين أبي عبد الله محمد بن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي أفاض الله تعالى علينا من فتوحاته قوله
( ما للنوى رقة ترثي لمكتئب ... حران في قلبه والدمع في حلب )
( قد أصبحت حلب ذات العماد بكم ... وجلق إرم هذا من العجب )
وتوفي الشيخ عماد الدين بالصالحية سنة 667 ودفن بسفح قاسيون عند والده بتربة القاضي ابن الزكي رحم الله تعالى الجميع
وابن الزكي أيضا محيي الدين
ومن نظم سعد الدين المذكور في وسيم رآه بالزيادة في دمشق
( يا خليلي في الزيادة ظبي ... سلبت مقلتاه جفني رقاده )
( كيف أرجو السلو عنه وطرفي ... ناظر حسن وجهه في الزياده )
وله
( علقت صوفيا كبدر الدجى ... لكنه في وصلي الزاهد )
( يشهد وجدي بغرامي له ... فديت صوفيا له شاهد )
وله أيضا
( صبوت إلى حريري مليح ... تكرر نحو منزله مسيري )
( أقول له ألا ترثي لصب ... عديم للمساعد والنصير )
( أقام ببابكم خمسين شهرا ... فقال كذا مقامات الحريري )
وله
( وغزال من اليهود أتاني ... زائرا من كنيسه أو كناسه )

( بت أجني الشقيق من وجنتيه ... وأشم العبير من أنفاسه )
( واعتنقنا إذ لم نخف من رقيب ... وأمنا الوشاة من حراسه )
( من رآني يظنني لنحولي ... واصفراري علامة فوق راسه )
وله
( لي حبيب بالنحو أصبح مغرى ... فهو مني بما أعانيه أدرى )
( قلت ماذا تقول حين تنادي ... يا حبيبي المضاف نحوك جهرا )
( قال لي يا غلام أو يا غلامي ... قلت لبيك ثم لبيك عشرا )
وله أيضا
( ساءلتني عن لفظة لغوية ... فأجبت مبتدئا بغير تفكر )
( خاطبتني متبسما فرأيتها ... من نظم ثغرك في صحاح الجوهري )
وله
( وعلمت أن من الحديد فؤاده ... لما انتضى من مقلتيه مهندا )
( آنست من وجدي بجانب خده ... نارا ولكن ما وجدت بها هدى )
رجع إلى الشيخ محيي الدين
وقال الشيخ محيي الدين - أفاض الله تعالى علينا من أنواره وكسانا بعض حلل أسراره - إنه بلغني في مكة عن امرأة من أهل بغداد أنها تكلمت في بأمور عظيمة فقلت هذه قد جعلها الله تعالى سببا لخير وصل إلي فلأكافئنها وعقدت في نفسي أن أجعل جميع ما اعتمرت في رجب لها ففعلت ذلك فلما كان الموسم استدل علي رجل غريب فسأله الجماعة عن قصده فقال رأيت بالينبع في الليلة التي بت فيها كأن آلافا من الإبل أوقارها المسك والعنبر والجوهر

فعجبت من كثرته ثم سألت لمن هو فقيل هو لمحمد بن عربي يهديه إلى فلانة وسمى تلك المرأة ثم قال وهذا بعض ما تستحق قال سيدي ابن عربي فلما سمعت الرؤيا واسم المرأة ولم يكن أحد من خلق الله تعالى علم مني ذلك علمت أنه تعريف من جانب الحق وفهمت من قوله إن هذا بعض ما تستحق أنها مكذوب عليها فقصدت المرأة وقلت اصدقيني وذكرت لها ما كان من ذلك فقالت كنت قاعدة قبالة البيت وأنت تطوف فشكرك الجماعة الذين كنت فيهم فقلت في نفسي اللهم إني أشهدك أني قد وهبت له ثواب ما أعمله في يوم الاثنين وفي يوم الخميس وكنت أصومهما وأتصدق فيهما قال فعلمت أن الذي وصل مني إليها بعض ما تستحق فإنها سبقت بالجميل والفضل للمتقدم
ومن نظم الشيخ محيي الدين بن عربي رحمه الله تعالى
( يا غاية السؤل والمأمول يا سندي ... شوقي إليك شديد لا إلى أحد )
( ذبت اشتياقا ووجدا في محبتكم ... فآه من طول شوقي آه من كمدي )
( يدي وضعت على قلبي مخافة أن ... ينشق صدري لما خانني جلدي )
( ما زال يرفعها طورا ويخفضها ... حتى وضعت يدي الأخرى تشد يدي )
وحكى سبط ابن الجوزي عن الشيخ محيي الدين أنه كان يقول إنه يحفظ الاسم الأعظم ويقول إنه يعرف السيميا بطريق التنزل لا بطريق التكسب انتهى والله تعالى أعلم والتسليم أسلم
ومن نظم الشيخ محيي الدين قوله
( ما فاز بالتوبة إلا الذي ... قد تاب قدما والورى نوم )
( فمن يتب أدرك مطلوبه ... من توبة الناس ولا يعلم )
وله رحمه الله تعالى من المحاسن ما لا يستوفى

وأنشدني لنفسه بدمشق صاحبنا الصوفي الشيخ محمد بن سعد الكلشني - حفظه الله تعالى - قوله شيخنا الحاتمي . . . ( الأبيات ) وأنشدني لنفسه :
( أمولاي محيي الدين أنت الذي بدت ... علومك في الآفاق كالغيث مذ همى )
( كشفت معاني كل علم مكتم ... وأوضحت بالتحقيق ما كان مبهما )
وبالجملة فهو حجة الله الظاهرة وآيته الباهرة ولا يلتفت إلى كلام من تكلم فيه ولله در السيوطي الحافظ فإنه ألف تنبيه الغبي على تنزيه ابن عربي ومقام هذا الشيخ معلوم والتعريف به يستدعي طولا وهو أظهر من نار على علم
وكان بالمغرب يعرف بابن العربي بالألف واللام واصطلح أهل المشرق على ذكره بغير ألف ولام فرقا بينه وبين القاضي أبي بكر بن العربي
وقال ابن خاتمة في كتابه مزية المرية ما نصه محمد بن علي بن محمد الطائي الصوفي من أهل إشبيلية وأصله من مرسية يكنى أبا بكر ويعرف بابن العربي وبالحاتمي أيضا أخذ عن مشيخة بلده ومال إلى الآداب وكتب لبعض الولاة بالأندلس ثم رحل إلى المشرق حاجا فأدى الفريضة ولم يعد بعدها إلى الأندلس وسمع الحديث من أبي القاسم الحرستاني ومن غيره وسمع صحيح مسلم من الشيخ أبي الحسن بن أبي نصر في شوال سنة 606 وكان يحدث بالإجازة العامة عن أبي طاهر السلفي ويقول بها وبرع في علم التصوف وله في ذلك تواليف كثيرة منها الجمع والتفصيل في حقائق التنزيل و الجذوة المقتبسة والخطرة المختلسة وكتاب كشف المعنى في تفسير الأسماء الحسنى وكتاب المعارف الإلهية وكتاب الإسر

إلى المقام الأسرى وكتاب مواقع النجوم ومطالع أهلة أسرار العلوم وكتاب عنقاء مغرب في صفة ختم الأولياء وشمس المغرب وكتاب في فضائل مشيخة عبد العزيز بن أبي بكر القرشي المهدوي والرسالة الملقبة بمشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية في كتب أخر عديدة وقدم على المرية من مرسية مستهل شهر رمضان سنة خمس وتسعين وخمسمائة وبها ألف كتابه الموسوم بمواقع النجوم انتهى
ولا خفاء أن مقام الشيخ عظم بعد انتقاله من المغرب وقد ذكر رحمه الله تعالى في بعض كتبه أن مولده بمرسية
وفي الكتاب المسمى بالاغتباط بمعالجة ابن الخياط تأليف شيخ الإسلام قاضي القضاة مجد الدين محمد بن يعقوب بن محمد الشيرازي الفيروزابادي الصديقي صاحب القاموس قدس الله تعالى روحه الذي ألفه بسبب سؤال سئل فيه عن الشيخ سيدي محيي الدين بن عربي الطائي قدس الله تعالى سره العزيز في كتبه المنسوبة إليه ما صورته
ما تقول السادة العلماء شد الله تعالى بهم أزر الدين ولم بهم شعث المسلمين في الشيخ محيي الدين بن عربي في كتبه المنسوبة إليه كالفتوحات والفصوص هل تحل قراءتها وإقراؤها ومطالعتها وهل هي الكتب المسموعة المقروءة أم لا أفتونا مأجورين جوابا شافيا لتحوزوا جميل الثواب من الله الكريم الوهاب والحمد لله وحده
فأجابه بما صورته الحمد لله اللهم أنطقنا بما فيه رضاك الذي أعتقده في حال المسؤول عنه وأدين الله تعالى به أنه كان شيخ الطريقة حالا وعلما وإمام الحقيقة حقيقة ورسما ومحيي رسوم المعارف فعلا واسما
( إذا تغلغل فكر المرء في طرف ... من بحره غرقت فيه خواطره )
وهو عباب لا تكدره الدلاء وسحاب لا تتقاصر عنه الأنواء وكانت

دعواته تخترق السبع الطباق وتفترق بركاته فتملأ الآفاق وإني أصفه وهو يقينا فوق ما وصفته وناطق بما كتبته وغالب ظني أني ما أنصفته
( وما علي إذا ما قلت معتقدي ... دع الجهول يظن العدل عدوانا )
( والله والله والله العظيم ومن ... أقامه حجة للدين برهانا )
( بأن ما قلت بعض من مناقبه ... ما زدت إلا لعلي زدت نقصانا )
وأما كتبه ومصنفاته فالبحار الزواخر التي لجواهرها وكثرتها لا يعرف لها أول ولا آخر ما وضع الواضعون مثلها وإنما خص الله سبحانه بمعرفة قدرها أهلها ومن خواص كتبه أن من واظب على مطالعتها والنظر فيها وتأمل ما في مبانيها انشرح صدره لحل المشكلات وفك المعضلات وهذا الشأن لا يكون إلا لأنفاس من خصه الله تعالى بالعلوم اللدنية الربانية ووقفت على إجازة كتبها للملك المعظم فقال في آخرها وأجزته أيضا أن يروي عني مصنفاتي ومن جملتها كذا وكذا حتى عد نيفا وأربعمائة مصنف منها التفسير الكبير الذي بلغ فيه إلى تفسير سورة الكهف عند قوله تعالى ( وعلمناه من لدنا علما ) [ الكهف 65 ] وتوفي ولم يكمل وهذا التفسير كتاب عظيم كل سفر بحر لا ساحل له ولا غرو فإنه صاحب الولاية العظمى والصديقية الكبرى فيما نعتقد وندين الله تعالى به وثم طائفة في الغي حائفة يعظمون عليه النكير وربما بلغ بهم الجهل إلى حد التفكير وما ذاك إلا لقصور أفهامهم عن إدراك مقاصد أقواله وأفعاله ومعانيها ولم تصل أيديهم لقصرها إلى اقتطاف مجانيها
( علي نحت القوافي من معادنها ... وما علي إذا لم تفهم البقر )
هذا الذي نعلم ونعتقد وندين الله تعالى به في حقه والله سبحانه وتعالى أعلم وصورة استشهاده كتب محمد الصديقي الملتجىء إلى حرم الله تعالى

عفا الله عنه
وأما احتجاجه بقول شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام شيخ مشايخ الشافعية فغير صحيح بل كذب وزور فقد روينا عن شيخ الإسلام صلاح الدين العلائي عن جماعة من المشايخ كلهم عن خادم الشيخ عز الدين بن عبد السلام أنه قال كنا في مجلس الدرس بين يدي الشيخ عز الدين بن عبد السلام فجاء في باب الردة ذكر لفظة الزنديق فقال بعضهم هل هي عربية أو عجمية فقال بعض الفضلاء إنما هي فارسية معربة أصلها زن دين أي على دين المرأة وهو الذي يضمر الكفر ويظهر الإيمان فقال بعضهم مثل من فقال آخر إلى جانب الشيخ مثل ابن عربي بدمشق فلم ينطق الشيخ ولم يرد عليه قال الخادم وكنت صائما ذلك اليوم فاتفق أن الشيخ دعاني للإفطار معه فحضرت ووجدت منه إقبالا ولطفا فقلت له يا سيدي هل تعرف القطب الغوث الفرد في زماننا فقال مالك ولهذا كل فعرفت أنه يعرفه فتركت الأكل وقلت له لوجه الله تعالى عرفني به من هو فتبسم رحمه الله تعالى وقال لي الشيخ محيي الدين بن عربي فأطرقت ساكتا متحيرا فقال مالك فقلت يا سيدي قد حرت قال لم قلت أليس اليوم قال ذلك الرجل إلى جانبك ما قال في ابن عربي وأنت ساكت فقال اسكت ذلك مجلس الفقهاء هذا الذي روي لنا بالسند الصحيح عن شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام
وأما قول غيره من أضراب الشيخ عز الدين فكثير كان الشيخ كمال الدين الزملكاني من أجل مشايخ الشام أيضا يقول ما أجهل هؤلاء ! ينكرون على الشيخ محيي الدين بن عربي لأجل لأجل كلمات وألفاظ وقعت في كتبه قد قصرت أفهامهم عن درك معانيها فليأتوني لأحل لهم مشكله وأبين لهم مقاصده بحيث يظهر لهم الحق ويزول عنهم الوهم
وهذا القطب سعد الدين الحموي سئل عن الشيخ محيي الدين بن عربي لما

رجع من الشام إلى بلاده كيف وجدت ابن عربي فقال وجدته بحرا زخارا لا ساحل له
وهذا الشيخ صلاح الدين الصفدي له كتاب جليل وضعه في تاريخ علماء العالم في مجلدات كثيرة وهي موجودة في خزانة السلطان تنظر في باب الميم ترجمة محمد بن عربي لتعرف مذاهب أهل العلم الذين باب صدورهم مفتوح لقبول العلوم اللدنية والمواهب الربانية
وقوله في شيء من الكتب المصنفة كالفصوص وغيره إنه صنفه بأمر من الحضرة الشريفة النبوية وأمره بإخراجه إلى الناس قال الشيخ محيي الدين الذهبي حافظ الشام ما أظن المحيي يتعمد الكذب أصلا وهو من أعظم المنكرين وأشدهم على طائفة الصوفية
ثم إن الشيخ محيي الدين رحمه الله تعالى كان مسكنه ومظهره بدمشق وأخرج هذه العلوم إليهم ولم ينكر عليه أحد شيئا من ذلك وكان قاضي القضاة الشافعية في عصره شمس الدين أحمد الخويي يخدمه خدمة العبيد وقاضي القضاة المالكية زوجه بابنته وترك القضاء بنظرة وقعت عليه من الشيخ
وأما كراماته ومناقبه فلا تحصرها مجلدات وقول المنكرين في حق مثله غثاء وهباء لا يعبأ به والحمد لله تعالى انتهى ما نقلته من كلام العارف بالله تعالى سيدي عبد الوهاب الشعراني رضي الله تعالى عنه
وقد حكى الشيخ رضي الله تعالى عنه عن نفسه في كتبه ما يبهر الألباب وكفى بذلك دليلا على ما منحه الله الذي يفتح لمن شاء الباب وقد اعتنى بتربته بصالحية دمشق سلاطين بني عثمان نصرهم الله تعالى على توالي الأزمان ! وبنى عليه السلطان المرحوم سليم خان المدرسة العظيمة ورتب له الأوقاف وقد زرت قبره وتبركت به مرارا ورأيت لوائح الأنوار عليه

ظاهرة ولا يجد منصف محيدا إلى إنكار ما يشاهد عند قبره من الأحوال الباهرة وكانت زيارتي له بشعبان ورمضان وأول شوال سنة 1037
وقال في عنوان الدراية إن الشيخ محيي الدين كان يعرف بالأندلس بابن سراقة وهو فصيح اللسان بارع فهم الجنان قوي على الإيراد كلما طلب الزيادة يزاد رحل إلى العدوة ودخل بجاية في رمضان سنة 597 وبها لقي أبا عبد الله العربي وجماعة من الأفاضل ولما دخل بجاية في التاريخ المذكور قال رأيت ليلة أني نكحت نجوم السماء كلها فما بقي منها نجم إلا نكحته بلذة عظيمة روحانية ثم لما كملت نكاح النجوم أعطيت الحروف فنكحتها ثم عرضت رؤياي هذه على من قصها على رجل عارف بالرؤيا بصير بها وقلت للذي عرضتها عليه لا تذكرني فلما ذكر الرؤيا استعظمها وقال هذا هو البحر الذي لا يدرك قعره صاحب هذه الرؤيا يفتح الله تعالى له من العلوم العلوية وعلوم الأسرار وخواص الكواكب ما لا يكون فيه أحد من أهل زمانه ثم سكت ساعة وقال إن كان صاحب هذه الرؤيا في هذه المدينة فهو ذاك الشاب الأندلسي الذي وصل إليها
ثم قال صاحب العنوان ما ملخصه إن الشيخ محيي الدين رحل إلى المشرق واستقرت به الدار وألف تواليفه وفيها ما فيها إن قيض الله تعالى من يسامح ويتأول سهل المرام وإن كان ممن ينظر بالظاهر فالأمر صعب وقد نقد عليه أهل الديار المصرية وسعوا في إراقة دمه فخلصه الله تعالى على يد الشيخ أبي الحسن البجائي فإنه سعى في خلاصه وتأول كلامه ولما وصل إليه بعد خلاصه قال له الشيخ رحمه الله تعالى كيف يحبس من حل منه اللاهوت في الناسوت فقال له يا سيدي تلك شطحات في محل سكر ولا عتب على سكران
وتوفي الشيخ محيي الدين في نحو الأربعين وستمائة وكان يحدث بالإجازة العامة عن السلفي رحمه الله تعالى انتهى

ومن موشحات الشيخ محيي الدين رضي الله تعالى عنه قوله
( سرائر الأعيان ... لاحت على الأكوان ... للناظرين )
( والعاشق الغيران ... من ذاك في بحران ... يبدي الأنين ) دور
( يقول والوجد ... أضنا ه والبعد ... قد حيره )
( لما دنا البعد ... لم أدر من بعد ... من غيره )
( وهيم العبد ... والواحد الفرد ... قد خيره )
( في البوح والكتمان ... والسر والإعلان ... في العالمين )
( أنا هو الديان ... يا عابد الأوثان ... أنت الضنين )
( كل الهوى صعب ... على الذي يشكو ذل الحجاب )
( يا من له قلب ... لو أنه يذكو ... عند الشباب )
( قربه الرب ... لكنه إفك ... فانو المتاب )
( وناد يا رحمن ... يا بر يا منان ... إني حزين )
( أضناني الهجران ... ولا حبيب دان ... ولا معين )
( فنيت بالله ... عما تراه العين ... من كونه )
( في موقف الجاه ... وصحت أين الأين ... في بينه )
( فقال يا ساهي ... عاينت قط عين ... بعينه )
( أما ترى غيلان ... وقيس أو من كان ... في الغابرين )
( قالوا الهوى سلطان ... إن حل بالإنسان ... أفناه دين )

( كم مرة قالا ... أنا الذي أهوى ... من هو أنا )
( فلا أرى حالا ... ولا أرى شكوى ... إلا الفنا )
( لست كمن مالا ... عن الذي يهوى ... بعد الجنى )
( ودان بالسلوان ... هذا هو البهتان ... للعارفين )
( سلوهم ما كان ... عن حضرة الرحمن ... والآفكين )
( دخلت في بستان الأنس ... والقرب ... كمكنسه )
( فقام لي الريحان ... يختال بالعجب ... في سندسه )
( أنا هو يا إنسان ... مطيب الصب ... في مجلسه )
( جنان يا جنان ... اجن من البستان ... الياسمين ) و
( حلل الريحان ... بحرمة الرحمن ... للعاشقين )
وقال الإمام الصفي بن ظافر الأزدي في رسالته رأيت بدمشق الشيخ الإمام العارف الوحيد محيي الدين بن عربي وكان من أكبر علماء الطريق جمع بين سائر العلوم الكسبية وما وفر له من العلوم الوهبية ومنزلته شهيرة وتصانيفه كثيرة وكان غلب عليه التوحيد علما وخلقا وحالا لا يكترث بالوجود مقبلا كان أو معرضا وله علماء أتباع أرباب مواجيد وتصانيف وكان بينه وبين سيدي الأستاذ الحرار إخاء ورفقة في السياحات رضي الله تعالى عنهما انتهى
وذكر الإمام سيدي عبد الله بن سعد اليافعي اليمني في الإرشاد أنه اجتمع مع الشهاب السهروردي فأطرق كل واحد منهما ساعة ثم افترقا من غير كلام فقيل للشيخ ابن عربي ما تقول في السهروردي فقال مملوء سنة من قرنه إلى قدمه وقيل للسهروردي ما تقول في الشيخ محيي

الدين فقال بحر الحقائق 9
ثم قال اليافعي ما ملخصه إن بعض العارفين كان يقرأ عليه كلام الشيخ ويشرحه فلما حضرته الوفاة نهى عن مطالعته وقال إنكم لا تفهمون معاني كلامه ثم قال اليافعي وسمعت أن العز بن عبد السلام كان يطعن عليه ويقول هو زنديق فقال له بعض أصحابه أريد أن تريني القطب أو قال وليا فأشار إلى ابن عربي فقال له فأنت تطعن فيه فقال أصون ظاهر الشرع أو كما قال
وأخبرني بهذه الحكاية غير واحد من ثقات مصر والشام ثم قال وقد مدحه وعظمه طائفة كالنجم الأصبهاني والتاج بن عطاء الله وغيرهما وتوقف فيه طائفة طعن فيه آخرون وليس الطاعن فيه بأعلم من الخضر عليه السلام إذ هو أحد شيوخه وله معه اجتماع كثير
ثم قال وما ينسب إلى المشايخ له محامل الأول أنه لم تصح نسبته إليهم الثاني بعد الصحة يلتمس له تأويل موافق فإن لم يوجد له تأويل في الظاهر فله تأويل في الباطن لم نعلمه وإنما يعلمه العارفون الثالث أن يكون ذلك صدر منهم في حال السكر والغيبة والسكران سكرا مباحا غير مؤاخذ ولا مكلف انتهى ملخصا
وممن ذكر الشيخ محيي الدين الإمام شمس الدين محمد بن مسدي في معجمه البديع المحتوي على ثلاث مجلدات وترجمه ترجمة عظيمة مطولة أذكر منها أنه قال إنه كان ظاهري المذهب في العبادات باطني النظر في الاعتقادات خاض بحر تلك العبارات وتحقق بمحيا تلك الإشارات وتصانيفه تشهد له عند أولي البصر بالتقدم والإقدام ومواقف النهايات في مزالق الأقدام ولهذا ما ارتبت في أمره والله تعالى أعلم بسره انتهى
ونقلت من خط ابن علوان التونسي رحمه الله تعالى قال الشيخ محيي الدين

