بحث هذه المدونة الإلكترونية

Translate كيك520000.

السبت، 11 يونيو 2022

مجلد3. و4. نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب المؤلف : أحمد بن محمد المقري التلمساني

 مجلد3. و4. نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب
المؤلف : أحمد بن محمد المقري التلمساني

3.   : مجلد3.نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب /لأحمد بن محمد المقري التلمساني

ومنها
( كفاني أني أستظل بظلكم ... ومن هاب ذاك المجد فهو مهيب )
( فأصلك أصلي والفروع تباينت ... بعيد على من رامه وقريب )
( وحسبي فخرا أن أقول محمد ... نسيب علي جل منه نصيب )
( تركت جميع الأقربين لقصده ... على حين حانت فتنة وخطوب )
( رأيت به جنات عدن فلم أبل ... إذا وصلتنا للخلود شعوب )
( فقبلت كفا لا أعاب بلثمها ... وأيدي الأيادي لثمهن وجوب )
( وكيف وليس الرأس كالرجل فرقت ... شيات لعمري بيننا وضروب )
( ولو كان قدري مثل قدرك في العلا ... لحق بأن يعلو الشباب مشيب )
( ولولا الذي أسمعت من مكر حاسد ... أتاك بقول وهو فيه كذوب )
( لما كنت محتاجا لقولي آنفا ... تخليت من ذنب وجئت أتوب )
( إذا كنت ذا طوع وشكر وغبطة ... فمن أين لي يا ابن الكرام ذنوب )
( لقد كنت معتادا ببشر فما الذي ... تقلدته حتى يزال قطوب )
( أإن رفع السلطان سعيي بقدركم ... أحلأ عن ورد لكم وأخيب )
( فأحسب ذنبي ذنب صحر بدارها ... ألي البر عند الخابرين معيب )
( وحاشاك من جور علي وإنما ... أخاطب من أصفى له فيشوب )
( صحاب هم الداء الدفين فليتني ... ولم أدن منهم للذئاب صحوب )
( كلامهم شهد ولكن فعلهم ... كسم له بين الضلوع دبيب )
( سأرحل عنهم والتجارب لم تدع ... بقلبي لهم شيئا عليه أثيب )

( إذا اغترب الإنسان عمن يسوءه ... فما هو في الإبعاد عنه غريب )
( فدارك برأب منك ما قد خرقته ... ليحسن مني مشهد ومغيب )
( ولا تستمع قول الوشاة فإنما ... عدوهم بين الأنام نجيب )
( فيا ليت أني لم أكن متأدبا ... ولم يك لي أصل هناك رسوب )
( وكنت كبعض الجاهلين محببا ... فما أنا للهم الملم حبيب )
( وما إن ضربت الدهر زيدا بعمره ... ولم يك لي بين الكرام ضريب )
( أأشكوك أم أشكو إليك فما عدت ... عداتي حتى حان منك وثوب )
( سأشكر ما أولى وأصبر للذي ... توالى على أن العزاء سليب )
( فدم في سرور ما بقيت فإنني ... وحقك مذ دب الوشاة كئيب )
قال وكان سبب التغير بيني وبين ابن عمي الرئيس المذكور أن ملك إفريقية استوزر لأشغال الموحدين أبا العلاء إدريس بن علي بن أبي العلاء بن جامع فاشتمل علي وأولاني من البر ما قيدني وأمال قلبي إليه مع تأكيد ما بينه وبين ابن عمي من الصحبة فلم يزل ينهض بي ويرفع أمداحي للملك ويوصل إليه رسائلي منبها على ذلك مرشحا إلى أن قبض الملك على كاتب عسكره وكان يقرأ بين يديه كتب المظالم فاحتيج إلى من يخلفه في ذلك فنبه الوزير علي وارتهن في مع أني كنت من كتاب الملك فقلدني قراءة المظالم المذكورة وسفر لي الوزير عنده في دار الكاتب المؤخر فأنعم بها فوجد الوشاة مكانا متسعا للقول فقالوا وزوروا من الأقاويل المختلفة ما مال بها حيث مالوا وظهر منه مخايل التغيير فجعلت أداريه وأستعطفه فلم ينفع فيه قليل ولا كثير إلى أن يسعى في تأخير والدي عن الكتب للأمير الأسعد أبي يحيى ابن ملك إفريقية ثم سعى في تأخيري فأخرت عن الكتابة وعن

ولكن أبى
( أن لا يحن لغيركم ... وأن لا يرى عنكم مدى الدهر مذهب )
( فهلا رعيتم أنه في ذراكم ... غريب وليس الموت إلا التغرب )
( لزمتك لما أن رأيتك كاملا ... جمالا وإجمالا وذاك يحبب )
( وإني لأخشى أن يطول اشتكاؤه ... لمن إن أتى مكرا فليس يثرب )
( فلم أسع إلا لارتياح وراحة ... وغيري وقد آواه غيرك يتعب )
( فأنت الذي آويتني ورحمتن ... ي وذو الرحم الدنيا لناري يحطب )
( فما مر يوم لا يريد مصيبة ... عليك وبالتدبير منك يخيب )
( وهبه ثبوتا لا تحيل أما ترى ... مجر حبال في الحجارة يرسب )
( وهبه له سدا فكم أنت حاضر ... أحاذر خرقا منه أن يتسببوا )
( وإما إن أرى إلا الفرار مخلصا ... وما راغب في الضيم من عنه يرغب )
( فأنه إلى الأمر العلي شكيتي ... وأن خطوب الدهر نحوي تخطب )
( ولا تطمعوني في الذي لست نائلا ... فلا أنا عرقوب ولا أنا أشعب )
( ألا فلتمنوا بالسراح فإنه ... لراحة من يشقى لديكم وينصب )
( سلوا الكأس عني إذ تدار فإنني ... لأتركها هما ودمعي أشرب )
( ولا أسمع الألحان حين تهزني ... ولو كان نوحا كنت أصغي وأطرب )
( فديتكم كم ذا أهون بأرضكم ... أهذا جزاء للذي يتغرب )
( أبخل علي أن ما سواك يصيخ لي ... فهل لي مما كدر العيش مهرب )
( تقلص عني كل ظل ولم أجد ... كما كنت ألقى من أود وأصحب )
( أذو طمع في العيش يبقى وحوله ... مدى الدهر أفعى لا تزال وعقرب )
( أجزني لأنجو بالفرار فإنه ... وحقك من نعماك عندي يحسب )

( فلا زلت يا خير الكرام مهنأ ... فعيشي منه الموت أشهى وأطيب )
( وصانك من قد صنت في حقه دمي ... وغيرك من ثوب المروءة يسلب )
ولم يزل الوزير - لا أزال الله عنه رضاه يحمى جانبي إلى أن أصابتني فيه العين فأصابه الحين فقلت في ذلك
( وطيب نفسي أنه مات عندما ... تناهى ولم يشمت به كل حاسد )
( ويحكم فيه كل من كان حاكما ... عليه ويعطى الثأر كل معاند )
وقلت أرثيه
( بكت لك حتى الهاطلات السواكب ... وشقت جيوبا فيك حتى السحائب )
( فكيف بمن دافعت عنه ومن به ... أحاطت وقد بوعدت عنه المصائب )
( ألا فانظروا دمعي فأكثره دم ... ولا تذهبوا عني فإني ذاهب )
( وقولوا لمن قد ظل يندب بعده ... وفاؤك لو قامت عليك النوادب )
( لعمرك ما في الأرض واف بذمة ... أيصمت إدريس ومثلي يخاطب )
( دعوتك يا من لا أقوم بشكره ... فهل أنت لي بعد الدعاء مجاوب )
( أيا سيدا قد حال بيني وبينه ... تراب حوت ذكراك منه الترائب )
( لمن أشتكي إن جار بعدك ظالم ... علي وإن نابت جنابي النوائب )
( لمن أرتجي عند الأمير بمنطق ... تحف به حولي المنى والمواهب )
وهي طويلة ومنها قبيل الختم
( وقد كنت أختار الترحل قبل أن ... يصيبك سهم للمنية صائب )
( ولكن قضاء الله من ذا يرده ... فصبرا فقد يرضى الزمان المغاضب )

ومنها هو
آخرها
( وإني لأدري أن في الصبر راحة ... إذا لم تكن فيه علي مثالب )
( وإن لم يؤب من كنت أرجو انتصاره ... عليك فلطف الله نحوي آيب )
قال رحمه الله تعالى ولما قدمت مصر والقاهرة أدركتني فيهما وحشة وأثار لي تذكر ما كنت أعهد بجزيرة الأندلس من المواضع المبهجة التي قطعت بها العيش غضاخصيبا وصحبت بها الزمان غلاما ولبست الشباب قشيبا فقلت
( هذه مصر فأين المغرب ... مذ نأى عني دموعي تسكب )
( فارقته النفس جهلا إنما ... يعرف الشيء إذا ما يذهب )
( أين حمص أين أيامي بها ... بعدها لم ألق شيئا يعجب )
( كم تقضى لي بها من لذة ... حيث للنهر خرير مطرب )
( وحمام الأيك تشدو حولنا ... والمثاني في ذراها تصخب )
( أي عيش قد قطعناه بها ... ذكره من كل نعمى أطيب )
( ولكم بالمرج لي من لذة ... بعدها مالعيش عندي يعذب )
( والنواعير التي تذكارها ... بالنوى عن مهجتي لا تسلب )
( ولكم في شنتبوس من منى ... قد قضيناه ولا من يعتب )
( حيث هاتيك الشراجيب التي ... كم بها من حسن بدر معصب )
( وغناء كل ذي فقر له ... سامع غصبا ولا من يغصب )
( بلدة طابت ورب غافر ... ليتني ما زلت فيها أذنب )

( أي حسن النيل من نهر بها ... كل نغمات لديه تطرب )
( كم به من زورق قد حله ... قمر ساق وعود يضرب )
( لذة الناظر والسمع على ... شم زهر وكؤوس تشرب )
( كم ركبناها فلم تجمح بنا ... ولكم من جامح إذ يركب )
( طوعنا حيث اتجهنا لم نجد ... تعبا منها إذا ما نتعب )
( قد أثارت عثيرا يشبهه ... نثر سلك فوق بسط ينهب )
( كلما رشنا لها أجنحة ... من قلاع ظلت منها تعجب )
( كطيور لم تجد ريا لها ... فبدا للعين منها مشرب )
( بل على الخضراء لا أنفك من زفرة ... في كل حين تلهب )
( حيث للبحر زئير حولها ... تبصر الأغصان منه ترهب )
( كم قطعنا الليل فيها مشرقا ... بحبيب ومدام يسكب )
( وكأن البحر ثوب أزرق ... فيه للبدر طراز مذهب )
( وإلى الحور حنيني دائما ... وعلى شنيل دمعي صيب )
( حيث سل النهر عضبا وانثنت ... فوقه القضب وغنى الربرب )
( وتشفت أعين العشاق من ... حور عين بالمواضي تحجب )
( ملعب للهو مذ فارقته ... ما ثناني نحو لهو ملعب )
( وإلى مالقة يهفو هوى ... قلب صب بالنوى لا يقلب )
( أين أبراج بها قد طالما ... حث كأسي في ذراها كوكب )
( حفت الأشجار عشقا حولنا ... تارة تنأى وطورا تقرب )
( جاءت الريح بها ثم انثنت ... أتراها حذرت من ترقب )

( وعرضك مبذول وعقلك تالف ... وجسمك مسلوب ومالك ينهب )
( فقلت لهم عرضي وعقلي والعلا ... وفخري لا أرضى بها حين يغضب )
( جنون أبى أن لا يلين لعازم ... بسحر بآيات الرقى ليس يذهب )
( فقالوا ألا قد خان عهدك قلت لم ... يخن من إذا قربته يتقرب )
( وكم دونه من صارم ومثقف ... فيا من رأى بدرا بهذين يحجب )
( على أنه يستسهل الصعب عندما ... يزور فلا يجدي حمى وترقب )
( وكم حيلة تترى على إثر حالة ... وذو الود من يحتال أو يتسبب )
( على أنه لو خان عهدي لم أزل ... له راعيا والرعي للصب أوجب )
( فأين زمان لم يخني ساعة ... به وهو مني في التنعم أرغب )
( ولا فيه من بخل ولا بي قناعة ... كلانا بلذات التواصل معجب )
( ويا رب يوم لا أقوم بشكره ... على أنني مازلت أثني وأطنب )
( على نهر شنيل وللقضب حولنا ... منابر مازالت بها الطير تخطب )
( وقد قرعت منه سبائك فضة ... خلال رياض بالأصيل تذهب )
( شربنا عليها قهوة ذهبية ... غدت تشرب الألباب أيان تشرب )
( كأن ياسمينا وسط ورد تفتحت ... أزاهره أيان في الكأس تسكب )
( إذا ما شربناها لنيل مسرة ... تبسم عن در لها فتقطب )
( أتت دونها الأحقاب حتى تخالها ... سرابا بآفاق الزجاجة يلعب )
( نعمنا بها واليوم قد رق برده ... إلى أن رأينا الشمس عنا تغرب )
( فقالوا ألا هاتوا السراج فكل من ... درى قدر ما في الكأس أقبل يعجب )
( وقال ألا تدرون ما في كؤوسكم ... فلا كأس إلا وهو في الليل كوكب )
( كواكب أمست بين شرب ولم نخل ... بأن النجوم الزهر تدنو وتغرب )

( وعلى مرسية أبكي دما ... منزل فيه نعيم معشب )
( مع شمس طلعت في ناظري ثم صارت في فؤادي تغرب )
( هذه حالي وأما حالتي ... في ذرا مصر ففكر متعب )
( سمعت أذني محالا ليتها ... لم تصدق ويحها من يكذب )
( وكذا الشيء إذا غاب انتهوا ... فيه وصفا كي يميل الغيب )
( ها أنا فيها فريد مهمل ... وكلامي ولساني معرب )
( وأرى الألحاظ تنبو عندما ... أكتب الطرس أفيه عقرب )
( وإذا أحسب في الديوان لم ... يدر كتابهم ما أحسب )
( وأنادي مغربيا ليتني ... لم أكن للغرب يوما أنسب )
( نسب يشرك فيه خامل ... ونبيه أين منه المهرب )
( أتراني ليس لي جد له ... شهرة أو ليس يدرى لي أب )
( سوف أثنى راجعا لأ غرني ... بعد ما جربت برق خلب )
وقال بقرمونة متشوقا إلى غرناطة
( أغثني إذا غنى الحمام المطرب ... بكأس بها وسواس فكري ينهب )
( ومل ميلة حتى أعانق أيكة ... وألثم ثغرا فيه للصب مشرب )
( ولم أر مرجانا ودرا خلافه ... يطيف به ورد من الشهد أعذب )
( فديتك من غصن تحمله نقا ... تطلع أعلاه صباح وغيهب )
( وجنته جنات عدن وفي لظى ... فؤادي وما لي من ذنوب تعذب )
( ويعذلني العذال فيه وإنني ... لأعصي عليه من يلوم ويعتب )
( لقد جهلوا هل عن حياتي أنثني ... إذا نمقوا أقوالهم وتألبوا )
( يقولون لي قد صار ذكرك مخلقا ... وأصبح كل في هواه يؤنب )

( ظللنا عليها عاكفين وليلنا ... نهار إلى أن صاح بالأيك مطرب )
( فلم نثن عن دين الصبوح عناننا ... إلى أن غدا من ليس يعرف يندب )
( صرعنا فأمسى يحسب السكر قد قضى ... علينا وذاك السكر أشهى وأعجب )
( وكم ليلة في إثر يوم وعذلي ... وعذل من يصغي لقولي خيب )
( فيا ليت ما ولى معاد نعيمه ... وأي نعيم عند من يتغرب )
قال وقلت بإشبيلية ذاكرا لوادي الطلح وهو بشرق إشبيلية ملتف الأشجار كثير مترنم الأطيار وكان المعتمد بن عباد كثيرا ما ينتابه مع رميكيته وأولي أنسه ومسرته
( سائل بوادي الطلح ريح الصبا ... هل سخرت لي في زمان الصبا )
( كانت رسولا فيه ما بيننا ... لن نأمن الرسل ولن نكتبا )
( يا قاتل الله أناسا إذا ... ما استؤمنوا خانوا فما أعجبا )
( هلا رعوا أنا وثقنا بهم ... وما اتخذنا عنهم مذهبا )
( يا قاتل الله الذي لم يتب ... من غدرهم من بعد ما جربا )
( واليم لا يعرف ما طعمه ... إلا الذي وافى لأن يشربا )
( دعني من ذكر الوشاة الألى ... لما يزل فكري بهم ملهبا )
( واذكر بوادي الطلح عهدا لنا ... لله ما أحلى وما أطيبا )
( بجانب العطف وقد مالت الأغصان ... والزهر يبث الصبا )
( والطير مازت بين ألحانها ... وليس إلا معجبا مطربا )
( وخانني من لا أسميه من ... شح أخاف الدهر أن يسلبا )
( قد أترع الكأس وحيا بها ... وقلت أهلا بالمنى مرحبا )
( أهلا وسهلا بالذي شئته ... يا بدر تم مهديا كوكبا )

( لكنني آليت أسقى بها ... أو تودعنها ثغرك الأشنبا )
( فمج لي في الكأس من ثغره ... ما حبب الشرب وما طيبا )
( فقال ها لثمي نقلا ولا ... تشم إلا عرفي الأطيبا )
( فاقطف بخدي الورد والآس والنسرين ... لا تحفل بزهر الربها )
( أسعفته غصنا غدا مثمرا ... ومن جناه ميسه قربا )
( قد كنت ذا نهي وذا إمرة ... حتى تبدى فحللت الحبا )
( ولم أصن عرضي في حبه ... ولم أطع فيه الذي أنبا )
( حتى إذا ما قال لي حاسدي ... ترجوه والكوكب أن يغربا )
( أرسلت من شعري سحرا له ... ييسر المرغب والمطلبا )
( وقال عرفه بأني سأحتال ... فما أجتنب المكتبا )
( فزاد في شوقي له وعده ... ولم أزل مقتعدا مرقبا )
( أمد طرفي ثم أثنيه من ... خوف أخي التنغيص أن يرقبا )
( أصدق الوعد وطورا أرى ... تكذيبه والحر لن يكذبا )
( أتى ومن سخره بعد ما ... أيأس بطئا كاد أن يغضبا )
( قبلت في الترب ولم أستطع ... من حصر اللقيا سوى مرحبا )
( هنأت ربعي إذ غدا هالة ... وقلت يا من لم يضع أشعبا )
( بالله مل معتنقا لاثما ... فمال كالغصن ثنته الصبا )
( وقال ما ترغب قلت ائتد ... أدركت إذ كلمتني المأربا )
( فقال لا مرغب عن ذكر ما ... ترغبه قلت إذا مركبا )
( فكان ما كان فوالله ما ... ذكرته دهري أو أغلبا )
قال وقلت باقتراح الملك الصالح نور الدين صاحب حمص أن أكتب بالذهب على تفاحة عنبر قدمها لابن عمه الملك الصالح ملك الديار المصرية

( أنا لون الشباب والخال أهديت ... لمن قد كسا الزمان شبابا )
( ملك العالمين نجم بني أيوب ... لا زال في المعالي مهابا )
( جئت ملأى من الثناء عليه ... من شكور إحسانه والثوابا )
( لست ممن له خطاب ولكن ... قد كفاني أريج عرفي خطابا )
قال ولما أنشد أبو عبد الله بن الأبار كاتب ملك إفريقية لنفسه
( لله دولاب يدور كأنه ... فلك ولكن ما ارتقاه كوكب )
( هامت به الأحداق لما نادمت ... منه الحديقة ساقيا لا يشرب )
( نصبته فوق النهر أيد قدرت ... ترويحه الأرواح ساعة ينصب )
( فكأنه وهو الطليق مقيد ... وكأنه وهو الحبيس مسيب )
( للماء فيه تصعد وتحدر ... كالمزن يستسقي البحار ويسكب )
حلف أبو عبد الله بن أبي الحسين ابن عمي أن يصنع في ذلك شيئا فقال
( ومحنية الأضلاع تحنو على الثرى ... وتسقي نبات الترب در الترائب )
( تعد من الأفلاك أن مياهها ... نجوم لرجم المحل ذات ذوائب )
( وأعجبها رقص الغصون ذوابلا ... فدارت بأمثال السيوف القواضب )
( وتحسبها والروض ساق وقينة ... فما برحا ما بين شاد وشارب )
وما خلتها تشكو بتحنانها الصدى ... ومن فوق متنيها اطراد المذانب )

( فخذ من مجاريها ودهمة لونها ... بياض العطايا في سواد المطالب )
ثم كلفت في أن أقول في ذلك وأنا أعتذر بأن هذين لم يتركا لي ما أقول
( وذات حنين لا تزال مطيفة ... تئن وتبكي بالدموع السواكب )
( كأن أليفا بان عنها فأصبحت ... بمربعه كالصب بعد الحبائب )
( إذا ابتسمت فيها الرياض شماتة ... ترعها بأمثال السيوف القواضب )
( فكم رقصت أغصانها فرمت لها ... نثارا كما بددت حلي الكواعب )
( لقد سخطت منها الثغور وأرضت القدود ... ولم تحفل بتثريب عائب )
( شربت على تحنانها ذهبية ... ذخيرة كسرى في العصور الذواهب )
( فهاجت لي الكأس ادكار مغاضب ... فحاكيتها وجدا بذاك المغاضب )
( فلا تدع التبريز في كثرة الهوى ... فلولاي كانت فيه إحدى العجائب )
قال وقلت بغرناطة
( باكر اللهو ومن شاء عتب ... لا يلذ العيش إلا بالطرب )
( ما توانى من رأى الزهر زها ... والصبا تمرح في الروض خبب )
( وشذاه صانه حتى اغتدى ... بين أيدي الريح غصبا ينتهب )
( يا نسيما عطر الأرجاء هل ... بعثوا ضمنك ما يشفي الكرب )
( هم أعلوه وهم يشفونه ... لا شفاه الله من ذاك الوصب )
( خلع الروض عليه زهره ... حين وافى من ذراكم فعل صب )
( فأبى إلا شذاه فانثنى ... حاملا من عرفه ما قد غصب )
( لست ذا نكر لأن يشبهكم ... من بعثتم غير ذا منه العجب )

( غالب الأغصان في بدأته ... ثم لما زاد أعطته الغلب )
( فبكى الطل عليها رحمة ... أو بكى من وعظ طير قد خطب )
( كل هذا قد دعاني للتي ... ملكت رقي على مر الحقب )
( قهوة أبسم من عجب لها ... عندما تبسم عجبا عن حبب )
( حاكت الخمر فلما شعشعت ... قلت ما للخمر بالماء التهب )
( وبدت من كأسها لي فضة ... ملئت إذ جمدت ذوب الذهب )
( اسقينها من يدي مشبهها ... بالذي يحويه طرف وشنب )
( لا جعلت الدهر نقلي غير ما ... لذ لي من ريق ثغر كالضرب )
( لا جعلت الدهر ريحاني سوى ... ما بخديه من الورد انتخب )
( لم أزل أقطع دهري هكذا ... وكذا أقطع منه المرتقب )
( حبذا عيش قطعناه لدى ... معطف الخابور ما فيه نصب )
( مع من لم يدر يوما ما الجفا ... من أراح الصب فيه من تعب )
( كل ما يصدر منه حسن ... لم يذقني في الهوى مر الغضب )
( أي عيش سمح الدهر به ... كل نعمى ذهبت لما ذهب ) قال ودخلت بتونس مع أبي العباس الغساني حماما فنظرنا إلى غلمان في نهاية الحسن ونعومة الأبدان فقلت مخاطبا له
( دخلت حماما وقصدي به ... تنعيم جسم فغدا لي عذاب ) قلت لظى فاعترضت حوره ... وقلت عدن فنهاني التهاب )
( وأنت في الفضل إمام فكن ... في الحكم ممن حاز فصل الخطاب )
فقال
( لا تأمن الحمام في فعله ... فليس ما يأتيه عندي صواب )

( فما أرى أخدع منه ولا ... أكذب إلا أن يكون السراب )
( يبدي لك الغيد كحور الدمى ... ويلبس الشيخ برود الشباب )
( ظن به النار فلا جنة ... للحسن إلا ما حوته الثياب )
نقول من ابن سعيد
1 - بناء الهودج بروضه مصر
ومن فوائده أعني ابن سعيد رحمه الله تعالى - في كتابه المحلى بالأشعار نقلا عن القرطبي قضية بناء الهودج بروضة مصر وهو من منتزهات الخلفاء الفاطميين العظيمة العجيبة البناء البديعة وذلك أنه يقال إن الباني له الخليفة الآمر بأحكام الله للبدوية التي غلب عليه حبها بجوار البستان المختار وكان يتردد إليه كثيرا وقتل وهو متوجه إليه وما زال منتزها للخلفاء من بعده
وقد أكثر الناس في حديث البدوية وابن مياح من بني عمها وما يتعلق بذلك من ذكر الآمر حتى صارت رواياتهم في هذا الشأن كحديث البطال وألف ليلة وليلة وما أشبه ذلك والاختصار منه أن يقال إن الآمر قد كان بلي بعشق الجواري العربيات وصارت له عيون في البوادي فبلغه أن بالصعيد جارية من أكمل العرب وأظرفهم شاعرة جميلة فيقال إنه تزيا بزي بداة

الأعراب وكان يجول في الأحياء إلى أن انتهى إلى حيها وبات هنالك وتحيل حتى عاينها هناك فما ملك صبره ورجع إلى مقر ملكه وأرسل إلى أهلها يخطبها وتزوجها فلما وصلت إليه صعب عليها مفارقة ما اعتادت وأحبت أن تسرح طرفها في الفضاء ولا تنقبض نفسها تحت حيطان المدينة فبنى لها البناء المشهور في جزيرة الفسطاط المعروف بالهودج وكان غريب الشكل على شط النيل وبقيت متعلقة الخاطر بابن عم لها ربيت معه يعرف بابن مياح فكتبت إليه من قصر الآمر
( يا ابن مياح إليك المشتكى ... مالك من بعدكم قد ملكا )
( كنت في حيي طليقا آمرا ... نائلا ما شئت منكم مدركا )
( فأنا الآن بقصر موصد ... لا أرى إلا حبيسا ممسكا )
( كم تثنينا كأغصان اللوى ... حيث لا نخشى علينا دركا )
فأجابها فقال
( بنت عمي والتي غذيتها ... بالهوى حتى علا واحتبكا )
( بحت بالشكوى وعندي ضعفها ... لو غدا ينفع منا المشتكى )
( مالك الأمر إليه يشتكى ... هالك وهو الذي قد أهلكا )
قال وللناس في طلب ابن مياح واختفائه أخبار تطول خبر
وكان من عرب طيء في عصر الآمر طراد بن مهلهل فقال وقد بلغته هذه الأبيات

( ألا بلغوا الآمر المصطفى ... مقال طراد ونعم المقال )
( قطعت الأليفين عن ألفة ... بها سمر الحمى حول الرحال )
( كذا كان آباؤك الأكرمون ... سألت فقل لي جواب السؤال )
فقال الخليفة الآمر لما بلغته الأبيات جواب سؤاله قطع لسانه على فضوله فطلب في أحياء العرب فلم يوجد فقيل ما أخسر صفقة طراد باع عدة أبيات بثلاثة أبيات
مكين الدولة ابن حديد وكان بالإسكندرية مكين الدولة أبو طالب أحمد بن عبد المجيد بن أحمد ابن الحسن بن حديد له مروءة عظيمة ويحتذي أفعال البرامكة وللشعراء فيه أمداح كثيرة ومدحه ظافر الحداد وأمية أبو الصلت وغيرهما وكان له بستان يتفرج فيه به جرن كبير من رخام وهو قطعة واحدة ينحدر فيه الماء فيبقى كالبركة من كبره وكان يجد في نفسه برؤيته زيادة على أهل التنعم والمباهاة في عصره فوشى به للبدوية محبوبة الآمر فسألت الآمر في حمل الجرن إليها فأرسل إلى ابن حديد في إحضار الجرن فلم يجد بدا من حمله من البستان فلما صار إلى الآمر أمر بعمله في الهودج وتركيبه هناك فقلق ابن حديد وصارت في قلبه حزازة من أخذ الجرن فأخذ يخدم البدوية وجميع من يلوذ بها بأنواع الخدم العظيمة الخارجة عن الحد في الكثرة حتى قالت البدوية هذا الرجل أخجلنا بكثرة تحفه ولم يكلفنا قط أمرا نقدر عليه عند

الخليفة مولانا فلما قيل له عنها هذا القول قال مالي حاجة بعد الدعاء لله بحفظ مكانها وطول حياتها في عز غير رد السقية التي قلعت من داري التي بنيتها في أيامهم من نعمتهم ترد إلى مكانها فتعجبت من ذلك وردتها عليه فقيل له قد حصلت في حد أن خيرتك البدوية في جميع المطالب فنزلت همتك إلى قطعة حجر فقال أنا أعرف بنفسي ما كان لها أمل سوى أن لا تغلب في أخذ ذلك الحجر من مكانه وقد بلغها الله تعالى أملها
وكان هذا المكين متولي قضاء الإسكندرية ونظرها في أيام الآمر وبلغ من علو همته وعظيم مروءته أن سلطان الملوك حيدرة أخا الوزير المأمون ابن البطائحي لما قلده الآمر ولاية ثغر الإسكندرية سنة سبع عشرة وخمسمائة وأضاف إليها الأعمال البحرية ووصل إلى الثغر - وصف له الطبيب دهن الشمع بحضرة القاضي المذكور فأمر في الحال بعض غلمانه بالمضي إلى داره لإحضار دهن الشمع فما كان أكثر من مسافة الطريق إلا وقد أحضر حقا مختوما فك عنه فوجد فيه منديل لطيف مذهب على مراف بلور فيه ثلاثة بيوت كل بيت عليه قبة ذهب مشبكة مرصعة بياقوت وجوهر بيت دهن ممسك وبيت دهن بكافور وبيت دهن بعنبر طيب ولم يكن فيه شيء مصنوع لوقته فعندما أحضره الرسول تعجب المؤتمن والحاضرون من علو همته فعندما شاهد القاضي ذلك بالغ في شكر إنعامه وحلف بالحرام إن عاد إلى ملكه وكان جواب المؤتمن وقد قبلته منك لا لحاجة إليه ولا نظر في قيمته بل لإظهار هذه الهمة وإذاعتها وذكر أن قيمة هذا المداف وما عليه خمسمائة دينار
فانظر رحمك الله تعالى إلى من يكون دهن الشمع عنده في إناء قيمته خمسمائة دينار ودهن الشمع لا يكاد أكثر الناس يحتاج إليه فماذا تكون ثيابه

وحلي نسائه وفرش داره وغير ذلك من التجملات وهذا إنما هو حال قاضي الإسكندرية ومن قاضي الإسكندرية بالنسبة إلى أعيان الدولة بالحضرة ! وما نسبة أعيان الدولة وإن عظمت أحوالهم إلى أمر الخلافة وأبهتها إلا يسير حقير
وما زال الخليفة الآمر يتردد إلى الهودج المذكور إلى أن ركب يوم الثلاثاء رابع القعدة سنة 524 يريد الهودج وقد كمن له عدة من النزارية على رأس الجسر من ناحية الروضة فوثبوا عليه وأثخنوه بالجراحة وحمل في العشاري إلى اللؤلؤة فمات بها وقيل قبل أن يصل إليه وقد خرب هذا الهودج وجهل مكانه من الروضة ولله عاقبة الأمور نقل ذلك كله الحافظ المقريزي رحمه الله تعالى ! 3 - الشهاب التلعفرى قال النور بن سعيد ومن خطه نقلت لما نزلنا بتلعفر حين خرجنا من سنجار إلى الموصل سألت أحد شيوخنا عن والد شهاب الدين التلعفري فقال أنا أدركته وكان كثير التجول وأنشدني لنفسه في عيد أدركه في غير بلده
( يبتهج الناس إذا عيدوا ... وعند سرائهم أكمد )
( لأنني أبصر أحبابهم ... ومقلتي محبوبها تفقد )

قال وخرج ابنه الشهاب أجول منه شخصا وشعرا وصدق فيما قاله
( وأنشد ابن سعيد للشهاب التلعفري
( لك ثغر كلؤلؤ في عقيق ... ورضاب كالشهد أو كالرحيق )
( وجفون لم يمتشق سيفها إلا ... لمغرى بقدك الممشوق )
( تهت عجبا بكل فن من الحسن ... جليل وكل معنى دقيق )
( وتفردت بالجمال الذي خلاك ... مستوحشا بغير رفيق )
( باللحاظ التي بها لم تزل ترشق ... قلبي بالقوام الرشيق )
( لا تغر بالغوير إذ تتثنى ... فيه أعطاف كل غصن وريق )
( واثن محمر ورد خديك واستره ... وإلا ينشق قلب الشفيق )
قال ابن سعيد وحظي الشهاب التلعفري بمنادمة الملوك وكونهم يقدمونه ويقبلون على شعره وعهدي به لا ينشد أحد قبله في مجلس الملك الناصر على كثرة الشعراء وكثرة من يعتني بهم ولما جمعت للملك الناصر كتاب ملوك الشعر جعلت ملك شعر الشهاب البيت الرابع من المقطوعة المتقدمة فإنه كان كثيرا ما ينشده وينوه به والتشفي من ذكر الشهاب ومحاسن شعره له مكان بكتاب الغرة الطالعة في فضلاء المائة السابعة وهو الآن عند الملك المنصور صاحب حماة قد علت سنه وما فارقه غرامه ودنه انتهى

4 - العادل ابن أيوب
ولما أجرى ابن سعيد في بعض مصنفاته ذكر الملك العادل بن أيوب قال ما نصه وكان من أعظم السلاطين دهاء وحزما وكان يضرب به المثل في إفساد القلوب على أعدائه وإصلاحها له ويحكى أنه بشره شخص بأن أميرا من أمراء الأفضل بن صلاح الدين فسد عليه فأعطاه مالا جزيلا وأرسل مستخفيا إلى المذكور يزيده بصيرة في الانحراف عن الأفضل ويعده بما يفسد الصالح فكيف الفاسد قال وكان يمنع حتى يوصف بالبخل ويجود في مواضع الجود حتى يوصف بالسماح وكان صلاح الدين - وهو السلطان - يأخذ برأيه وقدم له أحد المصنفين كتابا مصورا في مكايد الحروب ومنازلة المدن وهو حينئذ على عكا محاصرا للفرنج فقال له ما نحتاج إلى هذا الكتاب ومعنا أخونا أبو بكر وكان كثير المداراة والحزم ومن حكاياته في ذلك أن أحد الأشياخ من خواصه قال له يوما وهو على سماطه يأكل يا خوند ما وفيت معي ولا رعيت سابق خدمتي وكلمه بدالة السن وقدم الصحبة قبل الملك فقال لمماليكه انظروا وسطه فحبسوا الكمران وقال خذوا الصرة التي فيه فوجدوا صرة فقال افتحوها ففتحوها فإذا فيها ذرور فقال العادل كل من هذا الذرور فتوقف وعلم أنه مطلع على أنه سم فقال كيف نسبتني إلى قلة الوفاء وأنا منذ سنين أعلم أنك تريد أن تسمني بهذا السم وقد جعل لك الملك الفلاني على ذلك عشرة آلاف دينار فلا أنا أمكنتك من نفسي ولا أشعرتك لئلا يكون في ذلك ما لا خفاء به وتركتك على

حالك وأنا مع هذا لا أغير عليك نعمة ثم قال ردوا سمه إلى كمرانه لا أبقى الله تعالى عليه إن قدر وأبقى علي فجعل يقبل الأرض ويقول هكذا والله كان وأنا تائب لله تعالى ثم إن الشيخ جدد توبة واستأنف أدبا آخر وخدمة أخرى وكانت هذه الفعلة من إحدى عجائب العادل قال وكان كثير المصانعات حتى إنه يصوغ الحلي الذي يصلح لنساء الفرنج ويوجه في الخفية إليهن حتى يمسكن أزواجهن عن الحركة وله في ذلك مع ملوك الإسلام ما يطول ذكره ولما خرج ابن أخيه المعز إسماعيل بن طغتكين باليمن وخطب لنفسه بالخلافة وكتب له أن يبايعه ويخطب له في بلاده كان في الجماعة من أشار إلى النظر في توجيه عسكر له في البر والبحر وإنفاق الأموال قبل أن يتفاقم أمره فضحك وقال من يكون عقله هذا العقل لا يحوج خصمه إلى كبير مؤنة أنا أعرف كيف أفسد عليه حاله في بلاده فضلا على أن يتطرق فساده لبلادي ثم إنه وجه في السر لأصحاب دولته بالوعد والوعيد وقال لهم أنتم تعلمون بعقولكم أن هذا لا يسوغ لي فكيف يسوغ له وقد أدخل نفسه في أمر لا يخرج منه إلا بهلاكه فاحذروا أن تهلكوا معه واتعظوا بالآية ( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ) [ هود 113 ] وما لهذا عقل يدبر به نفسه فكيف يفضل عن تدبير خاصته إليكم ( ولتعلمن نبأه بعد حين ) [ ص 88 ] فعندما وعت أسماعهم هذا وتدبروه بعقولهم قبضوا عليه وقتلوه وعادت البلاد للعادل وقال للمشيرين عليه في أول الأمر بتجهيز العسكر قد كفينا المؤونة بأيسر شيء من المال ولو حاولناه بما أشرتم به لم تقم خزائن ملكنا بالبلوغ إلى غايته

وكان - على ما بلغه من عظمة السلطان واتساع الممالك - يحكي ما جرى له من زمان خلوه من ذلك ويحب الاستماع لنوادر أنذال العالم واشتهر في خدمته مساخر أشهرهم خضير صاحب البستان المشهور عند الربوة بغوطة دمشق ومن نوادره الحارة معه أنه سمعه يوما وهو يقول في وضوئه اللهم حاسبني حسابا يسيرا ولا تحاسبني حسابا عسيرا فقال له يا خوند على أي شيء يحاسبك حسابا عسيرا إذا قال لك أين أموال الخلق التي أخذتها فقل له تراها بأمانتها في الكرك وكان قد صنع بهذا المعقل الحسرات سميت بذلك لأن من رآها يتحسر إذا نظرها ولا يستطيع على شيء منها بحيلة وهي خواب مفروغة من ذهب وفضة تركت بمرأى من الناظرين ليشتهر ذلك في الآفاق وقال العادل مرة وقد جرى ذكر البرامكة وأمثالهم ممن ذكر في كتاب المستجاد في حكايات الأجواد إنما هذا كذب مختلق من الوراقين ومن المؤرخين يقصدون بذلك أن يحركوا همم الملوك والأكابر للسخاء وتبذير الأموال فقال خضير يا خوند ولأي شيء لا يكذبون عليك قال ابن سعيد من وقف على حكايات أبي العيناء مع عبيد الله بن سليمان يجد مثل هذه الحكاية قال ابن سعيد ووجدت الشهاب القوصي قد ذكر السلطان العادل في كتاب تاج المعاجم وابتدأ الكتاب المذكور بمحاسنه والثناء عليه وخرج عنه الحديث النبوي عن الحافظ السلفي وتمثل فيه عند وفاته

( ألام على بكائي خير ملك ... وقل لي بكائي بالنجيع )
( به كان الشباب جميع عمري ... ودهري كله زمن الربيع )
( ففرق بيننا زمن خؤون ... له شغف بتفريق الجميع )
قال ابن سعيد ودفن العادل بالمدرسة العادلية بدمشق وكان أنشأها للشافعية وهي في نهاية الحسن وبها خزانة كتب فيها تاريخ ابن عساكر وذيل هذا التاريخ واختصره أبو شامة سمعت عليه منه هنالك ما تيسر أيام إقامتي بدمشق
وأولاد العادل ملوك البلاد في صدر هذه المائة السابعة منهم الكامل والمعظم والأشرف وهؤلاء الثلاثة شهروا بالفضل وحب الفضلاء وقول الشعراء انتهى
5 - المرزغاني
وقال ابن سعيد في ترجمة الرئيس صفي الدين أحمد بن سعيد المرذغاني وهو من بيت وزارة ورئاسة بدمشق إن من شعره قوله
( كيف طابت نفوسكم بفراقي ... وفراق الأحباب مر المذاق )
( لو علمتم بلوعتي وصبابا تي ... ووجدي وزفرتي واحتراقي )
( لرثيتم للمستهام المعنى ... ووفيتم بالعهد والميثاق )
قال ابن سعيد وقفت على ذكر هذا الرئيس في كتاب تاج المعاجم ووجدت صاحبه الشهاب القوصي قد قال أخبرني بدمشق أنه قد كان عزم على السفر منها إلى مصر لأمر ضاق به صدره فهتف به هاتف في النوم وأنشده

يا أحمد اقنع بالذي أعطيته ... إن كنت لا ترضى لنفسك ذلها )
( ودع التكاثر في الغنى لمعاشر ... أضحوا على جمع الدراهم ولها )
( واعلم بأن الله جل جلاله ... لم يخلق الدنيا لأجلك كلها )
فانثنى عزمه عن الحركة ثم بلغ ما أمله دون سفر
6 - دفترخوان الدمشقي
وقال ابن سعيد في ترجمة المنتجب أحمد بن عبد الكريم الدمشقي المعروف بدفترخوان وهو الذي يقرأ الدفاتر بين أيدي الملوك والأكابر إنه كان يقرأ الدفاتر بين يدي العادل بن أيوب وكان يكتب له بالأشعار في المواسم والفصول فينال من خيره وكتب له مرة وقد أظل الشتاء في دمشق فقال
( مولاي جاء الشتاء ... والكيس منه خلاء )
( لا زال يجري بما تر تضي ... علاك القضاء )
وكل كاف إليه ... يحتاج فيه التواء )
فقال له العادل هذا الضمير الذي في البيت الأول على ماذا يعود قال بحسب مكارم السلطان إن شئت على الدراهم وإن شئت على الدنانير ! فضحك وقال هات كيسك فأخرج له كيسا يسع قدر مائة دينار فملأه

له وقال أظنه كان معدا عندك فقال مثل السلطان من يكون جوده مظنونا وكتب إليه مرة وقد أملق
( انظر إلي بعين جودك مرة ... فلعل محروم المطالب يرزق )
( طير الرجاء على علاك محلق ... وأظنه سيعود وهو مخلق )
فأعطاه جملة دنانير وقال له اشتر بهذه ما تخلق به طير رجائك انتهى
الزناطي وابن الربيب
وأنشد ابن سعيد رحمه الله تعالى لبعض المغاربة وهو أبو الحسن علي بن مروان الزناطي الكاتب
( أنس أخي الفضل كتاب أنيق ... أو صاحب يعنى بود وثيق )
( فإن تعره دون رهن به ... تخسره أو تخسر وداد الصديق )
( وربما تخسر هذا وذا ... فاسمع رعاك الله نصح الشفيق )
قال وأجابه المخاطب بهذه الأبيات وهو ابن الربيب بنثر نصه

مثلك يفيد تجربة قد نفق عليها عمر وضل عن فوائدها غر غمر وقد أنفذت رهنا لا يسمح بإخراجه من اليد إلا ليدك فتفضل بتوجيه الجزء الأول فأنا أعلم أنه عندك مثل والدك قال فوجهه ومعه بطاقة صغيرة فيها يا أخي إن عرضت بولدي فكذلك كنت مع والدي وقد توارثنا العقوق كابرا عن كابر فكن شاكرا فإني صابر
ثم قال ابن سعيد وتفاقم أمر ولده فقيده بقيد حديد وقال فيه
( لي ولد يا ليته ... لم يك عندي يخلق )
( يجهد في كل الذي ... يرغم وهو يعشق )
( وإن أكن قيدته ... دمعي عليه مطلق
وذكر ابن سعيد أن الكاتب أبا الحسن المذكور كان كثيرا ما يستعير الكتب فإذا طلبت منه فكأنها ما كانت فذكر لبعض أصحابه - وهو ابن الربيب المؤرخ - أن عنده نسخة جليلة من تاريخ عريب الذي لخص فيه تاريخ الطبري واستدرك عليه ما هو من شرطه وذيل ما حدث بعده فأرسل إليه في استعارتها فكتب إليه يا أخي سدد الله آراءك وجعل عقلك أمامك لا وراءك ما يلزمني من كونك مضيعا أن أكون كذلك والنسخة التي رمت إعارتها هي مؤنسي إذا أوحشني الناس وكاتم سري إذا خانوني فما أعيرها إلا بشيء أعلم أنك تتأذى بفقده إذا فقد جزء من النسخة وأنا الذي أقول

( أنس أخي الفضل كتاب أنيق ... ) إلى آخره
وأنشد للكاتب أبي الحسن المذكور
( إن ذاك العذار قام بعذري ... وفشا فيه للعواذل سري )
( ما رأينا من قبل ذلك مسكا ... صاغ منه الإله هالة بدر )
( أي آس من حول جنة ورد ... ليس منه آس مدى الدهر يبري )
ولما اشتد مرضه بين تلمسان وفاس قال هذه الأبيات وأوصى أن تكتب على قبره
( ألا رحم الله حيا دعا ... لميت قضى بالفلا نحبه )
( تمر السوافي على قبره ... فتهدي لأحبابه تربه )
( وليس له عمل يرتجى ... ولكنه يرتجي ربه )
رجع إلى نظم ابن سعيد المترجم به فنقول وقال لما سار المعظم من حصن كيفا وآل آمره إلى الملك ثم القتل والهلك
( ليت المعظم لم يسر من حصنه ... يوما ولا وافى إلى أملاكه )
( إن العناصر إذ رأته مكملا ... حسدته فاجتمعت على إهلاكه )
ومما نقلته من ديوانه الذي رتبه على حروف المعجم قوله - رحمه الله تعالى - وقلت بالقاهرة على لسان من كلفني ذلك
( شرف الدين أبن لي ما السبب ... في انقلاب الدهر لي عند الغضب )

( يدعونه بأجل ما ... يدعى به الحر الصراح )
( حتى إذا ما بان كدر ... عيشهم منه انتزاح )
( فعلى مثالهم يباح ... لي المدامع والنواح )
( كرها فقدتهم فما ... لي بعد بعدهم ارتياح )
( لله شوقي إن هفت ... من نحو أرضهم الرياح )
( فهناك قلبي طائر ... لهم ومن شوقي جناح )
قال وقلت بمدينة ابن السليم في وصف كلب صيد أسود في عنقه بياض
( وأدهم دون حلي ظل حالي ... كأن ليلا يقلده صباح )
( يطير وما له ريش ولكن ... متى يهفو فأربعه جناح )
( تكل الطير مهما نازعته ... وتحسده إذا مرق الرياح )
( له الألحاظ مهما جاء سلك ... ومهما سار فهي له وشاح )
قال وقلت في نيل مصر
( يا نيل مصر أين حمص ونهرها ... حيث المناظر أنجم تلتاح )
( في كل شط للنواظر مسرح ... تدعو إليه منازح وبطاح )
( وإذا سبحت فلست أسبح خائفا ... ما فيه تيار ولا تمساح ) قال وقلت وقد حضرت مع إخوان لي بموضع يعرف بالسلطانية على نهر إشبيلية وقد مالت الشمس للغروب
( رق الأصيل فواصل الأقداحا ... واشرب إلى وقت الصباح صباحا )

( انظر لشمس الأفق طائرة وقد ... ألقت على صفح الخليج جناحا )
( فاظفر بصفو الأفق قبل غروبها ... واستنطق المثنى وحث الراحا )
( متع جفونك في الحديقة قبل أن ... يكسو الظلام جمالها أمساحا )
( وقلت بمرسية
( أقلقه وجده فباحا ... وزاد تبريحه فناحا )
( ورام يثني الدموع لما ... جرت فزادت له جماحا )
( يا من جفا فارفقن عليه ... مستعبدا لا يرى السراحا )
( يكابد الموت كل حين ... لو أنه مات لاستراحا )
( ينزو إذا ما الرياح هبت ... كأنه يعشق الرياحا )
( يسألها عن ربوع حمص ... لما نما عرفها وفاحا )
( كم قد بكى للحمام كيما ... يعيره نحوها جناحا )
قال وخرجت مرة مع أبي إسحاق إبراهيم بن سهل الإسرائيلي إلى مرج الفضة بنهر إشبيلية فتشاركنا في هذا الشعر
( غيري يميل إلى كلام اللاحي ... ويمد راحته لغير الراح )
( لا سيما والغصن يزهو زهره ... ويميل عطف الشارب المرتاح )
( وقد استطار القلب ساجع أيكه ... من كل ما أشكوه ليس بصاح )

( قد بان عنه جناحه عجبا له ... من جانح للعجز حلف جناح )
( بين الرياض وقد غدا في مأتم ... وتخاله قد ظل في أفراح )
( الغصن يمرح تحته والنهر في ... قصف تزجيه يد الأرواح )
( وكأنما الأنسام فوق جنانه ... أعلام خز فوق سمر رماح )
( لا غرو أن قامت عليه أسطر ... لما رأته مدرعا لكفاح )
( فإذا تتابع موجه لدفاعه ... مالت عليه فظل حلف صياح )
قال وقلت بمالقة متشوقا إلى الجزيرة الخضراء
( يا نسيما من نحو تلك النواحي ... كيف بالله نور تلك البطاح )
( أسقتها الغمام ريا فلاحت ... في رداء ومئزر ووشاح )
( أم جفته فصيرته هشيما ... تركته تذروه هوج الرياح )
( يا زماني بالحاجبية إني ... لست من سكر ما سقيت بصاحي )
( آه مما لقيت بعدك من هم ... وشوق وغربة وانتزاح )
( أين قوم ألفتهم فيك لما ... قرب الدهر آذنوا بالرواح )
( تركوني أسير وجد وشوق ... ما لقلبي من الجوى من سراح )
( أسلموني للويل حتى تولوا ... وأصاخوا ظلما لقول اللواحي )
( أعرضوا ثم عرضوني لشوق ... ترك القلب مثخنا بجراح )
( أسهر الليل لست أغفى لصبح ... أترى النوم ذاهبا بالصباح )
( قد بدا يظهر النجوم حليا ... وهو من لبسة الصبا في براح )
( مسبلا ستره منعم بال ... وجفوني من سهده في كفاح )
( أيها الليل لاتؤمل خلودا ... عن قريب يمحو ظلامك ماح )
( ويلوح الصباح مشرق نور ... فيه للمستهام بدء نجاح )
( إن يوم الفراق بدد شملي ... طائرا ليته بغير جناح )
( حالك اللون شبه لونك ماعزب ... عن عياني يا شبه طير انتزاح )

( فلتدم غضبان أظفر بالمنى ... ليس لي في غير هذا من أرب )
( إنما ظهرك عندي قبلة ... ووضوئي الدهر من ذاك الشنب ) وأستغفر الله من قول الكذب قال وقلت بإشبيلية
( قد جاء نصر الله والفتح ... والصبح لما رضيت صبح )
( فهنئوني بارتجاع المنى ... لولا الرضى ما برح البرح )
( يا أورقا يا غصنا يانقا ... يا ظبية بالليل يا صبح )
( يصحو جميع الناس من سكرهم ... ولست من سكركم أصحو )
( بلغت فيه غاية لم يبن ... غايتها التفسير والشرح )
( وينصح العذال من لي بأن ... يعذلني عن غيك النصح ) وقلت بإشبيلية
( وضح الصبح فأين القدح ... يعرف اللذات من يصطبح )
( ما ترى الليل كطرف أدهم ... وضياء الفجر فيه وضح )
( والثرى دبجه در الندى ... وعلى الأغصان منه وشح )
( ومدير الراح لم يعد المنى ... كل ما يأتي به مقترح )
( في بطاح المرج قد نادمني ... رشا من سكره ينبطح )
( جعل المسواك سترا للمنى ... فكأن قبل فاه قزح )
( كلما شئت الذي قد شاءه ... فحنى لي كاسه أفتتح )
( ما أبالي أن رآني كاشح ... أم رآني من لديه نصح )
( هكذا العيش ودع عيش الذي ... خاف من نقد إذا يفتضح ) وقلت بشريش
( طاب الشراب لمعشر ... سلبوا المروءة فاستراحوا )

لولا ندى يحيى وتدبيره ... ما برحت تغبر منها النواح )
( لكن يداه سحب كلما ... حلت بأرض حل فيها النجاح ) هذا وقد آمن من حلها ... وحفها من غربة وانتزاح )
( كم شتتوا من قبل تأميره ... وحكمت فيهم عوالي الرماح )
( يا سائرا يرجو بلوغ المنى ... باكر ذرا يحيى وقل لا رواح )
( وحيه بالمدح فهو الذي ... يهتز كالهندي حين امتداح )
( بالشرق والغرب غدا ذكره ... يحث من حمد وشكر جناح )
ساعده السعد وأضحت له الآمال ... لا تجري بغير اقتراح )
( ويسر الله له ملكه ... من غير أن يشهر فيه السلاح )
( وكل من كان على غيره ... ذا منعة أمسى به مستباح )
( وكم جموح عندما قام بالأمر ... رأى القهر فخلى الجماح )
( كف بكف للندى والردى ... بها معان وهي خرس فصاح )
( حتى لقد أحسب من سعده ... تجري على ما يرتضيه الرياح )
( قولوا ليعقوب فماذا جنى ... وابن أبي حمزة ماذا استباح )
( قد أصبحا من فوق جذعين لا ... يؤنسهم غير هبوب الرياح )
( واسأل عن الداعي الدعي الذي ... حاول أمرا كان عنه انضراح )
( أكان من صيره والدا ... بزعمه أمل فيه فلاح )
( شكرا لسعد لم يدع فرقة ... قد صير الملك كضرب القداح )
( راموا بلا جاه ولا محتد ... ما حزت بالحق فكان افتضاح )
( زنانة يهنيكم فعلكم ... عاجلكم ثائركم باجتياح )
( كفر ما قدمتم آخر ... والخير لن يبرح للشر ماح )
( عهدي به في موكب الملك ما ... بينكم نشوان من غير راح )

( يحسب أن الأرض ملك له ... وروحه ملك لسمر الرماح )
( غدا بعز الملك لكنه ... أهون مملوك على الأرض راح )
( جاؤوا به يمرح في عزه ... وهم أزالوا عنه ذاك المراح )
( توقعوا في القرب منه الردى ... من صحبة الأجرب يخشى الصحاح )
( فأسرعوا نحوك يبغون ما ... عودتهم من عطفة والتماح )
( فغادروه جانيا غدره ... لطائر البين عليه نياح )
( فالحمد لله على كل ما ... سنى لك السعد برغم اللواح )
( مثلك لا ينفد ما شاده ... فلست تأتي الدهر إلا صلاح )
( لا زلت في عز وفي مكنة ... وفي سرور دائم وانفساح )
قال وقلت بنيونش موضع الفرجة بسبتة
( اشرب على بنيونش ... بين السواني والبطاح )
( مع فتية مثل النجوم ... لهم إذا مروا جماح )
( ساقيهم متبذل ... لا يمنع الماء القراح )
( كل يمد يمينه ... ما في الذي يأتي جناح )
( هبوا عليه كلما ... هبت على الروض الرياح )
( طوع الأماني كل ما ... يأتي به فهو اقتراح )
( عانقته حتى تركت ... بخصره أثر الوشاح ) وقلت بإشبيلية
( أوجه صبح أم الصباح ... ولحظها أم ظبا الصفاح )
( وثغرها أم نظيم در ... وريقها أم سلاف راح )
( وقدها أم قوام غصن ... وعرفها أم شذا البطاح )

( يا حبذا زورة تأتت ... منها على غفلة اللواح )
( فلم أصدق بها سرورا ... وظلت نشوان دون راح )
( أما منعت السلام دهرا ... ولا رسول سوى الرياح )
( قالت ألا فانس ما تقضى ... فمن يدع ما مضى استراح )
( يا حبذاها وقد تأتت ... من دون وعد ولا اقتراح )
( زارت ومن نورها دليل ... والليل قد أسبل الجناح )
( أخفت سراها فباح نشر ... لها بعرف فشا وفاح )
( وافت فأمسى فمي مداما ... وساعداي لها وشاح )
( كأنما بت بين روض ... والغصن والورد والأقاح )
( فبينما الشمل في انتظام ... إذ سمعت داعي الفلاح )
( فغادرتني فقلت غدرا ... قالت أما 7 تحذر افتضاح )
( ولت وما خلت من صباح ... يبدو على إثره صباح )
قال وقلت بتونس
( لا مرحبا بالتين لما بدا ... يسحب من ليل عليه الوشاح )
( ممزق الجلباب يحكي ضحى ... هامة زنجي عليها جراح )
( وإن تصحفه فلا حبذا ... ما قد أتى تصحيفه بانتزاح )
وقلت بالجزيرة الخضراء وقد كلفت ذلك
( غرامي بأقوال العدا كيف ينسخ ... وعهدي وقد أحكمته كيف يفسخ )
( كلامكم لا يدخل السمع نصحه ... ولكن إذا حرضتم فهو يرسخ )
( وبي بدر تم قد ذللت لحسنه ... فمن ذا الذي فيما أتيت يوبخ )
( إذا خاصموني في هواه خصمتهم ... ويبغون تنقيصي بذاك فأشمخ )

( أرى أن لي فضلا على كل عاشق ... فقصتنا في الدهر مما يؤرخ )
( فما بشر مثل له في جماله ... ووجدي به في العشق ليس له أخ )
وقلت بالإسكندرية وقد تعذر علي الحج عند وصولي إليها سنة تسع وثلاثين وستمائة
( قرب المزار ولا زمان يسعد ... كم ذا أقرب ما أراه يبعد )
( وا رحمة لمتيم ذي غربة ... ومع التغرب فاته ما يقصد )
( قد سار من أقصى المغارب قاصدا ... من لذ فيه مسيره إذ يجهد )
( فلكم بحار مع فقار جبتها ... تلقى بها الصمصام ذعرا يرعد )
( كابدتها عربا وروما ليتني ... إذ جزت صعب صراطها لا أطرد )
( يا سائرين ليثرب بلغتم ... قد عاقني عنها الزمان الأنكد )
( أعلمتم أن طرت دون محلها ... سبقا وها أنا إذ تدانى مقعد )
( يا عاذلي فيما أكابد قل في ... ما أبتغيه صبابة وتسهد )
( لم تلق ما لقيته فعذلتني ... لا يعذر المشتاق إلا مكمد )
( لو كنت تعلم ما أروم دنوه ... ما كنت في هذا الغرام تفند )
( لا طاب عيشي أو أحل بطيبة ... أفق به خير الأنام محمد )
( صلى عليه من براه خيرة ... من خلقه فهو الجميع المفرد )
( يا ليتني بلغت لثم ترابه ... فيزاد سعدا من بنعمى يسعد )
( فهناك لو أعطي مناي محلة ... من دونها حل السها والفرقد )
( عيني شكت رمدا وأنت شفاؤها ... من دائها ذاك الثرى لا الإثمد )
( يا خير خلق الله مهما غبت عن ... عليا مشاهدها فقلبي يشهد )
( ما باختيار القلب يترك جسمه ... غير الزمان له بذلك تشهد )
( يا جنة الخلد التي قد جئتها ... من دون بابك للجحيم توقد )
( صرم التواصل ذبل وصوارم ... ما للجليد على تقحمها يد )

( فلئن حرمت بلوغ ما أملته ... فلدي ذكرى لا تزال تردد )
( فلتنعشوا مني الذماء بذكره ... ما دمت عن تلك المعالم أبعد )
( لولاه ما بقيت حياتي ساعة ... هو لي إذا مت اشتياقا مولد )
( ذكر يليه من الثناء سحائب ... أبدا على مر الزمان يجدد )
( من ذا الذي نرجوه لليوم الذي ... يقصى الظماء به ويحمى المورد )
( يا لهف من وافى هناك وما له ... من حبه ذخر به يتزود )
( ما أرتجي عملا ولكن أرتجي ... ثقتي به ولحسب من يتزود )
( ما صح إيمان خلا من حبه ... أبلا رياش يستعد مهند ! )
( عن ذكره لا حلت عنه لحظة ... ومديحه في كل حفل أسرد )
( يا مادحي يبغي ثوابا زائلا ... فثواب مدحي في الجنان أخلد )
( لولا رسول الله لم ندر الهدى ... وبه غدا نرجو النجاة ونسعد )
( يا رحمة للعالمين بعثت والدنيا ... بجنح الكفر ليل أربد )
( أطلعت صبحا ساطعا فهديت للإيمان ... إلا من يحيد ويجحد
( لم تخش في مولاك لومة لائم ... حتى أقر به الكفور الملحد )
( ونصرت دين الله غير محاذر ... ودعوت في الأخرى الألى قد أصعدوا )
( ولقيت من حرب الأعادي شدة ... لو كابدوها ساعة لتبددوا )
( أيان لا أحد عليهم عاضد ... إلا الإله ولم يخن من يعضد )
( فحماك بالغار الذي هو من أدل ... المعجزات وخاب من يترصد )
( ووقاك من سم الذراع بلطفه ... كيما يغاظ بك العدى والحسد )
( والجذع حن إليك والماء انهمى ... ما بين خمسك والصحابة شهد )
( والذئب أنطق للذي أضحى به ... يهدي إلى سبل النجاح ويرشد )
( وبليلة الإسرا حباك وسمي الصديق ... من أضحى لقولك يسعد )
( وحباك بالخلق العظيم ومعجز الكلم ... الذي يهدي به إذ يورد )
( وبعثت بالقرآن غير معارض ... فيه وأمسى من نحاه )

حمامها تغني أعطافها تميد )
( وبالنسيم شقت ... لنهرها برود )
( فروعه سيوف ... وسوره بنود )
( هناك كم دعتني ... إلى الورود رود )
( فنلت كل سؤل ... يفنى به الحسود )
( قضيت فيه عيشا ... ما بعده مزيد ) أضحي به وأمسي ... مرنحا أميد )
( كأنني يزيد ... كأنني الوليد )
( يجري الزمان طوعي ... بكل ما أريد )
( الخمر ملكتني ... فالخلق لي عبيد )
( يحق لي إذا ما ... أبصرتها تجود )
( فها أنا إذا ما ... فقدتها فقيد )
( يا من يلوم بغيا ... العذل لا يفيد )
( إذا عدمت كأسي ... فليس لي وجود )
( قال وقلت بإشبيلية
( أو ما نظرت إلى الحمامة تنشد ... والغصن من طرب بها يتأود )
( ونثاره ألقاه جائزة لها ... لما يزل بيد النسيم يبدد )
( ألقى عليها الطل بردا سابغا ... فثناؤه طول الزمان يردد )
( أترى الحمامة من محب مخلص ... أولى بشكر حين تغمره يد )
( فلأثنين عليك ما أثني بأعلى ... الغصن حنان الهديل مغرد )
( كم نعمة لي في جنابك 4 كم أكابد ... جهدها أيان برك يجهد

( يعرد فتوالت الأحقاب وهو مبرأ ... من أن يكون له مثال يوجد )
( ولكم بليغ جال فصل خطابه ... والسرج في ضوء الغزالة تمهد )
( زويت لك الأرض التي لا زال حتى ... الحشر ربك في ذراها يعبد )
( ونصرت بالرعب الذي لما يزل ... يترى كأن ما عين شخصك تفقد )
( فمتى تعرض طاعن أو حاد عن ... حرم الهداية فالحسام مجرد )
( يا من تخير من ذؤابة هاشم ... نعم الفخار لها ونعم المحتد )
( لسناك حين بدا بآدم أقبلت ... رعيا لأخراه الملائك تسجد )
( لم أستطع حصرا لما أعطيته ... فذكرت بعضا واعتذاري منشد )
( ماذا أقول إذا وصفت محمدا ... نفد الكلام ووصفه لا ينفد )
( فعليك يا خير الخلائق كلها ... مني التحية والسلام السرمد )
( قال وقلت بإشبيلية
( هل تمنع النهود ... ما أبدت الخدود )
( نعم وكم طعين ... بطعنها شهيد )
( يا ربة المحيا ... حفت به السعود )
( لم تسكر الحميا ... بل ريقك البرود )
( لله يا عذولي ... ما تكتم البرود )
( ما زلت فيه أفن ... ي والوجد مستزيد )
( يا هل ترى زمانا ... مضى لنا يعود )
( لدى العروس سقت ... جنابها العهود )
( حيث الغصون مالت ... كأنها قدود )
( وزهرها نظيم ... كأنه عقود

وقال
( أرى العين مني تحسد الأذن كلما ... جرت مدحة للعلم والفضل والمجد )
( أحقق أنباء ولم أر صورة ... كتحقيقي الأخبار عن جنة الخلد )
( فمن على عيني بلقياك إنني ... أخذت لها أمنا بذاك من السهد )
قال وقلت أمدح ابن عمي وأشكره على ما أذكره
( آه مما تكن فيك الجوانح ... ودموعي على نواك سوافح )
( واشتفاء من العدو ببين ... كدر العيش أي عيش لنازح )
( يا أتم الأنام حسنا أما تحسن ... حتى يتم إطراء مادح )
( يا زمان الوصال عودا فإني ... طوحت بي لما غدرت الطوائح )
( أين عيش العروس إذ يبطح السكر ... حبيبي ما بين تلك الأباطح )
( والأماني تترى ولا أحد ينصح ... إذ لا يصغى إلى قول ناصح )
( وزمان السرور سمح مطيع ... ورسول الحبيب غاد ورائح )
( ولكم ليلة أتاني بلا طيب ... ولكن يزري بأذكى الروائح )
( هو ظبي فليس يحتاج طيبا ... قد كفاه عرف من المسك فائح ) مثل عليا محمد لم تكن كسبا ... وما لا يكون في الطبع فاضح )
( يا كريما أتى من الجود ما لا ... كان يدري فأوجدته المدائح )
( وعلا كل ذي علاء وأضحى ... نحو ما لا يرومه الناس طامح )
( قد أتاني إحسانك الغمر في إثر ... سواه فكنت أكمل مادح )
( فاض بحر النوال منك ولا ساحل ... يبدو ولم أزل فيه سابح )
( حلل مثل ما كسوتك في المدح ... تميت العدا ومال وسامح

( أورد الورد منطقي كل شكر ... حين أضحى طوع البنان مسامح )
( لون خد الحبيب حين كسوه ... حلة الحسن بالعيون اللوامح )
( شفق سال بين عينيه صبح ... حسنه قيد اللحاظ السوارح )
( لم أجد فيه من جماح ولكن ... ثنائي عليك ما زال جامح )
( لك يا ابن الحسين ذكر جميل ... صير الكل نحو بابك جانح )
( قد هدى نحوك الثناء كما يهدي ... إلى الروض باسمات النوافح )
( فاعذر الناس أن أتوا لك أفوا جا ... فكل بقصد فضلك رابح )
( ما هدتهم إليك إلا الأمان ... ي لم تحلهم إلا عليك القرائح )
( قل لذي المفخر الحديث تأخر ... ليس مهر في شأوه مثل قارح )
( أي أصل وأي فرع أقاما ... شرفا ظل للنجوم يناطح )
( قد حوت مذحج من الفجر لما ... كنت منها ما ليس يحويه شارح )
( أفق مجد قد زانه منك بدر ... في ظلام الخطوب ما زال لائح )
( بدر تم حفت به هالة من ... بيت مجد علاؤها الدهر واضح )
( يا سماكا بمسكه القلم الأعلى ... بدا بين أنجم الملك رامح )
( رفع الله للكتابة قدرا ... بعد ما كابدت توالي الفضائح )
( يا أعز الأنام نفسا وأعلا هم ... محلا لا زال أمرك راجح )
( أين أعداؤك الذين رعى سيفك ... فيهم فأشبهوا قوم صالح )
( أفسد الدهر حالهم ليرى حالك ... رغما بمن يناويك صالح )
( دمت في عزة وسعد مدى الدهر ... ولا زال طائر منك سانح )
أبو عبد الله ابن سعيد وابن عمه المذكور قال في حقه في المغرب ما ملخصه

إنه الرئيس الأعلى ذو الفضائل الجمة أبو عبد الله محمد بن الحسين بن أبي الحسين سعيد بن الحسين بن سعيد بن خلف بن سعيد قال واجتماع نسبنا مع هذا الرئيس في سعيد بن خلف وهو الآن قد اشتمل عليه ملك إفريقية اشتمال المقلة على إنسانها وقدمه في مهماته تقديم الصعدة لسنانها وأقام لنفسه مدينة حذاء حضرة تونس واعتزل فيها بعسكر الأندلس الذين صيرهم الملك المنصور إلى نظره وهو كما قال الفتح صاحب القلائد فقد جاء آخرهم فجدد مفاخرهم ومن نظمه وقد نزل على من قدم له مشروبا أسود اللون غليظا وخروبا وزبيبا أسود وزبيبا كثير الغصون جاءت به عجوز في طبق فقال
( يوم نزلنا بعبد العزيز ... فلا قدس الله عبد العزيز )
( سقانا شرابا كلون الهناء ... ونقلنا بقرون العنوز )
( وجاءت عجوز فأهدت لنا ... زبيبا كخيلان خد العجوز )
ونزل السلطان أبو يحيى في بعض حركاته لموضع فيه نهر وعلى شطه نور فقال الرئيس أبو عبد الله بن الحسين يصفه أو أمر بذلك
( ونهر يرف الزهر في جنباته ... ويثني النسيم قضبه فتأطر )
( يسيل كما عن الصباح بأفقه ... وإلا كما شيم الحسام المجوهر )
( عليه ليحيى قبة هل سمعتم ... بقرصه شمس حل فيها غضنفر )
( فإن 14 قلت هذي قبة لعفاتها ... فقل ذلك الوادي الذي سال كوثر )
وقال أبو عمرو أحمد بن مالك بن سيد امير اللخمي النشابي في ذلك
( وأرض من الحصباء بيضاء قد جرت ... جداول ماء فوقها تتفجر

فكتب إلي هذه الأبيات وكان متمرضا وبعث إلي بما يذكر
( أكف الصبا حفت جنى زهر الربى سؤالك عن نضو يسامي بك الزهرا )
( بعثت بمثل الزهر في مثل صفحة ... لذلك ما قلدتها الشذر والدرا )
( معان لها أعنو وأعني بها فكم ... وقفت عليها العين والسمع والفكرا )
( فلو عرضت للبحر لم يلفظ الدرا ... ولو عارضت هاروت لم ينفث السحرا )
( أبا حسن هنئت ما قد منحته ... ضروبا من الآداب تحلي بها الدهرا )
( ودونك بحرا من ودادي تلاطمت ... به زاخرات المد لا يعرف الجزرا )
( فإن خطرت في جانب منك هفوة ... فلا تحسبن أني أضيق بها صدرا )
( يزل الجواد عند ما يبلغ المدى ... ويعثر بالرمث النسيم إذا أسرى )
( فدع ذا وخذها شائبات قرونها ... عروبا لعوبا جائزا حكمها بكرا )
( ولو غادرت أوصافها متردما ... لشنفت من أشعارها أذن الشعرى )
( ألا فاحجبنها عن صديق معمم ... فإن قصارى الغمر أن يبكي العمرا )
( ومن كان ذا حجر ونبل ورقة ... فلا يخلون إلا على الخمرة الحمرا )
( قرنت بها صفراء لم تعرف الهوى ... ولا ألفت وصلا ولا عرفت هجرا )
( ولا ضمخت نضخ العبير وإن غدت ... تؤخره لونا وتفضحه نشرا )
( فإن خلتها بنت الظليم أظلها ... فقد فرش الإذخر من تحتها تبرا )
( لها نسب بين الثريا أو الثرى ... وسل برباها المزن والغصن النضرا )
( فشربا دهاقا وانتشاقا ولا ترم ... عن البيت فترا أو تقيم به شهرا )
وله في الخشكلان
( هو الأهلة لكن ... تدعونه خشكلانا )
( فإن تفاءلت صحف ... تجد حبيبك لانا ) انتهى باختصار

وحظي المذكور جدا عند السلطان ملك إفريقية أبي زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص ولما مات السلطان المذكور وحدثت فتنة بموته واختلاف ثم استقرت الدولة لابنه الشهير الكبير القدر أبي عبد الله المستنصر ممدوح حازم بالمقصورة وقاتل ابن الأبار القضاعي - سخط على الرئيس ابن الحسين المذكور وقبض على دياره وأمواله وصيره كالمحبوس فكتب إليه رقعة يطلب الاجتماع به في مصلحة للدولة فأحضره وسأله فأخبره بأن أباه صنع دارا عظيمة تحت الأرض وأودع فيها من أنواع المال والسلاح ما جعله عدة وذخيرة لسلطانه ولم يترك على وجه الأرض من له علم بهذا الموضع الذي أودعه نفائس أمواله غيري وأوصاني أنه إذا انتقل إلى جوار ربه إذ توقع أن تقع فتنة بين أقاربه أنه إذا انقضت سنة واستقر الأمر لأحد من ولدي أو من يتيقن أنه يصلح لأمور المسلمين فأطلعه على هذه الذخائر فربما فنيت الأموال بالفتنة فلا يجد القائم بالأمر ما يصلح به الدولة إذا تفرغ للتدبير والسياسة ففرح السلطان وبادر إلى تلك الدار فرأى ما ملأ عينه وسر قلبه وخرج الرئيس ابن الحسين والخيل تجنب أمامه وبدر الأموال بين يديه وأعاده إلى أحسن أحواله وجعله وزيرا لديه كما كان أبوه مفوضا أموره إليه وقال السلطان إن من أوجب شكر الله علي أن أفتتح المال بأن أؤدي منه للرعية الذين نهبت دورهم واحترقت في الفتنة التي كانت بيني وبين أقاربي ما خسروه وأمر بالنداء فيهم وأحضرهم وكل من حلف على شيء قبضه وانصرف
ذكر المستنفر الحفصى
وكان السلطان المستنصر المذكور في بعض متصيداته فكتب لأبي عبد الله

الرئيس المذكور يأمره بإحضار الأجناد لأخذ أرزاقهم بقوله
( ليحضر كل ليث ذي منال ... زكا فرعا لإسداء النوال )
( غدا يوم الخميس فما شغلنا ... بأسد الوحش عن أسد الرجال )
( وحكي أن السلطان المذكور عرض مرة أجناده وقيل بل سلم عليه الموحدون يوم عيد بتونس وفيهم شاب مليح وسيم اسم جده النعمان فسأله السلطان عن اسمه وأعجبه حسنه فخجل واحمر وجهه وازداد حسنا فقال السلطان هذا المصراع
( كلمته فكلمت صفحة خده ... )
وسأل من الحاضرين الإجازة فلم يأتوا بشيء فقال السلطان مجيزا شطره
( فتفتحت فيها شقائق جده ... ) وهذا من البدائع مع ما فيه من التورية والتجنيس
ومما نسبه له أبو حيان بسنده إليه
( ما لي عليك سوى الدموع معين ... إن كنت تغدر في الهوى وتخون )
( من منجدي غير الدموع وإنها لمغيثة مهما استغاث حزين )
( الله يعلم أن ما حملتني ... صعب ولكن في رضاك يهون )
وكان للسلطان المذكور سعد يضرب به المثل حتى إنه كتب له صاحب مكة البيعة من إنشاء ابن سبعين المتصوف كما ذكر ذلك ابن خلدون في تاريخه الكبير وسرد نصها وهي من الغرائب
ومن سعده أن الفرنسيس الذي كان أسر بمصر وجعل في دار ابن لقمان والطواشي صبيح يحرسه لما سرح جاء من أمم النصرانية لبلاد المسلمين بما لم يجتمع قط مثله حتى قيل إنهم كانوا ألف ألف فكتب إليه أهل مصر من

نظم ابن مطروح القصيدة المشهورة التي منها
( قل للفرنسيس إذا جئته ... مقالة من ذي لسان فصيح )
إلى أن قال
( دار ابن لقمان على حالها ... ومصر مصر والطواشي صبيح )
والقصيدة مشهورة فلذلك لم أسردها فصرف الفرنسيس جيوشه إلى تونس فكتب إليه بعض أدباء دولة المستنصر
( أفرنسيس تونس أخت مصر ... فتأهب لما إليه تصير
( لك فيها دار ابن لقمان قبر ... وطواشيك منكر ونكير )
فقضى الله سبحانه وتعالى أنه مات في حركته لتونس وغنم المستنصر غنيمة ما سمع بمثلها قط ويقال إنه دس إليه سيفا مسموما من سله أثر فيه سمه وقلده رسولا إليه بعد أن جعل عليه من الجواهر النفيسة ما لم ير مثله عند غيره وقال للرسول إن الفرنسيس رجل كثير الطمع ولولا ذلك ما عاود بلاد المسلمين بعد أسره وإنه سيرى السيف ويكثر النظر إليه فإذا رأيته فعل ذلك فانزعه من عنقك وقبله وقل له هذا هدية مني إليك لأن من آدابنا مع ملوكنا أن كل ما وقع نظر الملك عليه وعاود النظر إليه بالقصد فلا بد أن يكون له ويحرم علينا أن نمسكه لأن ما أحبه المولى على العبيد حرام وتكراره النظر إليه دليل على حبه له ففرح النصراني بذلك وأسرع الرسول العود إلى سلطانه فسل النصراني السيف فتمكن فيه السم بالنظر فمات في الحين وفرج الله تعالى عن المسلمين
رجع إلى أخبار أبي الحسن علي بن سعيد 443 رجع إلى أخبار أبي الحسن علي بن سعيد وشعره رجع إلى أخبار أبي الحسن علي بن قال ابن العديم في تاريخ حلب أنشدني شرف الدين أبو العباس أحمد بن

يوسف التيفاشي بالقاهرة في أبي الحسن علي بن موسى بن سعيد الغرناطي يشير إلى كتاب أبي الحسن الذي جمعه في محاسن المغرب وسماه المغرب
( سعد الغرب وازدهى الشرق عجبا ... وابتهاجا بمغرب ابن سعيد )
( طلعت شمسه من الغرب تجلى ... فأقامت قيامة التقييد )
( لم يدع للمؤرخين مقالا ... لا ولا للرواة بيت نشيد )
( إن تلاه على الحمام تغنت ... ما على ذا في حسنه من مزيد ) وأنشدني أبو العباس التيفاشي لنفسه فيه
( يا طيب الأصل والفرع الزكي كما ... يبدو جنى ثمر من أطيب الشجر )
( ومن خلائقه مثل النسيم إذا ... يهفو على الزهر حول النهر في السحر )
( ومن محياه والله الشهيد إذا ... يبدو إلى بصري أبهى من القمر )
( أثقلت ظهري ببر لا أقوم به ... لو كنت أتلوه قرآنا مع السور )
( أهديت لي الغرب مجموعا بعالمه ... في قاب قوسين بين السمع والبصر )
( كأنني الآن قد شاهدت أجمعه ... بكل من فيه من بدو ومن حضر )
( نعم ولاقيت أهل الفضل كلهم ... في مدتي هذه والأعصر الأخر )
( إن كنت لم أرهم في الصدر من عمري ... فقد رددت علي الصدر من عمري )
( وكنت لي واحدا فيهم جميعهم ... ما يعجز الله جمع الخلق في بشر )
( جزيت أفضل ما يجزى به بشر ... مفيد عمر جديد الفضل مبتكر )

ومن نظم أبي الحسن بن سعيد قوله
( وعشية بلغت بنا أيدي النوى ... منها محاسن جامعات للنخب )
( فحدائق ما بينهن جداول ... وبلابل فوق الغصون لها طرب )
( والنخل أمثال العرائس لبسها ... خز وحليتها قلائد من ذهب )
ومن نظمه رحمه الله تعالى في حلب قوله
( حادي العيس كم تنيخ المطايا ... سق فروحي من بعدهم في سياق )
( حلب إنها مقر غرامي ... ومرامي وقبلة الأشواق )
( لا خلا جوسق ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! وبطياس والسع داء ... من كل وابل غيداق )
( كم بها مرتع لطرف وقلب ... فيه يسقى المنى بكأس دهاق )
( وتغني طيوره لارتياح ... وتثنى غصونه للعناق )
( وعلو الشهباء حيث استدارت ... أنجم الأفق حولها كالنطاق )
وقوله أيضا في حماة
( حمى الله من شطي حماة مناظرا ... وقفت عليها السمع والفكر والطرفا )
( تغنى حمام أو تميل خمائل ... وتزهى مبان تمنح الواصف الوصفا )
( يلومون تغني أن أعصي التصون والنهى ... بها وأطيع الكأس واللهو والقصفا )
( إذا كان فيها النهر عاص فكيف لا ... أحاكيه عصيانا وأشربها صرفا )
( وأشدو لدى تلك النواعير شدوها ... وأغلبها رقصا وأشبهها غرفا )
( تئن وتذري دمعها فكأنها ... تهيم بمرآها وتسألها العطفا )
وقوله في وداع ابن عمه وكتب بهما إليه
( وداع كما ودعت فصل ربيع ... يفض ضلوعي أو يفيض دموعي )
( لئن قيل في بعض يفارق بعضه ... فإني قد فارقت منك جميعي )

قال فأرسل إلي إحسانا واعتذر ولسان الحال ينشد عنه
( أحبك في البتول وفي أبيها ... ولكني أحبك من بعيد ) وقوله وقد أفلت المركب الذي كان فيه من العدو
( انظر إلى مركبنا منقذا ... من العدا من بعد إحراز )
( أفلت منهم فغدا طائرا ... كطائر أفلت من بازي )
وقال رحمه الله تعالى لما خرج من حدود إفريقية
( رفيقي جاوزنا حدود مواطن ... صحبنا بها الأيام طلقا محياها )
( وما إن تركناها لجهل بقدرها ... ولكن ثنت عنا أعنة سقياها )
( فسرنا نحث السير عنها لغيرها ... إلى أن يمن الله يوما بلقياها ) وكان وصوله الإسكندرية في السابع والعشرين من شهر ربيع الأول سنة تسع وثلاثين وستمائة وقال رحمه الله تعالى أخذت مع والدي يوما في اختلاف مذاهب الناس وأنهم لا يسلمون لأحد في اختياره فقال متى أردت أن يسلم لك أحد في هذا التأليف - أعني المغرب - ولا تعترض أتعبت نفسك باطلا وطلبت غاية لا تدرك وأنا أضرب لك مثلا يحكى أن رجلا من عقلاء الناس كان له ولد فقال له يوما يا أبي ما للناس ينتقدون عليك أشياء وأنت عاقل ولو سعيت في مجانبتها سلمت من نقدهم فقال يا بني إنك غر لم تجرب الأمور وإن رضى الناس غاية لا تدرك وأنا أوقفك على حقيقة ذلك وكان عنده حمار فقال له اركب هذا الحمار وأنا أتبعك ماشيا فبينما هما كذلك إذ قال رجل