( بالمال ينقاد كل صعب ... من عالم الأرض والسماء )
( يحسبه عالم حجابا ... لم يعرفوا لذة العطاء )
( ولولا الذي في النفوس منه ... لم يجب الله في الدعاء )
( لا تحسب المال ما تراه ... من عسجد مشرق لراء )
( بل هو ما كنت يا بني ... به غنيا عن السواء )
( فكن برب العلا غنيا ... وعامل الخلق بالوفاء )
وقال
( نبه على السر ولا تفشه ... فالبوح بالسر له مقت )
( على الذي يبديه فاصبر له ... واكتمه حتى يصل الوقت )
وقال
( قد ثاب غلماننا علينا ... فما لنا في الوجود قدر )
( أذنابنا صيرت رؤوسا ... مالي على ما أراه صبر )
( هذا هو الدهر يا خليلي ... فمن يقاسيه فهو قهر )
ونظم الشيخ محيي الدين هو البحر الذي لا ساحل له
ولنختم ما أوردنا منه بقوله
( يا حبذا المسجد من مسجد ... وحبذا الروضة من مشهد )
( وحبذا طيبة من بلدة ... فيها ضريح المصطفى أحمد )
( صلى عليه الله من سيد ... لولاه لم نفلح ولم نهتد )
( قد قرن الله به ذكره ... في كل يوم فاعتبر ترشد )
( عشر خفيات وعشر إذا ... أعلن بالتأذين في المسجد )
( فهذه عشرون مقرونة ... بأفضل الذكر إلى الموعد )

114 - ومنهم الصوفي الشهير أبو الحسن علي الششتري وهو علي بن عبد الله النميري عروس الفقهاء وإمير المتجردين وبركة لابسي الخرقة وهو من قرية ششتر من عمل وادي آش وزقاق الششتري معلوم بها وكان مجودا للقرآن قائما عليه عارفا بمعانيه من أهل العلم والعمل جال الآفاق ولقي المشايخ وحج حجات وآثر التجرد والعبادات وذكره القاضي أبو العباس الغبريني في عنوان الدراية فقال الفقيه الصوفي من الطلبة المحصلين والفقراء المنقطعين له علم بالحكمة ومعرفة بطريق الصوفية وتقدم في النظم والنثر على طريقة التحقيق وأشعاره وموشحاته وأزجاله الغاية في الانطباع
أخذ عن القاضي محيي الدين محمد بن إبراهيم بن الحسن بن سراقة الأنصاري الشاطبي وغيره من أصحاب السهروردي صاحب عوارف المعارف واجتمع بالنجم بن إسرائيل الدمشقي سنة 650 وخدم أبا محمد بن سبعين وتلمذ له وكان ابن سبعين دونه في السن لكن اشتهر باتباعه وعول على ما لديه حتى صار يعبر عن نفسه في منظوماته وغيرها بعبد ابن سبعين وقال له لما لقيه - يريد المشايخ - إن كنت تريد الجنة فسر إلى أبي مدين وإن كنت تريد رب الجنة فهلم إلي ولما مات أبو محمد انفرد بعده بالرئاسة والإمامة على الفقراء المتجردين فكان يتبعه في أسفاره ما ينيف على أربعمائة فقير فينقسمهم الترتيب في وظائف خدمته صنف كتبا منها كتاب العروة الوثقى في بيان السنن وإحصاء العلوم وما يجب على المسلم أن يعمله ويعتقده إلى وفاته وله كتاب المقاليد الوجودية في أسرار الصوفية و الرسالة القدسية في توحيد العامة والخاصة و المراتب

الإيمانية والإسلامية والإحسانية و الرسالة العلمية وغير ذلك وله ديوان شعر مشهور ومن نظمه قوله رحمه الله تعالى
( لقد تهت عجبا بالتجرد والفقر ... فلم أندرج تحت الزمان ولا الدهر )
( وجاءت لقلبي نفحة قدسية ... فغبت بها عن عالم الخلق والأمر )
( طويت بساط الكون والطي نشره ... وما القصد إلا الترك للطي والنشر )
( وغمضت عين القلب غير مطلق ... فألفيتني ذاك الملقب بالغير )
( وصلت لمن لم تنفصل عنه لحظة ... ونزهت من أعني عن الوصل والهجر )
( وما الوصف إلا دونه غير أنني ... أريد به التشبيب عن بعض ما أدري )
( وذلك مثل الصوت أيقظ نائما ... فأبصر أمرا جل عن ضابط الحصر )
( فقلت له الأسماء تبغي بيانه ... فكانت له الألفاظ سترا على ستر )
وقال
( من لامني لو أنه قد أبصرا ... ما ذقته أضحى به متحيرا )
( وغدا يقول لصحبه إن أنتم ... أنكرتم ما بي أتيتم منكرا )
( شذت أمور القوم عن عاداتهم ... فلأجل ذاك يقال سحر مفترى )
وقال وهي من أشهر ما قال
( أرى طالبا منا الزيادة لا الحسنى ... بفكر رمى سهما فعدى به عدنا )
( وطالبنا مطلوبنا من وجودنا ... نغيب به عنا لدى الصعق إن عنا )
وهي طويلة مشهورة بالشرق والغرب وقد شرحها شيخ شيوخ شيوخنا

العارف بالله تعالى سيدي أحمد زروق نفعنا الله تعالى ببركاته وأشار ابن الخطيب في الإحاطة إلى أنها لا تخلو عن شذوذ من جهة اللسان وضعف في العربية قال ومع ذلك فهي غريبة المنزع أشار فيها إلى مراتب الأعلام من أهل هذه الطريقة وكأنها مبنية على كلام شيخه الذي خاطبه به عند لقائه حسبما قدمناه إذ الحسنى الجنة والزيادة مقام النظر وقوله فيها
( وأظهر منها الغافقي لنا جنى ... وكشف عن أطواره الغيم والدجنا ) هو شيخه أبو محمد بن سبعين لأنه مرسي الأصل غافقيه
ولما وصل الششتري من الشام إلى ساحل دمياط وهو مريض مرض موته نزل قرية بساحل البحر الرومي فقال ما اسم هذه القرية فقيل الطينة فقال حنت الطينة إلى الطينة وأوصى أن يدفن بمقبرة دمياط إذ الطينة بمفازة وأقرب المدن إليها دمياط فحمله الفقراء على أعناقهم إلى دمياط
وكانت وفاته يوم الثلاثاء سابع عشر صفر سنة 668 فدفن بدمياط رحمه الله تعالى ورضي عنه
115 - ومنهم سيدي أبو الحسن علي بن أحمد الحرالي الأندلسي وحرالة قرية من أعمال مرسية غير أنه ولد بمراكش وأخذ بالأندلس عن أبي الحسن بن خروف وغير واحد ورحل إلى المشرق فأخذ عن أبي عبد الله القرطبي إمام الحرم وغيره ولقي جلة من المشايخ شرقا وغربا
وهو إمام ورع صالح زاهد كان بقية السلف وقدوة الخلف وقد زهد في الدنيا وتخلى عنها وأقام في تفسير الفاتحة نحوا من ستة أشهر يلقي في التعليل قوانين تتنزل في علم التفسير منزلة أصول الفقه من الأحكام حتى من الله تعالى ببركات ومواهب لا تحصى وعلى أحكام تلك القوانين

وضع كتابه مفتاح اللب المقفل على فهم القرآن المنزل وهو ممن جمع العلم والعمل وصنف في كثير من الفنون كالأصلين والمنطق والطبيعيات والإلهيات وكان يقرىء النجاة لابن سينا فينقضه عروة عروة وكان من أعلم الناس بمذهب مالك ولما ظن فقهاء عصره أنه لا يحسن المذهب لاشتغاله بالمعقولات أقرأ التهذيب وأبدى فيه الغرائب وبين مخالفته للمدونة في بعض المواضع ووقع بينه وبين الشيخ عز الدين بن عبد السلام شيء وطلب عز الدين أن يقف على تفسيره فلما وقف عليه قال أين قول مجاهد أين قول فلان وفلان وكثر القول في هذا المعنى ثم قال يخرج من بلادنا إلى وطنه يعني الشام فلما بلغ كلامه الشيخ قال هو يخرج وأقيم أنا فكان كذلك وله عدة مؤلفات في الفنون وقال رحمه الله تعالى أقمت ملازما لمجاهدة النفس سبعة أعوام حتى استوى عندي من يعطيني دينارا ومن يزدريني وأصبح - رحمه الله تعالى - ذات يوم ولا شيء لأهله يقيمون به أودهم وكانت أم ولده جارية تسمى كريمة وكانت سيئة الخلق فاشتدت عليه في الطلب وقالت له إن الأصاغر لا شيء لهم فقال الآن يأتي من قبل الوكيل ما نتقوت به فبينما هم كذلك وإذا بالحمال يضرب الباب ومعه قمح فقال لها يا كريمة ما أعجلك ! هذا الوكيل بعث بالقمح فقالت ومن يصنعه فأمر فتصدق به ثم قال لها يأتيك ما هو أحسن منه فانتظرت يسيرا وبدا لها فتكلمت بما لا يليق فبينما هم كذلك وإذا بحمال سميذ فقال لها هذا السميذ أيسر وأسهل من القمح فلم يقنعها ذلك فأمر أيضا بصدقته فلما تصدق به زادت في المقال وإذا برجل على رأسه طعام فقال لها يا كريمة قد كفيت المؤونة هذا الوكيل قد علم بحالك
ومن كراماته أن بعض طلبته اجتمعوا في نزهة وأخذوا حليا من زينة النساء فزينوا به بعض أصحابهم فلما انقضى ذلك واجتمعوا بمجلس الشيخ صار الذي كان في يده الحلي يتحدث ويشير بيده فقال الشيخ يد يجعل

فيها الحلي لا يشار بها في الميعاد
ومنها أنه أصاب الناس جدب ببجاية فأرسل إلى داره من يسوق ماء إلى الفقراء فامتنعت كريمة ونهرت رسله فسمع كلامها فقال للرسول قل لها يا كريمة والله لأشربن من ماء المطر الساعة فرمق السماء بطرفه ودعا الله سبحانه وتعالى ورفع يده به وشرع المؤذن في الأذان ولم يختم المؤذن أذانه حتى كان المطر كأفواه القرب وتوفي رحمه الله تعالى بحماة من بلاد الشام سنة سبع وثلاثين وستمائة انتهى ملخصا من عنوان الدراية للغبريني ووقع للذهبي في حقه كلام على عادته في الحط على هذه الطائفة ثم قال ورأيت شيخنا المجد التونسي يتغالى في تفسيره ورأيت غير واحد معظما له وقوما تكلموا في عقيدته وكان نازلا عند قاضي حماة البارزي وقال لنا شرف الدين البارزي تزوج بحماة وكانت زوجته تشتمه وتؤذيه وهو يتبسم وإن رجلا راهن جماعة على أن يحرجه فقالوا لا تقدر فأتى وهو يعظ وصاح وقال له أنت أبوك كان يهوديا وأسلم فنزل من الكرسي فاعتقد الرجل أنه غضب وأنه تم له ما رامه حتى وصل إليه فخلع مرطيه عليه وأعطاه إياهما وقال له بشرك الله بالخير لأنك شهدت لأبي أنه كان مسلما انتهى
وظاهر كلام الغبريني أن تفسير الشيخ الحرالي كامل وقال بعض إنه لم يكمل وهو تفسير حسن وعليه نسج البقاعي مناسباته وذكر أن الذي وقف عليه منه من أول القرآن إلى قوله في سورة آل عمران ( كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا ) [ آل عمران 37 ]

وكلام الذهبي في الشيخ يرده كلام الغبريني إذ هو أعرف به والله تعالى أعلم
وحكى الغبريني أنه أنشد بين يديه الزجل المشهور
( جنان يا جنان ... اجن من البستان ... الياسمين )
( واترك الريحان ... بحرمة الرحمن ... للعاشقين )
فسأل بعض عن معناه فقال بعض الحاضرين أراد به العذار وقال آخر إنما أشار إلى دوام العهد لأن الأزهار كلها ينقضي زمانها إلا الريحان فإنه دائم فاستحسن الشيخ هذا أو وافق عليه
116 - ومنهم ولي الله العارف به الشيخ الشهير الكرامات الكبير المقامات سيدي أبو العباس المرسي نفعنا الله تعالى به وهو من أكابر الأولياء صحب سيدي الشيخ - الفرد القطب الغوث الجامع سيدي أبا الحسن الشاذلي أعاد الله تعالى علينا من بركاته وخلفه بعده وكان قدم من الأندلس من مرسية وقبره بالإسكندرية مشهور بإجابة الدعوات وقد زرته مرارا كثيرة ودعوت الله عنده بما أرجو قبوله
وقد عرف به الشيخ العارف بالله ابن عطاء الله في كتابه لطائف المنن في مناقب الشيخ سيدي أبي العباس وشيخه سيدي أبي الحسن رضي الله تعالى عنهما
وقال الصفدي في الوافي أحمد بن عمر بن محمد الشيخ الزاهد الكبير العارف أبو العباس الأنصاري المرسي وارث شيخه الشاذلي تصوفا الأشعري معتقدا

توفي بالإسكندرية سنة 686 ولأهل مصر ولأهل الثغر فيه عقيدة كبيرة وقد زرته لما كنت بالإسكندرية سنة 738 قال ابن عرام سبط الشاذلي ولولا قوة اشتهاره وكراماته لذكرت له ترجمة طويلة كان من الشهود بالثغر انتهى وكان سيدي أبو العباس يكرم الناس على نحو رتبهم عند الله تعالى حتى إنه ربما دخل عليه مطيع فلا يحتفل به وربما دخل عليه عاص فأكرمه لأن ذلك الطائع أتى وهو متكثر لعمله ناظر لفعله وذلك العاصي دخل بكسر معصيته وذلة مخالفته وكان شديد الكراهة للوسواس في الصلاة والطهارة ويثقل عليه شهود من كان على صفته وذكر عنده يوما شخص بأنه صاحب علم وصلاح إلا أنه كثير الوسوسة فقال وأين العلم العلم هو الذي ينطبع في القلب كالبياض في الأبيض والسواد في الأسود
وله كلام بديع في تفسير القرآن العزيز فمن ذلك أنه قال قال الله سبحانه وتعالى ( الحمد لله رب العالمين ) [ الفاتحة 2 ] علم الله عجز خلقه عن حمده فحمد نفسه بنفسه في أزله فلما خلق الخلق اقتضى منهم أن يحمدوه بحمده فقال ( الحمد لله رب العالمين ) أي الحمد الذي حمد به نفسه بنفسه هو له لا ينبغي أن يكون لغيره فعلى هذا تكون الألف واللام للعهد وقال في قوله تعالى ( إياك نعبد وإياك نستعين ) إياك نعبد شريعة وإياك نستعين حقيقة إياك نعبد إسلام وإياك نستعين إحسان إياك نعبد عبادة وإياك نستعين عبودية إياك نعبد فرق وإياك نستعين جمع وله في هذا المعنى وغيره كلام نفيس يدل على عظيم ما منحه الله سبحانه من العلوم اللدنية وقال رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى ( اهدنا الصراط المستقيم ) بالتثبيت فيما هو حاصل والإرشاد لما ليس بحاصل وهذا

الجواب ذكره ابن عطية في تفسيره وبسطه الشيخ رضي الله تعالى عنه فقال عموم المؤمنين يقولون ( اهدنا الصراط المستقيم ) معناه نسألك التثبيت فيما هو حاصل والإرشاد لما ليس بحاصل فإنهم حصل لهم التوحيد وفاتهم درجات الصالحين والصالحون يقولون ( اهدنا الصراط المستقيم ) معناه نسألك التثبيت فيما هو حاصل والإرشاد لما ليس بحاصل لأنهم حصل لهم الصلاح وفاتهم درجات الشهداء والشهيد يقول ( اهدنا الصراط المستقيم ) أي بالتثبيت فيما هو حاصل والإرشاد لما ليس بحاصل فإنه حصلت له درجة الشهادة وفاته درجة الصديقية والصديق كذلك يقول ( اهدنا الصراط المستقيم ) إذ حصلت له درجة الصديقية وفاتته درجة القطب والقطب كذلك يقول ( اهدنا الصراط المستقيم ) فإنه حصلت له رتبة القطبانية وفاته علم إذا شاء الله تعالى أن يطلعه عليه أطلعه
وقال رضي الله تعالى عنه الفتوة الإيمان قال الله سبحانه وتعالى ( إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى ) [ الكهف 13 ] وقال رضي الله تعالى عنه في قوله سبحانه وتعالى حاكيا عن الشيطان ( ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم . . . ) الآية [ الأعراف 17 ] ولم يقل من فوقهم ولا من تحتهم لأن فوقهم التوحيد وتحتهم الإسلام وقال رضي الله تعالى عنه التقوى في كتاب الله عز و جل على أقسام تقوى النار قال الله سبحانه وتعالى ( واتقوا النار ) [ آل عمران 131 ] وتقوى اليوم قال الله تعالى ( واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ) [ البقرة 281 ] وتقوى الربوبية قال الله تعالى ( يا أيها الناس اتقوا ربكم ) [ الحج 1 لقمان 23 ] وتقوى الألوهية ( واتقوا الله ) المائدة : 47811 وتقوى الإنية ( واتقون يا أولي الألباب ) [ البقرة الآية 197 ] وقال رضي الله تعالى عنه في قول رسول الله " أنا سيد ولد آدم ولا فخر " أي لا أفتخر بالسيادة وإنما الفخر لي بالعبودية لله وكان كثيرا ما ينشد

( يا عمرو ناد عبد زهراء ... يعرفه السامع والرائي )
( لا تدعني إلا بيا عبدها ... فإنه أشرف أسمائي )
وقال رضي الله تعالى عنه في قول سمنون المحب
( ليس لي في سواك حظ ... فكيفما شئت فاختبرني )
الأولى أن يقول فكيفما شئت فاعف عني إذ طلب العفو أولى من طلب الاختبار
وقال رضي الله تعالى عنه الزاهد جاء من الدنيا إلى الآخرة والعارف جاء من الآخرة إلى الدنيا وقال رضي الله تعالى عنه العارف لا دنيا له لأن دنياه لآخرته وآخرته لربه وقال الزاهد غريب في الدنيا لأن الآخرة وطنه والعارف غريب في الآخرة قال بعض العارفين معنى الغربة في كلام الشيخ رضي الله تعالى عنه أن الزاهد يكشف له عن ملك الآخرة فتبقى الآخرة موطن قلبه ومعشش روحه فيكون غريبا في الدنيا إذ ليست وطنا لقلبه عاين الآخرة فأخذ قلبه فيما عاين من ثوابها ونوالها وفيما شهد من عقوبتها ونكالها فتغرب في هذه الدار وأما العارف فإنه غريب في الآخرة إذ كشف له عن صفات معروفة فأخذ قلبه فيما هناك فصار غريبا في الآخرة لأن سره مع الله تعالى بلا أين فهؤلاء العباد تصير الحضرة معشش قلوبهم إليها يأوون وفيها يسكنون فإن تنزلوا إلى سماء الحقوق أو أرض الخصوص فبالإذن والتمكين والرسوخ في اليقين فلم ينزلوا إلى الخصوص لشهوة ولم يصعدوا إلى الحقوق بسوء الأدب والغفلة بل كانوا في ذلك كله بآداب الله تعالى وآداب رسله وأنبيائه متأدبين وبما اقتضى منهم مولاهم عاملين رضي الله تعالى عنهم ونفعنا بهم آمين

وكلام سيدي الشيخ أبي العباس رضي الله تعالى عنه بحر لا ساحل له وكراماته كذلك وليراجع كتاب تلميذه ابن عطاء الله فإن فيه من ذلك ما يشفي ويكفي وما بقي أكثر ومن كراماته رضي الله تعالى عنه أنه عزم عليه إنسان وقدم إليه طعاما يختبره به فأعرض عنه ولم يأكله ثم التفت إلى صاحب الطعام وقال له إن الحارث المحاسبي رضي الله تعالى عنه كان في أصبعه عرق إذا مد يده إلى طعام فيه شبهة تحرك عليه وأنا في يدي سبعون عرقا تتحرك علي إذا كان مثل ذلك فاستغفر صاحب الطعام واعتذر إلى الشيخ رضي الله تعالى عنه ونفعنا به
117 - ومنهم أبو إسحاق الساحلي المعروف بالطويجن - بضم الطاء المهملة وفتح الواو وسكون الياء التحتية وكسر الجيم وقيل بفتحها - العالم المشهور والصالح المشكور والشاعر المذكور من أهل غرناطة من بيت صلاح وثروة وأمانة وكان أبوه أمين العطارين بغرناطة وكان مع أمانته من أهل العلم فقيها متفننا وله الباع المديد في الفرائض
وأبو إسحاق هذا كان في صغره موثقا بسماط شهود غرناطة وارتحل عن الأندلس إلى المشرق فحج ثم سار إلى بلاد السودان فاستوطنها ونال جاها مكينا من سلطانها وبها توفي رحمه الله تعالى انتهى ملخصا من كلام الأمير ابن الأحمر في كتابه نثير الجمان فيمن نظمني وإياه الزمان
وقال أبو المكارم منديل بن آجروم حدثني من يوثق بقوله أن أبا إسحاق الطويجن كانت وفاته يوم الاثنين 27 جمادى الأخيرة سنة 747 بتنبكتو

موضع بالصحراء من عمالة مالي رحمه الله تعالى ثم ضبط الطويجن بكسر الجيم قال وبذلك ضبطه بخط يده رحمه الله تعالى قال ومن نسبه للساحلي فإنه نسبه لجده للأم انتهى
118 - ومنهم الشيخ الأديب الفاضل المعمر ضياء الدين أبو الحسن علي بن محمد بن يوسف بن عفيف الخزرجي الساعدي من أهل غرناطة ويشهر بالخزرجي مولده ببيغة رحل عن الأندلس قديما واستقر أخيرا بالإسكندرية وبها لقيه الحافظ ابن رشيد غير مرة وقد أطال في رحلته في ترجمته إلى أن قال وذكرنا صاحبنا أبو حيان وهو أحد من أخذ عنه ولقيه فقال تلا القرآن بالأندلس على أبي الوليد هشام بن واقف المقرىء وسمع بها من أبي زيد الفازازي العشرينيات وسمع بمكة من شهاب الدين السهروردي صاحب عوارف المعارف وتلا بالإسكندرية على أبي القاسم بن عيسى ولا يعرف له نظم في أحد من العالم إلا في مدح رسول الله ومن شعره يعارض الحريري
( أهن لأهل البدع ... والهجر والتصنع ... ودن بترك الطمع )
( ولذ بأهل الورع ... )
( وعد عن كل بذي ... لم يكترث بالنبذ ... والهج ببر جهبذ )
( وعالم متضع ... )
( واندب زمانا قد سلف ... ولم تجد منه خلف ... وابعث بأنواع الأسف )
( رسائل التضرع ... )

وهي طويلة فلتراجع ترجمته في ملء العيبة لابن رشيد رحمه الله تعالى
119 - ومنهم الفقيه الجليل العارف النبيل الحاذق الفصيح البارع أبو محمد عبد الحق بن إبراهيم بن محمد بن نصر الشهير بابن سبعين العكي المرسي الأندلسي ويلقب من الألقاب المشرقية بقطب الدين
قال الشيخ المؤرخ ابن عبد الملك درس العربية والآداب بالأندلس ثم انتقل إلى سبتة وانتحل التصوف وعكف برهة على مطالعة كتبه والتكلم على معانيها فمالت إليه العامة ثم رحل إلى المشرق وحج حججا وشاع ذكره وعظم صيته وكثر أشياعه وصنف أوضاعا كثيرة تلقوها منه ونقلوها عنه ويرمى بأمور الله تعالى أعلم بها وبحقيقتها وكان حسن الأخلاق صبورا على الأذى آية في الإيثار انتهى وقال غير واحد إن أغراض الناس فيه متباينة بعيدة عن الاعتدال فمنهم المرهق المكفر ومنهم المقلد المعظم الموقر وحصل بهذين الطرفين من الشهرة والاعتقاد والنفرة والانتقاد ما لم يقع لغيره والله تعالى أعلم بحقيقة أمره ولما ذكر الشريف الغرناطي عنه أنه كان يكتب عن نفسه ابن يعني الدارة التي هي كالصفر وهي في بعض طرق المغاربة في حسابهم سبعون وشهر لذلك بابن دارة - ضمن فيه البيت المشهور
( محا السيف ما قال ابن دارة أجمعا ... )