انظر ما أقل هذا الغلام بأدب ! يركب ويمشي أبوه وانظر ما أشد تخلف والده لكونه يتركه لهذا فقال له انزل أركب أنا وامش أنت خلفي فقال شخص آخر انظر هذا الشخص ما أقله بشفقة ! ركب وترك ابنه يمشي فقال له اركب معي فقال شخص أشقاهما الله تعالى ! انظر كيف ركبا على الحمار وكان في واحد منهما كفاية فقال له انزل بنا وقدماه وليس عليه راكب فقال شخص لا خفف الله تعالى عنهما ! انظر كيف تركا الحمار فارغا وجعلا يمشيان خلفه فقال يا بني سمعت كلامهم وعلمت أن أحدا لا يسلم من اعتراض الناس على أي حالة كان انتهى
مقتبسات من خطبة المغرب
وقال في أثناء خطبة المغرب ما نصه والحمد لله الذي جعل الأدب أفضل ما اكتسب وأفضل ما انتخب إذ هو ذخر لا يخاف كساده وكنز لا يخشى انتقاصه وإن كثر مرتاده ولله در القائل
( رأيت جميع الكسب يفقده الفتى ... وتبقى له أخلاقه والتأدب )
( إذا حل في أرض أقام لنفسه ... بآدابه قدرا به يتكسب )
( وأومأ كل نحوه ولعله ... إلى غير أهل للنباهة ينسب )
وقال في أثناء الكلام لبعض المغاربة
( فأثبت في كل المواطن همة ... إلى طلب العلم الذي كان مطرح )
( وصيرت من قد كان بالنظم جاهلا ... يحاوله كيما تجود لك المدح )
وقال أيضا في الخطبة وبعد فهذا كتاب راحة قد تعبت في جمعه الأسماع والأبصار والأفكار وكل عناء سهل إذا أنجح القصد وقد بدأ فيه من سنة ثلاثين وخمسمائة ومنتهاه إلى غرة سنة إحدى وأربعين وستمائة قال وأول

من كان السبب في ابتداء هذا الكتاب جد والدي عبد الملك بن سعيد وهو إذ ذاك صاحب قلعة بني سعيد تحت طاعة علي بن يوسف بن تاشفين أمير المسلمين ملك البربر إلى أن استبد بها سنة تسع وثلاثين وخمسمائة وقصده سنة ثلاثين وخمسمائة حافظ الأندلس أبو محمد عبد الله بن إبراهيم بن الحجاري وصنف له كتاب المسهب في غرائب المغرب في نحو ستة أسفار وابتدأ فيه من فتح الأندلس إلى التاريخ الذي ابتدأه فيه وهو سنة ثلاثين وخمسمائة ثم ثار في خاطر عبد الملك أن يضيف إليه ما أغفله الحجاري وتولع بمطالعته ابناه أبو جعفر ومحمد وأضافا له ما استفاداه ولم يزل يزيد إلى أن استبد به محمد فاعتنى به أشد اعتناء ثم استبد به والدي - وكان أعلمهم بهذا الشأن - وبلغ من اجتهاده في هذا الكتاب أنني أذكره يوما وقد نوه به ابن هود وهو ملك الأندلس وولاه الجزيرة الخضراء فأعلمه شخص أن عند أحد المنسوبين إلى بيت نباهة كراريس من شعر شعرائها وأخبار رؤسائها الذين تحتوي عليهم دولة بني عبد المؤمن فأرسل إليه راغبا في استعارتها فأبى وقال على يمين أن لا تخرج عن منزلي وقال إن كانت له حاجة يأتي على رأسه وكان جاهلا فلما سمع والدي ضحك وقال سر معي إليه فقلت له ومن يكون هذا حتى نمشي له على هذه الصورة فقال إني لا أمشي له ولكن أمشي للفضلاء الذين تضمنت الكراريس أشعارهم وأخبارهم أتراهم لو كانوا أحياء مجتمعين في موضع أنفت أن أمشي إليهم قلت لا قال فإن الأثر ينوب عن العين فمشينا إلى منزل الرجل فوالله ما أنصفنا في اللقاء فلما قضينا منها الغرض صرفها إليه والدي وشكره وقال هذه فائدة لم أجدها عند غيرك فجزاك الله تعالى خيرا ! ثم انفصل وقال ألم تعلم يا بني أنني سررت بهذه الفائدة أكثر من الولاية وإن هذا والله أول السعادة وعنوان نجاحها

( كما سبحت تبغي الحياة أراقم ... على روضة فيها الأقاح المنور )
( وإلا كما شقت سبائك فضة ... بساطا على حافاته الدر ينثر )
( وقال أبو علي يونس
( انظر إلى منظر يسبيك منظره ... ويزدهيك بإذن الله مخبره )
( ومعجب معجب لا شيء يشبهه ... خرير ماء نمير ثم منهره )
( كأنما فرشت بالدر صفحته ... فالماء ينظمه طورا وينثره )
( كأن خلجانه قدت على قدر ... بمائها قسم يجري مفجره )
( أحل سيدنا الميمون قبته ما بحوزه فغدا يزدان جعفره )
رجع إلى ما كنا فيه من أخبار الرئيس ابن الحسين فنقول رأيت بالمغرب آخر كتاب روح السحر من نسخة ملوكية كتبت له أبياتا علق بحفظي منها الآن ما نصه
( تم روح السحر نسخا فأتى ... مصحبا باليمن والفخر البعيد )
( لأبي عبد الإله المرتقى ... في ذرا المجد الرئيس ابن سعيد )
ولم أحفظ تمام الأبيات
وقال أبو الحسن علي بن سعيد كتبت إليه من أبيات بحضرة تونس وقد نقل إليه بعض الحساد ما أوجب تغيره
( ومن بعد هذا قد أتيت بزلة ... أما حسن أن لا تضيق بها صدرا )
( وعلمك حسبي بالأمور فإنني ... عهدتك تدري سر أمري والجهرا )
( وقد أصلح الله الأمور بسعيكم ... ونيتكم صلحا على البشر والبشرى )
( ولم يبق لي إلا رضاك فإن به ... كتبت ولو حرفا أطبت لى العمرا )
( فبقيت كهفا للجميع وموئلا ... ولا زلت ما دام الزمان لنا سترا

قلعة بني سعيد وأولية والقلعة التي كان بها بنو سعيد تعرف بهم فيقال لها قلعة بني سعيد وكانت تعرف قبل بقلعة أسطلير وهو عين لها وقال الملاحي في تاريخه إنها تعرف بقلعة يحصب قبيل من اليمن نزل بها عند فتح الأندلس وبها كما مر صنف الحجاري كتاب المسهب لصاحبها عبد الملك بن سعيد وفي بني سعيد يقول الحجاري
( قوم لهم في فخرهم ... شرف الحديث مع القديم )
( ورثوا الندى والبأس والعليا ... كريما عن كريم )
( من كل وضاح به ... يجلى دجى الليل البهيم )
أوليه بني سعيد
وكان أول من دخل الأندلس من ولد عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه عبد الله بن سعد بن عمار وقد ذكره ابن حيان في مقتبسه وأخبر أن يوسف بن عبد الرحمن الفهري صاحب الأندلس آخر دولة بني أمية بالمشرق كتب إليه أن يدافع عبد الرحمن بن معاوية المرواني الداخل للأندلس وكان إذ ذاك أميرا على اليمانية من جند دمشق وإنما ركن إليه في محاربه عبد الرحمن لما بين بني عمار وبين بني أمية من الثأر بسبب قتل عمار بصفين على يد عسكر معاوية رضي الله تعالى عنه وكان عمار من شيعة علي رضي الله تعالى عنهما

شعر لأبي بكر ابن سعيد وقال الحجاري أنشدني أبو بكر محمد بن سعيد صاحب أعمال غرناطة في مدة الملثمين لنفسه فيما يليق بجنسه
( إن لم أكن للعلاء أهلا ... بما تراه فمن يكون )
( وكل ما أبتغيه دوني ... ولي على همتي ديون )
( ومن يرم ما يقل عنه ... فذاك من فعله جنون )
( فرع بأفق السماء سام ... وأصله راسخ مكين )
ومن نظمه قوله أيضا
( الله يعلم أني ... أحب كسب المعالي )
( وإنما أتوانى ... عنها لسوء المآل )
( تحتاج للكد والبذل ... واصطناع الرجال )
( دع كل من شاء يسمو ... لها بكل احتيال )
( فحالهم بانعكاس ... فيها وحالي حالي ) ترجمة ترجمة الغساني من المغرب ولما ذكر ابن سعيد في المغرب ترجمة الكاتب الرئيس المجيد أبي العباس أحمد الغساني كاتب ملك إفريقية قال بماذا أصفه ولو أن النجوم تصير لي نثرا لما كنت أنصفه وكفاك أني اختبرت الفضلاء من البحر المحيط إلى حضرة القاهرة فما رأيت أحسن ولا أفضل عشرة منه ولما فارقته

لم أشعر إلا برسالته قد وافتني بالإسكندرية من تونس وفيها قصيدة فريدة منها
إيه أبا الحسن استمع شدوي ... فقد يصغي الحمام إذا الحمام ترنما )
ثم سرد بعضا من القصيدة وستأتي قريبا إن شاء الله تعالى بزيادة على ما ذكر منها في المغرب
إجازته للتيفاش رواية المغرب رجع - وجد بخطه رحمه الله تعالى آخر الجزء من كتاب المغرب ما نصه أجزت الشيخ القاضي الأجل أبا الفضل أحمد ابن الشيخ القاضي أبي يعقوب التيفاشي أن يروي عنى مصنفي هذا وهو المغرب في محاسن المغرب ويرويه من شاء ثقة بفهمه واستنامة إلى علمه وكذلك أجزت لفتاه النبيه جمال الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن خطلخ الفارسي الأرموي أن يرويه عني ويرويه من شاء وكتبه مصنفه علي بن موسى بن محمد بن عبد الملك بن سعيد في تاريخ الفراغ من نسخ هذا السفر انتهى
شعر لابن سعيد
وقال في وسيم من أبناء العجم صحبه في الطريق من حلب إلى بغداد فمات وكان ظريفا أديبا
( لهفي على غصن ذوى ... أفقدته لما استوى )
( ريان من ماء الصبا ... ومن المدامع ما ارتوى )

( لا تعذلوني إن نطقت ... الدهر فيه عن الهوى )
( كم ضل صاحبه بسحر ... اللحظ منه وكم غوى )
( أنا لا أفيق الدهر فيه ... من الصبابة والجوى )
( إن الهوى حيا وميتا ... لا يزال به سوى )
( كم قد نويت به التنعيم ... فقدر الله النوى )
( دار السلام حويت من ... كل المحاسن قد حوى )
( مجموع حسن قد ثوى ... في جنة وبها ثوى )
وولد أبو الحسن 1علي بن موسى يوم الثلاثاء الثاني والعشرين من شهر رمضان عام عشرة وستمائة وهو علي بن موسى بن محمد بن عبد الملك ابن سعيد بن خلف بن سعيد بن محمد بن عبد الله بن سعيد بن الحسن بن عثمان بن محمد بن عبد الله بن سعيد بن عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه
ترجمة والد ابن سعيد من المغرب
وقال في المغرب لما عرف بوالده الكاتب الشهير أبي عمران موسى بن محمد بن عبد الملك بن سعيد ما محصله لولا أنه والدي لأطنبت في ذكره ووفيته من الوصف حق قدره لكن كفاه وصفا ما أثبت له في هذه الترجمة وما مر له ويمر في أثناء هذا الكتاب وكون كل من اشتغل بهذا التأليف نهرا وهو بحر واشتهاره في حفظه التاريخ والاعتناء بالآداب في بلاده بحيث لا يحتاج إلى تنبيه ولا إطناب وله من النظم والنثر ما تضج الأقلام من كثرته ويستمد القطر من درته ومما شاهدت من عجائبه أنه عاش سبعا

وستين سنة ولم أره يوما يخلى مطالعة كتاب أو كتب ما يخلده حتى إن أيام الأعياد لا يخليها من ذلك ولقد دخلت عليه في يوم عيد وهو في جهد عظيم من الكتب فقلت له يا سيدي أفي هذا اليوم لا تستريح فنظر إلي كالمغضب وقال أظنك لا تفلح أبدا أترى الراحة في غير هذا والله لا أحسب راحة تبلغ مبلغها ولوددت أن الله تعالى يضاعف عمري حتى أتم كتاب المغرب على غرضي قال فأثار ذلك في خاطري أن صرت مثله لا ألتذ بنعيم غير ما ألتذ به من هذا الشأن ولولا ذلك ما بلغ هذا التأليف إلى ما تراه وكان أولع الناس بالتجول في البلدان ومشاهدة الفضلاء واستفادة ما يرى وما يسمع وفي تولعه بالتقييد والمطالعة للكتب يقول
( يا مفنيا عمره في الكأس والوتر ... وراعيا في الدجى للأنجم الزهر )
( يبكي حبيبا جفاه أو ينادم من ... يهفو لديه كغصن باسم الزهر )
( منعما بين لذات يمحقها ... ولا يخلد من فحر ولا سير )
( وعاذلا لي فيما ظلت أكتبه ... يبدي التعجب من صبري ومن فكري )
( يقول مالك قد أفنيت عمرك في ... حبر وطرس عن الأغصان والحبر )
( وظلت تسهر طول الليل في تعب ... ولا تني أمد الأيام في ضجر )
( أقصر فإني أدري بالذي طمحت ... لأفقه همتي واسأل عن الأثر )
( واسمع لقول الذي تتلى محاسنه ... من بعد ما صار مثل الترب كالسور )
( جمال ذي الأرض كانوا في الحياة وهم ... بعد الممات جمال الكتب والسير ) انتهى
وولد أبو عمران موسى بن محمد في الخامس من رجب عام ثلاثة وسبعين

وخمسمائة وتوفي بثغر الإسكندرية يوم الاثنين الثامن من شوال عام أربعين وستمائة
محمد بن عبد الملك بن سعيد
وولد أبوه محمد بن عبد الملك صاحب أعمال غرناطة وأعمال إشبيلية عام أربعة عشر وخمسمائة وتوفي بشعبان عام تسعة وثمانين وخمسمائة بغرناطة
وكان محمد بن عبد الملك وزيرا جليلا بعيد الصيت عالي الذكر رفيع الهمة كثير الأموال وذكره ابن صاحب الصلاة في كتابه تاريخ الموحدين ونبه على مكانته منهم في الحظوة والأخذ في أمور الناس وأثنى عليه وذكره السهيلي في شرح السيرة الشريفة حيث ذكر الكتاب الموجه من رسول الله إلى هرقل وأن محمد بن عبد الملك عاينه عند أدفونش مكرما مفتخرا به والقصة مشهورة ومدحه الرصافي بقصيدة أولها
( ذهنا يفيض وخاطرا متوقدا ... ماذا عسى يثنى على علم الندى )
ولما أنشده قصيدته فيه التي أولها
( لمحلك الترفيع والتعظيم ... ولوجهك التقديس والتكريم ) حلف لا يسمعها وقال علي إجازتك ولكن طباعي لا تحمل مثل

هذا فقال له الرصافي ومن مثلك يستحق هذا في الوقت غيرك فقال له دعني من خداعك أنا وما أعلمه من قلبي وأنشد له في الطالع السعيد
( فلا تظهرن ما كان في الصدر كامنا ... ولا تركبن بالغيظ في مركب وعر )
( ولا تبحثن في عذر من جاء تائبا ... فليس كريما من يباحث في العذر ) وولي للموحدين أعمالا كثيرة بمراكش وسلا وإشبيلية وغرناطة واتصلت ولايته على أعمال غرناطة وكان من شيوخها وأعيانها وكتب عليه عقد أن في داره من الحلى وأصنافه ما لا يمكن إلا في دار الملك وأنه إذا ركب في صلاة الصبح شوش نباح الكلاب فأمر المنصور بالقبض عليه وعلى ابن عمه صاحب أعمال إفريقية أبي الحسن سنة 593 ثم رضي عنهما وأمر محمد بن عبد الملك أن يكتب بخطه كل ما أخذ له فصرفه عليه ولم ينقص شيئا وغرم له ما فات منه وهذا مما يدل على قوة سعد محمد بن عبد الملك المذكور ونباهة قدره وحسبه من الفخر مدح أديب الأندلس وشاعرها أبي عبد الله الرصافي له وهو ممن يمدح الخلفاء في ذلك العصر - رحمه الله تعالى -
عبد الملك بن سعيد وولد أبوه عبد الملك بن سعيد عام ستة وتسعين وأربعمائة وتوفي بحضرة

مراكش عام اثنين وستين وخمسمائة قال الحجاري لما مات يحيى بن غانية الملثم ملك الأندلس بحضرة غرناطة وكان وزيره ومدبر دولته عبد الملك بن سعيد بادر الفرار لغرناطة عند ما سمع بموته إلى قلعته وثار بها وطلبه خليفة يحيى بن غانية طلحة بن العنبر فوجده قد فاته
وقد قدمنا أن عبد الملك هذا هو السبب في تأليف كتاب المغرب في أخبار المغرب ثم تممه ابنه محمد بن عبد الملك ثم تمم ما بقي منه ابنه موسى بن محمد ثم أربى على الكل في إتمامه أبو الحسن علي بن موسى الذي قصدناه بالترجمة في هذا الكتاب وقد ذكرنا من أحواله جملة كافية
وصف ابن سعيد للفسطاط ومن فوائد ابن سعيد أبي الحسن ما حكاه عن صاحب كتاب الكمائم وهو فأما فسطاط مصر فإن مبانيها كانت في القديم متصلة بمباني مدينة عين شمس وجاء الإسلام وبها بناء يعرف بالقصر حوله مساكن وهو الذي عليه نزل عمرو بن العاص وضرب فسطاطه حيث المسجد الجامع المنسوب إليه ثم لما فتحها قسم المنازل على القبائل ونسب المدينة إليه فقيل فسطاط عمرو وتداولت عليها بعد ذلك ولاة مصر فاتخذوها سرير السلطنة وتضاعفت عمارتها فأقبل الناس من كل جانب إليها وقصروا أمانيهم عليها إلى أن رسخت بها دولة بني طولون فبنوا إلى جانبها المنازل المعروفة بالقطائع وبها كان مسجد ابن طولون الذي هو الآن إلى جانب القاهرة وهي مدينة

مستطيلة يمر النيل مع طولها وتحط في ساحلها المراكب الآتية من شمال النيل وجنوبه بأنواع الفوائد وبها منتزهات وهي في الإقليم الثالث ولا ينزل فيها المطر إلا في النادر وترابها ينتن الأرجل وهو قبيح اللون تستكدر منه أرجاؤها ويسوء بسببه هواؤها ولها أسواق ضخمة إلا أنها ضيقة ومبانيها بالقصب والطوب طبقة على طبقة ومذ بنيت القاهرة ضعفت مدينة الفسطاط وفرط في الاعتناء بها بعد الإفراط وبينهما نحو ميلين وأنشدت فيها للشريف العقيلي
( أحن إلى الفسطاط شوقا وإنني ... لأدعو لها أن لا يحل بها القطر )
( وهل في الحيا من حاجة لجنابها ... وفي كل قطر من جوانبها نهر )
( تبدت عروسا والمقطم تاجها ... ومن نيلها عقد كما انتظم الدر )
وقال عن كتاب إجار والفسطاط هو قصبة مصر والجبل المقطم شرقيها وهو متصل بجبل الزمرذ وقال عن كتاب ابن حوقل الفسطاط مدينة حسنه ينقسم النيل لديها وهي كبيرة ومقدارها نحو فرسخ على غاية العمارة والطيب واللذة ذات رحاب في محالها وأسواق عظام فيها ضيق

ومتاجر فخام ولها ظاهر أنيق وبساتين نضرة ومنتزهات على ممر الأيام خضرة وفي الفسطاط قبائل وخطط للعرب تنسب إليها كالكوفة والبصرة إلا أنها أقل من ذلك وهي سبخة الأرض غير نقية التربة وتكون الدار بها سبع طبقات وخمسا وستا وربما يسكن في الدار المائتان من الناس ومعظم بنيانهم بالطوب وأسفل دورهم غير مسكون وبها مسجدان للجمعة بنى أحدهما عمرو بن العاص في وسط الفسطاط والآخر على الموقف بناه ابن طولون وكان خارج الفسطاط أبنية بناها أحمد بن طولون ميلا في ميل يسكنها جنده وتعرف بالقطائع كما بنى بنو الأغلب خارج القيروان رقادة وقد خربتا في وقتنا هذا وأخلف الله بدل القطائع بظاهر مدينة الفسطاط القاهرة قال ابن سعيد لما استقررت بالقاهرة تشوفت إلى معاينة الفسطاط فسار معي إليها أحد أصحاب القرية فرأيت عند باب زويلة من الحمير المعدة لركوب من يسير إلى الفسطاط جملة عظيمة لا عهد لي بمثلها في بلد فركب منها حمارا وأشار إلي أن أركب حمارا آخر فأنفت من ذلك جريا على عادة ما خلفته من بلاد المغرب فأخبرني أنه غير معيب على أعيان مصر وعاينت الفقهاء وأصحاب البزة والشارة الظاهرة يركبونها فركبت وعندما استويت راكبا أشار المكاري إلى الحمار فطار بي وأثار من الغبار الأسود ما أعمى عيني ودنس ثيابي وعاينت ما كرهته ولقلة معرفتي بركوب الحمار وشدة عدوه على قانون لم أعهده وقلة رفق المكاري وقعت في تلك الظلمة المثارة من ذلك العجاج فقلت

( لقيت بمصر أشد البوار ... ركوب الحمار وكحل الغبار )
( وخلفي مكار يفوق الرياح ... لا يعرف الرفق مهما استطار )
( أناديه مهلا فلا يرعوي ... إلى أن سجدت سجود العثار )
( وقد مد فوقي رواق الثرى ... وألحد فيها ضياء النهار ) فدفعت إلى المكاري أجرته وقلت له إحسانك أن تتركني أمشي على رجلي ومشيت إلى أن بلغتها وقدرت الطريق بين الفسطاط والقاهرة وحققته بعد ذلك نحو ميلين ولما أقبلت على الفسطاط أدبرت عني المسرة وتأملت أسوارا مثلمة سوداء وآفاقا مغبرة ودخلت من بابها وهو دون غلق يفضي إلى خراب معمور بمبان مشتتة الوضع غير مستقيمة الشوارع قد بنيت من الطوب الأدكن والقصب والنخيل طبقة فوق طبقة وحول أبوابها من التراب الأسود والأزبال ما يقبض نفس النظيف ويغض طرف الظريف فسرت وأنا معاين لاستصحاب تلك الحال إلى أن صرت في أسواقها الضيقة فقاسيت من ازدحام الناس فيها لحوائج السوق والروايا التي على الجمال ما لا تفي به إلا مشاهدته ومقاساته إلى أن انتهيت إلى المسجد الجامع فعاينت من ضيق الأسواق التي حوله ما ذكرت به ضده في جامع إشبيلية وجامع مراكش ثم دخلت إليه فعاينت جامعا كبيرا قديم البناء غير مزخرف ولا محتفل في حصره التي تدور مع بعض حيطانه وتنبسط فيه وأبصرت العامة رجالا ونساء قد جعلوه معبرا بأوطئة أقدامهم يجوزون فيه من باب إلى باب ليقرب عليهم الطريق والبياعون يبيعون فيه أصناف المكسرات والكعك وما سوى ذلك والناس يأكلون في عدة أمكنة منه غير محتسمين لجري العادة عندهم بذلك وعدة صبيان بأواني ماء يطوفون على كل من يأكل قد جعلوا ما يحصل لهم منه رزقا وفضلات مآكلهم مطروحة في صحن الجامع وفي زواياه العنكبوت قد عظم

نسجه في السقف والأركان والحيطان والصبيان يلعبون في صحنه وحيطانه مكتوبة بالفحم والحمرة بخطوط قبيحة مختلفة من كتب فقراء العامة إلا أن مع ذلك على الجامع المذكور من الرونق وحسن القبول وانبساط النفس ما لا تجده في جامع إشبيلية مع زخرفته والبستان الذي في صحنه و ؟ لقد تأملت ما وجدت فيه من الارتياح والأنس دون منظر يوجب ذلك فعلمت أن ذلك سر مودع من وقوف الصحابة رضي الله تعالى عنهم في ساحته عند بناه واستحسنت ما أبصرته من حلق المتصدرين لإقراء القرآن والفقه والنحو في عدة أماكن وسألت عن مواد أرزاقهم فأخبرت أنها من فروض الزكاة وما أشبه ذلك ثم أخبرت أن اقتضاء ذلك يصعب إلا بالجاه والتعب ثم انفصلنا من هناك إلى ساحل النيل فرأيت ساحلا كدر التربة غير نظيف ولا متسع الساحة ولا مستقيم الاستطالة ولا عليه سور أبيض إلا أنه مع ذلك كثير العمارة بالمراكب وأصناف الأرزاق التي تصل من جميع أقطار النيل ولئن قلت إني لم أبصر على نهر ما أبصرته على ذلك الساحل فإني أقول حقا والنيل هنالك ضيق لكون الجزيرة التي بنى فيها سلطان الديار المصرية الآن قلعته قد توسطت الماء ومالت إلى جهة الفسطاط وبحسن سورها المبيض الشامخ حسن منظر الفرجة ! ! ! ! ! ! ! في ذلك الساحل وقد ذكر ابن حوقل الجسر الذي يكون ممتدا من الفسطاط إلى الجزيرة وهو غير طويل ومن الجانب الآخر إلى البر الغربي المعروف ببر الجيزة جسر آخر من الجزيرة إليه وأكثر جواز الناس بأنفسهم ودوابهم في المراكب لأن هذين الجسرين قد احترما لحصولهما في حيز قلعة السلطان ولا يجوز أحد على الجسر الذي بين الفسطاط والجزيرة راكبا احتراما

لموضع السلطان وبتنا في ليلة ذلك اليوم بطيارة مرتفعة على جانب النيل فقلت 10
( نزلنا من الفسطاط أحسن منزل ... بحيث امتداد النيل قد دار كالعقد )
( وقد جمعت فيه المراكب سحرة ... كسرب قطا أضحى يرف على ورد )
( وأصبح يطفو الموج فيه ويرتمي ... ويطرب أحيانا ويلعب بالنرد )
( حلا ماؤه كالريق ممن أحبه ... فمدت عليه حلة من حلى الخد )
( وقد كان مثل النهر من قبل مده ... فأصبح لما زاده المد كالورد )
وقلت هنا لأني لم أذق في المياه أحلى من مائه وإنه يكون قبل المد الذي يزيد به ويفيض على أقطاره أبيض فإذا كان عباب النيل صار أحمر وأنشدني علم الدين فخر الترك أيدمر عتيق وزير الجزيرة في مدح الفسطاط [ بحر الرمل ]
( حبذا الفسطاط من والدة جنبت أولادها دار الجفا )
يرد النيل إليها كدرا ... فإذا مازج أهليها صفا )
( لطفوا فالمزن لا تألفهم ... خجلا لما رأتهم ألطفا )
ولم أر في أهل البلاد ألطف من أهل الفسطاط حتى إنهم ألطف من أهل القاهرة وبينهما نحو ميلين والحال أن أهل الفسطاط في نهاية من اللطافة واللين في الكلام وتحت ذلك من الملق وقلة المبالاة برعاية قدر الصحبة وكثرة الممازحة والألفة ما يطول ذكره
وأما ما يرد على الفسطاط من متاجر البحر الإسكندراني والبحر الحجازي

فإنه فوق ما يوصف وبها مجمع ذلك لا بالقاهرة ومنها يجهز إلى القاهرة وسائر البلاد
وبالفسطاط مطابخ السكر والصابون ومعظم ما يجري هذا المجرى لأن القاهرة بنيت للاختصاص بالجند كما أن جميع زي الجند بالقاهرة أعظم منه بالفسطاط وكذلك ما ينسج ويصاغ وسائر ما يعمل من الأشياء الرفيعة السلطانية والخراب في الفسطاط كثير والقاهرة أجد وأعمر وأكثر زحمة باعتبار انتقال السلطان إليها وسكنى الأجناد فيها وقد نفخ روح الاعتناء والنمو في مدينة الفسطاط الآن لمجاورتها للجزيرة الصالحية وكثير من الجند قد انتقل إليها للقرب من الخدمة وبنى على سورها جماعة منهم مناظر تبهج الناظر انتهى
قال المقريزي يعني ابن سعيد ما بني على شفة مصر من جهة النيل انتهى
وقال ابن سعيد المذكور في المغرب من حلى المغرب ما ملخصه الروضة أمام الفسطاط فيما بينها وبين مناظر الجيزة وبها مقياس النيل وكانت منتزها لأهل مصر فاختارها الملك الصالح بن الملك الكامل سريرا لسلطنتة وبنى فيها قلعة مسورة بسور ساطع اللون محكم البناء عالي السمك لم تر عيني أحسن منه وفي هذه الجزيرة كان الهودج الذي بناه الخليفة الآمر لزوجته البدوية التي هام في حبها والمختار بستان الإخشيد وقصره وله ذكر في شعر تميم بن المعز وغيره ولشعراء مصر في هذه الجزيرة أشعار منها قول أبي الفتح ابن قادوس الدمياطي
( أرى سرج الجزيرة من بعيد ... كأحداق تغازل في المغازل )
( كأن مجرة الجوزاء خطت ... وأثبتت المنازل في المنازل )

قال وكنت أبيت بعض الليالي بالفسطاط فيزدهيني ضحك البدر في وجه النيل مع سور هذه الجزيرة الدري اللون ولم أنفصل عن مصر حتى كمل سور هذه القلعة وفي داخله من الدور السلطانية ما ارتفعت إليه همة بانيها وهو من أعظم السلاطين في البناء وأبصرت بهذه الجزيرة إيوانا لجلوسه لم تر عيني مثاله ولا يقدر ما أنفق عليه وفيه من صحائف الذهب والرخام الآبنوسي والكافوري والمجزع ما يذهل الانكار ويستوقف الأبصار ويفضل عما أحاط به السور أرض طويلة في بعضها حاضر حصر فيه أصناف الوحوش التي يتفرج عليها السلطان وبعدها مروج تنقطع فيها مياه النيل فتنظر فيها أحسن منظر قال وقد تفرجت كثيرا في طرف هذه الجزيرة مما يلي أثر الفسطاط فقطعت به عشيات مذهبات لم تزل لأحزان الغربة مذهبات وإذا زاد النيل فصل برها عن بر الفسطاط من جهة خليج القاهرة ويبقى موضع الجسر تكون فيه المراكب انتهى وأورد الصفدي في تذكرته لابن سعيد المذكور في هذه الجزيرة
( انظر إلى سور الجزيرة في الدجى ... والبدر يلثم منه ثغرا أشنبا )
( تتضاحك الأنوار في جنباته ... فتريك فوق النيل أمرا معجبا )
( بينا تراه مفضضا في جانب
أبصرت منه في سواه مذهبا )
( لله مرأى ما رآه ناظري ... إلا خلعت له المقام تطربا )
وصف القاهرة
وقال في المغرب نقلا عن بعضهم ما صورته وأما مدينة القاهرة فهي الحالية الباهرة التي تفنن فيها الفاطميون وأبدعوا في بنائها واتخذوها

قطبا لخلافتهم ومركزا لأرجائها فنسي الفسطاط وزهد فيه بعد الاغتباط وسميت القاهرة لأنها تقهر من شذ عنها ورام مخالفة أميرها انتهي
قال ابن سعيد هذه المدينة اسمها أعظم منها وكان ينبغي أن تكون في ترتيبها ومبانيها على خلاف ما عاينته لأنها مدينة بناها المعز أعظم خلفاء العبيديين وكان سلطانه قد عم جميع طول المغرب من أول الديار المصرية إلى البحر المحيط
( وسارت مسير الشمس في كل بلدة ... وهبت هبوب الريح في البر والبحر )
لا سيما وقد عاين مباني أبيه المنصور في المدينة المنصورية إلى جانب القيروان وعاين المهدية مدينة جده عبيد الله المهدي لكن الهمة السلطانية ظاهرة على قصور الخلفاء بالقاهرة وهي ناطقة إلى الآن بألسن الآثار ولله در القائل
( همم الملوك إذا أرادوا ذكرها ... من بعدهم فبألسن البنيان )
( إن البناء إذا تعاظم شأنه ... أضحى يدل على عظيم الشان ) وتهمم من بعده الخلفاء المصريون في الزيادة في تلك القصور وقد عاينت فيها إيوانا يقولون إنه بني قدر إيوان كسرى الذي بالمدائن وكان يجلس فيها خلفاؤهم ولهم على الخليج الذي بين الفسطاط والقاهرة مبان عظيمة جليلة الآثار وأبصرت في قصورهم حيطانا عليها طاعات عديدة من الكلس والجبس ذكر لي أنهم كانوا يجددون تبييضها في كل سنة والمكان المعروف بالقاهرة بين القصرين هو من الترتيب السلطاني لأن هناك ساحة متسعة للعسكر والمتفرجين ما بين القصرين ولو كانت القاهرة كلها كذلك كانت عظيمة القدر كاملة الهمة السلطانية ولكن ذلك أمد قليل ثم تسير منه إلى أمد ضيق وتمر في ممر كدر خرج بين الدكاكين إذا ازدحمت فيه الخيل مع الرجالة كان مما تضيق به الصدور وتسخن منه العيون ولقد عاينت يوما وزير الدولة وبين يديه الأمراء وهو في موكب جليل وقد لقي في طريقه عجلة بقر تحمل

حجارة وقد سدت جميع الطرق بين يدي الدكاكين ووقف الوزير وعظم الازدحام وكان في موضع طباخين والدخان في وجه الوزير وعلى ثيابه وقد كاد يهلك المشاة وكدت أهلك في جملتهم وأكثر دروب القاهرة ضيقة مظلمة كثيرة التراب والأزبال والمباني عليها من قصب وطين مرتفعة قد ضيقت مسلك الهواء والضوء بينها ولم أر في جميع بلاد المغرب أسوأ منها حالا في ذلك ولقد كنت إذا مشيت فيها يضيق صدري وتدركني وحشة عظيمة حتى أخرج إلى بين القصرين
ومن عيوب القاهرة أنها في أرض النيل الأعظم ويموت الإنسان فيها عطشا لبعدها عن مجرى النيل لئلا يصادرها ويأكل ديارها وإذا احتاج الإنسان إلى فرجة في نيلها مشى في مسافة بعيدة بظاهرها بين المباني التي خارج السور إلى موضع يعرف بالمقس وجوها لا يبرح كدرا بما تنثره الأرض من التراب الأسود وقد قلت فيها حين أكثر علي رفاقي من الحض على العود فيها
( يقولون سافر إلى القاهره ومالي بها راحة ظاهره )
( زحام وضيق وكرب وما ... تثير بها أرجل سائره )
وعندما يقبل المسافر عليها يرى سورا أسود كدرا وجوا مغبرا فتنقبض نفسه ويفر أنسه وأحسن موضع في ظواهرها للفرجة أرض الطبالة لا سيما أرض القرط والكتان وقلت
( سقى الله أرضا كلما زرت روضها ... كساها وحلاها بزينته القرط )
( تجلت عروسا والمياه عقودها ... وفي كل قطر من جوانبها قرط ) وفيها خليج لا يزال يضعف بين حضرتها حتى يصير كما قال الرصافي
( ما زالت الأمحال تأخذه ... حتى غدا كذؤابة النجم

وقلت في نور الكتان على جانبي الخليج
انظر إلى النهر والكتان يرمقه ... من جانبيه بأجفان لها حدق )
( رأته سيفا عليه للصبا شطب ... فقابلته بأحداق بها أرق )
( وأصبحت في يد الارواح تنسجها ... حتى غدت حلقا من فوقها حلق )
( فقم فزرها ووجه الأرض مصطبح ... أو عند صفوته إن كنت تغتبق )
وأعجبني في ظاهرها بركة الفيل لأنها دائرة كالبدر والمناظر فوقها كالنجوم وعادة السلطان أن يركب فيها بالليل وتسرج أصحاب المناظر على قدر همتهم وقدرتهم فيكون لها بذلك منظر عجيب وفي ذلك قيل
( انظر إلى بركة الفيل التي اكتنفت ... بها المناظر كالأهداب للبصر )
كأنما هي والأبصار ترمقها ... كواكب قد أداروها على القمر )
ونظرت إليها وقد قابلتها الشمس بالغدو فقلت
( إلى بركة الفيل التي فجرت ... لها الغزالة فجرا من مطالعها )
( وخل طرفك مجنونا ببهجتها ... يهيم وجدا وحبا في بدائعها )
والفسطاط أكثر أرزاقا وأرخص أسعارا من القاهرة لقرب النيل من الفسطاط والمراكب التي تصل بالخيرات تحط هناك ويباع ما يصل فيها بالقرب منها وليس يتفق ذلك في ساحل القاهرة لأنه يبعد عن المدينة والقاهرة هي أكثر عمارة واحتراما وحشمة من الفسطاط لأنها أجل مدارس وأضخم خانات وأعظم ديارا لسكنى الأمراء فيها لأنها المخصوصة بالسلطنة لقرب قلعة الجبل منها فأمور السلطنة كلها فيها أيسر وأكثر وبها الطراز وسائر الأشياء التي يتزين بها الرجال والنساء إلا أن في هذا الوقت لما اعتني

( لئن فاتني منه الأنيس فكل ما ... يحل إلى علياك ليس بفائت )
168 - ومنهم الشيخ الصالح الزاهد أبو الحسن علي بن عبد الله بن يوسف بن حمزة القرطبي الأنصاري المعروف بابن العابد نزيل رباط الصاحب الصفي بن شكر قال بعض المشارقة عنه إنما سميت الخمر بالعجوز لأنها بنت ثمانين يعني عدد حدها وأنشد له
( عذلنا فلانا على فعله ... ولمناه في شربه للعجوز )
( فقال دعوني من أجلها ... أنال أنا وأخي والعجوز )
169 - ومنهم الشيخ الفاضل المتقن أبو عبد الله محمد بن علي بن يوسف بن محمد بن يوسف الأنصاري الشاطبي الأصل البلنسي المولد في أحد ربيعي سنة إحدى وستمائة ولقبه المشارقة برضي الدين وتوفي بالقاهرة في جمادى الأولى سنة 684 رحمه الله تعالى
ومن نظمه لما حضر أجله وقد أمر خادمه أن ينظف له بيته وأن يغلق عليه الباب ويفتقده بعد زمان ففعل ذلك فلما دخل عليه وجده ميتا وقد كتب في رقعة
( حان الرحيل فودع الدار التي ... ما كان ساكنها بها بمخلد )
( واضرع إلى الملك الجواد وقل له ... عبد بباب الجود أصبح يجتدي )
( لم يرض غير الله معبودا ولا ... دينا سوى دين النبي محمد )
ومن نظمه أيضا رحمه الله تعالى

السلطان ببناء قلعة الجزيرة التي أمام الفسطاط وصيرها سرير السلطنة عظمت عمارة الفسطاط وانتقل إليها كثير من الأمراء وضخمت أسواقها وبنى فيها السلطان أمام الجسر الذي للجزيرة قيسارية عظيمة فنقل إليها من القاهرة سوق الأجناد التي يباع فيها الفراء والجوخ وما أشبه
ذلك إلى أن قال وهي الآن عظيمة آهلة يجبى إليها من الشرق والغرب والجنوب والشمال ما لا يحيط بجملته وتفسيره إلا خالق الكل جل وعلا وهي مستحسنة للفقير الذي لا يخاف طلب زكاة ولا ترسيما ولا عذابا ولا يطالب برفيق له إذا مات فيقال له ترك عندك مالا فربما سجن في شأنه أو ضرب أو عصر والفقير المجرد فيها يستريح بجهة رخص الخبز وكثرته ووجود السماع والفرج في ظواهرها ودواخلها وقلة الاعتراض عليه فيما تذهب إليه نفسه يحكم فيها كيف شاء من رقص في وسط السوق أو تجريد أو سكر من حشيشة أو صحبة مردان وما أشبه ذلك بخلاف غيرها من بلاد المغرب وسائر الفقراء لا يتعرضون إليهم بالقبض للأسطول إلا المغاربة فذلك وقف عليهم لمعرفتهم بمعاناة البحر وقد عم ذلك من يعرف معاناة البحر منهم ومن لا يعرف وهم في القدوم عليها بين حالين إن كان المغربي غنيا طولب بالزكاة وضيق عليه وضيقت السعاة وإن كان مجردا فقيرا حمل إلى السجن حتى يحين وقت الأسطول وفي القاهرة أزاهر كثيرة غير منقطعة الاتصال وهذا الشأن في الديار المصرية يفضل كثيرا من البلاد وفي اجتماع النرجس والورد فيها أقول
( من فضل النرجس وهو الذي ... يرضى بحكم الورد إذ يرأس )
( أما ترى الورد غدا قاعدا ... وقام في خدمته النرجس )
وأكثر ما فيها من الثمرات والفواكه والرمان والموز أما التفاح والإجاص فقليل غال وكذلك الخوخ وفيها الورد والنرجس والنسرين والنيلوفر والبنفسج والياسمين والليمون الأخضر والأصفر وأما العنب والتين فقليل غال ولكثرة

ما يعصرون العنب في أرياف النيل لا يصل منه إلا القليل ومع هذا فشرابه عندهم في غاية الغلاء وعامتها يشربون المزر الأبيض المتخذ من الحنطة حتى إن الحنطة يطلع سعرها بسببه فينادي المنادي من قبل الوالي بقطعه وكسر أوانيه ولا ينكر فيها إظهار أواني الخمر ولا آلات الطرب ذوات الأوتار ولا تبرج النساء العواهر ولا غير ذلك مما ينكر في غيرها من بلاد المغرب وقد دخلت في الخليج الذي بين القاهرة ومصر وتعظم عمارته فيما يلي القاهرة فرأيت فيه من ذلك العجائب وربما وقع فيه قتل بسبب السكر فيمنع فيه الشرب وذلك في بعض الأحيان وهو ضيق عليه من الجهتين مناظر كثيرة العمارة بمعالم التهكم والطرب والمخالفة حتى إن المحتشمين والرؤساء لا يجيزون العبور به في مركب وللسرج في جانبيه بالليل منظر وكثيرا ما يتفرج فيه أهل الستر في الليل وفي ذلك أقول
( لا تركبن في خليج مصر ... إلا إذا أسدل الظلام )
( فقد علمت الذي عليه ... من عالم كلهم طغام )
( صفان للحرب قد أطلا ... سلاح ما بينهم كلام )
( يا سيدي لا تسر إليه ... إلا إذا هوم النيام )
( والليل ستر على التصاب ... ي عليه من فضله لثام )
( والسرج قد مددت عليه ... منها دنانير لا ترام )
( وهو قد امتد والمباني ... عليه في خدمة قيام )
( لله كم دوحة جنينا ... هناك أثمارها الأثام )
قال المقريزي وفيه تحامل كثير انتهى
ومن نظر بعين الإنصاف علم أن التحامل في نسبة التحامل إليه والله تعالى الموفق
قال ابن سعيد ومعاملة الفسطاط والقاهرة بالدراهم المعروفة السوداء

كل درهم منها ثلاثة من الدرهم الناصري وفي المعاملة بها شدة وخسارة في البيع والشراء ومخاصمة بين الفريقين وكان بها قديما الفلوس فقطعها الملك الكامل فبقيت الآن مقطوعة منها
وهي في الإقليم الثالث وهواؤها رديء لا سيما إذا هب المريسي من جهة القبلة وأيضا فرمد العين فيها كثير والمعايش فيها متعذرة نزرة لا سيما أصناف الفضلاء وجوامك المدارس قليلة كدرة وأكثر ما يتعيش بها اليهود النصارى في كتابة الطب والخراج والنصارى بها يمتازون بالزنار في أوساطهم واليهود بعمائم صفر ويركبون البغال ويلبسون الملابس الجليلة ويأكل أهل القاهرة البطارخ ولا تصنع حلاوة القمح إلا بها وبغيرها من الديار المصرية وفيها جوار طباخات أصل تعليمهن من قصور الخلفاء الفاطميين ولهن في الطبخ صنائع عجيبة ورياسة متقدمة ومطابخ السكر والمواضع التي يصنع بها الورق المنصوري مخصوصة بالفسطاط دون القاهرة انتهى المقصود من هذا الموضع من كلام أبي الحسن النور بن سعيد رحمه الله تعالى
وقال رحمه الله
( كم ذا تقيم بمصر ... معذبا بذويها )
( وكيف ترجو نداهم ... والسحب تبخل فيها )
وقال رحمه الله تعالى
( لابن الزبير مكارم أضحت بها ... طير المدائح في البلاد تغرد )
( إن قيدوه وبالغوا في عصره ... فالكرم يعصر والجواد يقيد )
166 - ولنذكر بعض أخبار والده فإنه ممن رحل إلى المشرق وتوفي بالإسكندرية وقد ذكر ابنه أبو الحسن في المغرب وغيره من

أخباره العجائب

ولا بأس بأن نلم بشيء من ذلك سوى ما تقدم فنقول من أخباره أنه لما اجتاز بمالقة ومشرفها إذ ذاك أبو علي بن مبقي وجه إليه من نقل أسبابه إلى داره وأقبل عليه منشدا
( أكذا يجوز القطر لا يثني على ... أرض توالى جدبها من بعده )
( ألله يعلم أنها ما أنبتت ... زهرا ولا ثمرا بمدة فقده )
( عرج عليها ساعة يا من له ... حسب يفوق العالمين بمجده )
( وانثر عليها من أزاهرك التي ... تشفي المتيم من لواعج وجده )
- ( والله ما ذاكرت فكرك ساعة ... إلا وأقبس خاطري من زنده )
قال موسى فارتجلت للحين
( أنت الذي تعرف كيف العلا ... ا وتبتدي في سبل المجد )
( بدأت بالفضل المنير الذي ... أكمل بدر الشكر )
( والحمد والله ما أبصرتكم ساعة ... إلا بدا لي طالع السعد )
وانصرفت معه إلى منزله
( فلم أزل في كرامه ... ليست كظل غمامه )
ولما كان أبو عمران موسى بن سعيد بالجزيرة الخضراء مقدما على أعمالها من قبل ابن هود وصله كتاب من الفقيه القاضي أبي عبد الله محمد بن عسكر قاضي مالقة مع أحد الأدباء منه
( أفاتح من قلبي يعلياه واثق ... وإن كانت الأبصار لم تنسخ الودا )
( وثقت بما لي من ذمام تشيعي ... بآل سعيد فابتغيت به السعدا )
( وبالحب يدنو كل من أقصت النوى برغم حجاب للنوى بيننا مدا )
يا سيدي الذي حملني ما أمال أسماعي من الثناء عليه أن أهجم على مفاتحته

شافعا في موصلها إليه واثقا بالفرع لعلم الأصل مؤملا للإفضال بتحقق الفضل إن لم تقض باجتماع بيننا الأيام فلا تجزيء من المشافهة بيننا ألسن الأقلام ويوحي بعضنا إلى بعض بسور الوداد والحمد لله الذي أطلعك في ذلك الأفق بدرا وأدناك من هذه الدار فصرنا لقرب من يرد عنك لا نعدم لك ذكرا فكل يثني بالذي علمت سعد ويصف من خلالك ما يقضي ذلك المجد ولما كان إحسانك يبشر به الصادر والوارد ويحرض عليه الغائب والشاهد مد أمله نحوك موصل هذه المفاتحة وليس له وسيلة ولا بضاعة إلا الأدب وهي عند بيتك الكريم رابحة وهو من شئتت خطوب هذا الزمان شمله وأبانت نوائبه صبره وفضله وما طمح ببصره إلا إلى أفقك ولا وجه رجاءه إلا نحو طرقك والرجاء من فضلك أن يعود وقد أثنت حقائبه وأعنقت من الحمد ركائبه دمت غرة في الزمن البهيم مخصوصا بأفضل التحية والتسليم انتهى وابن عسكر المذكور عالم بالتاريخ متبحر في العلوم وله كتاب في أنساب بني سعيد أصحاب هذه الترجمة ومن شعره
أهواك يا بدر وأهوى الذي ... يعذلني فيك وأهوى الرقيب )
( والجار والدار ومن حلها ... وكل من مر بها من قريب )
( وكل مبد شبها منكم ... وكل من يلفظ باسم الحبيب )
وصية بن سعيد الاب لابنه علي الحسن 465
رجع - قال ابنه علي لما أردت النهوض من ثغر الإسكندرية إلى القاهرة أول وصولي إلى الإسكندرية رأى أن يكتب لي وصية أجعلها إماما في الغربة

فبقي فيها أياما إلى أن كتبتها عنه وهي هذه وكفى بها دليلا على ما اختبر وعلم
( أودعك الرحمن في غربتك ... مرتقبا رحماه في أوبتك )
( وما اختياري كان طوع النوى ... لكنني أجري على بغيتك )
( فلا تطل حبل النوى إنني ... والله أشتاق إلى طلعتك )
( من كان مفتونا بأبنائه فإنني أمعنت في خبرتك )
( فاختصر التوديع أخذا فما ... لي ناظر يقوى على فرقتك )
( واجعل وصاتي نصب عين ولا ... تبرح مدى الأيام من فكرتك )
( خلاصة العمر التي حنكت ... في ساعة زفت إلى فطنتك )
( فللتجاريب أمور إذا طالعتها تشحذ من غفلتك )
( فلا تنم عن وعيها ساعة ... فإنها عون إلى يقظتك )
( وكل ما كابدته في النوى ... إياك أن يكسر من همتك )
( فليس يدرى أصل ذي غربة ... وإنما تعرف من شيمتك )
( وكل ما يفضي لعذر فل ... ا تجعله في الغربة من إربتك )
( ولا تجالس من فشا جهله ... واقصد لمن يرغب في صنعتك ) ولا تجادل أبدا حاسدا ... فإنه أدعى إلى هيبتك )
( وامش الهوينا مظهرا عفة ... وابغ رضا الأعين عن هيئتك )
( أفش التحيات إلى أهلها ... ونبه الناس على رتبتك )
( وانطق بحيث العي مستقبح ... واصمت بحيث الخير في سكنتك ) ولا تزل مجتمعا طالبا ... من دهرك الفرصة في وثبتك )
وكلما أبصرتها أمكنت ... ثب واثقا بالله في مكنتك )
( ولج على رزقك من بابه واقصد له ما عشت في بكرتك )

وايأس
( من الود لدى حاسد ضد ... ونافسه على خطتك )
( ووفر الجهد فمن قصده ... قصدك لا تعتبه في بغضتك )
( ووف كلا حقه ولتكن ... تكسر عند الفخر من حدتك )
( ولا تكن تحقر ذا رتبة ... فإنه أنفع في غربتك
( وحيثما خيمت فاقصد إل ... ى صحبة من ترجوه في نصرتك )
( وللرزايا وثبة ما لها ... إلا الذي تذخر من عدتك )
( ولا تقل أسلم لي وحدتي ... فقد تقاسي الذل في وحدتك )
( ولتزن الأحوال وزنا ولا ... ترجع إلى ما قام في شهوتك )
( ولتجعل العقل محكا وخذ ... كلا بما يظهر في نقدتك )
( واعتبر الناس بألفاظهم ... واصحب أخا يرغب في صحبتك )
( بعد اختبار منك يقضي بما ... يحسن في الأخدان من خلطتك )
( كم من صديق مظهر نصحه ... وفكره وقف على عثرتك )
( إياك أن تقربه إنه ... عون مع الدهر على كربتك )
( واقنع إذا ما لم تجد مطمعا ... واطمع إذا نفست من عسرتك )
( وانم نمو النبت قد زاره ... غب الندى واسم إلى قدرتك )
( وإن نبا دهر فوطن له ... جأشك وانظره إلى مدتك )
( فكل ذي أمر له دولة ... فوف ما وافاك في دولتك )
( ولا تضيع زمنا ممكنا ... تذكاره يذكي لظى حسرتك )
( والشر مهما اسطعت لا تأته ... فإنه حوب على مهجتك ) يا بني الذي لا ناصح له مثلي ولا منصوح لي مثله قدمت لك في هذا النظم ما إن أخطرته بخاطرك في كل أوان رجوت لك حسن العاقبة إن شاء الله تعالى وإن أخف منه للحفظ وأعلق بالفكر وأحق بالتقدم

قول الأول
( يزين الغريب إذا ما اغترب ... ثلاث فمنهن حسن الأدب )
( وثانية حسن أخلاقه ... وثالثة اجتناب الريب )
( وإذا اعتبرت هذه الثلاثة ولزمتها في الغربة رأيتها جامعة نافعة لا يلحقك إن شاء الله تعالى مع استعمالها ندم ولا يفارقك بر ولا كرم ولله در القائل
( يعد رفيع القوم من كان عاقلا ... وإن لم يكن في قومه بحسيب )
( إذا حل أرضا عاش فيها بعقله ... وما عاقل في بلدة بغريب )
وما قصر القائل حيث قال
( واصبر على خلق من تعاشره ... وداره فاللبيب من دارى واتخذ الناس كلهم سكنا ... ومثل الأرض كلها دارا ) واصغ يا بني إلى البيت الذي هو يتيمة الدهر وسلم الكرم والصبر
( ولو أن أوطان الديار نبت بكم ... لسكنتم الأخلاق والآدابا )
إذ حسن الخلق أكرم نزيل والأدب أرحب منزل ولتكن كما قال أحدهم في أديب متغرب وكان كلما طرأ على ملك فكأنه معه ولد وإليه قصد غير مستريب بدهره ولا منكر شيئا من أمره وإذا دعاك قلبك إلى صحبة من أخذ بمجامع هواه فاجعل التكلف له سلما وهب في روض أخلاقه هبوب النسيم وحل بطرفه محل الوسن وانزل بقلبه نزول المسرة حتى يتمكن لك وداده ويخلص فيك اعتقاده وطهر من الوقوع فيه لسانك وأغلق سمعك ولا ترخص في جانبه لحسود لك منه يريد إبعادك عنه لمنفعته

أو حسود له يغار لتجمله بصحبتك ومع هذا فلا تغتر بطول صحبته ولا تتمهد بدوام رقدته فقد ينبهه الزمان ويغير منه القلب واللسان ولذا قيل إذا أحببت فأحبب هونا ما ففي الممكن أن ينقلب الصديق عدوا والعدو صديقا وإنما العاقل من جعل عقله معيارا وكان كالمرآة يلقى كل وجه بمثاله وجعل نصب ناظره قول أبي الطيب
( ولما صار ود الناس خبا ... جزيت على ابتسام بابتسام )
( وفي أمثال العامة من سبقك بيوم فقد سبقك بعقل فاحتذى مثلة من جرب واستمع إلى ما خلد الماضون بعد جهدهم وتعبهم من الأقوال فإنها خلاصة عمرهم وزبدة تجاربهم ولا تتكل على عقلك فإن النظر فيما تعب فيه الناس طول أعمارهم وابتاعوه غاليا بتجاربهم يربحك ويقع عليك رخيصا وإن رأيت من له مروءة وعقل وتجربة فاستفد منه ولا تضيع فعله ولا قوله فإن فيما تلقاه تلقيحا لعقلك وحثا لك واهتداء وإياك أن تعمل بهذا البيت في كل موضع
( فالحر يخدع بالكلام الطيب ... فقد قال أحدهم ما قيل أضر من هذا البيت على أهل التجمل وليس كل ما تسمع من أقوال الشعراء يحسن بك أن تتبعه حتى تتدبره فإن كان موافقا لعقلك مصلحا لحالك قوله ذلك عندك وإلا فانبذه نبذ النواة فليس لكل أحد يتبسم ولا كل شخص يكلم ولا الجود مما يعم به ولا حسن الظن وطيب النفس مما يعامل به كل أحد ولله در القائل
( وما لي لا أوفي البرية قسطها على قدر ما يعطي وعقلي ميزان

وإياك أن تعطى من نفسك إلا بقدر فلا تعامل الدون بمعاملة الكفء الكفء بمعاملة الأعلى ولا تضيع عمرك فيمن يملكك بالمطامع ويثنيك عن مصلحة حاضرة عاجلة بغائبة آجلة واسمع قول الأول
( وبع آجلا منك بالعاجل ...
وأقلل من زيارة الناس ما استطعت ولا تجفهم بالجملة ولكن يكون ذلك بحيث لا يلحق منه ملل ولا ضجر ولا جفاء ولا تقل أيضا أقعد في كسر بيتي ولا أرى أحدا وأستريح من الناس فإن ذلك كسل داع إلى الذل والمهانة وإذا علم عدو لك أو صديق منك ذلك عاملاك بحسبه فازدراك الصديق وجسر عليك العدو وإياك أن يغرك صاحب واحد عن أن تذخر غيره للزمان وتطيعه في عداوة سواه ففي الممكن أن يتغير عليك فتطلب إعانة عليه أو استغناء عنه فلا تجد ذخيرة قدمتها وكان هو في أوسع حال وأعلى رأي بما دبره بحيلته في انقطاعك عن غيره فلو اتفق لك أن تصحب من كل صناعة وكل رياسة من يكون لك عدة لكان ذلك أولى وأصوب وسلني فإني خبير طال والله ما صحبت الشخص أكثر عمري لا أعتمد على سواه ولا أعتد إلا إياه منخدعا بسرابه موثوقا في حبائل خطابه إلى أن لا يحصل لي منه غير العض على البنان وقول لو كان ولو كان ولا يحملنك أيضا هذا القول أن تظنه في كل أحد وتعجل المكافأة وليكن حسن الظن بمقدارما واصبر بقدر ما والفطن لا تخفى عليه مخايل الأحوال وفي الوجوه دلالات وعلامات وأصغ إلى القائل
( ليس ذا وجه من يضيف ولا يق ... ولا يدفع الأذى عن حريم )
فمن يكن له وجه مثل هذا الوجه فول وجهك عنه قبلة ترضاها ولتحرص

جهدك على أن لا تصحب أو تخدم إلا رب حشمة ونعمة ومن نشأ في رفاهية ومروءة فإنك تنام معه في مهاد العافية وإن الجياد على أعراقها تجري وأهل الأحساب والمروءات يتركون منافعهم متى كانت عليهم فيها وصمة وقد قيل في مجلس عبد الملك بن مروان أشرب مصعب الخمر فقال عبد الملك وهو عدو له محارب له على الملك لو علم مصعب أن الماء يفسد مروءته ما شربه
( والفضل ما شهدت به الأعداء )
( يا بني و قد علمت أن الدنيا دار مفارقة وتغير وقد قيل اصحب من شئت فإنك مفارقه فمتى فارقت أحدا فعلى حسنى في القول والفعل فإنك لا تدري هل أنت راجع إليه فلذلك قال الأول
( ولما مضى سلم بكيت على سلم ... وإياك والبيت سائر
( وكنت إذا حللت بدار قوم ... رحلت بخزية وتركت عارا )
( واحرص على ما جمع قول القائل ثلاثة تبقي لك الود في صدر أخيك أن تبدأه بالسلام وتوسع له في المجلس وتدعوه بأحب الأسماء إليه واحذر كل ما بينه لك القائل كل ما تغرسه تجنيه إلا ابن آدم فإنك إذا غرسته يقلعك وقول الآخر ابن آدم يتمسكن حتى يتمكن وقول الآخر ابن آدم ذئب مع الضعف أسد مع القوة وإياك أن تثبت على صحبة أحد قبل أن تطيل اختباره فيحكى أن ابن المقفع خطب مع الخليل صحبته فجاوبه

إن الصحبة رق ولا أضع رقي في يدك حتى أعرف كيف ملكتك واستمل من عين من تعاشره وتفقد في فلتات الألسن وصفحات الأوجه ولا يحملك الحياء على السكوت عما يضرك أن لا تبينه فإن الكلام سلاح السلم وبالأنين يعرف ألم الجرح واجعل لكل أمر أخذت فيه غاية تجعلها نهاية لك وآكد ما أوصيك به أن تطرح الأفكار وتسلم للأقدار
( واقبل من الدهر ما أتاك به ... من قر عينا بعيشه نفعه )
إذا الأفكار تجلب الهموم وتضاعف الغموم وملازمة القطوب عنوان المصائب والخطوب يستريب به الصاحب ويشمت العدو المجانب ولا تضر بالوساوس إلا نفسك لأنك تنصر بها الدهر عليك ولله در القائل
( إذا ما كنت للأحزان عونا ... عليك مع الزمان فمن تلوم )
مع أنه لا يرد عليك الفائت الحزن ولا يرعوي بطول عتبك الزمن
ولقد شاهدت بغرناطة شخصا قد ألفته الهموم وعشقته الغموم ومن صغره إلى كبره لا تراه أبدا خليا من فكره حتى لقب بصدر الهم ومن أعجب ما رأيته منه أنه يتنكد في الشدة ولا يتعلل بأن يكون بعدها فرج ويتنكد في الرخاء خوفا من أن لا يدوم وينشد
( توقع زوالا إذا قيل تم ... وينشد
( وعند التناهي يقصر المتطاول

وله من الحكايات في هذا الشأن عجائب ومثل هذا عمره مخسور يمر ضياعا ومتى رفعك الزمان إلى قوم يذمون من العلم ما تحسنه حسدا لك وقصدا لتصغير قدرك عندك وتزهيدا لك فيه فلا يحملك ذلك على أن تزهد في علمك وتركن إلى العلم الذي مدحوه فتكون مثل الغراب الذي أعجبه مشي الحجلة فرام أن يتعلمه فصعب عليه ثم أراد أن يرجع إلى مشيه فنسيه فبقي مخبل المشي كما قيل حسد القطا وأراد يمشي مشيها فأصابه ضرب من العقال فأضل مشيته وأخطأ مشيها فلذاك سموه أبا مرقال ولا يفسد خاطرك من جعل يذم الزمان وأهله ويقول ما بقي في الدنيا كريم ولا فاضل ولا مكان يستراح فيه فإن الذين تراهم على هذه الصفة أكثر ما يكونون ممن صحبه الحرمان واستحقت طلعته للهوان وأبرموا على الناس بالسؤال فمقتوهم وعجزوا عن طلب الأمور من وجوهها فاستراحوا إلى الوقوع في الناس وإقامة الأعذار لأنفسهم بقطع أسبابهم وتعذير أمورهم ولا تزل هذين البيتين من فكرك
( لن إذا ما نلت عزا ... فأخو العزيلين )
( فإذا نابك دهر فكما كنت تكون ولا قول الآخر
( ته وارتفع إن قيل اقتر ... وانخفض إن قيل أثرى )
( كالغصن يسفل ما اكتسى ... ثمرا ويعلو ما تعرى )
( ولا قول الآخر

( الخير يبقى وإن طال الزمان به ... والشر أخبث ما أوعيت من زاد )
واعتقد في الناس ما قاله القائل
( ومن يلق خيرا يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغي لائما
وتحفظ بما تضمنه قول الآخر
( ومن دعا الناس إلى ذمه ... ذموه بالحق وبالباطل )
ولله در القائل
( ما كل ما فوق البسيطة ... كافيا فإذا اقتنعت فكل شيء كافي ) والأمثال يضربها لذي اللب الحكيم وذو البصر يمشي على الصراط المستقيم والفطن يقنع بالقليل ويستدل باليسير والله سبحانه خليفتي عليك ولا رب سواه نجزت الوصية وتكفيك عنوانا على طبقته في النثر

رسالة ابن سعيد الأب لعبد الواحد الموحدى وله رسالة كتب بها إلى ملك المغرب أبي محمد عبد الواحد بن أبي يعقوب بن عبد المؤمن مهنئا له بالخلافة حين بويع بها بمراكش وكان إذ ذاك بإشبيلية وكان قبل ذلك كاتبا له ومختصا به الحضرة العلية السامية السنية الطاهرة القدسية حضرة الإمامة وجنة دار الإقامة مد الله على الإسلام ظلالها وأنمى في سماء السعادة تمامها وكمالها وهنأ المؤمنين باستقبال إمارتها وأدام لهم بركة خلافتها عبد أياديها وخديم ناديها المتوسل بقديم الخدمة المتوصل بعميم النعمة وكريم الحرمة المنشد بلسان المسرة حين أطلع الزمان هذه الغرة
( أتته الخلافة منقادة ... إليه تجرر أذيالها )
( فلم تك تصلح إلا له ... ولم يك يصلح إلا لها موسى ) بن محمد بن سعيد لا زال هذا الأمر العلي محمودا سعيدا ولا برح يستزيد ترقيا وصعودا
( يا نعمة الله زيدي ... إن كان فيك مزيد ) سلام الله الكريم يخص حضرة الإجلال والتعظيم والتقديس والتفخيم ورحمته وبركاته وبعد حمد الله الذي بلغ الإسلام بهذه الخلافة آماله وحلى بهذه الولاية السعيدة أحواله والصلاة والسلام على سيدنا محمد نبيه الكريم الذي دحض الله تعالى بنبوته الكفر وضلاله وعلى آله وصحبه الطاهرين الذين سمعوا أقواله وامتثلوا أفعاله والرضى عن الإمام المهدي المعلوم الذي أفاء الله

به على الدين الحنفي ظلاله وأذهب عنه طواغيته وضلاله والدعاء للمقام العالي الكريم بالسعد المتوالي والنصر الجسيم وكتب العبد وقد ملأت هذه البشرى المسرة أفقه ووسعت عليه هذه المرتبة العلية طرقه
( فهذه رتبة ما زلت أرقبها ... فاليوم أبسط آمالي وأحتكم ) ولا أقنع مني إن اقتصرت على السماء دارا والهلال للبشير سوارا والنجوم عقدا والصباح بندا حتى أسر كل أحد بشكله وأقابل كل شخص بمثله
( ومن خدم الأقوام يرجو نوالهم ... فإني لم أخدمك إلا لأخدما )
وما بعد الخلافة رتبة ودون ثبير تنحط كل هضبة فالحمد لله رب العالمين وهنيئا لعباده المؤمنين حيث نظر لهم نظر رحمة فأسبل عليهم ستر هذه النعمة
( ولقد علمت بأن ذلك معصم ... ما كان يتركه بغير سوار )
والله أعلم حيث يجعل رسالاته وإلى من يشير بآياته فلله صباح ذلك اليوم السعيد وليلته ولقد سفر عن وجه من البشرى أضاءت الآفاق شرقا وغربا غرته ولقد اجتمعت آراء السداد حتى أتت الإسلام بالمراد فأخذ القوس باريها وحل بالدار بانيها هنيئا زادك الرحمن خيرا ولا برحت المسرات تسير إليك سيرا وهل يصلح النور إلا للمقل وهل يليق بالحسن إلا الحلل فالآن مهد الله البرين وأفاض العدل على العدوتين وقدم

للنظر من لا يعزب عن حفظه مكان ولا يختص بحفظه إنسان دون إنسان خليفة له النفس العمرية والآراء العمرية والفراسة الإياسية ولا ينبئك مثل خبير فلقد شاهد العبد ما لا يحصره تفسير ولعمري لقد عاد الصباح في إشراق النهار ولم يخف عنا ما زاد الدنيا من البهجة والمسار وشملت الناس هذه البشائر وعمت كل باد وحاضر وأصاخوا لتاليها إصاخة المجدبين لمرتادهم وأهطعوا لها مهللين ومكبرين إهطاع الناس لأعيادهم وأما العبد فقد أخذ بحظه حتى خاف أن يغلب السرور على قلبه ولحظه
( ومن فرح النفس ما يقتل ... ) وهذه نعمة يقصر عنها النثر والنظم ويحسد عليها الهلال والنجم بل يسلمان لما استحقته من المراتب ويخضعان إليها خضوع المفترض الواجب أقر الله بها عيون المسلمين وأفاض سحبها على الناس أجمعين وحفظها بعينه التي لا تنام ووقف على خدمتها الليالي والأيام
من شعر أبي عمران ابن سعيد ولما قدم من الأندلس على تونس مدح سلطانها أبا زكريا بقوله
( بشرى ويسرى قد أنار المظلم ... نجما وقد وضح الصباح المعلم )
( ورنت عيون الأمن وهي قريرة ... وبدت ثغور السعد وهي تبسم )
( فارحل لتونس واعتقد أعلام من ... قوي الضعيف به وأثرى المعدم )
( حيث المعالي والمعاني والندى ... والفضل والقوم الذين هم هم )
( أجروا إلى الغايات ملء عنانهم ... سبقا وبذهم الجواد المنعم )

آكد من السؤال عن الملك الناصر فأخبر بحاله وما جرى له مع التتر حتى قتلوه بعد الأمان ثم ساق في دخول هولاكو حلب فقال بعد كلام كثير وارتكب في أهل حلب التتر والمرتدون ونصارى الأرمن ما تصم عنه الأسماع وكان فيمن قتل بتلك الكائنة البدر بن العديم الذي صدر عنه من الطبقة العالية في الشعر مثل قوله
( واها لعقرب صدغه ... لو لم تكن للماه تحمي )
( ولغفل خط عذاره ... لو بت أعجمه بلثمي ) وابن عمه الافتخار بن العديم الذي وقع له مثل قوله
( والغصن فيه الماء مطرد ... والماء فيه الغصن منعكس ) ثم قال لما ذكر أحوال الناصر بعد استيلاء التتر على بلاد حلب والشام وما يليهما ما نصه قال من دخل على الملك الناصر وقد نزل بميدان دمشق قبلت يده وجعلت أدعو له وأظهر تعزيته على ما جرى من تلك المصائب العظيمة فأضرب عن ذلك وقال لي فيم تتغزل اليوم ثم أنشدني قوله في مملوك فقده في هذه الكائنة
( والله ما أبكي لملك مضى ... ولا لحال ظاعن أو مقيم )
( وإنما أبكي وقد حق لي ... لفقد من كنت به في نعيم )
( يطلع بدرا ينثني بانة ... يمر فيما رمته كالنسيم )
( في خاطري أبصره خاطرا ... فألتوي مثل التواء السقيم )
( يا عاذلي دعني وما حل بي ... فما سوى الله بحالي عليم )
( إن مت من حزن له أسترح ... وإن أعش عشت بهم عظيم

( ساد الإمام الملك يحيى سادة ... أعطى الورى لهم القياد وسلموا )
( إن الإمارة مذ غدا يقتادها ... يقظى وأجفان الحوادث نوم )
( لله منك مبارك ذو فطنة ... بزغت فأحجم عندها من يقدم )
( يقظان لا وان ولا متقاعس ... كالدهر يبني ما يشاء ويهدم )
( إن صال فالليث الهصور المقدم ... أو سال فالغيث المغيث المثجم )
( أعلى منار الحق حين أماله ... قوم تبرأت المنابر منهم )
( أعلى الإله مكانه وزمانه ... والنصر يقدم والسعادة تخدم ) وقال يخاطب ملك المغرب مأمون بنى عبد المؤمن حين أخذ البيعة لنفسه بإشبيلية وكان المذكور بمراكش ولبني سعيد بهذا الملك اختصاص قديم
( الحزم والعزم موجودان والنظر ... واليمن والسعد مضمونان والظفر )
( والنور فاض على أرجاء أندلس ... والزور ليس له عين ولا أثر )
( حث الركاب إلى هذا الجناب فقد ... ضلوا فما تنفع الآيات والنذر )
( واعزم كما عزم المأمون إذ نشزت ... أرض العراق فزال البؤس والضرر ) ولما قدم العادل القائم بمرسية المتولي على مملكة البرين إلى إشبيلية كان في جملة من خرج للقائه ورفع له قصيدة منها
( لقاء به للبر والشكر مجمع ... إلى يومه كنا نخب ونوضع )
( لقد يسر الرحمن صعب مرامه ... فأبصرت أضعاف الذي كنت أسمع )
وله أيضا
( يا منعما قد جاءني بره ... من غير أن أجري له ذكرا )
( إن أحب الخير ما جاءني ... عفوا ولم أغمر به فكرا )
وله في غلام واعظ وهو من حسناته

( وشادن ظل للوعظ ... تاليا لين جمع )
( متعت طرفي بمرآه ... في خفارة سمعي ) وله من أبيات
( ومن عجب أن الليالي تغيرت ... ولكنها ما غيرت مني العهدا ) ومن الفضلاء الذين أدركهم وأخذ عنهم الحافظ أبو بكر بن الجد وأبو بكر بن زهر وغيرهما وحضر حصار طليطلة مع منصور بنى عبد المؤمن وكتب لملك البرين أبي محمد عبد الواحد وكتب أيضا عن مأمون بنى عبد المؤمن وكتب أخيرا عن ملك بجاية والغرب الأوسط الأمير أبي يحيى ابن ملك إفريقية رحم الله تعالى الجميع ! رجع إلى أبي الحسن بن سعيد قال رحمه الله تعالى حضرت ليلة أنس مع كاتب ملك إفريقية أبي العباس أحمد الغساني فاحتاجت الشمعة أن تقط فتناول قطها غلام ببنانه فقلت
( ورخص البنان تصدى لأن ... يقط السراج بمثل العنم ) فقال
( ولم يهب النار في لمسه ... ولا احتاج في قطه للجلم )
فقلت
( وما ذاك إلا لسكناه في ... فؤادي على ما حوى من ضرم ) فقال

( تعود حر لهيب به ... فليس به من أوار ألم ) وأنشد في المغرب للغساني المذكور في خسوف القمر مما قاله ارتجالا
( كأن البدر لما أن علاه ... خسوف لم يكن يعتاد غيره ) سجنجل غادة قلبته لما أراها شبهها حسدا وغيره وخاطبه المذكور برسالة يقول في آخرها وعند حامل هذه الأحرف - سلمه الله تعالى ! - كنه خبري واستيعاب ما قصر عنه قلمي فضاقت بحمله أسطري لتعلم ما أجده وأفقده من تشوقي وتصبري وأني لا أزال أنشد حيث تذكري وتفكري
( يا نائيا قد نأى عني بمصطبري ... وثاويا في سواد القلب والبصر )
( إذا تناسيت عهدا من أخي ثقة ... فاذكر عهودي فما أخليك من فكري )
( واردد علي تحياتي بأحسنها ... تردد علي حياتي آخر العمر ) ولنمسك العنان عن الجري في ميدان أخبار ابن سعيد فإنها لا يشق غبارها ومنها قوله رحمه الله تعالى سمعت كثيرا من السماع المشرقي فلم يهزني مثل قول الشريف الشمس المكي
( مقل بالدمع غرقى ... وفؤاد طار خفقا )
( وتجن وتثن ... شق جيب الصبر شقا )
( يا ثقاتي خبروني ... عن حديث اليوم حقا )
( أكذا كل محب ... فارق الأحباب يشقي )
( لا وعيش قد تقضى ... وغرام قد تبقى )
( ونعيم في ذراكم ... قد صفا دهرا ورقا )

( ونسيم من حماكم ... حمل الوجد فرقا )
( برسالات صبابات ... على المشتاق تلقى )
( وغصون ناعمات ... بمياه الدن تسقى )
( ووجوه فضن حسنا ... فملأن الأرض عشقا )
( لو رضيتم بي عبدا ... ما رضيت الدهر عتقا )
وقال ما سمعت ولا وقفت على شيء أبدع من قول الجزار وقد تردد إلى جمال الدين بن يغمور رئيس الديار المصرية فلم يقدر له الاجتماع به
( أسأل الله أن يديم لك العز ... ويبقيك ما أردت البقاء )
( كل يوم أرجو النعيم بلقياك ... فألقى بالبعد عنك شقاء )
( علم الدهر أنني أشتكيه ... لك إذ نلتقي فعاق اللقاء ) فبعث له بما أصلح حاله من الإحسان وكتب في حقه إلى ولاة الصعيد كتبا أغنته مدة عن شكوى الزمان انتهى
وقال أيضا ولم أسمع في وضع الشيء موضعه أحسن من قول المتنبي
( وأصبح شعري متهما في مكانه ... وفي عنق الحسناء يستحسن العقد ) ولم أسمع في وضع الشيء غير موضعه أحسن من قول أبي الفرج
( مر مدحي ضائعا في لؤمه ... كضياع السيف في كف الجبان )
ومن تأليف النور بن سعيد كتاب عدة المستنجز وعقلة المستوفز وذكر فيه أنه ارتحل من تونس إلى المشرق رحلته الثانية سنة 666 وأورد في هذا الكتاب غرائب وبدائع وذكر فيه أنه لما دخل الإسكندرية لم يكن عنده

قال ثم إنه سار نحو هولاكو فلما مر بحلب ونظر إلى معاهدة على غير ما يعهد قال
( مررت بجرعاء الحمى فتلفتت ... لحاظي إلى الدار التي رحلوا عنها )
( ولو كان عندي ألف عين وقمت في ... عالمها عمري لما شبعت منها ) وصنع في نعيها أشعارا يغني بها المسمعون ثم رحل إلى صحراء يوش في جهة طريق أرمينية فوجد هولاكو هنالك في تلك المروج المشهورة بالخصب فأنزله وأقام يشرب معه إلى أن وصل الخبر بوقعة عين جالوت على التتر للملك المظفر قطز صاحب مصر سنة 658 فقتلوه وخلعوا عظم كتفه وجعلوه في أحد الأعلام على عادته في أكتاف الملوك انتهى باختصار
رجع
167 - ومن الوافدين من الأندلس إلى المشرق الأديب الحسيب عبد الرحمن بن محمد بن عبد الملك بن سعيد وكان صعب الخلق شديد الأنفة جرى بينه وبين أقاربه ما وجب خروجه إلى أقصى المشرق وفي ذلك يقول وكتب به إليهم
( من لصب يرعى النجوم صبابه ... ضيع السير الهموم شبابه )
( زدت بعدا فزدت فيه اقترابا ... بودادي كذاك حكم القرابه )
( منزلي الآن سمرقند وبالقلعة ... ربع وطئت طفلا ترابه )
( شد ما أبعد الفراق انتزاحي ... هكذا الليث ليس يدري اغترابه )
( لا ولا أرتجي الإياب لأمر ... إن يكن يرتجي غريب إيابه )

وكتب لهم من بخارى
( إذا هبت رياح الغرب طارت ... إليها مهجتي نحو التلاقي )
( وأحسب من تركت به يلاقي ... إذا هبت صباها ما ألاقي )
( فيما ليت التفرق كان عدلا ... فحمل ما يطيق من اشتياقي )
( وليت العمر لم يبرح وصالا ... ولم يحتم علينا بالفراق ) إذا كان الشوق فوق كل صفة فكيف تعبر عنه الشفة لكن العنوان دلالة على بعض ما في الصحيفة والحاجب قد ينوب في بعض الأمور مناب الخليفة وما ظنكم بمشوق طريح في يد الأشواق طليح يقطع مسافات الآفاق يتقلب تقلب الأفياء ويتلون تلون الحرباء حتى كأنه يخبر مساحات الأرض ذات الطول والعرض ويجوب أهوية الأقاليم السبع خارجا بما أدخله فيه اللجاج عن الشرع فكأنه خليفة الإسكندر لكن ما يجيش من هموم الغربة بفكري قائمة مقام الجيش والعسكر جزت إلى بر العدوة من الغرب الأقصى ثم نفسي فطمحت إلى مشاهدة الغرب الأوسط فلاقيت فيما بينهما من المسافة من المشاق ما لا يحصو ثم تشوقت إلى إفريقية درب بلاد الشرق فاستشعرت من هنالك ما بينها وبين بلادي من الفرق واختطفت من عيني تلك الطلاوة وانتزعت من قلبي تلك الحلاوة
( فلله عين لم تر العين مثلها ... ولا تلتقي إلا بجنات رضوان )
ثم نازعتني النفس التواقة إلى الديار المصرية فكابدت في البحر ما لا يفي بوصفه إلا المشافهة إلى أن أبصرت منار الإسكندرية فيالك من استئناف عمر جديد بعد اليأس من الحياة بما لقينا من الهول والتنكيد ثم صعدت إلى القاهرة ! ! ! ! ! ! ! ! ! !

قاعدة الديار المصرية لمعاينة الهرمين وما فيهما من المعالم الأزلية وعاينت القاهرة المعزية وما فيها من الهمم الملوكية غير أني أنكرت مبانيها الواهية على ما حوت من أولي الهمم العالية وكونها حاضرة العسكر الجرار وكرسي الملك العظيم المقدار وقلت أصداف فيها جواهر وشوك محدق بأزاهر ثم ركبت النيل وعاينت تماسيحه وجزت بحر جدة وذقت تباريحه وقضيت الحج والزيارة وملت إلى حاضرة الشام دمشق والنفس بالسوء أمارة فهنالك بعت الزيارة بالأوزار وآلت تلك التجارة إلى ما حكمت به الأقدار إذ هي كما قال أحد من عاينها
( أما دمشق فجنات معجلة ... للطالبين بها الولدان والحور )
فلله ما تضمن داخلها من الحور والولدان وما زين به خارجها من الأنهار والجنان وبالجملة فإنها حمى تتقاصر عن إدراكها أعناق الفصاحة وتقصر عن مناولتها في ميدان الأوصاف كل راحة ولم أزل أسمع عن حلب أنها دار الكرم والأدب فأردت أن يحظى بصري بما حظي به سمعي ورحلت إليها وأقمت جابرا بالمذاكرة والمطايبة صدعي ثم رحلت إلى الموصل فألفيت مدينة عليها رونق الأندلس وفيها لطافة وفي مبانيها طلاوة ترتاح لها الأنفس ثم دخلت إلى مقر الخلافة بغداد فعاينت من العظم والضخامة ما لا يفي به الكتب ولو أن البحر مداد ثم تغلغلت من بلاد العجم بلدا بلدا غير مقتنع بغاية ولا قاصد أمدا إلى أن حللت ببخارى قبة الإسلام ومجمع الأنام فألقيت بها عصا التسيار وعكفت على طلب العلم واصلا في اجتهاده سواد الليل وبياض النهار انتهى
وكتب إليهم أيضا من هذه الرسالة كتبت وقد حصلتني السعادة وحظ

الأمل والإرادة بحضرة بخارى قبة الإسلام
وأجابه أهله من الغرب بكلام من جملته وإن كنت قد تحصنت بقبة الإسلام فقد تعجلت لنا ولك الفقد قبل وقت الحمام وأتبعوا ذلك بما دعاه لأن خاطبهم بشعر منه
( عتبتم على حثي المطي وقلتم ... تعجلت فقدا قبل وقت حمام )
( إذا لم يكن حالي مهما لديكم ... سواء عليكم رحلتي ومقامي ) وقتل المذكور ببخارى حين دخلها التتر وهو عم علي بن سعيد الشهير
وكان لعبد الرحمن المذكور أخ يسمى يحيى قد عانى الجندية فلما بلغه أن أبا القاسم عبد الرحمن قتل ببخارى قال لا إله إلا الله كان أبدا يسفه رأيي في الجندية ويقول لو اتبعت طريق النجاة كما صنعت أنا لكان خيرا لك فها هو رب قلم قد قتل شر قتلة بحيث لا ينتصر وسلب سلاحه وأنا ما زلت أغازي في عباد الصليب وأخلص فما يقدر أحد يحسن لنفسه عاقبة انتهى
قال أبو الحسن علي بن سعيد ثم إن يحيى المذكور بعد خوضه في الحروب صرعه في طريقه غلام كان يخدمه فذبحه على نزر من المال أفلت به فانظر إلى تقلب الأحوال كيف يجري في أنواع الأمور لا على تقدير ولا احتياط انتهى
ومن شعر أبي القاسم عبد الرحمن المذكور ما خاطب به نقيب الأشراف ببخارى وقد أهدى إليه فاختا مع زوجه
( أيا سيد الأشراف لا زلت عاليا ... معاليك تنبو الدهر عن كل ناعت )
( من الفضل إقبال على ما بعثته ... لمغناك من شاد دعوه بفاخت )
( ألا حبذا من فاخت ساد جنسه ... وأصبح مقرونا بست الفواخت )

( أقول لنفسي حين قابلها الردى ... فرامت فرارا منه يسرى إلى يمنى )
( قري تحملي بعض الذي تكرهينه ... فقد طالما اعتدت الفرار إلى الأهنى ) أنشده تلميذه أبو حيان إمام عصره في اللغة
حدث عن ابن المنير وغيره واشتغل الناس عليه بالقاهرة وله تصانيف مفيدة وسمع من الحافظ أبي الربيع بن سالم وكتب على صحاح الجوهري وغيره حواشي في مجلدات وأثنى عليه تلميذه أبو حيان رحم الله تعالى الجميع
ومن فوائده قوله نقلت من خط أبي الوليد بن خيرة الحافظ القرطبي في فهرست أبي بكر بن مفوز قد أدركته بسني ولم آخذ عنه واجتمعت به أنشدني له أبو القاسم بن الأبرش يخاطب بعض أكابر أصحاب أبي محمد بن حزم والإشارة لابن حزم الظاهري
( يا من تعاني أمورا لن تعانيها ... خل التعاني وأعط القوس باريها )
( تروي الأحاديث عن كل مسامحة ... وإنما لمعانيها معانيها )
وقد سبق في ترجمة القاضي أبي الوليد الباجي ذكر هذين البيتين عندما أجرينا ذكر ابن حزم قال وإنما قال هذا الشعر في ذكر رواية ادعيت على قول النبي " إن خالدا قد احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله " وصحح رواية من روى أعبده جمع عبد وعلل رواية من روى أعتده بالتاء مثناة باثنتين من فوق جمع عتد وهو الفرس قال ابن خيرة الإحاطة ممتنعة وهذه الرواية قد رواها جماعة من الأثبات والعلماء المحدثين فهو إنكار غير معروف والله تعالى أعلم
1 - ومن فوائده ما نقله تلميذه أبو حيان النحوي عنه قال أنشدنا للمقري ونقلته من خطه

( إذا ما شئت معرفة ... بما حار الورى فيه )
( فخذ خمسا لأربعة ... ودع للثوب رافيه ) وهو لغز في ورد
وقال وأنشدنا لبعضهم
( لا رعى الله عزمة ضمنت لي ... سلوة الصبر والتصبر عنه )
( ما وفت غير ساعة ثم عادت ... مثل قلبي تقول لا بد منه )
قال وأنشدنا لغيره
( وكان غريب الحسن قبل التحائه ... فلما التحى صار الغريب المصنفا )
وأنشدنا لغيره
( طب على الوحدة نفسا ... وارض بالوحشة أنسا )
( ما عليها من يساوي ... حين يستخبر فلسا ) وقرأ الرضي ببلده على ابن صاحب الصلاة آخر أصحاب ابن هذيل وسمع منه كتاب التلخيص للواني وسمع بمصر من ابن المقير وجماعة وروى عنه الحافظ المزي واليونيني والظاهري وآخرون وانتهت إليه معرفة اللغة وغريبها وكان يقول أعرف اللغة على قسمين قسم أعرف معناه وشواهده وقسم أعرف كيف أنطق به فقط رحمه الله تعالى

ومن فوائد الرضي الشاطبي المذكور ما ذكره أبو حيان في البحر قال وهو من غريب ما أنشدنا الإمام اللغوي رضي الدين أبو عبد الله محمد بن علي بن يوسف الأنصاري الشاطبي لزينب بنت إسحاق النصراني الرسعني
( عدي وتيم لا أحاول ذكرهم ... بسوء ولكني محب لهاشم )
( وما يعتريني في علي ورهطه ... إذا ذكروا في الله لومة لائم )
( يقولون ما بال النصارى تحبهم ... وأهل النهى من أعرب وأعاجم )
( فقلت لهم إني لأحسب حبهم ... سرى في قلوب الخلق حتى البهائم )
ومن نظم الرضي المذكور
( منغص العيش لا يأوي إلى دعه ... من كان ذا بلد أو كان ذا ولد )
( والساكن النفس من لم ترض همته ... سكنى بلاد ولم يسكن إلى أحد )
وله
( لولا بناتي وسيئاتي ... لطرت شوقا إلى الممات )
( لأنني في جوار قوم ... بغضني قربهم حياتي )
وقرأ عليه أبو حيان كتاب التيسير وأثنى عليه ولما توفي أنشد ارتجالا
( نعوا لي الرضي فقلت لقد ... نعى لي شيخ العلا والأدب )
( فمن للغات ومن للثقات ... ومن للنحاة ومن للنسب )
( لقد كان للعلم بحرا فغار ... وإن غؤور البحار العجب )
( فقدس من عالم عامل ... أثار لشجوي لما ذهب )
وتحاكم إلى رضي الدين المذكور الجزار والسراج الوراق أيهما أشعر وأرسل إليه الجزار شيئا فقال هذا شعر جزل من نمط شعر العرب فبلغ ذلك الوراق فأرسل إليه شيئا فقال هذا شعر سلس وآخر الأمر قال

ما أحكم بينكما رحمه الله تعالى
قلت رأيت بخطه كتبا كثيرة بمصر وحواشي مفيدة في اللغة وعلى دواوين العرب رحمه الله تعالى
170 - ومنهم حميد الزاهد وهو الأديب الفاضل الزاهد أبو بكر حميد بن أبي محمد عبد الله بن الحسن بن أحمد بن يحيى بن عبد الله الأنصاري القرطبي نزيل مالقة قال الرضي الشاطبي المذكور قريبا أنشدني حميد بالقاهرة لأبيه أبي محمد وقد تأخر شيبة مع علو سنه
( وهل نافعي أن أخطأ الشيب مفرقي ... وقد شاب أترابي وشاب لداتي )
( إذا كان خط الشيب يوجد عينه ... بتربي فمعناه يقوم بذاتي )
واللدات من ولد معه في زمان واحد انتهى
وفي ذكري أنه قال هذين البيتين لما قال له القاضي عياض شبنا ولم تشب
وقال الرضي أيضا أنشدني حميد لأبيه فيمن يكتب في الورق بالمقص وهو غريب
( وكاتب وشي طرسه حبر ... لم يشها حبره ولا قلمه )
( لكن بمقراضه ينمنمها ... نمنمة الروض جاده رهمه )
( يوجد بالقطع أحرفا عدمت فاعجب ... لشيء وجوده عدمه )
والرهم المطر

قال وتوفي حميد الزاهد هذا بمصر قبيل الظهر من يوم الثلاثاء وصلي عليه خارج مصر بجامع راشدة بعد صلاة العصر من يوم الثلاثاء المذكور ودفن بسفح المقطم بتربة الشيخ الفاضل الزاهد أبي بكر محمد الخزرجي الذي يدق الرصاص حذاء رجليه في الثالث والعشرين من ربيع الأول سنة اثنتين وخمسين وستمائه ومولده سنة ست وستمائة انتهى
171 - ومنهم اليسع بن عيسى بن حزم بن عبد الله بن اليسع بن عبد الله الغافقي من أهل بلنسية وأصله من جيان وسكن المرية ثم مالقة يكنى أبا يحيى كتب لبعض الأمراء بشرقي الأندلس وله تأليف سماه المغرب في أخبار محاسن أهل المغرب جمعه للسلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب بالديار المصرية بعد أن رحل إليها من الأندلس سنة ستين وخمسمائة وبها توفي يوم الخميس التاسع عشر من رجب سنة خمس وسبعين وخمسمائة رحمه الله تعالى
172 - ومنهم محمد بن عبد الرحمن بن علي بن محمد التجيبي يكنى أبا عبد الله من أهل إشبيلية تجول في بلاد الأندلس طالبا للعلم ثم حج ولقي الحافظ السلفي وغيره واستوطن تلمسان وبها توفي في جمادي الأولى سنة عشر وستمائة وله تواليف كثيرة وسليمان الينيني 11
173 - ومنهم أبو مروان محمد بن أحمد بن عبد الملك اللخمي الباجي

من أهل إشبيلية ولي القضاء بها وأصله من باجة إفريقية دخل المشرق لأداء الفريضة فحج وتوفي بمصر بعدما دخل الشام في اليوم الثامن والعشرين من ربيع الأول سنة خمس وثلاثين وستمائة ومولده عام أربعة وستين وخمسمائة وكانت رحلته من المغرب أول يوم من المحرم عام أربعة وثلاثين وستمائة
174 - ومنهم وليد بن بكر بن مخلد بن زياد العمري من أهل سرقسطة يكنى أبا العباس له كتاب سماه الوجازة في صحة القول بالإجازة وله رحلة لقي فيها ألف شيخ ومحدث وفقيه توفي بالدينور سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة يروي عنه أبو ذر الهروي وعبد الغني الحافظ وكفاه فخرا بهذين الإمامين العظيمين رحم الله تعالى الجميع
175 - ومنهم عيسى بن سليمان بن عبد الملك بن عبد الله بن محمد الرعيني الرندي يكنى أبا محمد استوطن مالقة ورحل إلى المشرق وحج ولقي جماعة من العلماء وقفل إلى المغرب أواخر عام واحد وثلاثين وستمائة وولي الإمامة بالمسجد الجامع بمالقة وبها توفي في ربيع الأول سنة اثنتني وثلاثين وستمائة ولقب في المشرق برشيد الدين وولد في ربيع الأول سنة إحدى وثمانين وخمسمائة بقرية من قرى الأندلس يقال لها يلمالتين كورة

بشتغير ذكر ذلك ابن المستوفي في تاريخ إربل
176 - ومنهم أبو الربيع سليمان بن أحمد الينيني من أهل الأندلس استوطن المشرق ومدح الملك الكامل ومن شعره رحمه الله تعالى قوله
( لولا تحديه بآية سحره ... ما كنت ممتثلا شريعة أمره )
( رشأ أصدقه وكاذب وعده ... يبدي لعاشقه أدلة غدره )
( ظهرت نبوة حسنه في فترة ... من جفنه وضلالة من شعره )
177 - ومنهم أبو جعفر أحمد بن يحيى الضبي رحل حاجا فلقي ببجاية عبد الحق الإشبيلي وبالإسكندرية أبا الطاهر بن عوف ولقي غير واحد في رحلته كالغرنوي وأبي الثناء الحراني وأبي الحسين الحديثي وللحديثي أحاديث ساوى بها البخاري ومسلما ولقي جماعة ممن شارك السلفي في شيوخه
178 - ومنهم أبو الحسين محمد بن أحمد جبير الكناني صاحب الرحلة وهو من ولد ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة أندلسي

شاطبي بلنسي مولده ليلة السبت عاشر ربيع الأول سنة أربعين وخمسمائة ببلنسية وقيل في مولده غير ذلك وسمع من أبيه بشاطبة ومن أبي عبد الله الأصيلي وأبي الحسن بن أبي العيش وأخذ عنه القراءات وعني بالأدب فبلغ الغاية فيه وتقدم في صناعة القريض والكتابة
ومن شعره قوله وقد دخل إلى بغداد فاقتطع غصنا نضيرا من أحد بساتينها فذوى في يده
( لا تغترب عن وطن ... واذكر تصاريف النوى )
( أما ترى الغصن إذا ... ما فارق الأصل ذوى )
وقال رحمه الله تعالى يخاطب الصدر الخجندي
( يا من حواه الدين في عصره ... صدرا يحل العلم منه فؤاد )
( ماذا يرى سيدنا المرتضى ... في زائر يخطب منه الوداد )
( لا يبتغي منه سوى أحرف ... يعتدها أشرف ذخر يفاد )
( ترسمها أنملة مثل ما ... نمق زهر الروض كف العهاد )
( في رقعة كالصبح أهدى لها ... يد المعالي مسك ليل المداد )
( إجازة يورثنيها العلا ... جائزة تبقى وتفنى البلاد )
( يستصحب الشكر خديما لها ... والشكر للأمجاد أسنى عتاد )
فأجابه الصدر الخجندي
لك الله من خاطب خلتي ... ومن قابس يجتدي سقط زندي )
( أجزت له ما أجازوه لي ... وما حدثوه وما صح عندي )
( وكاتب هذي السطور التي ... تراهن عبد اللطيف الخجندي ) ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! !

179 - ورافق ابن جبير في هذه الرحلة أبو جعفر أحمد بن الحسن بن أحمد بن الحسن القضاعي وأصله من أندة من بلنسية رحل معه فأديا الفريضة وسمعا بدمشق من أبي الطاهر الخشوعي وأجاز لهما أبو محمد بن أبي عصرون وأبو محمد القاسم بن عساكر وغيرهما ودخلا بغداد وتجولا مدة ثم قفلا جميعا إلى المغرب فسمع منهما به بعض ما كان عندهما
وكان أبو جعفر هذا متحققا بعلم الطب وله فيه تقييد مفيد مع المشاركة الكاملة في فنون العلم وكتب عن السيد أبي سعيد بن بن عبد المؤمن وجده لأمه القاضي أبو محمد عبد الحق بن عطية وتوفي أبو جعفر هذا بمراكش سنة ثمان أو تسع وتسعين وخمسمائة ولم يبلغ الخمسين في سنه رحمه الله تعالى !
رجع إلى ابن جبير
قال لسان الدين في حقه إنه من علماء الأندلس بالفقه والحديث والمشاركة في الآداب وله الرحلة المشهورة واشتهرت في السلطان الناصر صلاح الدين بن أيوب له قصيدتان إحداهما أولها
( أطلت على أفقك الزاهر ... سعود من الفلك الدائر )
ومنها
( رفعت مغارم مكس الحجاز ... بإنعامك الشامل الغامر )
( وأمنت أكناف تلك البلاد ... فهان السبيل على العابر )
( وسحب أياديك فياضة ... على وارد وعلى صادر )
( فكم لك بالشرق من حامد ... وكم لك بالغرب من شاكر )

والأخرى منها في الشكوى من ابن شكر الذي كان أخذ المكس من الناس في الحجاز
( وما نال الحجاز بكم صلاحا ... وقد نالته مصر والشام )
ومن شعره
( أخلاء هذا الزمان الخؤون ... توالت عليهم حروف العلل )
( قضيت التعجب من بابهم ... فصرت أطالع باب البدل )
وقوله
( غريب تذكر أوطانه ... فهيج بالذكر أشجانه )
( يحل عربى صبره بالأسى ... ويعقد بالنجم أجفانه )
وقال رحمه الله تعالى لما رأى البيت الحرام زاده الله شرفا
( بدت لي أعلام بيت الهدى ... بمكة والنور باد عليه )
( فأحرمت شوقا له بالهوى ... وأهديت قلبي هديا إليه )
وقوله يخاطب من أهدى إليه موزا
( يا مهدي الموز تبقى ... وميمه لك فاء )
( وزايه عن قريب ... لمن يعاديك تاء )

وقال رحمه الله تعالى
( قد ظهرت في عصرنا فرقة ... ظهورها شؤم على العصر )
( لا تقتدي في الدين إلا بما ... سن ابن سينا وأبو نصر ) وقال
( يا وحشة الإسلام من فرقة ... شاغلة أنفسها بالسفه )
( قد نبذت دين الهدى خلفها وادعت الحكمة والفلسفة )
وقال
( ضلت بأفعالها الشنيعة ... طائفة عن هدى الشريعة )
( ليست ترى فاعلا حكيما ... يفعل شيئا سوى الطبيعة ) وكان انفصاله - رحمه الله تعالى ! من غرناطة بقصد الرحلة المشرقية أول ساعة من يوم الخميس الثامن لشوال سنة 578 ووصل الإسكندرية يوم السبت التاسع والعشرين من ذي القعدة الحرام من السنة فكانت إقامته على متن البحر من الأندلس إلى الإسكندرية ثلاثين يوما ونزل البر الإسكندراني في الحادي والثلاثين وحج رحمه الله تعالى وتجول في البلاد ودخل الشام والعراق والجزيرة وغيرها وكان - رحمه الله تعالى ! كما قال ابن الرقيق - من أعلام العلماء العارفين بالله كتب في أول أمره عن السيد أبي سعيد ابن عبد المؤمن صاحب غرناطة فاستدعاه لأن يكتب عنه كتابا وهو على شرابه فمد يده إليه بكأس فأظهر الانقباض وقال يا سيدي ما شربتها قط فقال والله لتشربن منها سبعا فلما رأى العزيمة شرب سبع أكؤس فملأ له السيد الكأس من دنانير سبع مرات وصب ذلك في حجره فحمله إلى منزله وأضمر أن يجعل كفارة شربه الحج بتلك الدنانير ثم رغب إلى السيد وأعلمه أنه حلف

بأيمان لا خروج له عنها أنه يحج في تلك السنة فأسعفه وباع ملكا له تزود به وأنفق تلك الدنانير في سبيل البر
ومن شعره في جارية تركها بغرناطة
( طول اغتراب وبرح شوق ... لا صبر والله لي عليه )
( إليك أشكو الذي ألاقي ... يا خير من يشتكي إليه )
( ولي بغرناطة حبيب ... قد غلق الرهن في يديه )
( ودعته وهو في دلال يظهر ... لي بعض ما لديه )
( فلو ترى طل نرجسيه ... ينهل في ورد وجنتيه )
( أبصرت درا على عقيق ... من دمعه فوق صفحتيه )
وله رحلة مشهورة بأيدي الناس
ولما وصل بغداد تذكر بلده فقال
( سقى الله باب الطاق صوب غمامة ... ورد إلى الأوطان كل غريب )
وقال في رحلته في حق دمشق جنة المشرق ومطلع حسنه المونق المشرق هي خاتمه بلاد الإسلام التي استقريناها وعروس المدن التي اجتليناها قد تحلت بأزاهير الرياحين وتجلت في حلل سندسيه من البساتين وحلت من موضع الحسن بمكان مكين وتزينت في منصتها أجمل تزيين وتشرفت بأن آوى الله تعالى المسيح وأمه منها إلى ربوة ذات قرار ومعين ظل ظليل وماء

سلسبيل تنساب مذانبه أنسياب الأراقم بكل سبيل ورياض يحيي النفوس نسميها العليل تتبرج لناظريها بمجتلى صقيل وتناديهم هلموا إلى معرس للحسن ومقيل قد سئمت أرضها كثرة الما حتى اشتاقت إلى الظمأ فتكاد تناديك بها الصم الصلاب ( اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ) قد أحدقت بها البساتين إحداق الهالة بالقمر واكتنفتها اكتناف الكمامة للزهر وامتدت بشرقيها غوطتها الخضراء امتداد البصر فكل موقع لحظة بجهاتها الأربع نظرته اليانعة قيد النظر ولله صدق القائلين فيها إن كانت الجنة في الأرض فدمشق لا شك فيها وإن كانت في السماء فهي بحيث تسامتها وتحاذيها
قال العلامة ابن جابر الوادي آشي بعد ذكره وصف ابن جبير لدمشق ما نصه ولقد أحسن فيما وصف منها وأجاد وتوق الأنفس للتطلع على صورتها بما أفاد هذا ولم تكن له بها إقامة فيعرب عنها بحقيقة علامة وما وصف ذهبيات أصيلها وقد حان من الشمس غروب ولا أزمان فصولها المتنوعات ولا أوقات سرورها المهنئات ولقد أنصف من قال ألفيتها كما تصف الألسن وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين انتهى
رجع إلى كلام ابن جبير فنقول
ثم ذكر في وصف الجامع أنه من أشهر جوامع الإسلام حسنا وإتقان بناء وغرابة صنعة واحتفال تنميق وتزيين وشهرته المتعارفة في ذلك تغني عن استغراق الوصف فيه ومن عجيب شأنه أنه لا تنسج به العنكبوت ولا تدخله ولا تلم به الطير المعروفة بالخطاف ثم مد النفس في وصف الجامع وما به من العجائب ثم قال بعد عدة أوراق ما نصه وعن يمين الخارج من باب

جيرون في جدار البلاط الذي أمامه غرفة ولها هيئة طاق كبير مستدير فيه طيقان صفر وقد فتحت أبوابا صغارا على عدد ساعات النهار دبرت تدبيرا هندسيا فعند انقضاء ساعة من النهار تسقط صنجتان من صفر من فمي بازين مصورين من صفر قائمين على طاستين من صفر تحت كل واحد منهما أحدهما تحت أول باب من تلك الأبواب والثاني تحت آخرها والطاستان مثقوبتان فعند وقوع البندقتين فيهما تعودان داخل الجدار إلى الغرفة وتبصر البازيين يمدان أعناقهما بالبندقتين إلى الطاستين ويقذفانهما بسرعة بتدبير عجيب تتخيله الأوهام سحرا وعند وقوع البندقتين في الطاستين يسمع لها دوي وينغلق الباب الذي هو لتلك الساعة للحين بلوح من الصفر لا يزال كذلك عند انقضاء كل ساعة من النهار حتى تنغلق الأبواب كلها وتنقضي الساعات ثم تعود إلى حالها الأول ولها بالليل تدبير آخر وذلك أن في القوس المنعطف على تلك الطيقان المذكورة اثنتي عشرة دائرة من النحاس مخرمة وتعترض في كل دائرة زجاجة من داخل الجدار في الغرفة مدبر ذلك كله منها خلف الطيقان المذكورة وخلف الزجاجة مصباح يدور به الماء على ترتيب مقدار الساعة فإذا انقضت عم الزجاجة ضوء المصباح وفاض على الدائرة أمامها شعاعها فلاحت للأبصار دائرة محمرة ثم انتقل ذلك إلى الأخرى حتى تنقضي ساعات الليل وتحمر الدوائر كلها وقد وكل بها في الغرفة متفقد لحالها درب بشأنها وانتقالها يعيد فتح الأبواب وصرف الصنج إلى موضعها وهي التي تسميها الناس المنجانة انتهى المقصود منه
قلت كل ما ذكر رحمه الله تعالى في وصف دمشق الشام وأهلها فهو في نفس الأمر يسير ومن ذا يروم عد محاسنها التي إذا رجع البصر فيها انقلب وهو حسير وقد أطنب الناس فيها وما بقي أكثر مما ذكروه وقد دخلتها أواخر شعبان من سنة سبع وثلاثين وألف للهجرة وأقمت بها إلى أوائل شوال من السنة وارتحلت عنها إلى مصر وقد تركت القلب فيها رهنا وملك هواها

مني فكرا وذهنا فكأنها بلدي التي بها ربيت وقراري الذي لي به أهل وبيت لأن أهلها عاملوني بما ليس لي بشكره يدان وها أنا إلى هذا التاريخ لا أرتاح لغيرها من البلدان ولا يشوقني ذكر أرض بابل ولا بغدان فالله سبحانه وتعالى يعطر منها بالعافية الأردان
أشعار في وصف دمشق
وقد عن لي أن أذكر جملة مما قيل فيها من الأمداح الرائقة وأسرد ما خاطبني به أهلها من القصائد الفائقة فأقول قال البدر بن حبيب
( يمم دمشق ومل إلى غربيها ... والمح محاسن حسن جامع يلبغا )
( من قال من حسد رأيت نظيره ... بين الجوامع في البلاد فقد لغا )
وقال رحمه الله
( لله ما أحلى محاسن جلق ... وجهاتها اللاتي تروق وتعذب )
( بيزيد ربوتها الفرات وجنكها ... يا صاح كم كنا نخوض ونلعب )
وقال في كتاب شنف السامع بوصف الجامع
( لله ما أجمل وصف جلق ... وما حوى جامعها المنفرد )

( قد أطرب الناس بصوت صيته ... وكيف لا يطرب وهو معبد ) وقال في ذكر باب الجامع المعروف بالزيادة
( يا راغبا في غير جامع جلق ... هل يستوي الممنوع والممنوح )
( أقصر عناك وفي غلوك لا تزد ... إن الزيادة بابها مفتوح )
وقال في منارته المعروفة بالعروس
( معبد الشام يجمع الناس طرا ... وإليه شوقا تميل النفوس )
( كيف لا يجمع الورى وهو بيت ... فيه تجلى على الدوام العروس ) ومنه في ذكر بانيه الوليد
( تالله ما كان الوليد عابثا ... في صرفه المال وبذل جهده )
( لكنه أحرز ملك معبد ... لا ينبغي لأحد من بعده )
ومن أبيات في آخره
( بجامع جلق رب الزعامة ... أقم تلق العناية والكرامة )
( ويمم نحوه في كل وقت ... وصل به تصل دار الإقامة )
( مصلى فيه للرحمن سره ... ومثوى للقبول به علامه )
( محل كمل الباري حلاه ... وبيت أبدع الباني نظامه )
( دمشق لم تزل للشام وجها ... ومسجدها لوجه الشام شامه )
( وبين معابد الآفاق طرا ... له أمر الإمارة والإمامة )
( أدام الله بهجته وأبقى ... محاسنه إلى يوم القيامة )

ولم أقف على كل هذا الكتاب المذكور بل على بعضه فقط
ومن قصيدة القاضي المهذب بن الزبير
( بالله يا ريح الشمال ... إذا اشتملت الرند بردا )
( وحملت من عرف الخزامى ... ما اغتدى للند ندا )
( ونسجت ما بين الغصون ... إذا اعتنقن هوى وودا )
( وهززت عند الصبح من ... أعطافها قدا فقدا )
( ونثرت فوق الماء من ... أجيادها للزهر عقدا )
( فملأت صفحة وجهه ... حتى اكتسى آسا ووردا )
( وكأنما ألقيت فيه ... منهما صدغا وخدا )
( مري على بردى عساه ... يزيد في مسراك بردا )
( نهر كنصل السيف تكسر ... متنه الأزهار عمدا )
( صقلته أنفاس النسيم ... بمرهن فليس يصدا ) ومنها
( أحبابنا ما بالكم ... فينا من الأعداء أعدى )
( وحياة حبكم وحرمة ... وصلكم ما خنت عهدا )

وقال الكمال الشريشي
( يا جيرة الشام هل من نحوكم خبر ... فإن قلبي بنار الشوق يستعر )
( بعدت عنكم فلا والله بعدكم ... ما لذ للعين لا نوم ولا سهر )
( إذا تذكرت أوقاتا نأت ومضت ... بقربكم كادت الأحشاء تنفطر )
( كأنني لم أكن بالنيربين ضحى ... والغيم يبكي ومنه يضحك الزهر )
( والورق تنشد والأغصان راقصة ... والدوح يطرب بالتصفيق والنهر )
( والسفح أين عشياتي التي ذهبت ... لي فيه فهي لعمري عندي العمر )
( سقاك بالسفح سفح الدمع منهمرا ... وقل ذاك له إن أعوز المطر )
وحكى ابن سعيد وغيره أن غرناطة تسمى دمشق الأندلس لسكنى أهل دمشق الشام بها عند دخولهم الأندلس وقد شبهوها بها لما رأوها كثيرة المياه والأشجار وقد أطل عليها جبل الثلج وفي ذلك يقول ابن جبير صاحب الرحلة
( يا دمشق الغرب هاتيك ... لقد زدت عليها )
( تحتك الأنهار تجري ... وهي تنصب إليها )
قال ابن سعيد أشار ابن جبير إلى أن غرناطة في مكان مشرف وغوطتها

تحتها تجري فيها الأنهار ودمشق في وهدة تنصب إليها الأنهار وقد قال الله تعالى في وصف الجنة ( تجري من تحتها الأنهار ) انتهى
وقال الشيخ الصفدي في تذكرته أنشدني المولى الفاضل البارع شمس الدين محمد بن يوسف بن عبد الله الخياط بقلعة الجبل من الديار المصرية حرسها الله تعالى لنفسه في شعبان المكرم سنة 732
( قصدت مصرا من ربى جلق ... بهمة تجري بتجريبي )
( فلم أر الطرة حتى جرت ... دموع عيني بالمريزيب )
وأنشدني لنفسه أيضا
( خلفت بالشام حبيبي وقد يممت مصرا لعنا طارق )
( والأرض قد طالت فلا تبعدي ... بالله يا مصر على العاشق )
وأنشدني لنفسه أيضا
( يا أهل مصر أنتم للعلا ... كواكب الإحسان والفضل )
( لو لم تكونوا لي سعودا لما ... وافيتكم أضرب في الرمل )
وذكرته برمته لحسن مغزاه
وقال الشيخ مجد الدين محمد بن أحمد المعروف بابن الظهير الحنفي الإربلي

( لعل سنى برق الحمى يتألق ... على النأي أو طيفا لأسماء يطرق )
( فلا نارها تبدو لمرتقب ولا ... وعود الأماني الكواذب تصدق )
( لعل الرياح الهوج تدني لنازح ... من الشام عرفا كاللطيمة تعبق )
( ديار قضينا العيش فيها منعما ... وأيامنا تحنو علينا وتشفق )
( سحبنا بها برد الشباب وشربنا ... لدينا كما شئنا لذيذ مروق )
( مواطن منها السهم سهمي وظله ... تخب مطايا اللهو فيه وتعنق )
( كلا جانبيه معلم متجعد ... من الماء في أطلاله يتدفق )
( إذا الشمس حلت متنه فهو مذهب ... وإن حجبتها دوحه فهو أزرق )
( وإن فرج الأوراق جادت بنورها ... فرقم أجادته الأكف منمق )
( يطل عليه قاسيون كأنه ... غمام معلى أو نعام معلق )
( تسافر عنه الشمس قبل غروبها ... وترجف إجلالا له حين تشرق )
( وتصفر من قبل الأصيل كأنها ... محب من البين المشتت مشفق )
( وفي النيرب الميمون للب سالب ... من المنظر الزاهي وللطرف مومق )
( بدائع من صنع القديم ومحدث ... تأنق فيها المحدث المتأنق )
( رياض كموشي البرود يشقها ... جداولها فالنور بالماء يشرق )
( فمن نرجس يخشى فراق فريقه ... ترى الدمع في أجفانه يترقرق )

( ومن كل ريحان مقيم وزائر ... يصافح رياه الرياض فتعبق )
( كأن قدود السرو فيه موائسا ... قدود عذارى ميلها مترفق )
( إذا ما تدلت للشقائق صدها ... عيون من النور المفتح ترمق )
( وقصر يكل الطرف عنه كأنه ... إلى النسر نسر في السماء معلق )
( وكم جدول جار يطارد جدولا ... وكم جوسق عال يوازيه جوسق )
( وكم بركة ... فيها تضاحك بركة وكم قسطل للماء فيه تدفق )
( وكم منزل يعشي العيون كأنما ... تألق فيها بارق يتألق )
( وفي الربوة الفيحاء للقلب جاذب ... وللهم مسلاة وللعين مرمق )
( عروس جلاها الدهر فوق منصة ... من الدهر والأبصار ترمى وترمق )
( فهام بها الوادي ففاضت عيونه ... فكل قرار منه بالدمع يشرق )
( تكفل من دون الجداول شربها ... يزيد يصفيه لها ويروق )
وقال أبو تمام في دمشق
( لولا حدائقها وأني لا أرى ... عرشا هناك ظننتها بلقيسا )
( وأرى الزمان غدا عليك بوجهه ... جذلان بساما وكان عبوسا )
( قد بوركت تلك البطون وقد سمت ... تلك الظهور وقدست تقديسا )
وقال البحتري
( أما دمشق فقد أبدت محاسنها ... وقد وفى لك مطريها بما وعدا )

( إذا أردت ملأت العين من بلد ... مستحسن وزمان يشبه البلدا )
( تمشي السحاب على أجبالها فرقا ... ويصبح النور في صحرائها بددا )
( فلست تبصر إلا واكفا خضلا ... أو يانعا خضرا أو طائرا غردا )
( كأنما القيظ ولى بعد جيئته ... أو الربيع دنا من بعد ما بعدا ) وفي دمشق يقول بعضهم
( برزت دمشق لزائري أوطانها ... من كل ناحية بوجه أزهر )
( لو أن إنسانا تعمد أن يرى ... مغنى خلا من نزهة لم يقدر )
وقال القيراطي في قصيدته التي أولها
( للصب بعدك حالة لا تعجب ... )
( لله ليل كالنهار قطعته ... بالوصل لا أخشى به ما يرهب )
( وركبت منه إلى التصابي أدهما ... من قبل أن يبدو لصبح أشهب )
( أيام لاماء الخدود يشوبه ... كدر العذار ولا عذارى أشيب )
( كم في مجال اللهو لي من جولة ... أضحت ترقص بالسماع وتطرب )
( وأقمت للندماء سوق خلاعة ... تجبي المجون إلي فيه وتجلب )
( وذكرت في مغنى دمشق معشرا ... أم الزمان بمثلهم لا تنجب )
( لا يسأل القصاد عن ناديهم ... لكن يدلهم الثناء الطيب )
( قوم بحسن صفاتهم وفعالهم ... قد جاء يعتذر الزمان المذنب )

( يا من لحران الفؤاد وطرفه ... بدمشق أدمعه غدت تتحلب )
( أشتاق في وادي دمشق معهدا ... كل الجمال إلى حماه ينسب )
( ما فيه إلا روضة أو جوسق ... أو جدول أو بلبل أو ربرب )
( وكأن ذاك النهر فيه معصم ... بيد النسيم منقش ومكتب )
( وإذا تكسر ماؤه أبصرته ... في الحال بين رياضة يتشعب )
( وشدت على العيدان ورق أطربت ... بغنائها من غاب عنه المطرب )
( فالورق تنشد والنسيم مشبب ... والنهر يسقي والحدائق تشرب )
( وضياعها ضاع النسيم بها فكم ... أضحى له من بين روض مطلب )
( وحلت بقلبي من عساكر جنة ... فيها لأرباب الخلاعة ملعب )
( ولكم رقصت على السماع بجنكها ... وغدا بربوتها اللسان يشبب )
( فمتى أزور معالما أبوابها ... بسماحها كتب السماح تبوب )
وقال الصفي الحلي عند نزوله بدمشق مسمطا لقصيدة السموأل بالحماسة
( قبيح بمن ضاقت عن الرزق أرضه ... )
( وطول الفلا رحب لديه وعرضه ... )
( ولم يبل سربال الدجى فيه ركضه ... )
( إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه ... فكل رداء يرتديه جميل )
( إذا المرء لم يحجب عن العين نومها ... )
( ويغل من النفس النفيسة سومها ... )
( أضيع ولم تأمن معاليه لومها ... )
( وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها ... فليس إلى حسن الثناء سبيل )

( رفعنا على هام السماك محلنا ... )
( فلا ملك إلا تغشاه ظلنا ... )
( لقد هاب جيش الأكثرين أقلنا ... )
( ولا قل من كانت بقاياه مثلنا ... شباب تسامى للعلا وكهول )
( يوازي الجبال الراسيات وقارنا ... وتبنى على هام المجرة دارنا )
( ويأمن من صرف الزمان جوارنا ... )
( وما ضرنا أنا قليل وجارنا ... عزيز وجار الأكثرين ذليل )
( ولما حللنا الشام تمت أموره ... )
( لنا وحبانا ملكه ووزيره ... )
( وبالنيرب الأعلى الذي عز طوره ... )
( لنا جبل يحتله من نجيره ... منيع يرد الطرف وهو كليل )
( يريك الثريا من خلال شعابه ... )
( وتحدق شهب الأفق حول هضابه ... )
( ويقصر خطو السحب دون ارتكابه ... )
( رسا أصله تحت الثرى وسما به ... إلى النجم فرع لا ينال طويل )
( وقصر على الشقراء قد فاض نهره ... )
( وفاق على فخر الكوكب فخره ... )
( وقد شاع ما بين البرية شكره ... )
( هو الأبلق الفرد الذي سار ذكره ... يعز على من رامه ويطول )

( إذا ما غضبنا في رضا المجد غضبة ... )
( لندرك ثأرا أو لنبلغ رتبة ... )
( نزيد غداة الكر في الموت رغبة ... )
( وإنا لقوم لا نرى الموت سبة ... إذا ما رأته عامر وسلول )
وكتب الشيخ محب الدين الحموي في ترجمة الشيخ إسماعيل النابلسي شيخ الإسلام من مصر
( لواء التهاني بالمسرة يخفق ... وشمس المعالي في سما الفضل تشرق )
( وسعد وإقبال ومجد مخيم ... وأيام عز بالوفا تتخلق )
( فيا أيها المولى الذي جل قدره ... ويا أيها الحبر اللبيب المدقق )
( أرى الشام مذ فارقتها زال نورها ... وثوب بهاها والنضارة يخلق )
( إذا غبت عنها غاب عنها جمالها ... ونفس بدون الروح لا تتحقق )
( وإن عدت فيها عاد فيها كمالها ... وصار عليها من بهائك رونق )
( فيا ساكني وادي دمشق مزاركم ... بعيد وباب الوصل دوني مغلق )
( وليس على هذا النوى لي طاقة فهل من قيود البين والبعد أطلق وإني إلى أخباركم متشوف ... وإني إلى لقياكم متشوق )
( أود إذا هب النسيم لنحوكم ... بأني في أذياله أتعلق )
( وأصبو لذكراكم إذا هبت الصبا ... لعلي من أخباركم أتنشق )

( ولي أنة أودت بجسمي ولوعة ... ونار جوى من حرها أتفلق )
( فحنوا على المضنى الذي ثوب صبره ... إذا مسه ذيل الهوى يتمزق )
( غريب بأقصى مصر أضحت دياره ... ولكن قلبي بالشآم معلق )
( وقد نسخ التبريح جسمي فهل إلى ... غبار ثرى أعتاب وصل يحقق )
( فيا ليت شعري هل أفوز بروضة ... وفيها عيون النرجس الغض تحدق )
( وأنظر واديها وآوي لربوة ... وماء معين حولها يتدفق )
( ويحلو لي العيش الذي مر صفوه ... وهل عائد ذاك النعيم المروق )
( وأنظر ذاك الجامع الفرد مرة ... وفي صحنه تلك الحلاوة تشرق )
( وأصحابنا فيه نجوم زواهر ... ونور محيا وجههم يتألق )
( فلا برحوا في نعمة وسعادة ... وعز ومجد شأوه ليس يلحق )
وقال ابن عنين
( ماذا على طيف الأحبة لو سرى ... وعليهم لو ساعدوني بالكرى )
( جنحوا إلى قول الوشاة وأعرضوا ... والله يعلم أن ذلك مفترى )
( يا معرضا عنى بغير جناية ... إلا لما نقل العذول وزورا ) هبني
( هبنى أسأت كما تقول وتفتري ... وأتيت في حبيك شيئا منكرا )
( ما بعد بعدك والصدود عقوبة ... يا هاجري ما آن لي أن تغفرا )
( لا تجمعن علي عتبك والنوى ... حسب المحب عقوبة أن يهجرا )
( عبء الصدود أخف من عبء النوى ... لو كان لي في الحب أن أتخيرا )
( فسقى دمشق وواديها والحمى ... متواصل الأرهام منفصم العرى )

( حتى ترى وجه الرياض بعارض ... أحوى وفود الدوح أزهر نيرا )
( تلك المنازل لا ملاعب عالج ... ورمال كاظمة ولا وادي القرى )
( أرض إذا مرت بها ريح الصبا ... حملت على الأغصان مسكا أذفرا )
( فارقتها لا عن رضا وهجرتها ... لا عن قلى ورحلت لا متخيرا )
( أسعى لرزق في البلاد مشتت ... ومن العجائب أن يكون مقترا )
تعريف بابن عين
وابن عنين المذكور كان هجاء وهو صاحب مقراض الأعراض تجاوز الله تعالى عنه فمن ذلك قوله
( أرح من نزح ماء البئر يوما ... فقد أفضى إلى تعب وعي )
( مر القاضي بوضع يديه فيه ... وقد أضحى كرأس الدولعي )
يعني أقرع وسبب قوله البيتين أن المعظم أمر بنزح ماء بقلعة دمشق فأعياهم ذلك
ومن هجوه قوله
( شكا شعري إلي وقال تهجو ... بمثلي عرض ذا الكلب اللئيم )
( فقلت له تسل فرب نجم ... هوى في إثر شيطان رجيم )
وقال فيمن خرج حاجا فسقط عن الهجين فتخلف
( إذا ما ذم فعل النوق يوما ... فإني شاكر فعل النياق )

( بلاد بها الحصباء در وتربها ... عبير وأنفاس الشمال شمول )
( تسلسل فيها ماؤها وهو مطلق ... وصح نسيم الروض وهو عليل ) وقد تقدم التمثيل بهذه الأبيات الثلاثة في خطبة هذا الكتاب ومن هذه القصيدة
( وكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى ... ورأي ظهير الدين في جميل )
( من القوم أما أحنف فمسفه ... لديهم وأما حاتم فبخيل )
( فتى المجد أما جاره فممنع ... عزيز وأما ضده فذليل )
( وأما عطايا كفه فمباحة ... حلال وأما ظله فظليل )
وظهير الدين الممدوح هو طغتكين بن أيوب أخو السلطان صلاح الدين وكان ملك اليمن وأحسن إلى ابن عنين إحسانا كثيرا وافرا وخرج ابن عنين من اليمن بمال جم وطغتكين بضم الطاء المهملة وبعدها غين معجمة ثم تاء مثناة من فوقها مكسورة ثم كاف مكسورة أيضا ثم ياء تحتية ثم نون وكان يلقب بالملك العزيز ولذلك قال ابن عنين لما رجع من عنده إلى مصر أيام العزيز عثمان بن صلاح الدين فألزم أرباب الديوان ابن عنين بدفع الزكاة من المتاجر التي وصلت صحبته
( ما كل من يتسمى بالعزيز له ... أهل وما كل برق سحبه غدقه )
( بين العزيزين بون في فعالهما ... هذاك يعطي وهذا يأخذ الصدقة )
ومن هجو ابن عنين قوله في فقيهين يلقب أحدهما بالبغل والآخر بالجاموس

( البغل والجاموس في حاليهما ... قد أصبحا مثلا لكل مناظر )
( قعدا عشية يومنا فتناظرا ... هذا بقرنيه وذا بالحافر )
( ما أحكما غير الصياح كأنما ... لقيا جدال المرتضى بن عساكر )
( جلفان ما لهما شبيه ثالث ... إلا رقاعة مذلويه الشاعر )
( لفظ طويل تحت معنى قاصر ... كالعقل في عبد اللطيف الناظر )
رجع إلى دمشق
وقال العز الموصلي
( إليك حياض حمامات مصر ... ولا تتكثري عندي بمين )
( حياض الشام أحلى منك ماء ... وأطهر وهي دون القلتين )
وهذان البيتان جواب منه عن قول ابن نباتة
( أحواض حمام الشآم ... ألا اسمعي لي كلمتين )
( لا تذكرى أحواض مصر ... فأنت دون القلتي ) ن وأما قول النواجي سامحه الله تعالى
( مصر قالت دمشق لا ... تفتخر قط باسمها )
( لو رأت قوس روضتي ... منه راحت بسهمها )
فهو من باب تفضيل الوطن من حبه ومنه قول الوداعي
( رو بمصر وبسكانها ... شوقي وجدد عهدي الخالي )

( وارو لنا يا سعد عن نيلها ... حديث صفوان بن عسال )
( فهو مرادي لا يزيد ولا ... ثور وإن رقا ورقا لي )
ومن ذلك النمط قول الشهاب الحجازي
( قالوا دمشق قد زهت لزهرها ... فامض وشاهد جوزها ولوزها )
( فقلت لا أبدل بلدتي بها ... ولست أرضى زهرها ولوزها ) وقول الآخر
( قد قال وادي جلق للنيل إذ ... كسروه أعين جبهتي لك ترفع )
( فأجاب بحر النيل لما أن طغى ... عندي مقابل كل عين أصبع ) وقد تذكرت هنا قول بعضهم
( ماذا يفيد المعنى ... من الأذى المتتابع )
( بمصر ذات الأيادي ... ونيلها ذي الأصابع )
وقد شاع الخلاف قديما وحديثا في المفاضلة بين مصر والشام وقد قال بعضهم
( في حلب وشامنا ... ومصر طال اللغط )
( فقلت قول منصف ... خير الأمور الوسط )

شعر في ذم دمشق
وأما قول بعضهم
( تجنب دمشق ولا تأتها ... وإن راقك الجامع الجامع )
( فسوق الفسوق بها قائم ... وفجر الفجور بها طالع )
فلا يلتفت إليه ولا يعول عليه إذ هو مجرد دعوى خالية عن الدليل وهي من نزعات بعض الهجائين الذين يعمدون إلى تقبيح الحسن الجميل الجليل
( وما زالت الأشراف تهجى وتمدح ... )
ولا يقابل ألف مثن عدل بفاسق يقدح
( وفي تعب من يحسد الشمس نورها ... ويأمل أن يأتي لها بضريب )
وأخف من هذا قول بعض الأندلسيين وهو الكاتب أبو بكر محمد بن قاسم
( دمشق جنة الدنيا حقيقا ... ولكن ليس تصلح للغريب )
( بها قوم لهم عدد ومجد ... وصحبتهم تؤول إلى الحروب )
( ترى أنهارهم ذات ابتسام ... وأوجههم تولع بالقطوب )
( أقمت بدارهم ستين يوما ... فلم أظفر بها بفتى أديب )
والجواب واحد ولا يضر الحق الثابت إنكار الجاحد وأخف من الجميع قول العارف بالله تعالى سيدي عمر بن الفارض رضي الله تعالى عنه
( جلق جنة من تاه وباهى ... ورباها أربى لولا وباها )
( قال غال بردى كوثرها ... قلت غال برداها برداها )

( وطني مصر وفيها وطري ... ولنفسي مشتهاها مشتهاها )
( ولعيني غيرها إن سكنت ... يا خليلي سلاها ) ما سلاها
وأخف منه قول ابن عبد الظاهر
( لا تلوموا دمشق إن جئتموها ... فهي قد أوضحت لكم ما لديها )
( إنها في الوجوه تضحك بالزهر ... لمن جاء في الربيع إليها )
( وتراها بالثلج تبصق في لحية ... من مر في الشتاء عليها )
وقول ابن نباتة وهو بالشام يتشوق إلى المقياس والنيل
( أرق له بالشام نيل مدامع ... يجريه ذكر منازل المقياس )
( سقيا لمصر منازلا معمورة ... بنجوم أفق أو ظباء كناس )
( وطني سهرت له وشابت لمتي ... ونعم على عيني هواه وراسي )
( من لي به والحال ليس بآيس ... كدر وعطف الدهر ليس بقاسي )
( والطرف يستجلي غزالا آنسا ... بالنيل لم يعتد على باناس )
رجع إلى مدح دمشق
وقال الناصر داود بن المعظم عيسى
( إذا عاينت عيناي أعلام جلق ... وبان من القصر المشيد قبابه )
( تيقنت أن البين قد بان والنوى ... نأى شخصه والعيش عاد شبابه )

وقال أيضا رحمه الله تعالى
( يا راكبا من أعالي الشام يجذبه ... إلى العراقين إدلاج وإسحار )
( حدثتني عن ربوع طالما قضيت ... للنفس فيها لبانات وأوطار )
( لدى رياض سقاها المزن ديمته ... وزانها زهر غض ونوار )
( شح الندى أن يسقيها مجاجته ... فجادها مفعم الشؤبوب مدرار )
( بكت عليها الغوادي وهي ضاحكة ... وراحت الريح فيها وهي معطار )
( يا حسنها حين زانتها جواسقها ... وأينعت في أعالي الدوح أثمار )
( فهي السماء اخضرارا في جوانبها ... كواكب زهرتبدو وأقمار )
( حدثتني وأنا الظامي إلى نبإ ... لا فض فوك فمني الري تمتار )
( فهو الزلال الذي طابت مشاربه ... وفارقته غثاءات وأكدار )
( كرر على نازح شط المزار به ... حديثك العذب لاشطت بك الدار )
( وعلل النفس عنهم بالحديث بهم ... إن الحديث عن الأحباب أسمار )
وهذا الملك الناصر له ترجمة كبيرة وهو ممن أدركته الحرفة الأدبية ومنع حقه بالحمية والعصبية وأنكرت حقوقه وأظهر عقوقه حتى قضى نحبه ولقي ربه
رجع
وقال سيف الدين المشد رحمه الله تعالى
( بشرى لأهل الهوى عاشوا به سعدا ... وإن يموتوا فهم من جملة الشهدا )

( وإذا ما بدا الصباح فما يشبه ... إلا لون الخدود الملاح ) وقلت بالجزيرة الخضراء
( قد رفعت راية الصباح ... تدعو الندامى للاصطباح )
( فبادروا للصبوح إن ... ي قد بعت في غيه صلاحي )
( ولا تميلوا عن رشف ثغر ... وسمع شدو وشرب راح )
( وأنت يا من يروم نصحي ... قد يئس القوم من فلاحي )
( فلست أصغي إلى نصيح ... ما نهضت بالكؤوس راحي )
قال وقلت أمدح ملك إفريقية وأهنئه بقتل ثائر من زناتة يدعي أنه من نسل يعقوب المنصور
( برح بي من ليس عنه براح ... ومن رأى قتلي حلالا مباح )
( من صرح الدمع بحبي له ... وما لقلبي عن هواه سراح )
( ظبي عدمت الصبح مذ صدني ... وكيف لا يعدم وهو الصباح )
( مورد الخد شهي اللمى ... منعم الردف جديب الوشاح )
( تظنه من قلبه جلمدا ... ومنه للماء بجفني انسياح )
( لردفه أضعف من صبه ... ولم أزل من لحظه في كفاح )
( نشوان من ريقته عربدت ... أجفانه بالمرهفات الصفاح )
( فها أنيني خافت مثل ما ... أنا أسير مثخن بالجراح )
( يا قاتلي صدا أما تستحي ... أن تلزم البخل بأرض السماح )
( من ذا الذي يبخل في تونس ... والملح فيها صار عذبا قراح )
( وأصبحت أرجاؤها جنة ... مبيضة الأبراج خضر البطاح )

( شعارهم رقة الشكوى ومذهبهم ... أن الضلالة فيهم في الغرام هدى )
( عيونهم في ظلام الليل ساهرة ... عبرى وأنفاسهم تحت الدجى صعدا )
( تجرعوا كأس خمر الحب مترعة ... ظلوا سكارى وظنوا غيهم رشدا )
( وعاسل القد معسول مقبله ... كالغصن لما انثنى والبدر حين بدا )
( رقيم عارضه كهف لعاشقه ... يأوي إليه فكم في حبه شهدا )
( نادمته وثغور البرق باسمة ... والغيث ينزل منحلا ومنعقدا )
( كأن جلق حيا الله ساكنها ... أهدت إلى الغور من أزهارها مددا )
( فاسترسل الجو منهلا يزيد على ... ثورا ويعقد محلول الندى بردا )
وقال أيضا
( فؤادي إلى بانات جلق مائل ... ودمعي على أنهارها يتحدر )
( يرنحني لوز ابن كلاب مزهرا ... وتهتزني أغصانه وهو مثمر )
( وإني إلى زهر السفرجل شيق ... إذا ما بدا مثل الدراهم ينثر )
( غياض يفيض الماء في عرصاتها ... فتزهو جمالا عند ذاك وتزهر )
( ترى بردى فيها يجول كأنه ... وحصباءه سيف صقيل مجوهر )
( وبي أحور لاح العذار بخده ... يسامح قلبي في هواه ويعذر )
( يحاورني فيه على الصبر صاحبي ... وكيف أطيق الصبر والطرف أحور )
( إذا اشتقت وادي النيربين لمحته ... فأنظر معناه به وهو أنضر )
( حوى الشرف الأعلى من الحسن خده ... على أن ميدان العوارض أخضر )
وما أحسن قوله رحمه الله تعالى
( واد به أهل الحبيب نزول ... حيا معاهدها الحيا والنيل )
( واد يفوح المسك من جنباته ... ويصح فيه للنسيم عليل )
( يشتاقه ويود لثم ترابه ... شوقا ولكن ما إليه سبيل )

( متقلقل الأحشاء مسلوب الكرى ... طلق الدموع فؤاده متبول )
( يصبو إلى الأثلات من وادي الغضى ... ويحن إن خطرت هناك شمول )
( قالوا تبدل قلت يا أهل الهوى ... والناس فيهم عاذر وجهول )
( هل بعد قطع الأربعين مسافة ... للعمر فيها يحسن التبديل )
( ولقد هفا بي في دمشق مهفهف ... يسبي العقول رضابه المعسول )
( يهتز إن مر النسيم بقده ... ويميل بي نحو الصبا فأميل )
( أبدى لنا بردا تبسم ثغره ... وإذا انثنى فقوامه المجدول )
( لزم التسلسل مدمعي وعذاره ... فانظر إلى المهجات كيف تسيل )
( وسقمت من سقم الجفون لأنها ... هي علة وفؤادي المعلول )
( لا تعجبوا إن راعني بذوائب ... فالليل هول والمحب ذليل )
( ما صح لي أن الذؤابة حية ... حتى سعت في الأرض وهي تجول )
وقال ناظر الجيش عون الدين بن العجمي
( يا سائقا بقطع البيداء معتسفا ... بضامر لم يكن في سيره واني )
( إن جزت بالشام شم تلك البروق ولا ... تعدل بلغت المنى عن دير مران )
( وأقصد أعالي قلاليه فإن بها ... ما تشتهي النفس من حور وولدان )
( من كل بيضاء هيفاء القوام إذا ... ماست فوا خجل المران والبان )
( وكل أسمر قد دان الجمال له ... وكمل الحسن فيه فرط إحسان )
( ورب صدغ بدا في خد مرسله ... في فترة فتنت من سحر أجفان )

( فليت ريقته وردي ووجنته ... وردي ومن صدغه آسي وريحاني )
( وعج على دير متى ثم حي به ... الر بان بطرس فالربان رباني )
( فهمت منه إشارات فهمت بها ... وصنت منشورها في طي كتمان )
( واعبر بدير حنينا وانتهز فرص اللذات ... ما بين قسيس ومطران )
( واستجل راحا بها تحيا النفوس إذا ... دارت براح شماميس ورهبان )
( حمراء صفراء بعد المزج كم قذفت ... بشهبها من همومي كل شيطان )
( كم رحت في الليل أسقيها وأشربها ... حتى انقضى ونديمي غير ندمان )
( سألت توماس عمن كان عاصرها ... أجاب رمزا ولم يسمح بتبيان )
( وقال أخبرني شمعون ينقله ... عن ابن مريم عن موسى بن عمران )
( بأنها سفرت بالطور مشرقة ... أنوارها فكنوا عنها بنيران )
( وهي المدام التي كانت معتقة ... من عهد هرمس من قبل ابن كنعان )
( وهي التي عبدتها فارس فكنى ... عنها بشمس الضحى في قومه ماني )
( سكرت منها فلا صحو وجدت بها ... على الندامى وليس الشح من شاني )
( وسوف أمنحها أهلا وأنشده ... ما قيل فيها بترجيع وألحان )
( حتى تميل لها أعطافه طربا ... وينثني الكون من أوصاف نشوان )
وهذه وإن لم تكن في دمشق على الخصوص فلا تخرج عما نحن بصدده والأعمال بالنيات وديباجة هذه القصيدة على نسج طائفة من الصوفية وممن حاك هذه البرود الشيخ الأكبر رحمه الله تعالى وقيل إنه الشيخ شعبان النحوي
رجع
وقال بعضهم
( شوقي يزيد وقلب الصب ما بردا ... وبان يأسي من المعشوق حين غدا )

( أراد الله بالحجاج خيرا ... فثبط عنهم أهل النفاق )
وقال
( وراحل سرت في ركب أودعه ... تبارك الله ما أحلى تلاجينا )
( جئنا إلى بابه لاجين نسأله ... فليتنا عاقنا موت ولا جينا )
( راجين نسأل ميتا لا حراك به ... مثل النصارى إلى الأصنام لاجينا )
وقال
( وصلت منك رقعة أسأمتن ... صيرت صبري الجميل قليلا )
كنهار المصيف حرا وكربا ... وكليل الشتاء بردا وطولا )
وأول مقراض الأعراض قوله
( أضالع تنطوي على كرب ... ومقلة مستهلة الغرب )
( شوقا إلى ساكني دمشق فلا ... عدت رباها مواطر السحب )
( مواطن ما دعا توطنها ... إلا ولبى نداءها لبي ) ثم ذكر من الهجو ما تصم عنه الآذان
وهو القائل في دمشق
( ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... وظلك يا مقرى علي ظليل )
( وهل أريني بعدما شطت النوى ... ولي في ذرا روض هناك مقيل ) ومنها
( دمشق بنا شوق إليك مبرح ... وإن لج واش أو ألح عذول )

ومدمعي قنوات والعذول حكى ... ثورا يلوم الفتى في عشقه حسدا )
( على مغنية بالجنك جاوبها ... شبابة كم بها من عاشق سهدا )
( فالبدر جبهتها والردف ربوتها ... وخلها مات في خلخالها كمدا )
ولنذكر نبذة مما خوطبت به من علماء الشام وأدبائه حفظ الله تعالى كمالهم وبلغ آمالهم !
فمن ذلك قول شيخ الإسلام مفتي الأنام سيدي الشيخ عبد الرحمن العمادي الحنفي حفظه الله تعالى وكتبه لي بخطه
( شمس الهدى أطلعها المغرب ... وطار عنقاء بها مغرب )
( فأشرقت في الشام أنوارها ... وليتها في الدهر لا تغرب )
( أعني الإمام العالم المقري ... أحمد من يكتب أو يخطب )
( شهاب علم ثاقب فضله ... ينظم عقدا وهو لا يثقب )
( فرع علوم بالهدى مثمر ... وروض فضل بالندى معشب )
( قد ارتدى ثوب علا وامتطى ... غارب مجد فزها المركب )
( درس غريب كل يوم له ... يملي ولكن حفظه أغرب )
( محاضرات مسكر لفظها ... بكأس سمع راحها تشرب )
( رياض آداب سقاها الحيا ... ففاح مسكا نشرها الأطيب )
( فضائل عمت وطمت فقد ... قصر فيها كل من يطنب )
( قلوبنا قد جذبت نحوه ... والحب من عادته يجذب )
( إن بعدت عن غربه شرقنا ... فالفضل فينا نسب أقرب )

( كم طلبت تشريفه شامنا ... بشرى لها فليهنها المطلب )
( قد سبقت لي معه صحبة ... في حرم يؤمن من يرهب )
( أخوة في الله من زمزم ... رضاعها طاب لها المشرب )
( أنهلني ثم ودادا فلي ... بالشام منه علل أعذب )
( أهديت ذا النظم امتثالا له ... وقد هجرت الشعر مذ أحقب )
( نشط قلبي لطفه فانثنى ... والقلب في أهل الهوى قلب )
( ضاء دجى العلم به للورى ... ما نار في جنح الدجى كوكب ) تحية الفقير الداعي عبد الرحمن العمادي
انتهى وأجبته بما نصه
( ما تبر راح كأسها مذهب ... ما للنهى عن حسنها مذهب )
( تستدفع الأكدار من صفوها ... وتنهل الأفراح أو تنهب )
( تسعى بها هيفاء من ثغرها ... أو شعرها النور أو الغيهب )
( فتانة الأعطاف نفاثة ... سحرا بألباب الورى يلعب )
( في روضة قد كللت بالندى ... والزهر رأس الغصن إذ يعصب )
( برودها بالنور قد نمنمت ... كالوشي من صنعاء بل أعجب )
( والماء يجري تحت جناتها ... والنار من نارنجها تلهب )
( والظل ضاف والنسيم انبرى ... والجو ذاكي العرف مستعذب )
( والطير للعشاق بالعود قد ... غنت فهاجت شوق من يطرب )
( أبهى ولا أبهج في منظر ... من نظم من تقديمه الأصوب )
( مفتي دمشق الشام صدر الورى ... من في العلا تم به المطلب )
( علامة الدهر ولا مرية ... وملجأ الفضل ولا مهرب )

( لله ما امتاز به من حلى ... بغير من الله لا تكسب )
( أبدى بها الرحمن في عبده ... مظاهر المنح التي تحسب )
( جود بلا من وعلم بلا ... دعوى به التحقيق يستجلب )
( وبيت مجد مسند ركنه ... إلى عماد الدين إذ ينسب )
( فبرقه الشامي من شامه ... نال مراما والسوى خلب )
( وما عسى أبدية في مدحه ... أو وصف أبناء له أنجبوا )
( تسابقوا للمجد حتى حووا ... سبقا لما في مثله يرغب )
( أعيذهم بالله من شر ما ... يخشى من الأغيار أو يرهب )
( وأسأل الله لهم عزة ... بادية الأضواء لا تحجب )
ولما حللت دمشق المحروسة وطلبت موضعا للسكنى يكون قريبا من الجامع الأموي الذي يعجز البليغ وصفه وإن ملأ طروسه أرسل إلي أديب الشام فرد الموالي المدرسين ساحب أذيال الفخار المولى أحمد الشاهيني حفظه الله تعالى بمفتاح المدرسة الجقمقية وكتب لي معه ما نصه
( كنف المقري شيخي مقري ... وإليه من الزمان مفري )
( كنف مثل صدره في اتساع ... وعلوم كالدر في ضمن بحر )
( أي بدر قد أطلع الغرب منه ... ملأ الشرق نوره أي بدر )
( أحمد سيدي وشيخي وذخري ... وسميي وفوق ذاك وفخري )

( لو بغير الأقدام يسعى مشوق ... جئته زائرا على وجه شكري )
العبد الحقير المستعين المخلص أحمد بن شاهين انتهى
فأجبته بقولي
( أي نظم في حسنه حار فكري ... وتحلى بدره صدر ذكري )
( طائر الصيت لابن شاهين ينمي ... من بروض الندى له خير وكر )
( أحمد الممتطين ذروة مجد ... لعوان من المعالي وبكر )
( حل مفتاح فضله باب وصل ... من معاني تعريفه دون نكر )
( يا بديع الزمان دم في ازديان ... بالعلا وازدياد تجنيس شكر )
وكتب إلي لما وقف على كتابي فتح المتعال في مدح النعال بما نصه لكاتبه الحقير أحمد بن شاهين الشامي في تقريظ تأليف سيدي ومولاي وقبلتي ومعتقدي شيخ الدنيا والدين وبركة الإسلام والمسلمين حفظ الله تعالى وجوده آمين
( أأحمد فخرا يا ابن شاهين ساميا ... بأحمد ذاك المقري المسدد )
( بمن راح خداما لنعل محمد ... وناهيك في العليا بأرفع سؤدد )
( فإن أنا أخدم نعله فلطالما ... غدا خادما نعل النبي الممجد )
( بتأليفه في وصف نعل تكرمت ... كتابا حوى إجلال كل موحد )
( ويكفيك فخرا يا ابن شاهين أن ترى ... خدوما لخدام لنعل محمد )
( فقلت له طوبى بخدمة أحمد ... فقال كذا طوبى بخدمة أحمد )
( فلا زال يرقى للمعالي مكرما ... وينتعل العيوق في رغم فرقد )
فأجبته

بقولي
( أأحمد وصف بالعوارف يرتدي ... وأشرف مولى للمعارف يهتدي )
( نجومك إذ أنت الخليل توقدت ... فأنى أجاريها بنحو المبرد )
( أتاني نظام منك حير فكرتي ... على أنه أعلى مرامي ومقصدي )
( فأنت ابن شاهين الذي طار صيته ... بجو العلا والضد ضل بفرقد )
( فبرك موصول وشانيك منكر ... وقدرك مرفوع على رغم حسد )
( وعند حديث الفضل أسند عاليا ... بشام فهم يروون مسند أحمد )
( فوجهك عن بشر ويمناك عن عطا ... وفكرك يروي في الهدى عن مسدد )
( فلا زلت ترقى أوج سعد ورفعة ... ودمت بتوفيق وعز مخلد )
ولما خاطبته بقولي
( يصيد ابن شاهين بجو بلاغة ... سوانح في وكر البدائع تفرخ )
( ما كان ديك الجن مدرك نيلها ... إذا صرصر البازي فلا ديك يصرخ )
( ولو جاد فكر البحتري بمثلها ... لكان على الطائي بالأنف يشمخ )
( ولو أن نظم ابن الحسين أتيحها ... لفاز بسبق حكمه ليس ينسخ )
( فلا زال ملحوظا بعين عناية وكتب التهاني عن علاه تؤرخ )
أجابني بما نصه
( أأنفاس عيسى ما بروعي ينفخ ... أم الطرس أضحى بالعبير يضمخ )
( وهذي قواف أم هي الشمس إنني ... أراها على الجوزاء بالأنف تشمخ )
( بلى هي نص من ودادك محكم ... تزول الرواسي وهي لم تك تنسخ )
( أتتني بمدح مخجل فكأنها ... لفرط حيائي قد أتتني توبخ )
( وهل أنا إلا خادم نعل سيدي ... وبيني وبين المدح في الحق برزخ )

( وما هي إلا غرة حزت فخرها ... وإني بها بادي المحاسن أشدخ )
( فلا در دري وانحرفت عن العلا ... إذا كان ودي عن معاليك يفسخ )
( وحبك مهما طال شرقا ومغربا ... بوكر ابن شاهين الوفي يفرخ )
( وإني وإن أرخت مجدا لماجد ... فإني باسم المقري أؤرخ )
( سميي ومولاي الذي راح مدحه ... لرأس الأعادي بالمعاريض يرضخ )
( ودم يا نظير البدر ترقى بأوجه ... ولا زلت في طرفي وقلبي ترسخ )
وكنت يوما أروم الصعود لموضع عال فوقعت وانفكت رجلي وألمت فكتب إلي
( لا ألمت رجلك يا سيدي ... وصانها الله من الشين )
( ما هي إلا قدم للعلا ... لا احتاج ذاك النصل للقين )
( زانت دمشق الشام في حلها ... فلا رأت فيها سوى الزين )
( بانت عن الأهل لتشريفنا ... لا جمعت أينا إلى بين )
( عجبت من راسخة في العلا ... والعلم إذ زاغت من العين )
( إني أعاف المين بين الورى ... ولست والله أخا مين )
( للمقري المجتبى أحمد ... دين الهوى والمدح كالدين )
( وأحمد الله على أنني ... رأيته حاز الفريقين )
( فلا أراه الله في عمره ... بينا يؤديه إلى أين )
( تعويذا لمحب العبد الحقير الداعي أحمد بن شاهين انتهى
وأهديت إليه حفظه الله تعالى سبحة وخاتما وكتبت إليه
( يا نجل شاهين الذي ... أحيا المعالي والمعالم )

( يا من به ريشت من المجد ... الخوافي والقوادم )
( يا من دمشق بطيب ما ... يبديه عاطرة النواسم )
( فالنهر منها ذو صفا ... والزهر مفتر المباسم )
( والغصن يثني عطفه ... طربا لتغريد الحمائم )
( يا أحمد الأوصاف يا ... من حاز أنواع المكارم )
( أنت الذي طوقتني ... مننا لها تعنو الأعاظم )
( فمتى أؤدي شكرها ... والعجز لي وصف ملازم )
( والعذر باد إن بعثت ... إليك من جنس الرتائم )
( بنتيجة الذكر التي ... جاءت بتصحيف ملائم )
( وبحائم صاد إلى ... فيض الندى من كف حاتم )
( فامدد على جهد المقل ... رواق صفح ذا دعائم )
( واقبل عقيلة فكر من ... هو في بحار العي عائم )
( لا زلت سابق غاية ... بين الأعارب والأعاجم )
فأجابني بما صورته
( يا سيدا شعري له ... ما إن يقاوي أو يقاوم )
( كلا ولا قدري له ... يوما يساوي أو يساوم )
( يا من رأيت عطاردا ... منه بدا في شخص عالم )
( يا من بنفحة خلقه ... وبنظمه السامي الملائم )
( أضحى يريني معجزين ... من النواسم والمباسم )

( ما زلت أبصر منهما ... حسن النعامى والنعائم )
( بهما زماني حاسدا ... أضحى وبالتنغيص حاسم )
( قلمي وقلبي بين هام ... في الثناء له وهائم )
( حبي لأحمد سيدي ... شيخ الورى فرض ملازم )
( المقري المعتلي ... شرف المعالي والمعالم )
( ما لي إليه وسيلة ... إلا هوى في القلب دائم )
( قد جاء ما شرفتني ... بخصوصه دون الأعاظم )
( من خاتم كفى به ... ورثت سليمان العزائم )
( وجعلتني لا أحسب العيوق ... لي في فص خاتم ) وبسبحة شبهتها بالشهب في أسلاك ناظم )
( فلتحسد الجوزاء ما ... أحرزت من تلك المكارم هي آلة للذكر لكن ... ليس ذكرا في الحيازم )
( فهواك في قلبي وما ... في القلب جل عن الرتائم )
( ما ذي رتائم سيدي ... بل إنها عندي تمائم )
( لو أنها من جنس ما ... يطوى غدت فوق العمائم )
( لكنها قد زينت ... كفي وأزرت بالخواتم )
( يا من يريش إذا رمى ... نسر السماء بلحظ حازم )
( إن ابن شاهين حوى ... منك الخوافي والقوادم )
( هذي نوافل يا إمام ... الدهر ليست باللوازم )
( العذر عنها مخجل ... عبدا لنعلك جد خادم )
( بل أنت فوق العذر قد ... أصبحت للشعرى تنادم )
( لا زال دهرك سيدي ... يلقاك منه ثغر باسم )
( يهدي إليك من المراحم ... والمكارم والغنائم )
( ما لا يساوم مثله ... ذو الحظ في أسنى المواسم )

العبد الحقير الداعي لأستاذه مولاي الأجل بالتمكين أحمد بن شاهين حامدا مصليا مسلما انتهى وقال مستجيزا
( الشيخ يشرب ماء ... ونحن نشرب قهوة )
فقلت
( لأنه ذو قصور ... فغط بالعذر سهوة )
( ولما أزمعت على العود إلى مصر أوائل شوال سنة 1037 خاطبني بقوله - حفظه الله ! -
( أبدا إليك تشوقي وحنيني ... وإلى جنابك ما علمت سكوني )
( ولديك قلبي لا يزال رهينة ... غلقت وتعلم ذمة المرهون )
( وعليك قد حبست شوارد مدحتي ... لما رأيتك فوق كل قرين )
( قلبي كقلبك في المحبة والهوى ... إذ كان في الأشواق دينك ديني )
( وليته بهواك أرفع رتبة ... وغدوت تعزل عنه كل خدين )
( وأطاع أمرك في الوداد فلو أشا ... منه - وحاشا - سلوة يعصيني )
( ما كنت أحسب قبل طبعك ... أن أرى يوما عطارد ناطقا بفنون )
( حتى رأيتك فاستبنت بأنه ... يروي أحاديث العلا بشجون )
( ويفيد سمعي معجزا بهر النهى ... ويري عيوني آية التكوين )
( يا من غدا يحيي القلوب بلفظه ... ويردد الأنفاس عن جبرين )
( أحييت بالوحي المبين قلوبنا ... وحي - لعمر الله - جد مبين )

( هذي دمشق لعمر خلقك روضة ... قد جاد طبعك دوحها بمعين )
( قد زارها غيث الندى فبهارها ... أضحى يلوح بحلة النسرين )
( لو لم تكن بدرا لما أحرزت ما ... قد خص في الأنوار بالتلوين )
( حققت ما قد قيل حين حللتها ... إن المكان مشرف بمكين )
( هي غادة حليتها فتزينت ... ما كان أحوجها إلى التزيين )
( مولاي أحمد يا سليل بني العلا ... يا فوق مدحي فيك أو تحسيني )
( أغنى وجودك وهو عين الدين عن ... علامة الدنيا لسان الدين )
( انظره تستغني به عن غيره ... وإلى العيان ارغب عن المظنون )
( تلقى علوم الناس في أوراقهم ... وعلومه في صدرها المشحون )
( فبعلمه اعبر كل بحر زاخر ... وبفهمه اسبر غامض المخزون )
( وبحلمه ارغب عن تحلم أحنف ... وبعزمه اصحب بأس ليث عرين )
( لما رأيتك فاستقمت لقبلتي ... أدعو وأشكر واردات شؤوني )
( ألفيت قطرك يمنتي فأفادني ... فضل اليمين على اليسار يقيني )
( فسقى الحيا للمقري أخي العلا ... بلدا بأقصى الغرب جد هتون )
( بلدا تبينت الهلال بأفقه ... ورأيت منه قرة لعيوني )
( لولا هلال الغرب نور شرقنا ... بتنا بليل الحدس والتخمين )
( يا راحلا رحل الفؤاد ... بعزمه رفقا بقلب للوفاء ضمين )
( أستودع الله العظيم وإنني ... مستودع منه أجل أمين )
( إني أودع يوم بينك مهجتي ... وشبيبتي وتصبري وسكوني )
( وأعود من توديع وجهك عودة ... خلطت يقيني في الهوى بظنون )
( حتى كأني قد فقدت تمائما ... تقضي علي بحالة المجنون )
( وتود نفسي أنها لو حرمت ... أبدا سكوني للهوى وركوني )
( أوشكت أقتل بين معترك الهوى ... نفسي ومعترك الهوى بيميني )
( ولقد وددت بأنني متحمل ... تلك الخطا بمحاجري وجفوني )

( كيف السبيل إلى الحياة ومهجتي ... في قبضة الأشواق كالمسجون )
( ما أنت إلا البدر لاح بأفقنا ... شهرا وكان ضياؤه يهديني )
( وإليكها يا شيخ دهري غادة ... غنيت عن التحسين والتزيين )
( جاءتك تعرض في الوداد كمالها ... وإذا لحظت جمالها يكفيني )
( هي بنت لحظتك التي تؤوي النهى ... لا بنت ليلتي التي تؤويني )
( ما الفخر في دعوى البديهة عندها ... الفخر قولك إنها ترضيني )
( حسبي أبا العباس منك إصاخة ... تقضي بموت عداي أو تحييني )
( يا لهف نفسي كيف أبلغ مدحة ... أضمرتها في سري المكنون )
( فلسان حبي بالغ أقصى المدى ... ولسان مدحي في القصور يليني )
( ما الشعر يستوفي حقوقك لي ولو ... أهديت من نظمي عقود سنيني )
( حلقت أصطاد النجوم وإنها ... تزهي بعقد في علاك ثمين )
( فرأيت في العيوق طبعك سيدي ... نسرا أسف لعجزه شاهيني )
( قد خف شعري من قصور طبيعتي ... ولربما قد كان جد ركين )
( يكفيك أحمد يا ابن شاهين بأن

أحرزت خصل السبق دون الدون )
( وإذا عجزت عن الفرائض جاهدا ... فادأب عساك تفوز بالمسنون )
( هو قبلتي فلأغتدي متمسكا منه ... بحبل في النجاة متين )
( واسلم فديتك زائرا ومشرفا ... أفدي مواطىء نعله بجبيني )
( وكذلك عمري في هواك مقسم ... بين الدعاء الجد والتأمين ) وقال حفظه الله تعالى في ذلك
( حنانيك إن الدمع بالود معرب ... وإني في شوق وأنت مغرب )
( ورحماك بي إني قتيل صبابة ... بمن هو أوفى في الفؤاد وأنجب )
( ووعدك لي بالعود إني معلل ... به مهجة قد أوشكت تتصوب )

( وهبتك قلبي ما حييت ولم أقل ... ( ولكن من الأشياء ما ليس يوهب )
( فلو كنت شيخا واحدا هد صده ... فكيف بشيخ لم يكن مثله أب )
( وإنا بحمد الله لما خصصتنا ... بزورة ذي ود دعاه التحبب )
( فرشنا له منا الخدود مواطئا ... وعدنا به شوقا نجيء ونذهب )
( وقلنا دمشق أنت فيها محكم ... وأشرافها ودوا وجدوا ورحبوا )
( وأنت لها روح ومولى ومفخر ... وقد زنت شرقا مثل ما ازدان مغرب )
( وفخرا عظيما يا ابن شاهين إنه ... غدا وكرنا نسر السما فيه يرغب )
( فنحن ونحن الناس خدام نعله ... فلا غرو أن يقلي الغضنفر أكلب )
( وما نقموا منه سوى أنه امرؤ ... ليأكل فيما قدروه ويشرب )
( هو الشيخ شيخ الدهر أحمد من غدت ... دمشق ومن فيها بعلياه تخطب )
( هو المقري العالم العلم الذي ... إليه تناهي الفضل والمجد ينسب )
( وما هو إلا الشمس أزمع رحلة ... وإنا لفي ليل إذا هي تغرب )
( أو الغيث قد وافى فأمرعت النهى ... به وانثنى والصدر بالود معشب )
( أو الطائر العنقاء جاء مشرقا ... فأغرب والعنقاء في الطير مغرب )
( وإنك للخل الوفي وإنه ... هو الواحد المطلوب إن عز مطلب )
( وإنك بالتحقيق في كل حالة ... لأسنى وأندى ثم أوفى وأغرب )
( رعى الله وجها رحت ترغب نحوه ... وأي أخي جد له أنت ترغب )
( وحيا الحيا أرضا وطئت ترابها ... فأصبح مسكا وهي بالمجد تخصب )
( ولا فارقت يوما علاك كلاءة ... من الله أنى كنت والله أغلب )
( مدى الدهر ما حنت جوانح واله ... مشوق فأمسى للحقيقة يطرب )
ولما قرأ علي - أدام الله تعالى عزته وحرس حوزته ! - عقيدتي المسماة

بإضاءة الدجنة في عقائد أهل السنة سألني أن أجيزه فيها وفي غيرها فكتبت إليه بما نصه
( أحمد من أطار في جو العلا ... صيت ابن شاهين الذي زان الحلى )
( وراش منه للمعالي أجنحه ... نال بها فضلا غدا مستمنحه )
( واسكن البيان من أوكار ... أفهامه بقنة الأفكار )
( فاصطاد كل شارد بمخلب ... أبحاثه ومن يعارض يغلب )
( والصقر لا يقاس بالبغاث ... والحق ممتاز عن الأضغاث )
( نشكر من بلغه مناه ... على نواله الذي سناه )
( وننتحي نهج صلاة باديا ... لخير من جاء الأنام هاديا )
( مبينا دلائل التوحيد ... وموضحا طرائق التسديد )
( محمد خير البرايا المنتقى ... أجل من خاف الإله واتقى )
( صلى عليه الله مع أصحابه ... وآله الراوين عن سحابه )
( ما اعترف العبد الفقير ذو العدم ... للرب باستغنائه وبالقدم )
( وبعد فالعلوم والعوارف ... من أمها يأوي لظل وارف )
( وروضة أزهارها تضوعت ... لأنها أفنانها تنوعت )
( وليس يحتاط بها نبيل ... إذ ذاك أمر ما له سبيل )
( فليصرف القول إلى ما ينفعه ... دنيا وفي أوج الأجور يرفعه )
( وإن في علم أصول الدين ... هدى وخيرا جل عن تبيين )
( لأنه أصل يعم النفع ... به وكل ما سواه فرع )
( وكيف يعبد الإله من لا ... يعرفه وعن رشاد ضلا )
( فهو الذي لا تقبل الأعمال ... إلا به وتنجح الآمال )
( وإنني كنت نظمت فيه ... لطالب عقيدة تكفيه )
( سميتها إضاءة الدجنة ... وقد رجوت أن تكون جنة )