حسبما ذكره الشريف في شرح مقصورة حازم وقد طال عهدي به فليراجعه من ظفر به وقال صاحب درة الأسلاك في سنة 669 ما صورته وفيها توفي الشيخ قطب الدين أبو محمد عبد الحق بن سبعين المرسي صوفي متفلسف متزهد متقشف يتكلم على طريق أصحابه ويدخل البيت ولكن من غير أبوابه شاع أمره واشتهر ذكره وله تصانيف وأتباع وأقوال يميل إليها بعض القلوب وتملها بعض الأسماع وكانت وفاته بمكة المشرفة عن نحو خمسين سنة تغمده الله تعالى برحمته انتهى وقال بعض الأعلام في حق ابن سبعين إنه كان رحمه الله تعالى عزيز النفس قليل التصنع يتولى خدمة الكثير من الفقراء والسفارة أصحاب العبادات والدفافيس بنفسه ويحفون به في السكك ولما توفرت دواعي النقد عليه من الفقهاء كثر عليه التأويل ووجهت لألفاظه المعاريض وفليت موضوعاته وتعاورته الوحشة وجرت بينه وبين الكثير من أعلام المشرق والمغرب خطوب يطول ذكر ووقع في رسالة لبعض تلامذة ابن سبعين المذكور وأظن اسمه يحيى

بن أحمد بن سليمان وسماها بالوراثة المحمدية والفصول الذاتية ما صورته فإن قيل ما الدليل على أن هذا الرجل الذي هو ابن سبعين هو الوارث المشار إليه قلنا عدم النظير واحتياج الوقت إليه وظهور الكلمة المشار إليها عليه ونصيحته لأهل الملة ورحمته المطلقة للعالم المطلق ومحبته لأعدائه وقصده لراحتهم مع كونهم يقصدون أذاه وعفوه عنهم مع قدرته عليهم وجذبهم إلى الخير مع كونهم يطلبون هلاكه وهذه كلها من علامات الوراثة والتبعية المحضة التي لا يمكن أحدا أن يتصف بها إلا بمجد أزلي وتخصيص إلهي وها أنا أصف لك بعض ما خصه الله سبحانه وتعالى به من الأمور التي هي خارقة للعادة ونلغي عن الأمور الخفية التي لا نعلمها ونقصد الأمور الظاهرة التي نعلمها والتي لا يمكن أحدا أن يستريب فيها إلا من أصمه الله تعالى وأعماه ولا يجحدها إلا حسود قد أتعب الله تعالى قلبه وأنساه رشده ونعوذ بالله ممن عاند من الله تعالى مساعده ومؤيده وهو معه بنصره وعونه فما أتعب معانده وما أسعد موادده وما أكبت مرادده فنبدأ بذكر ما وعدنا فنقول أول ما ذكر في شرفه واستحقاقه لما ذكرنا كونه خلقه الله تعالى من أشرف البيوت التي في بلاد المغرب وهم بنو سبعين قرشيا هاشميا علويا وأبواه وجدوده يشار إليهم ويعول في الرئاسة والحسب والتعين عليهم والثاني كونه من بلاد المغرب والنبي عليه الصلاة و السلام قال " لا يزال أهل المغرب ظاهرين إلى قيام الساعة " وما ظهر من بلاد المغرب رجل أظهر منه فهو المشار إليه بالحديث ثم نقول أهل المغرب أهل الحق وأحق الناس بالحق وأحق المغرب بالحق علماؤه لكونهم القائمين بالقسط وأحق علمائه بالحق محققهم وقطبهم الذي يدور الكل عليه ويعول في مسائلهم ونوازلهم السهلة والعويصة عليه فهو حق المغرب والمغرب حق الله تعالى والملة حق العالم فهو المشار إليه بالوراثة ثم نقول أهل المغرب ظاهرون على الحق

أي على الدين والحق سر الدين والمحقق سر الحق فالمحقق سر الدين فهو المشار إليه بالوراثة ثم نقول أهل الله خير العالم وأهل الحق هم خير أهل الله والمحقق خير أهل الحق فالمحقق خير العالم فهو المشار إليه ثم نقول انظر في بدايته وحفظ القديم له في صغره وضبطه له من اللهو واللعب وإخراجه من اللذة الطبيعية التي هي في جبلة البشرية وتركه للرئاسة العرضية المعول عليها عند العالم مع كونه وجدها في آبائه وهي الآن في إخوته وخروجه عن الأهل والوطن الذي قرنه الحق مع قتل الإنسان نفسه وانقطاعه إلى الحق انقطاعا صحيحا تعلم تخصيصه وخرقه للعادة ثم انظر في تأيده وفتحه من الصغر وتأليف كتاب بدء العارف وهو ابن خمس عشرة سنة وفي جلالة هذا الكتاب وكونه يحتوي على جميع الصنائع العلمية والعملية وجميع الأمور السنية والسنية تجده خارقا للعادة وفي نشأته في بلاد الأندلس ولم يعلم له كثرة نظر وظهوره فيها بالعلوم التي لم تسمع قط تعلم أنه خارق للعادة وفي تواليفه واشتمالها على العلوم كلها ثم انفرادها وغرابتها وخصوصيتها بالتحقيق الشاذ عن أفهام الخلق تعلم بأنه مؤيد بروح القدس وفي شجاعته وقوة توكله في عزمه ونصره لصنائعه وظهور حجته على خصمائه وإقامة حقه وبرهانه وفصاحة كلامه وبيان سلطانه تعلم أن ذلك بقوة إلهية وعناية ربانية وفي امتحان أهل المغرب له واجتماعهم عليه في كل بلد معتبر للمناظرة ويظهر الله تعالى حجته ويقمع خصمه ويكبت عدوه ويعجز معارضه ويفحم معترضه وفي غيرة الحق عليه وهلاك من تعرض بالأذى إليه - يعلم العاقل المخصوص أنه عند الله مخصوص وفي خلقه وقهره لقواه النزوعية والغضبية وإسلام قرينه وجلالة قوته الحافظة التي لا تنسى شيئا والمفكرة التي تتصور الذوات المجردة والمعلومة أسر عين الطيف

وكذلك الذاكرة وسرعة ظهوره وانتشار رايته واستجلاب ثنائه في الجهات كلها وبالجملة جميع ما ذكرت هو فيه خارق للعادة البشرية ومعجز لمعارضه من كل الجهات ولولا خوف التطويل لكنت أفصل كل صفة ذكرت فيه بالكلام الصناعي ونقيم الأدلة القطعية على تعجيزها ولكن أعطيت الأنموذج وعرفت أن النبيه يمعن فكره ويجد ذلك كما قلته
وبالجملة جميع جزئياته إذا تؤملت توجد خارقة للعادة وتشهد لها ماهية الوجود بالتخصيص فصح أنه هو المشار إليه والمعول في جملة الأمور عليه وإنما أعطيت الأمر المشهور وتركت ما يعلم منه من خرق العوائد في ظهور الطعام والشراب والسمن والتمر وأخذ الدراهم من الكون وإخباره عن وقائع قبل وقوعها بسنين كثيرة وظهرت كما أخبر فصح أنه هو المذكور انتهى ما تعلق به الغرض مما في الرسالة في شأن الشيخ ابن سبعين وقد ذكر غير واحد من المؤرخين - ومنهم لسان الدين بن الخطيب في الإحاطة كما سيأتي قريبا - أن ابن سبعين عاقه الخوف من أمير المدينة عن القدوم إليها فعظم عليه بذلك الحمل وقبحت الأحدوثة عنه انتهى لكن قال شهاب الدين بن أبي حجلة التلمساني الأديب الشهير وهو صاحب كتاب السكردان وديوان الصبابة ومنطق الطير والاعتراض على العارف بالله تعالى ابن الفارض ما معناه أخبرني الشيخ الصالح أبو الحسن بن برغوش التلمساني شيخ المجاورين بمكة وكانت له معرفة تامة بهذا الرجل أنه صده عن زيارة رسول الله أنه كان إذا قرب من باب من أبواب مسجد المدينة على ساكنها الصلاة والسلام يهرق منه دم كدم الحيض والله تعالى أعلم بحقيقة أمره انتهى وقال غيره نعم زار النبي مستخفيا على طريق المشاة حدث بذلك أصهاره بمكة انتهى

وقال لسان الدين أما شهرته ومحله من الإدراك والآراء والأوضاع والأسماء والوقوف على الأقوال والتعمق في الفلسفة والقيام على مذاهب المتكلمين فما يقضى منه العجب وقال الشيخ أبو البركات بن الحاج البلفيقي رحمه الله تعالى حدثني بعض أشياخنا من أهل المشرق أن الأمير أبا عبد الله بن هود سالم طاغية النصارى فنكث به ولم يف بشرطه فاضطره ذلك إلى مخاطبة القس الأعظم برومية فوكل أبا طالب بن سبعين أخا أبي محمد عبد الحق بن سبعين في التكلم عنه والاستظهار بين يديه قال فلما بلغ ذلك الشخص رومية وهو بلد لا يصل إليه المسلمون ونظر إلى ما بيده وسئل عن نفسه فأخبر بما ينبغي كلم ذلك القس من دنا منه بكلام معجم ترجم لأبي طالب بما معناه اعلموا أن أخا هذا ليس للمسلمين اليوم أعلم بالله منه انتهى وقال غير واحد اشتهرت عنه أشياء كثيرة الله تعالى أعلم باستحقاقه رتبة ما ادعاه منها فمنها قوله - فيما زعموا - وقد جرى ذكر الشيخ ولي الله سيدي أبي مدين نفعنا الله تعالى ببركاته شعيب عبد عمل ونحن عبيد حضرة وممن حكى هذا لسان الدين في الإحاطة وقد ذكر ابن خلدون في تاريخه الكبير في ترجمة السلطان المستنصر بالله تعالى أبي عبد الله محمد ابن السلطان زكريا بن عبد الواحد بن أبي حفص ملك إفريقية وما إليها أن أهل مكة بايعوه وخطبوا له بعرفة وأرسلوا له بيعتهم

وهي من إنشاء ابن سبعين وسردها ابن خلدون بجملتها وهي طويلة وفيها من البلاغة والتلاعب بأطراف الكلام ما لا مطمح وراءه غير أنه يشير فيها إلى أن المستنصر هو المهدي المبشر به في الأحاديث الذي يحثو المال ولا يعده وحمل حديث مسلم وغيره عليه وذلك ما لا يخفى ما فيه فليراجع كلام ابن خلدون في محله ولابن سبعين من رسالة سلام عليك ورحمة الله سلام عليك ثم سلام مناجاتك سلام الله ورحمة الله الممتدة على عوالمك كلها السلام عليك يا أيها النبي ورحمة الله تعالى وبركاته وصلى الله عليك كصلاة إبراهيم من حيث شريعتك وكصلاة أعز ملائكتك من حيث حقيقتك وكصلاته من حيث حقه ورحمانيته السلام عليك يا حبيب الله السلام عليك يا قياس الكمال ومقدمة العلم ونتيجة الحمد وبرهان المحمود ومن إذا نظر الذهن إليه قرأ ( نعم العبد ) [ سورة ص 30 ] السلام عليك يا من هو الشرط في كمال الأولياء وأسرار مشروطات الأذكياء الأتقياء السلام عليك يا من جاوز في السموات مقام الرسل والأنبياء وزادك رفعة واستعلاء على ذوات الملإ الأعلى وذكر قوله تعالى ( سبح اسم ربك الأعلى ) [ الأعلى 1 ]
وقال بعضهم عند إيراده جملة من رسائله التي منها هذه إنها تشتمل على ما يشهد له بتعظيم النبوة وإيثار الورع انتهى وقال بعض العلماء الأكابر عند تعرضه لترجمة الشيخ ابن سبعين المترجم به ما نصه ببعض اختصار هو أحد المشايخ المشهورين بسعة العلم وتعدد المعارف وكثرة التصانيف ولد سنة 614 ودرس العربية والأدب بالأندلس ونظر في العلوم العقلية وأخذ عن أبي إسحاق بن دهاق وبرع في طريقه وجال في البلاد وقدم القاهرة ثم حج واستوطن مكة وطار صيته وعظم أمره وكثر أتباعه حتى إنه تلمذ له أمير مكة فبلغ من التعظيم الغاية وله كتاب الدرج وكتاب السفر وكتاب الأبوية اليمنية وكتاب الكد

وكتاب الإحاطة ورسائل كثيرة في الأذكار وترتيب السلوك والوصايا والمواعظ والغنائم
ومن شعره
( كم ذا تموه بالشعبين والعلم ... والأمر أوضح من نار على علم )
( وكم تعبر عن سلع وكاظمة ... وعن زرود وجيران بذي سلم )
( ظللت تسأل عن نجد وأنت بها ... وعن تهامة هذا فعل متهم )
( في الحي حي سوى ليلى فتسأله ... عنها سؤالك وهم جر للعدم )
ونشأ رحمه الله تعالى ترفا مبجلا في ظل جاه ونعمة لم تفارق معها نفسه البأو وكان وسيما جميلا ملوكي البزة عزيز النفس قليل التصنع وكان آية من الآيات في الإيثار والجود بما في يده رحمه الله تعالى وقال في الإحاطة للناس في أمره اختلاف بين الولاية وضدها ولما وجه إلى كلامه سهام الناقدين قصر أكثرهم عن مداه في الإدراك والخوض في تلك البحار والاطلاع وساءت منهم في الممازجة له السيرة فانصرفوا عنه مكلومين يبذرون عنه في الآفاق من سوء القالة ما لا شيء فوقه وجرت بينه وبين أعلام المشرق خطوب ثم نزل مكة وعاقه الخوف من أمير المدينة

المعظمة عن الدخول إليها إلى أن توفي فعظم بذلك الحمل عليه
وقبحت الأحدوثة عنه ولما وردت على سبتة المسائل الصقلية - وكانت جملة من المسائل الحكمية وجهها علماء الروم تبكيتا للمسلمين - انتدب للجواب المقنع عنها على فتاء من سنه وبديهة من فكرته رحمه الله تعالى انتهى وقال بعض من عرف به إنه من أهل مرسية وله علم وحكمة ومعرفة ونباهة وبراعة وفصاحة وبلاغة وقال في عنوان الدراية رحل إلى العدوة وسكن ببجاية مدة ولقي من أصحابنا ناسا وأخذوا عنه وانتفعوا به في فنون خاصة له مشاركة في معقول العلوم ومنقولها وله فصاحة لسان وطلاقة قلم وفهم جنان وهو أحد الفضلاء وله أتباع كثيرة من الفقراء ومن عامة الناس وله موضوعات كثيرة هي موجودة بأيدي أصحابه وله فيها ألغاز وإشارات بحروف أبجد وله تسميات مخصوصة في كتبه من نوع الرموز وله تسميات ظاهرة هي كالأسامي المعهودة وله شعر في التحقيق وفي مراقي أهل الطريق وكتابته مستحسنة في طريق الأدباء وله من الفضل والمزية ملازمته لبيت الله الحرام والتزامه الاعتمار على الدوام وحجه مع الحجاج في كل عام وهذه مزية لا يعرف قدرها ولا يرام ولقد مشى به للمغاربة في الحرم الشريف حظ لم يكن لهم في غير مدته وكان أهل مكة يعتمدون على أقواله ويهتدون بأفعاله
توفي رحمه الله تعالى يوم الخميس تاسع شوال سنة 669 انتهى ببعض اختصار

وذكر رحمه الله تعالى في ترجمة تلميذه الشيخ أبي الحسن الششتري السابق الذكر أن أكثر الطلبة يرجحونه على شيخه أبي محمد بن سبعين وإذا ذكر له هذا يقول إنما ذلك لعدم اطلاعهم على حال الشيخ وقصور طباعهم ومن تآليف ابن سبعين الفتح المشترك رجع إلى الششتري
ومما حكاه صاحب عنوان الدراية في ترجمة الششتري - مما لم نذكره في ترجمته الماضية ورأينا ذكره هنا تبركا أن الششتري كان في بعض أسفاره في البرية وكان رجل من أصحابه قد أسر فسمعه الفقراء يقول إلينا يا أحمد فقيل له من أحمد الذي ناديته يا سيدي في هذه البرية فقال لهم من تسرون به غدا إن شاء الله تعالى فلما كان من الغد ورد الشيخ وأصحابه بلدة قابس فعند دخولهم إذا بالرجل المأسور فقال الشيخ للفقراء هنيئا لنا باقتحام العقبة صافحوا أخاكم المنادى به ومن مناقبه - نفع الله تعالى به - أنه لما نزل بلدة قابس برباط البحر المعروف بمسجد الصهريج جاءه الشيخ الصالح أبو إسحاق الزرناني نفع الله تعالى به بجميع أصحابه برسم الزيارة فوافق وصوله وصول الشيخ الصالح الفاضل الولي أبي عبد الله الصنهاجي - نفع الله تعالى به - مع جملة أصحابه للزيارة فوجدوا الشيخ أبا الحسن قد خرج إلى موضع بخارج المدينة برسم الخلوة فجلسوا لانتظاره فلم يكن إلا قليل إذ أقبل الشيخ على هيئة معتبر متفكر فلما دخل الرباط سلم على الواصلين برسم الزيارة وحيا المسجد وأقبل على الفقراء وأثر العبرة على وجنته فقال ائتوني بمداد

فلما أحضر بين يديه تأوه تأوها شديدا كاد أن يحرق بنفسه جليسه وجعل يكتب فى لوح هذه الأبيات
( لا تلتفت بالله يا ناظري ... لأهيف كالغصن الناضر )
( يا قلب واصرف عنك وهم البقا ... وخل عن سرب حمى حاجر )
( ما السرب والبان وما لعلع ... ما الخيف ما ظبي بني عامر )
( جمال من سميته داثر ... ما حاجة العاقل بالداثر )
( وإنما مطلبه في الذي ... هام الورى من حسنه الباهر )
( أفاد للشمس سنى كالذي ... أعاره للقمر الزاهر )
( أصبحت فيه مغرما حائرا ... لله در المغرم الحائر )
وكانوا يوما ببلد مالقة وكثيرا ما يجود عليه القرآن العزيز فقرأ طالب قوله تعالى ( إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني ) فقال معجلا رضي الله تعالى عنه وفهم من الآية ما لم يفهم وعلم منها ما لم يعلم
( انظر للفظ أنا يا مغرما فيه ... من حيث نظرتنا لعل تدريه )
( خل ادخارك لا تفخر بعارية ... لا يستعير فقير من مواليه )
( جسوم أحرفه للسر حاملة ... إن شئت تعرفه جرب معانيه )
ودخل عليه شخص ببجاية من أهلها يعرف بأبي الحسن بن علال من أهل الأمانة والديانة فوجده يذاكر بعض أهل العلم فاستحسن منه إيراده للعلم واستعماله للمحاضرة الفهم فاعتقد شياخته وتقديمه ثم نوى أن يؤثر الفقراء من ماله بعشرين دينارا شكرا لله تعالى ويأتيهم بمأكول فلما يسر جيمع ما اهتم به أراد أن يقسمه فيعطيه شطره ويدع الشطر الثاني إلى حين انصراف الشيخ

ليكون للفقراء زادا فلما كان في الليل رأى في منامه النبي ومعه أبو بكر وعلي رضي الله تعالى عنهما قال الرجل فنهضت إليه بسرور رؤية النبي وقلت يا رسول الله ادع الله تعالى لي فالتفت لأبي بكر رضي الله تعالى عنه وقال يا أبا بكر أعطه فإذا به رضي الله عنه قسم رغيفا كان بيده وأعطاني نصفه ثم أفاق الرجل من منامه وأخذه وجد من هذه الرؤيا المباركة فأيقظ أهله واستعمل نفسه في العبادة فلما كان من الغد سار وأتى الشيخ ببعض الطعام ونصف الدراهم المحتسب بها فلما دفعها للشيخ قال له الشيخ يا علي اقرب فلما قرب قال له يا علي لو أتيت بالكل لأخذت منه الرغيف بكماله انتهى
120 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الشهير بابن غصن الأشبيلي من ولد شداد بن أوس الأنصاري الجزيري نسبة إلى الجزيرة الخضراء الإمام المقري الزاهد عرض على الأستاذ ابن أبي الربيع الموطأ من حفظه وأخذ عنه النحو وكان من أولياء الله تعالى الصالحين وعباده الناصحين آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر قوالا بالحق لا تأخذه في الله لومة لائم عارفا بمتون الحديث وأحكامه فقيها متقنا لمذاهب الأئمة الأربعة والصحابة والتابعين لا يقبل من أحد شيئا مخلصا لله تعالى يتكلم على المنبر على عادة أهل العلم من تعليم المسائل الدينية وأقرأ القرآن بمكة مدة بالقراءات وبالمدينة وبيت المقدس وممن قرأ عليه خليل إمام المالكية بالحرم والشهاب الطبري إمام الحنفية بالحرم وله مصنفات في القراءات منها مختصر الكافي وكتاب في معجزات النبي ومولده سنة 631 تخمينا

( وقفوا عند قبره ساعة الدفن ... وقوفا ضرورة الامتثال )
( ومددنا الأكف نطلب قصرا ... مسكنا للنزيل من ذي الجلال )
( آخر الآي من سبأ الحظ منه ... حظه جاء أول الأنفال )
( يا بيان الإعراب يا جامع الإغراب ... يا مفهما لكل مقال )
( يا فريد الزمان في النظم والنثر ... وفي نقل مسندات العوالي )
( كم علوم بثثتها في أناس ... علموا ما بثثت عند الزوال )
انتهت ملخصة قال الصفدي وما رأيت مرثية في نحوي أحسن منها على طولها انتهى
ودفن ابن مالك بسفح قاسيون بتربة القاضي عز الدين ابن الصائغ وقال العجيسي بتربة ابن جعوان ورثاه الشيخ بهاء الدين بن النحاس بقوله
( قل لابن مالك ان جرت بك أدمعي ... حمرا يحاكيها النجيع القاني )
( فلقد جرحت القلب حين نعيت لي ... وتدفقت بدمائه أجفاني )
( لكن يهون ما أجن من الأسى ... علمي بنقلته إلى رضوان )
( فسقى ضريحا ضمه صوب الحيا ... يهمي به بالروح والريحان )
وابن النحاس المذكور أحد تلامذة ابن مالك وهو القائل يخاطب رضي الدين الشاطبي الأندلسي وقد كلفه أن يشتري له قطرا
( أيها الأوحد الرضي الذي طال ... علاء وطاب في الناس نشرا )
( أنت بحر لا غرو إن نحن وافيناك ... راجين من نداك القطرا )