( وبعد أن أقرأتها بمصر ... ومكة بعضا من أهل العصر )
( درستها لما دخلت الشاما ... بجامع في الحسن لا يسامى )
( وكان في المجلس جمع وافر ... من جلة بدورهم سوافر )
( منهم فريد الدهر ذو المعالي ... فخر دمشق الطيب الفعال )
( أحمد من راح لعلم واغتدى ... وشام أنوارا لفهم فاهتدى )
( العالم الصدر الأجل المولى ... من وصفه الممدوح يعيي القولا )
( وهو ابن شاهين وما أدراكا ... من بذ جنس العرب والأتراكا )
( ورام من مثلي بحسن الظن ... إجازة فيما رواه عني )
( فحرت في أمرين قد تناقضا ... بالنفي والإثبات إذ تعارضا )
( ترك الإجابة لوصفي بالخطل ... وبالخطا والجيد مني ذو عطل )
( وكم فرائض بعجز تسقط ... فكيف غيرها وهذا أحوط )
( أو فعلها بحسب الإمكان ... رعيا لود محكم الأركان )
( منه وما له من الحقوق ... ولا يجازي البر بالعقوق )
( بعد ما مر من الترداد ... أسعفته بمقتضى الوداد )
( وسرت في طرق من التساهل ... معترفا بالجهل لا التجاهل )
( مع أنه أهل لأن يجيزا ... لا أن يجاز إذ حوى التبريزا )
( ومن رأى عيبي بعين للرضا ... لم يقف نهج من غدا معترضا )
( فليرو عني كل ما أسمعته ... إياه بالشرط وما جمعته )
( مع القصور راجيا للأجر ... من الفنون نظمها والنثر )
( كهذه القصيدة السديده ... والنعل ذات المدح العديده )
( كذاك ما ألفت في عمامه ... من خص بالإسراء والإمامه )
( والفقه والحديث والنحو وفي ... أسرار وفق وهو بالقصد وفي )

( وغيرها مما به الوهاب من ... على فقير عاجز في غير فن )
( وما أخذت في بلاد المغرب ... عن كل فذ في العلوم مغرب )
( ولي أسانيد إذا سردتها ... طالت وفي كتبي قد أوردتها )
( وقد أخذت الجامع الصحيحا ... وغيره عمن حوي الترجيحا )
( عمي سعيد عن سفين وهو عن ... القلقشندي عن الواعي السنن )
( العسقلاني في الشهاب ابن حجر ... بما له من الروايات اشتهر )
( وقد أجزته بكل مالي ... يصح من ذاك بلا احتمال )
( على شروط قرروها كافيه ... ليست على أفكاره بخافيه )
( وقال هذا المقري الخطا ... والعي عم لفظه والخطا )
( عام ثلاثين وألف بعدها ... سبع أتمت في السنين عدها )
( وكان ذا في رمضان السامي ... بحضرة السعد دمشق الشام )
( والله نرجو أن يتيح الختما ... بالخير كي نعطى القبول حتما )
( بجاه خير العالمين أحمدا ... صلى عليه الله ما طال المدى )
( وآله وصحبه ومن زكا ... فنال من حسن الختام مدركا )
وتذكرت بهذه الإجازة نظيرتها التي سألني فيها مولانا عين الأعيان مفتي الأنام في مذهب النعمان مولانا الشيخ عبد الرحمن العمادي مفتي الشام - حفظه اللع تعالى ! - لأولاده الثلاثة وكتب لي أصغرهم سنا استدعاء لذلك
( أحمد من شيد بالإسناد ... بيت العلوم السامي العماد )
( وعم من خصص بالروايه ... بنورها النافي دجى الغوايه )
( وزان صدر النبها كل زمن ... بجوهر الإجازة الغالي الثمن )
( نحمده سبحانه أن عرفا ... من الحديث ما به قد شرفا )
( ونسأل المزيد من صلاته ... لمن أتيح القصد من صلاته )
( ملجؤنا المعصوم أعلى سند ... لنا برغم جاحد مفند )

( كهف الضعيف والقوي المرتجى ... باب الهدايات وليس مرتجا )
( من جاءنا بالجامع الصحيح من ... كلامه الهادي إلى نهج أمن )
( من فضله ما شك فيه مسلم ... من حبه بكل خير معلم )
( نبينا المرسل ذو الخلق الحسن ... والمعجز المفحم أرباب اللسن )
( محمد المرفوع قدره على ... سائر خلق الله جل وعلا )
( صلى عليه ربنا وسلما أزكى صلاة ننتحيها معلما مع آله وصحبه ومن روى ... آثاره عن صحة وما غوى )
( وبعد فالعلم عظيم القدر ... وليس من يدري كمن لا يدري )
( ولم تزل همة أهل المجد ... منوطة بنيل علم مجدي )
( ومنه علم السنة ... الشريفة لأنه ظلاله وريفه )
( فمن درى الأخبار والشمائل ... لم يك عن صوب الهدى بمائل )
( وكم سميدع لأجله رفض ... أوطانه وثوب ترحال نفض )
( وكيف لا وهو أجل ما طلب ... موفق يروم حسن المنقلب )
( لأنه وسيلة السعادة ... والعز في الإبداء والإعادة )
( وإنني لما انتحيت المشرقا ... ميمما بدر اهتداء مشرقا )
( ألقيت في مصر عصا التسيار ... بعد بلوغي أشرف الديار )
( وبعد ذا جئت دمشق الشام ... مسكن من يزدان باحتشام )
( فشاهدت عيناي فيها ما ملا ... قلبي سرورا إذ بلغت المأملا )
( مدينة فياضة الأنهار ... فضفاضة الأثواب بالأزهار )
( أرجاؤها زاكية العبير ... ومدحها يجل عن تعبير )
( وجل أهليها بحبي دانوا ... مع أن مثلي منهم يزدان )
( فلاحظوا بالأعين الكليلة ... عبدا غدا تقصيره دليله )
( وقابلوا عيبي بما اقتضاه ... فضل لهم رب الورى ارتضاه )
( خصوصا المولى الكبير المعتبر ... قرة عين من رآه واختبر )

( مفتي الورى في مذهب النعمان ... بها الوجيه عابد الرحمن )
( ابن عماد الدين من تعيي القلم ... أوصافه اللاتي كنور في علم )
( حاوي طراف المجد والتلاد ... نال المنى في النفس والأولاد )
( وكنت في مكة قد أبصرت ... منه علا عن مدحه قصرت )
( جلالة ومحتدا وعلما ... ورفعة وسوددا وحلما )
( مع التواضع الذي قد زانه ... حسن اعتقاد مثقل ميزانه )
( فحث من في الشام من أخيار ... لم يسلكوا مناهج الأغيار )
( أن يأخذوا بعض الفنون عني ... بما اقتضاه منه حسن الظن )
( مع أنني والله لست أهلا ... لذاك والتصدير ليس سهلا )
( وكان من جملتهم أبناؤه ... عماد دين قد علا بناؤه )
( وصنوه الشهاب من توقدا ... فهما وإبراهيم سباق المدى )
( وهو الذي قد ابتغى الإجازة ... لهم بوعد طالبا إنجازه )
( وكتب القصيدة الطنانة ... في ذاك لي مهتصرا أفنانه )
( وإنهم كحلقة قد أفرغت ... دامت لهم آلاء فيض سوغت )
( فلم أجد بدا من الإجابة ... مع كون جهلي سادلا حجاجه )
( فقد أجزتهم بما رويته ... طرا وما ارتجلت أو رويته )
( وكل ما صنفت في الفنون ... مؤمل التحقيق للظنون )
( وما أخذت عن شيوخ المغرب ... وغيرهم من كل حبر مغرب )
( ولي أسانيد يطول شرحها ... شيد على تقوى الإله صرحها )
( ولو سردت كل مروياتي ... هنا لطال القول في الأبيات )
( وكل طول غالبا مملول ... وحد من يعنى به مفلول )
( فلنقتصر إذن على القليل ... تبركا بالمطلب الجليل )
( وقد أخذت جامع البخاري ... عن عمي الحائز للفخار )
( المقرى سعيد الإمام عن ... محمد يدعى خروفا حين عن )

( التونسي الطيب الأنفاس ... نزيل حضرة الملوك فاس )
( عن الكمال القادري المرتضى ... عن الحجازي عن الحبر الرضا )
( نجل أبي المجد عن الحجاري ... عن الزبيدي بنقل جاري )
( عن مسند الإسلام عبد الأول ... عن الشهير الداودي المعتلي )
( عن السرخسي عن الفربري ... عن البخاري الإمام الحبر )
( وفضله أظهر من أن يذكر ... وعلمه المعروف غير المنكر )
( ومسلم به إلى الكمال ... عن علم الدين أخي الجلال )
( منسوب بلقين عن التنوخي ... عن ابن حمزة عن الشيوخ )
( كابن المقير عن ابن ناصر ... عن ابن مندة وهو القاصر )
( عن جوزقي قد روى عن مكي ... عن مسلم نافي دياجي الشك )
( فليخبروا عني بذا والباقي ... من ستة حائزة السباق )
( كذا موطأ الإمام مالك ... إمامنا منير كل حالك )
( ومسند الفذ الرضا ابن حنبل ... والدارمي ذي الثناء الأجمل )
( والطبراني وما أرويه ... من المعاجيم بما تحويه )
( وكلها تشمله الإجازة ... بشرطها عند الذي أجاده )
( فلتقبلوه فهي من جهد المقل ... إذ لست بالمطلوب مني أستقل )
( ومن أسانيدي عن القصار ... مفتي الأنام بهجة الأعصار )
( عن شيخه خروف الراقي الدرج ... عن الشريف الطحطحائي فرج )
( قال سمعت المصطفى في النوم ... صلى عليه الله كل يوم )
( يقول من أصبح يعني آمنا ... في سربه الحديث فاعرف كامنا )
( ولنمسك العنان في هذا الأرب ... مصليا على الذي زان العرب )

( وآله وصحبه الأعلام ... ومن تلا من أنجم الإسلام )
( وخط هذا المقري العاصي ... أجير يوم الأخذ بالنواصي )
( سنة سبع وثلاثين تلت ... ألفا لهجرة بياسين علت )
( عليه أزكى صلوات تستتم ... ترجو بها الزلفى وحسن المختتم )
ونص الاستدعاء المشار إليه هو
( فازت دمشق الشام بالمقري ... الألمعي اللوذعي العبقري )
( علامة العصر بلا مفتري ... وواحد الدهر بلا ممتري )
( كم سمعت أخبار أوصافه ... فقصر المخبر عن منظر )
( جامع علم بث إملاءه ... بالشام ملء الجامع الأكبر )
( يقري فتقري السمع أنفاسه ... أنفس ما يقرى وما قد قري )
( مولاي يا من در ألفاظه ... صحاحها تزري على الجوهري )
( إجازة نرفل من فضلها ... في ثوب عز وردا مفخر )
( مسبلة الذيل على أكبر ... وأوسط الإخوة والأصغر )
( أطل لنا إنشاءها بل أطب ... وانظم لنا من درها وانثر )
( لا زلت في نفع الورى دائبا ... تجود جود العارض الممطر )
العبد الداعي إبراهيم العمادي انتهى
ومن الإجازات التي قلتها بدمشق الشام ما كتبته للأديب الحسيب سيدي يحيى المحاسني حفظه الله تعالى
( أحمد من زين بالمحاسن ... دمشق ذات الماء غير الآسن )

( وأطلع النجوم من أعيان ... بأفقها السامي مدى الأحيان )
( فكل أيامهم مواسم ... من الصفا ثغورها بواسم )
( وذكرهم قد شاع بين الأحيا ... إذ قطرهم به الكمال يحيا )
( وبشرهم حديثه لا ينكر ... ومسند الجامع عنهم يذكر )
( وقد حكت جوارح الذي ارتحل ... إليهم صحيح ما له انتخل )
( فسمعه عن جابر والعين عن ... قرة تروي واللسان عن حسن )
( فحل من أتاحهم آلاءه ... حتى أبان نورهم لألاءه )
( نحمده سبحانه أن اسدى ... من الأمان ما أنال القصدا )
( وننتحي صوب صلاة باهره ... إلى الرسول ذي السجايا الطاهره )
( أجل من خاف الإله واتقى ... محمد الهادي الرسول المنتقى )
( صلى عليه الله طول الأبد ... مع آله وصحبه والمقتدي )
( وبعد فالعلم أساس الخير ... وكيف لا وهو مزيح الضير )
( وهو موصل إلى منهاج ... هدى ورشد ما له من هاجي )
( وما بغير العلم يبدو العلم ... وليس من يدري كمن لا يعلم )
( خصوصا الحديث عن خير البشر ... فإن فضله على الكل انتشر )
( ولم يزل يعنى به كل زمن ... من الرواة كل صدر مؤتمن )
( وإنني عند دخول الشام ... لقيت من بها من الأعلام )
( وشاهدت عيناي من إنصافهم ... ما حقق المحكي عن أوصافهم )
( وإن من جملتهم أوج الذكا ... والنير المزري سناه بذكا )
( ابن المحاسن الذي قد طابقا ... منه مسمى الاسم إذ تسابقا )
( اللوذعي الألمعي يحيى ... لا زال رسم المجد منه يحيا )
( وهو الذي أغراه حسن الظن ... على انتمائه لأخذ عني )
( وكان قارئ الحديث النبوي ... لدي في الجامع أعني الأموي )
( بمحضر الجمع الغزير الوافر ... ممن وجوه فضلهم سوافر )

( وبعد ذاك استمطر الإجازة ... من نوء وعدي واقتضى انتجازه )
( فلم أجد بدا من الإجابة ... مع أنني لست بذي النجابة )
( وإن أكن أجبت أمرا يمتثل ... منه ففي ذلك تصديق المثل )
( فيمن درى شيئا وغابت أشيا ... عنه ومن أهدى بصنعا وشيا )
( فليرو عني كل ما يصح لي ... بشرطه الذي يزين كالحلي )
( وقد أخذت جامع البخاري ... عن عمي الإمام ذي الفخار )
( سعيد الذي نأى عن دنس ... عن شيخه الحبر الشهير التنسي )
( أعنى أبا عبد الإله وهو عن ... والده محمد راوي السنن )
( عن ابن مرزوق محمد الرضا ... عن جده الخطيب عن بدر أضا )
( الفارقي عن إمام يدعى ... بابن عساكر الجميل المسعى )
( بما له من الروايات التي ... على علو قدره قد دلت )
( وليرو عني ما انتمى للنووي ... بذا إلى السابق ذي النهج السوي )
( أعني ابن مرزوق الخطيب الراوي ... عن شيخه يحيى الرضي المغراوي )
( وهو روى عن صاحب التمكين ... النووي الشيخ محيي الدين )
( وخط هذا أحمد البادي الوجل ... المقري المالكي الذي ارتجل )
( في عام ألف وثلاثين خلت ... من هجرة الهادي وسبعة تلت )
( ألبسه الله البرود الصافية ... من منه وعفوه والعافية )
( بجاه سيد البرايا طرا ... ملجأ من إلى الكروب اضطرا )
( عليه أسنى صلوات تسدي ... حسن الختام ببلوغ القصد )
وسأل مني بعض ساكني دمشق المحروسة أن أقرظ له على شرحه

لرسالة العارف بالله تعالى سيدي الشيخ أرسلان فكتبت ما صورته
( أحمد من خصص بالأسرار ... قدما من الصوفية الأبرار )
( أتاحهم عوارف المعارف ... والحكم السابغة المطارف )
( فهم بهم تستمطر الأنواء ... وتظهر الأنوار والأضواء )
( ومن أجلهم سناء وسنى ... من ذاد عن عين المعالي الوسنا )
( شيخ الشيوخ العارف الكبير ... الشيخ أرسلان الشهير )
( فكم إشارات له أبانا ... بها علوما من حلاها ازدانا )
( وكم عبارات تلا آياتها ... تعيا الفحول عن مدى غاياتها )
( ومن رأى رسالة التوحيد ... له انتحى مناهج التسديد )
( فهي تنادي من أبي أن يسلكا ... يا معرضا شرك خفي كلكا )
( ومن أضل القصد في مهامه ... هدته للخروج عن أوهامه )
( وكم بها من باب معنى مغلق ... عمن يقيد الوجود المطلق )
( فما بغير الفتح يدرى الباطن ... ووارد الفيض له مواطن )
( وقد رأيت في دمشق الشام ... شرحا لها أنبأ عن إلهام )
( للكلشني ذي الوفا بالوعد ... شمس العلا محمد بن سعد )
( لا زال في أوج التجلي صاعدا ... وعون ربنا له مساعدا )
( ومذ أجلت ناظري في حسنه ... ألفيته مستبدعا في فنه )
( ودل ما أبداه من معاني ... على شهود بالهدى معاني )
( لأنه أجاد في تقرير ... ما اعتاص بالإتقان والتحرير )
( وأبرز الأبكار من خدور ... أفكاره حالية الصدور )
( فالله يجزيه الجزاء الأوفى ... في يوم تبدي الأنبياء الخوفا )
( وخط هذا المقري من وجل ... مرتجيا من ربه عز و جل )
( كشف كروب عقد صبر حلت ... منه وغفران ذنوب جلت )

( بجاه طه الهاشمي أحمدا ... عليه أزكى صلوات سرمدا )
( عاطرة النشر بلا اكتتام ... تأرجت بالمسك في الختام )
وخاطبني السري الحسيب الماجد فخر المدرسين الأعيان مولانا الشمس محمد بن الكبير الشهير مولانا يوسف بن كريم الدين الدمشقي حفظه الله تعالى بقوله
( شمس المحاسن شرقي أو غربي ... سعدت منازلنا بشمس المغرب )
( شمس لنا منها شموس فضائل ... وسنا هدى قد راح غير محجب )
( المقري العالم الندب الذي ... لسوى اسمه درج الحجى لم يكتب )
( بدر ولم تبد البدور بمشرق ... إلا بدت من قبل ذاك بمغرب )
( لسوى اكتساب سناه
( لم تغرب ذكا ... فلو انها شعرت به لم تغرب )
( علامة ملأ البلاد بفضله ... وأفاده لمشرق ومغرب )
( عمري هو البحر المحيط فضائلا ... إن قيس بالعذب الذي لم يعذب )
( مولى له سند قوي في العلا ... فعن الجدود روى العلا وعن الأب )
( نسب له المجد المؤثل في الورى ... والمجد لم يكسب إذا لم يوهب )
( هو في جبين الفضل أضحى غرة ... يجلى بها للجهل ظلمة غيهب )
( آمالنا قطعت ببشر جبينه ... أن لا ترى للدهر وجه مقطب )
( بدر به زهيت دمشق وأهلها ... أحبب ببدر حيث حل محبب )
( طود الفضائل باكرت أرجاءه ... ديم الحجى فغدا كروض مخصب )
( بحر الهدى والعلم إلا أنه ... صفو من الأكدار عذب المشرب )
( هو قطب دائرة الفضائل في الورى ... فيكاد يخبرنا بكل مغيب )

( في الفضل ما جاولت يوما مثله ... كلا ولا قست البدور بكوكب )
( أنى يجارى في الفضائل من له انقاد ... الزمان بأدهم وبأشهب )
( سنن لمدح الغير تسقط عندنا ... فله العلا تقضي بفرض أوجب )
( ما روضة حلى أزاهرها الحيا ... فافتر فيها كل ثغر أشنب )
( ومشت بها خود الصبا فتعطرت ... أذيالها من كل عرف طيب )
( للنور فيها جدول أخذت به ... شهب المجرة حيرة المتعجب )
( باتت تناشدني بها ذكر الهوى ... ورق الأراك بكل صوت مطرب )
( تشكو إلي بمثل ما أشكو لها ... شكوى المعذب في الهوى لمعذب )
( فعلمت ما قد حل من وجد بها ... وجهلن وهو الفرق ما قد حل بي )
( لم تلق فيها من عليل يشتكي ... إلا النسيم وذا الهوى إن تطلب )
( بأغض حسنا من ربى آداب من ... حيا رياض حجاه ألطف صيب )
( طبع أرق من النسيم ومنطق ... مستعذب وكذاك كل مهذب )
( لو جاد صوب حجاه قفرا مجدبا ... لنعمت منه بكل روض معشب )
( مولاي عذرا فالزمان يعوقني ... عن مطلبي والآن مدحك مطلبي )
( عفوا إذا أخرت مدحك سيدي ... فعوائق الأيام عذر المذنب )
( وكذاك يفعل بالأديب زمانه ... فلذا يطول على الزمان تعتبي )
( لم ألق يوما من يديه مهربا ... إلا ثناك وحبذا من مهرب )
( لولاك ما جال القريض بخاطري ... فالدهر يوجب للقريض تجنبي )
( لولاك لم ينهض جواد قريحتي ... في كل واد للضلالة متعب )
( فاسمع ولست بآمر نظما غدا ... في عقد مدحك لؤلؤا لم يثقب )
( كالراح يلعب بالعقول للطفه ... لكن بغير مسامع لم يشرب )
( من كل قافية غدت من حسنها ... مثلا لغيرك في العلا لم يضرب )
( خود تقلد من ثناك قلائدا ... بكر لغيرك في الورى لم تخطب )
( غنيت بمدحك زينة ولربما ... يغني الجمال عن الوشاح المذهب )

( هي بعض أوصاف لذاتك قد غدت ... كالبحر عذبا ماؤه لم ينضب )
( جاءتك تسألك القبول وحسبها ... فخرا قبولك وهو جل المطلب )
( وتروم منك إجازة فاقت بما ... ترويه بالسند القوي عن النبي )
( حسبي الإجازة منك جائزة ولم ... أك قبل غير الفضل بالمتطلب )
( لا بدع والإطناب إيجازا غدا ... في مدحه إن لم أطل أو أسهب )
( هيهات لا تحصى مآثر فضله ... بالمدح إن أطنب وإن لم أطنب )
خدمة الداعي محمد بن يوسف الكريمي انتهى
فأجزته بما نصه
( أحمد من أطلع شمس الدين ... في أفق الرواية المبين )
( وخص فضلا منه بالإسناد ... أمة طه مذهب العناد )
( فلم يكن عصر من الأعصار ... إلا وفيه أهل الاستبصار )
( ينفون عن حوزة دين الله ما ... يروم من عليه رشد أبهما )
( وأنتحي سبل صلاة كاملة ... على الذي له العطايا الشامله )
( محمد المرسل بالشرع الحسن ... ذي المعجز المفحم أرباب اللسن )
( مع حزبه من صحبه وعترته ... ومن تلا مؤملا لأثرته )
( وبعد فالعلم أجل ما اعتمد موفق من فيض مولاه استمد )
( خصوصا الحديث عن خير الورى ... صلى عليه الله ما زند ورى )
( ولم يزل ذوو النهى يسعون في ... تحصيله إذ فضله غير خفي )
( وإن مولانا الشهير السامي ... الماجد المولى نبيه الشام )
( سالك نهج السنة القويم ... محمد بن يوسف الكريمي )
( لا زال في عز وفي أمان ... )
( مبلغا من قصده الأماني ... )
( وجه لي لما حللت الشاما ... وبرق حسن الظن مني شاما )
( قصيدة بليغة مستعذبه ... غريبة في فنها مهذبه )

( يسأل من مثلي بها الإجازه ... بشرطها عند الذي أجازه )
( مستمسكا بعروة الصواب ... ولم أجد بدا من الجواب )
( فليرو عني ما سمعت كله ... وما جمعت في الفنون جمله )
( على شروط قررت في الفن ... مرتجيا حصول كل من )
( وصنوه الأكمل قد أبحته ... ذاك على الوجه الذي شرحته )
( وإن أكن فيما ابتغى مقصرا ... فذو الرضى ليس لعيب مبصرا )
( ولي أسانيد أبى وقتي عن ... تفصيلها لما من الرحلة عن )
( والعذر باد والكريم يقبل ... والصفح نهج يقتفيه الأنبل )
( وخط هذا المقري الجاني ... أمنه الله من الأشجان )
( في عام ألف وثلاثين قفا ... سبعا لهجرة النبي المصطفى )
( عليه أزكى صلوات تغتنم ... يزكو بها مبتدأ ومختتم )
وكتب إلي الفاضل الخطيب الفهامة الأديب وارث الفضل عن الأعلام ذوي اللسن سيدي الشمس محمد المحاسني سبط شيخ الإسلام مولانا البوريني حسن حفظه الله تعالى
( يا سيدي وملاذي ... وعالم الثقلين )
( ومن غدا بمكان ... علا على النيرين )
( أجزت بالدرس قوما ... فاقوا به الفرقدين )
( فزين العبد أيضا ... من مثل ذاك بزين )
( وإن لم يكن في ختام ... فذاك قرة عيني )

فأجزته بما نصه
( أحمد من أطلع من محاسن ... دمشق ما أربى على المحاسن )
( وزانها بالجلة الأعيان ... الرافلين في حلى التبيان )
( الراغبين في الحديث النبوي ... السالكين في الهدى النهج السوي )
( وبعد فالعلم أجل زينه ... وسبله في الرشد مستبينه )
( وإن علم السنة الشريفه ... ظلاله ضافية وريفه )
( لذاك كان باعتناء أجدرا ... من كل ما يمليه من تصدرا )
( وإن ذا الفضل الأديب البارع ... سابق ميدان الذكا المسارع )
( الماجد المسدد السامي الحسب ... محمد من للمحاسن انتسب )
( ابن الشهير الصدر تاج الدين ... لا زال في عز وفي تمكين )
( وجده لأمه الشيخ الحسن ... وذاك بورينيهم معطى اللسن )
( يسألني إجازة بكل ما ... أرويه عنوانا بحالي معلما )
( وها أنا أجبته غير بطل ... مستغفرا من خطإ ومن خطل )
( فليرو عني كل ما يصح ... على شروط غيثها يسح )
( وهي عن الشروط لن تريما ... وليس يخفي علمه الكريما )
( وكل ما ألفت أو جمعت ... نظما ونثرا مثل ما أسمعت )
( ولي أسانيد يضيق الوقت ... عن سردها وبعضها قد سقت )
( في غير هذا فليحقق ذلك ... مقتفيا لأوضح المسالك )
( وقد أخذت جامع البخاري ... ومسلم عن حائز الفخار )
( عمي سعيد وهو عمن يدعى ... بالتنسي قد أفاد الجمعا )
( عن حافظ الغرب الرضى أبيه ... عن ابن مرزوق عن النبيه )
( الحافظ المبجل العراقي ... وقد سما في سلم المراقي )
( وما له من الروايات علم ... من كتبه التي حوت خير الكلم )

( وخط هذا المقري عن عجل ... مؤملا من ربه عز و جل )
( غفران ما جنى من الذنوب ... والصفح عن معرة العيوب )
( بجاه خير العالمين أحمدا ... صلى عليه الله دأبا سرمدا )
( وآله وصحبه الأخيار ... ومن تلا لآخر الأعصار ) ولما سألني في الإجازة الفاضل الأديب سيدي محمد بن علي بن مولانا عالم الشام الشهير الذكر شيخ الإسلام سيدي ومولاي الشيخ عمر القاري - حفظه الله تعالى ! - وأنا مستوفز للسفر كتبت له عن عجل ما صورته
( أحمد من زين بالآثار ... جيدا من الراوي النبيه القاري )
( وشاد للعلياء في أوج السند ... منازلا لم يبلها طول الأمد )
( وميز الواعين للحديث ... بالفضل في القديم والحديث )
( وزان منهم سماء الدين ... فأشرقت بالحفظ والتبيين )
( فهم بها للمهتدي نجوم ... وإنها للمعتدي رجوم )
( فكم أزاحوا عن حديث المجتبى ... صلى عليه الله ما هبت صبا )
( تحريف ذي غل مضل غالي ... شان لمنهاج الرشاد قالي )
( وبعد فالإسناد للروايه ... وسيلة تزحزح الغوايه )
( والله قد خصص هذي الأمه ... به امتنانا وأزاح الغمه )
( هذا ولولا ذاك قال من شا ... ما شاءه فهو بحق منشا )
( فلم يزل أهل النهى كل زمن ... يسعون في تحصيله عن مؤتمن )

( وإن من جملة من تحرى ... ومن بسبق للعلوم غرا )
( الفاضل المسدد النجيب ... الواصل الممجد الأريب )
( محمد سليل ذي المجد علي ... ابن الإمام العالم الحبر الولي )
( عمرالشيخ الشهير القاري ... طود السكون هضبة الوقار )
( شيخ الشيوخ في دمشق الشام ... لا زال محفوفا بعز سامي )
( فكان من جملة من عني روى ... بعض الصحيح ظافرا بما نوى )
( وبعد ذاك اقترح الإجازة ... مني ووعدها اقتضى إنجازه )
( فانعجمت نفسي عن الإجابة ... إذ لست في ذا الأمر ذا نجابه )
( مع أنني مقصر ذو عي ... في مثل هذا المطلب المرعي )
( وخفت أن آتيها شنعاء بحملي الوشي إلى صنعاء )
( وبعد ذا أجزت قصد الأجر ... مرتجيا بذاك ربح التجر )
( وقد أجبته وإني أعلم ... أني من خوف الخطا لا أسلم )
( فليروها ببالغ التمني ... جميع ما يصح لي وعني )
( من ذلك الجامع للبخاري ... عن عمي الشهير ذي الفخار )
( سعيد الآخذ عن سفين ... عن قلقشندي مزيح المين )
( عن حافظ الإسلام أعني ابن حجر ... بما له من الروايات اشتهر )
( وبعضها في صدر فتح الباري ... مبين لطالب الأخبار )
( ولي أسانيد يطول شرحها ... والروضة الغناء يكفي نفحها )
( ومن رواياتي عن القصار ... مفتي البرايا بهجة الأعصار )
( حدثنا خروف الذاكي الأرج ... عن الشريف الطحطحائي فرج )
( سمعت في المنام طه يملي ... حديث من أصبح وفق النقل )
( أي آمنا في سربه معافى ... في جسمه مع قوت يوم وافى )

( وكل ما ألفت في الفنون ... أرجو به التحقيق للظنون )
( فليروه عني بشرط معتبر ... وربما يصدق الخبر الخبر )
( ولي تآليف على العشرينا ... زادت ثمانيا حوت تعنينا )
( فليروها إن شا بلا استثناء ... والله أرجو نيل قصد نائي )
( بجاه من شرف بالإدناء ... صلى عليه الله في الآناء )
( أحمد خير المرسلين الهادي ... غوث البرايا ملجإ الأشهاد )
( عليه أسنى صلوات زاكيه ... مع صحبه ذوي المزايا الزاكيه )
( ومن تلا ممن أطاب عمله ... فنال من رجائه ما أمله )
( وشم من عرف قبول أرجا ... فنال من حسن الختام ما رجا )
وخاطبني من أهلها أيضا خادم الشيخ الأكبر ابن عربي محيي الدين وهو الشيخ الأكرمي سيدي إبراهيم سلك الله بي وبه سبل المهتدين بقوله
( فكرت في فضل الإمام ... المقري الحبر حينا )
( فوجدته بكر الزمان ... وواحد الدنيا يقينا )
( ما إن رأيت ولا سمعت ... بمثله في العالمينا )
( وافى دمشقا زائرا ... لو أنه اضحى قطينا )
( وأتى عجيب الاتفاق ... بفطر شهر الصائمينا )
( فكأن غرته الهلال ... ونحن كنا ناذرينا )
( والعلم قال مؤرخا ... أدى بها فضلا مبينا )
وخاطبني أيضا منهم الفقيه النبيه سيدي مصطفى بن محب الدين حفظه الله

تعالى بقوله
( فضائل قطب الغرب في العلم والفضل ... هو المقري الأصل حائزة الخصل )
( حوى كل علم كل عن بعضه السوى ... فلا غرو أن أضحى فريدا بلا مثل )
( وحاز فنونا من ضروب معارف ... ومن فضل تحقيق ومن منطق فصل )
( توخى دمشق الشام فافتر ثغرها ... سرورا به وازينت من حلى الفضل )
( وشرف مصرا قبلها فاكتست به ... ملابس فخر زانها كرم الأصل )
( لقد أشرقت من أفق غرب شموسه ... وناهيك أفقا نوره قدره معلي )
( نفاسته فيها تنافست الورى ... بما قد غدا من در ألفاظه يملي )
( ملي من التحقيق إن عن مشكل ... تكفل بالتبيان والشرح والحل )
( إذا ما أدار الدر من كأس لفظه ... سقانا عقار الفضل علا على نهل )
( نظام له يحكي قلائد عسجد ... وثغر مليح فائق الحسن والدل )
( وأسجاعه إن حاك وشي نسيجها ... حكت حبرا حيكت نمارق من غزل )
( له القلم الأعلى بشرق ومغرب ... له الموضع الأسمى على الكل في الكل )
( فيا سيدا حاز المفاخر والعلا ... وفاقت حلى الآداب منه على الحلي )
( إليك من العبد الحقير تحية ... لقد نشأت عن خالص الود من خل )
( موال يوالي الحب والقرب منكم ... بظاهر غيب لا يحيد عن الوصل )
( فلا زلت محبوا بسابغ نعمة ... وفضل نعيم وافر وارف الظل )
( ودمت لدى الأسفار في نجح أوبة ... وجمع لشمل بالمواطن والأهل )
وخاطبني أيضا الشيخ سيدي محمد بن سعد الكلشني بقوله
( شهر شعبان جاءنا ليهنا ... بقدوم الأستاذ كنز الفضائل )

( بهجة الكون روض علم وحلم ... وهو مغني اللبيب إن جاء سائل )
( بمصابيح فضله قد أضاءت ... ساحة الجامع الكبير لآمل )
( وبمختار لفظه صار يحوي ... لحديث مسلسل عن أفاضل )
( ومن الغرب حين وافى لشرق ... فاق بدر التمام وسط المنازل )
( حل مني في القلب والطرف لما ... لاح سعد السعود لي غير آفل )
( وغدا بالأمان والسعد أرخ ... أحمد المقري بالشام قائل )
وقال أيضا شكرا لله تعالى نيته وبلغه أمنيته
( أتاك دمشق الشام أكرم وارد ... فقري به عينا وللحسن شاهدي )
( وهزي دلالا في أزاهر روضه ... معاطف لين كالغصون الأمالد )
( لك البشر يا عيني ظفرت بأمجد ... رفيع الذرى من فوق فرق الفراقد )
( لقد شاع بين الناس واسع فضله ... فكم قاصد يسعى لنيل الفوائد )
( من العالم الفرد المفيد الذي له ... أياد سمت بالجود تولى لقاصد )
( وذاك أبو العباس أحمد من صفت ... مناهله دوما إلى كل وارد )
( تراه إذا وافيته متهللا ... ويبسم حبا في وجوه الأماجد )
( إمام سما قدرا على النجم رفعة ... أرى وصفه في بيت نظم مشاهد )
( لديه ارتفاع المشتري وسعوده ... وسطوة بهرام وظرف عطارد )
( شهدت بأن الله أولاه منحة ... بنقل حديث في جميع المساجد )
( ومذ حل في وادي دمشق ركابه ... وسؤدده وافى بأعدل شاهد )
( حوى كل إفضال وكل فضيلة ... بها يهتدى حقا لنيل المقاصد )
( وماذا عسى في مدحه أنا قائل ... ولو جئت فيه مطنبا بالقصائد )
( إذا رمت أن تلقى نظيرا لمثله ... عجزت ورب الناس عن عد واحد )
( فكم من معان حازها ببيانه ... وفكرته قد قيدت للشوارد )
( ومنطقه حاوي الشفا بجواهر ... صحاح بها يزدان عقد القلائد )

( من الغرب وافى نحو شرق فأشرقت ... شموس علوم أسفرت عن محامد )
( فناديته يا سيدي من فضله ... تواترت الأخبار عن غير واحد )
( عسى عطفة منكم علي بنظرة ... فأنت لموصول الجدا خير عائد )
( وأنت على ريب الزمان مساعدي ... وأنت يميني للحسود وساعدي )
( فلا زلت تولي كل من هو آمل ... لبغيته من صادر ثم وارد )
( وتبقى مدى الأيام في المجد رافلا ... بثوب الهنا تكفى شرور الحواسد )
( وهاك عروسا تجتلي في حليها ... إليك أتت في زي عذراء ناهد )
( تهني بعيد الفطر من بعد صومكم ... بخير جزيل من لذيذ الموائد )
( وترجو جميل الستر إن هي مثلت ... بحضرتك العلياء يا خير ماجد )
( وعش في أمان الله بالعز دائما ... مدى الدهر ماسح الحيا في الفدافد )
- ( وما دارت الأفلاك من نحو ... قطبها وما بزغت شمس الضحى للمشاهد )
وقال أيضا زاده الله تعالى من فضله
( ظبي بوسط الفؤاد قائل ... أعجز بالوصف كل قائل )
( ظبي بأجفانه سباني ... وسحرها ينتمي لبابل )
( يرمي بسهم اللحاظ لما ... يرنو فيصمي الفؤاد عاجل )
( قد فتن العقل مذ تجنى ... علي حتى غدوت ذاهل )
( له قوام كخوط ... بان أو كالقنا السمهري عادل )
( بدر بدا كامل المعاني ... في القلب والطرف عاد نازل )
( قد أسر القلب في هواه ... بقيد حسن وفرع سابل )
( وما بقي منه لي خلاص ... سوى مديحي رضى الأفاضل )
( أعني به المقري من قد ... سما على البدر في المنازل )
( أحمد مولى له أياد ... كالغيث يغني لكل سائل )
( علامة حاز كل فضل ... سبقا ومن بالعلوم عامل )

( من قد نشا في العلوم طرا ... وحاز علم البيان كامل )
( طويل باع بسيط فضل ... مديد جود لكل آمل )
( ووافر العقل راح يهدي ... سريع فضل لكل فاضل )
( وجامع العلم في ابتهاج ... بمنطق في الأصول حافل )
( وهكذا في الكلام مهما ... أفاده في الدروس شامل )
( يروي صحيح الحديث دأبا ... بالسند الواصل الدلائل )
( وكم علوم أفاد من قد ... أتاه في مشكل المسائل )
( وحل إبهام كل شكل ... من فن وفق إلى الوسائل )
( وغاص في لجة المعاني ... واستخرج الدر في المحافل )
( وفي فنون البديع أضحى ... جناسه قد حوى رسائل )
( وكم دليل أقام لما ... برهانه أبهت المعازل )
( إن كان وافى لنا أخيرا ... فهو الذي فاخر الأوائل )
( بحر محيط يفيض منه ... على رياض بكل ساحل )
( وافى من المغرب نحو شرق ... يجوب من فوق متن بازل )
( في مهمه صحصح مهول ... وحزنه كم به غوائل )
( وحث فيه المسير حتى ... خلفه من وراء كاهل )
( وجاء باليمن في أمان ... وصحة الجسم والشمائل )
( وحل في الشام عند قوم ... من أكرم الناس في القبائل )
( ذاك ابن شاهين ذو المعالي ... رب الندى للألوف باذل )
( كأنه الشمس جاء يهدي ... للبدر نورا وليس آفل )
( بل كان غيثا لهم وكانوا ... روضا أريضا لشكر وابل )
( فبجلوه وعظموه ... وادخروا عاجلا لآجل )

( جزاهم الله كل خير ... وصانهم من جدال جاهل )
( وأحمد دام في أمان ... المقري الرضا المعامل )
( لربه في دجى الليالي ... ويرشد الناس في الأصائل )
( لا زال في نعمة وخير ... وفي أمان يعود عاجل )
وخاطبني الأديب الفاضل الشيخ أبو بكر العمري شيخ الأدباء بدمشق حفظه الله تعالى بقوله
( تاهت تلمسان على مدن الدنى ... بعالم في العالمين يحمد )
( المقري أحمد رب الحجى ... الكامل البحر الخضم المزبد )
( مالك هذا العصر شافعيه ... أحمده نعمانه المسدد )
( مذ حل مصر أذعنت أعلامها ... لفضله وبجلوا ومجدوا )
( وفي دمشق الشام دام سعدها ... كان له بها المقام الأسعد )
( العلماء أجمعوا جميعهم ... على معاليه التي لا تجحد )
( أقام شهرا أو يزيد وانثنى ... وفي الحشا منه المقيم المقعد )
( سالت على فراقه دموعنا ... وفي القلوب زفرة لا تخمد )
( لو قيل من يحمد في تاريخه ... ما قلت إلا المقري أحمد )
( لا برحت أوقاته مفيدة ... ما صاح فوق عوده مغرد )
قلت وذكري لكلام أعيان دمشق - حفظهم الله تعالى - ومديحهم لي ليس علم الله لاعتقادي في نفسي فضلا بل أتيت به دلالة على فضلهم الباهر حيث عاملوا مثلي من القاصرين بهذه المعاملة وكسوه حلل تلك المجاملة

مع كوني لست في الحقيقة له بأهل لما أنا عليه من الخطأ والخطل والجهل ولقد خاطبت من مصر مفتي الشام صدر الأكابر وارث المجد كابرا عن كابر ساحب أذيال الكمال صاحب الخلال المبلغة الآمال مولانا شيخ الإسلام الشيخ عبد الرحمن العمادي الحنفي بكتاب لم يحضرني منه الآن غير بيتين في أوله وهما
( يا حادي الأظغان نحو الشآم ... بلغ تحياتي لتلك الخيام )
( وابدأ بمفتيها العمادي الرضى ... دام به شمل الهنا في التئام )
فأجابني بما نصه
( إلى أهالي مصر أهدي السلام ... مبتدئا بالمقري الهمام )
( من ضاع نشر العلم من عرفه ... ولم يضع منه الوفا للذمام ) أهدي تحف التحية إلى حضرته العلية وذاته ذات الفضائل السنية الأحمدية التي من صحبها لم يزل موصولا بطرائف الصلات والعوائد الأوحدية الجامعة التي لها منها عليها شواهد
( وليس لله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد )
فيا من جذب قلوب أهل عصره إلى مصره وأعجز عن وصف فضله كل بليغ ولو وصل إلى النثرة بنثره أو إلى الشعرى بشعره ومن زرع حب حبه في القلوب فاستوى على سوقه وكاد كل قلب يذوب بعد بعده من

حر شوقه وظهرت شمس فضله من الجانب الغربي فبهرت بالشروق وأصبح كل صب وهو إلى بهجتها مشوق زار الشام ثم ما سلم حتى ودع بعد أن فرع بروضها أفنان الفنون فأبدع وأسهم لكل من أهلها نصبيا من وداده فكان أوفرهم سهما هذا المحب الذي رفع بصحبته سمك عماده وعلق بمحبته شغاف فؤاده فإنه دنا من قلبه فتدلى وفاز من حبه بالسهم المعلى أدام الله تعالى لك البقا وأحسن لنا بك الملتقى ومن علينا منك بنعمة قرب اللقا آمين بمنه ويمنه هذا وقد وصل من ذلك الخل الوفي كتاب كريم هو اللطف الخفي بل هو من عزيز مصر القميص اليوسفي جاء به البشير ذو الفضل السني الخل الأعز الأجل التاج المحاسني مشتملا على عقود الجواهر بل النجوم الزواهر بل الآيات البواهر تكاد تقطر البلاغة من حواشيه ويشهد بالوصول إلى طرفها الأعلى لموشيه فليت شعري بأي لسان أثني على فصوله الحسان العالية الشأن الغالية الأثمان التي هي أنفس من قلائد العقيان وأبدع من مقامات بديع الزمان فطفقت أرتع من معانيها في أمتع رياض وأقطع بأن في منشئها اعتياضا لهذا العصر عن عياض
( ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها ... عقود مدح فلا أرضى لها كلمي ) ولا سيما فصل التعزية والتسلية المشتمل على عقد التخلية بل عقود التحلية لتلميذكم الولد إبراهيم فإنه كان له كرقية السليم بعد أن كاد يهيم فجاء ولله دره في أحسن المحال ووقع الموقع حتى كأن الولد نشط ببركته من عقال
( وإذا الشيء أتى في وقته ... زاد في العين جمالا لجمال ) ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! !

فجزاكم الله تعالى عنا أحسن الجزاء ثم أحسن لكم جميل العزاء فيمن ذكرتم من كريمتي الأصل والفرع وأبقى منكم ماكثا في الأرض من به للناس أ ' م النفع وأما من كان وليي وسميي ومنجدي الشهيد السعيد المرحوم الشيخ عبدالرحمن المرشدي فإنها وإن أصابت من ومنكم الأخوين فقد عمت الحرمين بل طمت الثقلين ولقد عد مصابه في الإسلام ثلمة وفقد به في حرم الله تعالى من كان يدعى للململة ولم يبق بعده إلا من يدعي إذا يحاس الحيس واستحق أن ينشد في حقه وإن لم يقس به قيس
( وما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما ) فالله تعالى يرفع درجاته في عليين ويبقي وجودكم للإسلام والمسلمين وتلامذتكم الأولاد يرجون من بركات أدعيتكم أعظم الأمداد ويهدون أكمل التحبة إلى حضرتكم العلية ونبلغكم دعاء صاحب السعادة أدام الله تعالى إسعادكم وإسعاده ونحن من صحبته الشهية في رياض فنون أديبة أبهاها لمعات محاضرة في ذكر شمائلكم الجملية تنور المجالس وأشهاها نسمات محاورة بنشر فضائلكم الجليلة تعطر المجالس وسلام جملة الأصحاب من أهل الشام وعامة الخواص والعام والدعاء على الدوام المخلص الداعي عبد
الرحمن العمادي مفتي الحنفية بدمشق المحمية ووردت علي مع المكتوب المذكور مكاتبات لجماعة من أعيان الشام حفظهم الله تعالى فمنها من الصديق الحميم الرافل في حلل المجد الصميم الخطيب الأديب سيدي الشيخ المحاسنى يحيى أسمى الله تعالى قدره في الدين والدنيا كتابان نص أولهما باسمه سبحانه

( لئن حكمت أيدي النوى و تعرضت ... عوارض بين بيننا وتفرق )
( فطرني إلى رؤياكم متشوف ... وقلبي إلى لقياكم متشوق )
يقبل الأرض الشريفة لا زالت مركزا لدائرة التهاني وقطبا لفلك تجري المجرة في حجرته على الدقائق والثواني ولا برحت ألسن البلاغة عن تمييز براعة يراعه حامي حماها معربة وبلابل الآداب على الأغصان في رياض فضله بمثاني الثناء صادحة وبألحان سجعها مطربة
( أرض بها فلك المعالي دائر ... والشمس تشرق والبدور تحوم )
( ولها من الزهر المنضد أنجم ... ولها على أفق السماء نجوم )
عمر الله تعالى بالمسرات محلها وعم بالخيرات من حلها ويبتديء بسلام يخبر عن صحيح وده السالم ومزيد غرام يؤكد حبه الذي هو للولاء حازم وينعت شوقا يحرك ما سكن صميم الضمير من صدق حب سلم جمعه من التكسير ويؤكد السلام بتوابع المدح والثناء ويعرب عن محبة مشيدة البناء وينهى أن السبب في تسطيرها والباعث على تحريرها أشواق أضرم نارها في الفؤاد ومحبة لو تجسمت لملأت البلاد وأقول
( شوقي لذاتك شوق لا أزال أرى ... أجده يا إمام العصر أقدمه )
( ولي فم كاد ذكر الشوق يحرقه ... لو كان من قال نار أحرقت فمه )
هذا وإن تفضل المولى بالسؤال عن حال هذا العبد فهو باق على ما تشهد الذات العلية من صدق المحبة ورق العبودية ولم يزل يزين أفق المجالس بذكركم ولا يقتطف عند المحاضرة إلا من زهركم ولم ينس حلاوة العيش في تلك الأوقات التي مضت في خدمتكم المحروسة بعناية الملك المتعال وليالي الأنس التي قيل فيها وكانت بالعراق لنا ليال

( واها لما من ليال هل تعود كما ... كانت وأي ليال عاد ماضيها )
( لم أنسها مذ نأت عني ببهجتها ... وأي أنس من الأيام ينسيها )
فنسأل الله تعالى أن يمن بالتلاق ويفصل مانعة الجمع بطي شقة الفراق إن ذلك على الله يسير وهو على جمعهم إذا يشاء قدير وبعد فالمعروض على مسامع سيدي الكريمة لا زالت من كل سوء سليمة أنه وصلنا مكتوبكم الكريم صحبة العم المحب القديم فحصل لهذا العبد به جبر عظيم وأنس جسيم كما شهد بذلك السميع العليم فعزمت على ترك الإجابة لعدم الإجادة ومتى تبلغ الألفاظ المذمومة ما بلغته الألفاظ المقرية وأين يصل صاحب الزمر كما قيل إلى الدقات الخليلية ولكنني خشيت من ترك الإجابة توهم نقض ما أبنيه من رق العبودية وصحة الوداد ومن انقطاع برق شيخي الذي هو لبيت شرفي العمدة والعماد فلزم من ذلك أن كتبت لجنابه الشريف الجواب وإن كان خطؤه أكثر من الصواب وأرسلته قبل ذلك بعشرة أيام ومكتوب هذا العبد صحبته مكتوبان أحدهما من محبكم شيخ الإسلام المفتي العمادي والآخر من محبكم أحمد أفندي الشاهيني وهما وبقية أكابر البلدة وأعيانها يبلغونكم السلام التام ولا تؤاخذونا في هذا المكتوب فإني كتبته عجلا ومن جنابكم خجلا دام خيركم على الدوام إلى قيام الساعة وساعة القيام وحرره يوم الاثنين 11 من جمادى الثانية سنة 1038 الفقير الداعي يحيى المحاسني انتهى
ونص الكتاب الثاني من المذكور أسماه الله باسمه سبحانه مخلصك الذي محض لك وداده ومحبك الذي أسلم لمحبتك قياده بل عبدك الذي لا يروم الخروج عن رقك وتلميذك الذي لم يزل مغترفا من فيض علومك معترفا بحقك من أسكنك لبه وأخلص لك حبه وأتخذك من بين الأنام ذخرا نافعا وكهفا مانعا ومولى رفيعا وشهابا ساطعا وتشبث بأسباب علومك

وتمسك يهدي إليك سلاما كأنما تعطر بمسك ثنائك وتمسك واكتسب من لطف طبعك الرقة واستعار من سنا وجهك حلة مستحقة وتحية لم يكن مناه إلا أن تكون بالمواجهة والمحاضرة والمشافهة على أن فؤاده لم يبرح لك سكنا وأحشاءه لك موطنا ويبدي دعوات يحقق الفضل أنها من القضايا المنتجة وأن أبواب القبول لها غير مرتجة مقبلا أياديك التي وكفت بوابل جودها وكفت المهم بنتائج سعودها وحاكت الوشي المرقوم وسلكت الدر المنظوم فهذا يرفل في حللها وهذا يتحلى بعقودها [ فهي التي تعنو الرياض لرقمها ... ويغار منها الدر في تنضيدها (
( ويحار أرباب البيان لنظمها ... فهم بحضرتها كبعض عبيدها )
متمسكا من ولائك بوثيق العرى متمسكا من ثنائك الذي لا يزال الكون منه معنبرا متشوقا للقائك الذي بالمهج يستام وبالنفوس يشتري متشوقا إلى ما يرد من أنبائك التي تسر خبرا وتحمد أثرا أعني بذلك المولى الذي أقام بفناء الفسطاط مخيما وانتجع حماه رائد الفضل ميمما وشدت لفضائله الرحال ووقفت عندها بل دونها فحول الرجال وطلعت شموس علومه في سماء القاهرة فاختفت نجوم فضلائها والأشعة باهرة
( هو الشمس علما والجميع كواكب ... ذا ظهرت لم يبد منهن كوكب )
فهو العالم الذي سرى ذكره في الآفاق مسير الصبا جاذب ذيلها النسيم الخفاق الذي أطلع شمس التحقيق من أفق بيانه وأظهر بدر التدقيق من تبيانه فلهذا عقدت عليه الخناصر بين علماء عصره وانعطفت إليه الأواصر من فضلاء مصره فلا يضاهيه في ذلك أحد في زمانه وينسق ما نسقه من دره ومرجانه فهو المعول عليه في مشكلات العلوم معقولها ومنقولها والمنطوق والمفهوم الذي لم تسمح بمثله الأزمان والعصور ولم يأت بنظيره تتابع الأعصار

والدهور من عجز لسان القلم عن التصريح باسمه الشريف في هذا الرقم لا زالت المدارس مشرقة بإلقائه فيها الدروس ولا برحت البقع عامرة بوجوده بعد الدروس ما سطرت آيات الأشواق في الصحائف والطروس وأرسلت من تلميذ إلى أستاذ بسبب نسبته إليه فحصل على المطلوب من شرف النفوس هذا والذي يبدي لحضرتكم وينهي لطلعتكم أن الراقم لهذه الصحيفة المشرفة ببعض أوصافكم اللطيفة المرسلة لساحة فضائلكم المنيفة هو تلميذكم من تشرف بدرسكم وافتخر بإجازتكم يبدي لكم تلهفه لنيران أشواقه التي التهبت وتأسفه على الأيام السالفة مذهبة في خدمتكم لا ذهبت وتوجعه لهذه الأزمان التي استرجعت بالبعد عنه من ذمته ما وهبت وتطلعه إلى ما يشنف به الأسماع من فضائله التي سلبت العقول وانتبهت فلم يزل يسأل الرواة عنها ليلتقط منها وقد تحقق أن فرائدها لا يلفي لها نظيرا ولا يدرك لها كنها وكيف لا ومنها يتعلم الفاضل اللبيب وإليها يفتقر السعيد ويتودد حبيب وعليها يعتمد ابن العميد ولم تنفك راقية في درج المزيد وعبد الحميد عبد الحميد وعلم شيخي محيط بصدق محبتي وإخلاصها وشدة حرصي على تحصيل فوائد مولانا واقتناصها وأنني لا أزال ذاكرا لمحاسنه التي ليست في غيره مجموعة ومتطفلا على ثمار أفكاره التي هي لا مقطوعة ولا ممنوعة وخاطره الشريف على الحقيقة يشهد بذلك فلا يحتاج هذا العبد إلى بينة لدى مولانا الأستاذ المالك وحقيق على من فارق تلك الأخلاق الغر والشمائل الزهر والعشرة المعشوقة والسجايا الموموقة والفضائل الموفورة والمآثر المشهورة أن يشق جيب الصبر ويجعل النار حشو الصدر [

إني لتعروني لذكراك هزة كما انتفض العصفور بلله القطر ولو ملكت مرادي لما اخضر إلا في ذراه مرادي بل لو دار الفلك على اختياري لما نضوت إلا عنده ليلي ونهاري [
( لو نعطى الخيار لما افترقنا ... ولكن لا خيار مع الزمان )
( وتحت ضلوعي لوعة لو كتمتها ... لخفت على الأحشاء أن تتضرما )
( ولو بحت في كتبي بما في جوانحي ... لأنطقتها نارا وأبكيتها دما ) وأنا لا أقترح على الدهر إلا لقياه ولا أقطع حاضر الوقت إلا بذكراه وما عدا أيامي التي سعدت فيها بلقائه إلا مفاتح السرور ومطالع السعود والحبور ولست أعيبها إلا بقلة البقاء وسرعة الانقضاء وكذلك عمر السرور قصير والدهر بتفريق الأحبة بصير وربما اهتز العود بعد الذبول وطلع النجم بعد الأفول وأديل الوصال من الفراق وعاد العيش المر حلو المذاق [ بحر
( وما أنا من أن يجمع الله شملنا ... كأحسن ما كنا عليه بآيس ) فأما الآن فلا أزجي الوقت إلا بقلب شديد الاضطراب وجوانح لا تفيق من التوقد والالتهاب وكيف لا وحالي حال من ودع صفو الحياة يوم وداعه وانقطع عنه الأنس ساعة انقطاعه وطوى الشوق جوانحه على غليل وحل أضلاعه على كمد دخيل وأغرى بي فلزمني ولزمته وألف بيني وبين الوجد فألفني وألفته فلا أسلك للعزاء طريقا إلا وجدته مسدودا ولا أقصد للصبر بابا إلا ألفيته مردودا ولا أعد اليوم بعد فراق سيدي إلا شهرا والشهر دون لقائه إلا دهرا ولست بناس أيامنا التي هي تاريخ زماني وعنوان الأماني إذ ماء الاجتماع عذب وغصن الازدياد رطب وأعين الحواسد راقدة

وأسواق صروف الدهر كاسدة فما كانت إلا لمحة الطرف ووثبة الطرف ولمعة البرق الخاطف وزورة الخيال الطائف وما تذكر تلك الأيام في أكناف فضائله ونضرتها ورياض علومه في ظله وخضرتها إلا أوجب على عينه أن تدمع وانثنى على كبده خشية أن تصدع ثم لما ورد على عبدكم مكتوبكم الكريم صحبة حضرة العم المحب القديم فكان كالعافية للصب السقيم كما يشهد بذلك السميع العليم فوقف له منتصبا وخفف عنه برؤيته وصبا وذكر أيام الجمع فهام وجدا بها وصبا فاستخفه الإعجاب طربا وشاهد صدوره فقال هكذا تكون الرياض وعاين لطفه فقال هكذا تكون الصبا وقبل كل حرف منه ووضعه على الرأس وحصل له بعد ترقبه غاية المجاورة والاستئناس فعند ذلك أنشد قول بعض الناس [
( ورد الكتاب فكان عند وروده ... عيدا ولكن هيج الأشواقا )
( ألفاته قد عانقت صاداته ... كعناق مشتاق يخاف فراقا )
( فكأنما النونات فيه أهلة ... كأنما صاداته أحداقا )
( فعسى الإله كما قضى بفراقنا ... يقضي لنا يوما بأن نتلاقى )
فجعلته نصب عيني أتسلى به عند استيلاء الشوق على قلبه وأطفىء بتأمله نيران وجدي إذا التهبت في صدري وسررت به سرور من وجد ضالة عمره وأدرك جميع أمانيه من دهره وأنست بتصفحه أنس الرياض بانهلال القطر والساري بطلوع البدر والمسافر بتعريس الفجر وكيف لا وقد أصبح في وجه الأماني خدا بل في خدها وردا وصار حسنة من حسنات دهري

لا يمحو مرور الأيام موضعها من صدري وطلعت طوالع السرور وكانت آفلة واهتزت غصون الفرح وكانت ذابلة لا سيما لا تضمن من البشارة السارة بصحة المولى وسلامته وحلوله في منازل عزه وكرامته وموعده الكريم بعوده إلى دمشق الشام سقاها صوب الغمام مرة ثانية ويتم افتخارها على غيرها فلا تزال مفاخرة مباهية نسأل الله تعالى أن يحقق ذلك وأن يسلك بسيدي أحسن المسالك إنه سبحانه وتعالى سامع الأصوات ومجيب الدعوات فإن عودكم يا سيدي والله مرة أخرى هو الحياة الشهية والأمنية التي ترتجي النفس بلوغها قبل المنية وما أنا من الله بآيس من أن يتيح سببا يعيد المزار مقتربا والشمل مجتمعا وحبل البين منقطعا ثم ليعرض على مسامع سيدي الكريمة لا زالت من كل سوء سليمة أنا أوصلنا مكاتيبكم كما أمرتم لأربابها لا سيما مكتوب شيخ الإسلام سيدي عبد الرحمن أفندي المفتي يالشام ومكتوب المولى الأعظم والهممام الأفخم أحمد أفندي الشاهيني أعزه الله تعالى فإنه وقع عنده الموقع العظيم وحصل له به السرور المقيم كما يدل إلى ذلك جوابه الكريم المحفوف بالتعظيم والتكريم غير أنه قد ساءنا ما اتصل بمولانا من نفوذ قضاء الله تعالى الذي يعم في البنت والأم فجعل الله تعالى في عمر سيدي البركة ! وكان له في السكون والحركة ! وماذا عسى أن يذكر لجنابكم في أمر التعزية ويقرر ومنكم يستفاد مثله وعنكم يحرر والأستاذ أدرى بصروف الدهر وتفننها وأحوال الزمان وتلونها وأعرف بأن الدنيا دار لها بسكانها مدار وأن الحياة ثوب مستعار ونعيم الدنيا وبؤسها ما لواحد منهما فيها قرار وأن لكل طالع أفولا ولكل ناضر ذبولا ووراء كل ضياء ظلاما ولكل عروة من عرى الدنيا انفصاما فهو

محل لأن يقوى في العزاء عزائمه ويصغر في عينه نوائب الدهر وعظائمه ويغنيه عن عظة تجد له مقالا وتحل عن عقله عقالا وهو يتلقى المصائب بفكر ثاقب وفهم صائب وصبر يقصر عنه الطود الأشم وعزم ينفلق دونه الصخر الأصم وحلم يرجح إذا طاشت الأحلام وقدم تثبت إذا زلت الأقدام ومد المقال في ضرب الأمثال إلى جنابكم الشريف نوع من تجاوز حد الإجلال وأنا أسأل الله تعالى أن يجعل هذه المصيبة خاتمة ولا يريه بعدها إلا دولة قائمة ونعمة دائمة وأن يحرسه من غير الليل والنهار ويجعله وارث الأعمار بجاه نبينا محمد المختار على آله وصحبه الأطهار بمنه وكرمه
ثم أبلغ سيدي - أطال الله عمره وشرح صدره ونشر بالخير ذكره ! - السلام التام المقرون بألف تحية وإكرام من أهل البلدة جميعا لا سيما من مفتيها العمادي حرس الله ذاته التي هي منهل للصادي والغادي وأولاده الكرام المستحقين للإعزاز والإكرام ومن كبيرها ومدبرها ومشيرها أحمد أفندي الشاهيني أعزه الله تعالى بعزه وجعله تحت كنفه وحرزه ! ومن خطيبها مولانا الشيخ أحمد البهنسي ونقيب أشرافها مولانا السيد كمال الدين وجميع المحبين الداعين لذلكم الجناب والمتمسكين بتراب تلكم الأعتاب ومن الوالد والعم والله يا سيدي إنه ناشر لواء الثناء والمحامد وداع لذلك الجناب الكاسب للمفاخر والمحامد وحضرة شيخنا شيخ الإسلام وبركة الشام مولانا وسيدنا الشيخ عمر القاري أبقى الله تعالى وجوده وضاعف علينا إحسانه وجوده وأولاده يسلمون عليكم السلام الوافر وينهون لكم الشوق المتكاثر وحرر في 2 جمادى الثانية سنة 1038 المحب الداعي يحيى المحاسني انتهى وكتب إلي عمه الفاضل الأسمى ما صورته باسمه سبحانه وتعالى

( وإني لمشتاق إلى وجهك الذي ... تهلله أهدى السناء إلى البدر )
( وأخلاقك الغر اللواتي كأنها ... تساقط أنداء الغمام على الزهر ) سيدي الذي عبوديتي إليه مصروفة ودواعي محبتي لديه موفورة وعليه موقوفة علم الله سبحانه أنني لا أزجي أوقاتي إلا بذكراه ولا أرجي اليمن من ساعاتي إلا باستنشاق نسيم رياه وأنني إلى طلعته أشوق من الصادي إلى ماء صداء ومن كثير عزة إلى نوء تيماء
( يرنحني إليك الشوق حتى ... أميل من اليمين إلى الشمال )
( ويأخذني لذكراك اهتزاز ... كما نشط الأسير من العقال )
ولي على صدق هذه الدعوى من نباهة لبه شاهد معدل ومن نزاهة قلبه مزك غير ملوم ولا معذل كيف لا ومطالع البيان مشرقها من أفلاك فهومه وجواهر التبيان مقذفها من بحار علومه وهو بحر العلم الذي لا يقتحم بسفن الأفكار وجبل الحلم الذي رسخ بالهيبة والوقار
( لو اقتسمت أخلاقه الغر لم تجد ... معيبا ولا خلقا من الناس عائبا )
وماذا عسى أصف به مولانا وقد عجز عن وصفه لسان كل واصف وحار في بث فضائله أرباب المعارف والعوارف
( فلو نظمت الثريا ... والشعريين قريضا )
( وكاهل الأرض ضربا ... وشعب رضوى عروضا )
( وصفت للدر ضدا ... وللهواء نقيضا )
ولكنني أقول الثناء منجح أنى سلك والسخي جوده بما ملك وإن لم يكن خمر فخل وإن لم يصبها وابل فطل هذا وقد أوصلنا مكاتيبكم

الشريفة لأربابها فكانت لديهم أكرم قادم وأشرف منادم وقد تداولها الأفاضل وشهدوا أنها من بنات الأفكار التي لم يكشف عنها لغير سيدي حجب الأستتار وقد وجدنا كلا منهم ملتهبا بجمرات الشوق متجاوزا حد الصبابة والتوق ليس لهم شغل إلا ذكر أوصافكم الحميدة وبث ما أبديتموه بدروسكم المفيدة وما منهم إلا ويرجو بل الصدى ونقع الظما برؤية ذلك المحيا والتملي بتلك الطلعة العليا وإن سأل سيدي عن أخبار دمشق المحروسة دامت ربوعها ربوعها المأنوسة فهي ولله الحمد منتظمة الأحوال أمنها الله من الشرور والأهوال ولم يتجدد من الأخبار ما نعلم به ذلكم الجناب لا زال ملحوظا بعين عناية رب الأرباب وأنا أسأل الله تعالى أن يصون جوهر تلك الذات من عوارض الحدثان وأن يحمي تلك الحضرة العلية من طوارق حكم الدوران
( آمين آمين لا أرضى بواحدة ... حتى أضيف إليها ألف آمينا )
وهذا دعاء للبرية شامل - العبد الداعي بجميع البواعث والدواعي تاج الدين المحاسني عفا الله تعالى عنه انتهى
وبالهامش ما صورته وكاتب الأحرف العبد الداعي محمد المحاسني يقبل يدكم الشريفة ويخصكم بالسلام الوافر ويبث لديكم الشوق المتكاثر غير أنه قد نازعته نفسه في ترك المعاتبة لسيده الذي لم يسعد عبده منه بالمكاتبة على أنها مكاتبة تحكم عقد العبودية ولا تخرج رقبته من طوق الرقية والمطلوب أن يخصه سيده وشيخه بدعواته المستطابة التي لا شك أنها مستجابة كما هو في سائر أوقاته وحسبان ساعاته ودمتم وحرر في رابع جمادى الثانية سنة 1038 انتهى
وكتب سيدي التاج المذكور لي ضمن رسالة من بعض الأصحاب ما صورته
( يا فاضل العصر يا من ... للشرق والغرب شرف )

( يا أحمد الناس طرا ... في كل ما يتصرف )
( يهدي إليك محب ... دموعه تتذرف شوقا )
( وودا قديما ... منكرا يتعرف ) ولنختم مخاطبات أهل دمشق لي بما كتبه لي أوحد الموالي الكبراء السري عين الأعيان صدر أرباب البلاغة والبيان مولانا أحمد الشاهيني السابق الذكر في هذا التأليف مرات ضاعف الله تعالى لديه أنواع المبرات والمسرات آمين ليكون مسكا للختام إذ محاسنه ليس بها خفاء ولا لها انكتام ونص محل الحاجة منه هو الفياض
( يا سيدا أحرز خصل العلا ... بالبأس والرأي الشديد السديد )
( ومن على أهل النهى قد علا ... بطبعه السامي المجيد المجيد )
( ومن يزين الدهر منه حلى ... قول نظيم كالفريد النضيد )
( ومن صدا فكري منه جلا ... نظم له القلب عميد حميد )
( ومن له من يوم قالوا بلى ... في مهجتي حب جديد مزيد )
( ومن غدا بين جميع الملا ... بالعلم والحلم الوحيد الفريد )
( أفديك بالنفس مع الأهل لا ... بالمال والمال عتيد عديد )
( أقسم بالله الذي علت كلمته وعمت رحمته وسحرت القلوب والعقول رأفته ومحبته وجعل الأرواح جنودا مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف أنني أشوق إلى تقبيل أقدام شيخي من الظمآن للماء ومن الساري لطلعة ذكاء وليس تقبيل الأقدام مما يدفع عن المشوق الأوام وقد كانت الحال هذه وليس بيني وبينه حاجز إلا الجدار إذ كان حفظه الله تعالى جار الدار فكيف الآن بالغرام وهو حفظه الله تعالى بمصر وأنا بالشام

وليس غيبة مولانا الأستاذ عنا إلا غيبة العافية عن الجسم المضني بل غيبة الروح عن الجسد البالي المطروح ولا العيشة بعد فراقه وهجر أحبابه وفاقه إلا - كما قال بديع الزمان - عيشة الحوت في البر والثلج في الحر وليس الشوق إليه بشوق وإنما هو العظم الكسير والنزع العسير والسم يسري ويسير وليس الصبر عنه بصبر وإنما هو الصاب والمصاب والكبد في يد القصاب والنفس رهينة الأوصاب والحين الحائن وأين يصاب ولا أعرف كيف أصف شرف الوقت الذي ورد فيه كتاب شيخي بخطه مزينا بضبطه بلى قد كان شرف عطارد حتى اجتمع من أنواع البلاغة عندي كل شارد وأما خطه فكما قال الصاحب ابن عباد أهذا خط قابوس أم جناح الطاووس أو كما قال أبو الطيب
( من خطه في كل قلب شهوة ... حتى كأن مداده الأهواء ) وأنا أقول ما هو أبدع وأبرع وفي هذا الباب أنفع وأجمع بل هو خط الأمان من الزمان والبراءة من طوارق الحدثان والحرز الحريز والكلام الحر الإبريز والجوهر النفيس العزيز وأما الكتاب نفسه فقد حسدني عليه إخواني واستبشر به أهلي وخلاني وكان تقبيلي لأماليه أكثر من نظري فيه شوقا إلى تقبيل يد وشته وحشته واعتيادا للثم أنامل جسته ومسته وأما اليراعة فلا شك أنها ينبوع البراعة حتى جرى من سحر البلاغة منها ما جرى
( فجاء الكتاب كسحر العيون ... بما راح يسبي عقول الورى ) وينادي بإحراز خصل سحر البيان من الثريا إلى الثرى ولم أر كتابا قبل تكون محاسنه متداخلة مترادفة ولطائفه وبدائعه متضاعفة متراصفة وذلك لأنه سرد من غرر درره الأحاسن وورد على يد رأس أحبابنا تاج بني محاسن
( أولئك قوم أحرزوا الحسن كله ... فما منهم إلا فتى فاق في الحسن )

وكما قلت فيهم أيضا
( فبنو المحاسن بيننا ... كبنى المنجم في النجابه )
( فهم القرابة إن عد مت ... من الأنام هوى القرابه )
( فيهم محاسن جمة ... منها الخطابة والكتابه )
ثم لم يكتف سيدي وشيخي بما أنعم به وأحسن بكتبه من كتابه المزين بخطه المبين بضبطه المسمى بين أهل الوفاء بكتاب الأصفياء حتى أضاف إليه كتاب الشفاء في بديع الاكتفاء كأنه لم يرض طبعه الشريف المفرد المستثنى إلا أن تكون حسناته لدى أحبابه مثنى مثنى حتى كأن مراده بتضعيف هذا الإكرام والإحسان تعجيز العبد عن أداء خدمة الحمد بحصر البيان وعقد اللسان إذ لست ذا لسانين حتى أؤدي شكر إحسانين وغاية البليغ في هذا المضمار الخطير أن يعترف بالقصور ويلتزم بالتقصير
ومن فصول هذا الكتاب ما نصه ومن باب إدخال السرور على سيدي وشيخي وبركتي خبر المدرسة الداخلية التي تصدى لها ذلك المولى العظيم والسيد الحكيم صدر الموالي ورونق الأيام والليالي سيدي وسندي وعمادي ومعتمدي الفهامة شيخي أفندي المعروف بالعلامة حفظه الله ووقاه وأبقاه ! الذي صدق عليه وعلي قول الأول
( ولي صديق ما مسني عدم ... مذ وقعت عينه على عدمي )
( أغنى وأقنى فما يكلفني ... تقبيل كف له ولا قدم )
( قام بأمري لما قعدت به ... ونمت عن حاجتي ولم ينم )
وقول الثاني
( صديق لي له أدب ... صداقة مثله نسب )
( رعى لي فوق ما يرعى ... وأوجب فوق ما يجب )

( فلو نقدت خلائقه ... لبهرج عندها الذهب ) ولعمري إنه كذلك قد تصدى لحاجتي فقضاها ولحجتي فأمضاها ولم يكن لي في الروم سواه وسواها وما أصنع بالروم إذا تخلف عني ما أروم أبى الله إلا أن ينفعني ذلك الحر الكريم بنهيه وأمره وأن يكون بياني وبناني مرتبطين بحمده وشكره وهذه حاجة في نفسي قضيتها وأمنية رضيت بها وأرضيتها ولله الحمد
ولست أحصي ولا أستقصي يا سيدي ومولاي شوق أخيكم سيدي ومولاي المفتي العمادي حفظه الله تعالى وإياكم ! وقد بلغ به شوقه وغرامه وتعطشه [ وهيامه ] وأوامه أن أفرد لجناب مولانا كتابا يستجلب مفخرا وجوابا إذ الشام كما رأيتم عبارة عن وجوده الشريف والسلام وكذلك أولاده الكرام تلامذتكم يقبلون الأقدام وأما محبكم وصديقكم الشيخ البركة شيخ الإسلام مولانا عمر القاري فقد بلغته سلام سيدي فكان جوابه الدعاء والثناء مع العزيمة علي بأن أبالغ لجنابكم الكريم في تأدية سلامه وتبليغ ما يتضمنه من المحبة الخالصة فصيح كلامه
وأما الكريميان ولدكم محمد أفندي وأخوه سيدي أكمل الدين فهما لتقبيل أقدامكم من المستعدين
وكذلك لا أحصي ما هما عليه من الدعاء والثناء لجنابكم الكريم العالي تلميذاكم بل عبداكم ولدنا الشيخ يحيى ابن سيدي أبي الصفاء وولدنا الشيخ محمد بن سيدي تاج الدين المحاسنيان
وأما عبداكم وتلميذاكم ولداي الشيخان الداعيان الأخوان الشيخ عبد السلام والقاضي نعمان فليس لهما وظيفة إلا الدعاء والثناء في كل صبح ومساء لأن كلا منهما خليفتي والأشتغال بالدعاء لسيدي وظيفتي ولا يقنعان بتقبيل اليدين الكريمتين ولا بد من تقبيل القدمين المباركتين وبعد فلا ينقضي عجبي من بلاغة كتابكم الشريف الوارد لجناب أخيكم المفتي العمادي حفظكم الله تعالى وإياه ولا كان من يشناك ويشناه وعجبه به أعظم وأكبر

إذ هو - حفظه الله - بفهم كلام سيدي أحق وأجدر فلا عدمنا تلك الأنفاس الملكية الفلكية من كل منكما إذ هي والله البغية والأمنية كما قلت
( ليس فخري ولا اعتدادي بدهر ... غير دهر أراكما من بنيه )
اللهم اختم هذا الكلام للقبول التام بالصلاة على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين
ومن فصول هذا الكتاب ما صور ته أطال الله يا سيدي بقاءك ولا كان من يكره لقاءك ورعاك بعين عنايته ووقاك ! وأدامك وأبقاك وضمن لك جزاء الصبر ! وعوضك عن مصابك الخير والأجر ولقد كنت عزمت على أن أجعل في مصاب سيدي بأمه متعه الله بعمره وعلمه ودفع عنه سورة همه وغمه ! قصيدة تكون مرثية تتضمن تعزية وتسلية فنظرت في مرثية أبي الطيب المتنبي لأمه واكتفيت بنظمها ونثرها وعقدها وحلها وانتخبت قوله منها
( لك الله من مفجوعة بحبيبها ... قتيلة شوق غير مكسبها وصما ) ومنها
( ولو لم تكوني بنت أكرم والد ... لكان أباك الضخم كونك لي أما )
( لئن لذ يوم الشامتين بيومها ... لقد ولدت مني لآنفهم رغما ) فقلت هذه حال مولانا الراغم لأنوف الأعدا المجدد لأسلافه حمدا ومجدا القاتل بشوقه لا خطأ ولا عمدا ثم إني لما رأيت قوله في مرثية أخت سيف الدولة
( إن يكن صبر ذي الرزية فضلا ... تكن الأفضل الأعز الأجلا )
( أنت يا فوق أن تعزى عن الأحباب ... فوق الذي يعزيك عقلا )
( بألفاظك اهتدى فإذا عزاك ... قال الذي له قلت قبلا )

قد بلوت الخطوب حلوا ومرا ... وسلكت الأيام حزنا وسهلا )
( وقتلت الزمان علما فما يغرب ... قولا وما يجدد فعلا )
قلت هذه والله حلى مولانا الأستاذ الذي عرف للزمان فعله وفهم قوله قد استعارها أبو الطيب وحلى بها مخدومه سيف الدولة وكيف أستطيع إرشاد شيخي لطريق الصبر وأذكره بالثواب والأجر وكيف وأنا الذي استقيت من ديمه واهتديت إلى سبيل المعروف بشيمه وسلكت جادة البراعة بهداية ألفاظه وارتقيت إلى سماء البلاغة برعاية ألحاظه وهل يكون التلميذ معلما وهل يرشد الفرخ قشعما وكيف يعضد الشبل الأسد وهو ضعيف المنة والمدد ومن يعلم الثغر الابتسام والصدر الالتزام ويختبر الحسام وهو مجرب صمصام وهل تفتقر الشمس في الهداية إلى مصباح وهل يحتاج البدر في سراه إلى دلالة الصباح ذلك مثل شيخي ومثل من يرشده إلى فلاح أو نجاح وإنما نأخذ عنه ما ورد في ذلك من الكتاب والسنة ونحذو حذوه في الطريق الموصلة إلى الجنة ثم لما وصلت في هذه القصيدة إلى قول أبي الطيب
( إن خير الدموع عينا لدمع ... بعثته رعاية فاستهلا )
رأيته قد أبدع في كل الإبداع ونظم ما يكاد يجري الدمع من طريق السماع فقلت إنا لله ! وأكثرت الاسترجاع وقلت في نفسي إن ذلك الدمع الذي بعثته رعاية الحقوق هو دمع شيخي الذي حمى الله قلبه الشفوق من العقوق للمصيبة في الأم التي حزنها يغم ومصابها يعم وكيف لا يعمنا مصابها وقد كمل للمصيبة كفاها الله بموتها نصابها هذا مع الفقد للسليلة الجليلة والكريمة الخليلة وأي دمع لم تبعثه تلك الرعاية وأي نفس لا تتمنى أن تكون لسيدنا من كل ما يكره وقاية وأي كبد قاسية لم تكن لأحبابها مواسية وأنى يتسنى للعبد المعنى تسلية شيخه وهو الصبور الشكور العارف بالأمور العالم بتصاريف الدهور وما ظننت أن بناني 11 يساعدني على تحرير

بياني لتعزية شيخي حفظه الله تعالى في أصله وفرعه وضرعه وزرعه وفرعه ونبته وأمه وبنته أما الوالدة الماجدة فإني إن أمسكت عن بيان كرم أصلها يسمو بها كرم فرعها ونسلها فرحم الله تعالى سلفها وأبقى خلفها ولا حرم سيدي ثمرة رضاها ورضي عنها وأرضاها وأما المخدرة الصغيرة فالمصيبة فيها كبيرة إذ العمومة مقرية والخؤولة وفائية فهي ذات النجارين وحائزة الفخارين كأن سيدي - أعزه الله تعالى ! - لم يرض لها كفوا ومهرا فاختار القبر أن يكون له صهرا وخطبة الحمام لا يمكن ردها وسطوة الأيام لا يستطاع صدها كما قال أبو الطيب المتنبي أيضا
( خطبة للحمام ليس لها رد ... وإن كانت المسماة ثكلا )
( وإذا لم تجد من الناس كفؤا ... ذات خدر أرادت الموت بعلا ) أسأل الله تعالى أن تكون هذه الخطبة قافية الخطوب وهذا الندب المبرح آخر الندوب وأن يعوض سيدي عن حبيبه المبرقع المقنع حبيبا معمما تتحرى النجابة منه المصنع وأن يبدله عن ذات الخمار والخضاب بمن يصول بالحراب ويسطو باليراع ويشتغل بالكتاب
( وما التأنيث لاسم الشمس عيب ... ولا التذكير فخر للهلال )
اللهم يا أرحم الراحمين إني أتوسل إليك بنبيك محمد وآله الطيبين الطاهرين أن تأخذ بيد عبدك شيخي المقري في كل وقت وحين آمين ومن فصول هذه الكتاب ما صورته ولما وصلني سيدي بهديته التي أحسن بها من كتاب الاكتفاء داخل طبعي الصفاء ونشطت إلى نظم بيتين فيهما التزام عجيب لم أر مثله وهو أن يكون اللفظ المكتفي به بمعنى اللفظ المكتفي منه فإن الاحتفاء والاحتفال بمعنى الاعتناء كما أفاده شيخي فيكون على

هذا الاكتفاء وعدمه على حد سواء إذ لو قطع النظر عن لفظ الاحتفال لأغنى عنه لفظ الاحتفاء مع تسمية النوع فيهما وهما
( إن احتفال المرء بالمرء لا ... أحبه إلا مع الاكتفا )
( مبالغات الناس مذمومة ... فاسلك سبيل القصد في الاحتفا ) ولقد انقطع الثلج أيام الخريف وكانت الحاجة إليه شديدة بعد غيبة سيدي حفظه الله تعالى عن دمشق فتذكرت شغف شيخي به فزاد على فقده غرامي وفاض عليه تعطشي وأوامي فجعلت في ذلك عدة مقاطيع وأحببت عرضها على سيدي أولها
( ثلج يا ثلج يا عظيم الصفات ... أنت عندي من أعظم الحسنات )
( ما بياض بدا بوجهك إلا ... كبياض بدا بوجه الحياة )
ثانيها
( قد قلت لما ضل عني رشدي ... وما رأيت الثلج يوما عندي )
( لا تقطع اللهم عن ذا العبد ... أعظم أسباب الثنا والحمد ) ثالثها
( ثلج يا ثلج أنت ماء الحياة ... ضل من قال ضر ذاك لهاتي )
( ما بياض بدا بوجهك إلا ... كبياض قد لاح في المرآة )
( قد رأى الناس وجههم في المرايا ... وأنا فيك شمت وجه حياتي )
وما عللت سيدي هذا التعليل إلا لأشوقه إلى نسيم دمشق الذي خلفه سيدي حفظه الله عليلا وهو على الصحة غير عليل ولم يشف أعزه الله تعالى منه الغليل ولسيدي الدعاء بطول البقاء والارتقاء وهذه أبيات أحدثها العبد في وصف القهوة طالبا من سيده أن يغفر خطأه فيها وسهوه