وتوفي ببيت المقدس آخر سنة 723 رحمه الله تعالى أحمد بن يوسف اللبلي
121 - ومنهم الشيخ الفقيه الأستاذ النحوي التاريخي اللغوي أبو جعفر أحمد بن يوسف الفهوي اللبلي يكنى أبا العباس وأبا جعفر قرأ بالأندلس على مشايخ من أفضلهم الأستاذ أبو علي عمر الشلوبين ثم ارتحل إلى العدوة وسكن بجاية وأقرأ بها مدة وارتحل إلى المشرق فحج ثم رجع إلى حضرة تونس واتخذها وطنا واشتغل بها بالإقراء إلى أن مات كان يتبسط لإقراء سائر كتب العربية وله علم جليل باللغة وله تواليف كثيرة منها على الجمل و شرح الفصيح لثعلب ولم يشذ فيه شيء من فصيح كلام العرب قال الغبريني رحمه الله تعالى ورأيت له تأليفا في الأذكار وله عقيدة في علم الكلام ورأيت له مجموعا سماه الإعلام بحدود قواعد الكلام تكلم فيه على الكلم الثلاث الاسم والفعل والحرف وله تواليف أخر وكان من أساتيذ إفريقية في وقته وممن أخذ عنه واستفيد منه انتهى
وذكر الشيخ أبو الطيب بن علوان التونسي عن والده أحمد التونسي الشهير بالمصري أن للمذكور تأليفا سماه التجنيس وله شرح أبيات الجمل سماه وشي الحلل رفعه للملك المستنصر الحفصي بتونس فدفعه المستنصر للأستاذ أبي الحسن حازم وأمره أن يتعقب عليه ما فيه من خلل وجده فحكى أبو عبد الله القطان المسفر - وكان يخدم حازما - قال كنت يوما بدار أبي الحسن حازم وبين يديه هذا الكتاب فسمعت نقر الباب فخرجت فإذا بالفقيه أبي جعفر فرجعت وأخبرت أبا الحسن فقام مبادرا حتى أدخله وبالغ في بره وإكرامه فرأى الكتاب بين يديه فقال له يا أبا الحسن قال الشاعر

( وعين الرضى عن كل عيب كليلة ... )
فقال له يا فقيه أبا جعفر أنت سيدي وأخي ولكن هذا أمر الملك لا يمكن فيه إلا قول الحق والعلم لا يحتمل المداهنة فقال له فأخبرني بما عثرت عليه قال له نعم فأظهر له مواضع فسلمها أبو جعفر وبشرها وأصلحها بخطه
وأصل هذا اللبلي من لبلة بالأندلس اجتمع في رحلته للمشرق بالقاضي ابن دقيق العيد وكان نحويا فلما دخل عليه اللبلي قال له القاضي خير مقدم ثم سأله بعد حين بم انتصب خير مقدم فقال له اللبلي على المصدر وهو من المصادر التي لا تظهر أفعالها وقد ذكره سيبويه ثم سرد عليه الباب من أوله إلى آخره فإنه كان يحفظ أكثره فأكرمه القاضي وعظمه
ثم قال ابن علوان وذكر والدي أيضا رحمه الله تعالى ومن خطه المبارك نقلت أن الأستاذ أبا جعفر اللبلي المذكور رحمه الله تعالى قرئ عليه يوما قول امرئ القيس
( حي الحمول بجانب العزل ... إذ لا يلائم شكلها شكلي )
فقال لطلبته ما العامل في هذا الظرف يعني إذ فتنازعوا القول فقال حسبكم قرئ هذا البيت على أستاذنا أبي علي الشلوبين فسألنا هذا السؤال وكان أبو الحسن ابن عصفور قد برع واستقل وجلس للتدريس وكان الشلوبين يغض منه فقال لنا إذا خرجتم فاسألوا ذلك الجاهل يعني ابن عصفور فلما خرجنا سرنا إليه بجمعنا ودخلنا المسجد فرأيناه قد دارت به حلقة كبيرة وهو يتكلم بغرائب النحو فلم نجسر على سؤاله لهيبته

وانصرفنا ثم جئنا بعد على عادتنا لأبي علي فنسي حتى قرئ عليه قول النابغة
( فعد عما ترى إذ لا ارتجاع له ... )
فتذكر وقال ما فعلتم في سؤال ابن عصفور فصدقنا له الحديث فأقسم ألا يخبرنا ما العامل فيه ثم قال اللبلي لطلبته وأنا أقول لكم مثل ذلك فانظروا لأنفسكم قالوا فنظرنا فإذا المسألة مسألة فحص ونظر كلما حكمنا بحكم صدتنا عنه قوانين نحوية حتى مضت مدة طويلة فوفد علينا بتونس المحروسة أحد طلبة ابن أبي الربيع وكان ابن أبي الربيع هذا ساكنا بسبتة وهو أحد طلبة الشلوبين أيضا ومن كبار هذه الطبقة التي نشأت بعده قالوا فتذاكرنا مع هذا الطالب في مسائل نحوية فمرت هذه المسألة في قوله تعالى ( إذ نسويكم برب العالمين ) [ الشعراء 98 ] فقال هذا الطالب إن هذا الظرف وقع موقع لام العلة فعلمنا أن هذا هو الذي أراد الأستاذ أبو علي ثم ناقشنا الطالب وقلنا له إذا جعلته ظرفا فلا بد من العامل وإذا جعلته واقعا موقع الحرف كان هذا على شذوذ قول الكوفيين والذي يجوز عكسه على مذهب الجميع وإنما الأولى أن يقال إذ حرف معناه التعليل تشترك فيه الأسماء والحروف كما اشتركت في عن والله أعلم بغيبه انتهى بن أحمد
122 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر ابن فرح القرطبي قال الحافظ المقريزي وفرح بسكون الراء وقال الحافظ عبد الكريم في حقه إنه كان من عباد الله الصالحين والعلماء العارفين الورعين الزاهدين في الدنيا المشتغلين بما يعنيهم من أمور الآخرة فيما بين توجه وعبادة وتصنيف جمع في تفسير القرآن كتابا خمسة عشر مجلدا وشرح أسماء الله الحسنى في

مجلدين وله كتاب التذكرة في أمور الآخرة في مجلدين وشرح التقصي وله تآليف غير ذلك مفيدة وكان مطرح التكلف يمشي بثوب واحد وعلى رأسه طاقية سمع من الشيخ أبي العباس أحمد بن عمر القرطبي صاحب المفهم في شرح مسلم بعض هذا الشرح وحدث عن أبي الحسن علي بن محمد بن علي بن حفص اليحصبي وعن الحافظ أبي علي الحسن بن محمد بن محمد البكري وغيرهما وتوفي بمنية ابن خصيب ليلة الاثنين التاسع من شوال سنة 671 ودفن بها رحمه الله تعالى ! وفي تاريخ الكتبي في حقه ما نصه كان شيخا فاضلا وله تصانيف مفيدة تدل على كثرة اطلاعه ووفور علمه منها تفسير القرآن مليح إلى الغاية اثنا عشر مجلدا انتهى
وكتب بعض تلامذته على الهامش ما صورته قد أجحف المصنف في ترجمته جدا وكان متقننا متبحرا في العلم انتهى وكتب بعض بأثر هذا الكلام ما نصه قال الذهبي رحل وكتب وسمع وكان يقظا فهما حسن الحفظ مليح النظم حسن المذاكرة ثقة حافظا انتهى وكتب آخر أثر ذلك الكلام ما صورته مشاحة شيخنا للمصنف في هذه العبارة مالها فائدة فإن الذهبي قال في تاريخ الإسلام العلامة أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الإمام القرطبي إمام متفنن متبحر في العلم له تصانيف مفيدة تدل على كثرة اطلاعه ووفور عقله وفضله ثم ذكر موته وقال بعده وقد سارت بتفسيره العظيم الشأن الركبان وله الأسنى في شرح الأسماء الحسنى و التذكرة وأشياء تدل على إمامته وذكائه وكثرة اطلاعه انتهى وكتب آخر بآثر هذا الكلام ما نصه غفر الله لك ! إذا كان الذهبي ترجمه بما ذكرت وهو والله فوق ذلك فكيف تقول إن مشاحة شيخك لا فائدة فيها وتسيء الأدب معه

وتقول إن كلامه لا فائدة فيه فالله 9 يستر عليك انتهى
123 - ومنهم أبو القاسم ابن حاضر الجزيري الخزرجي محمد بن أحمد من جزيرة شقر قدم مصر وسكن قوص بعد ما كان من عدول بلنسية وكان فصيحا عالما بصناعة التوريق وله نظم لم يحضرني الآن شيء منه ومات بالقاهرة سنة تسع وثلاثين وستمائة رحمه الله تعالى
124 - ومنهم أبو القاسم التجيبي محمد بن أحمد التجيبي من أهل بلش قرأ على ابن مفرج وابن أبي الأحوص ورحل فاستوطن القاهرة وكان شيخا فاضلا خيرا له أدب وشعر منه قوله من أبيات
( أحوى الجفون له رقيب أحول ... الشيء في إدراكه شيئان )
( يا ليته ترك الذي أنا مبصر ... وهو المخير في الغزال الثاني )
ولد ببلش سنة 623 وتوفي بالحسينية خارج القاهرة سلخ المحرم سنة 695 وممن روى عنه نحوي الزمان أثير الدين ابو حيان وغيره رحم الله تعالى الجميع
125 - ومنهم أبو بكر الخزرجي محمد بن أحمد بن حسن وقيل محمد بن عيسى المالقي المالكي قال الشريف أبو القاسم إنه كان أحد الزهاد الورعين وعباد الله المتقين مشتغلا بنفسه متخليا عما في أيدي الناس يأكل من كسب يده ولا يقبل لأحد شيئا مع وجد وعمل وفضل وأدب

ولم يكن في زمانه من اجتمع فيه ما اجتمع له
وقال الحافظ عبد الكريم إنه دخل إشبيلية واشتغل بالعربية على الشلوبين وقرأ القراءات السبع ثم قدم مصر واشتغل بمذهب مالك وكان والده نجارا وكان لا يأكل إلا من كسب يده يخيط الثياب فازدحم الناس عليه تبركا به فترك ذلك وصار يدق القصدير ويأكل منه ويتصدق بما فضل عنه وكان شديد الزهد كثير العبادة لا يسلم يده إلى أحد ليقبلها وجاءه شخص قد زيد عليه في أجرة مسكنه ليشفع إلى صاحب الدار أن لا يقبل الزائد فمضى إلى صاحب الدار وأعطاه الزائد مدة أشهر فعلم بذلك الساكن بعد مدة فقال له يا سيدي ما سألت إلا شفاعة وأنت تزن عني فقال له رجل له دار يأخذ أجرتها يجيء إليه الخزرجي يقطع عليه حقه والله ما يدفع هذا إلا أنا فلم يزل يدفع الزائد إلى أن انتقل الساكن إلى غيره ومات ليلة الثامن والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة 651 عن خمس وأربعين سنة ودفن بالقرافة رحمه الله تعالى ونفعنا
126 - ومنهم أبو بكر محمد بن أحمد بن خليل بن فرج الهاشمي مولاهم لأن ولاءه لبني العباس من أهل قرطبة ولد في شهر رمضان سنة 322 بقرطبة وسمع بها من وهب بن مسرة وخالد بن سعيد وغيره ورحل فحج وأدرك بمصر ابن الورد وابن رشيق وأبا علي بن السكن ونظراءهم في سنة 349 وعاد إلى بلده وبها مات في شهر رمضان سنة ست وأربعمائة قال ابن بشكوال كان رجلا صالحا فاضلا من أهل الاجتهاد في العبادة مائلا إلى التقشف والزهادة قديم الطلب حسن المذهب متبعا للسنن
127 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن سليمان بن أحمد بن إبراهيم الزهري الأندلسي الإشبيلي ولد بمالقة وطاف الأندلس وطلب العلم وحصل طرفا صالحا من علم الأدب ودخل مصر قبل التسعين وخمسمائة فسمع الحديث بها ودخل الشام وبلاد الجزيرة وقدم بغداد سنة 590 وعمره ثلاثون سنة وأقام بها مدة وسمع من شيوخها كأبي الفرج ابن كليب ونحوه وقرأ ونسخ بخطه وسافر إلى أصبهان وبلاد الجبل وكان فاضلا حسن المعرفة بالأدب يقول الشعر وينشئ المقامات وصنف كتاب البيان والتبيين في أنساب المحدثين ستة أجزاء وكتاب البيان فيها أبهم من الأسماء في القرآن مجلد وكتاب أقسام البلاغة وأحكام الصناعة في مجلدين وكتاب شرح الإيضاح لأبي علي الفارسي في خمسة عشر مجلدا وكتاب شرح المقامات مجلد وكتاب شرح اليميني في مجلد قال المنذري توفي شهيدا قتله التتار في رجب وقال ابن النجار في سابع عشر رجب سنة 617 رحمه الله تعالى
128 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الأعلى بن القاسم القرطبي المقرىء المعروف بالورشي نسبة إلى قراءة ورش لاشتهاره بها وهو أحد القراء المعروفين قال الحاكم هو من الصالحين المذكورين بالتقدم في علم القرآن سمع بمصر والشام والحجاز والعراقين والجبل وأصبهان وورد نيسابور ودخل خراسان فسمع علي بن المرزبان بأصبهان وبالأهواز عبد الواحد ابن خلف الجنديسابوري وبفارس أحمد بن عبد الرحمن بن الجارود الرقي

وقال ابن النجار قدم بغداد وحدث بها توفي بسجستان في ربيع الأول سنة 393
129 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد الباجي اللخمي قال ابن بشكوال مولده في صفر سنة 356 وسمع عن جده ورحل إلى المشرق وقال ابن غلبون في مشيخته إنه كان من أهل العلم والحديث والرواية والحفظ للمسائل قائما بها واقفا عليها قاعدا للشروط محسنا لها عارفا وبيتهم بيت علم ونشأ فيه هو وأبوه وجده وكان جميعهم في الفضل والتقدم على درجاتهم في السن وعلى منازلهم في السبق وكانت رحلته مع أبيه وروايتهما واحدة وشاركه في السماع والرواية عن جده وسمع بمصر من أبي الحسن أحمد بن عبد الله بن حميد بن زريق المخزومي
وقال ابن بشكوال كان من أجل الفقهاء عندنا دراية ورواية بصيرا بالعقود ومتقدما على أهل الوثائق عارفا بعللها وألف فيها كتابا حسنا وكتابا في السجلات إلى ما جمع فيه من أقوال الشيوخ والمتأخرين مع ما كان عليه من الطريقة المثلى وتوفية العلم حقه من الوفاء والتصون توفي في المحرم سنة 433 لعشرين بقين منه
130 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد العزيز العتبي الأندلسي القرطبي الفقيه المالكي المشهور صاحب العتبية سمع بالأندلس من يحيى بن يحيى وسعيد بن حسان وغيرهما ورحل إلى المشرق فسمع من سحنون وأصبغ بن الفرج وغيرهما وكان حافظا للمسائل جامعا لها عالما بالنوازل وهو الذي جمع المستخرجة من الأسمعة المسموعة غالبا من مالك

ابن أنس وتعرف بالعتبية وأكثر فيها من الروايات المطروحة والمسائل الغريبة الشاذة وكان يؤتى بالمسألة الغريبة الشاذة فإذا سمعها قال أدخلوها في المستخرجة ولذا روى عن ابن وضاح أنه كان يقول المستخرجة فيها خطأ كثير كذا قال ولكن الكتاب وقع عليه الاعتماد من أعلام المالكية كابن رشد وغيره قال ابن يونس توفي بالأندلس سنة 255
والعتبي نسبة إلى عتبة بن أبي سفيان بن حرب وقيل إلى جد للمذكور يسمى عتبة وقيل إلى ولاء عتبة بن أبي يعيش
131 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن زكريا المعافري المقرىء الفرضي الأديب ولد بالأندلس سنة 591 ونشأ ببلنسية وأقام بالإسكندرية وقرأ القرآن على أصحاب ابن هذيل ونظم قصيدة في القراءات على وزن الشاطبية لكن أكثر أبياتا وصرح فيها بأسماء القراء ولم يرمز كما فعل الشاطبي وكانت له يد في الفرائض والعروض مع معرفة القراءات والأدب
ومن شعره
( إذا ما اشترت بنت أباها فعتقها ... بنفس الشرا شرعا عليها تأصلا )
( وميراثه إن مات من غير عاصب ... ومن غير ذي فرض لها قد تأثلا )
( لها النصف بالميراث والنصف بالولا ... فإن وهب ابنا أو شراه تفضلا )
( فأعتق شرعا ذلك الابن ما لها ... سوى الثلث والثلثان للأخ أصلا )
( وميراثها فيه إذا مات قبلها ... كميراثها في الأب من قبل يجتلى )
( ومولى أبيها ما لها الدهر فيه من ... ولاء ولا إرث مع الأب فاعتلى )
وهذه المسألة ذكر الغزالي في الوسيط أنه قضى فيها أربعمائة قاض وغلطوا وصورتها ابنة اشترت أباها فعتق عليها ثم اشترى الأب ابنا فعتق عليه ثم

اشترى الأب عبدا فأعتقه ثم مات الأب فورثه الابن والبنت للذكر مثل حظ الأنثيين ثم مات العبد المعتق فلمن يكون ولاؤه وفرضها المالكية على غير هذا الوجه وهي مشهورة
132 - ومنهم محمد بن أحمد بن محمد بن سهل أبو عبد الله الأموي الأندلسي الطليطلي المعروف بالنقاش نزل مصر وقعد للإقراء بجامع عمرو بن العاص وأخذ عنه جماعة وتوفي بمصر سنة 529
133 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد القيسي القبري القرطبي المؤدب رحل من الأندلس سنة 342 فسمع بمصر من أبي محمد ابن الورد وأبي قتيبة مسلم بن الفضل البغدادي وغيره وكان صالحا خيرا مؤدبا سمع من الناس كثيرا وتوفي سنة 362
والقبري بفتح القاف وسكون الباء الموحدة ثم راء مهملة - نسبة إلى قبرة بلد بالأندلس بقرب قرطبة بنحو ثلاثين ميلا
134 - ومنهم جمال الدين أبو بكر الوائلي محمد بن أحمد بن محمد ابن عبد الله بن سجمان الشريشي المالكي ولد بشريش سنة 601 ورحل فسمع بالإسكندرية من ابن عماد الحراني وبدمشق من مكرم بن أبي الصقر وبحلب من أبي البقاء يعيش بن علي النحوي وسمع بإربل وبغداد وأقام بالمدرسة الفاضلية من القاهرة مدة يفيد الناس فتخرج به جماعة وولي مشيخة المدرسة بالقدس ومشيخة الرباط الناصري بالجبل وأقام بدمشق يفتي

ويدرس وكان من العلماء الزهاد كثير العبادة والورع والزهد أحد الأئمة المبرزين المتبحرين في العربية والفقه على مذهب الإمام مالك والتفسير والأصول وصنف كتابا في الاشتقاق وشرح ألفية ابن معطي وأخذ عنه الناس وطلب للقضاء بدمشق فامتنع منه زهدا وورعا وبقي المنصب لأجله شاغرا إلى أن مات برجب سنة 685 ودفن بقاسيون
وسجمان بسين مهملة مضمومة ثم جيم ساكنة بعدها ميم مفتوحة ونون
135 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن يحيى بن مفرج القرطبي المعروف والده بالقنتوري وكان جد أبيه مفرج صاحب الركاب للحكم بن عبد الرحمن الداخل وكان أبوه أحمد بن يحيى رجلا صالحا وولد هو سنة 315 وكان سكناه بقرطبة بقرب عين قنت أورية وسمع بقرطبة من قاسم ابن أصبغ كثيرا ومن ابن أبي دليم والخشني ورحل سنة 337 فسمع بمكة من ابن الأعرابي ولزمه حتى مات وسمع بها من جماعة غيره وسمع بجدة والمدينة النبوية على ساكنها الصلاة والسلام ودخل صنعاء وزبيد وعدن وسمع بها من جماعة وسمع بمصر من البرقي صاحب أحمد البزار وسمع من السيرافي وجماعة كثيرة وسمع بغزة وعسقلان وطبرية ودمشق وطرابلس وبيروت وصيدا والرملة وصور وقيسارية والقلزم والفرما والإسكندرية فبلغت عدة شيوخه إلى مائتين وثلاثين شيخا وروى عنه أبو عمر الطلمنكي وجماعة وكتب تاريخ مصر عن مؤلفه أبي سعيد ابن يونس وروى عنه ابن يونس وهو من أقرانه وعاد إلى الأندلس من رحلته سنة 345 واتصل بالحكم المستنصر وصارت له عنده مكانة وألف له عدة كتب واستقضاه على

إستجة ثم على المرية ومات برجب سنة 348
قال الحميدي هو محدث حافظ جليل صنف كتبا في فقه الحديث وفي فقه التابعين فمنها فقه الحسن البصري في سبع مجلدات و فقه الزهري في أجزاء كثيرة وسمع مسند ابن الفرضي وحديث قاسم بن أصبغ
قال ابن الفرضي وكان عالما بالحديث بصيرا برجاله صحيح النقل حافظا جيد الكتابة على كثرة ما جمع
وقال ابن عفيف في حقه إنه كان من أعنى الناس بالعلم وأحفظهم للحديث وأبصرهم بالرجال ما رأيت مثله في هذا الفن من أوثق المحدثين بالأندلس وأصحهم كتبا وأشدهم تعبا لروايته وأجودهم ضبطا لكتبه وأكثرهم تصحيحا لها لا يدع فيها شبهة رحمه الله تعالى
136 - ومنهم أبو عبد الله القيسي الوضاحي محمد بن أحمد بن موسى رحل من المغرب وسمع من السلفي وغيره جملة صالحة ثم عاد إلى الأندلس بعد الحج وسكن المرية مدة وبها مات سنة 539 وقيل في التي بعدها وكان من أظرف الناس وأحسنهم أدبا فقيها فاضلا ثقة ذا فرائد جمة عفيفا معتنيا بالعلم محمد بن أحمد العبدري البلنسي 352 محمد بن أحمد العبدري البلنسي 137 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن موسى بن هذيل العبدري البلنسي ولد سنة 519 وسمع من أبيه وجماعة ورحل حاجا فسمع من السلفي وابن عوف والحضرمي والتنوخي والعثماني وغيرهم

ورجع بعد الحج إلى الأندلس فحدث وكان غاية في الصلاح والورع وأعمال البر وله حظ من علم العبارة ومشاركة في اللغة وكتب بخطه على ضعفه كثيرا رحمه الله تعالى
138 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن نوح الإشبيلي ومولده سنة إحدى وثلاثين وستمائة بإشبيلية وجال في بلاد المغرب والمشرق وقرأ على الشيوخ الفضلاء وحصل كثيرا في علم القرآن والأدب وله نظم ونثر وكان كثير التلاوة للقرآن جيد الأداء له وأقام بدمشق حتى مات بها سنة 699 رحمه الله تعالى
139 - ومنهم محمد بن أسباط المخزومي القرطبي روى عن يحيى ابن يحيى وقدم مصر فسمع من الحارث بن مسكين وكان حافظا للفقه عالما توفي سنة 279
140 - ومنهم أبو بكر محمد بن إسحاق الشهير بابن السليم قاضي الجماعة بقرطبة مولده سنة 306 روى عن قاسم بن أصبغ وطبقته ورحل سنة 332 فسمع بمكة من ابن الأعرابي وبمصر من الزبيري وابن النحاس وغيرهما وعاد إلى الأندلس فأقبل على الزهد ودراسة العلم وحدث فسمع منه الناس وكان حافظا للفقه بصيرا بالاختلاف حسن الخط والبلاغة متواضعا وتوفي بجمادى الأولى سنة 367 وسليم بفتح السين مكبرا
141 - ومنهم موسى بن بهيج المغربي الأندلسي الواعظ الفقيه العالم

من أهل المرية نزل مصر يكنى أبا عمران كان من أهل العلم والأدب وله في الزهد وغيره أشعار حملت عنه وحدث المرشاني عنه بمخمسة في الحج وأعماله كلها ولقيه بمصر وقرأها عليه
ولابن بهيج هذا قوله
( إنما دنياك ساعه ... فاجعل الساعة طاعه )
( واحذر التقصير فيها ... واجتهد ما قدر ساعه )
( وإذا أحببت عزا ... فالتمس عز القناعه )
142 - ومنهم أبو عمران موسى بن سعادة مولى سعيد بن نصر من أهل مرسية سمع صهره أبا علي ابن سكرة الصدفي وكانت بنته عند أبي علي ولازمه وأكثر عنه وروى عن أبي محمد بن مفوز الشاطبي وأبي الحسن بن شفيع قرأ عليهما الموطأ ورحل وحج وسمع السنن من الطرطوشي وعني بالرواية وانتسخ صحيحي البخاري ومسلم بخطه وسمعهما على صهره أبي علي وكانا أصلين لا يكاد يوجد في الصحة مثلهما حكى الفقيه أبو محمد عاشر بن محمد أنه سمعا على أبي علي نحو ستين مرة وكتب أيضا الغريبين للهروي وغير ذلك وكان أحد الأفاضل الصلحاء والأجواد السمحاء يؤم الناس في صلاة الفريضة ويتولى القيام بمؤن صهره أبي علي وبما يحتاج إليه من دقيق الأشياء وجليلها وإليه أوصى عند توجهه إلى غزوة كتندة التي فقد فيها سنة أربع عشرة وخمسمائة وكانت له مشاركة في علم اللغة والأدب وقد حدث عنه ابن أخيه القاضي أبو عبد الله محمد بن يوسف بن سعادة بكتاب أدب الكتاب لابن قتيبة وبالفصيح لثعلب

143 - ومنهم أبو محمد عبد الله بن طاهر الأزدي من أهل وادي آش له رحلة إلى المشرق أدى فيها الفريضة وسمع بدمشق من أبي طاهر الخشوعي مقامات الحريري وابن عساكر وغيرهما ثم قفل إلى بلده انتهى ملخصا من ابن الأبار
وحكى الصفدي أن ابن المستكفي اجتمع بالمتنبي بمصر وروى عنه شيئا من شعره ومما روى عنه أنه قال أنشدني المتنبي لنفسه
( لاعبت بالخاتم إنسانة ... كمثل بدر في الدجى الفاحم )
( وكلما حاولت أخذي له ... من البنان المترف الناعم )
( ألقته في فيها فقلت انظروا ... قد خبت الخاتم في الخاتم )
144 - ومن الراحلين من الأندلس إلى المشرق أبو عبد الله ابن مالك صاحب التسهيل والألفية وهو جمال الدين محمد بن عبد الله بن عبد الله بن مالك الإمام العلامة الأوحد الطائي الجياني المالكي حين كان بالمغرب الشافعي حين انتقل إلى المشرق النحوي نزيل دمشق
ولد سنة ستمائة أو في التي بعدها وسمع بدمشق من مكرم وأبي صادق الحسن بن صباح وأبي الحسن السخاوي وغيرهم وأخذ العربية عن غير واحد فممن أخذ عنه بجيان أبو المظفر وقيل أبو الحسن ثابت بن خيار عرف بابن الطيلسان وأبي رزين بن ثابت بن محمد بن يوسف بن خيار الكلاعي

من أهل لبلة وأخذ القراءات عن أبي العباس أحمد بن نوار وقرأ كتاب سيبويه على أبي عبد الله ابن مالك المرشاني وجالس يعيش وتلميذه ابن عمرون وغيره بحلب وتصدر بها لإقراء العربية وصرف همته إلى إتقان لسان العرب حتى بلغ فيه الغاية وأربى على المتقدمين وكان إماما في القراءات وعالما بها وصنف فيها قصيدة دالية مرموزة في قدر الشاطبية وأما اللغة فكان إليه المنتهى فيها
قال الصفدي أخبرني أبو الثناء محمود قال ذكر ابن مالك يوما ما انفرد به صاحب المحكم عن الأزهري في اللغة قال الصفدي وهذا أمر معجز لأنه يحتاج إلى معرفة جميع ما في الكتابين وأخبرني عنه أنه كان إذا صلى في العادلية - لأنه كان إمام المدرسة - يشيعه قاضي القضاة شمس الدين بن خلكان إلى بيته تعظيما له وقد روى عنه الألفية شهاب الدين محمود المذكور ورواها الصفدي خليل عن شهاب الدين محمود قراءة ورواها إجازة عن ناصر الدين شافع بن عبد الظاهر وعن شهاب الدين بن غانم بالإجازة عنهما عنه وأما النحو والتصريف فكان فيهما ابن مالك بحرا لا يشق لجه وأما اطلاعه على أشعار العرب التي يستشهد بها على النحو واللغة فكان أمرا عجيبا وكان الأئمة الأعلام يتحيرون في أمره وأما الاطلاع على الحديث فكان فيه آية لأنه كان أكثر ما يستشهد بالقرآن فإن لم يكن فيه شاهد عدل إلى الحديث وإن لم يكن فيه شيء عدل إلى أشعار العرب هذا مع ما هو عليه من الدين والعبادة وصدق اللهجة وكثرة النوافل وحسن السمت وكمال العقل

وأقام بدمشق مدة يصنف ويشتغل بالجامع وبالتربة العادلية وتخرج به جماعة وكان نظم الشعر عليه سهلا رجزه وطويله وبسيطه وصنف كتاب تسهيل الفوائد قال الصفدي ومدحه سعد الدين محمد بن عربي بأبيات مليحة إلى الغاية وهي
( إن الأمام جمال الدين جمله ... رب العلا ولنشر العلم أهله )
( أملى كتابا له يسمى الفوائد لم ... يزل مفيدا لذي لب تأمله )
( وكل مسألة في النحو يجمعها ... إن الفوائد جمع لا نظير له )
قال وفي هذه الأبيات مع حسن التورية فيها ما لا يخلو من إيراد ذكرته في كتابي فض الخاتم انتهى
قلت أجاب العجيسي عن ذلك بأن الأبيات ليست في التسهيل وإنما هي في كتاب له يسمى الفوائد وهو الذي لخصه في التسهيل فقوله في اسم التسهيل تسهيل الفوائد معناه تسهيل هذا الكتاب وذكر أيضا أنه مثل التسهيل في القدر على ما ذكره من وقف عليه وقال وإليه يشير سعد الدين محمد بن عربي بقوله إن الإمام - إلى آخره وسعد الدين ابن الشيخ محيي الدين صاحب الفصوص وغيرها ثم قال العجيسي وذكر غير واحد من أصحابنا أن له كتابا آخر سماه بالمقاصد وضمنها تسهيله فسماه لذلك تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد فعلى هذا لا يصح قول الصفدي إن المدح المذكور في التسهيل إلا بارتكاب ضرب من التأويل انتهى كلام العجيسي قلت وذكر غيره أن قوله في الألفية مقاصد النحو بها محوية إشارة لكتاب المقاصد وتعقب بقوله محوية فإنه لو كان كما ذكر لقال محوي

وأجاب بعضهم بأنه من باب الاستخدام وفيه تعسف رجع - ومن تصانيف ابن مالك الموصل في نظم المفصل وقد حل هذا النظم فسماه سبك المنظوم وفك المختوم ومن قال إن اسمه فك المنظوم وسبك المختوم فقد خالف النقل والعقل ومن كتب ابن مالك كتاب الكافية الشافية ثلاثة آلاف بيت وشرحها والخلاصة وهي مختصر الشافية و إكمال الإعلام بمثلث الكلام وهو مجلد كبير كثير الفوائد يدل على اطلاع عظيم و لامية الأفعال وشرحها و فعل وأفعل و المقدمة الأسدية وضعها باسم ولده الأسد و عدة اللافظ وعمدة الحافظ و النظم الأوجز فيما يهمز و الاعتضاد في الظاء والضاد مجلد و إعراب مشكل البخاري و تحفة المودود في المقصور والممدود وغير ذلك كشرح التسهيل وروى عنه ولده بدر الدين محمد وشمس الدين بن جعوان وشمس الدين بن أبي الفتح وابن العطار وزين الدين أبو بكر المزي والشيخ أبو الحسين اليونيني وأبو عبد الله الصيرفي وقاضي القضاة بدر الدين بن جماعة وشهاب الدين محمود وشهاب الدين بن غانم وناصر الدين بن شافع وخلق كثير سواهم
ومن نظمه في الحلبة
( خيل السباق المجلي يقتفيه مصل ... والمسلي وتال قبل مرتاح )
( وعاطف وحظي والمؤمل واللطيم ... والفسكل السكيت يا صاح )
وله من هذه الضوابط شيء كثير وكان يقول عن الشيخ ابن الحاجب إنه أخذ نحوه من صاحب المفصل وصاحب المفصل نحوه صغيرات وناهيك بمن يقول هذا في حق الزمخشري وكان الشيخ ركن الدين بن القوبع يقول إن ابن مالك ما خلى للنحو حرمة
وحكي عنه أنه كان يوما في الحمام وقد اعتزل في مكان يستعمل فيه الموسى فهجم عليه فتى فقال ما تصنع فقال أكنس لك الموضع للقعود قال

بعضهم وهذا مما يستبعد على دين ابن مالك والعهدة على ناقله قال الصفدي ولا يستبعد ذلك من لطف النحاة وطباع أهل الأندلس وتوفي ابن مالك بدمشق سنة اثنتين وسبعين وستمائة وقال بعضهم من أحسن شعر ابن مالك قوله
( إذا رمدت عيني تداويت منكم ... بنظرة حسن أو بسمع كلام )
فإن لم أجد ماء تيممت باسمكم ... وصليت فرضي والديار أمامي )
( وأخلصت تكبيري عن الغير معرضا ... وقابلت أعلام السوى بسلام )
( ولم أر إلا نور ذاتك لائحا ... فهل تدع الشمس امتداد ظلام )
وقدم - رحمه الله تعالى - القاهرة ثم رحل إلى دمشق وبها مات كما علم
وقال الشرف الحصني يرثيه
( يا شتات الأسماء والأفعال ... بعد موت ابن مالك المفضال )
( وانحراف الحروف من بعد ضبط ... منه في الانفصال والاتصال )
( مصدرا كان للعلوم بإذن الله ... من غير شبهة ومحال )
( عدم النعت والتعطف والتو كيد ... مستبدلا من الأبدال )
( ألم اعتراه أسكن منه ... حركات كانت بغير اعتلال )
( يا لها سكتة لهمز قضاء ... أورثت طول مدة الانفصال )
( رفعوه في نعشه فانتصبنا ... نصب تمييز كيف سير الجبال )
( فخموه عند الصلاة بدل ... فأميلت أسراره للدلال )
( صرفوه يا عظم ما فعلوه ... وهو عدل معرف بالجمال )
( أدغموه في الترب من غير مثل ... سالما من تغير الانتقال )

وابن النحاس المذكور له نظم كثير مشهور بين الناس وهو بهاء الدين أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن محمد بن نصر الحلبي الأصل المعروف بابن النحاس وهو شيخ أبي حيان ولم يأخذ أبو حيان عن ابن مالك وإن عاصره بنحو ثلاثين سنة وقال بعض من عرف بابن مالك إنه تصدر بحلب مدة وأم بالسلطانية ثم تحول إلى دمشق وتكاثر عليه الطلبة وحاز قصب السبق وصار يضرب به المثل في دقائق النحو وغوامض الصرف وغريب اللغات وأشعار العرب مع الحفظ والذكاء والورع والديانة وحسن السمت والصيانة والتحري لما ينقله والتحرير فيه وكان ذا عقل راجح حسن الأخلاق مهذبا ذا رزانة وحياء ووقار وانتصاب للإفادة وصبر على المطالعة الكثيرة تخرج به أئمة ذلك الزمان كابن المنجي وغيره وسارت بتصانيفه الركبان وخضع لها العلماء الأعيان وكان حريصا على العلم حتى إنه حفظ يوم موته ثمانية شواهد وقال بعض الحفاظ حين عرف بابن مالك يقال إن عبد الله في نسبه مذكور مرتين متواليتين وبعض يقول مرة واحدة وهو الموجود بخطه أول شرحه لعمدته وهو الذي اعتمده الصفدي وابن خطيب داريا محمد بن أحمد بن سليمان الأنصاري وعلى كل حال فهو مشهور بجده في المشرق والمغرب وحكى بعضهم أن ولادته سنة ثمان وتسعين وخمسمائة وعليه عول شيخ شيوخ شيوخنا ابن غازي في قوله
( قد خبع ابن مالك في خبعا ... وهو ابن عه كذا وعى من قد وعى ) وقيل كما تقدم إن مولده سنة ستمائة أو بعدها بجيان الحرير مدينة من مدن الأندلس جبر الله كسرها وهي مفتوحة الجيم وياؤها مشددة تحتانية وتصدر ابن مالك بحماة مدة وانتقد بعضهم على ابن خلكان إسقاطه من تاريخه

مع كونه كان يعظمه إلى الغاية وقدم رحمه الله تعالى لصاحب دمشق قصة يقول فيها عن نفسه إنه أعلم الناس بالعربية والحديث ويكفيه شرفا أن من تلامذته الشيخ النووي والعلم الفارقي والشمس البعلي والزين المزي وغيرهم ممن لا يحصى وكان رحمه الله تعالى كثير المطالعة سريع المراجعة لا يكتب شيئا من محفوظه حتى يراجعه في محله وهذه حالة المشايخ الثقات والعلماء الأثبات ولا يرى إلا وهو يصلي أو يتلو أو يصنف أو يقرأ وكذا كان الشيخ أبو حيان ولكن كان جده في التصنيف والإقراء وحكي أنه توجه يوما مع أصحابه للفرجة بدمشق فلما بلغوا الموضع الذي أرادوه غفلوا عنه سويعة فطلبوه فلم يجدوه ثم فحصوا عنه فوجدوه منكبا على أوراق وأغرب من هذا في اعتنائه بالعلم ما مر أنه حفظ يوم موته عدة أبيات حدها بعضهم بثمانية وفي عبارة بعض أو نحوها لقنه ابنه إياها وهذا مما يصدق ما قيل بقدر ما تتعنى تنال ما تتمنى فجزاه الله خيرا عن هذه الهمة العلية
وذكر أبو حيان في الجوازم من تذييله وتكميله أنه لم يصحب من له البراعة في علم اللسان ولذا تضعف استنباطاته وتعقباته على أهل هذا الشأن وينفر من المنازعة والمباحثة والمراجعة قال وهذا شأن من يقرأ بنفسه ويأخذ العلم من الصحف بفهمه ولقد طال فحصي وتنقيري عمن قرأ عليه واستند في العلم إليه فلم أجد من يذكر لي شيئا من ذلك ولقد جرى يوما مع صاحبنا تلميذه علم الدين سليمان بن أبي حرب الفارقي الحنفي فقال ذكر لنا أنه قرأ على ثابت بن خيار من أهل بلده جيان وأنه جلس في حلقة

الأستاذ أبي علي الشلوبين نحوا من ثلاثة عشر يوما وثابت بن خيار ليس من أهل الجلالة والشهرة في هذا الشأن وإنما جلالته وشهرته في إقراء القرآن هذا حاصل ما ذكره أبو حيان
قال بعض المحققين وهو العلامة يحيى العجيسي وليس ذلك منه بإنصاف ولا يحمل على مثله إلا هوى النفس وسرعة الانحراف فنفيه المسند عنه والمتبع شهادة نفي فلا تنفع ولا تسمع ويكفي ما سطر في حقه قوله في أثنائه نظم في هذا العلم كثيرا ونثر وجمع باعتكاف على الاشتغال به ومراجعة الكتب ومطالعة الدواوين العربية وطول السن من هذا العلم غرائب وحوت مصنفاته منها نوادر وعجائب وإن منها كثيرا استخرجه من أشعار العرب وكتب اللغة إذ هي مرتبة الأكابر النقاد وأرباب النظر والاجتهاد وقوله في موضع آخر من تذييله لا يكون تحت السماء أنحى ممن عرف ما في تسهيله وقرنه في بحره بمصنف سيبويه فما ينبغي له أن يغمصه ولا أن يحط عليه ولا أن يقع فيما وقع فيه فإنه مما يجرئ على أمثاله الغبي والنبيه والحليم والسفيه وما هذا جزاء السلف من الخلف والدرر من الصدف والجيد من الحشف أو ما ينظر إلى شيخه أبي عبد الله بن النحاس فإنه لا يذكره إلا بأحسن ذكر كما هو أدب خيار الناس ومن كلامه في نقله عنه وهو الثقة فيما ينقل والفاضل حين يقول وإلى تلميذه أبي البقاء الحافظ المصري حيث يقول فيه أعني في أبي حيان
( هو الأوحد الفرد الذي تم علمه ... وسار مسير الشمس في الشرق والغرب )
( ومن غاية الإحسان مبدأ فضله ... فلا غرو أن يسمو على العجم والعرب )
ومن غاية الإحسان في هذا الشأن التصانيف التي سارت بها الركبان في جميع الأوطان واعترف بحسنها الحاضر والبادي والداني والقاصي والصديق والعدو فتلقاها بالقبول والإذعان فسامح الله تعالى أبا حيان فإن

وقال أيضا عند ذكره مصنفات ابن مالك وهي كما قيل غزيرة المسائل ولكنها على الناظر بعيدة الوسائل وهي مع ذلك كثيرة الإفادة موسومة بالإجادة وليست لمن هو في هذا الفن في درجة ابتدائه بل للمتوسط يترقى بها درجة انتهائه انتهى
واعلم أن الألفية مختصرة الكافية كما تقدم وكثير من أبياتها فيها بلفظها ومتبوعه فيها ابن معطي ونظمه أجمع وأوعب ونظم ابن معطي أسلس وأعذب وذكر الصفدي عن الذهبي أن ابن مالك صنف الألفية لولده تقي الدين محمد المدعو بالأسد واعترضه العلامة العجيسي بأن الذي صنفه له عن تحقيق المقدمة الأسدية قال وأما هذه - يعني الألفية - فذكر لي من أثق بقوله أنه صنفها برسم القاضي شرف الدين هبة الله بن نجم الدين عبد الرحيم بن شمس الدين بن إبراهيم بن عفيف الدين بن هبة الله بن مسلم بن هبة الله بن حسان الجهني الحموي الشافعي الشهير بابن البارزي ويقال إن هذه النسبة إلى باب أبرز أحد أبواب بغداد ولكن خفف لكثرة دوره على الألسنة انتهى مختصرا وقال بعض من عرف بابن مالك هو مقيم أود وقاطع لدد ومزين سماء موهت الأصائل ديباجتها وشعشعت البكر زجاجتها وجاءت أيامه صافية من الكدر ولياليه وما بها شائبة من الكبر قد خلقها العشي بردعه وخلفها الصباح بربعه فكان كل متعين حول مسجده وكل عين فاخرة بعسجده هذا وزمر الطلاب وطلبة الأجلاب لا تزال تزجي إليه القلاص وتكثر من سربه الاقتناص كان أوحد وقته في علم النحو واللغة مع كثرة الديانة والصلاح انتهى
وقال بعض المغاربة
( لقد مزقت قلبي سهام جفونها ... كما مزق اللخمي مذهب مالك )
( وصال على الأوصال بالقد قدها ... فأضحت كأبيات بتقطيع مالك )

( نورهم ذا الذي أضا ... أم مع الركب يوشع )
ورأيت مع هذا موشحا آخر لا أدري هل هو لابن زهر أم لا وهو هذا
( فتق المسك بكافور الصباح ... ووشت بالروض أعراف الرياح )
( فاسقنيها قبل نور الفلق ... )
( وغناء الورق بين الورق ... )
( كاحمرار الشمس عند الشفق ... )
( نسج المزج عليها حين لاح ... فلك اللهو وشمس الاصطباح )
( وغزال سامني بالملق ...
( وبرى جسمي وأذكى حرقى ... )
( أهيف مذ سل سيف الحدق ... )
( قصرت عنه أنابيب الرماح ... وثنى الذعر مشاهير الصفاح )
( صار بالدل فؤادي كلفا ... )
( وجفون ساحرات وطفا ... )
( كلما قلت جوى الحب انطفا ... ) أمرض القلب بأجفان صحاح ... وسبى العقل بجد ومزاح )
( يوسفي الحسن عذب المبتسم ... )
( قمري الوجه ليلي اللمم ... )
( عنتري البأس علوي الهمم ... )

( وقلدت إذ ذاك الهوى لمرادها ... كتقليد أعلام النحاة ابن مالك )
( وملكتها رقي لرقة لفظها ... وإن كنت لا أرضاه ملكا لمالك )
( وناديتها يا منيتي بذل مهجتي ... ومالي قليل في بديع جمالك )
ويعني بقوله بتقطيع مالك مالك بن المرحل السبتي رحمه الله تعالى ولما سئل ابن مالك عن قول النبي " نعوذ بالله من الحور بعد الكور " هل هو بالراء أو بالنون أنكر النون فقيل له إن في الغريبين للهروي رواية بالنون فرجع عن قوله الأول وقال إنما هو بالنون انتهى وقد ذكر في المشارق النون والراء فقال الحور بعد الكور بالراء رواه العذري وابن الحذاء وللباقين بالنون معناه النقصان بعد الزيادة وقيل من الشذوذ بعد الجماعة وقيل من الفساد بعد الصلاح وقيل من القلة بعد الكثرة كار عمامته إذا لفها على رأسه واجتمعت وحارها إذا نقضها فافترقت ويقال حار إذا رجع عن أمر كان عليه ووهم بعضهم رواية النون وقيل معناها رجع إلى الفساد بعد أن كان على خير مما رجع إليه وقال عياض في موضع آخر بعد الحور بعد الكور كذا للعذري والكون للفارسي والسجزي وابن ماهان وقول عاصم في تفسيره حار بعد ما كار وهو روايته ويقال إن عاصما وهم فيه انتهى والسائل لابن مالك عن اللفظة هو ابن خلكان لأن ابن الأثير سأل ابن خلكان عنها فسأل هو ابن مالك رحم الله تعالى الجميع
تعريف بابنه بدر الدين
وقد عرف الحافظ الذهبي بابن مالك في تاريخ الإسلام وذكر فيه ترجمة لولده بدر الدين محمد وأنه كان حاد الذهن ذكيا إماما في النحو وعلم