( قهوة كالعنر السحيق ... سوداء مثل مقلة المعشوق )
( أتت كمسك فائح فتيق شبهتها في الطعم بالرحيق )
( تدني الصديق من هوى الصديق ... وتربط الود مع الرفيق )
( فلا عدمت مزجها بريق ... )
وما زلت ألهج بما أفادنيه شيخي من أماليه وأتصفح الدهر الذي جمعته فيه من أسافله إلى أعاليه واستشكل على الأحباب والأصحاب في أثناء المسامرة ما أفادنيه سيدي من تسمية المرحوم القاضي التنوخي كتابه نشوار المحاضرة حتى ظفرت بأصلها في القاموس في مادة نشر فإذا هي عربية محضة فإنه قال ونشورت الدابة نشوارا أبقت من علفها ولقد تعجبت من بلاغة هذه التسمية وعذوبتها وحسن المجاز فيها مع سلاستها وسهولتها وأحببت عرضها على شيخي حفظه الله تعالى ليفرح لي بين تلامذته كما فرح طبعي به حفظه الله تعالى بين أساتذته وليعلم أني لم أنس ما أفادنيه في خلال المحاورة أيام المؤانسة والمجاورة فوالله إنه سميري في ضميري وكليمي ما بين عظمي وأديمي
( يديرونني عن سالم وأديرهم ... وجلدة بين العين والأنف سالم )
( الطرس طما وما مضت قصتنا ... لاذنب لنا حديثنا لذ فطال ) وحرر يوم السبت المبارك غرة جمادى الآخرة من شهور سنة ثمان وثلاثين بعد الألف أحسن الله ختامها بحرمة محمد وآله الطيبين الطاهرين وحسبنا الله ونعم الوكيل نعم المولى ونعم النصير والحمد لله وحده عبده الفقير الحقير المشتاق المذنب المقصر لسيده عن اللحاق الذي لم يبرح عن العهد المتين أحمد الشامي بن شاهين انتهى
ولو تتبعت ما له حفظه الله تعالى من النظم والنثر اللذين غلب فيهما بلغاء

أهل العصر بالشام ومصر وغيرهما من الأقطار لا زال مقامه مقضي الأوطار لاستوعبت الأسفار وفي الإشارات ما يغني عن الكلم وقد تقدم في خطبة هذا التصنيف ذكر شيء من نظمه ونثره وأنه هو السبب الداعي إلى جمع هذا التأليف والله سبحانه يديم جناب هالسرى الشريف ويبوئه من العز الظل الوريف فلقد أولى من الحقوق ما لا نؤدي بعضه فضلا عن كله وناهيك بما جلبناه من كلامه دليلا على شرفه وفضله
ورسالته هذه إلي كانت جوابا عن مكتوب كتبته إليه من جملته
( يا من له طائر صيت علا ... في الجو فاصطاد الشريد الشديد )
( يا نجل شاهين البديع الحلى ... تمل بالعز الطويل المديد )
( وفز بخصل السبق بين الملا ... وسر بنهج للمعالي سديد )
( ورد مع الأحباب عذبا حلا ... منتظما من الأماني البديد )
( وارفل على طول المدى في ملا ... مسرة راقت وعز جديد )
( والوالد المحروس بالله لا ... بعدة الخلق ولا بالعديد ) ومن نثرها سيدي الذي في الأجياد من عوارفه أطواق وفي البلاد من معارفه ما تشهد به الفطرة السليمة والأذواق وتشتد إلى مجده المطنب الذي لا يحط له رواق الأشواق وتعمر بفوائده وفرائده من الآداب الأسواق وتنقطع دون نداه السحب السواكب وتقصر عن مداه في السمو الكواكب والله سبحانه له واق المولى الذي ألقت إليه البلاغة أفلاذها واتخذت البراعة طاعته عصمتها وملاذها إذ بذ أفرادها وأفذاذها وأمطرت سماء أفكاره على كل محب أوكاره طائر في جو أو مستقر في أوكاره صيبها ورذاذها وفاخرت دمشق بعلاه وحلاه أقطار البسيطة وبغذاذها ومنها أبقاه الله تعالى وحقيقة وعوده ينمقها النجاز وحقيقة سعوده لا يطرقها المجاز

ومنها فأنت الذي نفست عني مخنقا وأصفيت مشربي وكان مرنقا وكاثرت بما به آثرت وما استأثرت - رمل النقا فلو رآك المأمون بن الرشيد لعلم أنك المتمني بيتي الغناء الذي غني به والنشيد
( وإني لمشتاق إلى قرب صاحب ... يروق ويصفو إن كدرت لديه )
( عذيري من الإنسان لا إن جفوته ... صفا لي ولا إن كنت طوع يديه )
ولم يقل أعطني هذا الصديق وخذ مني الخلافة وأنا أقول قد ظفرنا به بحمد الله ولم أجد أحدا في دهره وافق الغرض فلم نر خلافه ومنها فهذه يا ابن شاهين أياديك البيض تفرخ لك الشكر وتبيض فلا دليل على ولائي كإملائي ولا شاهد لما في أحنائي كثنائي ولا حجة على ودادي كتكراري ذكرك وتردادي وهي طويلة لا يحضرني الآن منها سوى ما ذكرته
ولنقتصر من مكاتبات أعيان العصر من أهل دمشق المحروسة على هذا المقدار ونسأل الله تعالى أن يحفظهم جميعا في الإيراد والإصدار
رسائل من المغرب ترد للمؤلفين
وفي تاريخ ورود هذه المكاتيب الشامية السابقة علي اتفق ورود كتب من المغرب وجهها جماعة من أعيانه إلي فمن ذلك كتاب كتبه لي الأستاذ المجود الأديب الفهامة معلم الملوك سيدي الشيخ محمد بن يوسف المراكشي التاملي نصه الحمد لله تعالى والصلاة والسلام على سيدنا محمد تتوالى من المحب المخلص المشتاق إلى السيد الذي

وقع على محبته الاتفاق وطلعت شموس معارفه في غاية الإشراق وصار له في ميدان الكمال حسن الاستباق الصدر الكامل والعالم العامل الفقيه الذي تهتدي الفقهاء بعلمه وعمله البليغ الذي تقتدي البلغاء ببراعه قلمه ناشر ألوية المعارف ومسدي أنواع العوارف العلامة إمام العصر بجميع أدوات الحصر سيدي أحمد بن محمد المقري قدس الله السلف كما بارك في الخلف سلام من النسيم أرق وألطف من الزهر إذا عبق
وبعد فإن أخباركم دائما ترد علينا وتصل إلينا بما يسر الخاطر ويقر الناظر مع كل وارد وصادر والعبد يحمد الله تعالى على ذلك ويدعو الله بالاجتماع معكم هنالك
( ويرحم الله عبدا قال آمينا ... ) كتبته إليكم أيها السيد من الحضرة المراكشية مع كثرة أشواق لا تسعها أوراق كتبكم الله سبحانه فيمن عنده كما جعلكم ممن أخلص في موالاة الحق فصده وودي إليكم غض الحدائق مستجل في مطلع الوفاء بمنظر رائق لا يحيله عن مركز الثبوت عائق وحقيق بمودة ارتبطت في الحق وللحق معاهدها وأسست على المحبة في الله قواعدها أن يزيد عقدها على مر الأيام شدة وعهدها وإن شط المزار جدة وأنت تدخر للأخرى عدة وإني ويعلم الله تعالى لممن يعتقد محبتكم وموالاتكم عملا صالحا يقرب من الله تعالى ويزلف إليه ويعتمدهما وزرا يعول في الآخرة يوم لا ظل إلا ظله عليه فإنكم واليتم فأخلصتم في الولاء وعرفتم الله تعالى فقمتم بحقوق الصحبة على الولا معرضين في تلكم الأخوة عن غرض الدنيا وعرضها موفين

بشروط نفلها ومفترضها إلى أن قضى الله تعالى بافتراقنا وحقوقكم المتأكدة دين علينا والأيام تمطل بقضائها عنا وتوجه الملام إلينا فآونة أقف فأقرع السن على التقصير ندما وآونة أستنيم إلى فضلكم فأتقدم قدما وفي أثناء هذا لا يخطر بالبال حق لكم سابق إلا وقد كر عليه منكم آخر له لاحق حتى وقفت موقف العجز وضاقت على العبارة عن حقيقة مقامكم في النفس فكدت لا أتكلم إلا بالرمز إجلالا لحقكم الرفيع وإشفاقا من التقصير المضيع وقد كنت كتبت - أعزكم الله تعالى - إليكم قبل هذا بكتب أربعة أو خمسة فيها عجالة قصائد كالعصائد كالثريد من الكلام ككلامكم السلس الكثير الفوائد فعذرا ممن كان أخرس من سمكة وأشد تخبطا من طائر في شبكة فما عرفت أوصل شيء من ذلك أم حصل في أيدي المعاطب والمهالك وما رأيت غير رجل من صعاليك الحجاج التقيت به يوما بالحضرة المراكشية فقال لي الشيخ الإمام المقري يسأل عنك وقد أرسل معي كتابا إليك فوقع في البحر مع جملة ما وقع فقلت له لا غرابة في ذلك فقد رجع إلى أصله ومن ظلمة البحار تستخرج الدرر وقد جاءني كتاب من بعض الأخلاء الصديقين وهو الحاج الصالح السيد أبو بكر من مكه المكرمة شرفها الله تعالى وذكر لي فيه أنه متعه الله تعالى بلقائكم وأخبرني بسؤالكم عني كثيرا وإلى الآن يا نعم السيد إنما عرفته بما كتبته لسيدتكم تعريف تذكر لا تعريف منة فأنصفونا في الحكم عليكم في عدم الجواب بما ألفته الأدباء شريعة وسنة وبالجملة ففؤادي لمجدكم صحيح لا سقيم واعتدادي بودكم منتج غير عقيم والله تعالى يجعل الحب في ذاته الكريمة ويقضي عن الأحبة دين المحبة فيوفي كل غريم غريمه ويصلكم إن شاء الله تعالى هذا المرقوم

وبه سؤال منظوم لتتفضلوا بالجواب عنه بعد حمد الله والصلاة والسلام على مولانا رسول الله
( إلى المقري الحبر صدر الأئمة ... من المخلص الوداد أزكى تحية )
( فذلك يا صدر الصدور عجالة ... لتسمح بالجواب عما أكنت )
( فتى قد رأى عند العذارى فتية ... محرمة عند الزوال فحلت )
( وعادت حراما عند عصر فعندما ... عشاء أتى عادت حلالا تجلت )
( وفي صبح ثاني اليوم عادت محرما ... وزالت زوالا منه في غير مرية )
( وفي ظهره حلت فطابت قريرة ... وفي عصره محرما قد تبدت )
( وعند العشاء بالضرورة حللت ... وذلك بعد غرم مال كفدية )
( وفي صبحه عادت حراما ترى به ... بروق سيوف لا معات بسنة )
( وكان يضيق حسرة و تأسفا ... وحلت له وقت العشاء وتمت )
( وعن أمة أيضا يموت سريها ... قد اولدها في ملكه بعد وطأة )
( وعادت لمملوك السري حليلة ... بعقد نكاح بعد من غير شبهة )
( فجاءت ببنت هل لها من تزوج ... بنجل السري بينوا لي قصتي )
( فإن السيوري مانع من تزوج ... له بابنة منها بتلك القضية )
( وما الفرق بينها وبين التي أتى ... بها ابن أبي زيد بأوضح حجة )
( وعن مشتر مملوكة غير محرم ... ومسلمة شرا صحيحا بشرعة )
( وليس بملكه له وطؤها يرى ... جوازا على التأبيد تأخير جلة )
( وما طالق من عدة خرجت ولا ... يجوز على التأبيد في خير ملة )
( نكاح لها من واحد ومطلق ... لها غير معصوم ترى في الشريعة )
( وتمت بحمد الله مبدية لكم ... سلاما كما أبدته في صدر طلعة )

وتقرير السؤال الثاني أمة أولدها سيدها فصارت حرة فمات عنها السيد ثم تزوجها عبد سيدها فأتت ببنت أما لولد سيدها أن يتزوج هذه البنت فإن الرجل له أن يتزوج بنت زوجة أبيه من رجل غيره وهذه سرية أبيه فإن الإمام السيوري يمنع هذه المسألة وما الفرق بينهما وتصلكم أيضا إن شاء الله تعالى عجالة رجزية في مآثركم السنية ضمنتها أشطارا من الألفية فتفضلوا بالإغضاء وحسن الدعاء أن يجمع الله شملنا بكم في تلك الأماكن المشرفة ثم المأمول من سيدنا ومولانا أن يتفضل علينا بكتاب طبقات القراء للإمام الحافظ الداني إذ ليس عندنا منه نسخة وأما تأليفكم الكثير الفوائد المسمى بأزهار الرياض في أخبار عياض وما يناسبها مما يحصل به للنفس ارتياح وللعقل ارتياض فقد انتشر بهذه الأقطار المراكشية وانتسخت منه نسخ عديدة من نسخة المرحوم سيدي أحمد بن عبد العزيز بن الولي سيدي أبي عمر وكسا الله سبحانه تأليفكم المذكور جلباب القبول فما رآه أحد إلا نسخه وعندي النسخة التي كتبها بخطه السيد أحمد المذكور بخط حسن وعلى هامشها في بعض الأماكن خطكم الرائق وبعض التنبيهات من كلامكم الفائق وأعلمونا بتأليفكم الذي سميتموه قطف المهتصر من أفنان المختصر هل خرج من المبيضة أم لا وودنا لو اتصلنا منه بنسخة وقد اشتاق فقهاء هذا الإقليم إليه غاية كالفقيه قاضي القضاة محبكم سيدي عيسى وغيره من أخلاء خليل في كل محفل جليل إلى أن قال وأنا أتمثل بكلام مولانا علي كرم الله وجهه حيث يقول تبركا به
( رضيت بما قسم الله لي ... وفوضت أمري إلى خالقي )
( كما أحسن الله فيما مضى ... كذلك يحسن فيما بقي )

ولي حفظكم الله تعالى تخميس على البيتين وذلك أنه نزلت بي شدة لا يمكن الخلاص منها عادة فما فرغت من تخميسهما إلا وجاء الفرج في الحين ونصه
( إذا أزمة نزلت قبلي ... )
( وضقت وضاقت بها حيلي ... )
( تذكرت بيت الإمام علي ... )
( رضيت بما أقسم الله لي وفوضت أمري إلى خالقي )
( لأن الإله اللطيف قضى ... )
( على خلقه حكمه المرتضى
( فسلم وقل قول من فوضا )
( كما أحسن الله فيما مضى ... كذلك يحسن فيما بقي ) فعذرا - أعزكم الله سبحانه ونفع بإخائكم - عن إغباب المراسلة بالمكاتبة عذرا وصبرا على بعد اللقاء صبرا فإن يقدر في هذه الدار نلنا فيها ما نتمنى وإلا فلن نعدم بفضل الله جزاء الحسنى ولقاء لا يبيد ولا يفنى مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا إيقانا بالوعد وتحقيقا فمن أوجب له محبته أدخله جنته وأحضره مأدبته وكمل له أمنيته جعلنا الله من المتحابين في جلاله بكرمه وإفضاله ! وكتبه محبكم ومعظمكم الواصل حبل وده بودكم المشرف لعهدكم المنوه بفخركم ومجدكم العبد الفقير الحقير المشفق على نفسه من التقصير والذنب الكبير محمد بن يوسف التاملي غفر الله ذنبه وسترعيبة وجبر قلبه وجمعه بمن أحبه بالنبي في عاشوراء المحرم فاتح سنة ثمان وثلاثين وألف انتهى
وصحبة هذا المكتوب ورقة نصها بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الل

ه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
( لله در العالم الجياني ... كأنما ينظر بالعيان )
( للمقري العالم المفضال ... منظرا بأحسن المثال )
( وعالم بأنني من بعده ... أشير في نظامنا لقصده )
( وها أنا بالله أستعين ... مضمنا وربنا المعين )
( بالشطر من ألفية ابن مالك ... أيدنا الله لنسج ذلك )
( قال محمد عبيد المالك ... وسالك الأحسن من مسالك )
( نشير بالتضمين للنحرير ... المقري الفاضل الشهير )
( ذاك الإمام ذو العلاء والهمم ... ( كعلم الأشخاص لفظا وهو عم )
( فلن ترى في علمه مثيلا ... ( مستوجبا ثنائي الجميلا ) )
( ومدحه عندي لازم أتى ... ( في النظم والنثر الصحيح مثبتا ) )
( أوصاف سيدي بهذا الرجز ... ( تقرب الأقصى بلفظ موجز ) )
( فهو الذي له المعاني تعتزي ... ( وتبسط البذل بوعد منجز ) )
( رتبته فوق العلا يا من فهم ... ( كلامنا لفظ مفيد كاستقم )
( وكم أفاد دهره من تحف ... ( مبدي تأول بلا تكلف ) )
( لقد رقى على المقام الطاهر ... ( كطاهر القلب جميل الظاهر ) ) وفضله للطالبين وجدا ( على الذي في رفعه قد عهدا ) قد حصل العلم وحرر السير ( وما بإلا أو بإنما انحصر ) في كل فن ماهر صفه ولا ( يكون إلا غاية الذي تلا )
( سيرته جرت على نهج الهدى ... ( ولا يلي إلا اختيارا أبدا ) )

( وعلمه وفضله لا ينكر ... ( مما به عنه مبينا يخبر ) )
( يقول دائمابصدر انشرح ... ( اعرف بنا فإننا نلنا المنح ) )
( يقول مرحبا لقاصديه من ... ( يصل إلينا يستعن بنا يعن ) )
( صدق مقالتي وكن متبعا ... ( ولم يكن تصريفه ممتنعا ) )
( وانهض إليه فهو بالمشاهده ... ( الخبر الجزء المتم الفائده ) )
( والزم جنابه وإياك الملل ... إن يستطل وصل وإن لم يستطل )
( واقصد جنابه ترى مآثره ... والله يقضي بهبات وافره )
( وانسب له فإنه ابن معطي ... ويقتضي رضى بغير سخط )
( واجعله نصب العين والقلب ولا ... تعدل به فهو يضاهي المثلا )
( قد طالما أفاد علم مالك ... أحمد ربي الله خير مالك )
( وحاسد له ومبغض زمن ... وهالك وميت به قمن )
( وليس يشفي مبغض له أعل ... ( عينا وفي مثل هراوة جعل )
( يقول عبد ربه محمد ... ( في نحو خير القول إني أحمد )
( وهو بدهره عظيم الأمل ... مروع القلب قليل الحيل )
( فادع له وسادة قد حضروا ... وافعل أوافق نغتبط إذ تشكر )
( واجبره بالدعا عساه يغتنم ... فجره وفتح عينه التزم )
( أنشدت فيكم ذا وقال قائل ... في نحو نعم ما يقول الفاضل )
( أدعو لكم بالستر في كل زمن ... لكونه بمضمر الرفع اقترن )
( مآثر لكم كثيرة سوى ... ما مر فأقبل منه ما عدل روى )
( قد انتهى تعريف ذا المعرف ... وذو تمام ما برفع يكتفي )
( لأنتم تاج الأئمة الأول ... وما بجمعه عنيت قد كمل )
( فالله يبقيكم لدينا وكفى ... مصليا على الرسول المصطفى )

( تترى عليه دائما منعطفا ... وآله المستكملين الشرفا )
ومن ذلك ما كتبه لي بعض الأصحاب ممن كان يقرأ علي بالمغرب وصورته سيدنا وسيد أهل الإسلام حامل راية علوم الأمة الأحمدية على صاحبها الصلاة والسلام آية الله في المعاني والمعالي وحسنة الأيام والليالي وواسطة عقود الجواهر واللآلي إمام مذهب مالك والأشعري والبخاري والواقدي والخليل العلامة القدوة السيد الكبير الشهير الجليل ذو الأخلاق العذبة المذاق والشمائل المفصحة عن طيب الأصول والأعراق كبير زمانه دون منازع وعالم أوانه من غير منكر ولا مدافع شيخنا ومعلمنا ومفيدنا وحبيب قلوبنا مولانا شيخ الشيوخ أبو العباس أحمد بن محمد المقري المغربي التلمساني نزيل فاس ثم الديار المصرية حفظه الله تعالى في مواطن استقراره ! ورفع درجته بإشادة فخاره على مناره عن شوق يود له الكاتب أن لو كان في طي كتابه وتوق إلى مشاهدتكم هو الغاية في بابه بعد إهداء السلام المحفوف بأنواع التحيات والكرامات والبركات الدائم ما دامت في الوجود السكنات والحركات لمقامكم الأكبر ومحفلكم الأشهر ومن تعلق بأذيالكم أو كان مستمطرا لنوالكم أو صبت عليه شآبيب أفضالكم من أهل ومحب وصاحب وخديم هذا وإنه ينهي إلى الوداد القديم أن أهل المغرب الأدنى والأقصى حاضرة وبادية كلهم يتفكهون بل يتقوتون بذكركم ويشتاقون لرؤية وجهكم ويتلذذون بطيب أخباركم وإن كان المغرب الآن في تفاقم أحوال وتراكم أهوال في الغاية مدائن وبوادي لا سيما مدينة فاس فإنها في شر عظيم وأميرها مولاي عبد الملك مات في السنة السابعة والثلاثين بل في ذي الحجة

صحبت بك الزمان أخا وفاء ... فها هو قد تنمر للقطيعه )
قال وكان من أهل المروءات عاشقا في قضاء الحوائج والسعي في حقوق الإخوان والمبادرة لإيناس الغرباء وفي ذلك يقول
( يحسب الناس بأني متعب ... في الشفاعات وتكليف الورى )
( والذي يتعبهم من ذاك لي ... راحة في غيرها لن أفكرا )
( وبودي لو أقضي العمر في ... خدمة الطلاب حتى في الكرى )
قال ومن أبدع ما أنشده رحمه الله تعالى أول رحلته
( طال شوقي إلى بقاع ثلاث ... لا تشد الرحال إلا إليها )
( إن للنفس في سماء الأماني ... طائرا لا يحوم إلا عليها )
( قص منه الجناح فهو مهيض ... كل يوم يرجو الوقوع لديها )
وقال إذا بلغ العبد أرض الحجاز ... فقد نال أفضل ما أم له )
( فإن زار قبر نبي الهدى ... فقد أكمل الله ما أمله )
وعاد رحمه الله تعالى إلى الأندلس بعد رحلته الأولى التي حل فيها دمشق والموصل وبغداد وركب إلى المغرب من عكا مع الإفرنج فعطب في خليج صقلية الضيق وقاسى شدائد إلى أن وصل الأندلس سنة 581 ثم أعاد المسير إلى المشرق بعد مدة إلى أن مات بالإسكندرية كما تقدم
ومن شعره أيضا
( لي صديق خسرت فيه ودادي ... حين صارت سلامتي منه ربحا )

قبلها وفي المحرم من سنة سبع وثلاثين توفي ملك المغرب السلطان أبو المعاليب زيدان وبويع من بعده ابنه مولاي عبد الملك وتقاتل مع أخويه الأميرين الوليد وأحمد وهزمهما وإلى الله عاقبة الأمور وأهل داركم بفاس بخير وعافية ونعم ضافية سوى ما أدركهم من طول الغيبة نسأل الله تعالى أن يملأ بقدومكم العيبة ومحبكم الأكبر ووليكم الأصغر سيد أهل المغرب اليوم وشيخ الطريقة والمربي في سلوك أهل الحقيقة العارف بالله الشيخ الرباني ذو المقامات والكرامات سيدي محمد بن أبي بكر الدلائي يحييكم ويعظم قدركم ولسانه لكم ذاكر ناشر شاكر وهو على خير وقد اجتمعت علي من بركتكم في مدينة سلا جماعة من طلاب العلم وفتح الله تعالى علي بتآليف عديدة منها كفاية الطالب النبيل في حل ألفاظ مختصر خليل ومنها شرح على المنهج المنتخب للزقاق في قواعد مالك ومنظومة في أكثر من ألف بيت في السير والشمائل ومنها في رجال البخاري ولا كنسخ الكلاباذي ومنها خطب وغير ذلك والكل من بركتكم ونسبته إليكم في صحيفتكم

والسلام من ولدكم المقر بفضلكم تراب نعالكم علي بن عبد الواحد الأنصاري لطف الله تعالى به وحامله كبير كبراء قومه ممن يحبكم ويعرفكم وما تفعلوا معه من خير فلن تكفروه والسلام انتهى
ومنها كتاب وافاني من علم قسمطينة وصالحها وكبيرها ومفتيها سلالة العلماء الأكابر ووارث المجد كابرا عن كابر المؤلف العلامة سيدي الشيخ عبد الكريم الفكون حفظه الله نصه بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على من أنزل عليه في القرآن ( وإنك لعلى خلق عظيم ) القل م 4 ] وآله وصحبه أفضل التسليم من مدنس الإزار المتسربل بسرابيل الخطايا والأوزار الراجي للتنصل منه رحمة العزيز الغفار عبد الله سبحانه عبد الكريم بن محمد الفكون أصلح الله بالتقوى حاله ! وبلغه من متابعة السنة النبوية آماله إلى الشيخ الشهير الصدر النحرير ذي الفهم الثاقب والحفظ الغزير الأحب في الله المؤاخي من أجله سيدي أبي العباس أحمد المقري أحمد الله عاقبتي وعاقبته ! وأسبل على الجميع عافيته أما بعد فإني أحمد الله إليك وأصلي على نبيه سيدنا محمد ولا أريد إلا صالح الدعاء وطلبه منكم فإني أحوج الناس إليه وأشدهم في ظني إلحاحا عليه لما تحققت من أحوال نفسي الأمارة واستبطنت من دخيلائها المثابرة على حب الدنيا الغرارة كأنها عميت عن الأهوال التي أشابت رؤوس الأطفال وقطعت أعناق كمل الرجال فتراها في لجج هواها خائضة وفي ميدان شهواتها راكضة طغت في غيها وما لانت وجمحت فما انقادت ولا استقامت فويلي ثم ويلي من يوم تبرز فيه

القبائح وتنشر الفضائح ومنادي العدل قائم بين العالمين ( ا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين ) [ الأنبياء 47 ] فالله أسأل حسن الإلطاف والستر عما ارتكبناه من التعدي والإسراف وأن يجعلنا من أهل الحمى العظيم وممن يحشر تحت لواء خلاصته الكريم سيدنا ومولانا وشفيعنا النبي الرؤوف الرحيم ولنكلف من القلم عنانه لما أرجو من أجله ثواب الله سبحانه وقد اتصل بيدي جوابكم أطال الله في العلم بقاءكم فرأيت من عذوبة ألفاظكم وبلاغة خطابكم ما يذهل من العلماء فحولها وينيلها لدى الجثو لسماعه سؤلها ومأمولها بيد ما فيه من أوصاف من أمره قاصر وعن الطاعة والاجتهاد فاتر وأصدق قول فيه عند مخبره ومرآه أن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه لكن يجازيكم المولى بحسن النية البلوغ في بحبوحة الجنان غاية الأمنية وقد ذيلتم ذلك بأبيات أنا أقل من أن أوصف بمثلها على أني غير قائم بفرضها ونفلها فالله تعالى يمدكم بمعونته ويجعلكم من أهل مناجاته في حضرته ويسقينا من كاسات القرب ما نتمتع منه بلذيذ منادمته وقد ساعد البنان الجنان في إجابتكم بوزنها وقافيتها والعذر لي أنني لست من أهل هذا الشان والاعتراف بأنني جبان وأي جبان والكمال لكم في الرضى والقبول والكريم يغضي عن عورات الأحمق الجهول وظننا حققه الله تعالى أن نجعل على منظومتكم الكلامية يعني إضاءة الدجنة تقييدا أرجو من الله توفيقا وتسديدا بحسب قدري لا على قدركم وعلى مثل فكري القاصر لا على عظيم فكركم وإن ساعد الأوان وقضى بتيسيره رب الزمان فآتي به إن شاء

الله الآجل معي لأنني بالأشواق إلى حضرة راكب البراق ومخترق السبع الطباق وكنت عازما على أن أبعث لكم من الأبيات أكثر من الواقع إلا أن الرفقة أعجلت وصادفتني أيام موت قعيدة البيت فلم يتيسر عاجلا إلا ما ذكر وعلى الله قصد السبيل وهو حسبي ونعم الوكيل
( يا نخبة الدهر في الدراية علما تعاضده الرواية )
( لا زلت بحرا بكل فن ... يروي به الطالبون غايه )
( لقد تصدرت في المعالي ... كما تعاليت في العناية )
( من فيك تستنظم المعاني ... بلغت في حسنها النهاية )
( رقاك مولاك كل مرقى ... تحوي به القرب والولايه )
( أعجوبة ما لها نظير ... في الحفظ والفهم والهدايه )
( يا أحمد المقري دامت ... بشراك تصحبها الرعاية )
( بجاه خير العباد طرا ... والآل والصحب والنقاية )
( صلى عليه الإله تترى ... نكفى بها الشر والغوايه )
وأختم كتابي بالصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وكتب بغاية عجلة يوم السبت سابع أو ثامن رجب من عام ثمانية وثلاثين وألف للهجرة على صاحبها الصلاة والسلام انتهى والمذكور عالم المغرب الأوسط غير مدافع وله سلف علماء ذوو شهرة ولهم في الأدب الباع المديد غير أن المذكور مائل إلى التصوف ونعم ما فعل تقبل الله تعالى عملي وعمله وبلغ كلا منا أمله ولأشهر أسلافه العلامة الشيخ

حسن بن علي بن عمر الفكون القسمطيني أحد أشياخ العبدري صاحب الرحلة قصيدة مشهورة عند العلماء بالمغرب وهي من در النظام وحر الكلام وقد ضمنها ذكر البلاد التي رآها في ارتحاله من قسمطينة إلى مراكش وأولها
( ألا قل للسري ابن السري ... أبي البدر الجواد الأريحي )
ومنها
( وكنت أظن أن الناس طرا ... سوى زيد وعمرو غير شي )
( فلما جئت ميلة خير دار ... أمالتني بكل رشا أبي )
( وكم أوردت ظباء بني مدار ... أوار الشوق بالريق الشهي )
( وجئت بجاية فجلت بدورا ... يضيق بوصفها حرف الروي )
( وفي أرض الجزائر هام قلبي ... بمعسول المراشف كوثري )
( وفي مليانة قد ذبت شوقا ... بلين العطف والقلب القسي )
( وفي تنس نسيت جميل صبري ... وهمت بكل ذي وجه وضي )
( وفي مازونة ما زلت صبا بوسنان المحاجر لوذعي )
( وفي وهران قد أمسيت رهنا ... بظامي الخصر ذي ردف روي )
( وأبدت لي تلمسان بدورا ... جلبن الشوق للقلب الخلي )

( ولما جئت وجدة همت وجدا ... بمنخنث المعاطف معنوي )
( وحل رشا الرباط رشا رباطي ... وتيمني بطرف بابلي )
( وأطلع قطر فاس لي شموسا ... مغاربهن في قلبي الشجي )
وما مكناسة إلا كناس ... لأحوى الطرف ذي حسن سني )
( وإن تسأل عن ارض سلا ففيها ... ظباء كاسرات للكمي )
( وفي مراكش يا ويح قلبي ... أتى الوادي فطم على القري )
( بدور بل شموس بل صباح ... بهي في بهي في بهي )
( أبحن مصارع العشاق لما ... سعين به فكم ميت وحي )
( بقامة كل أسمر سمهري ... ومقلة كل أبيض مشرفي )
( إذا أنسينني حسنا فإني ... أنسيهم هوى غيلان مي )
( فها أنا قد تخذت الغرب دارا ... وأدعى اليوم بالمراكشي )
( على أن اشتياقي نحو زيد ... كشوقك نحو عمرو بالسوي )
( تقسمني الهوى شرقا وغربا ... فيا للمشرقي المغربي )
( فلي قلب بأرض الشرق عان ... وجسم حل بالغرب القصي )
( فهذا بالغدو يهيم غربا ... وذاك يهيم شرقا بالعشي )
( فلولا الله مت هوى وشوقا ... وكم لله من لطف خفي )
( وقد خرجنا بالاستطراد إلى الطول وذلك منا استرسال مع جاذب الأدب فلنمسك العنان والله المستعان
وما عددناه من القصائد والمقطوعات في مدح دمشق الشام فهو غيض من فيض وفي نيتي أن أجمع في ذلك كتابا حافلا أسميه نشق عرف دمشق

أو مشق قلم المدح لدمشق ولسان حالي الآن ينشد قول بعض الأكابر
( نحن في مصر رهن شوق إليكم ... هل لديكم بالشام شوق إلينا )
( فعجزنا عن أن ترونا لديكم ... وأبيتم عن أن نراكم لدينا )
( وحفظ الله عهد من حفظ العهد ... ووفى به كما قد وفينا )
وقول ابن الصائغ
( وددت لو أن عيني ... مكان كتبي إليكم )
( حتى أراكم وأملي ... أخبار شوقي عليكم ) رجع إلى ابن جبير رحمه الله تعالى ومن شعره قوله
( إياك والشهرة في ملبس ... والبس من الأثواب أسمالها )
( تواضع الإنسان في نفسه ... أشرف للنفس وأسمى لها )
وقال
( تنزه عن العوراء مهما سمعتها ... صيانة نفس فهو بالحر أشبه )
( إذا أنت جاوبت السفيه مشاتما ... فمن يتلقى الشتم بالشتم أسفه ) وقال
( أقول وقد حان الوداع وأسلمت ... قلوب إلى حكم الأسى ومدامع )
( أيا رب أهلي في يديك وديعة ... وما عدمت صونا لديك الودائع )

وقال أبو عبد الله بن الحاج المعروف بمدغليس صاحب الموشحات يمدح ابن جبير المذكور
( لأبي الحسين مكارم لو أنها ... عدت لما فرغت ليوم المحشر )
( وله علي فضائل قد قصرت ... عن بعض نعماها عظام الأبحر ) وقال ابن جبير من قصيدة مطلعها
( يا وفود الله فزتم بالمنى ... فهنيئا لكم أهل منى )
( قد عرفنا عرفات بعدكم ... فلهذا برح الشوق بنا )
( نحن في الغرب ويجري ذكركم ... بغروب الدمع يجري هتنا )
ومنها
( فيناديه على شحط النوى ... من لنا يوما فقلت ملنا )
( سر بنا يا حادي الركب عسى ... أن نلاقي يوم جمع سربنا )
( ما دعا داعي النوى لما دعا ... غير صب شفه برح العنا )
( شم لنا البرق إذا لاح وقل ... جمع الله بجمع شملنا )

( علنا نلقى خيالا منكم ... بلذيذ الذكر وهنا علنا )
( لو حنا الدهر علينا لقضى ... باجتماع بكم بالمنحنى )
) ( لاح برق موهنا من نحوكم ... فلعمري ما هنا العيش هنا )
( أنتم الأحباب نشكو بعدكم ... هل شكوتم بعدنا من بعدنا )
وله رحمه الله تعالى من قصيدة مطولة أولها
( لعل بشير الرضى والقبول ... يعلل بالوصل قلب الخليل )
وله أخرى أنشدها عند استقباله المدينة المشرفة على صاحبها الصلاة وأتم السلام وهي ثلاثة وثلاثون بيتا من الغر أولها
( أقول وآنست بالليل نارا ... لعل سراج الهدى قد أنارا )
( وإلا فما بال أفق الدجى ... كأن سنا البرق فيه استطارا )
( ونحن من الليل في حندس ... فما باله قد تجلى نهارا )
وكان أبو الحسن بن جبير المترجم به قد نال بالأدب دنيا عريضة ثم رفضها وزهد فيها
وقال صاحب الملتمس في حقه الفقيه الكاتب أبو الحسين بن جبير ممن لقيته وجالسته كثيرا ورويت عنه وأصله من شاطبة وكان أبوه أبو جعفر من كتابها ورؤسائها ذكره ابن اليسع في تاريخه ونشأ أبو الحسين على طريقة أبيه وتولع بغرناطة فسكن بها قال ومما أنشدنيه لنفسه قوله يخاطب أبا عمران الزاهد بإشبيلية
( أبا عمران قد خلفت قلبي ... لديك وأنت أهل للوديعة )

( حسن القول سيىء الفعل كالجزار ... زاد سمى وأتبع القول ذبحا ) وحدث رحمه الله تعالى بكتاب الشفاء عن أبي عبد الله محمد بن عيسى التميمي عن القاضي عياض ولما قدم مصر سمع منه الحافظان أبو محمد المنذري وأبو الحسين يحيى بن علي القرشي وتوفي ابن جبير بالإسكندرية يوم الأربعاء السابع والعشرين من شعبان سنة 614 والدعاء عند قبره مستجاب قاله ابن الرقيق رحمه الله تعالى وقال ابن الرقيق في السنة بعدها
وقال أبو الربيع بن سالم أنشدني أبو محمد عبد الله بن التميمي البجائي ويعرف بابن الخطيب لأبي الحسين بن جبير وقال وهو مما كتب به إلي من الديار المصرية في رحلته الأخيرة لما بلغه ولايتي قضاء سبتة وكان أبو الحسين سكنها قبل ذلك وتوفيت هنالك زوجته بنت أبي جعفر الوقشي فدفنها بها
( بسبتة لي سكن في الثرى ... وخل كريم إليها أتى )
( فلو أستطيع ركبت الهوا ... فزرت بها الحي والميتا )
وأنشد ابن جبير رحمه الله تعالى لنفسه عند صدوره عن الرحلة الأولى إلى غرناطة أو في طريقها قوله
( لي نحو أرض المنى من شرق أندلس ... شوق يؤلف بين الماء والقبس )
إلى آخرها

ومن شعره قوله
( يا خير مولى دعاه عبد ... أعمل في الباطل اجتهاده )
( هب لي ما قد علمت مني ... يا عالم الغيب والشهادة )
وقال ر حمه الله تعالى
( وإني لأوثر من أصطفي ... وأغضي على زلة العاثر )
( وأهوى الزيارة ممن أحب ... لأعتقد الفضل للزائر )
وقال رحمه الله تعالى
( عجبت للمرء في دنياه تطمعه ... في العيش والأجل المحتوم يقطعه )
( يمسي ويصبح في عشواء يخطبها ... أعمى البصيرة والآمال تخدعه )
( يغتر بالدهر مسرورا بصحبته ... وقد تيقن أن الدهر يصرعه )
( ويجمع المال حرصا لا يفارقه ... وقد درى أنه للغير يجمعه )
( تراه يشفق من تضييع درهمه ... وليس يشفق من دين يضيعه )
( وأسوأ الناس تدبيرا لعاقبة ... من أنفق العمر فيما ليس ينفعه ) وقال
( صبرت على غدر الزمان وحقده ... وشاب لي السم الزعاف بشهده )
( وجربت إخوان الزمان فلم أجد ... صديقا جميل الغيب في حال بعده )
( وكم صاحب عاشرته وألفته ... فما دام لي يوما على حسن عهده )
( وكم غرني تحسين ظني به فلم ... يضيء لي على طول اقتداحي لزنده )
( وأغرب من عنقاء في الدهر مغرب ... أخو ثقة يسقيك صافي وده )
( بنفسك صادم كل أمر تريده ... فليس مضاء السيف إلا بحده )
( وعزمك جرد عند كل مهمة ... فما نافع مكث الحسام بغمده )

( وشاهدت في الأسفار كل عجيبة ... فلم أر من قد نال جدا بجده )
( فكن ذا اقتصاد في أمورك كلها ... فأحسن أحوال الفتى حسن قصده )
( وما يحرم الإنسان رزقا لعجزه ... كما لا ينال الرزق يوما بكده )
( حظوظ الفتى من شقوة وسعادة ... جرت بقضاء لا سبيل لرده )
وقال
( الناس مثل ظروف حشوها صبر ... وفوق أفواهها شيء من العسل )
( تغر ذائقها حتى إذا كشفت ... له تبين ما تحويه من دخل )
وقال
( تغير إخوان هذا الزمان ... وكل صديق عراه الخلل )
( وكانوا قديما على صحة ... فقد داخلتهم حروف العلل )
( قضيت التعجب من أمرهم ... فصرت أطالع باب البدل ) وقد تقدم بيتان من هذه الثلاثة على وجه آخر أول ترجمة المذكور ورأيت بخط ابن سعيد البيتين على وجه آخر وهو قوله
( ثكلت أخلاء هذا الزمان ... فعندي مما جنوه خلل )
( قضيت التعجب من شأنهم ... فصرت أطالع باب البدل ) ولابن جبير رحمه الله تعالى
( من الله فاسأل كل أمر تريده ... فما يملك الإنسان نفعا ولا ضرا )
( ولا تتواضع للولاة فإنهم ... من الكبر في حال تموج بهم سكرا )

( وإياك أن ترضى بتقبيل راحة ... فقد قيل عنها إنها السجدة الصغرى ) وهو نحو قول القائل
( أيها المستطيل بالبغي أقصر ... ربما طأطأ الزمان الرءوسا
( وتذكر قول الإله تعالى ... ( إن قارون كان من قوم موسى )
وقال وقد شهد العيد بطندتة من قرى مصر
شهدنا صلاة العيد في أرض غربة ... بأحواز مصر والأحبة قد بانوا )
( فقلت لخلي في النوى جد بمدمع ... فليس لنا إلا المدامع قربان )
وقال
( قد أحدث الناس أمورا فلا ... تعمل بها إني امرؤ ناصح
( فما جماع الخير إلا الذي ... كان عليه السلف الصالح )
وقال
( رب إن لم تؤتني سعة ... فاطو عني فضلة العمر )
( لا أحب اللبث في زمن ... حاجتي فيه إلى البشر )
( فهم كسر لمنجبر ... ما هم جبر لمنكسر )
ولما وصل ابن جبير - رحمه الله تعالى - إلى مكة في 12 ربيع الآخر سنة 579 أنشد قصيدته التي أولها
( بلغت المنى وحللت الحرم ... فعاد شبابك بعد الهرم )

( فأهلا بمكة أهلا بها وشكرا لمن شكره يلتزم )
( وهي طويلة وسيأتي بعضها
وقال رحمه الله تعالى عند تحركه للرحلة الحجازية
( أقول وقد دعا للخير داع ... حننت له حنين المستهام )
( حرام أن يلذ لي اغتماض ... ولم أرحل إلى البيت الحرام )
( ولا طافت بي الآمال إن لم ... أطف ما بين زمزم والمقام )
( ولا طابت حياة لي إذا لم ... أزر في طيبة خير الأنام ) وأهديه السلام وأقتضيه ... رضى يدني إلى دار السلام ) وقال
( هنيئا لمن حج بيت الهدى ... وحط عن النفس أوزارها )
( وإن السعادة مضمونة ... لمن حج طيبة أو زارها ) ولنختم ترجمته بقوله
( أحب النبي المصطفى وابن عمه ... عليا وسبطيه وفاطمة الزهرا )
( هم أهل بيت أذهب الرجس عنهم ... وأطلعهم أفق الهدى أنجما زهرا )
( موالاتهم فرض على كل مسلم ... وحبهم أسنى الذخائر للأخرى )
( وما أنا للصحب الكرام بمبغض ... فإني أرى البغضاء في حقهم كفرا )
( هم جاهدوا في الله حق جهاده ... وهم نصروا دين الهدى بالظبي نصرا )
( عليهم سلام الله ما دام ذكرهم ... لدى الملإ الأعلى وأكرم به ذاكرا )
وقوله في آخره الميمية
( نبي شفاعته عصمة ... فيوم التنادي به يعتصم )

( عسى أن تجاب لنا دعوة ... لديه فنكفي بها ما أهم )
( ويرعى لزواره في غد ... ذماما فما زال يرعى الذمم )
( عليه السلام وطوبى لمن ... ألم بتربته فاستلم )
( أخي كم نتابع أهواءنا ... ونخبط عشواءها في الظلم )
( رويدك جرت فعج واقتصد ... أمامك نهج الطريق الأعم )
( وتب قبل عض بنان الأسى ... ومن قبل قرعك سن الندم )
ومنها
( وقل رب هب رحمة في غد ... لعبد بسيما العصاة اتسم )
( جرى في ميادين عصيانه ... مسيئا ودان بكفر النعم )
( فيا رب صفحك عما جنى ... ويا رب عفوك عما اجترم ) 180 - ومن الراحلين إلى المشرق من الأندلس الأديب أبو عامر بن عيشون قال الفتح رجل حل المشيدات والبلاقع وحكى النسرين الطائر والواقع واستدر خلفي البؤس والنعيم وقعد مقعد البائس والزعيم فآونة في سماط وأخرى بين درانك وأنماط ويوما في ناووس وأخرى في مجلس مأنوس رحل إلى المشرق فلم يحمد رحلته ولم يعلق بأمل نحلته فارتد على عقبه ورد من حبالة الفوت إلى منتظره ومرتقبه ومع هذا فله تحقق بالأدب وتدفق طبع إذا مدح أو نسب وقد أثبت له ما تعلم حقيقة نفاذه وترى سرعة وخده في طريق الإحسان وإغذاذه
ثم قال وأخبرني أنه دخل مصر وهو سار في ظلم البوس عار من كل لبوس قد خلا من النقد كيسه وتخلى عنه إلا تعذيره وتنكيسه فنزل بأحد

شوارعها لا يفترش إلا نكده ولا يتوسد إلا عضده وبات بليلة ابن عبدل تهب عليه صرصر لا ينفخ منها عنبر ولا مندل فلما كان من السحر دخل عليه ابن الطوفان فأشفق لحاله وفرط إمحاله وأعلمه أن الأفضل ابن أمير الجيوش استدعاه ولو ارتاد جوده بقطعة يغنيها له لأخصب مرعاه فصنع له في حينه
( قل للملوك وإن كانت لهم همم ... تأوي إليها الأماني غير متئد )
( إذا وصلت بشاهنشاه لي سببا ... فلن أبالي بمن منهم نفضت يدي )
( من واجه الشمس لم يعدل بها قمرا ... يعشو إلى ضوئه لو كان ذا رمد )
فلما كان من الغد وافاه فدفع إليه خمسين مثقالا مصرية وكسوة وأعلمه أنه غناه وجود الإظهار للفظه ومعناه وكرره حتى أثبته في سمعه وقرره فسأله عن قائله فأعلمه بقلته وكلمه في رفع خلته فأمر له بذلك وله أيضا رحمه الله تعالى
( قصدت على أن الزيارة سنة ... يؤكدها فرض من الود واجب )
( فألفيت بابا سهل الله إذنه ... ولكن عليه من عبوسك حاجب )
مرضت ومرضت الكلام تثاقلا ... إلي إلى أن خلت أنك عاتب )
فلا تتكلف للعبوس مشقة ... سأرضيك بالهجران إذ أنت غاضب )
( فلا الأرض تدمير ولا أنت أهلها ... ولا الرزق إن أعرضت عني جانب ) وله يستعتبني
( كتبت ولو وفيت برك حقه ... لما اقتصرت كفي على رقم قرطاس )
( ونابت عن الخط الخطا وتبادرت ... فطورا على عيني وطورا على راسي )

( سل الكأس عني هل أديرت فلم أصغ ... مديحك ألحانا يسوغ بها كاسي )
( وهل نافح الآس الندامى فلم أذع ... ثنائي أذكى من منافحة الآس ) 181 - ومن الراحلين من الأندلس إلى المشرق أبو مروان الطبني وهو عبد الملك بن زيادة الله قال في الذخيرة كان أبو مروان هذا أحد حماة سرح الكلام وحملة ألوية الأقلام من أهل بيت اشتهروا بالشعر اشتهار المنازل بالبدر أراهم طرأوا على قرطبة قبل افتراق الجماعة وانتشار شمل الطاعة وأناخوا في ظلها ولحقوا بسروات أهلها وأبو مضر أبوه زيادة الله بن علي التميمي الطبني هو أول من بنى بيت شرفهم ورفع في الأندلس صوته بنباهة سلفهم
قال ابن حيان وكان أبو مضر نديم محمد بن أبي عامر أمتع الناس حديثا ومشاهدة وأنصعهم ظرفا وأحذقهم بأبواب الشحذ والملاطفة وآخذهم بقلوب الملوك والجلة وأنظمهم لشمل إفادة ونجعة انتهى المقصود منه
ثم قال في الذخيرة فأما ابنه أبو مروان هذا فكان من أهل الحديث والرواية ورحل إلى المشرق وسمع من جماعة من المحدثين بمصر والحجاز وقتل بقرطبة سنة سبع وخمسين وأربعمائة انتهى وقد ذكر قصة قتله المستبشعة واتهم باغتياله ابنه
ومن نظم أبي مروان الطبني المذكور ما وجده صاحب الذخيرة في بعض التعاليق بخط بعض أدباء قرطبة قال لما عدا أبو عامر أحمد بن محمد بن أبي

عامر على الحذلمي في مجلسه وضربه ضربا موجعا وأقر بذلك أعين مطالبيه قال أبو مروان الطبني فيه
( شكرت للعامري ما صنعا ... ولم أقل للحذيلمي لعا )
( ليث عرين عدا بعزته ... مفترسا في وجاره ضبعا )
( لا برحت كفه ممكنة ... من الأماني فنعم ما صنعا )
( وددت لو كنت شاهدا لهما ... حتى ترى العين ذل ما خضعا )
( إن طال منه سجوده فلقد ... طال لغير السجود ما ركعا )
موقف ابن نبسام في الذخيرة من الهجاء قال ابن بسام وابن رشيق القائل قبله
( كم ركعة ركع الصفعان تحت يدي ... ولم يقل سمع الله لمن حمده )
ثم قال ابن بسام في الذخيرة ما نصه والعرب تقول فلان يركع لغير صلاة إذا كنوا عن عهر الخلوة ومن مليح الكناية لبعض المتقدمين يخاطب امرأته
( قلت التشيع حب أصلع هاشم ... فترفضي إن شئت أو فتشيعي )
( قالت أصيلع هاشم وتنفست ... بأبي وأمي كل شيء أصلع )
ولما صنت كتابي هذا من شين الهجاء وأكبرنه أن يكون ميدانا للسفهاء

أجريت ههنا طلقا من مليح التعريض في إيجاز القريض مما لا أدب على قائليه ولا وصمة عظمى على من قيل فيه والهجاء ينقسم قسمين فقسم يسمونه هجو الأشراف وهو ما لم يبلغ أن يكون سبابا مقذعا ولا هجوا مستبشعا وهو طأطأ قديما من الأوائل وثل عرش القبائل إنما هو توبيخ وتعبير وتقديم وتأخير كقول النجاشي في بني العجلان وشهرة شعره منعتني عن ذكره واستعدوا عليه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأنشدوه قول النجاشي فيهم فدرأ الحد بالشبهات وفعل ذلك بالزبرقان حين شكا الحطيئة وسأله أن ينشد ما قاله فيه فأنشده قوله
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي )
فسأل عن ذلك كعب بن زهير فقال والله ما أود بما قال له حمر النعم وقال حسان لم يهجه ولكن سلح عليه بعد أن أكل الشبرم فهم عمر رضي الله تعالى عنه بعقابه ثم استعطفه بشعره المشهور
وقال عبد الملك بن مروان يوما أحسابكم يا بني أمية فما أود أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس وأن الأعشى قال في
( تبيتون في المشتى ملاء بطونكم ... وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا )
ولما سمع علقمة بن علاثة هذا البيت بكى وقال أنحن نفعل هذا بجاراتنا ! 4 ودعا عليه فما ظنك بشيء يبكي علاثة وقد كان عندهم لو ضرب بالسيف ما قال حس

وقد كان الراعي يقول هجوت جماعة من الشعراء وما قلت فيهم ما تستحي العذراء أن تنشده في خدرها
ولما قال جرير
فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا )
أطفأ مصباحه ونام وقد كان بات ليلته يتململ لأنه رأى أنه قد بلغ حاجته وشفى غيظه
قال الراعي فخرجنا من البصرة فما وردنا ماء من مياه العرب إلا وسمعنا البيت قد سبقنا إليه حتى أتينا حاضر بني نمير فخرج إلينا النساء والصبيان يقولون قبحكم الله وقبح ما جئتمونا به
والقسم الثاني هو السباب الذي أحدثه جرير أيضا وطبقته وكان يقول إذا هجوتم فأضحكوا وهذا النوع منه لم يهدم قط بيتا ولا عيرت به قبيلة وهو الذي صنا هذا المجموع عنه وأعفيناه أن يكون فيه شيء منه فإن أبا منصور الثعالبي كتب منه في يتيمته ما شانه اسمه وبقي عليه إثمه
ومن مليح التعريض لأهل أفقنا قول بعضهم في غلام كان يصحب رجلا يسمى بالبعوضة
( أقول لشادنكم قولة ... ولكنها رمزة غامضة )
( لزوم البعوض له دائما ... يدل على أنها حامضة ) وأنشدت في مثله قول بعض أهل الوقت
( بيني وبينك سر لا أبوح به ... الكل يعلمه والله غافره )
وحكى أبو عامر بن شهيد عن نفسه قال عاتبت بعض الإخوان عتابا شديدا عن أمر أوجع فيه قلبي وكان آخر الشعر الذي خاطبته به هذا البيت

( وإني على ما هاج صدري وغاظني ... ليأمنني من كان عندي له سر )
فكان هذا البيت أشد عليه من عض الحديد ولم يزل يقلق به حتى بكى إلي منه بالدموع وهذا الباب ممتد الأطناب ويكفي ما مر ويمر منه في أضعاف هذا الكتاب انتهى كلام ابن بسام في الذخيرة بلفظه
من خطة الذخيرة
ولا خفاء أنه عارض بالذخيرة يتيمة الثعالبي ولذا قال في خطبة الذخيرة أما بعد حمد الله ولي الحمد وأهله والصلاة على سيدنا محمد خاتم رسله فإن ثمرة هذا الأدب العالي الرتب رسالة تنثر وترسل وأبيات تنظم وتفصل تنثال تلك انثيال القطار على صفحات الأزهار وتتصل هذه اتصال القلائد على نحور الخرائد وما زال في أفقنا هذا الأندلسي القصي إلى وقتنا هذا من فرسان الفنين وأئمة النوعين قوم هم ما هم طيب مكاسر وصفاء جواهر وعذوبة موارد ومصادر لعبوا بأطراف الكلام المشقق لعب الدجى بجفون المؤرق وحدوا بفنون السحر المنمق حداء الأعشى ببنات المحلق فصبوا على قوالب النجوم غرائب المنثور والمنظوم وباهوا غرر الضحى والأصائل بعجائب الأشعار والرسائل نثر لو رآه البديع لنسي اسمه أو اجتلاه ابن هلال لولاه حكمه ونظم لو سمعه كثير ما نسب ولا مدح أو تتبعه جرول ما عوى ولا نبح إلا أن أهل هذا الأفق أبوا إلا متابعة أهل الشرق يرجعون إلى أخبارهم المعادة رجوع الحديث إلى قتادة حتى لو نعق بتلك الآفاق غراب أو طن بأقصى الشام والعراق ذباب لجثوا

على هذا صنما وتلوا ذلك كتابا محكما وأخبارهم الباهرة وأشعارهم السائرة مرمى القصية ومناخ الرذية لا يعمر بها جنان ولا خلد ولا يصرف فيها لسان ولا يد فغاظني منهم ذلك وأنفت مما هنالك وأخذت نفسي بجمع ما وجدت من حسنات دهري وتتبع محاسن أهل بلدي وعصري غيرة لهذا الأفق الغريب أن تعود بدوره أهلة وتصبح بحوره ثمادا مضمحلة مع كثرة أدبائه ووفور علمائه وقديما ضيعوا العلم وأهله ورب محسن مات إحسانه قبله وليت شعري من قصر العلم على بعض الزمان وخص أهل المشرق بالإحسان وقد كتبت لأرباب هذا الشان من أهل الوقت والزمان محاسن تبهر الألباب وتسحر الشعراء والكتاب ولم أعرض لشيء من أشعار الدولة المروانية ولا المدائح العامرية إذ كان ابن فرج الجياني قد رأى رأيي في النصفة وذهب مذهبي من الأنفة فأملى في محاسن أهل زمانه كتاب الحدائق معارضا لكتاب الزهرة للأصبهاني فأضربت أنا عما ألف ولم أعرض لشيء مما صنف ولا تعديت أهل عصري مما شاهدته بعمري أو لحقه أهل دهري إذ كل مردد ثقيل وكل متكرر مملول وقد مجت الأسماع
( يا دار مية بالعلياء فالسند ... )
إلى أن قال بعد ذكره أنه يسوق جملة من المشارقة مثل الشريف المرتضى والقاضي عبد الوهاب والوزير ابن المغربي وغيرهم ممن يطول ما صورته وإنما ذكرت هؤلاء ائتساء بأبي منصور في تأليفه المشهور المترجم بيتيمة الدهر في محاسن أهل العصر انتهى المقصود منه

البحراوي يهجو قومه
قلت وتذكرت بما أنشده في الهجاء قول الباقعة الشاعر المشهور أبي العباس أحمد الغفجومي الشهير بالجواري وعامة الغرب يقولون الجراوي يهجو قومه بني غفجوم وهم بربر بتادلا متوصلا بذلك إلى هجو أصلاء فاس بني الملجوم ومستطردا في ذلك ما هو في اطراده كالماء السجوم وهو [ قوله ]
( يا ابن السبيل إذا مررت بتادلا ... لا تنزلن على بني غفجوم )
( أرض أغار بها العدو فلن ترى ... إلا مجاوبة الصدى للبوم )
( قوم طووا ذكر السماحة بينهم ... لكنهم نشروا لواء اللوم ) ( لا حظ في أموالهم ونوالهم ... للسائل العافي ولا المحروم )
( لا يملكون إذا استبيح حريمهم ... إلا الصراخ بدعوة المظلوم )
( يا ليتني من غيرهم ولو أنني ... من أرض فاس من بني الملجوم )
وقد ذكر غير واحد من المؤرخين أن أحد بني الملجوم قضاة فاس وأصلائها بيعت أوراق التي هي غير مجلدة بل متفرقة بستة آلاف دينار ويكفيك ذلك في معرفة قدر القوم ومع ذلك هجاهم بهذا والله سبحانه يغفر الزلات
رجع إلى ما كنا فيه من ذكر من ارتحل من علماء
الأندلس إلى البلاد المشرقية المحروسة فنقول
182 - ومنهم حبيب بن الوليد بن حبيب الداخل إلى الأندلس ابن عبد

الملك بن عمر بن الوليد بن عبد الملك بن مروان من أهل قرطبة ويعرف بدحون [ رحل إلى المشرق أيام عبد الرحمن بن الحكم وحج ولقي أهل الحديث فكتب عنهم وقدم بعلم كثير وكانت له حلقة بجامع قرطبة يسمع الناس فيها وهو يلبس الوشي الشامي إلى أن أوصى إليه الأمير عبد الرحمن بترك ذلك فتركه وتوفي بعد المائتين
ومن شعره قوله
قال العذول وأين قلبك 8 كلما ... رمت اهتداءك لم يزل متحيرا )
( قلت اتئد فالقلب أول خائن ... لما تغير من هويت تغيرا )
( ونأى فبان الصبر عني جملة ... وبقيت مسلول العزاء كما ترى ) ومن ولده سعيد بن هشام وكان أديبا عالما فقيها رحم الله تعالى الجميع ودخل دمشق وطنهم الأقدم وعاملها يومئذ للمعتصم بن الرشيد عمر بن فرج الرخجي فوافق دخوله إياها غلاء شديدا ومجاعة أشكت أهلها فضجوا إلى الرخجي أن يخرج عنهم من عندهم من الغرباء القادمين عليهم من البلاد فأمر بالنداء في المدينة على كل من بها من طارىء وابن سبيل ليخرجوا عنها وضرب لهم أجلا ثلاثة أيام أوعد من تخلف منهم بعدها بالعقاب فابتدر الغرباء الخروج عنها وأقام حون لم يتحرك فجيء به إلى الرخجي بعد الأجل فقال له ما بالك عصيت أمري أو ما سمعت ندائي 2 فقال له دحون ذلك النداء الذي وقفني فقال له وكيف فانتمى له فقال

له الرخجي صدقت والله إنك لأحق بالإقامة فيها منا فأقم ما أحببت وانصرف إذا شئت
وكان لدحون هذا ابن يقال له بشر بن حبيب ويعرف بالحبيبي وهو من المشهورين بقرطبة وأمه المدنية الراوية عن مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه وبنته عبدة بنت بشر مشهورة ولها رواية عنه رحم الله تعالى الجميع 183 - ومنهم بهلول بن فتح من أهل أقليش له رحلة حج فيها وكان رجلا صالحا خيرا حكى عن نفسه أنه رأى في منامه بعد قدومه من الحج كأنه بمكة وقائل يقول انطلق بنا نصل مع النبي قال فكنت أقول لرجل من جيراني بأقليش يا أبا فلان انطلق بنا نصل مع النبي فيقول لي لست أجد إلى ذلك سبيلا فكنت أتوجه وأصلي مع الناس والنبي إمامنا فلما سلم من الصلاة رجع إلي وقال لي من أين أنت قلت له من الأندلس فكان يقول من أي موضع فكنت أقول من مدينة أقليش فيقول لي أتعرف أبا إسحاق البواني فكنت أقول هو جاري وكيف لا أعرفه فيقول لي أقرئه مني السلام
184 - ومنهم أبو الحسن ثابت بن أحمد بن عبد الولي الشاطبي روى عن ابي زيد عبد الرحمن بن يعيش المهري ورحل حاجا فسمع منه بالإسكندرية أبو الحسن بن المفضل المقدسي وحدث عنه بالحديث المسلسل في الأخذ باليد عن ابن يعيش المذكور عن ابي محمد عبد العزيز بن عبد الله بن سعيد بن خلف الأنصاري عن أبي الحسن طاهر بن مفوز وعليه مداره بالأندلس

عن نصر السمرقندي بإسناده وفيه بعد قال الحافظ ابن الأبار وقد رويته مسلسلا من طرق بعضها عن ابن المفضل وأنبأني به ابن أبي جمرة عن أبي بحر الأسدي عن نصر السمرقندي فصار ابن المفضل بمنزلة من سمعه ممن سمعه مني والحمد لله تعالى انتهى 185 - ومنهم أبو أحمد جعفر بن لب بن محمد بن عبد الرحمن بن يونس بن ميمون اليحصبي سكن شاطبة وأصله من أنشيان عملها ويكنى أبا الفضل أيضا حج وسمع أبا طاهر بن عوف والحافظ السلفي وأبا عبد الله بن الحضرمي وأبا الثناء الحراني وبدر بن عبد الله الحبشي وأبا الحسن بن المفضل وغيرهم وكان من أهل العناية بالرواية مع الصلاح والعدالة حسن الخط جيد الضبط سماه التجيبي في معجم مشيخته وهو في عداد أصحابه لاشتراكهما في السماع بإسكندرية وتركه هنالك ثم قدم عليه تلمسان من شاطبة في أضحى سنة ست وثمانين وخمسمائة وحكى مما أفاده عن ابن المفضل أن أبا عبد الله الكيزاني - وكان شاعرا مجيدا - أتته امرأة مات ولدها فسألته أن يرثيه فقال
( تبكي عليه بشجو ... فقلت لا تندبيه )
( هذا زمان عجيب ... قد عاش من مات فيه )
وأخذ عنه الحافظ أبو الربيع بن سالم وقال إنه توفي بعد التسعين وخمسمائة رحمه الله تعالى 186 - ومنهم أبو أحمد جعفر بن عبد الله بن محمد بن سيدبونة الخزاعي العابد من أهل قسطنطانية عمل دانية أخذ القراءات عن ابن هذيل وسمع منه ومن ابن النعمة ببلنسية ورحل حاجا فأدى الفريضة ودخل الإسكندرية مرافقا لمن سمع من السلفي ولم يسمع منه هو شيئا قال ابن الأبار فيما علمت وقفل إلى بلده مائلا إلى الزهد والإعراض عن الدنيا وكان شيخ المتصوفة في وقته وعلا ذكره وبعد صيته في العبادة إلا أنه كانت فيه غفلة قال ابن الأبار ورأيته إذ قدم بلنسية لإحياء ليلة النصف من شعبان سنة إحدى عشرة وستمائة وتوفي عن سن عالية تقارب المائة منتصف ذي القعدة سنة أربع وعشرين وستمائة وشهد جنازته بشر كثير من جهات شتى وانتاب الناس قبره دهرا طويلا يتبركون بزيارته إلى حين إجلاء الروم من كان يشاركهم من المسلمين ببلاد شرق الأندلس التي تغلبوا عليها وذلك في شهر رمضان سنة خمس وأربعين وستمائة
187 - ومنهم أبو جعفر النحوي أندلسي نزل مصر وكان من رؤساء أهل العلم بالنحو وممن له حال جليلة ذكره الطبني فيما حكاه ابن الأبار 188 - ومنهم أبو الحسن جابر بن أحمد بن عبد الله الخزرجي القرطبي وكناه بعضهم أبا الفضل سمع ببلده من أبي محمد بن عتاب وغيره ورحل حاجا فأدى الفريضة وكان أديبا ناظما كتب عنه أبو محمد العثماني بالإسكندرية بعض شعره 189 - ومنهم أبو الحسن جهور بن خلف بن أبي عمر بن قاسم بن ثابت

المعافري رحل حاجا إلى المشرق فأدى الفريضة وسمع بالإسكندرية من أبي طاهر السلفي سنة تسع وثلاثين وخمسمائة وسمع أيضا من غيره وطال مكثه هنالك وهو - فيما رجحه بعضهم - من أهل غرب الأندلس 190 - ومنهم أبو علي الحسن بن حفص بن الحسن البهراني الأندلسي رحل وتجول ببلاد المشرق فسمع أبا محمد عبد الله بن حمويه وأبا حامد أحمد بن محمد بن رجاء بسرخس وأبا محمد بن أبي شريح بهراة وأبا عبد الله الحسين بن عبد الله المفلحي بالأهواز وأبا بكر أحمد بن جعفر البغدادي وأبا حامد أحمد بن الخليل وأبا حاتم حامد بن العباس وأبا محمد الحسن بن رشيق بمصر وقدم دمشق فروى عنه من أهلها تمام بن محمد وبنيسابور أحمد بن منصور بن خلف المغربي وغيره ذكره ابن عساكر وقال أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن علي بن فطيمة وأبو القاسم زاهر بن طاهر قالا أنا أبو بكر أحمد بن منصور أنا أبو علي الحسن بن جعفر القضاعي وأنا الحسن بن رشيق بمصر أنا المفضل بن محمد الجندي أنا أبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري قال سمعت مالك بن أنس يقول لا يحمل العلم عن أهل البدع كلهم ولا يحمل العلم عمن لم يعرف بالطلب ومجالسة أهل العلم ولا يحمل عمن يكذب في حديث الناس وإن كان في حديث رسول الله صادقا لأن الحديث والعلم إذا سمع من العالم فقد جعل حجة بين الذي سمعه وبين الله تبارك وتعالى وإنما قال فيه القضاعي لأن بهراء من قضاعة الأموي والحسن بن إبراهيم 191 - ومنهم أبو علي الحسن بن خلف بن يحيى بن إبراهيم بن محمد

الأموي من أهل دانية ويعرف بابن برنجال سمع من أبي بكر بن صاحب الأحباس وأبي عثمان طاهر بن هشام وغيرهما وله رحلة حج فيها وسمع من أبي إسحاق إبراهيم بن صالح القروي وببيت المقدس من أبي الفتح نصر بن إبراهيم سنة خمس وستين وأربعمائة وبعسقلان من أبي عبد الله محمد بن الحسن بن سعيد التجيبي وأخذ عنه كتاب الوقف والابتداء لابن الأنباري بسماعه من عبد العزيز الشعيري عن مؤلفه وكان فقيها على مذهب مالك وولي الأحكام ببلده وحدث وأخذ عنه وسمع الناس منه بالإسكندرية سنة تسع وستين ثم بدانية سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة وتوفي في نحو الخمسمائة رحمه الله تعالى
192 - ومنهم أبو علي الحسن بن إبراهيم بن محمد بن تقي الجذامي المالقي روى بقرطبة عن أبي محمد بن عتاب وعن أبي سكرة الصدفي بمرسية سنة ثمان وخمسمائة وصحب أبا مروان بن مسرة وكان من أهل الرواية والتقييد وكانت له رحلة سمع فيها من أبي طاهر السلفي مجالسه التي أملاها بسلماس برجب سنة خمس عشرة وخمسمائة حسبما ألفى بخط السلفي وفي رحلته لقيه أبو علي الحسن بن علي البطليوسي نزيل مكة وحدث عنه أبو طالب أحمد بن مسلم المعروف بالتنوخي من أهل الإسكندرية بكتاب الاستيعاب لابن عبد البر وأجاز له إجازة عامة في السنة السابقة وقال ابن عساكر في تاريخه وذكر أبا ذر الهروي سمعت أبا الحسن علي بن سليمان المرادي الحافظ الأندلسي بنيسابور يقول سمعت أبا علي الحسن بن علي الأنصاري البطليوسي قال ابن عساكر وقد لقيته ولم أسمعها منه قال سمعت أبا علي الحسن بن إبراهيم بن تقي الجذامي المالقي يقول سمعت بعض

الشيوخ يقول قيل لأبي ذر الهروي أنت من هراة فمن أين تمذهبت لمالك والأشعري فقال إني قدمت بغداد أطلب الحديث فلزمت الدارقطني فلما كان في بعض الأيام كنت معه فاجتاز به القاضي أبو بكر بن الطيب فأظهر الدارقطني من إكرامه ما تعجبت منه فلما فارقه قلت أيها الشيخ الإمام من هذا الذي أظهرت من إكرامه ما رأيت فقال أو ما تعرفه قلت لا فقال هذا سيف السنة أبو بكر الأشعري فلزمت القاضي منذ ذلك واقتديت به في مذهبه انتهى 193 - ومنهم أبو علي الحسن بن علي بن الحسن بن عمر الأنصاري البطليوسي رحل إلى المشرق فأدى الفريضة وتجول هناك ولقي أبا الحسن بن المفرج الصقلي وأبا عبد الله الفراوي فسمع منهما الصحيحين بعلو وسمع من أبي الفتح ناصر بن أبي علي الطوسي سنن أبي داود وحدث بالموطأ عن أبي بكر الطرطوشي وله أيضا رواية عن زاهر بن طاهر الشحامي وعبد المنعم بن عبد الكريم القشيري وأبي محمد الحريري سمع منه مقاماته الخمسين ببستانه من بغداد ونزل بمكة وجاور بها وحدث فيها وفي غيرها وأسن وكان ثقة مسندا يروي عنه أبو عبد الله بن أبي الصيف اليمني وأبو جعفر بن شراحيل الأندلسي وأبو عبد الله محمد بن إبراهيم الإربلي وسمع منه في صفر سنة ست وستين وخمسمائة وقد لقيه أبو القاسم بن عساكر الحافظ وروى عنه
194 - ومنهم أبو علي الحسن بن محمد بن الحسن الأنصاري من أهل لرية عمل بلنسية ويعرف بابن الرهبيل سمع من أبي الحسن بن النعمة

كثيرا واختص به وعنه أخذ القراءات وسمع من ابن هذيل أيضا ثم رحل حاجا فلقي بالإسكندرية سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة أبا طاهر السلفي وأبا عبد الله بن الحضرمي وسمع منهما وجاور بمكة وأخذ بها عن أبي الحسن علي بن حميد الطرابلسي صحيح البخاري وكان يرويه عن أبي مكتوم عيسى بن أبي ذر الهروي عن أبيه وسمع أيضا من أبي محمد المبارك بن الطباخ البغدادي وأجاز له أبو المفاخر سعيد بن الحسين الهاشمي وأبو محمد عبدالحق بن عبد الرحمن الإشبيلي ببجاية عند صدوره في ربيع الأول سنة سبع وسبعين وقفل إلى بلده فلزم الانقطاع والانقباض عن الناس والإقبال على ما يعنيه وكان قد خطب به قبل رحلته وحكى التجيبي أن طلبة الإسكندرية تزاحموا عليه لسماع التيسير لأبي عمرو المقرء منه بروايته عن ابن هذيل سماعا في سنة ثلاث وخمسين وصارت له بذلك عندهم وجاهة وبعد قفوله أصابه خدر منعه من التصرف وكان الصلاح غالبا عليه وتوفي غدوة الجمعة لثمان خلون من شعبان سنة خمس وثمانين وخمسمائة وكانت جنازته مشهودة رحمه الله تعالى 195 - ومنهم الحسين بن أحمد بن الحسين بن حي التجيبي القطبي أخذ علم العدد والهندسة عن أبي عبد الله محمد بن عمر المعروف بابن برغوث وكان كلفا بصناعة التعديل وله زيج مختصر ذكره القاضي صاعد ونسبه وحكى أنه خرج من الأندلس في سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة بعد أن نالته بها وبالبحر محن شداد ولحق بمصر ثم رحل عنها إلى اليمن واتصل بأميرها فحظي عنده وبعثه رسولا إلى القائم بأمر الله الخليفة ببغداد ونال هناك دنيا عريضة

وتوفي باليمن بعد انصرافه من بغداد سنة ست وخمسين وأربعمائة رحمه الله تعالى 196 - ومنهم أبو يوسف حماد بن الوليد الكلاعي أخذ بقرطبة عن أبي المطرف القنازعي وغيره ورحل إلى المشرق وحدث بالإسكندرية فسمع منه بها يحيى بن إبراهيم بن عثمان بن شبل شرح الاعتقاد من تأليفه ورسالة قمع الحرص وقصر الأمل والحث على العمل وذلك في سنة سبع وأربعين وأربعمائة ولقيه هنالك أبو مروان الطبني فسمع منه بعض فوائده 197 - ومنهم أبو القاسم خلف بن فتح بن عبد الله بن جبير من أهل طرطوشة يعرف بالجبيري وهو والد أبي عبيد القاسم بن خلف الجبيري الفقيه وكانت له رحلة إلى المشرق ومعه رحل ابنه وهو صغير وكان من أهل العلم والنزاهة وعليه نزل القاضي منذر بن سعيد بطرطوشة في ولايته قضاء الثغور الشرقية قال أبو عبيد نزل القاضي منذر بن سعيد على أبي وهو يومئذ يتولى القضاء في الثغور الشرقية قبل أن يلي قضاء الجماعة بقرطبة فأنزله في بيته الذي كان يسكنه فكان إذا تفرغ نظر في كتب أبي فمر على يديه كتاب فيه أرجوزة ابن عبد ربه يذكر فيها الخلفاء ويجعل معاوية رابعهم ولم يذكر عليا فيهم ثم وصل ذلك بذكر الخلفاء من بني مروان إلى عبد الرحمن بن محمد فلما رأى ذلك منذر غضب وسب ابن عبد ربه وكتب في حاشية الكتاب
( أو ما علي - لا برحت ملعنا ... يا ابن الخبيثة عندكم بإمام )

( رب الكساء وخير آل محمد ... داني الولاء مقدم الإسلام )
قال أبو عبيد والأبيات بخطه في حاشية كتاب أبي إلى الساعة وكانت ولاية منذر للثغور مع الإشراف على العمال بها والنظر في المختلفين من بلاد الإفرنج إليها سنة ثلاثين وثلاثمائة 123 خلف الغرناطي وخلف القنطري وابن زرارة وطاهر المالقي 198 - ومنهم أبو القاسم خلف بن محمد بن خلف الغرناطي له رحلة روى فيها بالإسكندرية عن مهدي بن يوسف الوراق وحدث عنه أبو العباس بن عيسى الداني بالتلقين للقاضي عبد الوهاب 199 - ومنهم أبو القاسم خلف بن فرج بن خلف بن عامر بن فحلون القنطري من قنطرة السيف وسكن بطليوس ويعرف بابن الروية رحل حاجا فأدى الفريضة ولقي بمكة رزين بن معاوية الأندلسي فحمل عنه كتابه في تجريد الصحاح سنة خمس وخمسمائة وفيها حج وقفل إلى بلده بعد ذلك وكان فقيها مشاورا حدث عنه ابن خير في كتابه إليه من بطليوس في نحو الثلاثين وخمسمائة 200 - ومنهم زرارة بن محمد بن زرارة الأندلسي رحل حاجا إلى المشرق وسمع بمصر أبا محمد الحسن بن رشيق سنة سبع وستين وثلاثمائة وأبا بكر مسرة بن مسلم الصدفي حدث وأخذ عنه 201 - ومنهم طاهر الأندلسي من أهل مالقة يكنى أبا الحسين رحل إلى قرطبة وخرج منها لما دخلها البرابر عنوة سنة ثلاث وأربعمائة

فلم يزل بمكة إلى حدود الخمسين وأربعمائة وكان من أصحاب أبي عمر الطلمنكي وملازميه لقراءة القرآن وطلب العلم مع أبي محمد الشنتجالي وأبي أيوب الزاهد إمام مسجد الكوابين بقرطبة وجاور بمكة طويلا وأقرأ على مقربة من باب الصفا وكان الشيبيون يكرمونه ويفرجون له لضعفه عند دخوله البيت الحرام ذكره الطبني قال ابن الأبار وأحسبه المذكور في برنامج الخولاني والذي قرأ لهم أكثر المدونة على أبي عمر أحمد بن محمد الزيات انتهى 202 - ومنهم أبو الطاهر الأندلسي من أهل لبلة نزل مصر وكانت له حلقة بجامع عمرو بن العاص وكان - رحمه الله تعالى ! - نحويا له شعر وترسيل وتعلق بالملوك للتأديب بالنحو ثم ترك ذلك 203 - ومنهم أبو محمد طارق بن موسى بن يعيش المنصفي المخزومي والمنصفي نسبة إلى قرية بغربي بلنسية ويكنى أيضا أبا الحسن رحل قبل العشرين وخمسمائة فأدى الفريضة وجاور بمكة وسمع بها من أبي عبد الله الحسين بن علي الطبري ومن الشريف أبي محمد عبد الباقي الزهري المعروف بشقران أخذ عنه كتاب الأحياء للغزالي عن مؤلفه وسمع بالإسكندرية من أبي بكر الطرطوشي وأبي الحسن بن مشرف وأبي عبد الله الرازي وأبي طاهر السلفي وغيرهم ثم قفل إلى بلده فحدث وأخذ الناس عنه وسمعوا منه وكان شيخا صالحا عالي الرواية ثقة قال ابن عياد لم ألق أفضل منه وكان مجاب الدعوة وحدث عنه بالسماع والإجازة جلة منهم أبو الحسن بن هذيل وأبو محمد القلني وأبو مروان بن الصيقل وأبو العباس الإقليشي

وأبو بكر بن خير وابن سعد الخير وأبو محمد عبد الحق الإشبيلي وأبو بكر بن جزي وغيرهم ثم رحل ثانية إلى المشرق مع صهره أبي العباس الأقليشي وأبي الوليد بن خيرة الحافظ سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة وقد نيف على السبعين فأقام بمكة مجاورا إلى أن توفي بها عن سن عالية رحمه الله تعالى - سنة تسع وأربعين وخمسمائة 204 - ومنهم محمد بن إبراهيم بن مزين الأودي من أهل أكشونبة غربي الأندلس يكنى أبا مضر ولاه عبد الرحمن بن معاوية قضاء الجماعة بقرطبة وذلك في المحرم سنة سبعين ومائة وأقام أشهرا ثم استعفى فأعفاه ورحل حاجا فأدى الفريضة وسمع في رحلته إمامنا مالك بن أنس وانصرف ومات عن سن عالية سنة ثلاث وثمانين ومائة وذكره ابن شعبان في الرواة عن مالك وحكي أنه روى عنه من قطع لسانه استؤني به عاما وأن مالكا قال له قد بلغني أن بالأندلس من نبت لسانه فإن لم ينبت أقيد انتهى الشاطبي وابن سماعة أحمد 205 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد حياز الشاطبي الأوسي قدم مصر وكان قد أخذ عن ابن برطلة وابن البراء وغيرهما وعمل فهرست شيوخه على حروف المعجم وحج وعاد إلى بلده ومات يوم الجمعة حادي عشر رجب سنة ثماني عشرة وسبعمائة رحمه الله تعالى وغفر له 206 - ومنهم القاضي أبو مروان محمد بن أحمد بن عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الملك بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن شريعة بن رفاعة بن صخر بن سماعة اللخمي الأندلسي الإشبيلي
قال أبو شامة هو من

بيت كبير بالأندلس يعرف ببني الباجي مشهور كثير العلماء والفضلاء وأصلهم من باجة القيروان وليس منهم القاضي أبو الوليد الباجي الفقيه فإنه من بيت آخر من باجة الأندلس وقدم أبو مروان حاجا من بلاده في البحر إلى عكا من ساحل دمشق ثم دخل دمشق سادس شهر رمضان سنة أربع وثلاثين وستمائة ونزل عندنا بالمدرسة العادلية وجده الأعلى أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي قدم إلى الديار المصرية وحج منها ومعه ولده محمد أخو عبد الملك ويعرف بصاحب الوثائق وسمعا بها من جماعة من العلماء وذكر أبو عبد الله الحميدي أحمد بن عبد الله هذا في جذوة المقتبس وكناه أبا عمر وذكر أنه سكن إشبيلية وأثنى عليه كثيرا وقال مات في حدود الأربعمائة وروى عنه ابن عبد البر وغيره وأبوه عبد الله بن محمد بن علي يعرف بالرواية ذكره الحميدي أيضا
وذكر ابن بشكوال في الصلة عبد الملك بن عبد العزيز جد هذا الشيخ القادم وأثنى عليه وقال توفي سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة
وكان هذا الشيخ أبو مروان حسن الأخلاق فاضلا متواضعا محسنا وسمعته يقول وقد سئل إعارة شيء فبادر إليه ثم قال عندي في قوله تعالى ( ويمنعون الماعون ) هو كل شيء واستفدنا من هذا الشيخ فائدة جليلة وهي معينة قدر مد النبي وهو عندهم متوارث وقد أخبر عن ذلك أبو محمد بن حزم في كتابه المحلى وعايرت بذلك المد المد الذي لنا بدمشق حينئذ وهو الكيل الكبير فوجدت مدنا يسع صاعين إلا يسيرا ووجدته ممسوحا يسع صاعا ونصفا وشيئا فيكون مدان ممسوحان ثلاثة آصع زائدة وقرأت في كتاب

المحلى لابن حزم قال أبو محمد وخرط لي مد على تحقيق المد المتوارث عند آل عبد الله بن علي الباجي وهو عند أكثرهم لا يفارق داره أخرجه إلي ثقتي الذي كلفته ذلك علي بن عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن علي المذكور وذكر أنه مد أبيه وأن جده أخذه وخرطه على مد أحمد بن خالد وأخبره أحمد بن خالد أنه خرطه على مد يحيى بن يحيى على مد مالك قال أبو محمد ولا شك أن أحمد بن خالد صححه أيضا على مد محمد بن وضاح الذي صححه ابن وضاح بالمدينة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام قال أبو محمد ثم كلته بالقمح الطيب ثم وزنته فوجدته رطلا ونصف رطل بالفلفلي لا يزيد حبة وكلته بالشعير إلا أنه لم يكن بالطيب فوجدته رطلا واحدا ونصف أوقية وسألت عن الرطل الفلفلي فقيل لي هو ست عشرة أوقية كل أوقية عشرة دراهم وفي تقدير ابن حزم نظر
وتوفي هذا الشيخ بالقاهرة سنة خمس وثلاثين وستمائة بعد رجوعه من الحج رحمه الله تعالى
انتهى كلام أبي شامة وبعضه بالمعنى 207 - ومنهم أبو العباس أحمد بن محمد الواعظ الإشبيلي ثم المصري فاضل شرح الصدور بلفظه ومتكلم أحيا القلوب بوعظه أحواله مشهورة ومجالسه بالذكر معمورة وله معرفة بالأدب وخبرة بالشعر والخطب وكلام وجهه حسن ونظم يمتاز به على كثير من أرباب

اللسن قاله ابن حبيب الحلبي قال وهو القائل
( من أنت محبوبه من ذا يعيره ... ومن صفوت له من ذا يكدره )
( هيهات عنك ملاح الكون تشغلني ... والكل أعراض حسن أنت جوهره )
وقال
( اكشف البرقع عن بكر العقار ... واخل في ليلك مع شمس النهار )
( وانهب العيش ودعه غلطا ... ينقضي ما بين هتك واستتار )
( إن تكن شيخ خلاعات الصبا ... فالبس الصبوة في خلع العذار )
( وارض بالعار وقل قد آن لي ... في هوى خمار كاسي لبس عاري ) وقال
( حثوا إلى نجد نياق الهوى ... فثم واد جوه معشب )
( وانتظروا حتى يلوح الحمى ... فالعيش فيه طيب طيب )
وتوفي سنة أربع وثمانين وستمائة هكذا ذكر ترجمته ابن حبيب ثم بعد كتبها حصل لي شك هل هو ممن ارتحل بنفسه من الأندلس أو ولد بمصر وإنما ارتحل إليها بعض سلفه والله تعالى أعلم 208 - وكذا ذكر آخر بقوله في سنة سبع وثمانين وستمائة وفيها توفي الإمام زكي الدين أبو إسحاق إبراهيم بن عبد العزيز بن يحيى بن علي الإشبيلي المالكي محدث عالم زاهد فيما ليس بدائم كثير الخير

جزيل المير كان حسن المناهج قاضيا للحوائج محسنا إلى الصامت والمعرب مقصدا لمن يرد من الحجاز والمغرب سمع بمصر ودمشق وحلب وأفتى ودرس مفيدا لذوي الطلب ولم يبرح يعين بأياديه ويغيث وهو أول من باشر بظاهرية دمشق مشيخة الحديث وكانت وفاته بدمشق عن نيف وسبعين سنة انتهى 209 - ومنهم الأحق بالسبق والتقدم بقي بن مخلد بن يزيد أبو عبد الرحمن القرطبي الأندلسي الحافظ أحد الأعلام وصاحب التفسير والمسند أخذ عن يحيى بن يحيى الليثي ومحمد بن عيسى الأعشى وارتحل إلى المشرق ولقي الكبار وسمع بالحجاز مصعبا الزهري وإبراهيم بن المنذر وطبقتهما وبمصر يحيى بن بكير وزهير بن عباد وطائفة وبدمشق إبراهيم بن هشام الغساني وصفوان بن صالح وهشام بن عمار وجماعة وببغداد أحمد بن حنبل وطبقته وبالكوفة يحيى بن عبد الحميد الحماني ومحمد بن عبد الله بن نمير وأبا بكر بن أبي شيبة وطائفة وبالبصرة أصحاب حماد بن زيد وعني بالأثر عناية عظيمة لا مزيد عليها وعدد شيوخه مائتان وأربعة وثلاثون رجلا وكان إماما زاهدا صواما صادقا كثير التهجد مجاب الدعوة قليل المثل مجتهدا لا يقلد بل يفتي بالأثر ولد في رمضان سنة إحدى ومائتين وتوفي في جمادي الآخرة سنة ست وسبعين ومائتين

قال ابن حزم أقطع أنه لم يؤلف في الإسلام مثل تفسيره لا تفسير محمد بن جرير ولا غيره وكان محمد بن عبد الرحمن الأموي صاحب الأندلس محبا للعلوم عارفا بها فلما دخل بقي بن مخلد الأندلس بمصنف ابن أبي شيبة وقرىء عليه أنكر جماعة من أهل الرأي ما فيه من الخلاف واستبشعوه وقام جماعة من العامة عليه ومنعوه من قراءته فاستحضره الأمير محمد وإياهم وتصفح الكتاب جزءا جزءا حتى أتى على آخره ثم قال لخازن كتبه هذا الكتاب لا تستغني خزانتنا عنه فانظر في نسخه لنا وقال لبقي انشر علمك وارو ما عندك ونهاهم أن يتعرضوا له قال ابن حزم مسند بقي روي فيه عن ألف وثلاثمائة صاحب ونيف ورتب حديث كل صاحب على أبواب الفقه فهو مسند ومصنف أعلم هذه الرتبة لأحد قبله مع ثقته وضبطه وإتقانه واحتفاله في الحديث وله في فتاوى الصحابة والتابعين ممن ذكرهم أربى فيه على مصنف أبي بكر بن أبي شيبة وعلى مصنف عبد الرزاق وعلى مصنف سعيد بن منصور ثم ذكر تفسيره فقال فصارت تصانيف هذا الإمام الفاضل قواعد الإسلام لا نظير لها وكان متخيرا لا يقلد أحدا وكان جاريا في مضمار البخاري ومسلم والنسائي
وذكر القشيري أن امرأة جاءته فقالت له إن ابني قد أسرته الفرنج وإني لا أنام الليل من شوقي إليه ولي دويرة أريد أن أبيعها لأفتكه بها فإن رأيت أن تشير إلى من يأخذها ويسعى في فكاكه فليس لي ليل ولا نهار ولا صبر ولا قرار فقال نعم انصرفي حتى ننظر في ذلك إن شاء الله تعالى

وأطرق الشيخ وحرك شفتيه يدعو الله عز و جل لولدها بالخلاص فذهبت فما كان غير قليل حتى جاءت وابنها معها فقالت اسمع خبره يرحمك الله تعالى ! فقال كيف كان أمرك فقال إني كنت فيمن يخدم الملك ونحن في القيود فبينا أنا ذات يوم أمشي إذ سقط القيد من رجلي فأقبل علي الموكل بي فشتمني وقال فككت القيد من رجليك فقلت لا والله ولكن سقط ولم أشعر فجاءوا بالحداد فأعاده وسمر مسماره وأيده ثم قمت فسقط أيضا فسألوا رهبانهم فقالوا ألك والدة فقلت نعم فقالوا إنه قد استجيب دعاؤها له فأطلقوه فأطلقوني وخفروني إلى أن وصلت إلى بلاد الإسلام فسأله بقي عن الساعة التي سقط القيد من رجليه فيها فإذا هي الساعة التي دعا له فيها فC تعالى 210 - ومن الراحلين من الأندلس إلى المشرق يوسف بن يحيى بن يوسف الأزدي المعروف بالمغامي من أهل قرطبة وأصله من طليطلة وهو من ذرية أبي هريرة رضي الله تعال عنه ى سمع من يحيى بن يحيى وسعيد بن حسان وروى عن عبد الملك بن حبيب ومصنفاته وارتحل إلى مصر وسمع من يوسف بن زيد القراطيسي وعاد إلى الأندلس وكان فقيها نبيلا فصيحا بصيرا بالعربية ثم بعد عوده من مصر أقام بقرطبة أعواما ثم عاد إلى مصر وأقام بها وسمع الناس منه وعظم أمره بالبلاد بالمشرقية ثم إنه عاد إلى المغرب فتوفي بالقيروان سنة ثمان وثمانين ومائتين وبين بمصر الواضحة لابن حبيب وصنف شيئا في الرد على الشافعية في عشرة أجزاء وألف كتاب فضائل مالك رضي الله تعالى عنه والذي يرتضي أن من قلد إماما من المجتهدين لا ينبغي له أن يغض من

قدر غيره وإن كان ولا بد من الانتصار لمذهبه وتقوية حجته فليكن ذلك بحسن أدب مع الأئمة رضي الله تعالى عنهم فإنهم على هدى من ربهم وقد ضل بعض الناس فحمله التعصب لمذهبه على التصريح بما لا يجوز في حق العلماء الذين هم نجوم الملة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وقد حكى أبو عبدالله الوادي آشي - حسبما رأيته بخطه - أن القاضي عبد الوهاب بن نصر البغدادي المالكي ألف كتابا لنصرة مذهب مالك على غيره من المذاهب في مائة جزء وسماه النصرة لمذهب إمام دار الهجرة فوقع الكتاب بخطه بيد بعض قضاة الشافعية بمصر فغرقه في النيل فقضى الله تعالى أن السلطان فرج بن برقوق سافر إلى الشام ومعه القضاة الأربعة وغيرهم من الأعيان لدفع تيمورلنك عن البلاد فلم يستطع شيئا وهزم إلى مصر وتفرقت العساكر وأخذ القضاة والعلماء أسارى ومن جملتهم ذلك القاضي فبقي في أسر تيمورلنك إلى أن ارتحل عن الشام فأخذ معه أسيرا إلى أن وصل إلى الفرات فغرق فيه أعني القاضي فرأى بعض الناس أن ذلك بسبب تغريقه الكتاب المذكور والجزاء من جنس العمل والله تعالى أعلم
بين ابن خلدون وتيمورلنك
وقد نجى الله تعالى من هذه الورطة قاضي القضاة أبا زيد عبد الرحمن بن خلدون الحضرمي المالكي صاحب كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر فإنه كان من جملة القضاة الحاضرين في الهزيمة فلما أدخلوا على تيمور لنك قال لهم ابن خلدون قدموني للكلام تنجوا إن شاء الله تعالى وإلا فأنتم أخبر ف

قدموه وعليه زي المغاربة فلما رآه تيمورلنك قال ما أنت من هذه البلاد وتكلم معه فخلبه ابن خلدون بلسانه وكان آية الله الباهرة ثم قال لتيمورلنك إني ألفت كتابا في تاريخ العالم ثم قال له تيمورلنك كيف ساغ لك أن تذكرني فيه وتذكر بختنضر مع أننا خربنا العالم فقال له ابن خلدون أفعالكما العظيمة ألحقتكما بالذكر مع ذوي المراتب الجسيمة أو نحو هذا من العبارات فأعجبه ذلك وقيل إنه لما أنس بابن خلدون قال له يا خوند ما أسفي إلا على كتاب ألفته في التاريخ وأنفقت فيه أيام عمري وقد تركته بمصر وإن عمري الماضي ذهب ضياعا حيث لم يكن في خدمتك وتحت ظل دولتك والآن أذهب فآتي بهذا الكتاب وأرجع سريعا حتى أموت في خدمتك ونحو هذا من الكلام فأذن له فذهب ولم يعد إليه وقال بعض العلماء إنه لم ينج من يد ذلك الجبار أحد من العلماء غير ابن خلدون ورجل آخر وقد ذكر ذلك ابن عرب شاه في عجائب المقدور وقد طال عهدي به فليراجع وحكى غير واحد أن تيمورلنك لما أخذ حلب على الوجه المشهور في كتب التاريخ جمع العلماء فقال لهم على عادته في التعنت قتل منا ومنكم جماعة فمن الذي في الجنة قتلانا أو قتلاكم وكان مراده إبراز سبب لقتلهم لأنهم إن قالوا أحد الأمرين هلكوا فقال بعض العلماء وأظنه ابن الشحنة دعوني أجبه وإلا هلكتم فتركوه فقال له يا خوند هذا السؤال أجاب عنه رسول الله حين سئل عنه فغضب [ تيمورلنك ] وقال كيف يمكن أن يجيب عن هذا السؤال رسول الله ونحن لم نكن في زمانه أو كلاما هذا معناه فقال العالم المذكور روينا في الصحيح " أن النبي سئل عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل ليذكر ويرى مكانه فمن الذي في الجنة فقال النبي من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو الذي في الجنة " أو كما قال فتعجب تيمورلنك من هذا الجواب المفحم المسكت وحق له أن يتعجب منه فإن هذا من الأجوبة التي يقل نظيرها وفيها المخلص على كل حال بالإنصاف وقد وفق الله تعالى هذا العالم لهذا الجواب حتى يتخلص على يده أولئك الأقوام من الطاغية الجبار العنيد الذي جعل الله تعالى فتنته في الإسلام وفتنة جنكزخان وأولاده من أعظم الفتن التي وهى بها المسلمون وذكر بعض العلماء أن ابن خلدون لما أقبل على تيمورلنك قال له دعني أقبل يدك فقال ولم فقال له لأنها مفاتيح الأقاليم يشير إلى أنه فتح خمسة أقاليم وأصابع يده خمس فلكل أصبع إقليم وهذا أيضا من دهاء ابن خلدون وقد كدنا نخرج عن المقصود في هذه الترجمة فلنصرف العنان والله سبحانه المستعان ومن الراحلين من الأندلس الإمام الحافظ أبو بكر بن عطية رحمه الله تعالى ! قال الفتح شيخ العلم وحامل لوائه وحافظ حديث النبي وكوكب سمائه شرح الله تعالى لحفظه صدره وطاول به عمره مع كونه في كل علم وافر النصيب مياسرا بالمعلى والرقيب رحل إلى المشرق لأداء الفرض لابس برد من العمر الغض فروى وقيد

ولقي العلماء وأسند وأبقى تلك المآثر وخلد نشأ في بيئة كريمة وأرومة من الشرف غير مرومة لم يزل فيها على وجه الزمان أعلام علم وأرباب مجد ضخم قد قيدت مآثرهم الكتب وأطلعتهم التواريخ كالشهب وما برح الفقيه أبو بكر يتسنم كواهل المعارف وغواربها ويقيد شوارد المعاني وغرائبها لاستضلاعه بالأدب الذي أحكم أصوله وفروعه وعمر برهة من شبيبته ربوعه وبرز فيه تبريز الجواد المستولي على الأمد وجلى عن نفسه به كما جلى الصقال عن النصل الفرد وشاهد ذلك ما أثبته من نظمه الذي يروق جملة وتفصيلا ويقوم على قوة العارضة دليلا فمن ذلك قوله يحذر من خلطاء الزمان ويبنه على التحفظ من الإنسان
( كن بذئب صائد مستأنسا ... وإذا أبصرت إنسانا ففر )
( إنما الإنسان بحر ما له ... ساحل فاحذره إياك الغرر )
( واجعل الناس كشخص واحد ... ثم كن من ذلك الشخص حذر )
وله في الزهد
( أيها المطرود من باب الرضى ... كم يراك الله تلهو معرضا )
( كم إلى كم أنت في جهل الصبا ... قد مضى عمر الصبا وانقرضا )
( قم إذا الليل دجت ظلمته ... واستلذ الجفن أن يغتمضا )
( فضع الخد على الأرض ونح ... واقرع السن على ما قد مضى ) وله في هذا المعنى
( قلبي يا قلبي المعنى ... كم أنا أدعى فلا أجيب )
( كم أتمادى على ضلال ... لا أرعوي لا ولا أنيب )

( ويلاه من سوء ما دهاني ... يتوب غيري ولا أتوب )
( وا أسفى كيف برء دائي ... دائي كما شاءه الطبيب )
( لو كنت أدنو لكنت أشكو ... ما أنا من بابه قريب )
( أبعدني منه سوء فعلي ... وهكذا يبعد المريب )
( ما لي قدر وأي قدر ... لمن أخلت به الذنوب )
وله في هذا المعنى أيضا
( لا تجعلن رمضان شهر فكاهة ... تلهيك فيه من القبيح فنونه )
( واعلم بأنك لا تنال قبوله ... حتى تكون تصومه وتصونه )
( وله في مثل ذلك
( إذا لم يكن في السمع مني تصاون ... وفي بصري غض وفي مقولي صمت )
( فحظي إذا من صومي الجوع والظما ... وإن قلت إني صمت )
يوما فما صمت وله في المعنى الأول
( جفوت أناسا كنت آلف وصلهم ... وما في الجفا عند الضرورة من باس )
( بلوت فلم أحمد وأصبحت آيسا ... ولا شيء أشفى للنفوس من الياس )
( فلا تعذلوني في انقباضي فإنني ... رأيت جميع الشر في خلطة الناس )
وله يعاتب بعض إخوانه
( وكنت أظن أن جبال رضوى ... تزول وأن ودك لا يزول )
( ولكن الأمور لها اضطراب ... وأحوال ابن آدم تستحيل )
( فإن يك بيننا وصل جميل ... وإلا فليكن هجر طويل )

وأما شعره الذي اقتدحه من مرخ الشباب وعفاره وكلامه الذي وشحه بمآرب الغزل وأوطاره فإنه نسي إلى ما تناساه وتركه حين كساه العلم والورع من ملابسه ما كساه فمما وقع من ذلك قوله
( كيف السلو ولي حبيب هاجر ... قاسي الفؤاد يسومني تعذيبا )
( لما درى أن الخيال مواصلي ... جعل السهاد على الجفون رقيبا )
وله أيضا
( يا من عهودي لديك ترعى ... أنا على عهدك الوثيق )
( إن شئت أن تسمعي غرامي ... من مخبر عالم صدوق )
( فاستخبري قلبك المعنى ... يخبرك عن قلبي المشوق )
انتهى كلام الفتح
وأبو بكر بن عطية المذكور هو والد الحافظ القاضي أبي محمد عبد الحق بن عطية صاحب التفسير الشهير رحم الله تعالى الجميع
ترجمة عبد الحق بن عطية
قال في الإحاطة في حقه ما ملخصه هو الشيخ الإمام المفسر عبد الحق بن غالب بن عطية المحاربي فقيه عالم بالتفسير والأحكام والحديث والفقه والنحو واللغة والأدب حسن التقييد له نظم ونثر ولي قضاء المرية سنة تسع وعشرين وخمسمائة في المحرم وكان غاية في الذكاء والدهاء والتهمم بالعلم سري الهمة في اقتناء الكتب توخى الحق وعدل في الحكم وأعز الخطة روى عن أبيه وأبوي علي الفساني والصدفي وطبقتهما وألف كتابه

الوجيز في التفسير فأحسن فيه وأبدع وطار بحسن نيته كل مطار وبرنامجا ضمنه مروياته وأسماء شيوخه فحرر وأجاد
ومن نظمه يندب عهد شبابه
( سقيا لعهد شباب ظلت أمرح في ... ريعانه وليالي العيش أسحار ) ( أيام روض الصبا لم تذو أغصنه ... ورونق العمر غض والهوى جار )
( والنفس تركض في تضمير شرتها ... طرفا له في زمان اللهو إحضار )
( عهدا كريما لبسنا فيه أردية ... كانت عيانا ومحت فهي آثار )
( مضى وأبقى بقلبي منه نار أسى ... كوني سلاما وبردا فيه يا نار )
( أبعد أن نعمت نفسي وأصبح في ... ليل الشباب لصبح الشيب إسفار )
( وقارعتني الليالي فانثنت كسرا ... عن ضيغم ما له ناب وأظفار )
( إلا سلاح خلال أخلصت فلها ... في منهل المجد إيراد وإصدار )
( أصبو إلى روض عيش روضه خضل ... أو ينثني بي عن العلياء إقصار
( إذا فعطلت كفي من شبا قلم ... آثاره في رياض العلم أزهار )
مولده سنة إحدى وثمانين وأربعمائة وتوفي في الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة ست وأربعين وخمسمائة بلورقة قصد ميورقة يتولى قضاءها فصد عن دخولها وصرف منها إلى لورقة اعتداء عليه رحمه الله تعالى انتهى
وقال الفتح في حقه ما نصه فتى العمر كله العلاء حديث السن قديم السناء لبس الجلالة بردا ضافيا وورد ماء الأصالة صافيا وأوضح للفضل رسما عافيا وثنى من ذهنه للأغراض فننا قصدا وجعل فهمه شهابا

رصدا سما إلى رتب الكهول صغيرا وشن كتيبه ذهنه على العلوم مغيرا فسباها معنى وفصلا وحواها فرعا وأصلا وله أدب يسيل رضراضا ويستحيل ألفاظا مبتدعة وأغراضا
وقال أيضا فيه نبعة دوح العلاء ومحرز ملابس الثناء فذ الجلالة وواحد العصر والأصالة وقار كما رسا الهضب وأدب كما اطرد السلسل العذب وشيم تتضاءل لها قطع الرياض وتبادر الظن به إلى شريف الأغراض سابق الأمجاد فاستولى على الأمد بعبابه ولم ينض ثوب شبابه أدمن التعب في السؤدد جاهدا فتى تناول الكواكب قاعدا وما اتكل على أوائله ولا سكن إلى راحات بكره وأصائله أثره في كل معرفة علم في رأسه نار وطوالعه في آفاقها صبح أو منار وقد أثبت من نظمه المستبدع ما ينفح عبيرا ويتضح منيرا فمن ذلك قوله من قصيدة
وليلة جبت فيها الجزع مرتديا ... بالسيف أسحب أذيالا من الظلم )
( والنجم حيران في بحر الدجى غرق ... والبرق في طيلسان الليل كالعلم )
( كأنما الليل زنجي بكاهله ... جرح فيثعب أحيانا له بدم )
انتهى المقصود منه
وهو - أعني أبا بكر - أحد مشايخ عياض حسبما ألمعت به في أزهار الرياض
212 - ومنهم شهاب الدين أبو العباس أحمد بن فرح - بالحاء المهملة

بن أحمد بن محمد الإمام الحافظ الزاهد بقية السلف اللخمي الإشبيلي الشافعي أسره الإفرنج سنة ست وأربعين وستمائة وخلص وقدم مصر سنة بضع وخمسين وقيل إنه تمذهب للشافعي وتفقه على الشيخ عز الدين بن عبد السلام قليلا وسمع من شيخ الشيوخ شرف الدين الأنصاري الحموي والمعين أحمد بن زين الدين وإسماعيل بن عزوز والنجيب بن الصيقل وابن علاق وبدمشق من ابن عبد الدائم وخلق وعني بالحديث وأتقن ألفاظه وعرف رواته وحفاظه وفهم معانيه وانتقى لبابه ومبانيه
قال الصفدي وكان من كبار أئمة هذا الشان وممن يجري فيه وهو طلق اللسان وهذا إلى ما فيه من ديانة وورع وصيانة وكانت له حلقة اشتغال بكرة بالجامع الأموي يلازمها ويحوم عليه من الطلب حوائمها سمع عليه الشيخ شمس الدين الذهبي واستفاد منه وروى في تصانيفه عنه وعرضت عليه مشيخة دار الحديث النورية فأباها ولم يقبل حباها وكان بزي الصوفية ومعه فقاهة بالشافعية ولم يزل على حاله حتى أحزن الناس ابن فرح وتقدم إلى الله وسرح وشيع الخلق جنازته وتولوا وضعه في القبر وحيازته وتوفي رحمه الله تعالى تاسع جمادى الآخرة سنة تسع وتسعين وستمائة ومولده سنة خمس وعشرين وستمائة
وله قصيدة غزلية في ألقاب الحديث سمعها منه الدمياطي واليونيني وسمع منه البرزالي والمقاتلي والنابلسي وأبو محمد بن الوليد ومات بتربة

أم الصالح بالإسهال
والقصيدة المذكورة هي هذه
( غرامي صحيح والرجا فيك معضل ... وحزني ودمعي مطلق ومسلسل )
( وصبري عنكم يشهد العقل أنه ... ضعيف ومتروك وذلي أجمل )
( ولا حسن إلا سماع حديثكم ... مشافهة يملى علي فأنقل )
( وأمري موقوف عليك وليس لي ... على أحد إلا عليك المعول )
( ولو كان مرفوعا إليك لكنت لي ... على رغم عذالي ترق وتعدل )
( وعذل عذولي منكر لا أسيغه ... وزور وتدليس يرد ويهمل )
( أقضي زماني فيك متصل الأسى ... ومنقطعا عما به أتوصل )
( وها أنا في أكفان هجرك مدرج ... تكلفني ما لا أطيق فأحمل )
( وأجريت دمعي بالدماء مدبجا ... وما هو إلا مهجتي تتحلل )
( فمتفق سهدي وجفني وعبرتي ... ومفترق صبري وقلبي المبلبل )
( ومؤتلف شجوي ووجدي ولوعتي ... ومختلف حظي وما منك آمل )
( خذ الوجد عني مسندا ومعنعنا فغيري موضوع الهوى يتحيل )
( وذي نبذ من مبهم الحب فاعتبر ... وغامضه إن رمت شرحا أحول )
( عزيز بكم صب ذليل لغيركم ... ومشهور أوصاف المحب التذلل )
( غريب يقاسي البعد عنك وما له ... وحق الهوى عن داره متحول )
( فرفقا بمقطوع الوسائل ما له ... إليك سبيل لا ولا عنك معدل )
( فلا زلت في عز منيع ورفعة ... وما زلت تعلو بالتجني فأنزل )
( أوري بسعدي والرباب وزينب ... وأنت الذي تعنى وأنت المؤمل )
( فخذ أولا من آخر ثم أولا ... من النصف منه فهو فيه مكمل )

( أبر إذا أقسمت أني بحبه ... أهيم وقلبي بالصبابة يشعل )
وقد ذكرت شرحها في الجزء الثلاثين من تذكرتي انتهى كلام الصفدي
وظاهر كلامه أنه ابن فرح - بفتح الراء - والذي تلقيناه عن شيوخنا أنه بسكون الراء وقد شرح هذه القصيدة جماعة من أهل المشرق والمغرب يطول تعدادهم وهي وحدها دالة على تمكن الرجل رحمه الله تعالى
213 - ومنهم عبد العزيز بن عبد الملك بن نصر أبو الأصبغ الأموي الأندلسي سمع بمكة وبدمشق ومصر وغيرها وحدث عن سليمان بن أحمد بن يحيى بسنده إلى جابر بن عبد الله قال قال رسول الله " إن لكل بني أب عصبة ينتمون إليها إلا ولد فاطمة فأنا وليهم وأنا عصبتهم وهم عترتي خلقوا من طينتي ويل للمكذبين بفضلهم من أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله "
وحدث عن أبي العباس أحمد بن محمد البرذعي بسنده إلى عبد الله بن المبارك قال كنت عند مالك بن أنس وهو يحدثنا فجاءت عقرب فلدغته ست عشرة مرة ومالك يتغير لونه ويتصبر ولا يقطع حديث رسول الله فلما فرغ من المجلس وتفرق الناس عنه قلت له يا أبا عبد الله قد رأيت منك عجبا قال نعم أنا صبرت إجلالا لحديث رسول الله
ولد أبو الأصبغ المذكور بقرطبة وتوفي ببخارى سنة 365 قال الحاكم أبو عبد الله رأيت أبا الأصبغ في المنام في بستان فيه خضرة ومياه جارية وفرش كثيرة وكأني أقول إنها له فقلت يا أبا الأصبغ بماذا وصلت إليه أبالحديث فقال إي والله وهل نجوت إلا بالحديث قال ورأيته أيضا وهو يمشي بزي أحسن ما يكون فقلت أنت أبو الأصبغ فقال

نعم قلت ادع الله تعالى أن يجمعني وإياك في الجنة فقال إن أمام الجنة أهوالا ثم رفع يديه وقال اللهم اجعله معي في الجنة بعد عمر طويل انتهى
214 - ومنهم القاضي أبو البقاء خالد البلوي الأندلسي رحمه الله تعالى وهو خالد بن عيسى بن أحمد بن إبراهيم بن أبي خالد البلوي ووصفه الشاطبي بأنه الشيخ الفقيه القاضي الأعدل انتهى
وهو صاحب الرحلة المسماة تاج المفرق في تحلية أهل المشرق ومما أنشده رحمه الله تعالى فيها لنفسه
( ولقد جرى يوم النوى دمعي دما ... حتى أشاع الناس أنك فاني )
( والله إن عاد الزمان بقربنا ... لكففت عن ذكر النوى وكفاني )
وهذه الرحلة المسماة بتاج المفرق مشحونة بالفوائد والفرائد وفيها من العلوم والآداب ما لا يتجاوزه الرائد وقد قال رحمه الله تعالى فيها في ترجمة الولي نجم الدين الحجازي رضي الله تعالى عنه ما نصه وذكر لي رضي الله تعالى عنه قال مما وصى به الجد الأكبر أبو الحجاج يوسف المذكور يعني سيدي أبا الحجاج يوسف بن عبد الرحيم الأقصري القطب الغوث رضي الله تعالى عنه وأعاد علينا من بركاته - خواصه وأصدقاءه قال إذا أدركتكم الضرورة والفاقة فقولوا حسبي الله ربي الله يعلم أنني في ضيق قال وذكر لي أيضا رضي الله تعالى عنه قال رأى هذا الجد يوسف المذكور النبي

في النوم بعد أن سأل الله تعالى ذلك وقد كان أصابته فاقة فشكا إلى النبي فقال له رسول الله قل يا بر يا رحيم يا بر يا رحيم الطف بي في قضائك ولا تول أمري أحدا سواك حتى ألقاك فلما قالها أذهب الله تعالى عنه فاقته قال وكان رحمه الله تعالى يوصي بها أصحابه وأحبابه انتهى
ونسب بعضهم القاضي خالدا المذكور إلى انتحال كمال العماد في البرق الشامي لأن خالدا أكثر في رحلته من الأسجاع التي للعماد فلذا قال لسان الدين ابن الخطيب فيه
( خليلي إن يقض اجتماع بخالد ... فقولا له قولا ولن تعدوا الحقا )
( سرقت العماد الأصبهاني برقه ... وكيف ترى في شاعر سرق البرقا ) وأظن أن لسان الدين كان منحرفا عنه ولذلك قال في كتابه خطرة الطيف ورحلة الشتاء والصيف عندما جرى ذكر قنتورية وقاضيها خالد المذكور ما صورته لم يتخلف ولد عن والد وركب قاضيها ابن أبي خالد وقد شهرته النزعة الحجازية ولبس من خشن الحجازية وأرخى من البياض طيلسانا وتشبه بالمشارقة شكلا ولسانا والبداوة تسمه على الخرطوم وطبع الماء والهواء يقوده قود الجمل المخطوم انتهى ومن نظم أبي البقاء خالد البلوي المذكور قوله
( أتى العيد واعتاد الأحبة بعضهم ... ببعض وأحباب المتيم قد بانوا )

( وأضحى وقد ضحوا بقربانهم وما ... لديه سوى حمر المدامع قربان )
وقال في ررحلته إنه قال هذين البيتين بديهة بمصلى تونس في عيد النحر من سنة سبع وثلاثين وسبعمائة ومن نظمه أيضا قوله رحمه الله تعالى
( ومستنكر شيبي وما ذهب الصبا ... ولا جف إيناع الشبيبة من غصني )
( فقلت فراقي للأحبة مؤذن ... بشيبي وإن كنت ابن عشرين من سني )
ومحاسنه - رحمه الله تعالى - كثيرة وفي الرحلة منها جملة 215 - ومنهم برهان الدين أبو إسحاق بن الحاج إبراهيم النميري الغرناطي وهو أيضا مذكور في ترجمة ابن الخطيب بما يغني عن تكرير ذكره هنا وقال رحمه الله تعالى في رحلته أخبرني شيخنا - يعني الشيخ الإمام الصالح أبا عبد الله محمد المعروف بخليل التوزري إمام المالكية بالحرم الشريف رضي الله تعالى عنه - قال اعتكفت بجامع عمرو بن العاص كفا لشرتي عن الناس خصوصا أدى الغيبة نحو خمسين ليلة أردت أن أدعو لطائفة من أصحابي بمطالب مختلفة كل بحسب ظني فيه يومئذ فأدركتني حيرة في التمييز والتخصيص فألهمت أن قلت بديهة
( شهدنا بتقصير ألبابنا ... فحسن اختيارك أولى بنا )
( وأنت البصير بأعدائنا ... وأنت البصير بأحبابنا )
قال ثم أردفتها بدعاء وهو اللهم يا من لا يعلم خيره إلا هو أنت أعلم بأعدائنا وأودائنا فافعل بكل منهم ما يناسب حسن اختيارك لنا حسبما علمته منا وكفى بك عليما وكفى بك قديرا وكفى بك بصيرا

وكفى بك لطيفا وكفى بك خبيرا وكفى بك نصيرا وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا كثيرا كثيرا
وقال ابن الحاج المذكور في الرحلة المذكورة إذا التقى الرجل بعدوه وهو على خوف منه فليقرأ هذه الحروف " كهيعص " [ مريم 1 ] " حم عسق " وليعقد بكل حرف منها أصبعا يبدأ بإبهام يده اليمنى ويختم يإبهام يده اليسرى فإذا قرب من عدوه فليقرأ في نفسه سورة الفيل فإذا وصل إلى قوله " ترميهم " فليكررها وكلما كررها فتح أصبعا من أصابعه المعقودة تجاه العدو فيكررها عشر مرات ويفتح جميع أصابعه فإذا فعل ذلك أمن من شره إن شاء الله تعالى وهو مجرب انتهى
ومن بديع نظم أبي إسحاق ابن الحاج النميري المذكور قوله
( يا رب كاس لم يشج شمولها ... فاعجب لها جسما بغير مزاج )
( لما رأينا السحر من أشكالها ... جملا نسبناه إلى الزجاج ) وله فيما أظن
( له شفة أضاعوا النشر فيها ... بلثم حين سدت ثغر بدر )
( فما أشهى لقلبي ما أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر ) وهو حسن تضمين حس
216 - ومن الراحلين من الأندلس إلى المشرق إمام النحاة أثير الدين أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان النفزي الأثري الغرناطي
قال أبن مرزوق الخطيب في حقه هو شيخ النحاة بالديار

المصرية وشيخ المحدثين بالمدرسة المنصورية انتهت إليه رئاسة التبريز في علم العربية واللغة والحديث سمعت عليه وقرأت وأنشدني الكثير وإذا أنشدني شيئا ولم أقيده استعاده مني فلم أحفظه فأنشدني وكنت أظنه لنفسه ارتجالا إلى أن أخبرني أحد أصحابنا عنه أنه أخبره أنهما لأبي الحسن التجاني أنشدهما له ببيته بالمدرسة الصالحية رحمه الله تعالى
( إن الذي يروي ولكنه ... يحفظ ما يروي ولا يكتب )
( كصخرة تنبع أمواجها ... تسقي الأراضي وهي لا تشرب )
قال ورويت عنه تواليف ابن أبي الأحوص منها التبيان في أحكام القرآن والمعرب المفهم في شرح مسلم ولم أقف عليه والوسامة في أحكام القسامة والمشرع السلسل في الحديث المسلسل وغير ذلك
وحدثني بسنن أبي داود عن ابن خ طيب المزة عن أبي حفص بن طبرزد عن أبي البدر الكروخي ومفلح الرومي عن أبي بكر بن ثابت الخطيب عن أبي عمر الهاشمي عن اللؤلؤي عن أبي داود وبسنن النسائي عن جماعة عن ابن باقا عن أبي زرعة عن ابن حميد الدوسي عن أبي نصر الكسار عن ابن السني عن النسائي وبالموطأ عن أبي جعفر بن الطباع بسنده
وشكوت إليه يوما ما يلقاه الغريب من أذاة العداة فأنشدني لنفسه
( عداتي لهم فضل علي ومنة ... فلا أذهب الرحمن عني الأعاديا )
( هم بحثوا عن زلتي فاجتنبتها ... وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا )
وأنشدني أيضا من مداعباته وله في ذلك النظم الكثير مع طهارته وفضله
( علقته سبجي اللون قادحه ... ما ابيض منه سوى ثغر حكى الدررا )
( قد صاغه من سواد العين خالقه ... فكل عين إليه تدمن النظرا )

( وأنشدني في جاهل لبس صوفا وزها فيه
( أيا كاسيا من جيد الصوف نفسه ... ويا عاريا من كل فضل ومن كيس )
( أتزهى بصوف وهو بالأمس مصبح ... على نعجة واليوم أمسى على تيس )
انتهى ما اختصرته من كلام الخطيب ابن مرزوق
وأنشد الرحالة ابن جابر الوادي آشي لأبي حيان قوله
( وقصر آمالي مآلي إلى الردى ... وأني وإن طال المدى سوف أهلك )
( فصنت بماء الوجه نفسا أبية ... وجادت يميني بالذي كنت أملك )
ووقفت على أعيان العصر وأعوان النصرللصفدي فوجدت فيه ترجمة أبي حيان واسعة فرأيت أن أذكرها بطولها لما فيها من الفوائد وهي الشيخ الإمام العالم العلامة الفريد الكامل حجة العرب مالك أزمة الأدب أثير الدين أبو حيان الأندلسي الجياني - بالجيم والياء آخر الحروف مشددة وبعد الألف نون - وكان أمير المؤمنين في النحو والشمس السافرة شتاء في يوم الصحو والمتصرف في هذا العلم فإليه الإثبات والمحو لو عاصر أئمة البصرة لبصرهم أو أهل الكوفة لكف عنهم اتباعهم السواد وحذرهم نزل منه كتاب سيبويه في وطنه بعد أن كان طريدا وأصبح به التسهيل بعد تعقيده مفيدا وجعل سرحة شرحه وجنة راقت النواظر توريدا ملأ الزمان تصانيف وأمال عنق الأيام بالتواليف تخرج به أئمة في هذا الفن وروق لهم في عصره منه سلافة الدن فلو رآه يونس بن حبيب لكان بغيضا غير مجيب أو عيسى بن عمر لأصبح من تقصيره وهو محذر أو الخليل لكان بعينه قذاه أو سيبويه لما تردى من مسألته الزنبورية برداه أو الكسائي لأعراه حلة جاهه عند الرشيد وأناسه أو الفراء لفر منه ولم يقتسم ولدا المأمون تقديم مداسه أو اليزيدي لما ظهر نقصه من مكامنه أو الأخفش

لأخفى جملة من محاسنه أو أبو عبيدة لما تركه ينصب لشعب الشعوبية أو أبو عمرو لشغله بتحقيق اسمه دون التعلق بعربية أو السكري لما راق كلامه في المعاني ولا حلا أو المازني لما زانه قوله إن مصابكم رجلا أو قطرب لما دب في العربية ولا درج أو ثعلب لاستكن بمكره في وكره ولما خرج أو المبرد لأصبحت قواه مقترة أو الزجاج لأمست قواريره مكسرة أو ابن الوزان لعدم نقده أو الثمانيني لما تجاوز حده أو ابن باب لعلم أن قياسه ما اطرد أو ابن دريد لما بلع ريقه ولا ازدرد أو ابن قتيبة لأضاع رحله أو ابن السراج لمشاة إذا رأى وحله أو ابن الخشاب لأضرم فيه نارا ولم يجد معه نورا أو ابن الخباز لما سجر له تنورا أو ابن القواس لما أغرق في نزعه أو ابن يعيش لأوقعه في نزعه أو ابن خروف لما وجد له مرعى أو ابن إياز لما وجد لأوزاره وقعا أو ابن الطراوة لم يكن نحوه طريا أو ابن الدباج لكان من حلته الرائقة عريا وعلى الجملة فكان إمام النحاة في عصره شرقا وغربا وفريد هذا الفن الفذ بعدا وقربا وفيه قلت
( سلطان علم النحو أستاذنا الشيخ ... أثير الدين حبر الأنام )
فلا تقل زيد وعمرو فما ... في النحو معه لسواه كلام )
خدم هذا العلم مدة تقارب الثمانين وسلك من غرائبه وغوامضه طرقا متشعبة الأفانين ولم يزل على حاله إلى أن دخل في خبر كان وتبدلت حركاته بالإسكان وتوفي رحمه الله تعالى بمنزله خارج باب البحر بالقاهرة في يوم السبت بعد العصر الثامن والعشرين من صفر سنة خمس وأربعين وسبعمائة ودفن من الغد بمقبرة الصوفية خارج باب النصر وصلي عليه في الجامع الأموي بدمشق صلاة الغائب في شهر ربيع الآخر ومولده بمدينة مطخشارش في أخريات شوال سنة أربع وخمسين وستمائة وقلت أنا أرثيه رحمه

( مات أثير الدين شيخ الورى ... فاستعر البارق واستعبرا )
( ورق من حزن نسيم الصبا ... واعتل في الأسحار لما سرى )
( وصادحات الأيك في نوحها ... رثته في السجع على حرف را )
( يا عين جودي بالدموع التي ... يروي بها ما ضمه من ثرى )
( واجري دما فالخطب في شأنه ... قد اقتضى أكثر مما جرى )
( مات إمام كان في فنه ... يرى إماما والورى من ورا )
( أمسى منادى للبلى مفردا ... فضمه القبر على ما ترى )
( يا أسفا كان هدى ظاهرا ... فعاد في تربته مضمرا )
( وكان جمع الفضل في عصره ... صح فلما أن قضى كسرا )
( وعرف الفضل به برهة ... والآن لما أن مضى نكرا )
( وكان ممنوعا من الصرف ... لا يطرق من وافاه خطب عرا )
( لا أفعل التفضيل ما بينه ... وبين من أعرفه في الورى ) ( لا بدل عن نعته بالتقى ... ففعله كان له مصدرا )
( لم يدغم في اللحد إلا وقد ... فك من الصبر وثيق العرى )
( بكى له زيد وعمرو فمن ... أمثلة النحو وممن قرا )
( ما أعقد التسهيل من بعده ... فكم له من عسرة يسرا )
( وجسر الناس على خوضه ... إذ كان في النحو قد استبحرا )
( من بعده قد حال تمييزه ... وحظه قد رجع القهقرى )
( شارك من قد ساد في فنه وكم له فن به استأثرا )
دأب بني الآداب أن يغسلوا ... بدمعهم فيه بقايا الكرى )
( والنحو قد سار الردى نحوه ... والصرف للتصريف قد غيرا )
( واللغة الفصحى غدت بعده ... يلغي الذي في ضبطها قررا ) تفسيره البحر المحيط الذي ... يهدي إلى وراده الجوهرا )
( فوائد من فضله جمة ... عليه فيها

( وكان ثبتا نقله حجة ... مثل ضياء الصبح إن أسفرا )
( ورحلة في سنة المصطفى ... أصدق من يسمع إن أخبرا )
( له الأسانيد التي قد علت ... فاستفلت عنها سوامي الذرى )
( ساوى بها الأحفاد أجدادهم ... فاعجب لماض فاته من طرا )
( وشاعرا في نظمه مفلقا ... كم حرر اللفظ وكم حبرا )
( لها معان كلما خطها ... تستر ما يرقم في تسترا )
أفديه من ماض لأمر الردى ... مستقبلا من ربه بالقرى )
( ما بات في أبيض أكفانه ... إلا وأضحى سندسا أخضرا )
( تصافح الحور له راحة كم ... تعبت في كل ما سطرا )
( إن مات فالذكر له خالد ... يحيا به من قبل أن ينشرا )
( جاد ثرى وافاه غيث إذا ... مساه بالسقي له بكرا )
( وخصه من ربه رحمة ... تورده في حشره الكوثرا )
وكان قد قرأ القراءات على الخطيب أبي محمد عبد الحق بن علي بن عبد الله نحوا من عشرين ختمة إفرادا وجمعا ثم على الخطيب الحافظ أبي جعفر أحمد الغرناطي المعروف بالطباع بغرناطة ثم قرأ السبعة إلى آخر سورة الحجر على الخطيب الحافظ أبي علي الحسين بن عبد العزيز بن محمد بن أبي الأحوص بمالقة ثم إنه قدم الإسكندرية وقرأ القراءات على عبد النصير بن علي بن يحيى المريوطي ثم قدم مصر فقرأ بها القراءات على أبي الطاهر إسماعيل بن هبة الله المليحي وسمع الكثير على الجم الغفير بجزيرة الأندلس وبلاد إفريقية والإسكندرية وديار مصر والحجاز وحصل الإجازات من الشام والعراق وغير ذلك واجتهد في طلب التحصيل والتقييد والكتابة ولم أر في أشياخي أكثر اشتغالا منه لأني لم أره قط إلا يسمع أو يشتغل أو يكتب ولم أره على غير ذلك وله إقبال على الطلبة الأذكياء وعنده تعظيم لهم ونظم ونثر وله الموشحات

البديعة وهو ثبت فيما ينقله محرر لما يقوله عارف باللغة ضابط لألفاظها وأما النحو والتصريف فهو إمام الناس كلهم فيهما لم يذكر معه في أقطار الأرض غيره في حياته وله اليد الطولى في التفسير والحديث والشروط والفروع وتراجم الناس وطبقاتهم وحوادثهم خصوصا المغاربة وتقييد أسمائهم على ما يتلفظون به من إمالة وترقيق وتفخيم لأنهم يجاورون بلاد الإفرنج وأسماؤهم قريبة من لغاتهم وألقابهم كذلك وقيده وحرره وسأله شيخنا الذهبي أسئلة فيما يتعلق بذلك وأجابه عنها
وله التصانيف التي سارت وطارت وانتشرت وما انتثرت وقرئت ودريت ونسخت وما فسخت أخملت كتب الأقدمين وألهت المقيمين بمصر والقادمين وقرأ الناس عليه وصاروا أئمة وأشياخا في حياته وهو الذي جسر الناس على مصنفات ابن مالك رحمه الله تعالى ورغبهم فيها وفي قراءتها وشرح لهم غامضها وخاض بهم لججها وفتح لهم مقفلها وكان يقول عن مقدمة ابن الحاجب هذه نحو الفقهاء وكان التزم أن لا يقرىء أحدا إلا إن كان في كتاب سيبويه أو في التسهيل لابن مالك أو في تصانيفه ولما قدم من بلاده لازم الشيخ بهاء الدين رحمه الله تعالى كثيرا وأخذ عنه كتب الأدب وكان شيخا حسن العمة مليح الوجه ظاهر اللون مشربا الحمرة منور الشيبة كبير اللحية مسترسل الشعر فيها لم تكن كثة عبارته فصيحة بلغة الأندلس يعقد حرف القاف قريبا من الكاف على أنه لا ينطق بها في القرآن إلا فصيحة وسمعته يقول ما في هذه البلاد من يعقد حرف القاف
وكانت له خصوصية بالأمير سيف الدين أرغون كافل الممالك ينبسط معه ويبيت عنده في قلعة الجبل ولما توفيت ابنته نضار طلع إلى السلطان الملك الناصر محمد وسأل منه أن يدفنها في بيته داخل القاهرة في البرقية فأذن له في ذلك وكان أولا يرى رأي الظاهرية ثم إنه تمذهب للشافعي رضي الله تعالى عنه بحث على الشيخ علم الدين العراقي المحرر للرافعي ومختصر المنهاج

للنووي وحفظ المنهاج إلا يسيرا وقرأ أصول الفقه على أستاذه أبي جعفر ابن الزبير بحث عليه من الإشارة للباجي ومن المستصفى للغزالي وعلى الخطيب أبي الحسن ابن فضيلة وعلى الشيخ علم الدين العراقي وعلى الشيخ شمس الدين الأصبهاني وعلى الشيخ علاء الدين الباجي وقرأ أشياء من أصول الدين على شيخه ابن الزبير وقرأ عليه شيئا من المنطق وقرأ أشياء من المنطق على بدر الدين محمد بن سلطان البغدادي وقرأ عليه شيئا من الإرشاد للعميدي في الخلاف ولكنه برع في النحو وانتهت إليه الرئاسة والمشيخة فيه وكان خاليا من الفلسفة والاعتزال والتجسيم وكان أولا يعتقد في الشيخ تقي الدين بن تيمية وامتدحه بقصيدة ثم إنه انحرف عنه لما وقف على كتاب العرش له قال الفاضل كمال الدين الأدفوي وجرى على مذهب كثير من النحويين في تعصبه للإمام علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه التعصب المتين قال حكي لي أنه قال لقاضي القضاة بدر الدين بن جماعة إن عليا رضي الله تعالى عنه عهد إليه النبي أن لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق أتراه ما صدق في هذا ! فقال صدق قال فقلت له فالذين سلوا السيوف في وجهه يبغضونه أو يحبونه أو غير ذلكقال وكان سيىء الظن بالناس كافة فإذا نقل له عن أحد خبر لا يتكيف به وينثني عنه حتى عمن هو عنده مجروح فيقع في ذم من هو بألسنة العالم ممدوح وبسبب ذلك وقع في نفس جمع كبير منه ألم كثير انتهى
قلت أنا لم أسمع منه في حق أحد من الأحياء والأموات إلا خيرا وما كنت أنقم عليه شيئا إلا ما كان يبلغني عنه من الحط على الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد على أنني أنا ما سمعت في حقه شيئا نعم كان لا يثق بهؤلاء الذين يدعون الصلاح حتى قلت له يوما يا سيدي فكيف تعمل في الشيخ أبي مدين فقال هو رجل مسلم دين وإلا ما كان يطير في الهواء ولا يصلي الصلوات الخمس في مكة كما يدعي فيه هؤلاء الأغمار

وكان فيه - رحمه الله تعالى - خشوع يبكي إذا سمع القرآن ويجري دمعه عند سماع الأشعار الغزلية وقال كمال الدين المذكور قال لي إذا قرأت أشعار العشق أميل إليها وكذلك أشعار الشجاعة تستميلني وغيرهما إلا أشعار الكرم ما تؤثر في انتهى
قلت كان يفتخر بالبخل كما يفتخر غيره بالكرم وكان يقول لي أوصيك احفظ دراهمك ويقال عنك بخيل ولا تحتج إلى السفل
وأنشدني من لفظه لنفسه [ بحر الطويل ]
( رجاؤك فلسا قد غدا في حبائلي ... قنيصا رجاء للنتاج من العقم )
( أأتعب في تحصيله وأضيعه ... إذن كنت معتاضا من البرء بالسقم )
قلت والذي أراه فيه أنه طال عمره وتغرب وورد البلاد ولا شيء معه وتعب حتى حصل المناصب تعبا كثيرا وكان قد جرب الناس وحلب أشطر الدهر ومرت به حوادث فاستعمل الحزم وسمعته غير مرة يقول يكفي الفقير في مصر أربعة أفلس يشتري له بائته بفلسين وبفلس زبيبا وبفلس كوز ماء ويشتري ثاني يوم ليمونا بفلس يأكل به الخبز وكان يعيب على مشتري الكتب ويقول الله يرزقك عقلا تعيش به أنا أي كتاب أردته استعرته من خزائن الأوقاف وإذا أردت من أحد أن يعيرني دراهم ما أجد ذلك وأنشدني له إجازة
( إن الدراهم والنساء كلاهما ... لا تأمنن عليهما إنسانا )
( ينزعن ذا اللب المتين عن التقى ... فترى إساءة فعله إحسانا )
وأنشدني له من أبيات [ بحر الطويل ]
( أتى بشفيع ليس يمكن رده ... دراهم بيض للجروح مراهم )
( تصير صعب الأمر أهون ما يرى ... وتقضي لبانات الفتى وهو نائم )

ومن حزمه قوله
( عداتي لهم فضل ... ) - البيتين وقد مدحه كثير من الشعراء والكبار الفضلاء فمنهم القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر بقوله [ بحر الكامل ]
( قد قلت لما أن سمعت مباحثا ... في الذات قررها أجل مفيد )
( هذا أبو حيان قلت صدقتم ... وبررتم هذا هو التوحيدي ) وكان قد جاء يوما إلى بيت الشيخ صدر الدين بن الوكيل فلم يجده فكتب بالجص على مصراع الباب فلما رأى ابن الوكيل ذلك قال [ بحر الكامل ]
( قالوا أبو حيان غير مدافع ... ملك النحاة فقلت بالإجماع )
( اسم الملوك على النقود وإنني ... شاهدت كنيته على المصراع )
ومدحه شرف الدين ابن الوحيد بقصيدة مطولة أولها [ بحر الطويل ]
( إليك أبا حيان أعملت أينقي وملت إلى حيث الركائب تلتقي )
( دعاني إليك الفضل فانقدت طائعا ... ولبيت أحدوها بلفظي المصدق )
( ومدحه نجم الدين إسحاق بن المي التركي وسأله تكملة شرح التسهيل بقصيدة وأرسلها إليه من دمشق وأولها [ بحر الطويل ]
( تبدى فقلنا وجهه فلق الصبح ... وكمله باليمن فيه وبالنجح )
( وسهلت تسهيل الفوائد محسنا ... فكن شارحا صدري بتكملة الشرح ) ومدحه مجير الدين عمر بن الملطي بقصيدة أولهابحر السريع ]
( يا شيخ أهل الأدب الباهر ... من ناظم يلفى ومن ناثر )

ومدحه نجم الدين يحيى الإسكندري بقصيدة أولها [ بحر البسيط ]
( ضيف ألم بنا من أبرع الناس ... لا ناقض عهد أيامي ولا ناسي )
( عار من الكبر والأدناس ذو شرف ... لكنه من سرابيل العلا كاسي )
ومدحه نجم الدين الطوفي بقصيدتين أول الأولى [ بحر الطويل ]
( أتراه بعد هجران يصل ... ويرى في ثوب وصل مبتذل )
( قمر جار على أحلامنا ... إذ تولاها بقد معتدل ) وأول الثانية
( اعذروه فكريم من عذر ... قمرته ذات وجه كالقمر )
ومدحه بهاء الدين محمد بن شهاب الدين الخيمي بقصيدة أولها
( فضضت عن العذب النمير ختامها ... وفتحت عن زهر الرياض كمامها )
ومدحه جماعة آخرون يطول ذكرهم وكتبت أنا إليه من الرحبة سنة 729
( لو كنت أملك من دهري جناحين ... لطرت لكنه فيكم جنى حيني )
( يا سادة نلت في مصر بهم شرفا ... أرقى به شرفا ينأى عن العين )
( وإن جرى لسما كيوان ذكر علا ... أحلني فضلهم فوق السماكين )
( وليس غير أثير الدين أثله ... فشاد ما شاد لي حقا بلا مين )
( حبر ولو قلت إن الباء رتبتها ... من قبل صدقك الأقوام في ذين )

( أحيا علوما أمات الدهر أكثرها ... مذ جلدت خلدت ما بين دفين )
( يا واحد العصر ما قولي بمتهم ... ولا أحاشي امرءا بين الفريقين )
( هذي العلوم بدت من سيبويه كما ... قالوا وفيك انتهت يا ثاني اثنين ) فدم لها وبودي لو أكون فدى ... لما ينالك في الأيام من شين )
( يا سيبويه الورى في الدهر لا عجب ... إذا الخليل غدا يفديك بالعين )
يقبل الأرض وينهي ما هو عليه من الأشواق التي برحت بألمها وأجرت الدموع دما وهذا الطرس الأحمر يشهد بدمها وأربت بسحها على السحائب وأين دوام هذه من ديمها وفرقت الأوصال على السقم لوجود عدمها
( فيا شوق ما أبقى ويا لي من النوى ... ويا دمع ما أجرى ويا قلب ما أصبى ) ويذكر ولاءه الذي تسجع به في الأرض الحمائم ويسير تحت لوائه مسير الرياح بين الغمائم وثناءه الذي يتضوع كالزهر بين الكمائم ويتنسم تنسم هامات الربى إذا لبست من الربيع ملونات العمائم ويشهد الله على ما قد قلته والله سبحانه نعم الشهيد
فكتب هو الجواب عن ذلك ولكنه عدم مني
وأنشدته يوما لنفسي
( قلت للكاتب الذي ما أراه ... قط إلا ونقط الدمع شكله )
( إن تخط الدموع في الخد شيئا ... ما يسمى فقال خط ابن مقله ) وأنشدني هو من لفظه لنفسه
( سبق الدمع بالمسير المطايا ... إذ نوى من أحب عني نقله )
( وأجاد الخطوط في صفحة الخد ... ولم لا يجيد وهو ابن مقله ) وأنشدني في مليح نوتي
( كلفت بنوتي كأن قوامه ... إذا ينثني خوط من البان ناعم )

( مجاذفه في كل قلب مجاذب ... وهزاته للعاشقين هزائم )
وأنشدته أنا لنفسي
( إن نوتي مركب نحن فيه ... هام فيه صب الفؤاد جريحه )
( أقلع القلب عن سلوي لما ... أن بدا ثغره وقد طاب ريحه )
وأنشدته لنفسي أيضا
( نوتينا حسنه بديع ... وفيه بدر السماء مغرى )
( ما حك برا إلا وقلنا ... يا ليت أنا نحك ) برا فأعجباه رحمه الله تعالى وزهزه لهما وأنشدني هو لنفسه في مليح أحدب
( تعشقته أحدبا كيسا ... يحاكي نحيبا حنين النعام )
( إذا كدت أسقط من فوقه ... تعلقت من ظهره بالسنام ) فأنشدته لنفسي
( وأحدب رحت به مغرما ... إذ لم تشاهد مثله عيني )
( لا غرو إن هام فؤادي به ... وخصره ما بين دفي ) ن وأنشدني من لفظه لنفسه في أعمى
( ما ضر حسن الذي أهواه أن سناه ... كريمتيه بلا شين قد احتجبا )
( قد كانتا زهرتي روض وقد ذوتا ... لكن حسنهما الفتان ما ذهبا )
( كالسيف قد زال عنه صقله فغدا ... أنكى وآلم في قلب الذي ضربا )
وأنشدته لنفسي في ذلك

( ورب أعمى وجهه روضة ... تنزهي فيها كثير الديون )
( وخده ورد غنينا به ... عن نرجس ما فتحته العيون )
وأنشدته أيضا لنفسي في ذلك
( فيا حسن أعمى لم يخف حد طرفه ... محب غدا سكران فيه وما صحا )
( إذا صاد خل بات يرعى حدوده ... غدا آمنا من مقلتيه الجوارحا )
وكتبت إليه استدعاء وهو المسؤول من إحسان سيدنا الإمام العالم العلامة لسان العرب ترجمان الأدب جامع الفضائل عمدة وسائل السائل حجة المقلدين زين المقلدين قطب المؤملين أفضل الآخرين وارث علوم الأولين صاحب اليد الطولى في كل مكان ضيق والتصانيف التي تأخذ بمجامع القلب فكل ذي لب إليها شيق والمباحث التي أثارت الأدلة الراجحة من مكامن أماكنها وقنصت أوابدها الجامحة من مواطىء مواطنها كشاف معضلات الأوائل سباق غايات قصر عن شأوها سحبان وائل فارع هضبات البلاغة في اجتلاء اجتلابها وهي في مرقى مرقدها سالب تيجان الفصاحة في اقتضاء اقتضابها من فوق فرقدها حتى أبرز كلامه جنان فكل جنان من بعده عن الدخول إليها جبان وأتى ببراهين وجوه حورها لم يطمثهن إنس قبله ولا جان وأبدع خمائل نظم ونثر لا تصل إلى أفنان فنونها يد جان أثير الدين أبي حيان لا زال ميت العلم يحييه وهل عجيب ذلك من أبي حيان
( حتى ينال بنو العلوم مرامهم ... ويحلهم دار المنى بأمان )
إجازة كاتب هذه الأحرف ما رواه فسح الله تعالى في مدته من المسانيد والمصنفات والسنن والمجاميع الحديثية والتصانيف الأدبية نظما ونثرا إلى غير ذلك من أصناف العلوم على اختلاف أوضاعها وتباين أجناسها وأنواعها مما تلقاه ببلاد الأندلس وإفريقية والإسكندرية والديار المصرية والبلاد الحجازية

وغيرها من البلدان بقراءة أو سماع أو مناولة أو إجازة خاصة أو عامة كيفما تأدى ذلك إليه وإجازة ما له أدام الله إفادته من التصانيف في تفسير القرآن العظيم والعلوم الحديثية والأدبية وغيرها وما له من نظم ونثر إجازة خاصة وأن يثبت بخطه تصانيفه إلى حين هذا التاريخ وأن يجيزه إجازة عامة لما يتجدد له من بعد ذلك على رأي من يراه ويجوزه منعما متفضلا إن شاء الله تعالى فكتب الجواب رحمه الله تعالى أعزك الله ظننت بإنسان جميلا فغاليت وأبديت من الإحسان جزيلا وما باليت وصفت من هو القتام يظنه الناس سماء والسراب يحسبه الظمآن ماء يا ابن الكرام وأنت أبصر من يشيم أمع الروض النضير يرعى الهشيم أما أغنتك فضائلك وفواضلك ومعارفك وعوارفك عن نغبة من دأماء وتربة من يهماء لقد تبلجت المهارق من نور صفحاتك وتأرجت الأكوان من أريج نفحاتك ولأنت أعرف من يقصد للدراية وأنقد من يعتمد عليه في الرواية لكنك أردت أن تكسو من مطارفك وتتفضل من تالدك وطارفك وتجلو الخامل في منصة النباهة وتنقذه من لكن الفهاهة فتشيد له ذكرا وتعلي له قدرا ولم يمكنه إلا إسعافك فيما طلبت وإجابتك فيما إليه ندبت فإن المالك لا يعصى والمتفضل المحسن لا يقصى وقد أجزت لك - أيدك الله تعالى - جميع ما رويته عن أشياخي بجزيرة الأندلس وبلاد إفريقية وديار مصر والحجاز وغير ذلك بقراءة أو سماع أو مناولة أو إجازة بمشافهة وكتابة ووجازة وجميع ما أجيز لي أن أرويه بالشام والعراق وغير ذلك وجميع ما صنفته واختصرته وجمعته وأنشأته نظما ونثرا وجميع ما سألت في هذا الاستدعاء فمن مروياتي الكتاب العزيز قرأته بقراءة السبعة على جماعة من أعلاهم الشيخ المسند المعمر فخر الدين أبو الطاهر إسماعيل بن هبة الله بن علي بن هبة الله المصري ابن المليحي آخر من روى القرآن بالتلاوة على أبي الجود والكتب الستة والموطأ ومسند عبد بن حميد ومسند الدارمي ومسند الشافعي ومسند الطيالسي والمعجم الكبير للطبراني والمعجم الصغير

له وسنن الدارقطني وغير ذلك وأما الأجزاء فكثيرة جدا ومن كتب النحو والآداب فأروي بالقراءة كتاب سيبويه والإيضاح 1والتكملة والمفصل وجمل الزجاجي وغير ذلك والأشعار الستة والحماسة وديوان حبيب والمتنبي والمعري وأما شيوخي الذين رويت عنهم بالسماع أو القراءة فهم كثير وأذكر الآن منهم جماعة فمنهم القاضي أبو علي الحسن بن عبد العزيز بن أبي الأحوص القرشي والمقريء أبو جعفر أحمد بن سعيد بن أحمد بن بشير الأنصاري وإسحاق بن عبد الرحيم بن محمد بن عبد الملك بن درباس وأبو بكر ابن عباس بن يحيى بن غريب القواس البغدادي وصفي الدين الحسين بن أبي منصور بن الخزرجي وأبو الحسين محمد بن يحيى بن عبد الرحمن بن ربيع الأشعري ووجيه الدين محمد بن عبد الرحمن بن أحمد الأزدي بن الدهان وقطب الدين محمد بن أحمد بن علي بن محمد بن القسطلاني ورضي الدين محمد بن علي بن يوسف الأنصاري الشاطبي اللغوي ونجيب الدين محمد بن أحمد بن محمد بن المؤيد الهمداني ومكي بن محمد بن أبي القاسم ابن حامد الأصبهاني الصفار ومحمد بن عمر بن محمد بن علي السعدي الضرير بن الفارض وزين الدين أبو بكر محمد بن إسماعيل بن عبد الله بن الأنماطي ومحمد بن إبراهيم بن ترجم بن حازم المازني ومحمد بن الحسين بن الحسن بن إبراهيم الداري بن الخليلي ومحمد بن عبد المنعم بن محمد بن يوسف الأنصاري بن الخيمي ومحمد بن عبد الله بن محمد بن عمر العنسي عرف بابن النن وعبد الله بن محمد بن هارون بن عبد العزيز الطائي القرطبي وعبد الله بن نصر الله بن أحمد بن رسلان بن فتيان بن كامل الخزمي وعبد الله بن أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن فارس التميمي وعبد الرحمن بن يوسف بن يحيى بن يوسف ابن خطيب المزة وعبد العزيز بن عبد الرحمن بن عبد العلي المصري السكري وعبد العزيز بن عبد المنعم بن علي بن نصر بن الصيقل الحراني وعبد العزيز بن عبد القادر بن إسماعيل الفيالي الصالحي الكتاني وعبد المعطي بن عبد الكريم بن أبي المكارم بن منجى الخزرجي وعلي بن صالح بن أبي علي بن يحيى بن إسماعيل الحسني البهنسي المجاور وغازي بن أبي الفضل بن عبد الوهاب الحلاوي والفضل بن علي بن نصر بن عبد الله بن الحسين بن رواحة الخزرجي ويوسف بن إسحاق بن أبي بكر الطبري المكي واليسر بن عبد الله بن محمد بن خلف بن اليسر القشيري ومؤنسة بنت الملك العادل أبي بكر بن أيوب بن شادي وشامية بنت الحافظ أبي علي الحسن بن محمد بن محمد التيمية وزينب بنت عبد اللطيف بن يوسف بن محمد بن علي البغدادي وممن كتبت عنه من مشاهير الأدباء أبو الحكم مالك بن عبد الرحمن بن علي بن الفرج المالقي بن المرحل وأبو الحسن بن حازم بن محمد بن حازم الأنصاري القرطاجني وأبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن يحيى بن عبد الله الهذلي التطيلي وأبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن زنون المالقي وأبو عبد الله محمد بن عمر بن جبير الجلياني العكي المالقي وأبو الحسين يحيى بن عبد العظيم بن يحيى الأنصاري الجزار وأبو عمرو عثمان بن سعيد بن عبد الرحمن بن تولو القرشي وأبو حفص عمر بن محمد بن أبي علي الحسن المصري الوراق وأبو الربيع سليمان بن علي بن عبد الله بن ياسين الكومي التلمساني وأبو العباس أحمد بن أبي الفتح نصر الله بن باتكين القاهري وأبو عبد الله محمد بن سعيد بن حماد بن محسن الصنهاجي البوصيري وأبو العباس أحمد بن عبد الملك بن عبد المنعم العزازي
وممن أخذت عنه من النحاة أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن عبد الرحمن الخشني الأبدي وأبو الحسن علي بن محمد بن علي بن يوسف الكتامي بن الضائع وأبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير بن محمد بن الزبير الثقفي وأبو جعفر أحمد بن يوسف بن علي بن يوسف الفهري اللبلي وأبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن محمد بن نصر الحلبي ابن النحاس وممن لقيته من الظاهرية أبو العباس أحمد بن علي بن خالص الأنصاري

الإشبيلي الزاهد وأبو الفضل محمد بن محمد بن سعدون الفهري الشنتمري وجملة الذين سمعت منهم نحو من أربعمائة شخص وخمسين وأما الذين أجازوني فعالم كثير جدا من أهل غرناطة ومالقة وسبتة وديار إفريقية وديار مصر والحجاز والعراق والشام وأما ما صنفته فمن ذلك البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم إتحاف الأديب بما في القرآن من الغريب كتاب الأسفار الملخص من كتاب الصفار شرحا لكتاب سيبويه كتاب التجريد لأحكام سيبويه كتاب التذييل والتكميل في شرح التسهيل كتاب التنخيل الملخص من شرح التسهيل كتاب التذكرة كتاب المبدع في التصريف كتاب الموفور كتاب التقريب كتاب التدريب كتاب غاية الإحسان كتاب النكت الحسان كتاب الشذا في مسألة كذا كتاب الفضل في أحكام الفصل كتاب اللمحة كتاب الشذرة كتاب الارتضاء في الفرق بين الضاد والظاء كتاب عقد اللآلي كتاب نكت الأمالي كتاب النافع في قراءة نافع الأثير في قراءة ابن كثير المورد الغمر في قراءة أبي عمرو الروض الباسم في قراءة عاصم المزن الهامر في قراءة ابن عامر الرمزة في قراءة حمزة تقريب النائي في قراءة الكسائي غاية المطلوب في قراءة يعقوب قصيدة النير الجلي في قراءة زيد بن علي الوهاج في اختصار المنهاج الأنوار الأجلى في اختصار المحلى الحلل الحالية في أسانيد القرآن العالية كتاب الإعلام بأركان الإسلام نثر الزهر ونظم الزهر قطر الحبي في جواب أسئلة الذهبي فهرست مسموعاتي نوافث السحر في دمائث الشعر تحفة الندي في نحاة الأندلس الأبيات الوافية في علم القافية جزء في الحديث مشيخة ابن أبي المنصور كتاب الإدراك للسان الأتراك زهو الملك في نحو الترك نفحة المسك في سيرة الترك كتاب الأفعال في لسان الترك منطق الخرس في

لسان الفرس ومما لم يكمل تصنيفه كتاب مسلك الرشد في تجريد مسائل نهاية ابن رشد كتاب منهج السالك في الكلام على ألفية ابن مالك نهاية الإغراب في علمي التصريف والإعراب رجز مجاني الهصر في آداب وتواريخ لأهل العصر خلاصة التبيان في علمي البديع والبيان رجز نور الغبش في لسان الحبش المخبور في لسان اليخمور قاله وكتبه أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان وأنشدني الشيخ أثير الدين من لفظه لنفسه في صفات الحروف
( أنا هاو لمستطيل أغن ... كلما اشتد صارت النفس رخوه )
( أهمس القول وهو يجهر سبي ... وإذا ما انخفضت أظهر علوه )
( فتح الوصل ثم أطبق هجرا ... بصفير والقلب قلقل شجوه )
( لان دهرا ثم اغتدى ذا انحراف ... وفشا السر مذ تكررت نحوه )
وأنشدني أيضا لنفسه
( يقول لي العذول ولم أطعه ... تسل فقد بدا للحب لحيه )
( تخيل أنها شانت حبيبي ... وعندي أنها زين وحليه )
وأنشدني لنفسه أيضا
( شوقي لذاك المحيا الزاهر الزاهي ... شوق شديد وجسمي الواهن الواهي )
( أسهرت طرفي وولهت الفؤاد هوى ... فالطرف والقلب مني الساهر الساهي )
( نهبت قلبي وتنهى أن أبوح بما ... يلقاه وأشوقه للناهب الناهي )
( بهرت كل مليح بالبهاء فما ... في النيرين شبيه الباهر الباهي )
( لهجت بالحب لما أن لهوت به ... عن كل شيء فويح اللاهج اللاهي )
وأنشدني من لفظه لنفسه

( راض حبيبي عارض قد بدا يا ... حسنه من عارض رائض )
( وظن قوم أن قلبي سلا ... والأصل لا يعتد بالعارض )
وأنشدني من لفظه لنفسه
( تعشقته شيخا كأن مشيبه ... على وجنتيه ياسمين على ورد )
( أخا العقل يدري ما يراد من الهوى ... أمنت عليه من رقيب ومن صد )
( وقالوا الورى قسمان في شرعة الهوى ... لسود اللحى ناس وناس إلى المرد )
( ألا إنني لو كنت أصبو لأمرد ... صبوت إلى هيفاء مائسة القد )
( وسود اللحى أبصرت فيهم مشاركا ... فأحببت أن أبقى بأبيضهم وحدي )
وأنشدني من لفظه لنفسه
( ألا إن ألحاظا بقلبي عوابثا ... أظن بها هاروت أصبح نافثا )
( إذا رام ذو وجد سلوا منعنه ... وكن على دين التصابي بواعثا )
( وقيدن من أضحى عن الحب مطلقا ... وأسرعن للبلوى بمن كان رائثا )
( بروحي رشا من آل خاقان راحل ... وإن كان ما بين الجوانح لابثا )
( غدا واحدا في الحسن للفضل ثانيا ... وللبدر والشمس المنيرة ثالثا )
وأنشدني لنفسه ومن خطه نقلت
( أسحر لتلك العين في القلب أم وخز ... ولين لذاك الجسم في اللمس أم خز )
( وأملود ذاك القد أم أسمر غدا ... له أبدا في قلب عاشقه هز )
( فتاة كساها الحسن أفخر حلة ... فصار عليها من محاسنها طرز )
( وأهدى إليها الغصن لين قوامه ... فماس كأن الغصن خامره العز )
( يضوع أديم الأرض من نشر طيبها ... ويخضر من آثار تربتها الجرز )
( وتختال في برد الشباب إذا مضت ... فينهضها قد ويقعدها عجز )
( أصابت فؤاد الصب منها بنظرة ... فلا رقية تجدي المصاب ولا حرز )

وأنشدني إجازة في مليح أبرص ومن خطه نقلت
( وقالوا الذي قد صرت طوع جماله ... ونفسك لاقت في هواه نزاعها )
( به وضح تأباه نفس أولي النهى ... وأفظع داء ما ينافي طباعها )
( فقلت لهم لا عيب فيه يشينه ... ولا علة فيه يروم دفاعها )
( ولكنها شمس الضحى حين قابلت ... محاسنه ألقت عليه شعاعها )
وأنشدني من لفظه لنفسه في فحام
( وعلقته مسود عين ووفرة ... وثوب يعاني صنعة الفحم عن قصد )
( كأن خطوط الفحم في وجناته ... لطاخة مسك في جني من الورد )
وأنشدني إجازة ومن خطه نقلت
( سأل البدر هل تبدى أخوه ... قلت يا بدر لن تطيق طلوعا )
( كيف يبدو وأنت يا بدر باد ... أو بدران يطلعان جميعا ) وأنشدني من لفظه لنفسه موشحة عارض بها شمس الدين محمد بن التلمساني
( عاذلي في الأهيف الأنس ... لو رآه الآن قد عذرا )
( رشأ قد زانه الحور ... غصن من فوقه قمر )
( قمر من سحبه الشعر ... ثغر في فيه أم درر )
( حال بين الدر واللعس ... خمرة من ذاقها سكرا )
( رجة بالردف أم كسل ... ريقة بالثغر أم عسل )
( وردة بالخد أم خجل ... كحل بالعين أم كحل )
( يا لها من أعين نعس ... جلبت للناظر السهرا )

( مذ نأى عن مقلتي سني ... ما أذيقا لذة الوسن )
( طال ما ألقاه من شجن ... عجبا ضدان في بدن )
( بفؤادي جذوة القبس ... وبعيني الماء منفجرا )
( قد أتاني الله بالفرج ... إذ دنا مني أبو الفرج )
( قمر قد حل في المهج ... كيف لا يخشى من الوهج )
( غيره لو صابه نفسي ... ظنه من حره شررا )
( نصب العينين لي شركا ... فانثنى والقلب قد ملكا )
( قمر أضحى له فلكا ... قال لي يوما وقد ضحكا )
( أتجي من أرض أندلس ... نحو مصر تعشق القمرا )
وأما موشحة ابن التلمساني فهي
( قمر يجلو دجى الغلس بهر الأبصار مذ ظهرا )
( آمن من شبهة الكلف ... ذبت من عينيه بالكلف )
( لم يزل يسعى إلى تلفي ... بركاب الدل والصلف )
( آه لولا أعين الحرس ... نلت منه الوصل مقتدرا )
( يا أميرا جار مذ وليا ... كيف لا ترثي لمن بليا )
( فبثغر منك قد جليا ... قد حلا طعما وقد حليا )
( وبما أوتيت من كيس ... جد فما أبقيت مصطبرا )

( بدر تم في الجمال سني ... ولهذا لقبوه سني )
( قد سباني لذة الوسن ... بمحيا باهر حسن )
( هو خشفي وهو مفترسي ... فارو عن أعجوبتي خبرا )
( لك خد يا أبا الفرج ... زين بالتوريد والضرج )
( وحديث عاطر الأرج ... كم سبى قلبا بلا حرج )
( لو رآك الغصن لم يمس ... أو رآك البدر لاستترا )
( يا مذيبا مهجتي كمدا ... فقت في الحسن البدور مدى )
( يا كحيلا كحله اعتمدا ... عجبا أن تبرىء الرمدا )
( وبسقم الناظرين كسي ... جفنك السحار وانكسرا )
وأنشدني من لفظه لنفسه أيضا
( إن كان ليل داج وخاننا الإصباح ... فنورها الوهاج يغني عن المصباح )
( سلافة تبدو ... كالكوكب الأزهر )
( مزاجها شهد ... وعرفها عنبر )
( وحبذا الورد ... منها وإن أسكر )
( قلبي بها قد هاج فما تراني صاح ... عن ذلك المنهاج وعن هوى يا صاح )
( وبي رشا أهيف ... قد لج في بعدي )
( بدر فلا يخسف ... منه سنا الخد )
( بلحظه المرهف ... يسطو على الأسد )
( كسطوة الحجاج في الناس والسفاح ... فما ترى من ناج من لحظه السفاح )

( علل بالمسك ... قلب رشا أحور )
( منعم المسك ... ذي مبسم أعطر )
( رياه كالمسك ... وريقه كوثر )
غصن على رجراج طاعت له الأرواح ... فحبذا الآراج إن هبت الأرواح )
( مهلا أبا القاسم ... على أبي حيان )
( ما إن له عاصم ... من لحظك الفتان )
( وهجرك الدائم ... قد طال بالهيمان )
( فدمعه أمواج وسره قد باح ... لكنه ما عاج ولا أطاع اللاح )
( يا رب ذي بهتان ... يعذل في الراح )
( وفي هوى غزلان ... دافعت بالراح )
وقلت لا سلوان ... عن ذاك يا لاح )
( سبع الوجوه والتاج هي منية الأفراح ... فاختر لي يا زجاج قمصال وزوج أقداح )
وأنشدني من لفظه لنفسه القصيدة الدالية التي نظمها في مدح النحو والخليل و سيبويه ثم خرج منها إلى مديح صاحب غرناطة وغيره من أشياخه وأولها
( هو العلم لا كالعلم شيء تراوده ... لقد فاز باغيه وأنجح قاصده ) وهي قصيدة جيدة تزيد على مائة بيت وحكي لي أن الشيخ أثير الدين رحمه الله تعالى ضعف فتوجه إليه جماعة يعودونه وفيهم شمس الدين بن دانيال فأنشدهم الشيخ رحمه الله تعالى القصيدة المذكورة فلما فرغت قال ابن دانيال يا جماعة أخبركم أن الشيخ قد عوفي وما بقي عليه بأس لأنه لم يبق عنده فضلة قوموا باسم الله

وأنشدني من لفظه لنفسه رحمه الله تعالى قصيدته السينية التي أولها
( أهاجك ربع حائل الرسم دارسه ... كوحي كتاب أضعف الخط دارسه )
انتهى نص الصفدي وما ذكره رحمه الله تعالى في موضع ولادة أبي حيان غير مخالف لما ذكره في الوافي أنه ولد بغرناطة إلا أن قوله بمدينة مطخشارش فيه نظر لأنه يقتضي أنها مدينة وليس كذلك وإنما هي موضع بغرناطة ولذا قال الرعيني إن مولد أبي حيان بمطخشارش من غرناطة ونحوه لابن جماعة انتهى وهو صريح في المراد وصاحب البيت أدرى على أنه يمكن أن يرد كلام الصفدي لذلك والله تعالى أعلم
وذكر في الوافي أنه تولى تدريس التفسير بالقبة المنصورية والإقراء بالجامع الأقمر قال الصفدي وقال لي لم أر بعد ابن دقيق العيد أفصح من قراءتك وكان ذلك حين قرأت عليه المقامات الحريرية بمصر جماعة انتهى
وما وقع في كلام كثير من أهل المغرب أن أبا حيان توفي سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة غير ظاهر لأن أهل المشرق أعرف بذلك إذ توفي عندهم وقد تقدم أنه توفي سنة خمس وأربعين وسبعمائة فعلى كلام أهل المشرق في هذا المعول والله أعلم
وكانت نضار بنت أبي حيان حجت وسمعت بقراءة العلم البرزالي على بعض الشيوخ وحدثت بشيء من مروياتها وحضرت على الدمياطي وسمعت على جماعة وهي بضم النون وتخفيف الضاد وأجازها من المغرب أبو جعفر بن الزبير وحفظت مقدمة في النحو ولما توفيت عمل والدها فيها كتابا سماه النضار في المسلاة عن نضار وكان والدها يثني عليها كثيرا وكانت تكتب وتقرأ قال الصفدي قال لي والدها إنها خرجت جزءا لنفسها وإنها تعرب جيدا وأظنه قال لي إنها تنظم الشعر وكان يقول دائما ليت أخاها حيان كان مثلها وتوفيت رحمها الله تعالى في جمادي الآخرة