المعاني والمنطق جيد المشاركة في الفقه والتدريس وأنه تصدر بعد والده للتدريس ومات شابا قبل الكهولة سنة 686 ومن أجل تصانيفه شرحه على ألفية والده وهو كتاب في غاية الإغلاق ويقال إنه نظير الرضي في شرح الكافية وللناس عليه حواش كثيرة رحمهم الله تعالى أجمعين
145 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن طاهر القيسي التدميري ويعرف بالشهيد كان عظيم القدر جدا بالأندلس بعيد الأثر في الخير والصلاح والعلم والنسك والانقطاع إلى الله تعالى وكان من وجوه أهل كورة تدمير ذوي البيوت الرفيعة وبرع بخصاله المحمودة فكان في نفسه فقيها عالما زاهدا خيرا ناسكا متبتلا نشأ على الاستقامة والصلاح والاهتداء والدعة وطلب العلم في حدثان سنه ورحل إلى قرطبة فروى الحديث وتفقه وناظر وأخذ بحظ وافر من علم المسألة والجواب وكان أكثر علمه وعمله الورع والتشدد فيه والتحفظ بدينه ومكسبه ورسخ في علم السنة ثم ارتحل إلى المشرق فمر بمصر حاجا فأقام بالحرمين ثمانية أعوام يتعيش فيها من عمل يده بالنسخ ثم سار إلى العراق فلقي أبا بكر الأبهري وأخذ عنه وأكثر من لقاء الصالحين وأهل العلم ولبس الصوف وقنع وتورع جدا وأعرض عن الشهوات وكان إذا سئم من النسخ الذي جعل قوته منه آجر نفسه في الخدمة رياضة لها فأصبح عابدا متقشفا منيبا مخبتا عالما عاملا منقطع القرين قد جرت منه دعوات مجابة وحفظت له كرامات ظاهرة ثم عاد إلى بلده تدمير سنة ست أو سبع وسبعين وثلاثمائة وبها أبوه أبو الحسام طاهر حيا فنزل خارج مدينة مرسية تورعا عن سكناها وعن الصلاة في جامعها فاتخذ له بيتا سقفه من حطب السدر يأوي إليه واعتمر جنينة بيده يقتات منها وصار يغزو مع المنصور محمد بن أبي عامر ثم تحول من قريته بعد عامين إلى الثغر وواصل

الرباط ونزل مدينة طلبيرة وكان يدخل منها في السرايا إلى بلد العدو فيغزو ويتقوت من سهمانة ويعول على فرس له ارتبطه لذلك وكان له بأس وشدة وشجاعة وثقافة يحدث عنه فيها بحكايات عجيبة إلى أن استشهد مقبلا غير مدبر سنة 379 أو في التي قبلها عن اثنتين وأربعين سنة وأبوه حي رحم الله تعالى الجميع
146 - ومنهم أبو عبد الله القيجاطي محمد بن عبد الجليل بن عبد الله بن جهور مولده سنة 590 بقيجاطة وكتب عنه الحافظ المنذري ومن شعره قوله
( إذا كنت تهوى من نأت عنك داره ... فحسبك ما تلقى من الشوق والبعد )
فيا ويح صب قد تضرم ناره ... ووا حر قلب ذاب من شدة الوجد )
147 - ومنهم أبو عبد الله - ويقال أبو حامد - محمد بن عبد الرحيم المازني القيسي الغرناطي ولد سنة 473 ودخل الإسكندرية سنة 508 وسمع بها من أبي عبد الله الرازي وبمصر من أبي صادق مرشد بن يحيى المديني وأبي الحسن الفراء الموصلي وأبي عبد الله محمد بن بركات بن هلال النحوي وغيرهم وحدث بدمشق وسمع أيضا بها وببغداد وقدمها سنة 556 ودخل خراسان وأقام بها مدة ثم رجع إلى الشام وأقام بحلب سنين وسكن دمشق وكان يذكر أنه رأى عجائب في بلاد شتى ونسبه بعض الناس بسبب ذلك إلى ما لا يليق وصنف في ذلك كتابا سماه تحفة الألباب وكان حافظا عالما أديبا وتكلم فيه الحافظ ابن عساكر وزنه بالكذب وقال ابن النجار ما علمته إلا أمينا

ومن شعره قوله
( تكتب العلم وتلقي في سفط ... ثم لا تحفظ لا تفلح قط ) 3
( إنما يفلح من يحفظه ... بعد فهم وتوق من غلط )
وقوله
( العلم في القلب ليس العلم في الكتب ... فلا تكن مغرما باللهو واللعب )
( فاحفظه وافهمه واعمل كي تفوز به ... فالعلم لا يجتنى إلا مع التعب )
توفي بدمشق في صفر سنة 565
148 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد السلام القرطبي من ذرية أبي ثعلبة الخشني صاحب رسول الله رحل قبل الأربعين ومائتين فحج وسمع بالبصرة من محمد بن بشار وأبي موسى الزمن ونصر ابن علي الجهضمي ولقي أبا حاتم السجستاني والعباس بن الفرج الرياشي وسمع ببغداد من أبي عبيد القاسم بن سلام وبمكة من محمد بن يحيى العدني وبمصر من سلمة بن شبيب صاحب عبد الرزاق والبرقي وغيرهما وأدخل الأندلس علما كثيرا من الحديث واللغة والشعر وكان فصيحا جزل المنطق صارما أنوفا منقبضا عن السلطان أراده على القضاء فأبى وقال إباية إشفاق لا إباية عصيان فأعفاه وكان ثقة مأمونا وتوفي في رمضان سنة 286 عن ثمان وستين سنة رحمه الله تعالى

149 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الملك بن أيمن بن فرج القرطبي سمع من محمد بن وضاح وأكثر عنه وأخذ عن محمد الخشني وقاسم بن أصبغ وإبراهيم بن قاسم بن هلال ورحل سنة 274 فسمع بمصر من المطلب بن شعيب والمقدام بن داود الرعيني وأدرك بالعراق إسماعيل القاضي وعبد الله بن أحمد بن حنبل قال الحميدي حدث بالمغرب وبالمشرق وصنف السنن وممن روى عنه خالد بن سعيد وقال لنا أبو محمد بن حزم مصنف ابن أيمن مصنف رفيع احتوى من صحيح الحديث وغريبه على ما ليس في كثير من المصنفات وتوفي في ذي القعدة سنة 330 بقرطبة رحمه الله تعالى
150 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الملك بن ضيفون اللخمي الرصافي القرطبي الحداد سمع بقرطبة من عبد الله بن يونس وقاسم بن أصبغ وحج سنة 339 سنة رد القرامطة الحجر الأسود إلى مكانه وسمع بمكة من ابن الأعرابي وبمصر من ابن الورد وأبي علي بن السكن وعبد الكريم النسائي وغيرهم وسمع بأطرابلس والقيروان من جماعة وكان رجلا صالحا عدلا حدث وكتب عنه الناس وعلت سنه وتوفي بشوال سنة 394 وولد فيما أظن سنة 302 وكانت وفاته بقرطبة وقد اضطرب في أشياء قرئت عليه وممن أخذ عنه الحافظ أبو عمر بن عبد البر رحم الله تعالى الجميع

151 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الملك الخزرجي السعدي القرطبي روى عن أبي الحسن علي بن هشام وروى عنه أبو القاسم بن بشكوال وقدم مصر وحدث بها وممن سمع منه بهاء بن وردان وأبو الرضى القيسراني في آخرين واستوطن مصر وتوفي سنة 588
152 - ومنهم أبو بكر بن السراج النحوي بتشديد الراء وهو محمد بن عبد الملك بن محمد بن السراج الشنتمري أحد أئمة العربية المبرزين فيها ويكفيه فخرا أنه أستاذ أبي محمد عبد الله بن بري المصري اللغوي النحوي وحدث عن أبي القاسم عبد الرحمن بن محمد النفطي وقرأ العربية بالأندلس على ابن أبي العافية وابن الأخضر وقدم مصر سنة 515 وأقام بها وأقرأ الناس العربية ثم انتقل إلى اليمن وروى عنه أبو حفص عمر بن إسماعيل وأبو الحسن علي والد الرشيد العطار وله تواليف منها تنبيه الألباب في فضل الإعراب وكتاب في العروض وكتاب مختصر العمدة لابن رشيق وتنبيه أغلاطه قال السلفي كان من أهل الفضل الوافر والصلاح الظاهر وكانت له حلقة في جامع مصر لإقراء النحو وكثيرا ما كان يحضر عندي - رحمه الله تعالى - مدة مقامي بالفسطاط توفي بمصر سنة 549 وقيل سنة خمس وأربعين وقيل خمسين وخمسمائة برمضان والأول أثبت
153 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد بن علي بن سعيد العنسي ويكنى أيضا أبا القاسم الغرناطي سمع من الجلة بمصر والإسكندرية ودمشق وبغداد منهم الحراني أبو عبد الله وأبو محمد عبد الصمد

ابن داود بدمشق وكتب الحديث وعني بالرواية أتم عناية وفقد بأصبهان حين استولى عليها التتار قبل الثلاثين وستمائة
154 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن الدفاع بالدال المهملة وقيل بالراء قرطبي سمع عبد الملك بن حبيب ورحل فسمع بمصر من الحارث بن مسكين وغيره وكان زاهدا فاضلا وتوفي سنة 281 رحمه الله تعالى
155 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن سعيد بن عابد المعافري القرطبي ولد بقرطبة سنة 358 ودخل مصر فسمع من أبي بكر بن المهندس وأبي بكر البصري وروى عن أبي عبد الله بن مفرج وأبي محمد الأصيلي وجماعة ولقي الشيخ أبا محمد بن أبي زيد في رحلته سنة 381 فسمع منه رسالته في الفقه وغيرها وحج من عامه ثم عاد من مصر إلى المغرب سنة 382 وكان معتنيا بالأخبار والآثار ثقة فيما رواه وعني به خيرا فاضلا دينا متواضعا متصاونا مقبلا على ما يعنيه صاحب حظ من الفقه وبصر بالمسائل ودعي إلى الشوري بقرطبة فأبى ومات سنة 439 وعابد جده بالباء الموحدة رحم الله تعالى الجميع
156 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن سليمان بن عثمان بن هاجد الأنصاري البلنسي أخذ القراءات عن جماعة من أهل بلده وخرج حاجا سنة 571 فجاور بمكة وسمع بها وبالإسكندرية من السلفي وعاد إلى بلده

سنة 596 وحدث وكان من أهل الصلاح والفضل والورع كثير البر ومفاداة الأسرى ويحترف بالتجارة ومولده بعد سنة 530 ومات سنة 598 بمرسية رحمه الله تعالى
157 - ومنهم أبو الوليد محمد بن عبد الله بن محمد بن خيرة القرطبي المالكي الحافظ ولد سنة 479 وأخذ الفقه عن القاضي أبي الوليد بن رشد والحديث عن ابن عتاب وروى الموطأ عن أبي بحر سفيان بن العاص بن سفيان وأخذ الأدب عن أبي الحسين سراج بن عبد الملك بن سراج الأموي وعن مالك بن عبد الله العتبي وخرج من قرطبة في الفتنة بعد ما درس بها وانتفع الناس به في فروع الفقه وأصوله وأقام بالإسكندرية خوفا من بني عبد المؤمن بن علي ثم قال كأني والله بمراكبهم قد وصلت إلى الإسكندرية ثم سافر إلى مصر بعد ما روى عنه السلفي وأقام بها مدة ثم قال والله ما مصر والإسكندرية بمتباعدتين ثم سافر إلى الصعيد وحدث في قوص بالموطأ ثم قال والله ما يصلون إلى مصر ويتأخرون عن هذه البلاد فمضى إلى مكة وأقام بها ثم قال وتصل إلى هذه البلاد ولا تحج ما أنا إلا هربت منه إليه ! ثم دخل اليمن فلما رآها قال هذه أرض لا يتركها بنو عبد المؤمن فتوجه إلى الهند فأدركه وفاته بها سنة 551 وقيل بل مات بزبيد من مدن اليمن وكان من جلة العلماء الحفاظ متقنا متفننا في المعارف كلها جامعا لها كثير الرواية واسع المعرفة حافل الأدب من كبار فقهاء المالكية

يتصرف في علوم شتى حافظا للآداب عارفا بشعراء الأندلس وكان علمه أوفر من منطقه ولم يرزق فصاحة ولا حس إيراد والله اعلم
قال ابن نقطة خيرة بكسر الخاء المعجمة وفتح الياء المنقوطة من تحتها باثنتين
158 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن أبي الفضل السلمي المرسي قال ابن النجار ولد بمرسية سنة 570 وقال غيره في التي قبلها وخرج من بلاد المغرب سنة 607 ودخل مصر وسار إلى الحجاز ودخل مع قافلة الحجاج إلى بغداد وأقام بها يسمع ويقرأ الفقه والخلاف والأصلين بالنظامية ثم سافر إلى خراسان وسمع بنيسابور وهراة ومرو وعاد إلى بلاد بغداد وحدث بكتاب السنن الكبير للبيهقي عن منصور بن عبد المنعم الفراوي وبكتاب غريب الحديث للخطابي وقدم إلى مصر فحدث بالكثير عن جماعة منهم أم المؤيد زينب وأبو الحسن المؤيد الطوسي وخرج من مصر يريد الشام فمات بين الزعقة والعريش من منازل الرمل في ربيع الأول سنة 655 ودفن بتل الزعقة وكان من الأئمة الفضلاء في جميع فنون العلم من علوم القرآن والحديث والفقه والخلاف والأصلين والنحو واللغة وله فهم ثاقب وتدقيق في المعاني مع النظم والنثر المليح وكان زاهدا متورعا حسن الطريقة متدينا كثير العبادة فقيها مجردا متعففا نزه النفس قليل المخالطة لأوقاته طيب الأخلاق متوددا كريم النفس

قال ابن النجار ما رأيت في فنه مثله وكان شافعي المذهب وله كتاب تفسير القرآن سماه ري الظمآن كبيار جدا وكتاب الضوابط الكلية في النحو وتعليق على الموطأ وكان مكثرا شيوخا وسماعا وحدث بالكثير بمصر والشام والعراق والحجاز وكانت له كتب في البلاد التي ينتقل إليها بحيث إنه لا يستصحب كتبا في سفره اكتفاء بما له من الكتب في البلد الذي يسافر إليه وكان كريما قال أبو حيان أخبرني الشرف الجزائري بتونس أنه كان على رحلة وكان ضعيفا فقال له خذ ما تحت هذه السجادة أو البساط فرفعت ذلك فوجدت تحته نحو من أربعين دينارا ذهبا فأخذتها وقال الجمال اليغموري أنشدني لنفسه بالقاهرة
( قالوا فلان قد أزال بهاءه ... ذاك العذار وكان بدر تمام )
( فأجبتهم بل زاد نور بهائه ... ولذا تضاعف فيه فرط غرامي )
( استقصرت ألحاظه فتكاتها ... فأتى العذار يمدها بسهام )
ومن شعره قوله
( من كان يرغب في النجاة فما له ... غير اتباع المصطفى فيما أتى )
( ذاك السبيل المستقيم وغيره ... سبل الغواية والضلالة والردى )
( فاتبع كتاب الله والسنن التي ... صحت فذاك إذا اتبعت هو الهدى )
( ودع السؤال بكم وكيف فإنه ... باب يجر ذوي البصيرة للعمى )
( الدين ما قال النبي وصحبه ... والتابعون ومن مناهجهم قفا )

159 - ومنهم أبو بكر محمد بن عبد الله البنتي الأندلسي الأنصاري قدم مصر وأقام بالقرافة مدة وكان شيخا صالحا زاهدا فاضلا وتوجه إلى الشام فهلك قال الرشيد العطار كان من فضلاء الأندلسيين ونبهائهم ساح في الأرض ودخل بلاد العجم وغيرها من البلاد البعيدة وكان يتكلم بألسنة شتى
ومن شعره قوله
( إذا قل منك السعي فالعزم ناشد ... وكل مكان في مرائك واحد )
( توجه بصدق واتق المين واقتصد ... تجئك رهينات النجاح المقاصد )
والبنتي - بضم الباء وسكون النون - نسبة إلى بنت حصن بالأندلس ويقال بونت بزيادة واو
160 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله الخولاني الباجي ثم الإشبيلي المعروف بابن القوق سمع بقرطبة من جماعة ورحل إلى المشرق سنة 266 فسمع بمكة من علي بن عبد العزيز وغيره وبمصر من محمد بن عبد الحكم ومن أخيه سعد وكان فقيها في الرأي حافظا له عاقدا للشروط قال ابن الفرضي كان رجلا صالحا ورعا ثقة وكان خالد بن سعيد قد رحل إليه وسمع منه وكان يقول إذا حدث عنه كان من معادن الصدق توفي سنة 308
161 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله اللوشي الطبيب اشتغل بالطب وبرع فيه وأقام بمصر مدة وبها مات في عشر الستين وستمائة

162 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبدون العذري القرطبي رحل سنة 337 فدخل مصر والبصرة وعني بعلم الطب ودبر مارستان مصر ثم رجع إلى الأندلس سنة 360 واتصل بالحكم المستنصر وابنه المؤيد وله في التكسير كتاب حسن قال صاعد تمهر في الطب ونبل فيه وأحكم كثيرا من أصوله وعانى صنعة المنطق معاناة صحيحة وكان شيخه فيه أبو سليمان محمد بن محمد بن طاهر بن بهرام السجستاني البغدادي وكان قبل أن يتطبب مؤدبا للحساب والهندسة وأخبرني أبو عثمان سعيد الطليطلي أنه لم يلق في قرطبة من يلحق محمد بن عبدون في صناعة الطب ولا يجاريه في ضبطها وحسن دربته فيها وإحكامه لغوامضها رحمه الله تعالى
163 - ومن الراحلين إلى المشرق من أهل الأندلس أبو مروان عبد الملك بن أبي بكر محمد بن مروان بن زهر الإيادي الأندلسي صاحب البيت الشهير بالأندلس رحل المذكور إلى المشرق وتطبب به زمانا وتولى رئاسة الطب ببغداد ثم بمصر ثم القيروان ثم استوطن مدينة دانية وطار ذكره فيها إلى أقطار الأندلس والمغرب واشتهر بالتقدم في علم الطب حتى بز أهل زمانه ومات في مدينة دانية رحمه الله تعالى ووالده محمد بن مروان كان عالما بالرأي حافظا للأدب فقيها حاذقا بالفتوى متقدما فيها متقنا للعلوم فاضلا جامعا للدراية والرواية وتوفي بطلبيرة سنة 422 وهو ابن ست وثمانين سنة حدث عنه جماعة من علماء

الأندلس ووصفوه بالدين والفضل والجود والبذل رحمه الله تعالى
وأما أبو العلاء زهر بن عبد الملك المذكور فقال ابن دحية فيه إنه كان وزير ذلك الدهر وعظيمه وفيلسوف ذلك العصر وحكيمه وتوفي ممتحنا من نغلة بين كتفيه سنة 525 بمدينة قرطبة انتهى وكانت بينه وبين الفتح صاحب القلائد عداوة ولذلك كتب في شأنه إلى أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين ما صورته أطال الله تعالى بقاء الأمير الأجل سامعا للنداء دافعا للتطاول والاعتداء لم ينظم الله تعالى بلبتك الملك عقدا وجعل لك حلا للأمور وعقدا وأوطأ لك عقبا وأصار من الناس لعونك منتظرا ومرتقبا إلا أن تكون للبرية حائطا وللعدل فيهم باسطا حتى لا يكون فيهم من يضام ولا ينال أحدهم اهتضام ولتقصر يد كل معتد في الظلام وهذا ابن زهر الذي أجررته رسنا وأوضحت له إلى الاستطالة سننا لم يتعد من الإضرار إلا حيث انتهيته ولا تمادى على غيه إلا حين لم تنهه أو نهيته ولما علم أنك لا تنكر عليه نكرا ولا تغير له متى ما مكر في عباد الله مكرا جرى في ميدان الأذية ملء عنانه وسرى إلى ما شاء بعدوانه ولم يراقب الذي خلقه وأمد في الحظوة عندك طلقه وأنت بذلك مرتهن عند الله تعالى لأنه مكنك لئلا يتمكن الجور ولتسكن بك الفلاة والغور فكيف أرسلت زمامه حتى جرى من الباطل في كل طريق وأخفق به كل فريق وقد علمت أن خالقك الباطش الغيور يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وما تخفى عليه نجواك ولا يستتر عنه تقلبك ومثواك وستقف بين يدي عدل حاكم يأخذ بيد كل مظلوم من ظالم قد علم كل قضية قضاها ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها فبم تحتج معي لديه إذا وقفت أنا وأنت بين يديه 1 أترى ابن زهر ينجيك في ذلك

المقام أو يحميك من الانتقام وقد أوضحت لك المحجة لتقوم عليك الحجة والله سبحانه النصير وهو بكل خلق بصير لا رب غيره والسلام انتهى
رسالة للفتح فى غريق
وقد تذكرت هنا بذكر الفتح ما كتبه وقد مات بعض إخوانه غريقا
( أتاني ورحلي بالعراق عشية ... ورحل المطايا قد قطعن بنا نجدا )
( نعي أطار القلب عن مستقره ... وكنت على قصد فأغلطني القصدا )
نعوا والله باسق الأخلاق لا يخلف ورموا قلبي بسهم أصاب صميمه فما أخلف لقد سام الردى منه حسنا وجمالا ووسامة وطوى بطيه نجده وتهامه فعطل منه الندي والندى وأثكل فيه الهدي والهدى كم فل السيوف طول قراعه ودل عليه الضيوف موقد ناره ببقاعه وكم تشوف إليه السرير والمنبر وتصرف فيه الثناء المحبر وكم راع البدر ليلة إبداره وروع العدو في عقر داره وأي فتى غدا له البحر ضريحا وأعدى عليه الحين ماء وريحا فبدل من ظلل على ومفاخر بقعر بحر طامي اللجج زاخر وبدل من صهوات الخيل بلهوات اللجج والسيل غريق حكى مقلتي في دمعها وأصاب نفسي في سمعها ومن حزن لا أستسقي له الغمام فما له قبر تجوده ولا ثرى تروي به تهائمه ونجوده وقد آليت أن لا أودع الريح تحية ولا يورثني هبوبها أريحية فهي التي أثارت في الموج حنقا ومشت عليه خببا وعنقا حتى أعادته كالكثبان وأودعته قضيب بان فيا أسفا لزلال غاض في أجاج ولسلسال فاض عليه بحر عجاج وما كان إلا جوهرا ذهب إلى عنصره وصدفا بان عن عين مبصره لقد آن للحسام أن يغمد فلا يشام وللحمام أن تبكيه بكل أراكة وبشام وللعذارى أن لا يحجبهن الخفر والاحتشام ينحن فتى ما ذرت الشمس

إلا ضر أو نفع ويبكين من لم يدع فقده في العيش من منتفع فكم نعمنا بدنوه ونسمنا نسيم الأنس في رواحه وغدوه وأقمنا بروضة موشية ووقفنا بالمسرات عشية وأدرناها ذهبا سائلة ونظرناها وهي شائلة لم نرم السهر ولم نشم برقا إلا الكأس والزهر ولو غير الحمام زحف إليه جيشه أو غير البحر رجف به ارتجاجه وطيشه لفداه من أسرته كل أروع إن عاجله المكروه تثبطه أو جاءه الشر تأبطه ولكنها المنايا لا تردها الصوارم والأسل ولا تفوتها ذئاب الغضا العسل قد فرقت بين مالك وعقيل وأشرقت بعدهما جذيمة بالحسام الصقيل انتهى
وقد عرفنا بالفتح في غير هذا الموضع فليراجع
رجع إلى بيت بني زهر رحمهم الله تعالى - وأما أبو بكر محمد بن أبي مروان عبد الملك بن أبي العلاء زهر المذكور فهو عين ذلك البيت وإن كانوا كلهم أعيانا علماء رؤساء حكماء وزراء وقد نالوا المراتب العلية وتقدموا عند الملوك ونفذت أوامرهم قال الحافظ أبو الخطاب بن دحية في المطرب من أشعار أهل المغرب كان شيخنا الوزير أبو بكر بن زهر بمكان من اللغة مكين ومورد من الطلب عذب معين وكان يحفظ شعر ذي الرمة وهو ثلث لغة العرب مع الإشراف على جميع أقوال أهل الطب والمنزلة العلياء عند أصحاب المغرب مع سمو النسب وكثرة الأموال والنشب صحبته زمانا طويلا واستفدت منه أدبا جليلا وأنشد من شعره المشهور قوله
( موسدين على الأكف خدودهم ... قد غالهم نوم الصباح وغالني )