في حياة والدها فوجد عليها وجدا عظيما ولم يثبت وانقطع عند قبرها بالبرقية ولازمه سنة ومولدها في جمادي الآخرة سنة 702 قال الصفدي وكنت بالرحبة لما توفيت فكتبت لوالدها بقصيدة أولها
( بكينا باللجين على نضار ... فسيل الدمع في الخدين جاري )
( فيا لله جارية تولت ... فنبكيها بأدمعنا الجواري ) وقال الفقيه المحدث أبو عبد الله محمد بن سعيد الرعيني الأندلسي في برنامجه عند ذكره شيخه أبا حيان زيادة على ما قدمناه ما ملخصه إن أبا حيان قال سمعت بغرناطة ومالقة وبلش والمرية وبجاية وتونس والإسكندرية ومصر والقاهرة ودمياط والمحلة وطهرمس والجيزة ومنية بني خصيب ودشنا وقنا وقوص وبلبيس وبعيذاب من بلاد السودان وبينبع ومكة ش ؟ رفها الله تعالى وجدة وأيلة ثم فصل من لقيه في كل بلد إلى أن قال وبمكة أبا اليمن عبد الصمد بن عبد الوهاب بن الحسن بن عبد الله بن عساكر إلى أن قال فهذه نبذة من شيوخي وجملة من سمعت منه خمسمائة والمجيزون أكثر من ألف وعد من كتب القراءات التي أخذ تسعة عشر كتابا وقال في حق ابن المليحي إنه أعلى شيوخي في القراءات وإن آخر من روى عنه السبع أبو الجود غياث بن فارس المنذري اللخمي وإجازته منه سنة 604 قال وقرأت البخاري على جماعة أقدمهم إسنادا فيه أبو العز الحراني قرأته عليه بلفظي إلا بعض كتاب التفسير من قوله تعالى 15 ( ويسألونك عن المحيض ) إلى قوله سبحانه ( ولولا فضل الله عليكم ورحمته ) في سورة النور فسمعته بقراءة غيري قال أنبأنا به أبو المعالي أحمد بن يحيى بن عبيد الله الخازن البيع سماعا عليه سنة ستمائة ببغداد أنبأنا أبو الوقت بسنده وكمل له رحمه الله تعالى جامع الترمذي بين قراءة وسماع على ابن الزبير بغرناطة وسمعه على محمد بن ترجم أنبأنا ابن البناء أنبأنا الكرو خي بسنده وقرأ السنن لأبي داود بغرناطة على أبي زيد عبد الرحمن الربعي عرف بالتونسي أنبأنا

به سهل بن مالك وقرأه بالقاهرة على أبي الفضل عبد الرحيم ابن خطيب المزة عن أبي حفص بن طبرزد عن أبي بدر الكروخي ومفلح الرومي عن أبي بكر بن ثابت الخطيب أنبأنا أبو عمر الهاشمي أنبأنا اللؤلؤي أنبأنا أبو داود وقرأ الموطأ على أبي حفص بن الطباع عن أبي القاسم بن بقي عن ابن عبد الحق عن ابن الطلاع بسنده وهذا أعلى سند يوجد عن يونس بن مغيث في عصره وسمع أبو حيان الأجزاء الخلعيات والغيلانيات والقطيعيات والنهروانيات والمحامليات والثقفيات وسداسيات الرازي بعلو قرأها على صفي الدين عبد الوهاب بن الفرات عن أبي الطاهر إسماعيل بن ياسين الجيلي وهو آخر م ن حدث عنه عن أبي عبد الله الرازي سماعا وقرأ جزء الأنصاري على أبي بكر بن الأنماطي بسماعه حضورا في الرابعة على أبي اليمن زيد بن الحسن الكندي أنبأنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي البزار سنة 532 أنبأنا إبراهيم بن عمر بن أحمد البرمكي قراءة عليه في رجب سنة 445 أنبأنا عبد الله بن إبراهيم بن ماس أنبأنا أبو مسلم الكشي البصري أنبأنا محمد بن عبد الله الأنصاري وقرأ جميع كتاب سيبويه على البهاء بن النحاس المشهور بالنحو في مصر والشام بقراءته على علم الدين أبي محمد القاسم بن أحمد بن الموفق بقراءته على التاج أبي اليمن الكندي أنبأنا أبو محمد عبد الله بن علي ابن أحمد البغدادي مؤلف كتاب المبهج أنبأ أبو الكرم المبارك بن فاخر بن محمد بن يعقوب عرف بابن الدباس أنبأنا أبو القاسم عبد الواحد بن علي بن عمر بن برهان الأسدي أنبأ أبو القاسم علي بن عبيدالله الرقيقي أنبأ علي بن عيسى بن عبد الله الرماني أنبأنا أبو بكر بن السراج أنبأنا أبو العباس المبرد أنبأنا أبو عمر الجرمي وأبو عثمان المازني قالا أنبأنا أبو الحسن الأخفش أنبأنا سيبويه قال الشيخ أبو حيان ولا أعلم راويا له بمصر والشام والعراق واليمن والمشرق غيري ورويته عن الأساتيذ أبوي علي بن الضائع وابن أبي الأحوص وأبي جعفر اللبلي عن أبي علي الشلوبين وسنده مشهور بالمغرب ووقع لأبي حيان تساعيات كثيرة وأغرب ما وقع له ثلاثة أحاديث بينه وبين

رسول الله فيها ثمانية أخبره المحدث نجيب محمد بن أحمد بن محمد بن المؤيد الهمداني بقراءته عليه والجليلة السلطانية مؤنسة بنت الملك العادل أبي بكر بن أيوب بن شادي قراءة عليها وهو يسمع قالا أنبأنا أبو الفخر أسعد بن سعيد بن روح في كتابه أخبرتنا فاطمة بنت عبد الله بن أحمد الجوزدانية أنبأنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن ريدة الضبي الأصبهاني أنبأنا الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطر اللخمي الطبراني أنبأنا عبيد الله بن رماحس القيسي برمادة الرملة سنة 274 أنبأنا أبو عمر زياد بن طارق وقد أتت عليه عشرون ومائة سنة قال سمعت أبا جرول زهير بن صرد الجشمي يقول لما أسرنا رسو الله يوم هوازن أتيته فقلت
( امنن علينا رسول الله في كرم ... فإنك المرء نرجوه وننتظر )
( امنن على بيضة قد عاقها قدر ... مشتت شملها في دهرها غير )
( أبقت لنا الدهر هتانا على حزن ... علا قلوبهم الغماء والغمر )
( إن لم تداركهم نعماء تنشرها ... يا أرجح الناس حلما حين يختب )
( امنن على نسوة قد كنت ترضعها ... إذ فوك تملؤه من محضها الدرر )
( إذ أنت طفل صغير كنت ترضعها ... وإذ يريبك ما تأتي وما تذر )
( لا تجعلنا كمن شالت نعامته ... واستبق منا فإنا معشر زهر )
( إنا لنشكر للنعماء إذ كفرت ... وعندنا بعد هذا اليوم مدخر )
( فألبس العفو من قد كنت ترضعه ... من أمهاتك إن العفو مشتهر )
( يا خير من مرحت كمت الجياد به ... عند الهياج إذا ما استوقد الشرر )
( إنا نؤمل عفوا منك تلبسه ... هذي البرية إذ تعفو وتنتصر )
( فاعف عفا الله عما أنت راهبه ... يوم القيامة إذ يهدي لك الظفر )
( فلما سمع هذا الشعر قال " ما كان لي ولبني

عبد المطلب فهو لكم " فقالت قريش ما كان لنا فهو لله ولرسوله وقالت الأنصار ما كان لنا فهو لله ولرسوله قال أبو القاسم الطبراني لا يروى عن زهير إلا بهذا الإسناد وتفرد به عبيد الله بن رماحس وبالإسناد إلى الطبراني أنبأنا جعفر بن حميد بن عبد الكريم بن فروخ بن ديزج بن بلال بن سعد الأنصاري الدمشقي قال حدثني جدي لأمي عمر بن أبان بن مفضل بن أبان المدني قال أراني أنس بن مالك الوضوء أخذ ركوة فوضعها عن يساره وصب على يده اليمنى فغسلها ثلاثا ثم أدار الركوة عن يده اليمنى وصب على يساره فغسلها ثلاثا وثلاثا ومسح برأسه ثلاثا وأخذ ماء جديدا لصماخيه فمسح صماخيه فقلت له قد مسحت أذنيك فقال يا غلام هل رأيت وفهمت أو أعيد عليك فقلت قد كفاني وقد فهمت قال فكذا رأيت رسول الله يتوضأ قال الطبراني لم يرو عمر بن أبان عن أنس حديثا غير هذا وبالإسناد إلى الطبراني حدثنا محمد بن أحمد بن يزيد القصاص البصري أنبأنا دينار بن عبد الله مولى أنس بن مالك حدثني أنس بن مالك قال قال رسول الله " طوبى لمن رآني وآمن بي ومن رأى من رآني وآمن بي ومن رأى من رأى من رآني " ثم قال الرعيني وتصانيف أبي حيان تزيد على خمسين ما بين طويل وقصير ثم قال الرعيني وخرج أبو حيان من الأندلس مفتتح سنة 679 واستوطن القاهرة بعد حجه وأنشد لشيخه أبي الحسن الزجاج
( رضيت كفافي رتبة ومعيشة ... فلست أسامي موسرا ووجيها )
( ومن جر أثواب الزمان طويلة ... فلا بد يوما أن سيعثر فيها )

وأنشد بإسناده لموسى بن أبي تليد
( حالي مع الدهر في تقلبه ... كطائر ضم رجله شرك )
( فهمه في خلاص مهجته ... يروم تخليصها فتشتبك )
ثم أورد الرعيني جملة من نظم الإمام أبي حيان منها قوله
( أريد من الدنيا ثلاثا وإنها ... لغاية مطلوب لمن هو طالب )
( تلاوة قرآن ونفس عفيفة ... وإكثار أعمال عليها أواظب ) وقوله
( أرحت روحي من الإيناس بالناس ... لما غنيت عن الأكياس بالياس )
( وصرت في البيت وحدي لا أرى أحدا ... بنات فكري وكتبي هن جلاسي ) وقوله
( وزهدني في جمعي المال أنه ... إذا ما انتهى عند الفتى فارق العمرا )
( فلا روحه يوما أراح من العنا ... ولم يكتسب حمدا ولم يدخر أجرا )
وقوله
( يظن الغمر أن الكتب تجدي ... أخا ذهن لإدراك العلوم )
( وما يدري الجهول بأن فيها ... غوامض حيرت عقل الفهيم )
( إذا رمت العلوم بغير شيخ ... ضللت عن الصراط المستقيم )
وتلتبس الأمور عليك حتى ... تصير أضل من توما الحكيم )
وله لغز في قيراط زاعما أنه لا يفك
( وما اسم خماسي إذا ما فككته ... يصير لنا فعلين أمرا وماضيا )

( بعكس وهو كل وجزء وجمعه ... بإبدال عين حار فيه التناهيا )
( ومع كونه فردا وجمعا فأول ... وآخره أضحى لشخص معاديا )
( وفي عكسه صوت فتبنيه صيغة ... وتبني بمعناه وما أنت بانيا )
( فكم فيه من معنى خفي وإنما ... عنيت بذكري للذي ليس خافيا )
ثم قال الرعيني وهو شيخ فاضل ما رأيت مثله كثير الضحك والانبساط بعيد عن الانقباض جيد الكلام حسن اللقاء جميل المؤانسة فصيح الكلام طلق اللسان ذو لمة وافرة وهمة فاخرة له وجه مستدير وقامته معتدلة التقدير ليس بالطويل ولا بالقصير انتهى ما لخصته من كلام الرعيني ولما قدم الأستاذ أبو حيان إلى مصر أوصى أهله بقوله ينبغي للعاقل أن يعامل كل أحد في الظاهر معاملة الصديق وفي الباطن معاملة العدو في التحفظ منه والتحرز وليكن في التحرز من صديقه أشد من التحرز من عدوه وأن يعتقد أن إحسان شخص إلى آخر وتودده إليه إنما هو لغرض قام له فيه يتعلق به يبعثه على ذلك لا لذات ذلك الشخص وينبغي أن يترك الإنسان الكلام في ستة أشياء في ذات الله تعالى وما يتعلق بصفاته وما يتعلق بأحوال أنبيائه صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ! وفي التعرض لما جرى بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين وفي التعرض لأئمة المذاهب رحمهم الله تعالى ورضي عنهم وفي الطعن على صالحي الأمة نفع الله بهم ! وعلى أرباب المناصب والرتب من أهل زمانه وأن لا يقصد أذى أحد من خلق الله سبحانه وتعالى إلا على حسب الدفع عن نفسه وأن يعذر الناس في مباحثهم وإدراكاتهم فإن ذلك على حسب عقولهم وأن يضبط نفسه عن المراء والاستزراء والإستخفاف بأبناء زمانه وأن لا يبحث إلا مع من اجتمعت فيه شرائط الديانة والفهم والمزاولة لما يبحث وأن لا يغضب على من لا يفهم مراده ومن لم يدر ما يدركه وأن يلتمس مخرجا لمن ظاهر

كلامه الفساد وأن لا يقدم على تخطئة أحد ببادي الرأي وأن يترك الخوض في علوم الأوائل وأن يجعل اشتغاله بعلوم الشريعة وأن لا ينكر على الفقراء وليسلم لهم أحوالهم وينبغي للعاقل أن يلزم نفسه التواضع لعبيد الله سبحانه وتعالى وأن يجعل نصب عينيه أنه عاجز مفتقر وأن لا يتكبر على أحد وأن يقل من الضحك والمزاح والخوض فيما لا يعنيه وأن يتظاهر لكل بما يوافقه فيما لا معصية لله تعالى فيه ولا خرم مروءة وأن يأخذ نفسه باجتناب ما هو قبيح عند الجمهور وأن لا يظهر الشكوى لأحد من خلق الله تعالى وأن لا يعرض بذكر أهله ولا يجري ذكر حرمه بحضرة جليسه وأن لا يطلع أحدا على عمل خير يعمله لوجه الله تعالى وأن يأخذ نفسه بحسن المعاملة من حسن اللفظ وجميل التقاضي وأن لا يركن إلى أحد إلا إلى الله تعالى وأن يكثر من مطالعة التواريخ فإنها تلقح عقلا جديدا والله سبحانه وتعالى اعلم
انتهت وصية أبي حيان الجامعة النافعة وقد نقلتها من خط الشيخ العلامة أبي الطيب بن علوان التونسي المالكي الشهير بالمصري وهو ممن أخذ عن تلامذة الشيخ أبي حيان رحمه الله تعالى
قلت وبما في هذه الوصية من نهيه عن الطعن في صالحي الأمة نفع الله تعالى بهم وأمره بالتسليم لأحوالهم وعدم الإنكار عليهم تعلم أن ما نقله الصفدي عنه فيما تقدم من قوله إن الشيخ أبا مدين إلى آخره كلام فيه نظر لأن أبا حيان رضي الله تعالى عنه لا ينكر كرامات الأولياء كيف وقد ذكر رحمه الله تعالى منها كثيرا فمن ذلك ما حكى عنه تلميذه الرعيني بسنده إلى الفقيه المقريء الصالح أبي تمام غالب بن حسن بن أحمد بن سيد بونة الخزاعي حدث أنه زار قبر أبي الحسن بن جالوت ولم يكن زاره قبل فاشتبه عليه فتركه فسمع النداء من قبر معين يا غالب أتمشي وما زرتني فزار ذلك القبر وقعد عنده ثم جاء

ابن أبي الحسن المذكور فسأله عن القبر فقال هو الذي قعدت عنده وغالب هذا وابن جالوت هما من أصحاب الشيخ أبي أحمد جعفر بن سيد بونة الخزاعي وهو من أصحاب الشيخ أبي مدين انتهى فكيف ينكر أبو حيان كرامات الصالحين وهو يوصي على من ينهى عن الطعن فيهم ويحكي كراماتهم نعم قول الصفدي قبل ذلك الكلام إنه كان ينكر على فقراء الوقت كلام صحيح في الجملة لكثرة الدعاوى الباطلة ممن ليس من أهل الصلاح وأما إنكار الكرامات مطلقا فمقام أبي حيان يجل عن انكارها والله تعالى أعلم
وقد أورد ابن جماعة له من قطعة قوله في أهل عصره
( ومن يك يدعي منهم صلاحا ... فزنديق تغلغل في الضلال ) وأول هذه القطعة
( حلبت الدهر أشطره زمانا ... وأغناني العيان عن السؤال )
( فما أبصرت من خل وفي ... ولا ألفيت مشكور الخلال )
( ذئاب في ثياب قد تبدت ... لرائيها بأشكال الرجال )
( ومن يك يدعي منهم صلاحا ... فزنديق تغلغل في الضلال )
( ترى الجهال تتبعه وترضى ... مشاركة بأهل أو بمال )
( فينهب مالهم ويصيب منهم ... نساءهم بمقبوح الفعال )
و ( تأخذ حاله زورا فيرمي ... عمامته ويهرب في الرمال )
( ويجرون التيوس وراء رجس ... تقرمط في العقيدة والمقال )
أي اعتقدوا رأي القرامطة ومذهبهم مشهور فلا نطيل به فظهر بما ذكر أن أبا حيان إنما أنكر على أهل الدعاوى لا على غيرهم والله تعالى أعلم
وقد أورد قاضي القضاة ابن جماعة للشيخ أبي حيان من النظم غير ما قدمنا ذكره قوله

( أما إنه لولا ثلاث أحبها ... تمنيت أني لا أعد من الأحيا )
( فمنها رجائي أن أفوز بتوبة ... تكفر لي ذنبا وتنجح لي سعيا )
( ومنهن صوني النفس عن كل جاهل ... لئيم فلا أمشي إلى بابه مشيا )
( ومنهن أخذي بالحديث إذا الورى ... نسوا سنة المختار واتبعوا الرأيا )
( أتترك نصا للرسول وتقتدي ... بشخص لقد بدلت بالرشد الغيا )
وقوله
( سال في الخد للحبيب عذار ... وهو لا شك سائل مرحوم )
( وسألت التثامة فتجنى ... فأنا اليوم سائل محروم )
وقوله
( أمدعيا علما ولست بقارئ ... كتابا على شيخ به يسهل الحزن )
( أتزعم أن الذهن يوضح مشكلا ... بلا موضح كلا لقد كذب الذهن ) و
( إن الذي تبغيه دون معلم ... كموقد مصباح وليس له دهن )
وقوله عداتي - البيتين قال وأخذ هذا المعنى من قول الطغرائي
( من خص بالود الصحاب فإنني ... أحبو بخالص ودي الأعداء )
( جعلوا التنافس في المعالي ديدني ... حتى وطئت بأخمصي الجوزاء )
( ونعوا إلي مثالبي فحذرتها ... ونفيت عن أخلاقي الأقذاء )
( ولربما انتفع الفتى بعدوه ... كالسم أحيانا يكون دواء )
ومن نظم أبي حيان
( يا منضي الطرف في ميدان لذته ... وناضي الطرف بين الراح والرود )

( ستشرب الروح راح الوقت كارهة ... ويذهب الجسم بين الترب في الدود ) وله رحمه الله تعالى قصيدة سماها بالمورد العذب في معارضة قصيدة كعب وقصيدة في مدح الإمام الشافعي مطلعها
( غذيت بعلم النحو إذ در لي ثديا ... )
وله رحمه الله تعالى من قصيدة في مدح أم ولده حيان
( جننت بها سوداء لون وناظر ... ويا طالما كان الجنون بسوداء
( وجدت بها برد النعيم وإن يكن ... فؤادي منها في جحيم ولأواء )
( وشاهدت معنى الحسن فيها مجسدا ... فأعجب لمعنى صار جوهر أشياء )
( أطاعنة من قدها بمثقف ... أصبت وما أغنى الفتى لبس حصداء )
( لقد طعنت والقلب ساه فما درى ... أبالقد منها أم بصعدة سمراء )
ثم غير البيت الأول وأنشد
( جننت بها سوداء شعر وناظر ... وسمراء لون تزدري كل بيضاء )
وقال يهنىء قال ابن جماعة خاطبني به ارتجالا عند ولادة ابني عمر بعد بنتين
( حبيت بريحانتي روضة ... وبعدهما جاء نجل أغر )
( وسميته اسم إمام إذا ... رآه أبو مرة منه فر )
( ولا عجب منك عبد العزيز ... إذا كان نجلك يسمى عمر )
( تفرعتما من إمام الهدى ... وبدر الدجى ورئيس البشر )
( فلا زال يوضح سبل الهدى ... ولا زلتما تقفوان الأثر )

وقال
( لقد زادني بالناس علما تجاربي ... ومن جرب الأيام مثلي تعلما )
( وإني وتطلابي من الناس راحة ... لكالمبتغي وسط الجحيم تنعما )
( سأزهد حتى لا أرى لي صاحبا ... وأنجد حتى لا ألاقي متهما )
قال ابن جماعة وقال في إملاك علي بن قاضي القضاة شمس الدين السروجي الحنفي وكان جميل الصورة على أختي شقيقتي فاطمة
( هنيئا بتأليف غريب نظامه ... لقد حار في أوصافه نظم عارف )
( غدت شمس حسن بنت بدر سيادة ... تزف لبدر نجل شمس معارف )
( سميان للزهرا البتول وللرضا ... علي ونجلا الأكرمين الغطارف )
( فدام علي عالي الجد سيدا ... ولا زال في ظل من العيش وارف )
وقال يخاطب شيخه ابن النحاس وقد أغب زيارته
( أعين حياتي والذي ببقائه ... بقائي لقد أصبحت نحوك شيقا )
( أقمت بقلبي غير أن لمقلتي ... برؤيتك الحظ الذي يذهب الشقا )
( وما كان ظني أنك الدهر تاركي ... ولو أنني أصبحت بين الورى لقا )
( لطائف معنى في العيان ولم تكن ... لتدرك إلا بالتزاور واللقا )
وقال يخاطب قاضي القضاة شمس الدين السروجي الحنفي وقد أعيد إلى منصب القضاء وكان يتطلع إليه رجل يدعى نجم الدين
( ذوو العلم في الدنيا نجوم زواهر ... وإنك فيها الشمس حقا بلا لبس )
( إذا لحت أخفى نوركم كل نير ... ألم تر أن النجم يخفى مع الشمس )

وقال
( لم أؤخر عمن أحب كتابي ... لقلى فيه أو لترك هواه )
( غير أني إذا كتبت كتابا ... غلب الدمع مقلتي فمحاه )
وقال
( تذكري للبلى في قعر مظلمة ... أصارني زاهدا في المال والرتب )
( أني أسر بحال سوف أسلبها ... عما قريب وأبقى رمة الترب
وقال
( أتيت وما أدعي وأقبلت سامعا ... فوائد مولى سيد ماجد ندب )
( وأحضر جمعا أنت فيه جماله ... أشنف سمعي منك باللؤلؤ الرطب ) وقال
( لنا غرام شديد في هوى السود ... نختارهن على بيض الطلى الغيد )
( لون به أشرقت أبصارنا وحكى ... في اللون والعرف نفح المسك والعود )
( لا شيء أحسن من آس تركبه ... في آبنوس ولا أشفى لمبرود )
( لا تهو بيضاء لون الجص واسم إلى ... سوداء حسناء لون الأعين السود )
( في جيدها غيد في قدها ميد ... في خدها صيد من سادة صيد )
( من آل حام حمت قلبي بنار جوى ... من هجرها وابتلت عيني بتسهيد )
وقال في عكسه
( إذا مال الفتى للسود يوما ... فلا رأي لديه ولا رشاد )
( أتهوى خنفساء كأن زفتا ... كسا جلدا لها وهو السواد )
( وما السوداء إلا قدر فرن ... وكانون وفحم أو مداد )

( وما البيضاء إلا الشمس لاحت ... تنير العين منها والفؤاد )
( سبيكة فضة حشيت بورد ... يلذ السهد معها والرقاد )
( وبين البيض والسودان فرق ... لدى عقل به اتضح المراد )
( وجوه المؤمنين بها ابيضاض ... ووجه الكافرين به اسوداد )
وقال رحمه الله تعالى
( أعاذل ذرني وانفرادي عن الورى ... فلست أرى فيهم صديقا مصافيا )
( نداماي كتب أستفيد علومها ... أحباي تغني عن لقائي الأعاديا )
( وآنسها القرآن فهو الذي به ... نجاتي إذا فكرت أو كنت تاليا )
( لقد جلت في غرب البلاد وشرقها ... أنقب عمن كان لله داعيا )
( فلم أر إلا طالبا لرياسة ... وجماع أموال وشيخا مرائيا )
( قبضت يدي عنهم وآثرت عزلة ... عن الناس واستغنيت بالله كافيا )
قال العز بن جماعة وخاطب والدي وقد أبل من ضعف أشيع فيه موته مهنئا له
( أدام الإله لك العافية ... وصير دور العدا عافية )
( إذا لاح من بدركم نوره ... فكل النجوم به خافية )
( تخذت كلام الإله الدوا ... فآياته كانت الشافية )
( تشوف ناس لمنصبكم ... ورتبتهم للعلا نافيه )
( فأين العلوم وأين الحلوم ... وخلق موارده صافية )
( هم عصبة لا تنال العلا ... ولو أنها قد سعت حافيه )
( إذا كان خرق تداركته ... وليست لما مزقت رافية )
( فإن عن خطب ثبت له ... وآراؤهم عنده هافية )
( سجاياك لين ورفق بنا ... وأخلاقهم كلها جافية )

( تصلي على سبعة منهم ... وثامنهم نفسه طافية )
( يقيمون في تربهم همدا ... وتسفي على قبرهم سافية )
( فلا زلت في صحة دائما ... تجر ذيول السنى ضافية )
( ويوردك الله عين الحياة ... فتحيا بها مائة وافية )
( فإن زاد عشرا فذاك المنى ... وعشرون أيضا هي الكافية )
( وهذي القوافي أتت كملا ... فلم تبق لي بعدها قافيه )
وقال رحمه الله تعالى أيضا
( خلق الإنسان في كبد ... بوجود الأهل والولد )
( كل عضو فيه نافعه ... غير عضو ضر للأبد )
( منتج ذلا وفقد غنى ... وفراخا جمة العدد )
( من يمت منهم يذقه أسى ... أو يعش ألقاه في نكد عاش في أمن فتى عزب مستريح الفكر والجسد )
وقال رحمه الله تعالى أيضا
( جن غيري بعارض فترجى ... أهله أن يفيق عما قريب )
( وفؤادي بعارضين مصاب ... فهو داء أعيا دواء الطبيب )
وقال
( سعت حية من شعره نحو صدغه ... وما انفصلت من خده إن ذا عجب )
( وأعجب من ذا أن سلسال ريقه ... برود ولكن شب في قلبي اللهب ) وقال
( طالع تواريخ من في الدهر قد وجدوا ... تجد خطوبا تسلي عنك ما تجد )
( تجد أكابرهم قد جرعوا غصصا ... من الرزايا بها كم فتتت كبد )

( عزل ونهب وضرب بالسياط وحبس ... ثم قتل وتشريد لمن ولدوا )
( وإن وقيت بحمد الله شرتهم ... فلتحمد الله فالعقبى لمن حمدوا )
وقال رحمه الله تعالى يمدح البخاري وكتابه الصحيح
( أسامع أخبار الرسول لك البشرى ... لقد سدت في الدنيا وقد فزت في الأخرى )
( تشنف آذانا بعقد جواهر ... تود الغواني لو تقلده النحرا )
( جواهر كم حلت نفوسا نفيسة ... فحلت بها صدرا وحلت بها قدرا )
( هل الدين إلا ما روته أكابر ... لنا نقلوا الأخبار عن طيب خبرا )
( وأدوا أحاديث الرسول مصونة ... عن الزيف والتصحيف فاستوجبوا الشكرا )
( وإن البخاري الإمام لجامع ... بجامعه منها اليواقيت والدرا )
( على مفرق الإسلام تاج مرصع ... أضاء به شمسا ونار به بدرا )
( وبحر علوم يلفظ الدر لا الحصا ... فأنفس بها درا وأعظم به بحرا )
( تصانيفه نور ونور لناظر ... فقد أشرقت زهرا وقد أينعت زهرا )
( نحا سنة المختار ينظم شتها ... يلخصها جمعا ويخلصها تبرا )
( وكم بذل النفس المصونة جاهدا ... فجاز لها بحرا وجاب لها برا )
( فطورا عراقيا وطورا يمانيا ... وطورا حجازيا وطورا أتى مصرا )
( إلى أن حوى منها الصحيح صحيفة ... فوافى كتابا قد غدا الآية الكبرى )
( كتاب له من شرع أحمد شرعة ... مطهرة تعلو السماكين والنسرا )
قلت وتتصل روايتي عن الإمام أبي حيان من طرق عديدة منها من عمي ولي الله العارف به شيخ الإسلام مفتي الأنام الخطيب الإمام ملحق الأحفاد بالأجداد سيدي سعيد بن أحمد المقري التلمساني عن شيخه العالم أبي عبد الله التنسي عن والده حافظ عصره سيدي محمد بن عبد الله بن عبد الجليل التنسي ثم التلمساني الأموي عن عالم الدنيا أبي عبد الله بن مرزوق عن جده الرئيس الخطيب سيدي أبي عبد الله محمد بن مرزوق عن الأثير أبي حيان بكل مروياته

فمنها أن أبا حيان قال حدثنا ابن أبي الأحوص عن قاضي الجماعة أبي القاسم أحمد بن يزيد بن عبد الرحمن بن أحمد بن محمد بن أحمد بن مخلد بن عبد الرحمن بن أحمد بن بقي بن مخلد بن يزيد القرطبي عن أبيه عن أبيه عن أبيه عن أبيه عن أبيه عن أبيه عن أبيه عن أبيه عن أبيه الإمام بقي بن مخلد عن أبي بكر المقدمي عن عمر بن علي وعبد الله بن يزيد عن عبد الرحمن بن زياد عن عبد الرحمن بن رافع عن عبد الله بن عمر أن النبي " مر بمجلسين أحدهما يدعون الله ويدعون إليه والآخر يتعلمون العلم ويعلمونه فقال كل المجلسين خير وأحدهما أفضل من الآخر أما هؤلاء فيتعلمون ويعلمون الجاهل فهم أفضل وأما هؤلاء فيدعون الله ويرغبون إليه إن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم وأنا بعثت معلما ثم جلس معهم "
قال أبو حيان قلت لا أعرف حديثا اجتمعت فيه رواية الأبناء عن الآباء بعدد ما اجتمع في هذا إلا ما أخبرنا به أبو الحسن محمد بن محمد بن الحسن بن مامة بقراءتي عليه أنبأنا أبو المعالي الأبرموي أنبأنا أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن سابور القلانسي أنبأنا أبو المبارك عبد العزيز بن محمد بن منصور الشيرازي أنبأنا رزق الله بن عبد الوهاب التميمي قال سمعت أبي أبا الفرج عبد الوهاب يقول سمعت أبي أبا الحسن عبد العزيز يقول سمعت أبا بكر الحارث يقول سمعت أبي أسدا يقول سمعت أبي الليث يقول سمعت أبي سليمان يقول سمعت أبي الأسود يقول سمعت أبي سفيان يقول سمعت أبي يزيد يقول سمعت أبي أكيمة يقول سمعت أبي الهشيم يقول سمعت أبي عبد الله يقول سمعت رسول الله يقول " ما اجتمع قوم على ذكر إلا حفتهم الملائكة وعمتهم الرحمة " انتهى
قلت قال الحافظ ابن حجر في فوائده ما اجتمع حديث فيه من عدد الآباء أكثر من هذا انتهى
ورأيت بخط بعض الحفاظ على قول أبي أكيمة ما صورته صوابه أكينة

انتهى فليحرر ومنها أن أبا حيان قال أنبأنا الأستاذ أبو جعفر الزبير صاحب الصلة أنبأنا القاضي أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد الأزدي أنبأنا عبد الله بن محمد بن حسن بن عطية ح قال أبو حيان وأنبأنا الأصولي أبو الحسين ابن القاضي أبي عامر بن ربيع الأشعري عن أبي الحسن أحمد بن علي الغافقي قال أنبأنا عياض ح وكتب لنا الخطيب أبو الحجاج يوسف بن أبي ركانة عن القاضي أبي القاسم أحمد بن عبد الودود بن سمحون عن عبد الله بن عطية قال هو وعياض أنبأنا القاضي أبو بكر بن العربي أنبأنا أبو محمد هبة الله الأكفاني أنبأنا الحافظ عبد العزيز الكناني الدمشقي أنبأنا أبو عصمة نوح بن الفرغاني قال سمعت أبا المظفر عبد الله بن محمد بن عبد الله ابن قت الخزرجي وأبا بكر محمد بن عيسى البخاري قالا سمعنا أبا ذر عمار بن محمد بن مخلد التميمي يقول سمعت أبا المظفر محمد بن أحمد بن حامد بن الفضل البخاري يقول لما عزل أبو العباس الوليد بن إبراهيم بن يزيد الهمداني عن قضاء الري ورد بخارى سنة 318 لتجديد مودة كانت بينه وبين أبي الفضل البلعمي فنزل في جوارنا فحملني معلمي أبو إبراهيم إسحاق بن إبراهيم الختلي إليه فقال له أسألك أن تحدث هذا الصبي ما سمعته من مشايخك فقال ما لي سماع فقال وكيف وأنت فقيه فما هذا قال لأني لما بلغت مبلغ الرجال تاقت نفسي إلى طلب الحديث ورواية الأخبار وسماعها فقصدت محمد بن إسماعيل البخاري ببخارى صاحب التاريخ والمنظور إليه في علم الحديث وأعلمته مرادي وسألته الإقبال على ذلك فقال لي يا بني لا تدخل في أمر إلا بعد معرفة حدوده والوقوف على مقاديره فقلت عرفني - رحمك الله تعالى ! - حدود ما قصدتك له ومقادير ما سألتك عنه فقال لي اعلم أن الرجل لا يصير محدثا كاملا في حديثه إلا بعد أن يكتب أربعا مع أربع كأربع مثل أربع في أربع عند أربع بأربع على أربع عن أربع لأربع وكل هذه الرباعيات لا تتم إلا بأربع مع أربع فإذا تمت له كلها

هان عليه أربع وابتلي بأربع فإذا صبر على ذلك أكرمه الله تعالى في الدنيا بأربع وأثابه في الآخرة بأربع قلت له فسر لي - رحمك الله تعالى - ما ذكرت من أحوال هذه الرباعيات من قلب صاف بشرح كاف وبيان شاف طلبا للأجر الواف فقال نعم أما الأربع التي تحتاج إلى كتبها فهي أخبار الرسول وشرائعه والصحابة رضي الله تعالى عنهم ومقاديرهم والتابعين وأحوالهم وسائر العلماء وتواريخهم مع أسماء رجالهم وكناهم وأمكنتهم وأزمانهم كالتحميد مع الخطب والدعاء مع التوسل والبسملة مع السورة والتكبير مع الصلوات مثل المسندات والمرسلات والموقوفات والمقطوعات في صغره وفي إدراكه وفي شبابه وفي كهولته عند فراغه وعند شغله وعند فقره وعند غناه بالجبال والبحار والبلدان والبراري على الأحجار والأخزاف والجلود والأكتاف إلى الوقت الذي يمكنه نقلها إلى الأوراق عمن هو فوقه وعمن هو مثله وعمن هو دونه وعن كتاب أبيه يتيقن أنه بخط أبيه دون غيره لوجه الله تعالى طلبا لمرضاته والعمل بما وافق كتاب الله عز و جل منها ونشرها بين طالبيها ومحبيها والتأليف في إحياء ذكره بعده ثم لا تتم له هذه الأشياء إلا بأربع هي من كسب العبد أعني معرفة الكتابة واللغة والصرف والنحو مع أربع هي من إعطاء الله تعالى أعني القدرة والصحة والحرص والحفظ فإذا صحت له هذه الأشياء كلها هان عليه أربع الأهل والولد والمال والوطن وابتلي بأربع بشماتة الأعداء وملامة الأصدقاء وطعن الجهلاء وحسد العلماء فإذا صبر على هذه المحن أكرمه الله جل وعلا في الدنيا بأربع بعز القناعة وبهيبة النفس وبلذة العلم وبحياة الأبد وأثابه في الآخرة بأربع بالشفاعة لمن أراد من إخوانه وبظل العرش حيث لا ظل إلا ظله وبسقي من أراد من حوض نبيه وبجوار النبيين في أعلى عليين في الجنة فقد أعلمتك يا بني بمجملات جميع ما سمعت من مشايخي متفرقا في هذا الباب فأقبل الآن إلى ما قصدتني له أو دع فهالني

قوله فسكت متفكرا وأطرقت متأدبا فلما رأى ذاك مني قال وإن لم تطق حمل هذه المشاق كلها فعليك بالفقه يمكنك تعلمه وأنت في بيتك قار ساكن لا تحتاج إلى بعد الأسفار ووطء الديار وركوب البحار وهو ذا ثمرة الحديث وليس ثواب الفقيه دون ثواب المحدث في الآخرة ولا عزه بأقل من عز المحدث فلما سمعت ذلك نقض عزمي في طلب الحديث وأقبلت على دراسة الفقه وتعلمه إلى أن صرت فيه متقدما ووقفت منه على معرفة ما أمكنني من علمه بتوفيق الله تعالى ومنته فلذلك لم يكن عندي ما أمليه لهذا الصبي يا أبا إبراهيم فقال له أبو إبراهيم إن هذا الحديث الواحد الذي لا يوجد عند غيرك خير للصبي من ألف حديث يجده عند غيرك انتهى
وجاء أبو حيان إلى ابن تيمية والمجلس غاص فقال يمدحه ارتجالا
( لما أتينا تقي الدين لاح لنا ... داع إلى الله فرد ما له وزر )
( على محياه من سيما الألى صحبوا ... خير البرية نور دونه القمر )
( حبر تسربل منه دهره حبرا ... بحر تقاذف من أمواجه الدرر )
( قام ابن تيمية في نصر شرعتنا ... مقام سيد تيم إذ عصت مضر )
( فأظهر الحق إذ آثاره درست ... وأخمد الشر إذ طارت له الشرر )
( كنا نحدث عن حبر يجيء فها ... أنت الإمام الذي قد كان ينتظر )
ثم انحرف أبو حيان فيما بعد عن ابن تيمية ومات وهو على انحرافه ولذلك أسباب منها أنه قال له يوما كذا قال سيبويه فقال يكذب سيبويه فانحرف عنه رحم الله تعالى الجميع وحضر الشيخ أبو حيان مع ابن بنت الأعز في الروضة فكتب إلى أبي حيان ووجهه مع بعض غلمانه
( حييت أثير الدين شيخ الأدبا ... أقضي له حقا كما قد وجبا )
( حييت فتى بطاق آس نضر ... كالقد بدا ملئت منه طربا )

قال فأنشدته
( أهدى لنا غصنا من ناضر الآس ... أقضى القضاة حليف الجود والباس )
( لما رأى سقمي أهداه مع رشإ ... حلو التثني فكان الشافي الآسي )
ولما أنشد الشيخ أبو حيان قول نور الدين القصري في روضة مصر
( ذات وجهين فيهما قسم الحسن ... فأضحت بها القلوب تهيم )
( ذا يلي مصر فهو مصر وهذا ... يتولى وسيم فهو وسيم )
( قد أعادت عصر التصابي صباها ... وأبادت فيها الغموم الغيوم )
زاد فيها بيتا وهو
( فبلج البحار يسبح نون ... وبفج القفار يسفح ريم )
قال أبو حيان وكنت ماشيا بين القصرين مع ابن النحاس فعبر علينا صبي يدعى بجمال وكان مصارعا فقال البهاء لينظم كل منا فيه ثم قال
( مصارع تصرع الآساد شمرته ... تيها فكل مليح دونه سمج )
( لما غدا راجحا في الحسن قلت لهم ... عن حسنه حدثوا عنه ولا حرج )
فنظمت أنا
( سباني جمال من مليح مصارع ... عليه دليل للملاحة واضح )
( لئن عز منه المثل فالكل دونه ... وإن خف منه الخصر فالردف راجح )
وسمع العزازي نظمنا فقال وأنشدنيه
( هل حكم ينصفني في هوى ... مصارع يصرع أسد الشرى )
مذ فر عني الصبر في حبه ... حكى عليه مدمعي ما جرى )

( أباح قتلي في الهوى عامدا ... وقال كم لي عاشق في الورى )
( رميته في أسرحبي ومن ... أجفان عينيه أخذت الكرى ) وقال لسان الدين في الإحاطة كان أثير الدين أبو حيان نسيج وحده في ثقوب الذهن وصحة الإدراك والاضطلاع بعلم العربية والتفسير وطريق الرواية إمام النحاة في زمانه غير مدافع نشأ في بلده غرناطة مشارا إليه في التبريز بميدان الإدراك وتغيير السوابق في مضمار التحصيل ونالته نبوة لحق بسببها بالمشرق واستقر بمصر فنال بها ما شاء من عز وشهرة وتأثل وافر وحظوة وأضحى لمن حل بساحته من المغاربة ملجأ وعدة وكان شديد البسط مهيبا جهوريا مع الدعابة والغزل وطرح التسمت شاعرا مكثرا مليح الحديث لا يمل وإن أطال وأسن جدا فانتفع به قال لي بعض أصحابنا دخلت عليه وهو يتوضأ وقد استقر على إحدى رجليه لغسل الأخرى كما تفعل البرك والأوز فقال لي لو كنت اليوم جار شلير ما تركني لهذا العمل في هذا السن ثم قال لي بعد كلام حدثنا عنه الجملة الكثيرة من أصحابنا كالحاج أبي يزيد خالد بن عيسى والمقري الخطيب أبي جعفر الشقوري والشريف أبي عبد الله بن راجح وشيخنا الخطيب أبي عبد الله بن مرزوق قال حدثنا شيخنا أبو حيان في الجملة سنة 735 بالمدرسة الصالحية بين القصرين بمنزله حدثنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير سماعا من لفظه وكتبه من خطه بغرناطة عن الكاتب أبي إسحاق بن عامر الهمداني الطوسي - بفتح الطاء - حدثنا أبو عبد الله بن محمد العنسي القرطبي وهو آخر من حدث عنه أنبأنا أبو علي الحسن بن محمد الحافظ الجياني أنبأنا حكم بن محمد أنبأنا أبو بكر بن المهندس أنبأنا عبد الله بن محمد أنبأنا طالوت بن عباد بن نصال بن جعفر سمعت أبا أمامة الباهلي يقول سمعت رسول الله يقول " اكفلوا لي بست أكفل لكم بالجنة إذا حدث أحدكم فلا يكذب وإذا ائتمن فلا يخن وإذا وعد فلا يخلف

غضوا أبصاركم وكفوا أيديكم واحفظوا فروجكم " ثم قال ابن الخطيب إن أبا حيان حملته حدة الشبيبة على التعرض للأستاذ أبي جعفر الطباع وقد وقعت بينه وبين أستاذة ابن الزبير الوحشة فنال منه وتصدى للتأليف في الرد عليه وتكذيب روايته فرفع أمره للسلطان فامتعض له ونفذ الأمر بتنكيله فاختفى ثم أجاز البحر مختفيا ولحق بالمشرق يلتفت خلفه ثم قال وشعره كثير يتصف بالإجادة وضدها فمن مطولاته قوله لا تعذلاه فما ذو الحب معذول العقل مختبل والقلب متبول
( هزت له أسمرا من خوط قامتها ... فما انثنى الصب إلا وهو مقتول )
( جميلة فصل الحسن البديع لها فكم لها ... جمل منه وتفصيل )
( فالنحر مرمرة والنشر عنبرة ... والثغر جوهرة والريق معسول ) والطرف ذو غنج والعرف ذو أرج ... والخصر مختطف والمتن مجدول )
( هيفاء ينطق في الخصر الوشاح لها ... درماء تخرس في الساق الخلاخيل )
( من اللواتي غذاهن النعيم فما ... يشقين آباؤها الصيد البهاليل ) إلى أن قال وقوله
( نور بخدك أم توقد نار ... وضنى بجفنك أم فتور عقار )
( وشذا بريقك أم تأرج مسكة ... وسنا بثغرك أم شعاع دراري )
( جمعت معاني الحسن فيك فقد غدت ... قيد القلوب وفتنة الأبصار )
( متصاون خفرا إذا ناطقته ... أغضى حياء في سكون وقار )
( في وجهه زهرات روض تجتلى ... من نرجس مع وردة وبهار )
( خاف اقتطاف الورد من وجناتها ... فأدار من آس سياج عذار )
( وتسللت نمل العذار بخده ... ليردن شهدة ريقه المعطار )
( وبخده نار حمته وردها ... فوقفن بين الورد والإصدار )

( كم ذا أداري في هواه محبتي ... ولقد وشى بي فيه فرط أواري ) وقال ابن الرشيد حدثنا أبو حيان قال حدثنا التاجر أبو عبد الله البرجوني بمدينة عيذاب من بلاد السودان وبرجونه قرية من قرى دار السلام قال كنت بجامع لو لم من بلاد الهند ومعنا رجل مغربي اسمه يونس فقال لي اذكر لنا شيئا فقلت له قال علي رضي الله تعالى عنه إذا وضع الإحسان في الكريم أثمر خيرا وإذا وضع في اللئيم أثمر شرا كالغيث يقع في الأصداف فيثمر الدر ويقع في فم الأفاعي فيثمر السم فما راعنا إلا ويونس المغربي قد أنشد لنفسه
( صنائع المعروف إن أودعت ... عند كريم زكت النعما )
( وإن تكن عند لئيم غدت ... مكفورة موجبة إثما )
( كالغيث في الأصداف در وفي ... فم الأفاعي يثمر السما )
قال أبو حيان فلما سمعت هذه الأبيات نظمت معناها في بيتين وهما
( إذا وضع الإحسان في الخب لم يفد ... سوى كفره والحر يجزي به شكرا )
( كغيث سقى أفعى فجاءت بسمها ... وصاحب أصدافا فأثمرت الدرا )
قال أبو حيان وأنشدنا الأمير بدر الدين أبو المحاسن يوسف بن سيف الدولة أبي المعالي بن رماح الهمداني لنفسه بالقاهرة
( فلا تعجب لحسن المدح مني ... صفاتك أظهرت حكم البوادي )
( وقد تبدي لك المرآة شخصا ... ويسمعك الصدى ما قد تنادي )
وبعد كتبي ما نقله ابن رشيد عن أبي حيان رأيت لبعضهم أن أبا حيان هذا الذي ذكره ابن رشيد ليس هو أبو حيان النحوي الأندلسي وإنما هو شخص

آخر وفيه عندي نظر لا يخفى والذي أعتقده ولا أرتاب فيه أنه أبو حيان النحوي
وقال ابن رشيد وأنشدني أبو حيان لنفسه
( إذا غاب عن عيني أقول سلوته ... وإن لاح حال اللون فاضطرب القلب )
( يهيجني عيناه والمبسم الذي ... به المسك منظوم به اللؤلؤ الرطب )
وقال الشريف بن راجح رأيت أن ما وضعه الشيخ أبو حيان في تقدم لسان الأتراك تضييع لعمره وقلت
( نفائس الأعمار أنفقتها ... أنا وأمثالي على غير شيء " )
( شيوخ سوء ليس يرضى بما ... ترضى به من المخازي صبي )
ومن نظم أبي حيان قوله
( إن علما تعبت فيه زماني ... باذلا فيه طارفي وتلادي )
( لجدير بأن يكون عزيزا ... ومصونا إلا على الأجواد ) وقوله
( وما لك والإتعاب نفسا شريفة ... وتكليفها في الدهر ما ليس يعذب )
( أرحها فعن قرب تلاقي حمامها ... فتنعم في دار البقا أو تعذب )
واستشكل هذان البيتان بأن ظاهرهما خلاف الشرع وأجيب بأن مراده أمر الرزق لا أمر التكليف وأفاد غير واحد أن سبب رحلة الشيخ أبي حيان عن الأندلس أنه نشأ شر بينه وبين شيخه أحمد بن علي بن الطباع فألف أبو حيان كتابا سماه الإلماع في إفساد إجازة ابن الطباع فرفع ابن الطباع أمره للأمير محمد بن نصر المدعو بالفقيه وكان أبو حيان كثير الاعتراض عليه أيام قراءته عليه فنشأ شر عن

ذلك وذكر أبو حيان أنه لم يقم بفاس إلا ثلاثة أيام وأدرك فيها أبا القاسم المزياتي وخرج أبو حيان من الأندلس سنة تسع وسبعين وستمائة
وكان جماعة من أعلام الأندلس رحلوا منها فلما وصلوا إلى العدوة أقاموا بها ولم يذهبوا إلى بلاد المشرقية 217 - منهم الشيخ النحوي الناظم الناثر أبو الحسن حازم بن محمد القرطاجني وهو القائل يمدح أمير المؤمنين المستنصر بالله صاحب تونس
( أمن بارق أورى بجنح الدجى سقطا ... تذكرت من حل الأجارع فالسقطا )
( وبان ولكن لم يبن عنك ذكره ... وشط ولكن طيفه عنك ما شطا )
( حبيب لو أن البدر جاراه في مدى ... من الحسن لاستدنى مدى البدر واستبطا )
( إذا انتجعت مرعى خصيبا ركابه ... غدا لحظ عيني يشتكي الجدب والقحطا )
( لقد أسرعت عني المطي بشادن ... تسرع في قتل النفوس وما أبطا )
( ظننت الفلا دار ابن ذي يزن بها ... وخلت المحاريب الهوادج والغبطا )
( فكم دمية للحسن فيها وصورة ... تروق وتمثال من الحسن قد خطا )
( حمائل لاحت كالخمائل بهجة ... سقيط الحيا فيهن لا يسأم السقطا )
( توسد غزلان الأوانس والمها ... به الوشي والديباج لا السدر والأرطى )
( ولم يسب قلبي غير أبهرها سنا ... وأطولها جيدا وأخفقها قرطا )
( أيا ربة الأحداج سيري فتعلمي ... وما بك جهل أن سهمك ما أخطا )

( قفي تستبيني ما بعينيك من ضنى ... كجسمي وعنوان الهوى فيه مختطا )
( فلم أر أعدى منك لحظا وناظرا ... لقلبي ولا أعدى عليه ولا أسطى )
( سقى الله عيشا قد سقانا من الهوى ... كؤوسا بمعسول اللمى خلطت خلطا )
( وكم جنة قد ردت في ظل كافر ... فلم أجز ما أولاه كفرا ولا غمطا )
( وكم ليلة قاسيتها نابغية ... إلى أن بدت شيبا ذوائبها شمطا )
( وبت أظن الشهب مثلي لها هوى ... وأغبطها في طول ألفتها غبطا )
( على أنها مثلي عزيزة مطلب ... ومن ذا الذي ما شاء من دهره يعطى )
( كأن الثريا كاعب أزمعت نوى ... وأمت بأقصى الغرب منزلة شحطا )
( كأن نجوم الهقعة الزهر هودج ... لها عن ذرا الحرف المناخة قد حطا )
( كان رشاء الدلو رشوة خاطب )
( لها جعل الأشراط في مهرها شرطا )
( كأن السها قد دق من فرط شوقه ... إليها كما قد دقق الكاتب النقطا )
( كأن سهيلا إذ تناءت وأنجدت ... غدا يائسا منها فأتهم وانحطا )
( كأن خفوق القلب قلب متيم ... تعدى عليه الدهر في البين واشتطا )
( كأن كلا النسرين قد ريع إذ رأى ... هلال الدجى يهوى له مخلبا سلطا )
( كأن الذي ضم القوادم منهما ... هوى واقعا للأرض أو قص أو قطا )
( كأن أخاه رام فوتا أمامه ... فلم يعد أن مد الجناح وأن مطا )
( كأن بياض الصبح معصم غادة ... جنت يدها أزهار زهر الدجى لقطا )
( كأن ضياء الشمس وجه إمامنا ... إذا ازداد بشرا في الوغى وإذا أعطى )
( محمد الهادي الذي أنطق الورى ... ثناء بما أسدى إليهم وما أنطى )
( إمام غدا شمس المعالي وبدرها ... وقد أصبحت زهر النجوم له رهطا )
( جميل المحيا مجمل طيب ذكره ... يعاطى سرورا كالحميا ويستعطى )
( إذا ما الزمان الجعد أبدى تجهما ... أرانا الحياء الطلق والخلق السبطا )

( كلا أبوي حفص نماه إلى العلا ... فأصبح عن مرقاته النجم منحطا )
( بسيماه تدري أن كعبا جدوده ... وإن هو لم يذكر رزاحا ولا قرطا )
( إذا قبض الروع الوجوه فوجهه ... يزيد لكون النصر نصلا له بسطا )
( به تترك الأبطال صرعى لدى الوغى ... كأن قد سقوا من خمر بابل إسفنطا )
( تراه إذا يعطي الرغائب باسما ... له جذل يربي على جذل المعطى )
( وكم عنق قد قلدت بنواله ... فريدا وقد كانت قلادتها لطا )
( متى ما تقس جود الكرام بجوده ... فبالبحر قايست الوقيعة والوقطا )
( يشف له عن كل غيب حجابه ... فتحسبه دون المحجب ما لطا )
( تطيع الليالي أمره في عصاته ... وتردي أعاديه أساودها نشطا )
( وتمضي عليهم سيفه وسنانه ... فتبري الكلى طعنا وتفري الطلى قطا )
( فكيف ترجت غرة منه فرقة ... غدا عزها ذلا ورفعتها هبطا )
وكم بالنهى والحلم غطى عليهم إلى أن جنوا ذنبا على العلم قد غطى )
( فأمطاهم دهم الحديد وطالما ... أنالهم دهم الجياد وما أمطى )
( ورام لهم هديا ولكنهم أبوا ... بغيهم إلا الضلالة والخبطا )
( وكان لهم يبغي المثوبة والرضى ... ولكن أبوا إلا العقوبة والسخطا )
( ولو قوبلت بالشكر منه مآرب ... لما اعتاض منها أهلها الأثل والخمطا )
( هو الناصر المنصور والملك الذي ... أعاد شباب الدهر من بعد ما أشمطا )
( أصاخت له الأيام سمعا وطاعة ... وأحكمت الدنيا له عهدها ربطا )
( فلا بد من أن يملك الأرض كلها ... وأن تملأ الدنيا أيالته قسطا )

( ويغزو في آفاق أندلس العدا ... بجيش تخط الأرض ذبله خطا )
( وكل جواد خف سنبكه فما ... يمس الثرى إلا مخالسة فرطا )
( يؤم بها الأعداء ملك أمامه ... من الرعب جيش يسرع السير إن أبطا )
( ويرمى جبال الفتح من شط سبتة ... بها فتوافي سبقا ذلك الشطا )
( بحيث التقى بالخضر موسى وطارق ... وموسى به رحلا لغزو العدا حطا )
( وسعيك ينسي ذكر سعيهما به ... ويوسع سعي المشركين به حبطا )
( ويوقع في الأعداء أعظم وقعة ... بها تملأ الأسماع طير الملا لغطا )
( تجاوب سحم الطير فيه وشهبها ... كما راطن الزنج النبيط أو القبطا )
( وتنكر فيها الجو والأرض ... أعين ترى الجو نارا والصعيد دما عبطا )
( فتخضب منهم من أشابت بخوفها ... نصول ترى منها بفود الدجى وخطا )
( ويحسم أدواء العدا كل صارم ... حسام إذا لاقى الطلى حده قطا )
( وكل كمي كلما خط صفحة ... بسيف غدا بالرمح ينقط ما خطا )
( شجاع إذا التف الرماحان مثل ما ... تقلقل في أسنان مشط يد مشطا ) ( إذا ما رجت منه أعاديه غرة ... رأت دون ما ترجو القتادة والخرطا )
( فيجدع آناف العداة بسيفه ... وينشقها بالرمح ريح الردى سعطا )
( يبيد الأعادي سطوة ومكيدة فيحكي الأسود الغلب والأذؤب المعطا )
( سرى في طلاب المعلوات فلم يزل ... يمد يدا مبسوطة وندى بسطا )
( ولو نازعت يمناه جذبا شماله ... لبوسا من الماذي لانعق وانعطا )
( يصول بخطي لكل مرشة ... به أثر يعزوه للحية الرقطا )
( قنا تبصر الآكام فرعا كواسيا ... بهن وقد أبصرن عارية مرطا )

( إذا نسبت للخط أو لردينة ... نسبن إلى العليا ردية والخطا )
( كماة حماة ما يزال إلى الوغى ... حنين لهم ما حن نضو وما أطا )
( عليهم نسيج السابغات كأنها ... جلود عن الحيات قد كشطت كشطا )
( إذا لمع للشمس لاحت عليهم ... رأيت صلالا ألبست حللا رقطا )
( ترجرج كالزاروق لينا ومثله ... ترى نقطة من بعد ما طرحت خطا )
( جيوش إذا غطى البلاد عبابها ... وأمواجها غطت نفوس العدا غطا )
( فكم قد حكت في حصر حصن ومعقل ... وشاحا على خصر فآسفنه ضغطا )
( وخيل كأمثال النعام تخالها ... لإفراط لوك اللجم تبغي لها سرطا )
( تخيلها فتخا إذا ارتفعت وإن ... سبحن بماء خلتها خفة بطا )
( فينعق منها مرط كل عجاجة ... موازع لا يسأمن مرا ولا مرطا )
( وكم خالطت سمر الرماح وأوردت ... مياها غدت حمر الدماء لها خلطا )
( يجمونها ليل السرى فإذا دعوا ... نزال امتطوا منهن أشرف ما يمطى )
( فكم جنبوها خلف معتادة السرى ... عوارف لم تسمع لها أذن نحطا )
( وقد وسمت أعناقهن أزمة ... بطول السرى حتى تظن لها علطا )
( إذا أوقدت نارا بقذف الحصا حكت ... وبحر الدجى طام سفينا رمت نفطا )
( إمام الهدى أعليت للدين معلما ... وسمت العدا من بعد رفعتهم حطا ) وألحقتهم عقم المنى عن حيالها ... فما ولدت عقما ولا نتجت سقطا )
( وصيرهم في عقلة سارح العدا ... وسرحتم الآمال من عقلها نشطا )
( ومن كان يشكو سطوة الدهر قد غدا ... بعدلك لا يعدى عليه ولا يسطى )

( ففي كل حال تؤثر القسط جاريا ... على سنن التقوى وتجتنب القسطا )
( فبوركت سبطا جده عمر الرضى )
( وبورك من جد غدوت له سبطا )
( تلوت الإمام العدل يحيى فلم تزل ... تزيد أمور الخلق من بعده ضبطا )
( فزدتم وضوحا بعده واستقامة ... وتوطئة نهج السبيل الذي وطا )
( وما كان أبقى غاية غير أنه ... حبيت بما لم يحب خلق ولم يعطا )
( إذا درر الأملاك في الفخر نظمت ... على نسق عقدا فدولتك الوسطى )
وله أيضا فيه
( في كل أفق من صباح دجاكم ... نور جلا خيط الظلام بخيطه )
( راقت محاسن مجدكم فبهرن ما ... كسيته من حبر المديح وريطه ) وله - رحمه الله تعالى ! - عدة تآليف وولد سنة 608 وتوفي ليلة السبت 24 رمضان سنة أربع وثمانين وستمائة بتونس وممن أخذ عنه الحافظ ابن رشيد الفهري وذكره في رحلته وأثنى عليه كما أثنى عليه العبدري في رحلته فقال : حازم وما أدراك ما حازم وقد عرفت به في أزهار الرياض مما يغني عن الإعادة وكان هو والحافظ أبو عبد الله بن الأبار فرسي رهان غير أن ابن الأبار كان أكثر منه رواية
218 - وهو الإمام الحافظ الكاتب الناظم الناثر المؤلف الراوية أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي بكر بن عبد الله بن أبي بكر القضاعي الأندلسي البلنسي كتب ببلنسية عن السيد أبي عبد الله بن السيد أبي حفص ابن أمير

المؤمنين عبد المؤمن بن علي ثم عن ابنه السيد أبي زيد ثم كتب أمير ابن مردنيش ولما نازل الطاغية بلنسية بعثه الأمير زيان بن مردنيش مع وفد أهل بلنسية بالبيعة للسلطان أبي زكريا يحيى ابن عبد الواحد بن أبي حفص وفي ضمن ذلك استصرخه لدفع عادية العدو فأنشد السلطان قصيدته السينية التي مطلعها :
( أدرك بخيلك خيل الله أندلسا ... إن السبيل إلى منجاتها درسا ) وقد ذكرناها في غير هذا الموضع ثم لما كان من أمر بلنسية ما كان رجع بأهله إلى تونس غبطة بإقبال السلطان عليه فنزل منه بخير مكان ورشحه لكتب علامته في صدور مكاتباته فكتبها مدة ثم أراد السلطان صرفها لأبي العباس الغساني لكونه يحسن كتابتها فكتبها مدة بالخط المشرقي وكان آثر عند السلطان من المغربي فسخط ابن الأبار أنفة من إيثار غيره عليه وافتأت على السلطان في وضعها في كتاب أمر بإنشائه لقصور الترسيل يومئذ في الحضرة عليه وأن يبقى موضع العلامة منه لكاتبها فجاهر بالرد ووضعها استبدادا وأنفة وعوتب على ذلك فاستشاط غضبا ورمى بالقلم وأنشد متمثلا :
( اطلب العز في لظى وذر الذل ... ولو كان في جنان الخلود ) فنمي ذلك إلى السلطان فأمر بلزومه بيته ثم استعتب السلطان بتأليف رفعه إليه عد فيه من عوتب من الكتاب وأعتبه وسماه إعتاب الكتاب واستشفع فيه بابنه المستنصر فغفر السلطان له وأقال عثرتهوأعاده إلى الكتابة ولما توفي السلطان رفعه أمير المؤمنين المستنصر إلى حضور مجلسه ثم حصلت له أمور معه كان آخرها أنه تقبض عليه وبعث إلى داره فرفعت إليه كتبه أجمع وألفى أثناءها فيما زعموا رقعة بأبيات أولها :

( طغى بتونس خلف ... سموه ظلما خليفه ) فاستشاط السلطان لها وأمر بامتحانه ثم بقتله فقتل قعصا بالرماح وسط محرم سنة 658 ثم أحرق شلوه وسيقت مجلدات كتبه وأوراق سماعه ودواوينه فأحرقت معه وكان مولده ببلنسية سنة 595 . وقال في حقه ابن سعيد في المغرب ما ملخصه : حامل راية الإحسان المشار إليه في هذا الأوان ومن شعره قوله يصف الياسمين :
( حديقة ياسمين لا ... تهيم بغيرها الحدق )
( إذا جفن الغمام بكى ... تبسم ثغرها اليقق )
( فأطراف الأهلة سال ... في أثنائها الشفق ) وكتب إلى الوزير أبي عبد الله بن أبي الحسين بن سعيد يستدعي منه منثورا :
( لك الخير أتحفني بخيري روضة ... لأنفاسه عند الهجوم هبوب )
( أليس أديب الروض يجعل ليله ... نهارا فيذكو تحته ويطيب )
( ويطوي مع الإصباح منشور نشره ... كما بان عن ربع المحب حبيب )
( أهيم به عن نسبة أدبية ... ولا غرو أن يهوى الأديب أديب ) وقوله في الخسوف :
( نظرت إلى البدر عند الخسوف ... وقد شين منظره الأزين )
( كما سفرت صفحة للحبيب ... يحجبها برقع أدكن )

وقوله في المعنى :
( ألم تر للخسوف وكيف أبدى ... ببدر التم لماع الضياء )
( كمرآة جلاها القين حتى ... أنارت ثم ردت غشاء ) وقوله :
( والثريا بجانب البدر تحكي ... راحة أومأت لتلطم خدا ) وقوله :
( من عاذري من بابلي طرفه ... ولعمره ما حل يوما بابلا )
( أعتده خوطا لعيشي ناعما ... فيعود خطيا لقتلي ذابلا ) وهو حافظ متقن له في الحديث والأدب تصانيف وله كتاب في متخير الأشعار سماه قطع الرياض وتكملة الصلة لابن بشكوال وهداية المعترف في المؤتلف والمختلف وكتاب التاريخ وبسببه قتله صاحب إفريقية وأحرقت كتبه على ما بلغنا رحمه الله تعالى وله تحفة القادم في شعر الأندلس والحلة السيراء في أشعار الأمراء . ومن شعره قوله :
( أمري عجيب في الأمور ... بين التواري والظهور )
( مستعمل عند المغيب ... ومهمل عند الحضور ) وسبب هذا أن ملك تونس كان إذا أشكل عليه شيء أو ورد عليه لغز أو

معمى أو مترجم بعث به إليه فيحله وإذا حضر عنده لا يكلمه ولا يلتفت إليه ووجد في تعاليقه ما يشين دولة صاحب تونس فأمر بضربهفضرب حتى مات وأحرقت كتبهC تعالى وكان أعداؤه يلقبونه بالفار وحصلت بينه وبين أبي الحسن علي بن شلبون المعافري البلنسي مهاجاة فقال فيه :
( لا تعجبوا لمضرة نالت جميع ... الناس صادرة عن الأبار )
( أو ليس فارا خلقة وخليقة ... والفار مجبول على الإضرار ) فأجابه ابن الأبار :
( قل لابن شلبون مقال تنزه ... غيري يجاريك الهجاء فجار )
( إنا اقتسمنا خطتينا بيننا ... فحملت برة واحتملت فجار ) وهذا مضمن من شعر النابغة الذبياني انتهى ما لخصناه من كلام ابن سعيد في حقه . ومن شعر ابن الأبار أيضا :
( لو عن لي عون من المقدار ... لهجرت للدار الكريمة داري )
وحللت أطيب طيبة من طيبة ... جارا لمن أوصى بحفظ الجار )
حيث استبان الحق للأبصار ... لما استتار حفائظ الأنصار )
( يا زائرين القبر قبر محمد ... بشرى لكم بالسبق في الزوار )
( أوضعتم لنجاتكم فوضعتم ... ما آدكم من فادح الأوزار )
( فوزوا بسبقكم وفوهوا بالذي ... حملتم شوقا إلى المختار )

( أدوا السلام سلمتم وبرده ... أرجو الإجارة من ورود النار ) اللهم أجرنا منها يا رحيم يا رحمن يا كريم ! . ولنختم ترجمته بقوله :
( رجوت الله في اللأواء لما ... بلوت الناس من ساه ولاهي )
( فمن يك سائلا عني فإني ... غنيت بالافتقار إلى إلهي ) وقد جودت ترجمته في أزهار الرياض في أخبار عياض فليراجع ذلك فيه من شاء . رجع إلى ما كنا فيه من ذكر المرتحلين من الأندلس إلى المشرق : 219
- ومنهم الحافظ أبو المكارم جمال الدين بن مسدي وهو أبو بكر محمد ويقال أبو المكارم ابن أبي أحمد يوسف بن موسى بن يوسف بن موسى بن مسدي المهلبي الأزدي الأندلسي
شيخ السنة وحامل راياتها وفريد الفنون ومحكم آياتها عرف الأحاديث وميز بين شهرتها وغرابتها وكان المتلقي لراية السنة بيمين عرابتها طلع بمغربه شمسا قبل بزوغه بأفق المشرق وملأ جزيرته الخضراء من بحر علومه المتدفق وأفعمها بنوره المشرق وطاف البلاد الإسلامية المغربية والمشرقية فعقدت على كماله الخناصر وجعله أرباب الدراية لمقلة الدين الباصر ولقي أعيان الشيوخ في القطرين وأخذ عنهم ما تقر به العين ويدفع به عن القلب الرين مع فصاحة لسان وطلاقة بيان وبنان وخلال حسان وبلاغة سحبته على سحبان وظهر أزهار بان وفوضت إليه خطابة الحرم الشريف بمكة فكان كما يقال هذا السوار لمثل هذا المعصم

فكم وشى بها من مطارف للبلاغة وكم عنم حتى يظن الرائي عود منبره من وعظه مائسا ولئن مال من سجع الحمام رطبا فقد مال من سجع هذا الإمام يابسا وترجم على من لقي من الأعيان بسحر البيان وفصل أحوالهم بأحسن تبيان وعدتهم أربعة آلاف شيخ وناهيك بهذه مزية تقاد لها الفضائل في أرسان وأرى تحقيق قول القائل جمع الله تعالى العالم في إنسان وله موضوعات مفيدة من حديث وفقه ونظم ونثر وله مسند غريب جمع فيه مذاهب العلماء المتقدمين والمتأخرين وهو أشهر من نار على علم وكان يكتب بالقلمين المغربي والمشرقي وكلاهما في غاية الجودة ومثل هذا يعد نادرا توفي شهيدا مطعوما من أناس كانوا يحسدونه فختم الله تعالى له بالشهادة وبوىء بها دار السعادة وتوفي سنة 663 بمكة ومولده سنة 598 رحمه الله تعالى ورضي عنه ونفعنا بأمثاله
220 - ومنهم الكاتب أبو القاسم خلف بن عبد العزيز بن محمد بن خلف الغافقي القبتوري - بفتح القاف وسكون الباء الموحدة وفتح التاء ثالثة الحروف وسكون الواو وبعدها راء - الإشبيلي المولد والمنشأ ولد في شوال سنة 615 وقرأ على الأستاذ الدباج كتاب سيبويه والسبع وله باع مديد في الترسل مع التقوى والخير وله إجازة من الرضى بن برهان والنجيب بن الصيقل وكتب لأمير سبتة وحدث بتونس عن العرافي وجاور زمانا وتوفي بالمدينة سنة 704 وحج مرتين قال أبو حيان قدم القاهرة مرتين وحج في الأولى وأنشدني من لفظه لنفسه
( أسيلي الدمع يا عيني ولكن ... دما ويقل ذلك لي أسلي )

( فكم في الترب من طرف كحيل ... لترب لي ومن خد أسيل ) وقال
( ماذا جنيت على نفسي بما كتبت ... كفي فيا ويح نفسي من أذى كفي )
( ولو يشاء الذي أجرى علي بذا ... قضاءه الكف عنه كنت ذا كف )
وقال
( واحسرتا لأمور ليس يبلغها ... مالي وهن منى نفسي وآمالي )
( أصبحت كالآل لا جدوى لدي وما ... ألوت جهدا ولكن جدي الآلي ) وقال العلامة فتح الدين بن سيد الناس إنه أنشده لنفسه بالحرم الشريف النبوي سنة ثلاث وسبعمائة
( رجوتك يا رحمن إنك خير من رجاه لغفران الجرائم مرتجي )
( فرحمتك العظمى التي ليس بابها ... وحاشاك في وجه المسيء بمرتجي وقد أنشد له أبو حيان كثيرا من نظمه رحمه الله تعالى 221 - ومنهم أبو العباس أحمد بن محمد بن مفرج بن أبي الخليل الأموي الإشبيلي النباتي المعروف بابن الرومية كان عارفا بالعشب والنبات صنف كتابا حسنا كثير الفائدة في الحشائش ورتب فيه أسماءها على حروف المعجم ورحل إلى البلاد ودخل حلب وسمع الحديث بالأندلس وغيرها
وقال البرزالي في حقه إنه كان يعرف الحشائش معرفة جيدة وسمع

الحديث بدمشق من ابن الحرستاني وابن ملاعب وابن العطار وغيرهم وقال بعضهم اجتمعت به وتفاوضت معه في ذكر الحشائش فقلت له قصب الذريرة قد ذكر في كتب الطب وذكروا أنه يستعمل منه شيء كثير وهذا يدل على أنه كان موجودا كثيرا وأما الآن فلا يوجد ولا يخبر عنه بخبر فقال هو موجود وإنما لا يعلمون أين يطلبونه فقلت له وأين هو فقال بالأهواز منه شيء كثير انتهى
وأجاز البحر بعد سنة 580 للقاء ابن عبيد الله بسبتة فلم يتهيأ له ذلك وحج - رحمه الله تعالى ! - في رحلته الأولى ولقي كثيرا وروى عن عدد من رجال ونساء ضمنهم التذكرة له وله مختصر كتاب الكامل لأحمد بن عدي في رجال الحديث وله كتاب المعلم بما زاده البخاري على كتاب مسلم ويعرف بالنباتي لمعرفته بالنبات ومولده في نحو سنة 561 وتوفي رحمه الله تعالى بإشبيلية منسلخ ربيع النبوي سنة 637 وقد رثاه أناس من تلامذته وألف بعضهم في التعريف به وسمع من ابن زرقون وابن الجد وابن عفير وغير واحد كأبي ذر الحبشي وسمع ببغداد من جماعة وحدث بمصر الأحاديث من حفظه ويقال له الحزمي بفتح الحاء - نسبة إلى مذهب ابن حزم لأنه كان ظاهري المذهب وكان زاهدا صالحا وحكى بعضهم عنه أنه كان جالسا في دكانه بإشبيلية يبيع الحشائش وينسخ فاجتاز به الأمير أبو عبد الله بن هود سلطان الأندلس فسلم عليه فرد عليه السلام واشتغل بنسخه ولم يرفع إليه رأسه فبقي واقفا منتظرا أن يرفع إليه رأسه ساعة طويلة فلما لم يحفل به ساق فرسه ومضى وله كتابان حسنان في علم الحديث أحدهما يقال له الحافل في تكملة الكامل لابن عدي وهو كتاب كبير قال ابن الأبار سمعت شيخنا أبا الخطاب بن واجب يثني عليه ويستحسنه والثاني اختصر فيه

الكامل لأبي أحمد بن عدي كما سبق في مجلدين وسمع بدمشق والموصل وغيرهما جماعة من أصحاب الحافظ أبي الوقت السجزي وأبي الفتح بن البطي وأبي عبد الله الغراوي وغيرهم من الأئمة وله فهرسة حافلة أفرد فيها روايته بالأندلس من روايته بالمشرق وكان متعصبا لابن حزم بعد أن تفقه في المذهب المالكي على ابن زرقون أبي الحسين وطالت صحبته له وكان بصيرا بالحديث ورجاله كثير العناية به واختصر كتاب الدارقطني في غريب حديث مالك وغيره أضبط منه وفاق أهل زمانه في معرفة النبات وقعد في دكان لبيعه قال ابن الأبار وهنالك رأيته ولقيته غير مرة ولم آخذ عنه ولم أستجزه وسمع منه جل أصحابنا ومولده في شهر المحرم سنة 567 وتوفي بإشبيلية ليلة الاثنين مستهل ربيع الآخر سنة 637 وقال ابن زرقون منسلخ شهر ربيع الأول وحكى ذلك عن ولده أبي النور محمد بن أحمد انتهى 222 - ومنهم أبو العباس أحمد بن عبد السلام الغافقي الإشبيلي الشهير بالمسيلي رحل حاجا وقفل إلى بلده وحدث عنه أبو بكر بن خير بوفاة القاضي ابن أبي حبيب وروى عن أبي محمد بن أبي السعادات المروروذي الخراساني وأنه أنشده بثغر الاسكندرية عند وداعه إياه قال أنشدني أبو تراب جندل عند الوداع لبعضهم
( السم من ألسن الأفاعي ... أعذب من قبلة الوداع )
( ودعتهم والدموع تجري ... لما دعا للوداع داعي ) 223 - ومنهم أبو العباس - ويقال أبو جعفر - أحمد بن معد بن عيسى

بن وكيل التجيبي الزاهد ويعرف بابن الإقليشي صاحب كتاب النجم من كلام سيد العرب والعجم عارض به شهاب القضاعي وأصل أبيه من أقليش وضبطها بعضهم بضم الهمزة وسكن دانية وبها ولد ونشأ سمع أباه أبا بكر وأبا العباس بن عيسى وتلمذ له ورحل إلى بلنسية فأخذ العربية والآداب عن أبي محمد البطليوسي وسمع الحديث من صهره أبي الحسن طارق بن يعيش والحافظ أبي بكر بن العربي وأبوي الوليد بن خيرة وابن الدباغ ولقي بالمرية أبا القاسم بن ورد وأبا محمد عبد الحق بن عطية وولي الله سيدي أبا العباس بن العريف ورحل إلى المشرق سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة وجاور بمكة سنين وسمع بها من أبي الفتح الكروخي جامع الترمذي برباط أم الخليفة العباسي سنة سبع وأربعين وخمسمائة ثم كر راجعا إلى المغرب فقبض في طريقه وحدث بالأندلس والمشرق وكان عالما عاملا متصوفا شاعرا مجودا مع التقدم في الصلاح والزهد والعزوف عن الدنيا وأهلها والإقبال على العلم والعبادة وله تصانيف منها كتاب الغرر من كلام سيد البشر وكتاب ضياء الأولياء وهو أسفار عدة وحمل الناس عنه معشراته في الزهد وكتبها الناس وكان يضع يده على وجهه إذا قرأ القارىء فيبكي حتى يعجب الناس من بكائه وكان الناس يدخلون عليه بيته والكتب عن يمينه وشماله وقد وصف غير واحد إمامته وعلمه وورعه وزهده وروى عنه أبو الحسين بن كوثر وابن بيبش وغيرهما ومن شعره قوله
( أسير الخطايا عند بابك واقف ... له عن طريق الحق قلب مخالف ) ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! !