( ما زلت أسقيهم وأشرب فضلهم ... حتى سكرت ونالهم ما نالني )
( والخمر تعلم كيف تأخذ ثارها ... إني أملت إناءها فأمالني )
ثم قال ابن دحية وسألته عن مولده فقال ولدت سنة سبع وخمسمائة قال وبلغتني وفاته آخر سنة 595 رحمه الله تعالى انتهى وزعم ابن خلكان أن ابن زهر ألم في الأبيات المذكورة يقول بقول الرئيس أبي غالب عبيد الله بن هبة الله
( عاقرتهم مشمولة لو سالمت ... شرابها ما سميت بعقار )
( ذكرت حقائدها القديمة إذ غدت ... صرعى تداس بأرجل العصار )
( لانت لهم حتى انتشوا وتمكنت ... منهم وصاحت فيهم بالثار )
ومن المنسوب إلى أبي بكر بن زهر قوله في كتاب جالينوس المسمى بحيلة البرء وهو من أجل كتبهم وأكبرها
( حيلة البرء صنعة لعليل ... يترجى الحياة أو لعليله )
( فإذا جاءت المنية قالت ... حيلة البرء ليس في البرء حيله )
( ومن شعره رحمه الله تعالى يتشوق ولدا له صغيرا بإشبيلية وهو بمراكش
ولي واحد مثل فرخ القطاة ... صغير تخلفت قلبي لديه )
( وأفردت عنه
( فيا وحشتا ... لذاك الشخيص وذاك الوجيه )

( تشوقني وتشوقته ... فيبكي علي وأبكي عليه )
( وقد تعب الشوق ما بيننا ... فمنه إلي ومني إليه )
وأخبرني الطبيب الماهر الثقة الصالح العلامة سيدي أبو القاسم بن محمد الوزير الغساني الأندلسي الأصل الفاسي المولد والنشأة حكيم حضرة السلطان المنصور بالله الحسني صاحب المغرب رضي الله تعالى عنه أن ابن زهر لما قال هذه الأبيات وسمعها أمير المؤمنين يعقوب المنصور سلطان المغرب والأندلس أواخر المائة السادسة أرسل المهندسين إلى إشبيلية وأمرهم أن يحتاطوا علما ببيوت ابن زهر وحارته ثم يبنوا مثلها بحضرة مراكش ففعلوا ما أمرهم في أقرب مدة وفرشها بمثل فرشه وجعل فيها مثل آلاته ثم أمر بنقل عيال ابن زهر وأولاده وحشمه وأسبابه إلى تلك الدار ثم احتال عليه حتى جاء إلى ذلك الموضع فرآه أشبه شيء ببيته وحارته فاحتار لذلك وظن أنه نائم وأن ذلك أحلام فقيل له ادخل البيت الذي يشبه بيتك فدخله فإذا ولده الذي تشوق إليه يلعب في البيت فحصل له من السرور ما لا مزيد عليه ولا يعبر عنه هكذا هكذا وإلا فلا لا
ومن نظم ابن زهر المذكور حيث شاخ وغلب عليه الشيب
( إني نظرت إلى المرآة قد جليت ... فأنكرت مقلتاي كل ما رأتا )
( رأيت فيها شويخا لست أعرفه ... وكنت أعهده من قبل ذاك فتى )
( فقلت أين الذي بالأمس كان هنا ... متى ترحل عن هذا المكان 15 متى )

( فاستضحكت ثم قالت وهي معجبة ... إن الذي أنكرته مقلتاك أتى )
( كانت سليمى تنادي يا أخي وقد ... صارت سليمى تنادي اليوم يا أبتا )
والبيت الأخير ينظر إلى قول الأخطل
( وإذا دعونك عمهن فإنه ... نسب يزيدك عندهن خبالا )
( وإذا دعونك يا أخي فإنه ... أدنى وأقرب خلة ووصالا )
وقال ابن دحية في حقه أيضا والذي انفرد به شيخنا وانقادت لتعليته طباعه وصارت النبهاء فيه من خوله وأتباعه الموشحات وهي زبدة الشعر ونخبته وخلاصة جوهره وصفوته وهي من الفنون التي أغرب بها أهل المغرب على أهل المشرق وظهروا فيها كالشمس الطالعة والضياء المشرق انتهى
ومن مشهور موشحات ابن زهر قوله
( ما للموله ... من سكره لا يفيق )
وهذا مطلع موشح يستعمله أهل المغرب إلى الآن ويرون أنه من أحسن الموشحات

ومن موشحاته قوله
( سلم الأمر للقضا ... فهو للنفس أنفع )
( واغتنم حين أقبلا ... )
( وجه بدر تهللا ... )
( لا تقل بالهموم لا ... )
( كل ما فات وانقضى ... ليس بالحزن يرجع )
( واصطبح بابنة الكروم ... )
( من يدي شادن رخيم ... )
( حين يفتر عن نظيم ... )
( فيه برق قد أومضا ... ورحيق مشعشع )
( أنا أفديه من رشا ... )
( أهيف القد والحشا ... )
( سقي الحسن فانتشى ... )
( مذ تولى وأعرضا ... ففؤادي يقطع )
( من لصب غدا مشوق ... )
( ظل في دمعه غريق ... )
( حين أموا حمى العقيق ... )
( واستقلوا بذي الغضا ... أسفي يوم ودعوا )
( ما ترى حين أظعنا ... )
( وسرى الركب موهنا ... )
( واكتسى الليل بالسنا ... )

( غصني القد مهضوم الوشاح ... مادري الوصل طائي السماح )
( قد بالقد فؤادي هيفا ... )
( وسبى عقلي لما انعطفا ... )
( ليته بالوصل أحيا دنفا ... )
( مستطار العقل مقصوص الجناح ... ما عليه في هواه من جناح )
( يا علي أنت نور المقل ... )
( جد بوصل منك لي يا أملي ... )
( كم أغنيك إذا ما لحت لي ... )
( طرقت والليل ممدود الجناح ... مرحبا بالشمس من غير صباح )
164 - ومنهم أبو الحجاج الساحلي يوسف بن إبراهيم بن محمد بن قاسم بن علي الفهري الغرناطي قال في الإحاطة صدر من صدور حملة القرآن على وتيرة الفضلاء وسنن الصالحين حج ولقي الأشياخ بعد أن قرأ على الأستاذ أبي جعفر بن الزبير وطبقته ومن نظمه يخاطب الوزير ابن الحكيم وقد أصابته حمى تركت على شفته بثورا
( حاشاك أن تمرض حاشاكا ... قد اشتكى قلبي لشكواكا
( إن كنت محموما ضعيف القوى ... فإنني أحسد حماكا )
( ما رضيت حماك إذ باشرت ... جسمك حتى قبلت فاكا )
قال أبو الحجاج رحمه الله تعالى وكتب إلى شيخنا محمد بن محمد بن عتيق

بن رشيق في الاستدعاء الذي أجازني فيه ولمن ذكر معي
( أجزت لهم أبقاهم الله كل ما ... رويت عن الأشياخ في سالف الدهر )
( وما سمعت أذناي من كل عال ... م وما جاد من نظمي وما راق من نثري )
( على شرط أصحاب الحديث وضبطهم ... بريء عن التصحيف عار عن النكر )
( كتبت لهم خطي واسمي محمد ... أبو القاسم المكنى ما فيه من نكر )
( وجدي رشيق شاع في الغرب ذكره ... وفي الشرق أيضا فادر إن كنت لا تدري )
( ولى مولد من بعد عشرين حجة ... ثمان على الست المئين ابتدا عمري )
( وبالله توفيقي عليه توكلي ... له الحمد في الحالين في العسر واليسر )
ومولد أبي الحجاج المذكور سنة 662 وتوفي سنة 702 رحمه الله تعالى ! انتهى باختصار
165 - وممن ارتحل من الأندلس إلى المشرق شاعر الأندلس يحيى بن الحكم البكري الجياني الملقب بالغزال لجماله وهو في المائة الثالثة من بني بكر بن وائل قال ابن حيان في المقتبس كان الغزال حكيم الأندلس وشاعرها وعرافها عمر أربعا وتسعين سنة ولحق أعصار خمسة من الخلفاء المروانية بالأندلس أولهم عبد الرحمن بن معاوية وآخرهم الأمير محمد بن عبد الرحمن بن الحكم

ومن شعره
( أدركت بالمصر ملوكا أربعه ... وخامسا هذا الذي نحن معه )
وله على أسلوب ابن أبي حكيمة راشد بن إسحاق الكاتب
( خرجت إليك وثوبها مقلوب ... ولقلبها طربا إليك وجيب )
( وكأنها في الدار حين تعرضت ... ظبي تعلل بالفلا مرعوب )
( وتبسمت فأتتك حين تبسمت ... بجمان در لم يشنه ثقوب )
( ودعتك داعية الصبا فتطربت ... نفس إلى داعي الضلال طروب )
( حسبتك في حال الغرام كعهدها ... في الدار إذ غصن الشباب رطيب )
( وعرفت ما في نفسها فضممتها ... فتساقطت بهنانة رعبوب )
( وقبضت ذاك الشيء قبضة شاهن ... فنزا إلي عضنك حلبوب )
( بيدي الشمال وللشمال لطافة ... ليست لأخرى والأديب أريب )
( فأصاب كفي منه حين لمسته ... بلل كماء الورد حين يسيب )
( وتحللت نفسي للذة رشحه ... حتى خشيت على الفؤاد يذوب )
( فتقاعس الملعون عنه وربما ... ناديته خيرا فليس يجيب )
( وأبى فحقق في الإباء كأنه ... جان يقاد إلى الردى مكروب )
( وتغضنت جنباته فكأنه ... كير تقادم عهده مثقوب )
( حتى إذا ما الصبح لاح عموده ... قبسا وحان من الظلام ذهوب )
( ساءلتها خجلا أما لك حاجة ... عندي فقالت ساخر وحروب )
( قالت حر امك إذ أردت وداعها ... قرن وفيه عوارض وشعوب )

وذكرها ابن دحية بمخالفة لما سردناه قال عتبة التاجر وجهني الأمير الحكم وابنه عبد الرحمن إلى المشرق وعبد الله بن طاهر أمير مصر من قبل المأمون فلقيته بالعراق فسألني عن هذه هل أحفظها للغزال قلت نعم فاستنشدنيها فأنشدته إياها فسر بها وكتبها قال عتبة ونلت بها حظا عنده
والبهنانة المرأة الطيبة النفس والأرج كما في الصحاح وقيل اللينة في منطقها وعملها وقيل الضحاكة المتهللة والرعبوب السبطة البيضاء والسبطة الطويلة وقال سامحه الله تعالى
( سألت في النوم أبي آدما ... فقلت والقلب به وامق )
( ابنك بالله أبو حازم ... صلى عليك المالك الخالق )
( فقال لي إن كان مني ومن ... نسلي فحوا أمكم طالق )
وقال رضي الله تعالى عنه
( أرى أهل اليسار إذا توفوا ... بنوا تلك المقابر بالصخور )
( أبوا إلا مباهاة وفخرا ... على الفقراء حتى في القبور )
( فإن يكن التفاضل في ذراها ... فإن العدل فيها في القعور )
( رضيت بمن تأنق في بناء ... فبالغ فيه تصريف الدهور )
( ألما يبصروا ما خربته الدهور ... من المدائن والقصور )
( لعمر أبيهم لو أبصروهم ... لما عرف الغني من الفقير )
( ولا عرفوا العبيد من الموالي ... ولا عرفوا الإناث من الذكور )
( ولا من كان يلبس ثوب صوف ... من البدن المباشر للحرير )

( إذا أكل الثرى هذا وهذا ... فما فضل الكبير على الحقير )
وقال رضي الله تعالى عنه
( لا ومن أعمل المطايا إليه ... كل من يرتجي إليه نصيبا )
( ما أرى ههنا من الناس إلا ... ثعلبا يطلب الدجاج وذيبا )
( أو شبيها بالقط ألقى بعينيه ... إلى فارة يريد الوثوبا )
وقال رضي الله تعالى عنه
( قالت أحبك قلت كاذبة غري ... بذا من ليس ينتقد )
( هذا كلام لست أقبله ... الشيخ ليس يحبه أحد )
( سيان قولك ذا وقولك إن ... الريح نعقدها فتنعقد )
( أو أن تقولي النار باردة ... أو أن تقولي الماء يتقد )
وحكى أبو الخطاب بن دحية في كتاب المطرب أن الغزال أرسل إلى بلاد المجوس وقد قارب الخمسين وقد وخطه الشيب ولكنه كان مجتمع الأشد فسألته زوجة الملك يوما عن سنه فقال مداعبا لها عشرون سنة فقالت وما هذا الشيب فقال وما تنكرين من هذا ألم تري قط مهرا ينتج وهو أشهب فأعجبت بقوله فقال في ذلك واسم الملكة تود
( كلفت يا قلبي هوى متعبا ... غالبت منه الضيغم الأغلبا )
( إني تعلقت مجوسية ... تأبى لشمس الحسن أن تغربا )
( أقصى بلاد الله في حيث لا ... يلفي إليه ذاهب مذهبا )

( يا تود يا رود الشباب التي ... تطلع من أزرارها الكوكبا )
( يا بأبي الشخص الذي لا أرى ... أحلى على قلبي ولا أعذبا )
( إن قلت يوما إن عيني رأت ... مشبهه لم أعد أن أكذبا )
( قالت أرى فوديه قد نورا ... دعابة توجب أن أدعبا )
( قلت لها ما باله إنه ... قد ينتج المهر كذا أشهبا )
( فاستضحكت عجبا بقولي لها ... وإنما قلت لكي تعجبا )
قال ولما فهمها الترجمان شعر الغزال ضحكت وأمرته بالخضاب فغدا عليها وقد اختضب وقال
( بكرت تحسن لي سواد خضابي ... فكأن ذاك أعادني لشبابي )
( ما الشيب عندي والخضاب لواصف ... إلا كشمس جللت بضباب )
( تخفي قليلا ثم يقشعها الصبا ... فيصير ما سترت به لذهاب )
( لا تنكري وضح المشيب فإنما هو زهرة الأفهام والألباب )
( فلدي ما تهوين من شأن الصبا ... وطلاوة الأخلاق والآداب )
وحكى ابن حيان في المقتبس أن الأمير عبد الرحمن بن الحكم المرواني وجه شاعره الغزال إلى ملك الروم فأعجبه حديثه وخف على قلبه وطلب منه أن ينادمه فامتنع من ذلك واعتذر بتحريم الخمر وكان يوما جالسا عنده وإذا بزوجة الملك قد خرجت وعليها زينتها وهي كالشمس الطالعة حسنا فجعل الغزال لا يميل طرفه عنها وجعل الملك يحدثه وهو لاه عن حديثه فأنكر ذلك عليه وأمر الترجمان بسؤاله فقال له عرفه أني قد بهرني من حسن هذه الملكة ما قطعني عن حديثه فإني لم أر قط

مثلها وأخذ في وصفها والتعجب من جمالها وأنها شوقته إلى الحور العين فلما ذكر الترجمان ذلك للملك تزايدت حظوته عنده وسرت الملكة بقوله وأمرت الترجمان أن يسأله عن السبب الذي دعا المسلمين إلى الختان وتجشم المكروه فيه وتغيير خلق الله مع خلوه من الفائدة فقال للترجمان عرفها أن فيه أكبر فائدة وذلك أن الغصن إذا زبر قوي واشتد وغلظ وما دام لا يفعل به ذلك لا يزال رقيقا ضعيفا فضحكت وفطنت لتعريضه انتهى ومن شعر الغزال قوله
( يا راجيا ود الغواني ضلة ... وفؤاده كلف بهن موكل )
( إن النساء لكالسروج حقيقة ... فالسرج سرجك ريثما لا تنزل )
( فإذا نزلت فإن غيرك نازل ... ذاك المكان وفاعل ما تفعل )
( أو منزل المجتاز أصبح غاديا ... عنه وينزل بعده من ينزل )
( أو كالثمار مباحة أغصانها ... تدنو لأول من يمر فيأكل )
( أعط الشبيبة لا أبا لك حقها ... منها فإن نعيمها متحول )
( وإذا سلبت ثيابها لم تنتفع ... عند النساء بكل ما تستبدل )
وقال
( قال لي يحيى وصرنا ... بين موج كالجبال )
( وتولتنا رياح ... من دبور وشمال )
( شقت القلعين وابنتت ... عدى تلك الحبال )
( وتمطى ملك الموت ... إلينا عن حيال )
( فرأينا الموت رأي العين ... حالا بعد حال )

( لم يكن للقوم فينا ... يا رفيقي رأس مال )
منها
( وسليمى ذات زهد في ... زهيد في وصال )
( كلما قلت صليني ... حاسبتني بالخيال )
( والكرى قد منعته ... مقلتي أخرى الليالي )
( وهي أدرى فلماذا ... دافعتني بمحال )
( أترى أنا اقتضينا ... بعد شيئا من نوال )
وله
( من ظن أن الدهر ليس يصيبه ... بالحادثات فإنه مغرور )
( فالق الزمان مهونا لخطوبه ... وانجر حيث يجرك المقدور )
( وإذا تقلبت الأمور ولم تدم ... فسواء المحزون والمسرور )
وعاش الغزال أربعا وتسعين سنة وتوفي في حدود الخمسين والمائتين سامحه الله تعالى وكان الغزال أقذع في هجاء علي بن نافع المعروف بزرياب فذكر ذلك لعبد الرحمن فأمر بنفيه فدخل العراق وذلك بعد موت أبي نواس بمدة يسيرة فوجدهم يلهجون بذكره ولا يساوون شعر أحد بشعره فجلس يوما مع جماعة منهم فأزروا بأهل الأندلس واستهجنوا أشعارهم فتركهم حتى وقعوا في ذكر أبي نواس فقال لهم من يحفظ منكم قوله

( ولما رأيت الشرب أكدت سماؤهم ... تأبطت زقي واحتبست عنائي )
( فلما أتيت الحان ناديت ربه ... فثاب خفيف الروح نحو ندائي )
( قليل هجوع العين إلا تعلة ... على وجل مني ومن نظرائي )
( فقلت أذقنيها فلما أذاقها ... طرحت عليه ريطتي وردائي )
( وقلت أعرني بذلة أستتر بها ... بذلت له فيها طلاق نسائي )
( فوالله ما برت يميني ولا وفت ... له غير أني ضامن بوفائي )
( فأبت إلى صحبي ولم أك آئبا ... فكل يفديني وحق فدائي )
فأعجبوا بالشعر وذهبوا في مدحهم له فلما أفرطوا قال لهم خفضوا عليكم فإنه لي فأنكروا ذلك فأنشدهم قصيدته التي أولها
( تداركت في شرب النبيذ خطائي ... وفارقت فيه شيمتي وحيائي )
فلما أتم القصيدة بالإنشاد خجلوا وافترقوا عنه
وحكى أن يحيى الغزال أراد أن يعارض سورة ( قل هو الله أحد ) فلما رام ذلك أخذته هيبة وحالة لم يعرفها فأناب إلى الله فعاد إلى حاله
وحكي أن عباس بن ناصح الثقفي قاضي الجزيرة الخضراء كان يفد على قرطبة ويأخذ عنه أدباؤها ومرت عليهم قصيدته التي أولها
( لعمرك ما البلوى بعار ولا العدم ... إذا المرء لم يعدم تقى الله والكرم )
حتى انتهى القارئ إلى قوله
( تجاف عن الدنيا فما لمعجز ... ولا عاجز إلا الذي خط بالقلم )

فقال له الغزال وكان في الحلقة وهو إذ ذاك حدث نظام متأدب ذكي القريحة أيها الشيخ وما الذي يصنع مفعل مع فاعل فقال له كيف تقول فقال كنت أقول فليس لعاجز ولا حازم فقال له عباس والله يا بني لقد طلبها عمك فما وجدها
وأنشد يوما قوله من قصيدة
( بقرت بطون الشعر فاستفرغ الحشا ... بكفي حتى آب خاويه من بقري )
فقال له بكر بن عيسى الشاعر أما والله يا أبا العلاء لئن كنت بقرت الحشا لقد وسخت يديك بفرثه وملأتهما بدمه وخبثت نفسك بنتنه وخشمت أنفك بعرفه فاستحيا عباس وأفحم عن جوابه
166 - ومنهم الشهير بالمغارب والمشارق المحلي بجواهره صدور المهارق أبو الحسن علي بن موسى بن سعيد العنسي متمم كتاب المغرب في أخبار المغرب قال فيه وأنا اعتذر في إيراد ترجمتي هنا بما اعتذر به ابن الإمام في كتاب سمط الجمان وربما اعتذر به الحجاري في كتاب المسهب وابن القطاع في الدرة الخطيرة وغيرهم من العلماء فمن نظمه عند ما ورد الديار المصرية
( أعترض الوجوه ولا أرى ... ما بينها وجها لمن أدريه )
( عودي على بدئي ضلالا بينهم ... حتى كأني من البقايا التيه )
( ويح الغريب توحشت ألحاظه ... في عالم ليسوا له بشبيه )
( إن عاد لي وطني اعترفت بحقه ... إن التغرب ضاع عمري فيه

وله من قصيدة يمدح ملك إفريقية أبا زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص
( الأفق طلق والنسيم رخاء ... والروض وشت برده الأنداء )
( والنهر قد مالت عليه غصونه ... فكأنما هو مقلة وطفاء )
( وبدا نثار الجلنار بصفحه ... فكأنما هو حية رقطاء )
( والشمس قد رقمت طرازا فوقه ... فكأنما هي حلة زرقاء )
( فأدر كؤوسك كي يتم لك المنى ... واسمع إلى ما قالت الورقاء )
( تدعوك حي على الصبوح فلا تنم ... فعلى المنام لدى الصباح عفاء )
وله
( كم جفاني ورمت أدعو عليه فتوقفت ثم ناديت قائل )
( لا شفى الله لحظه من سقام ... وأراني عذاره وهو سائل ) وله من قصيدة كتب بها إلى ملك سبتة الموفق أبي العباس أحمد بن أبي الفضل السبتي شافعا لشخص رغب في خدمته
( بالعدل قمت وبالسماح فدن وجد ... لا فارقتك كفاية وعطاء )
( ما كل من طلب السعادة نالها ... وطلاب ما يأبى القضاء شقاء )
ومنها
( وقد استطار بأسطري نحو الندى ... من أنهضته لنحوك العلياء )
( طلب النباهة في ذراك فما له ... إلا لديك تأمل ورجاء )
( وهو الذي بعد التجارب أحمدت ... أحواله وجرى عليه ثناء )

( لا يقرب الدنس المريب كواصل ... هجرته خوفا أن يشان الراء )
( قد مارس الحرب الزبون زمانه ... وجرت عليه شدة ورخاء )
( وعلاك تقضي أن يسود بأفقها ... لا غرو أن يعلي الشهاب بهاء )
وقوله من قصيدة
ألف التغرب والتوحش مثل ما ... ألف التوحش والنفور ظباء )
( حجابه ألفوا التهجم والجفا ... فهم لكل أخي هدى أعداء )
( مهما يرم طلب إليه تقربا ... بعدت بذاك البدر عنه سماء )
( لكنني ما زلت أخدع حاجبا ... ومراقبا حتى ألان حباء )
( والأرض لم تظهر محجب نبتها ... حتى حبتها الديمة الوطفاء )
قيل وهذا معنى لم يسمع من غيره وقوله في خسوف البدر
( شان الخسوف البدر بعد جماله ... فكأنه ماء عليه غثاء )
( أو مثل مرآة لخود قد قضت ... نظرا بها فعلا الجلاء غشاء )
وله من قصيدة عتاب يقول فيها
( ولقد كسبت بكم علا لكنها ... صارت بأقوال الوشاة هباء )
( فغدوت ما بين الصحابة أجربا ... كل يحاذر مني الأعداء )
( ولقد أرى أن النجوم تقل لي ... حجبا وأصغر أن أحل سماء )
( فليهجروا هجر الفطيم لدره ... ويساعدوا الزمن الخئون جفاء )
( فلقد شكوت لهم إحالة ودهم ... إذ لم أكن أرضى بهم خدماء )

( إيه فذكرهم أقل وإنما ... أومي إليك فتفهم الإيماء )
( لو لم يكن قين لما فتكت ظبا ... أنت الذي صيرتهم أعداء )
( ولو أنني أرجو ارتجاعك لم أطل ... شكوى ولم أستبعد الإغضاء )
( لكن رأيتك لا تميل سجية ... نحوي ولا تتكلف الإصغاء )
( إن لم يكن عطف فمنوا بالنوى ... إن الكريم إذا أهين تناءى )
وقوله
( ولكم سرينا في متون ضوامر ... تثني أعنتها من الخيلاء )
( من ادهم كالليل حجل بالضحى ... فتشق غرته عن ابن ذكاء )
( أو أشهب يحكي غدائر أشيب ... خلعت عليه الشهب فضل رداء )
( أو أشقر قد نمقته بشعلة ... كالمزج ثار بصفحة الصهباء )
( أو أصفر قد زينته غرة ... حتى بدا كالشمعة الصفراء )
( طارت ولكن لا يهاض جناحها ... هبت ولكن لم تكن برخاء )
وقوله من أبيات في افتضاض بكر
( وخريدة ما إن رأيت مثالها ... حيت من الألحاظ بالإيماء )
( فسألتها سمع الشكاة فأفهمت ... أن الرقيب جهينة الأنباء )
وتبعتها وسألت منها قبلة ... في خلوة من أعين الرقباء )
( فثنت علي قوامها بتعانق ... أحيا فؤادا مات بالبرحاء )
( ووجدتها لما ملكت عنانها ... عذراء مثل الدرة العذراء )
جاءت إلي كوردة حمراء ... فتركتها كعرارة صفراء )
( وسلبتها ما احمر منها صفوه ... فجرى مذابا منجحا لرجائي )

وقوله من أبيات
( أحبابنا عودوا علينا عودة ... ما منكم بعد التفرق مرغب )
( كم ذا أداريكم بنفسي جاهدا ... وكأنما أرضيكم كي تغضبوا ... وأزيد بعدا ما اقتربت إليكم ... كالسهم أبعد ما يرى إذ يقرب )
( وأجوب نحوكم المنازل جاهدا ... ومع اجتهادي فاتني ما أطلب )
( كالبدر أقطع منزلا في منزل ... فإذا انتهيت إلى ذراكم أغرب )
وقوله من أبيات
( سألتك يا من يستلان فيصعب ... ومن يترضى بالحياة فيغضب )
( أما خدك البدر المنير فلم غدت ... تحل به ضد القضية عقرب )
وقوله وقد داعبه أحد الفقهاء وسرق سكينه من حرز
( أيا سارقا ملكا مصونا ولم يجب ... على يده قطع وفيه نصاب )
( ستندبه الأقلام عند عثارها ... ويبكيه إن يعد الصواب كتاب )
وقوله في تفاحة عنبر أهديت للملك الصالح نجم الدين أيوب
( أنا لون الشباب والخال أهديت ... لمن قد كسا الزمان شبابا )
( ملك العالمين نجم بني أيوب ... لا زال في المعالي شهابا )
( جئت ملأى من الثناء عليه ... من شكور إحسانه والثوابا )
( لست ممن له خطاب ولكن ... قد كفاني أريج عرفي خطابا )
وقوله من قصيدة
( فالحمد لله على ساعة ... قد قربتني من علا الصاحب )
( ولعيذر المولى على أنني ... قد كنت من علياه في جانب )

كمن أتى نافلة أولا ... ثم أتى من بعد بالواجب )
وقوله من أبيات
( فإن كنت في أرض التغرب غاربا ... فسوف تراني طالعا فوق غارب )
( فصمصام عمرو حين فارق كفه ... رموه ولا ذنب لعجز المضارب )
( وما عزة الضرغام إلا عرينه ... ومن مكة سادت لؤي بن غالب )
وقوله في فرس أصفر أغر أكحل الحلية
( وأجرد تبري أثرت به الثرى ... وللفخر في خصر الظلام وشاح )
( له لون ذي عشق وحسن معشق ... لذلك فيه دلة ومراح )
( عجبت له وهو الأصيل بعرفه ... ظلام وبين الناظرين صباح )
( يقيد طير اللحظ والوحش عندما ... يطير به نحو النجاح جناح )
وقوله من أبيات
( إذا ما غراب البين صاح فقل له ... ترفق رماك الله يا طير بالبعد )
( لأنت على العشاق أقبح منظرا ... وأكره في الأبصار من ظلمة اللحد )
( تصيح بنوح ثم تعثر ماشيا ... وتبرز في ثوب من الحزن مسود )
( متى لحت صح البين وانقطع الرجا ... كأنك من وشك الفراق على وعد )
وقوله في غلام جميل الصورة أهدى تفاحة
( ناب ما أهديت عن عر ف ... وعن ريق وخد )

( حبذا تفاحة قد ... أشبهت أوصاف مهدي )
( بت منها في سرور ... فكأن قد بت عندي )
وقوله من قصيدة
( هذا الذي يهب الدنيا بأجمعها ... وبعد ذلك يلفى وهو يعتذر )
( إن هزه المدح فالأموال في بدد ... والغصن ما هز إلا بدد الثمر )
( فقلت لما بدا لي حسن منظره ... لكنه زاد إشراقا هو القمر )
( متع لحاظك في وجه بلا ضرر ... إن كان شمسا يداه تحتها مطر )
وقوله من أبيات
( لي جيرة ضنوا علي وجاروا ... فنبت بي الأوطان والأوطار )
( ومن العجائب أنني مع جورهم ... ما قر لي بعد الفراق قرار )
( أنا شاعر أهوى التخلي دون ما ... زوج لكيما تخلص الأفكار )
( لو كنت ذا زوج لكنت منغصا ... في كل حين رزقها أمتار )
( دعني أرح طول التغرب خاطري ... حتى أعود ويستقر قرار )
( كم قائل لي قد ضاع شرخ شبابه ... ما ضيعته بطالة وعقار )
( إذ لم أزل في العلم أجهد دائما ... حتى تأتت هذه الأبكار )
( مهما أرم من دون زوج لم أكن ... كلا ورزقي دائما مدرار )
( وإذا خرجت لفرجة هنيتها ... لا صنعة ضاعت ولا تذكار )
وقوله من قصيدة

( ما كنت أحسب أن أضيع وأنت في الدنيا ... وأن أمسي غريبا معسرا )
( أنا مثل سهم سوف يرجع بعدما ... أقصاه راميه المجيد ليخبرا )
وقوله سامحه الله تعالى
( وافى علي لنا بسيف ... والبين قد حان والوداع )
( فقال شبه فقلت شمس ... قد مد من نورها شعاع )
وقوله من قصيدة في ملك إشبيلية الباجي وقد هزم ابن هود
( لله فرسان غدت راياتهم ... مثل الطيور على عداك تحلق )
( السمر تنقط ما تسطر بيضهم ... والنقع يترب والدماء تخلق )
وقال ارتجالا بمحضر زكي الدين بن أبي الإصبغ وجمال الدين أبي الحسين الجزار المصري الشاعر ونجم الدين بن إسرائيل الدمشقي بظاهر القاهرة وقد مشى أحدهم على بسيط نرجس
( يا واطئ النرجس ما تستحي ... أن تطأ الأعين بالأرجل )
فتهافتوا بهذا البيت وراموا إجازته فقال ابن أبي الإصبع مجيزا
( فقلت دعني لم أزل محرجا ... على لحاظ الرشإ الأكحل )
( وكان أمثل ما حضرهم ثم أبوا أن يجيزه غيره فقال
( قابل جفونا بجفون ولا ... تبتذل الأرفع بالأسفل )
وقوله في الجزيرة الصالحية بمصر وهي الشهيرة الآن بالروضة
( تأمل لحسن الصالحية إذ بدت ... مناظرها مثل النجوم تلالا )

( وللقلعة الغراء كالبدر طالعا ... تفجر صدر الماء عنه هلالا )
( ووافى إليها النيل من بعد غاية ... كما زار مشغوف يروم وصالا )
( وعانقها من فرط شوق بحسنها ... فمد يمينا نحوها وشمالا )
( جرى قادما بالسعد فاخنط حولها ... من السعد إعلاما بذلك دالا )
وقوله من أبيات في ملك إفريقية وقد جهز ولده الأمير أبا يحيى بعسكر
( وقد أرسلته نحو الأعادي ... كما جردت من غمد حساما )
وقوله في قوس
( أنا مثل الهلال في ظلم النقع ... سهامي تنقض مثل النجوم )
( تقصر القضب والقنا عن مجالي ... عند رجمي بها لكل رجيم )
( قد كستها الطيور لما رأتها ... كافلات لها برزق عميم )
وقوله من أبيات
( وأشقر مثل البرق لونا وسرعة ... قصدت عليه عارض الجود فانهمى )
( ولنذكر ترجمته من الإحاطة ملخصة فنقول قال لسان الدين علي بن موسى بن عبد الملك بن سعيد بن محمد بن عبد الله بن سعيد بن الحسن بن عثمان بن عبد الله بن سعد بن عمار بن ياسر بن كنانة بن قيس بن الحصين العنسي المدلجي من أهل قلعة يحصب غرناطي قلعي سكن تونس أبو الحسن ابن سعيد وهذا الرجل وسطى عقد بيته وعلم أهله ودرة قومه المصنف الأديب الرحالة الطرفة

الأخباري العجيب الشأن في التجول في الأقطار ومداخلة الأعيان والتمتع بالخزائن العلمية وتقييد الفوائد المشرقية والمغربية أخذ من أعلام إشبيلية كأبي علي الشلوبين وأبي الحسن الدباج وابن عصفور وغيرهم وتواليفه كثيرة منها المرقصات والمطربات والمقتطف من ازاهر الطرف والطالع السعيد في تاريخ بني سعيد تاريخ بلده وبيته والموضوعان الغريبان المتعددا الأسفار وهما المغرب في حلى المغرب والمشرق في حلى المشرق وغير ذلك مما لم يتصل إلينا فلقد حدثني الوزير أبو بكر بن الحكيم أنه تخلف كتابا يسمى المرزمة يشتمل على وقر بعير من رزم الكراريس لا يعلم ما فيه من الفوائد الأدبية والأخبارية إلا الله تعالى وتعاطى نظم الشعر في حد من الشبيبة يعجب فيه من مثله فيذكر أنه خرج مع أبيه إلى إشبيلية وفي صحبته سهل بن مالك فجعل سهل بن مالك يباحثه عن نظمه إلى أن أنشده في صفة نهر والنسيم يردده والغصون تميل عليه
( كأنما النهر صفحة كتبت ... أسطرها والنسيم ينشئها )
( لما أبانت عن حسن منظرها ... مالت عليها الغصون تقرؤها )
فطرب وأثنى عليه ثم ناب عن أبيه في أعمال الجزيرة ومازج الأدباء ودون كثيرا من نظمه ودخل القاهرة فصنع له أدباؤها صنيعا في ظاهرها وانتهت بهم الفرجة إلى روض نرجس وكان فيهم أبو الحسين الجزار فجعل يدوس النرجس برجله فقال أبو الحسن
( يا واطىء النرجس ما تستحي ... أن تطأ الأعين بالأرجل )

فتهافتوا بهذا البيت وراموا إجازته فقال ابن أبي الأصبغ
( فقال دعني لم أزل محنقا ... على لحاظ الرشإ الأكحل )
وكان أمثل ما حضرهم ثم أبوا أن يجيزه غيره فقال
( قابل جفونا بجفون ولا ... تبتذل الأرفع بالأسفل )
ثم استدعاه سيف الدين ابن سابق إلى مجلس بضفة النيل مبسوط بالورد وقد قامت حوله شمامات نرجس فقال في ذلك
( من فضل النرجس فهو الذي ... يرضى بحكم الورد إذ يرأس )
( أما ترى الورد غدا قاعدا ... وقام في خدمته النرجس )
ووافق ذلك مماليك الترك وقوفا في الخدمة على عادة المشارقة فطرب الحاضرون
ولقي بمصر أيدمر التركي والبهاء زهيرا وجمال الدين بن مطروح وابن يغمور وغيرهم ورحل صحبة كمال الدين بن العديم إلى حلب فدخل على الناصر صاحب حلب فأنشده قصيدة أولها
( جد لي بما ألقي الخيال من الكرى ... لا بد للضيف الملم من القرى )
فقال كمال الدين هذا رجل عارف ورى بمقصوده من أول كلمة وهي قصيدة طويلة فاستجلسه السلطان وسأله عن بلاده ومقصوده برحلته وأخبره أنه جمع كتابا في الحلى البلادية والعلى العبادية المختصة بالمشرق وأخبره أنه سماه المشرق في حلى المشرق وجمع مثله فسماه المغرب في حلى المغرب فقال نعينك بما عندنا من الخزائن ونوصلك إلى ما ليس

عندنا كخزائن الموصل وبغداد وتصنف لنا فخدم على عادتهم وقال أمر مولاي بذلك إنعام وتأنيس ثم قال له السلطان مداعبا إن شعراءنا ملقبون بأسماء الطيور وقد اخترت لك لقبا يليق بحسن صوتك وإيرادك للشعر فإن كنت ترضى به وإلا لم نعلم به أحدا غيرنا وهو البلبل فقال قد رضي المملوك يا خوند فتبسم السلطان وقال له أيضا يداعبه اختر واحدة من ثلاث إما الضيافة التي ذكرتها أول شعرك وإما جائزة القصيدة وإما حق الإسم فقال يا خوند المملوك مما لا يختنق بعشر لقم لأنه مغربي أكول فكيف بثلاث فطرب السلطان وقال هذا مغربي ظريف ثم أتبعه من الدنانير والخلع المملوكية والتواقيع بالأرزاق ما لا يوصف ولقي بحضرته عون الدين العجمي وهو بحر لا تنزفه الدلاء والشهاب التلعفري والتاج ابن شقير وابن نجيم الموصلي والشرف بن سليمان الإربلي وطائفة من بني الصاحب ثم تحول إلى دمشق ودخل الموصل وبغداد ودخل مجلس السلطان المعظم بن الملك الصالح بدمشق وحضر مجلس خلوته وكان ارتحاله إلى بغداد في عقب سنة ثمان وأربعين وستمائة في رحلته الأولى إليها ثم رحل إلى البصرة ودخل أرجان وحج ثم عاد إلى المغرب وقد صنف في رحلته مجموعا سماه بالنفحة المسكية في الرحلة المكية وكان نزوله بساحل مدينة إقليبية من إفريقية في إحدى جمادى سنة اثنتين وخمسين وستمائة واتصل بخدمة الأمير أبي عبد الله المستنصر فنال الدرجة الرفيعة من حظوته
حدثني شيخنا الوزير أبو بكر بن الحكيم أن المستنصر جفاه في آخر عمره وقد أسن لجراء خدمة مالية أسندها إليه وقد كان بلا منه قبل جفوة أعقبها انتشال وعناية فكتب إليه بنظم من جملته

( لا ترعني بالجفا ثانية ... ) فرق له وعاد إلى حسن النظر إليه إلى أن توفي تحت بر وعناية
مولده بغرناطة ليلة الفطر سنة عشر وستمائة ووفاته بتونس في حدود خمسة وثمانين وستمائة انتهى باختصار وذكرت حكاية إجازة بيته في النرجس وإن تقدمت لاتصال الكلام قلت قد كنت وقفت على بعض ديوان شعره المتعدد الأسفار ونقلت منه قوله من قصيدة يهنىء ابن عمه الرئيس أبا عبد الله بن الحسين بقدومه من حركة هوارة
( أما واجب أن لا يحول وجيب ... وقد بعدت دار وخان حبيب )
( وليس أليف غير ذكر وحسرة ... ودمع على من لا يرق صبيب )
( وخفق فؤاد إن هفا البرق خافقا ... وشوق كما شاء الهوى ونحيب )
( ويعذلني من ليس يعرف ما الهوى ... وعذل مشوق في البكاء عجيب )
( ألا تعس اللوام في الحب قد عموا ... وصموا ودائي ليس منه طبيب )
( يرومون أن يثني الملام صبابتي ... وليس إلى داعي الملام أجيب )
( وفائي إذا ما غبت عنكم مجدد ... وغيري ذو غدر أوان يغيب )
( ولو لم يكن مني الوفاء سجية ... لكنت لغير ابن الحسين أنيب )
( سموأل هذا العصر حاتم جوده ... مهلبه إن مارسته حروب )

( فتى سير الأمداح شرقا ومغربا ... أبو دلف من دونه وخصيب )
( إذا رقم القرطاس قلت ابن مقلة ... وإن نظم الأشعار قلت حبيب )
( وإن نثر الأسجاع قلت سميه ... وإن سرد التاريخ قلت عريب )
( وما أحرز الصولي آدابه التي ... إذا ما تلاها لم يجبه أديب )
ومنها
( وأما إذا ما الحرب أخمد نارها ... ففيه تلظي مارج ولهيب )
( فكم قارع الأبطال في كل وجهة ... نحاها وكم لفت عليه حروب )
( وكائن له بالغرب من موقف له ... حديث إذا يتلى تطير قلوب )
( بمراكش سل عنه تعلم غناءه ... وقد ساءهم يوم هناك عصيب )
( إذا ما ثنى الرمح الطويل كأنه ... مدير لغصن الخيزران لعوب )
( وإن جره أبصرت نجما مجررا ... ذؤابته منه الكماة تذوب )
( يهيم به ما إن يزال معانقا له ... راكعات ما تحوز كعوب )
( محمد لا تبد الذي أنت قادر ... عليه وخف عينا علاك تصيب )
( نفوذ سهام العين أودى بمصعب ... وطاح به بعد الشبوب شبيب )
( ألا فهنيئا أن رجعت لتونس ... فأطلعت شمسا والسفار غروب )
( كواكبها تبدو إذا ما تركتها ... وقد جعلت مهما حضرت تغيب )
( إذا سدت في أرض فغيرك تابع ... علاك ومهما ساد فهو مريب )

قراءة المظالم فانفردت بالكتابة للوزير المذكور وفوض إلي جميع أموره وأولاني من التأنيس ما أنساني تلك الوحشة ومن العز ما أنقذني من تلك الذلة
( فرد علي العيش بعد ذهابه ... وآنسني بعد انفرادي من الأهل )
( وقال إذا ما الطويل فاتك فاقتنع ... بما قد تسنى عندك الآن من طل )
( ووالله ما نعماه طل وإنما ... تأدبه غيث بجود على الكل )
( رآني أظمأ في الهجيرة ضاحيا ... فرق وآواني إلى الماء والظل )
ولم أزل عنده في أسر حال ما لها تكدير إلا ما يبلغني من أن ابن عمي لا يزال يسعى في حقي بما أخشى مغبته وخفت أن يطول ذلك فيسمع منه ولا ينفع دفاع الوزير المذكور عني فرغبت له في أن يرفع للملك أني راغب في السراح إلى المشرق برسم الحج
( ومن بله الغيث في بطن واد ... وبات فلا يأمنن السيولا )
فلم يسعفني في ذلك ولامني على تخوفي وقلة ثقتي بحمايته فرفعت له هذه القصيدة
( هل الهجر إلا أن يطول التجنب ... ويبعد من قد كان منه التقرب )
( وتقطع رسل بيننا ورسائل ... ويمنع لقيانا نوى وتحجب )
( ولو أنني أدري لنفسي زلة ... جعلت لكم عذرا ولم أك أعتب )
( ولكنكم لما مللتم هجرت ... م وذنبتم في الحب من ليس يذنب )
( إلى الله أشكو غدركم وملالكم ... وقلبا له ذاك التعذب يعذب )
( فلو أنه يجزيكم بفعالكم ... لكان له عنكم مراد ومذهب )



 
نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب - دار صادر  المؤلف أحمد بن محمد المقري التلمساني 

وصف الكتاب


نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب يعد أحد أقدم الكتب الأندلسية ظهورا للنور وهو موسوعة تاريخية مهمة في دراسة التاريخ والأدب والجغرافيا الخاصة بالأندلس.
وقد صرح المقري بمقدمة كتابه أنه ألفه إجابة لطلب الإمام المولى الشاهيني أستاذ المدرسة الجقمقية في دمشق وقال: «وعزمت على الإجابة لما للمذكور علي من الحقوق وكيف أقابل بره بالعقوق فوعدته بالشروع في المطلب عند الوصول إلى القاهرة المعزية».
وجعل عنوانه أولاً "عرف الطيب في التعريف بالوزير ابن الخطيب" فلما رأى مادته قد اتسعت لتشمل الأندلس أدباً وتاريخاً عمد إلى تغيير عنوانه ليصير "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب وذكر وزيرها لسان الدين ابن الخطيب".
وجاء هذا الكتاب على جزأين جزء يتحدث عن الأندلس والمدن الأندلسية وسكانها ووصف مناخها وتوضيح مساحتها وتحديد أراضيها وأول من سكنها ووصف سكان الأندلس وحبهم للعلم والأدب وسلوكياتهم وخصوصياتهم الاجتماعية والشأو البعيد الذي بلغوه في مجال العلوم والآداب.
والجزء الآخر عن أخبار الوزير ابن الخطيب.
اعتمد المقري في كتابه على مصادر لم يصلنا منها سوى القليل كالمغرب لابن سعيد ومطمح الأنفس لابن خاقان والمطمح الكبير.
انتهى المصنف من الكتاب يوم الأحد 27 رمضان 1038 هـ ثم ألحق به فصولاً أتمها في ذي الحجة سنة 1039 هـ وكان قد ألف كتابه هذا وهو في القاهرة مغترباً عن بلده تلمسان - في الجزائر.
المحقق: إحسان عباس
حالة الفهرسة: غير مفهرس
الناشر: دار صادر
سنة النشر: 1388ه - 1968م
عدد المجلدات: 8
عدد الصفحات: 4920
الحجم (بالميجا): 87

تاريخ النشر
1439/2/21 هـ

روابط التحميل






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مجلد11.و12. من كتاب بغية الطلب في تاريخ حلب المؤلف : ابن العديم

  11. مجلد11. من كتاب بغية الطلب في تاريخ حلب المؤلف : ابن العديم ابن عبد العزى بن رباح بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب القرشي العدوي،...