( قديما عصى عمدا وجهلا وغرة ... ولم ينهه قلب من الله خائف )
( تزيد سنوه وهو يزداد ضلة ... فها هو في ليل الضلالة عاكف )
( تطلع صبح الشيب والقلب مظلم ... فما طاف منه من سنى الحق طائف )
( ثلاثون عاما قد تولت كأنها ... حلوم تقضت أو بروق خواطف )
( وجاء المشيب المنذر المرء أنه ... إذا رحلت عنه الشبيبة تالف )
( فيا أحمد الخوان قد أدبر الصبا ... وناداك من سن الكهولة هاتف )
( فهل أرق الطرف الزمان الذي مضى ... وأبكاه ذنب قد تقدم سالف )
( فجد بالدموع الحمر حزنا وحسرة ... فدمعك ينبي أن قلبك آسف )
وقد وافق في أول هذه القطعة قول أبي الوليد بن الفرضي أو أخذه منه نقلا وتوفي في صدره عن المشرق بمدينة قوص من صعيد مصر في عشر الخمسين وخمسمائة ودفن عند الجميزة التي في المقبرة التالية لسوق العرب وقال ابن عباد إنه توفي سنة خمسين أو إحدى وخمسين بعدها - رحمه الله تعالى - وقد نيف على الستين
224 - ومنهم أبو العباس أحمد بن عمر المعافري المرسي وأصله من طلبيرة ويعرف بابن إفرند روى عن أبي الحسين الصفدي وغيره كالقاضي الحافظ أبي بكر بن العربي وأبي محمد الرشاطي وأبي إسحاق بن حبيش وغيرهم وله رحلة حج فيها ولقي أبا الفتح بن الرندانقاني بلد بين سرخس ومرو من أصحاب أبي حامد الغزالي وأنشد عنه مما قاله في وداع إخوانه بالبيت المقدس
( لئن كان لي من بعد عود إليكم ... قضيت لبانات الفؤاد لديكم )

( وإن تكن الأخرى ولم تك أوبة ... وحان حمامي فالسلام عليكم )
وقد روى هذين البيتين أبو عمر بن عياد وابنه محمد عن ابن إفرند هذا وكان صالحا زاهدا متصوفا رحمه الله تعالى !
225 - ومنهم أبو جعفر أحمد بن عبد الملك بن عميرة بن يحيى الضبي من أهل لورقة رحل حاجا وكان منقبضا زاهدا صواما قواما وأقرأ القرآن وأسمع الحديث وممن حدث عنه الحافظان أبو سليمان وأبو محمد بن حوط الله ولقيه أبو سليمان بلورقة سنة 575 وتوفي رحمه الله تعالى سنة 577 وقد قارب المائة
226 - ومنهم أبو عمر بن عات وهو أحمد بن هارون بن أحمد بن جعفر بن عات النفزي من أهل شاطبة سمع أباه وأبا الحسن بن هذيل وأبا عبد الله بن سعادة وابن حبيش وغير واحد وطائفة كثيرة ورحل إلى المشرق فأدى الفريضة وسمع أبا الطاهر السلفي وأبا الطاهر بن عوف وغيرهما ممن يطول ذكره وأجاز له أبو الفرج بن الجوزي وغيره ممن أخذ عنه وسمع منه وقد ضمن ذكر أشياخه وجملة صالحة من مروياته عنهم برنامجيه اللذين سمي أحدهما بالنزهة في التعريف بشيوخ الوجهة وهو كتاب حافل جامع والآخر بريحانة التنفس وراحة الأنفس في ذكر شيوخ الأندلس
قال ابن عبد الملك المراكشي في الصلة حدثنا عنه شيخنا أبو محمد حسن بن علي بن

القطان وكان من أكابر المحدثين وجلة الحفاظ المسندين للحديث والآداب بلا مدافعة يسرد الأسانيد والمتون ظاهرا فلا يخل بحفظ شيء منها متوسط الطبقة في حفظ فروع الفقه ومعرفة المسائل إذ لم يعن بذلك عنايته بغيره فكان أهل شاطبة يفاخرون بأبوي عمر بن عبد البر وابن عات وكان على سنن السلف الصالح في الانقباض ونزارة الكلام ومتانة الدين وأكل الحشف ولزوم التقشف والتقلل من الدنيا والزهد فيها والمثابرة على كثير من أفعال البر كالأذان والإمامة وبذل المعروف والتوسع بالصدقات على الضعفاء والمساكين
وحكي أنه حضر في جماعة من طلبة العلم لسماع السير على بعض شيوخهم فغاب الكتاب أو القاريء بكتابه فقال أبو عمر أنا أقرأ لكم فقرأ لهم من حفظه وقال أبو عمر عامر بن نذير لازمته مدة ستة أشهر فلم أر أحفظ منه وحضرت إسماع الموطإ وصحيح البخاري منه فكان يقرأ من كل واحد من الكتابين نحو عشر أوراق عرضا بلفظه كل يوم عقب صلاة الصبح لا يتوقف في شيء من ذلك انتهى
وقال بعض المؤرخين إنه كان آخر الحفاظ للحديث يسرد المتون والأسانيد ظاهرا لا يخل بحفظ شيء منها موصوفا بالدراية والرواية غالبا عليه الورع والزهد على منهاج السلف يلبس الخشن ويأكل الحشف وربما أذن في المساجد وله تآليف دالة على سعة حفظه مع حظ من النظم والنثر وشهد وقيعة العقاب التي أفضت إلى خراب الأندلس بالدائرة على المسلمين فيها وكانت السبب الأقوى في تحيف الروم بلادها حتى استولت عليها ففقد حينئذ ولم يوجد حيا ولا ميتا وذلك يوم الاثنين منتصف صفر سنة تسع وستمائة

ومولده سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة قاله ابن الأبار وهو ممن أجاز له المذكور فيما رواه أو ألفه رحمه الله تعالى
227 - ومنهم أبو العباس أحمد بن تميم بن هشام بن أحمد بن حنون البهراني من ساكني إشبيلية وأصله من لبلة روى عن أبيه وابن الجد وابن زرقون وابن جهور وغيرهم من أعلام الأندلس ثم رحل إلى المشرق فسمع ببغداد من أبي حفص عمر بن طبرزد وبخراسان من المؤيد الطوسي وبهراة من أبي روح عبد المعز وبمرو من عبد الرحيم بن عبد الكريم السمعاني ومن جماعة غير هؤلاء وسمع أيضا بدمشق من أبي الفضل الحرستاني وسواه وبها توفي قبل العشرين وستمائة فيما نقل ابن الأبار عن ابن نقطة وقال غيره إنه مات سنة خمس وعشرين وستمائة 228 - ومنهم أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن محمد بن أحمد المخزومي من أهل قرطبة ويعرف أبوه بكوزان روى عن أبيه وغيره من مشيخة بلده ورحل حاجا فلقي بالإسكندرية أبا الحسن بن المقدسي وسمع منه وأنشد من لفظه بعض أصحاب ابن الأبار قال أنشدني شرف الدين أبو الحسن علي بن المفضل المقدسي قال أنشدتني تقية بنت غيث بن علي الأرمنازي لنفسها
( لا خير في الخمر على أنها ... مذكورة في صفة الجنه )
( لأنها إن خامرت عاقلا ... خامره في عقله جنه )
( يخاف أن تقذفه من عل ... فلا تقي مهجته جنه )

229 - ومنهم أبو جعفر أحمد بن محمد بن أحمد بن عياش الكناني المرسي سمع من ابن بشكوال موطأ مالك رواية يحيى بن يحيى والقعنبي وابن بكير بقراءة أبي محمد بن حوط الله ورحل إلى المشرق سنة تسع وسبعين وخمسمائة فحج سنة ثمانين بعدها وأقام بالحجاز والشام مدة ولقي أبا الطاهر الخشوعي بدمشق فسمع منه مقامات الحريري وأخذها الناس عنه ومما أفاد وزاد في قول الحريري
( إذا ما حويت جنى نخلة ... )
الأبيات - قوله
( ولا تأسفن على خارج ... إذا ما لمحت سنا الداخل )
( ولا تكثر الصمت في معشر ... وإن زدت عيا على باقل )
وسمع من أبي القاسم ابن عساكر السنن للبيهقي ومن أبي حفص الميانشي جامع الترمذي وقفل إلى الأندلس في سنة سبع وتسعين وحدث بيسير وكان يحسن عبارة الرؤيا وكف بصره سنة ثمان وعشرين وستمائة أو نحوها وتوفي على إثر ذلك ومولده سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة رحمه الله تعالى
230 - ومنهم أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن حصن بن أحمد بن حزم الغافقي ويقال فيه إبراهيم بن حصن بن عبد الله بن حصن أندلسي سكن دمشق وولي الحسبة بها ويكنى أبا إسحاق سمع ببغداد من أبي بكر بن مالك القطيعي وطبقته وبدمشق من عبد الوهاب الكلابي ويوسف بن القاسم الميانجي وبمصر من أبي طاهر الذهلي وأبي أحمد الغطريفي وله أيضا سماع

كتاب البخاري من طريق أبي الهيثم رحم الله تعالى الجميع
232 - 233 - ومنهم أبو القاسم بن فورتش وهو إسماعيل بن يحيى بن عبد الرحمن السرقسطي وأخوه القاضي محمد بن يحيى وكانا جميعا زاهدين لهما رحلة سمعا فيها من أبي ذر الهروي بمكة وعادا إلى بلدهما وولي محمد منهما القضاء وقد لقيهما القاضي الحافظ أبو علي بن سكرة ولم يسمع منهما ويرويان عن أبي عمر الطلمنكي وأبي الحزم بن أبي درهم وتوفي أبو القاسم في نحو الخمسمائة
234 - ومنهم أبو الطاهر إسماعيل بن أحمد بن عمر القرشي العلوي الإشبيلي رحل حاجا ودخل العراق والموصل وقيد الكثير ورواه وسمع من أبي حفص الميانشي بمكة سنة 570 وحدث بالموطإ عن أبي الحسن علي بن هابيل الأنصاري عن أبي الوليد الباجي وحدث أيضا عن غيره بما دل على أنه كان يخلط ولا يضبط وكذلك قال أبو الصبر كان له في الموطأ إسناد عال جدا فتصفحته فوجدته ينقص منه رجل واحد فاستربت في الرواية عنه بعد تحسين الظن به ولم يتنبه أبو الصبر لأن ابن هابيل وغيره من شيوخه مجهولون وأبو الصبر ممن روى عن المذكور وهو أبو الصبر السبتي والله تعالى أعلم بحقيقة حال الرجل
235 - ومنهم أبو الروح عيسى بن عبد الله بن محمد بن موسى بن محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن خليل النفزي الحميري التاكرني
قال في تاريخ إربل كان شابا متأدبا فاضلا قدم مصر وله شعر حسن وقال الحافظ عبد العظيم المنذري أنشدنا المذكور لنفسه

( يا قلب ما لك لا تفيق من الهوى ... أو ما يقر بك الزمان قرار )
( ألكل ذي وجه جميل حنة ... ولكل عهد سالف تذكار )
وله
( يا رب أضحية سوداء حالكة ... لم ترع في البيد إلا الشمس والقمرا )
( تخال باطنها في اللون ظاهرها ... فهي الغداة كزنجي إذا كفرا )
ولد سنة 590 بتاكرنا من بلاد الأندلس وهي من نظر قرطبة وتوفي بأرزن من ديار بكر سنة 629 عائدا من آمد رحمه الله تعالى
ومن بديع شعره
( إن أودع الطرس ما وشاه خاطره ... أبدى لعينيك أزهارا وأشجارا )
( وإن تهدد فيه أو يعد كرما ... بث البرية آجالا وأعمارا )
وتاكرنا - بضم الكاف والراء وتخفيفها وشد النون - وورد المذكور إربل سنة سبع وعشرين وستمائة وله قول أجاز فيها أبيات شرف الدين عمر بن الفارض في غلام اسمه بركات قال الأسدي الدمشقي ومن خطه نقلت كنت حاضر هذه الواقعة بالقاهرة بالجامع الأزهر إذ قال ابن الفارض
( بركات يحكي البدر عند تمامه ... حاشاه بل شمس الضحى تحكيه )
فقال أبو الروح وأنشدني ذلك
( هذا الكمال فقل لمن قد عابه ... حسدا وآية كل شيء فيه )
( لم تذو إحدى زهرتيه وإنما ... كملت بذاك ملاحة التشبيه )
( وكأنه قد رام يغلق جفنه ... ليصيب بالسهم الذي يرميه )
وقال ابن المستوفي في تاريخ إربل أنشدني أبو الروح لنفسه

( أوصيت قلبي أن يفر عن الصبا ... ظنا بأني قد دعوت سميعا )
( فأجابني لا تخش مني بعدما ... أفلت من شرك الغرام وقوعا )
( حتى إذا نادى الحبيب رأيته ... آوي إليه ملبيا ومطيعا )
( كذبالة أخمدتها فإذا دنا ... منها الضرام تعلقته سريعا )
قال وأنشدني
( وزائر زارني والليل معتكر ... والطيب يفضحه والحلي يشهره )
( أمسكت قلبي عنه وهو مضطرب ... والشوق يبعثه والصون يزجره )
( فبت أصدى إلى من لا يحلئني ... والورد صاف ولا شيء يكدره )
( تراه عيني وكفي لا تلامسه ... حتى كأني في المرآة أنظره )
قال وأنشدني الإمام أبو عمرو بن غياث الشريشي لنفسه رحمه الله تعالى
( صبوت وهل عار على الحر إن صبا ... وقيد ثغر الأربعين إلى الصبا )
( وقالوا مشيب قلت واعجبا لكم ... أينكر صبح قد تخلل غيهبا )
( وليس مشيبا ما ترون وإنما ... كميت الصبا لما جرى عاد أشهبا )
وتوفي أبو عمرو سنة 620 عن تسعين سنة
قال ابن المستوفي وأنشدني المذكور قال أنشدني أبو عمرو أيضا لنفسه
( أودع فؤادي حسرة أو دع ... نفسك تؤذي أنت في أضلعي )
( أمسك سهام اللحظ أو فارمها ... أنت بما ترمي مصاب معي )
( موقعها القلب وأنت الذي ... مسكنه في ذلك الموضع )
قال وأنشدني قال أنشدني مطرف الغرناطي

( أنا صب كما تشاء وتهوى ... شاعر ماجد كريم جواد )
( سنة سنها قديما جميل ... وأتى المحدثون مثلي فزادوا )
قال وأنشدني أيضا المطرف
( وفي فروع الأيك ورق إذا ... بل الندى أعطافها تسجع )
( أو هزها نفح نسيم الصبا ... شاقك منها غرد شرع )
( كأنما ريطتها منبر ... وهي خطيب فوقه مصقع )
( إن شبها في طرف لوعة ... جرى لها في طرف مدمع )
أخذه من قول عبد الوهاب بن علي المالقي الخطيب
( كأن فؤادي وطرفي معا ... هما طرفا غصن أخضر )
( إذا اشتعل النار في جانب ... جرى الماء في الجانب الآخر )
236 - ومن المرتحلين من الأندلس إلى المشرق الإمام النحوي اللغوي نور الدين أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن حمدون الحميري الأندلسي المالقي قال شرف الدين الصابوني أنشدنا المذكور لنفسه سنة 667
( فؤاد بأيدي النائبات مصاب ... وجفن لفيض الدمع فيه مصاب )
( تناءت ديار قد ألفت وجيرة ... فهل لي إلى عهد الوصال إياب )
( وفارقت أوطاني ولم أبلغ المنى ... ودون مرادي أبحر وهضاب )
( مضى زمني والشيب حل بمفرقي ... وأبعد شيء أن يرد شباب )
( إذا مر عمر المرء ليس براجع ... وإن حل شيب لم يفده خضاب )
( فحل حمام الشيب في فرق لمتي ... وقد طار عنها للشباب غراب )
( وكم عظة لي في الزمان وأهله ... وبين فؤادي والقبول حجاب )

( فدع شهوات النفس عنك بمعزل ... فعذب الليالي مقتضاه عذاب )
( وسل فؤادا عن رباب وزينب ... فما القصد منها زينب ورباب )
( وأنوي متابا ثم أنقض نيتي ... فربع صلاحي بالفساد خراب )
( أقر بتقصيري وأطمع في الرضى ... وما القصد إلا مرجع ومتاب )
( ويعتبني في العجز خل وصاحب ... وهل نافع في الجامدات عتاب )
( أطهر أثوابي وقلبي مدنس ... وأزعم صدقا والمقال كذاب )
( وفارقت من غرب البلاد مواطنا ... فسقى ربي غرب البلاد سحاب )
( فبالقلب من نار التشوق حرقة ... وبالعين من فيض الدموع عباب )
( وما بلغ المملوك قصدا ولا منى ... ولا حط عن وجه المراد نقاب )
( وأخشى سهام الموت تفجأ غفلة ... وما سار بي نحو الرسول ركاب )
( وقلبي معمور بحب محمد ... فمالي في غير الحجاز طلاب )
( يحن إلى أوطانه كل مسلم ... فقدس منها منزل وجناب )
( فأسعد أيامي إذا قيل هذه ... منازل من وادي الحمى وقباب )
( فجسمي في مصر وروحي بطيبة ... فللروح عن جسمي هناك مناب )
( على مثل هذا العجز والعمر منقض ... تشق قلوب لا تشق ثياب )
( وأرجو ثوابا بامتداحي محمدا ... وما كل مثن في الزمان يثاب )
( به أخمدت من قبل نيران فارس ... وحقق من ظبي الفلاة خطاب )
( وكم قد سقى من كفه الجيش فارتووا ... وكم قد شفى منه العيون رضاب )
( أجيب لما يختار في حضرة العلا ... وما كل خلق حيث قال يجاب )
( فلم تلهه دنياه عن خوف ربه ... ولا شغلته عن رضاه كعاب )
( محمد المختار أعلى الورى ندى ... وأكرم مبعوث أتاه كتاب )
( أتحسب أن تحصى بعد صفاته ... وهيهات ما يحصي علاه حساب )
( ثناء رسول الله خير ذخيرة ... وقد ذل جبار وخيف عقاب )
( وقد نصب الميزان والله حاكم ... وذلت لأحكام الإله رقاب )

( فكل ثناء واجب لصفاته ... فما مدح مخلوق سواه صواب )
( إليك رسول الله أنهي مدائحي ... وإن رجائي راحة وثواب )
( إذا قيل من تعني بمدحك كله ... فأنت إذا خبرت عنه جواب )
( فليتك تحلو والحياة مريرة ... وليتك ترضى والأنام غضاب )
( فأنت أجل العالمين مكانة ... وأكرم مدفون حواه تراب )
وله يرثي العز بن عبد السلام
( أمد الحياة كما علمت قصير ... وعليك نقاد بها وبصير )
( عجبا لمغتر بدار فنائه ... وله إلى دار البقاء مصير )
( فسليمها للنائبات معرض ... وعزيزها بيد الردى مقهور )
( أيظن أن العمر ممدود له ... والعمر فيه على الردى مقصور )
وهي طويلة ولم يحضرني سوى ما ذكرته
237 - ومنهم عبد البر بن فرسان بن إبراهيم بن عبد الرحمن الغساني الوادي آشي أبو محمد وله أخبار كثيرة في الحماسة وعلو الهمة
ومن نظمه لما تعمم مخدومه ابن غانية بعمامة بيضاء ولبس غفارة حمراء على جبة خضراء
( فديتك بالنفس التي قد ملكتها ... بما أنت موليها من الكرم الغض )
( ترديت للحسن الحقيقي بهجة ... فصار لها الكلي في ذاك كالبعض )
( ولما تلالا نور غرتك التي ... تقسم في طول البلاد وفي عرض )

( تلفعتها خضراء أحسن ناظر ... نبت عنك إجلالا وذاك من الفرض )
( وأسدلت حمراء الملابس فوقها ... بمفرق تاج المجد والشرف المحض )
( فأصبحت بدرا طالعا في غمامة ... على شفق دان إلى خضرة الأرض )
وقال رحمه الله تعالى
( أجبنا ورمحي ناصري وحسامي ... وعجزا وعزمي قائدي وإمامي )
( ولي منك بطاش اليدين غضنفر ... يحارب عن أشباله ويحامي )
وقال رحمه الله تعالى لما أسن يستأذن مخدومه في الحج والزيارة
( امنن بتسريح علي فعله ... سبب الزيارة للحطيم ويثرب )
( ولئن تقول كاشح أن الهوى ... درست معالمه وأنكر مذهبي )
( فمقالتي ما إن مللت وإنما ... عمري أبى حمل النجاد ومنكبي )
( وعجزت عن أن أستثير كمينها ... وأشق بالصمصام صدر الموكب )
وقال رحمه الله تعالى ولا خفاء ببراعته
( ندى مخضلا ذاك الجناح المنمنما ... وسقيا وإن لم تشك يا ساجعا ظما )
( أعدهن ألحانا على سمع معرب ... يطارح مرتاحا على القضب معجما )
( وطر غير مقصوص الجناح مرفها ... مسوغ أشتات الحبوب منعما )
( مخلى وأفراخا بوكرك نوما ... ألا ليت أفراخي معي كن نوما )
وقال رحمه الله تعالى

( كفى حزنا أن الرماح صقيلة ... وأن الشبا رهن الصدى بدمائه )
( وأن بياذيق الجوانب فرزنت ... ولم يعد رخ الدست بيت بنائه )
وكان - رحمه الله تعالى - من جلة الأدباء وفحول الشعراء وبرعة الكتاب كتب عن ابن غانية الأمير أبي زكريا يحيى بن إسحاق بن محمد بن علي المسوفي الميرقي الثائر على منصور بني عبد المؤمن ثم على من بعده من ذريته إلى أيام الرشيد منهم وكان منقطعا إليه وممن صحبه في حركاته وكان آية في بعد الهمة والذهاب بنفسه والغناء في مواقف الحرب والجنسية علة الضم إذ ابن غانية كان غاية في ذلك أيضا ووجهه الميرقي المذكور عشية يوم من أيام حروبه إلى المأزق وقد طال العراك وكاد الناس ينفصلون عن الحرب [ إلى أن يباكروها من الغد فلما بلغ الصدر اشتد على الناس ] وذمر أرباب الحفيظة وأنهى إليهم العزم من أميرهم في الحملة فانهزم عدوهم شر هزيمة ولم يعد أبو محمد إلا في آخر الليل بالأسلاب والغنيمة فقال له الأمير وما حملك على ما صنعت فقال الذي عملت 13 هو شأني وإذا أردت من يصرف الناس عن الحرب ويذهب ريحه فانظر غيري
وتشاجر له ولد صغير مع ترب له من أولاد أميره أبي زكريا فنال منه ولد الأمير وقال وما قدر أبيك فلما بلغ ذلك أباه خرج مغضبا لحينه ولقي ولد الأمير المخاطب لولده فقال حفظك الله تعالى لست أشك في أني خديم أبيك ولكني أحب أن أعرفك بنفسي ومقداري ومقدار أبيك اعلم أن أباك وجهني رسولا إلى دار الخلافة ببغداد بكتاب عن نفسه فلما بلغت بغداد أنزلت في دار اكتريت لي بسبعة دراهم في الشهر وأجري على سبعة دراهم في

اليوم وطولع بكتابي وقيل من الميرقي الذي وجهه فقال بعض الحاضرين هو رجل مغربي ثائر على أستاذه فأقمت شهرا ثم استدعيت فلما دخلت دار الخلافة وتكلمت مع من بها من الفضلاء وأرباب المعارف والآداب اعتذروا إلي وقالوا للخليفة هذا رجل جهل مقداره فأعدت إلى محل اكتري لي بسبعين درهما وأجري علي مثلها في اليوم ثم استدعيت فودعت الخليفة واقتضيت ما تيسر من حوائجه وصدر لي شيء له حظ من صلته وانصرفت إلى أبيك فالمعاملة الأولى كانت على قدر أبيك عند من يعرف الأقدار والثانية كانت على قدري وترجمته رحمه الله تعالى متسعة
238 - ومنهم عبد المنعم بن عمر الغساني الوادي آشي المؤلف الرحالة المتجول ببلاد المشرق سائحا صاحب المؤلفات الكثيرة التي منها جامع أنماط السائل في العروض والخطب والرسائل
ومن نظمه قوله رحمه الله
( ألا إنما الدنيا بحار تلاطمت ... فما أكثر الغرقى على الجنبات )
( وأكثر من لاقيت يغرق إلفه ... وقل فتى ينجي من الغمرات )
توفي سنة 603 رحمه الله تعالى
239 - ومنهم أبو العباس أحمد بن مسعود بن محمد القرطبي الخزرجي كان إماما في التفسير والفقه والحساب والفرائض والنحو واللغة والعروض والطب وله تآليف حسان وشعر رائق فمنه قوله رحمه الله تعالى

( وفي الوجنات ما في الروض لكن ... لرونق زهرها معنى عجيب )
( وأعجب ما التعجب عنه أني ... أرى البستان يحمله قضيب )
وتوفي رحمه الله تعالى سنة 601
240 - ومنهم أبو العباس القرطبي صاحب المفهم في شرح مسلم وهو أحمد بن عمر بن إبراهيم بن عمر الأنصاري المالكي الفقيه المحدث المدرس الشاهد بالإسكندرية
ولد بقرطبة سنة 578 وسمع الكثير هنالك ثم انتقل إلى المشرق واشتهر وطار صيته وأخذ الناس عنه وانتفعوا بكتبه وقدم مصر وحدث بها واختصر الصحيحين وكان بارعا في الفقه والعربية عارفا بالحديث وممن أخذ عنه القرطبي صاحب التذكرة ومن تصانيفه رحمه الله تعالى المفهم في شرح مسلم وهو من أجل الكتب ويكفيه شرفا اعتماد الإمام النووي رحمه الله تعالى عليه في كثير من المواضع وفيه أشياء حسنة مفيدة ومنها اختصاره للصحيحين كما مر وله غير ذلك وتوفي رحمه الله تعالى بالإسكندرية رابع ذي القعدة سنة 656 وكان يعرف في بلاده بابن المزين وله كتاب كشف القناع عن الوجد والسماع أجاد فيه وأحسن وكان يشتغل أولا بالمعقول وله اقتدار على توجيه المعاني بالاحتمال
قال الشيخ شرف الدين الدمياطي أخذت عنه وأجاز لي مصنفاته رحمه الله تعالى وحدث بالإسكندرية وغيرها وصنف غير ما ذكرناه وكان إماما عالما جامعا لمعرفة الحديث والفقه والعربية وغيرها

241 - ومنهم العارف الكبير الولي الصالح الشهير أبو أحمد جعفر بن عبد الله بن محمد بن سيد بونة الخزاعي الأندلسي أحد الأعلام المنقطعين المقربين أولي الهداية كان - رضي الله تعالى عنه ونفعنا به - كثير الأتباع بعيد الصيت فذا شهيرا
قال الحافظ ابن الزبير هو أحد الأعلام المشاهير فضلا وصلاحا قرأ ببلنسية وتفقه وحفظ نصف المدونة وأقرأها وكان يؤثر التفسير والحديث والفقه على غيرها أخذ عن أبوي الحسن بن النعمة وابن هذيل وحج ولقي في رحلته من الأندلس جلة أكبرهم الولي الكبير سيد أبو مدين شعيب أفاض الله تعالى علينا من أنواره وانتفع به ورجع عنه بعجائب فشهر بالعبادة وتبرك الناس به فظهرت عليه بركته توفي رحمه الله تعالى في شوال سنة 624 وعاش نيفا وثمانين سنة
وله ترجمة في الإحاطة ملخصها ما ذكرناه
242 - ومنهم محمد بن عبد الرحمن بن يعقوب الخزرجي الأنصاري الشاطبي الفقيه القاضي الصدر المتفنن المحصل المجيد له علم محكم وعقد صحيح مبرم رحل إلى المشرق وحج وكانت رحلته بعد تحصيله فزاد فضلا إلى فضل ونبلا إلى نبل وكان متثبتا في فقهه لا يستحضر من النقل الكثير ولكنه يستحضر ما يحتاج إليه وكان له علم بالعربية وأصول الفقه ومشاركة في أصول الدين له شرح على الجزولية وكان أبوه قاضيا وبيتهم بيت قضاء وعلم وسؤدد متوارث ومجد مكسوب ومنسوب ثم ولي قضاء بجاية فكان في قضائه على سنن الفضلاء وطريق الأولياء العقلاء بالحق مع

الصدق معارضا للولاة وكان يرى أن لا يقدم الشهود إلا عند الحاجة وأما إن حصل من تحصل به الكفاية فلا يقدم غيره ويرى أن الكثرة مفسدة وقد طلب منه الملك أن يقدم رجلا من أهل بجاية فقال له مشافهة إن شئتم قدمتموه وأخرتموني وكان إذا جرى الأمر في مجرى الشهادة وما قاله القاضي ابن العربي أبو بكر وغيره من أنها قبول قول الغير على الغير بغير دليل يرى أن هذا من الأمر العظيم الذي لا يليق أن يمكن منه إلا الآحاد الذين تبين فضلهم في الوجود وكان يرى أن جنايات الشاهد إنما هي في صحيفة من يقدمه من باب قوله عليه الصلاة و السلام " من سن سنة حسنة ومن سن سنة سيئة " وقد سئل من أولياء الله فقال شهود القاضي لأنهم لا يأتون كبيرة ولا يواظبون على صغيرة وإن كانت الشهادة على هذه الصفة فلا شيء أجل منها وإن كانت خطة لا صفة فلا شيء أخس منها ولما كانت واقعة بني مرين بطنجة عرض عليه أهلها أن يتقدم وأن يبايعوه فقال والله لا أفسد ديني
ولما توفي عجز القاضي الذي تولى بعده عن سلوك منحاه واقتفاء سننه الذي اقتفاه قال هذا كله بمعناه وبعضه بحروفه الغبريني في عنوان الدراية في علماء بجاية
243 - ومنهم محمد بن يحيى الأندلسي اللبسي - بلام فموحدة فسين - قاضي القضاة أخذ عن الحافظ ابن حجر ونوه به عند الأشرف حتى ولاه قضاء المالكية بحماة وسار سيرة السلف الصالح ثم حنق على نائبها في بعض الأمور وسافر إلى حلب مظهرا إرادة السماع على حافظها البرهان
ووصفه ابن حجر في بعض مجاميعه بقوله الشيخ الإمام العالم العلامة في الفنون قاضي الجماعة
وقال إنه إنسان حسن إمام في علوم منها الفقه

والنحو وأصول الدين يستحضر علوما كأنها بين عينيه ووصفه أيضا بعلامة دهره وخلاصة عصره وعين زمانه وإنسان أوانه جامع العلوم وفريد كل منثور ومنظوم قاضي القضاة لا زالت رايات الإسلام به منصورة وأعلام الإيمان به منشورة ووجوه الأحكام الشرعية بحسن نظره محبورة ولد سنة 806 وتوفي ببرسا من بلاد الروم أواخر شعبان سنة 884 قاله السخاوي في الضوء اللامع
244 - ومنهم الوزير الشهير أبو عبد الله بن الحكيم الرندي ذو الوزارتين رحل إلى مصر والحجاز والشام وأخذ الحديث عن جماعة وقد ترجمناه في باب مشيخة لسان الدين عند تعرضنا لذكر ابنه الشيخ أبي بكر بن الحكيم ولا بأس أن نزيد هنا ما ليس هنالك فنقول إن من مشايخه برندة الشيخ الأستاذ النحوي أبا الحسن علي بن يوسف العبدري السفاح أخذ عنه العربية وقرأ عليه القرآن بالروايات السبع وأخذ عن الخطيب بها أبي القاسم بن الأيسر وأخذ - رحمه الله تعالى - عن جماعة من أعلام الأندلس وأخذ في رحلته عن الجلة الذين يضيق عن أمثالهم الحصر فمن شيوخه الحافظ أبو اليمن بن عساكر لقيه بالحرم الشريف وانتفع به وأكثر من الرواية عنه والشيخ أبو العز عبد العزيز بن عبد المنعم الحراني المعروف بابن هبة الله والشيخ الشرف أبو العباس أحمد بن عبد الله بن عمر بن معطي ابن الإمام الجزائري - جزائر المغرب - نزيل بغداد والشيخ أبو الصفاء خليل بن أبي بكر الحنبلي لقيه بالقاهرة والشيخ رضي الدين أبو بكر القسمطيني والشيخ شرف الدين الحافظ أبو محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطي إمام الديار المصرية في الحديث وحافظها ومؤرخها

والشهاب ابن الخيمي قرأ عليه قصيدته البائية الفريدة التي أولها
( يا مطلبا ليس لي في غيره أرب ... إليك آل التقصي وانتهى الطلب )
وفيها البيت المشهور الذي وقع النزاع فيه
( يا بارقا بأعالي الرقمتين بدا ... لقد حكيت ولكن فاتك الشنب )
والشيخ جمال الدين أبو صادق محمد بن يحيى القرشي ومن تخريجه الأربعون المروية بالأسانيد المصرية وسمع الحلبيات من ابن العماد الحراني والشيخ أبي الفضل عبد الرحيم خطيب الجزيرة ومولده سنة 598 وزينب بنت الإمام أبي محمد عبد اللطيف بن يوسف البغدادي وتكنى أم الفضل وسمعت من أبيها
ومن أشياخ ذي الوزارتين ابن الحكيم المذكور الملك الأوحد يعقوب ابن الملك الناصر صلاح الدين داود بن الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب والشيخ عبد الرحمن بن سليمان بن طرخان وأخوه محمد بن سليمان في طائفة كبيرة من مشايخ مصر والشام والعراق وغيرها من البلاد يطول تعدادهم وأخذ ببجاية عن خطيبها أبي عبد الله بن رحيمة الكناني وبتونس عن قاضيها أبي العباس بن الغماز البلنسي وأخذ العربية عن قدوة النحاة أبي الحسين عبد الله بن أحمد بن عبيد الله بن أبي الربيع القرشي
ومن شعر ذي الوزارتين ابن الحكيم المذكور قوله
( هل إلى رد عشيات الوصال ... سبب أم ذاك من ضرب المحال )
( حالة يسري بها الوهم إلى ... أنها تثبت برءا باعتلال )
( وليال ما تبقى بعدها ... غير أشواقي إلى تلك الليالي )

( إذ مجال الوصل فيها مسرحي ... ونعيمي آمر فيها ووال )
( ولحالات التراضي جولة ... مرحت بين قبول واقتبال )
( فبوادي الخيف خوفي مسعد ... وبأكناف منى أسنى موال )
( لست أنسى الأنس فيها أبدا ... لا ولا بالعذل في ذاك أبالي )
( وغزال قد بدا لي وجهه ... فرأيت البدر في حال الكمال )
( ما أمال التيه من أعطافه ... لم يكن إلا على خصل اعتدال )
( خص بالحسن فما أنت ترى ... بعده للناس حظا في الجمال )
( من تسلى عن هواه فأنا ... بسواه عن هواه غير سال )
( فلئن أتعبني حبي له ... فلكم نلت به أنعم حال )
( إذ لآلي جيده من قبلي ... ووشاحاه يميني وشمالي )
( خلف النوم لي السهد به ... وترامى الشخص لا طيف الخيال )
( فتداوى بلماه ظمإي ... مزجك الصهباء بالماء الزلال )
( أو إشادات بناء الملك الأوحد ... الأسمى الهمام المتعالي )
( ملك إن قلت فيه ملكا ... لم تكن إلا محقا في المقال )
( أيد الإسلام بالعدل فما ... إن ترى رسما لأصحاب الضلال )
( ذو أياد شملت كل الورى ... ومعال يا لها خير معال )
( همة هامت بأحوال التقى ... وصفات بالجلالات حوال )
( وقف النفس على إجهادها ... بين صوم وصلاة ونوال )
وهي طويلة ومنها
( أيها المولى الذي نعماؤه ... أعجزت عن شكرها كنه المقال )

( ها أنا أنشدكم مهنئا ... من بديع النظم بالسحر الحلال )
( فأنا العبد الذي حبكم ... لم يزل والله في قلبي وبالي )
( أورقت روضة آمالي بكم ... مذ تولاها الرباب المتوالي )
( واقتنيت الجاه من خدمتكم ... فهي ما أذخره من كنز مال )
( ومنها يا أمير المسلمين هذه خدمتي ... تنبيء عن صادق حال )
( هي بنت ساعة أو ليلة ... سهلت بالحب في ذاك الجلال )
( ما عليها إذ أجادت مدحها ... من بعيد الفهم يلغيها وقال )
( فهي في تأدية الشكر لكم ... أبدا بين احتفاء واحتفال )
وكتب رحمه الله تعالى يخاطب أهله من مدينة تونس
( حي حيي بالله يا ريح نجد ... وتحمل عظيم شوقي ووجدي )
( وإذا ما بثثت حالي فبلغ ... من سلامي لهم على قدر ودي )
( ما تناسيتهم وهل في مغيبي ... قد نسوني على تطاول بعدي )
( بي شوق إليهم ليس يعزى ... لجميل ولا لسكان نجد )
( يا نسيم الصبا إذا جئت قوما ... ملئت أرضهم بشيح ورند )
( فتلطف عند المرور عليهم ... وحقوقا لهم علي فأد )
( قل لهم قد غدوت من وجدهم في ... حال شوق لكل رند وزند )
( وإن استفسروا حديثي فإني ... باعتناء الإله بلغت قصدي )

( فله الحمد إن حباني بلطف ... عنده قل كل شكر وحمد )
وافتتح مخاطبته لأخيه الأكبر أبي إسحاق إبراهيم بقصيدة أولها
( ذكر اللوى شوقا إلى أقماره ... فقضى أسى أو كاد من تذكاره )
( وعلا زفير حريق نار ضلوعه ... فرمى على وجناته بشراره )
( لو كنت تبصر خطه في خده ... لقرأت سر الوجد من أسطاره )
( يا عاذليه أقصروا فلشد ما ... أفضى عتابكم إلى إضراره )
( إن لم تعينوه على برحائه ... لا تنكروا بالله خلع عذاره )
( ما كان أكتمه لأسرار الهوى ... لو أن جند الصبر من أنصاره )
( ما ذنبه والبين قطع قلبه ... أسفا وأذكى النار في أعشاره )
( بخل اللوى بالساكنيه وطيفهم ... وحديثه ونسيمه ومزاره )
( يا برق خذ دمعي وعرج باللوى ... فاسفحه في باناته وعراره )
( وإذا لقيت بها الذي بإخائه ... ألقى خطوب الدهر أو بجواره )
( فاقر السلام عليه قدر محبتي ... فيه وترفيعي إلى مقداره )
( والمم بسائر إخوتي وقرابتي ... من لم أكن لجوارهم بالكاره )
( ما منهم إلا أخ أو سيد ... أبدا أرى دأبي على إكباره )
( فابثث لذاك الحي أن أخاهم ... في حفظ عهدهم على استبصاره )
وقال رحمه الله تعالى في غرض كلفه سلطانه القول فيه
( ألا واصل مواصلة العقار ... ودع عنك التخلق بالوقار )

( وقم واخلع عذارك في غزال ... يحق لمثله خلع العذار )
( قضيب مائس من فوق دعص ... تعمم بالدجى فوق النهار )
( ولاح بخده ألف ولام ... فصار معرفا بين الدراري )
( رماني قاسم والسين صاد ... بأشفار تنوب عن الشفار )
( وقد قسمت محاسن وجنتيه ... على ضدين من ماء ونار )
( فذاك الماء من دمعي عليه ... وتلك النار من فرط استعاري )
( عجبت له أقام بربع قلبي ... على ما شب فيه من الأوار )
( ألفت الحب حتى صار طبعا ... فما أحتاج فيه إلى ادكار )
( فما لي عن مذاهبه ذهاب ... وهذا فيه أشعاري شعاري )
وقال العلامة ابن رشيد في ملء العيبة لما قدمنا المدينة سنة 684 كان معي رفيقي الوزير أبو عبد الله بن أبي القاسم بن الحكيم وكان أرمد فلما دخلنا ذا الحليفة أو نحوها نزلنا عن الأكوار وقوي الشوق لقرب المزار فنزل وبادر إلى المشي على قدميه احتسابا لتلك الآثار وإعظاما لمن حل تلك الديار فأحس بالشفاء فأنشد لنفسه في وصف الحال قوله
( ولما رأينا من ربوع حبيبنا ... بيثرب أعلاما أثرن لنا الحبا )
( وبالترب منها إذ كحلنا جفوننا ... شفينا فلا بأسا نخاف ولا كربا )
( وحين تبدى للعيون جمالها ... ومن بعدها عنا أديلت لنا قربا )
( نزلنا عن الأكوار نمشي كرامة ... لمن حل فيها أن نلم به ركبا )
( نسح سجال الدمع في عرصاتها ... ونلثم من حب لواطئه التربا )
( وإن بقائي دونه لخسارة ... ولو أن كفي تملأ الشرق والغربا )
( فيا عجبا ممن يحب بزعمه ... يقيم مع الدعوى ويستعمل الكتبا )

( وزلات مثلي لا تعدد كثرة ... وبعدي عن المختار أعظمها ذنبا )
انتهى وخط الوزير ابن الحكيم في غاية الحسن وقد رأيته مرارا وملكت بعض كتبه ونثره - رحمه الله تعالى - أعلى من شعره كما نبه عليه لسان الدين في الإحاطة
ومن نثره في رسالة طويلة كتبها عن سلطانه ما صورته وقد تقرر عند الخاص والعام من أهل الإسلام واشتهر في آفاق الأقطار اشتهار الصباح في سواد الظلام أنا لم نزل نبذل جهدنا في أن تكون كلمة الله هي العليا ونسمح في ذلك بالنفوس والأموال رجاء ثواب الله لا لعرض الدنيا
وأنا ما قصرنا في الاستنفار والاستنصار ولا أقصرنا عن الاعتضاد بكل من أملنا معاملته والاستظهار ولا اكتفينا بمطولات الرسائل وبنات الأفكار حتى اقتحمنا بنفسنا لجج البحار فسمحنا بالطارف من أموالنا والتلاد وأعطينا رجاء نصرة الإسلام موفور الأموال والبلاد واشترينا بما أنعم الله به علينا ما فرض الله على كافة أهل الإسلام من الجهاد فلم يكن بين تلبية المدعو وزهده ولا بين قبوله ورده إلا كما يحسو الطائر ماء الثماد ويأبى الله أن يكل نصرة الإسلام بهذه الجزيرة إلى سواه ولا يجعل فيها شيئا إلا لمن أخلص لوجهه الكريم علانيته ونجواه ولما أسلم الإسلام بهذه الجزيرة الغريبة إلى مناويه وبقي المسلمون يتوقعون حادثا ساءت ظنونهم لمباديه ألقينا

إلى الثقة بالله تعالى يد الاستسلام وشمرنا عن ساعد الجد في جهاد عبدة الأصنام وأخذنا بمقتضى قوله تعالى ( وأنفقوا في سبيل الله ) [ البقرة195 ] أخذ الاعتزام فأمدنا الله تعالى في ذلك بتوالي البشائر ونصرنا بألطاف أغنى فيها خلوص الضمائر عن قود العساكر ونفلنا على أيدي قوادنا ورجالنا من السبابا والغنائم ما غدا ذكره في الآفاق كالمثل السائر ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) [ إبراهيم34 ] وكيف يحصيها المحصي أو يحصرها الحاصر وحين أبدت لنا العناية الربانية وجوه الفتح سافرة المحيا وانتشقنا نسائم النصر الممنوح عبقة الريا استخرنا الله تعالى في الغزو بنفسنا ونعم المستخار وكتبنا بما قد علمتم إلى ما قرب من أعمالنا بالحض على الجهاد والاستنفار وحين وافى من خف للجهاد من الأجناد والمطوعين وغدوا بحكم رغبتهم في الثواب على طاعة الله مجتمعين خرجنا بهم ونصر الله تعالى أهدى دليل وعناية الله تعالى بهذه الفئة المفردة من المسلمين تقضي بتقريب البعيد من آمالنا وتكثير القليل ونحن نسأل الله تعالى أن يحملنا على جادة الرضى والقبول وأن يرشدنا إلى طريق تفضي إلى بلوغ الأمنية والمأمول
وهذه رسالة طويلة سقنا بعضها كالعنوان لسائرها
ونال ابن الحكيم - رحمه الله تعالى ! - من الرياسة والتحكم في الدولة ما صار كالمثل السائر وخدمته العلماء الأكابر كابن خميس وغيره وأفاض عليهم سجال خيره ثم ردت الأيام منه ما وهبت وانقضت أيامه كأن لم تكن وذهبت وقتل يوم خلع سلطانه ومثل به سنة 708 رحمه الله تعالى

وانتهب من أمواله وكتبه وتحفه ما لا يعلم قدره إلا الله تعالى أثابه الله تعالى بهذه الشهادة بجاه نبينا محمد وشرف وكرم ومجد وعظم
245 - ومن المرتحلين من الأندلس إلى المشرق الحافظ نجيب الدين أبو محمد عبد العزيز بن الأمير القائد أبي علي الحسن بن عبد العزيز بن هلال اللخمي الأندلسي ولد سنة 577 تقريبا ورحل فسمع بمكة من زاهر بن رستم وببغداد من أبي بكر أحمد بن سكينة وابن طبرزد وطائفة وبواسط من أبي الفتح بن المنداني وبأصبهان من عين الشمس الثقفية وجماعة وبخراسان من المؤيد الطوسي وأبي روح وأصحاب الفراوي وهذه الطبقة وخطه مليح مغربي في غاية الدقة وكان كثير الأسفار دينا متصوفا كبير القدر قال الضياء في حقه رفيقنا وصديقنا توفي بالبصرة عاشر رمضان سنة 617 ودفن إلى جانب قبر سهل التستري رضي الله تعالى عنه وما رأينا من أهل المغرب مثله وقال ابن نقطة كان ثقة فاضلا صاحب حديث وسنة كريم الأخلاق وقال مفضل القرشي كان كثير المروءة غزير الإنسانية وقال ابن الحاجب كان كيس الأخلاق محبوب الصورة لين الكلام كريم النفس حلو الشمائل محسنا إلى أهل العلم بماله وجاهه وقيل إنه أوصى بكتبه للشرف المرسي رحمه الله تعالى
246 - ومنهم محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد أبو بكر بن العربي الإشبيلي حفيد القاضي الحافظ الكبير أبو بكر بن العربي قرأ لنافع على قاسم بن محمد الزقاق صاحب شريح وحج فسمع من السلفي وغيره ثم رحل بعد نيف وعشرين سنة إلى الشام والعراق وأخذ عن عبد الوهاب بن سكينة وطبقته ورجع فأخذوا عنه بقرطبة وإشبيلية ثم سافر سنة 612 وتصوف

وتعبد وتوفي بالإسكندرية سنة 617 قاله الذهبي في تاريخه الكبير
247 - ومن المرتحلين من الأندلس يحيى بن عبد العزيز المعروف بابن الخراز أبو زكريا القرطبي سمع من العتبي وعبد الله بن خالد ونظرائهما من رجال الأندلس ورحل فسمع بمصر من المزني والربيع بن سليمان المؤذن ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم ويونس بن عبد الأعلى ومحمد بن عبد الله بن ميمون وعبد الغني بن أبي عقيل وغيرهم وسمع بمكة من علي بن عبد العزيز وكانت رحلته ورحلة سعيد بن عثمان الأعناقي وسعيد بن حميد وابن أبي تمام واحدة وسمع الناس من يحيى المذكور مختصر المزني ورسالة الشافعي وغير ذلك من علم محمد بن عبد الله بن عبد الحكم وكان يميل في فقهه إلى مذهب الشافعي وكان مشاورا مع عبيد الله بن يحيى وأضرابه وحدث عنه من أهل الأندلس محمد بن قاسم وابن بشر وابن عبادة وغير واحد ولم يسمع منه ابنه محمد لصغره وتوفي سنة 295 رحمه الله تعالى ورضي عنه
248 - ومنهم الشيخ الإمام العالم العامل الكامل الزاهد الورع العلامة جمال الدين أبو بكر محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله البكري الشريشي المالكي كان من أكابر الصالحين المتورعين ومولده سنة 601 بشريش وتوفي برباط الملك الناصر بسفح قاسيون سنة 685 في 24 رجب ودفن قبالة الرباط وله المصنفات المفيدة تولى مشيخة الصخرة بحرم القدس الشريف وقدم دمشق وتولى مشيخة الرباط الناصري فلما توفي قاضي القضاة جمال الدين المالكي ولوه مشيخة المالكية بدمشق وعرضوا عليه القضاء فلم يقبل وبقي في المشيخة إلى أن توفي رحمه الله تعالى ونفعنا به وبأمثاله آمين

249 - ومن الراحلين من الأندلس الفقيه الصالح أبو بكر بن محمد بن علي بن ياسر الجياني المحدث الشهير
ذكره ابن السمعاني وغيره سافر الكثير وورد العراق وطاف في بلاد خراسان سكن بلخ وأكثر من الحديث وحصل الأصول ونسخ بخطه ما لا يدخل تحت حصر قال ابن السمعاني وله أنس ومعرفة بالحديث لقيته بسمرقند وكان قدمها سنة 549 مع جماعة من أهل الحجاز لدين له عليهم وسمعت منه جزءا خرجه من حديث يزيد بن هارون مما وقع له عاليا وجزءا صغيرا من حديث أبي بكر بن أبي الدنيا وأحاديث أبي بكر الشافعي في أحد عشر جزءا المعروف بالغيلانيات بروايته عن ابن الحصين عن ابن غيلان وكان مولده بجيان سنة 493 [ أو في التي بعدها الشك منه ثم لقيته بنسف في أواخر سنة خمسين ] ولم أسمع منه شيئا ثم قدم علينا في بخارى في أوائل سنة إحدى وخمسين وسمعت من لفظه جميع كتاب الزهد لهناد بن السري الكوفي بروايته عن أبي القاسم سهل بن إبراهيم المسجدي عن الحاكم أبي عبد الرحمن محمد بن أحمد الشاذياخي عن الحاكم أبي الفضل محمد بن الحسين الحدادي عن حماد بن أحمد السلمي عن مصنفه وأخبرنا الجياني بسمرقند أنبأنا أبو القاسم هبة الله بن محمد بن الحصين الكاتب ببغداد أنبأنا أبو طالب محمد بن محمد بن إبراهيم بن غيلان البزار أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله الشافعي أخبرنا محمد بن مسلمة أنبأنا يزيد بن هارون أنبأنا حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب عن النبي قال " إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ناداهم مناد يا أهل الجنة إن

لكم عند الله موعدا لم تروه قالوا وما هو ألم يثقل موازيننا ويبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة وينجنا من النار قال فيكشف الحجاب فينظرون إليه فوالله ما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه ثم تلا هذه الآية ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) [ يونس26 ]
وقال ابن السمعاني أيضا وأخبرنا الجياني المذكور بسمرقند أنبأنا هبة الله بن محمد بن عبد الواحد ببغداد أنبأنا أبو طالب بن غيلان أنبأنا أبو بكر الشافعي أنبأنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا القرشي أنبأ محمد بن حسان أنبأنا مبارك بن سعيد قال أردت سفرا فقال لي الأعمش سل ربك أن يرزقك صحابة صالحين فإن مجاهدا حدثني قال خرجت من واسط فسألت ربي أن يرزقني صحابة ولم أشترط في دعائي فاستويت أنا وهم في السفينة فإذا هم أصحاب طنابير
وقال ابن السمعاني أيضا أخبرنا أبو بكر الجياني المغربي بسمرقند سمعت الإمام أبا طالب إبراهيم بن هبة الله ببلخ يقول قرأت على أبي يعلى محمد بن أحمد العبدي بالبصرة قال قرأت على شيخنا أبي الحسين بن يحيى في كتاب العين بإسناده إلى الخليل بن أحمد أنه أنشده قول الشاعر
( في بيتنا ثلاث حبالى ... فوددنا أن قد وضعن جميعا )
( زوجتي ثم هرتي ثم شاتي ... فإذا ما وضعن كن ربيعا )
( زوجتي للخبيص والهر للفار ... وشاتي إذا اشتهينا مجيعا )
قال أبو يعلى قال شيخنا ابن يحيى وذكر عن الخليل بن أحمد في العين أن المجيع أكل التمر باللبن انتهى
250 - ومنهم أبو الخطاب العلاء بن عبد الوهاب بن أحمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن حزم الأندلسي المري ذكره الحميدي في تاريخه وأثنى

عليه وقال كان من أهل العلم والأدب والذكاء والهمة العالية [ في طلب العلم ] وكتب بالأندلس فأكثر ورحل إلى المشرق فاحتفل في العلم والرواية والجمع وذكره الحافظ الخطيب أبو بكر [ أحمد بن علي ] بن ثابت البغدادي وقال هو من بيت جلالة وعلم ورياسة وأخرج عنه في غير موضع من مصنفاته وقدم بغداد ودمشق وحدث فيهما ثم عاد إلى المغرب فتوفي ببلده المرية سنة 454 وحدث عن أبي القاسم إبراهيم بن محمد بن زكريا الزهري ويعرف بابن الإفليلي الأندلسي النحوي وغيره وكان صدوقا ثقة رحمه الله تعالى
251 - ومنهم أبو زكريا يحيى بن قاسم بن هلال القرطبي الفقيه المالكي أحد الأئمة الزهاد كان يصوم حتى يخضر توفي سنة 272 وقيل سنة 278 ورحل إلى المشرق وسمع من عبد الله بن نافع صاحب مالك بن أنس ومن سحنون بن سعيد وغيرهما وكان فاضلا فقيها عابدا عالما بالمسائل وروى عنه أحمد بن خالد وكان يفضله ويصفه بالفضل والعلم وهو صاحب الشجرة قال عباس بن أصبغ كانت في داره شجرة تسجد لسجوده إذا سجد قاله ابن الفرضي رحمه الله تعالى ورضي عنه ونفعنا به 252 - ومنهم أبو بكر يحيى بن مجاهد بن عوانة الفزاري الإلبيري

الزاهد سكن قرطبة قال ابن الفرضي كان منقطع القرين في العبادة بعيد الاسم في الزهد حج وعني بعلم القرآن والقراءات والتفسير وسمع بمصر من الأسيوطي وابن الورد وابن شعبان وغيرهم وكان له حظ من الفقه والرواية إلا أن العبادة غلبت عليه وكان العمل أملك به ولا أعلمه حدث توفي رحمه الله تعالى سنة ست وستين وثلاثمائة ودفن في مقبرة الربض وصلى عليه القاضي محمد بن إسحاق بن السليم ثم صلى عليه حيان مرة ثانية رحمه الله تعالى وأفاض علينا من أنوار عنايته آمين 253 - ومنهم أبو بكر محمد بن أحمد بن إبراهيم الصدفي الإشبيلي الأديب البارع له نظم حسن وموشحات رائقة قرأ على الأستاذ الشلوبين وغيره ومدح الملوك ورحل من الأندلس فقدم ديار مصر ومدح بها بعض من كان يوصف بالكرم فوصله بنزر يسير فكر راجعا إلى المغرب فتوفي ببرقة رحمه الله تعالى ! وكان من النجباء في النحو وغيره
ومن نظمه من قصيدة
( ما بي موارد أمس بل مصادره ... اللحظ أوله واللحد آخره )
( أرسلت طرفي مرتادا فطل دمي ... روض من الحسن مطلول أزاهره )
( رعيت في خصبه لحظي فأعقبني ... جدبا بجسمي ما يرويه هامره )
( وبي وإن لم أكن بالذكر أشهره ... فالوصف فيه لفقد المثل شاهره )
وهي طويلة وأثنى عليه أثير الدين أبو حيان وأورد جملة من محاسن كلامه وبدائع نظامه رحم الله تعالى الجميع

254 - ومنهم أبو يحيى زكريا بن خطاب الكلبي التطيلي رحل سنة 293 فسمع بمكة كتاب النسب للزبير بن بكار من الجرجاني الذي حدث به عن علي بن عبد العزيز بن الجمحي عن الزبير وروى موطأ مالك بن أنس رواية أبي مصعب أحمد بن عبد الملك الزهري عن إبراهيم بن سعيد الحذاء وسمع بها من إبراهيم بن عيسى الشيباني والقزاز في آخرين وقدم الأندلس فكان الناس يرحلون إليه إلى تطيلة للسماع منه واستقدمه المستنصر الحكم وهو ولي عهد فسمع منه أكثر مروياته وسمع منه جماعة من أهل قرطبة وكان ثقة مأمونا ولي قضاء بلده تطيلة إحدى مدائن الأندلس بعد عمر بن يوسف بن الإمام 255 - ومنهم سعد الخير بن محمد بن سعد أبو الحسن الأنصاري البلنسي المحدث رحل إلى أن دخل الصين ولذا كان يكتب البلنسي الصيني وركب البحار وقاسى المشاق وتفقه ببغداد على أبي حامد الغزالي وسمع بها أبا عبد الله النعال وطرادا وغيرهما وبأصبهان أبا سعد المطرز وسكنها وتزوج بها وولدت له فاطمة بها ثم سكن بغداد وروى عنه ابن عساكر وابن السمعاني وأبو موسى المديني وأبو اليمن الكندي وأبو الفرج بن الجوزي وابنته فاطمة بنت سعد الخير في آخرين وتأدب على أبي زكريا التبريزي وتوفي في المحرم سنة 541 رحمه الله تعالى ببغداد وصلى عليه الغزنوي والشيخ الواعظ بجامع القصر وكان وصيه وحضر جنازته قاضي القضاة الزينبي والأعيان ودفن إلى جانب عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنهم أجمعين بوصية منه

256 - ومنهم أبو عثمان سعيد بن نصر بن عمر بن خلفون الإستجي سمع بقرطبة من قاسم بن أصبغ وابن أبي دليم وغيرهما ورحل فسمع بمكة من ابن الأعرابي وببغداد من أبي علي الصفار وجماعة وبها مات
257 - ومنهم أبو عثمان سعيد الأعناقي ويقال العناقي القرطبي كان ورعا زاهدا عالما بالحديث بصيرا بعلله سمع من محمد بن وضاح وصحبه ومن يحيى بن إبراهيم بن مزين ومحمد بن عبد السلام الخشني وغيرهم ورحل فلقي جماعة من أصحاب الحديث منهم نصر بن مرزوق كتب عنه مسند أسد بن موسى وغير ذلك من كتبه ويونس بن عبد الأعلى ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم والحارث بن مسكين في آخرين وحدث عنه أحمد بن خالد وابن أيمن ومحمد بن قاسم وابن أبي زيد في عدد كثير ومولده سنة 233 وتوفي سنة 305 بصفر
والأعناقي نسبة إلى موضع يقال له أعناق وعناق
258 - ومنهم أبو المطرف عبد الرحمن بن خلف التجيبي الإقليشي روى عن أبي عثمان سعيد بن سالم المجريطي وأبي ميمونة دراس بن إسماعيل فقيه فاس ورحل حاجا سنة 349 فسمع بمكة من أبي بكر الآجري وأبي حفص الجمحي وبمصر من أبي إسحاق بن شعبان وروى عنه كتاب الزاهي جميعه وقد قرئ عليه جميعه وحمل عنه ومولده سنة 303 رحمه الله تعالى

259 - ومنهم أبو الأصبع عبد العزيز بن علي المعروف بابن الطحان الإشبيلي المقريء ولد بإشبيلية سنة 498 ورحل فدخل مصر والشام وحلبا وتوفي بحلب بعد سنة 559 وله كتاب نظام الأداء في الوقف والابتداء ومقدمة في مخارج الحروف ومقدمة في أصول القراءات وكتاب الدعاء وكان من القراء المجودين الموصوفين بالإتقان ومعرفة وجوه القراءات وسمع الحديث على شريح بن محمد بن أحمد بن شريح الرعيني خطيب إشبيلية وأبي بكر يحيى بن سعادة القرطبي
وله شعر حسن منه قوله
( دع الدنيا لعاشقها ... سيصبح من رشائقها )
( وعاد النفس مصطبرا ... ونكب عن خلائقها )
( هلاك المرء أن يضحي ... مجدا في علائقها )
( وذو التقوى يذللها ... فيسلم من بوائقها )
وأخذ القراءات ببلده عن أبي العباس بن عيشون وشريح بن محمد وروى عنهما وعن أبي عبد الله بن عبد الرزاق الكلبي وروى مصنف النسائي عن أبي مروان بن مسرة وتصدى للإقراء ثم انتقل إلى فاس وحج ودخل العراق وقرأ بواسط القراءات وأقرأها أيضا ودخل الشام واشتهر ذكره وجل قدره وروى عنه أبو محمد عبد الحق الإشبيلي الحافظ وعلي بن يونس قال بعضهم سمعت غير واحد يقول ليس بالغرب أعلم بالقراءات من ابن الطحان قرأ عليه الأثير أبو الحسن محمد بن أبي العلاء وأبو طالب بن عبد السميع وغيرهما رحم الله تعالى الجميع
261 - ومنهم أبو الأصبغ عبد العزيز بن خلف المعافري قدم مصر سنة 502 وولد سنة 448 وحدث بالموطأ عن سليمان بن أبي القاسم أنبأنا أبو عمر بن عبد البر أنبأنا سعيد بن نصر عن قاسم بن أصبغ عن محمد بن وضاح عن يحيى بن يحيى عن مالك بن أنس إمام دار الهجرة رضي الله تعالى عنه
261 - ومنهم أبو محمد عبد العزيز بن عبد الله بن ثعلبة السعدي الشاطبي قدم مصر ودمشق طالب علم وسمع أبا الحسن بن أبي الحديد وأبا منصور العكبري وغيرهما وصنف غريب الحديث لأبي عبيد القاسم بن سلام على حروف المعجم وسمعه عليه أبو محمد الأكفاني وتوفي بأرض حوران من أعمال دمشق في رمضان سنة 465 رحمه الله تعالى ورضي عنه
262 - ومنهم الحكيم الطبيب أبو الفضل محمد عبد المنعم الغساني الجلياني وهو عبد المنعم بن عمر بن عبد الله بن أحمد بن خضر بن مالك بن حسان ولد بقرية جليانة من أعمال غرناطة سابع المحرم سنة 531 وقدم إلى القاهرة وسار إلى دمشق فسكنها مدة ثم سافر إلى بغداد فدخلها سنة 601 ونزل بالمدرسة النظامية وكتب الناس عنه كثيرا من نظمه وكان أديبا فاضلا له شعر مليح المعاني أكثره في الحكم والإلهيات وآداب النفوس والرياضيات وكان طبيبا حاذقا وله رياضات ومعرفة بعلم الباطن وله كلام مليح على طريق القوم وكان مليح السمت حسن الأخلاق لطيفا حاضر الجواب

ومات بدمشق سنة 602 وكان يقال له حكيم الزمان وأراد القاضي الفاضل أن يغض منه فقال له بحضرة السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب كم بين جليانة وغرناطة فقال مثل ما بين بيسان 8 وبيت المقدس
ومن شعره قوله
( خبرت بني عصري على البسط والقبض ... وكاشفتهم كشف الطبائع بالنبض )
( فأنتج لي فيهم قياسي تخليا ... عن الكل إذ هم آفة الوقت والعرض )
( ألازم كسر البيت خلوا وإن يكن ... خروج ففردا ملصق الطرف بالأرض )
( أرى الشخص من بعد فأغضي تغافلا ... كمشدوه بال في مهمته يمضي )
( ويحسبني في غفلة وفراستي ... على الفور من لمحي بما قد نوى تقضي )
( أجانبهم سلما ليسلم جانبي ... وليس لحقد في النفوس ولا بغض )
( تخليت عن قومي ولو كان ممكني ... تخليت عن بعضي ليسلم لي بعضي )
وقال
( قالوا نراك عن الأكابر تعرض ... وسواك زوار لهم متعرض )
( قلت الزيارة للزمان إضاعة ... وإذا مضى زمن فما يتعوض )
( إن كان لي يوما إليهم حاجة ... فبقدر ما ضمن القضاء تقيض )
وقال
( حاول مفازك قبل أن يتحولا ... فالحال آخرها كحالك أولا )
( إن المني من المنية لفظه ... لتدل في أصل البناء على البلى )
وسماه بعضهم عبد المنعم وذكره العماد في الخريدة وقال هو صاحب البديع البعيد والتوشيح والترشيح والترصيع والتصريع والتجنيس والتطبيق والتوفيق والتلفيق والتقريب والتقرير والتعريف والتعريب وهو مقيم

بدمشق وقد أتى العسكر المنصور الناصري سنة 586 بظاهر ثغر عكا وكتب إلى السلطان صلاح الدين وقد جرح فرسه
( أيا ملكا أفنى العداة حسامه ... ومنتجعا أقنى العفاة ابتسامه )
( لقاؤك يوما في الزمان سعادة ... فكيف بثاو في حماك حمامه )
( وعبدك شاك دينه وهو شاكر ... نداك الذي يغني الغمام غمامه )
( ولي فرس أصماه سهم فرده ... أثافي ربع بالثلاث قيامه )
( تعمر فيه بالجراحة ساحة ... وعطل منه سرجه ولجامه )
( أتينا لما عودتنا من مكارم ... يلوذ بها الراجي فيشفى غرامه )
( فرحماك غوث لا يغيب نصيره ... ونعماك غيث لا يغب انسجامه )
وله رحمه الله تعالى غير هذا وترجمته واسعة
263 - ومنهم الأستاذ أبو القاسم عبد الوهاب بن محمد بن عبد الوهاب بن عبد القدوس القرطبي مؤلف المفتاح في القراءات ومقرئ أهل قرطبة رحل وقرأ القراءات على أبي علي الأهوازي وبحران على أبي القاسم الريدي وبمصر على أبي العباس بن نفيس وبمكة على أبي العباس الكازريني وسمع بدمشق من أبي الحسن بن السمسار وكان عجبا في تحرير القراءات ومعرفة فنونها وكانت الرحلة إليه في وقته ولد سنة 403 ومات في ذي القعدة سنة 461 قرأ عليه أبو القاسم خلف بن النحاس وجماعة رحمه الله تعالى
264 - ومنهم عبيد الله وقيل عبد الله بغير تصغير ابن المظفر بن عبد الله بن محمد أبو الحكم الباهلي الأندلسي ولد بالمرية سنة 486

وحج سنة 516 وحج أيضا سنة 518 ودخل دمشق وقرأ بصعيد مصر وبالإسكندرية ثم مضى إلى العراق وأقام ببغداد يعلم الصبيان وخدم السلطان محمود بن ملك شاه سنة 521 وأنشأ له في معسكره مارستانا ينقل على أربعين جملا فكان طبيبه ثم عاد إلى دمشق ومات بها سنة 549 ودفن بباب الفراديس وكان ذا معرفة بالأدب والطب والهندسة وله ديوان شعر سماه نهج الوضاعة لأولي الخلاعة ذكر فيه جملة شعراء كانوا بمدينة دمشق كطالب الصوري ونصر الهيتي وغيرهما كعرقلة وفيه نزهات أدبية ومفاكهات غريبة ممزوج جدها بسخفها وهزلها بظرفها ورثى فيه أنواعا من الدواب وأنواعا من الأثاث وخلقا من المغنين والأطراف وشرح هذا الديوان ابنه الحكيم الفاضل أبو المجد محمد بن أبي الحكم الملقب بأفضل الدولة وكان كثير الهزل والمداعبة دائم اللهو والمطايبة وكان إذا أتاه الغلام وما به شيء فيجس نبضه ثم يقول له تصلح لك الهريسة وكان أعور فقال فيه عرقلة
( لنا طبيب شاعر أعور ... أراحنا من طبه الله )
( ما عاد في صبحة يوم فتى ... إلا وفي باقيه رثاه )
وله أيضا يرثيه
( يا عين سحي بدمع ساكب ودم ... على الحكيم الذي يكنى أبا الحكم )
( قد كان لا رحم الرحمن شيبته ... ولا سقى قبره من صيب الديم )
( شيخا يرى الصلوات الخمس نافلة ... ويستحل دم الحجاج في الحرم )
ومن كنايات أبي الحكم المستحسنة قوله
( ألم ترني أكابد فيك وجدي ... وأحمل منك ما لا يستطاع )

( إذا ما أنجم الجو استقلت ... ومال الدلو وارتفع الذراع )
ومن شعره قوله
( محاسن العالم قد جمعت ... في حسنه المستكمل البارع )
( وليس لله بمستنكر ... أن يجمع العالم في الجامع )
265 - ومنهم أبو الربيع سليمان بن إبراهيم بن صافي الغرناطي القيساني وقيسانة من عمل غرناطة الفقيه المالكي ولد سنة 564 وقدم القاهرة وناب في الحسبة وله شعر حسن توفي بالقاهرة سنة 634 رحمه الله تعالى
267 - ومنهم طالوت بن عبد الجبار المعافري الأندلسي دخل مصر وحج ولقي إمامنا مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه وعاد إلى قرطبة وكان ممن خرج على الحكم بن هشام بن عبد الرحمن من أهل ربض شقندة يريد خلعه وإقامة أخيه المنذر وزحفوا إلى قصره بقرطبة فحاربهم وقتلهم وفر من بقي منهم فاستتر الفقيه طالوت عاما عند يهودي ثم ترامى على صديقه أبي البسام الكاتب ليأخذ له أمانا من الحكم فوشى به إلى الحكم وأحضره إليه فعنفه ووبخه فقال له كيف يحل لي أن أخرج إليك وقد سمعت مالك بن أنس يقول سلطان جائر مدة خير من فتنة ساعة فقال ألله تعالى لقد سمعت هذا من مالك فقال طالوت اللهم إني قد سمعته فقال انصرف إلى منزلك وأنت آمن ثم سأله أين أستتر فقال عند يهودي مدة عام ثم إني قصدت هذا الوزير فغدر بي فغضب الحكم على أبي البسام وعزله عن وزارته وكتب عهدا أن لا يخدمه أبدا فرؤي أبو البسام بعد ذلك في فاقة وذل فقيل استجيبت فيه دعوة الفقيه طالوت رحمه

الله تعالى
267 - ومنهم أبو الحسن علي بن محمد بن علي بن محمد ضياء الدين ونظامه ابن خروف الأديب القيسي القرطبي القيذافي الشاعر قدم إلى مصر ثم سار إلى حلب ومات بها مترديا في جب حنطة سنة 602 وقيل في التي بعدها وقيل سنة خمس وستمائة وله شرح كتاب سيبويه وحمله إلى صاحب المغرب فأعطاه ألف دينار وله شرح جمل الزجاجي وكتب في الفرائض ورد على أبي زيد السهيلي وغير ذلك ومدح الأفضل ابن السلطان صلاح الدين ومدح الظاهر بن الناصر أيضا
وشعره جيد فمنه قوله في كأس
( أنا جسم للحميا ... والحميا لي روح )
( بين أهل الظرف أغدو ... كل يوم وأروح )

وقال في صبي حبس
( أقاضي المسلمين حكمت حكما ... غدا وجه الزمان به عبوسا )
( حبست على الدراهم ذا جمال ... ولم تسجنه إذ سلب النفوسا )
وقال
( ما أعجب النيل ما أحلى شمائله ... في ضفتيه من الأشجار أدواح )
( من جنة الخلد فياض على ترع ... تهب فيها هبوب الريح أرواح )
( ليست زيادته ماء كما زعموا ... وإنما هي أرزاق وأرباح )
والقيذافي بقاف ثم ياء آخر الحروف بعدها ذال معجمة ثم ألف وفاء وله رسالة كتب بها إلى بهاء الدين بن شداد بحلب يطلب منه فروة وهي
( بهاء الدين والدنيا ... ونور المجد والحسب )
( طلبت مخافة الأنواء ... من جدواك جلد أبي )
( وفضلك عالم أني ... خروف بارع الأدب )
( حلبت الدهر أشطره ... وفي حلب صفا حلبي )
ذو الحسب الباهر والنسب الزاهر يسحب ذيول سير السيراء ويحب النحاة من أجل الفراء ويمن على الخروف النبيه بجلد أبيه قاني الصباغ قريب عهد بالدباغ ما ضل طالب قرظه ولا ضاع بل ذاع ثناء صانعه وضاع إذا طهر إهابه يخافه البرد ويهابه أثيث خمائل الصوف يهزأ

بكل هوجاء عصوف ما في اللباس له ضريب إذا نزل الجليد والضريب ولا في الثياب له نظير إذا عري من ورقه الغصن النضير والمولى يبعثه فرجي النوع أرجي الضوع يكون تارة لحافا وتارة بردا وهو في الحالين يحيى حرا ويميت بردا لا كطيلسان ابن حرب ولا كجلد عمرو الممزق بالضرب إن عزاه السواد إلى حام فحام أو نماه البياض إلى سام فسام كأنه من جلد جمل الحرباء الذي يرعى القمر والنجم لا من جلد السخلة الجرباء التي ترعى الشجر والنجم لا زال مهديه سعيدا ينجز للأخيار وعدا وللأشرار وعيدا بالمنة والطول والقوة والحول
268 - ومنهم مالك بن مالك من أهل جيان رحل حاجا فأدى الفريضة وسكن حلب ولقي عبد الكريم بن عمران وأنشد له قوله
( يا رب خذ بيدي مما دفعت له ... فلست منه على ورد ولا صدر )
( الأمر ما أنت رائيه وعالمه ... وقد عتبت ولاعتب على القدر )
( من يكشف السوء إلا أنت بارئنا ... ومن يزيل بصفو حالة الكدر )
269 - ومنهم أبو علي بن خميس وهو منصور بن خميس بن محمد بن إبراهيم اللخمي من أهل المرية سمع من أبي عبد الله البوني وابن صالح وأخذ عنهما القراءات وروى أيضا عن الحافظ القاضي أبي بكر بن العربي وأبوي القاسم ابن رضا وابن ورد وأبي محمد الرشاطي وأبي الحجاج القضاعي وأبي محمد عبد الحق بن عطية وأبي عمرو الخضر بن عبد الرحمن وأبي القاسم عبد الرحمن بن محمد الخزرجي وغيرهم ورحل حاجا فنزل الإسكندرية

وسمع منه أبو عبد الله بن عطية الداني سنة 596 وحدث عنه بالإجازة أبو العباس العزفي وغيره 270 - ومنهم منصور بن لب بن عيسى الأنصاري من أهل المرية يكنى أبا علي أخذ القراءات ببلده عن ابن خميس المذكور قبله ورحل بعده فنزل الإسكندرية وأجازه أبو الطاهر السلفي في صغره وقد أخذ عنه فيما ذكر بعضهم ومولده سنة 571 رحمه الله تعالى
271 - ومنهم مفرج بن حماد بن الحسين بن مفرج المعافري من أهل قرطبة وهو جد ابن مفرج صاحب كتاب الاحتفال بعلم الرجال صحب المذكور محمد بن وضاح في رحلته الثانية وشاركه في كثير من رجاله وصدر عن المشرق معه فاجتهد في العبادة وانتبذ عن الناس ثم كر راجعا إلى مكة عند موت ابن وضاح فنزلها واستوطنها إلى أن مات فقبره هنالك
وقال في حقه أبو عمر عفيف إنه كان من الصالحين رحل فحج وجاور بمكة نحو عشرين سنه إلى أن مات بها رحمه الله تعالى
272 - ومنهم محب بن الحسين من أهل الثغر الشرقي كانت له رحلة حج فيها وسمع بالقيروان من أبي عبد الله بن سفيان الكتاب الهادي في القراءات من تأليفه وكان رجلا صالحا حدث عنه أبو عبد الله محمد بن عبد

الملك التجيبي من شيوخ أبي مروان بن الصيقل
273 - ومنهم مساعد بن أحمد بن مساعد الأصبحي من أهل أوريولة يكنى أبا عبد الرحمن ويعرف بابن زعوقة روى عن ابن أبي تليد وابن جحدر والحافظين أبي علي الصدفي وأبي بكر بن العربي وكتب إليه أبو بكر بن غالب بن عطية ورحل حاجا في سنة أربعة وتسعين وأربعمائة فأدى الفريضة سنة خمس بعدها ولقي بمكة أبا عبد الله الطبري فسمع منه صحيح مسلم مشتركا في السماع مع أبي محمد بن أبي جعفر الفقيه ولقي أبا محمد بن العرجاء وأبا بكر بن الوليد الطرطوشي وأصحاب الإمام أبي حامد الغزالي وأبا عبد الله المازري وجماعة سواهم ساوى بلقائهم مشيخته وانصرف إلى بلده فسمع منه الناس وأخذوا عنه لعلو روايته وكان من أهل المعرفة والصلاح والورع وممن حدث عنه من الجلة أبو القاسم بن بشكوال وأبو الحجاج الثغري الغرناطي وأبو محمد عبد المنعم بن الفرس وغيرهم وأغفله ابن بشكوال فلم يذكره في الصلة مع كونه روى عنه وقال تلميذه أبو الحجاج الثغري الغرناطي أخبرني أبو سليمان بن حوط الله وغيره عنه قال أخبرني الحاج أبو عبد الرحمن بن مساعد رضي الله تعالى عنه أنه لقي بالمشرق امرأة تعرف بصباح عند باب الصفا وكان يقرأ عليها بعض التفاسير فجاء بيت شعر شاهد فسألت هل له صاحب فسألوا الشيخ أبا محمد بن العرجاء فقال الشيخ لا أذكر له صاحبا فأنشدت
( طلعت شمس من أحبك ليلا ... واستضاءت فما لها من مغيب )
( إن شمس النهار تغرب بالليل ... وشمس القلوب دون غروب )
ولد في صفر سنة 468 وتوفي بأوريولة سنة 545 قاله ابن سفيان

274 - ومنهم أبو حبيب نصر بن القاسم
قال ابن الأبار أظنه من أهل غرناطة له رحلة حج فيها وسمع من أبي الطاهر السلفي وحدث عنه عن ابن فتح بمسند الجوهري انتهى
275 - ومنهم النعمان بن النعمان المعافري من أهل ميورقة منسوب إلى جده رحل حاجا فأدى الفريضة وجاور بمكة ثم قفل إلى بلده واعتزل الناس وكان يشار إليه بإجابة الدعوة وتوفي سنة 616 رحمه الله تعالى ! ونفعنا به !
276 - ومنهم نعم الخلف بن عبد الله بن أبي ثور الحضرمي من أهل طرطوشة أو ناحيتها رحل إلى المشرق وأدى الفريضة ولقي بمكة أبا عبد الله الأصبهاني فسمع منه سنة 422 حدث عنه ابنه القاسم بن نعم الخلف بيسير 277 - ومنهم نابت - بالنون - ابن المفرج بن يوسف الخثعمي أصله من بلنسية وسكن مصر يكنى أبا الزهر قال السلفي قدم مصر بعد خروجي منها وتفقه على مذهب الشافعي وتأدب وقال الشعر الفائق وكتب إلي بشيء من شعره ومات في رجب سنة 545 بمصر
278 - ومنهم ضمام بن عبد الله الأندلسي رحل إلى المشرق

ودخل بغداد وهو ممن يروي عن عبد السلام بن مسلمة الأندلسي
وممن روى عن ضمام أبو الفرج أحمد بن القاسم الخشاب البغدادي من شيوخ الدارقطني قال ابن الأبار هكذا وقع في نسخة عتيقة من تأليف الدارقطني في الرواة عن مالك في باب مسلمة منه ضمام - بالضاد المعجمة - وهكذا ثبت في رواية أبي زكريا بن مالك بن عائذ عن الدارقطني وقال فيه غيره همام بن عبد الله - بالهاء وتشديد الميم - وفي حرف الهاء أثبته أبو الوليد بن الفرضي من تاريخه والأول عندي أصح والله تعالى أعلم انتهى
279 - ومنهم ضرغام بن عروة بن حجاج بن أبي فريعة واسمه زيد مولى عبد الرحمن بن معاوية والداخل معه إلى الأندلس من أهل لبلة له رحلة إلى المشرق وكان فقيها ذكره الرازي
280 - ومنهم عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عامر بن أبي عامر المعافري من أهل قرطبة وأصله من الجزيرة الخضراء وهو والد المنصور بن أبي عامر ويكنى أبا حفص سمع الحديث وكتبه عن محمد بن عمر بن لبابة وأحمد بن خالد ومحمد بن فطيس وغيرهم ورحل إلى المشرق فأدى الفريضة وكان من أهل الخير والدين والصلاح والزهد والقعود عن السلطان أثنى عليه الرواية أبو محمد الباجي وقال كان لي خير صديق أنتفع به وينتفع بي وأقابل معه كتبه وكتبي ومات منصرفه من حجه ودفن بمدينة طرابلس المغرب وقيل بموضع يقال له رقادة وكان رجلا عالما صالحا وقال بعضهم إنه توفي في آخر خلافة عبد الرحمن الناصر

281 - ومنهم أبو محمد عبد الله بن حمود الزبيدي الإشبيلي ابن عم أبي بكر محمد بن الحسن الزبيدي اللغوي كان من مشاهير أصحاب أبي علي البغدادي ورحل إلى المشرق فلم يعد إلى الأندلس ولازم السيرافي في بغداد إلى أن توفي فلازم بعده صاحبه أبا علي الفارسي ببغداد والعراق وحيثما جال واتبعه إلى فارس وحكى أبو الفتوح الجرجاني أن أبا علي البغدادي غلس لصلاة الصبح في المسجد فقام إليه أبو محمد الزبيدي من مذود كان لدابته خارج الدار قد بات فيه أو أدلج إليه ليكون أول وارد عليه فارتاع منه وقال ويحك ! من تكون قال أنا عبد الله الأندلسي فقال له إلى كم تتبعني والله إن على وجه الأرض أنحى منك وكان من كبار النحاة وأهل المعرفة التامة والشعر وجمع شرحا لكتاب سيبويه ويقال إنه توفي ببغداد سنة 372
282 - ومنهم عبد الله بن رشيق القرطبي رحل من الأندلس فأوطن القيروان واختص بأبي عمران الفاسي وتفقه به وكان أديبا شاعرا عفيفا خيرا وفي شيخه أبي عمران أكثر شعره ورحل حاجا فأدى الفريضة وتوفي في انصرافه بمصر سنة 419 وأنشد له ابن رشيق في الأنموذج قوله رحمه الله تعالى
( خير أعمالك الرضى ... بالمقادير والقضا )

( بينما المرء ناضر ... قيل قد مات وانقضى )
وقوله
( سأقطع حبلي من حبالك جاهدا ... وأهجر هجرا لا يجر لنا عرضا )
( وقد يعرض الإنسان عمن يوده ... ويلقى ببشر من يسر له البغضا ) قال في الأنموذج وأراد الحج فناله وجع فمات بمصر بعد اشتهاره فيها بالعلم والجلالة وقد بلغ عمره نحو الأربعين سنة رحمه الله تعالى وهو مخالف لما قدمناه من أنه أدى الفريضة وقد ذكر ابن الأبار العبارتين والله تعالى أعلم
283 - ومنهم أبو بكر اليابري ويكنى أيضا أبا محمد وهو عبد الله بن طلحة بن محمد بن عبد الله أصله من يابرة ونزل هو إشبيلية وروى عن أبي الوليد الباجي وعن جماعة بغرب الأندلس منهم أبو بكر بن أيوب وأبو الحزم بن عليم وأبو عبد الله بن مزاحم البطليوسيون وغيرهم وكان ذا معرفة بالنحو والأصول والفقه وحفظ التفسير والقيام عليه وحلق به مدة بإشبيلية وغيرها وهو كان الغالب عليه مع القصص فيسرد منه جملا على العامة وكان متكلما وله رد على أبي محمد بن حزم وكان أحد الأئمة بجامع العدبس ورحل إلى المشرق فروى عن أبي بكر محمد بن زيدون بن علي كتابه المؤلف في الحديث المعروف بالزيدوني وألف كتابا في شرح صدر رسالة ابن أبي زيد وبين ما فيها من العقائد وله مجموعة في الأصول والفقه منها كتاب سماه المدخل إلى كتاب آخر سماه سيف الإسلام على مذهب مالك الإمام ألفه للأمير علي بن تميم بن المعز الصنهاجي صاحب المهدية وذكر

في فصل الحج منه أنه رحل إلى المهدية سنة 514 واستوطن مصر مدة ثم رحل إلى مكة وبها توفي رحمه الله تعالى وروى عنه أبو المظفر الشيباني وأبو محمد العثماني وأبو الحجاج يوسف بن محمد القيرواني وأبو عمرو عثمان بن فرج العبدري وأبو محمد بن صدقة المنكبي وأبو عبد الله بن يعيش البلنسي وغيرهم وكان سماع أبي الحجاج منه موطأ مالك سنة 516 رحم الله تعالى الجميع
284 - ومنهم أبو محمد عبد الله بن محمد بن مرزوق اليحصبي الأندلسي رحل حاجا فسمع منه بالإسكندرية أبو الطاهر السلفي كتاب طبقات الأمم لأبي القاسم صاعد بن أحمد الطليطلي وحدث به عنه عن ابن برال عن صاعد
285 - ومنهم أبو محمد عبد الله بن محمد الصريحي المرسي ويعرف بابن مطحنة روى عن أبي بكر بن الفرضي النحوي وتأدب به ورحل إلى المشرق ولقي أبا محمد العثماني وغيره وحج وقعد لتعليم الآداب وممن أخذ عنه أبو عبد الله محمد بن عبد السلام وأبو عبد الله المكناسي وغيرهما وأنشد رحمه الله تعالى قال أنشدني أبو محمد عبد الله بن البياسي بالإسكندرية لنفسه
( يمد الدهر من أجلي وعمري ... كما أني أمد من المداد )
( لنا خطان مختلفان جدا ... كما اختلف الموالي والمعادي )
( فأكتب بالسواد على بياض ... ويكتب بالبياض على السواد )

وهذا نظير قول الآخر
( ولي خط وللأيام خط ... وبينهما مخالفة المداد )
( فأكتبه سوادا في بياض ... وتكتبه بياضا في سواد )
وبعضهم ينسب الأبيات الثلاثة السابقة للسلفي الحافظ فالله تعالى أعلم 286 - ومنهم أبو محمد عبد الله بن عيسى الشلبي سمع من الصدفي وغيره وكان من أهل الحفظ للحديث ورجاله والعلم بالأصول والفروع ومسائل الخلاف وعلم العربية والهيئة مع الخير والدين والزهد وامتحن بالأمراء في قضاء بلده بعد أن تقلده نحو تسعة أعوام لإقامته الحق وإظهاره العدل حتى أدى ذلك إلى اعتقاله بقصر إشبيلية ثم سرح فرحل حاجا إلى المشرق ودخل المهدية فلقي بها المازري وأقام في صحبته نحو ثلاث سنين ثم انتقل إلى مصر وحج سنة 527 وأقام بمكة مجاورا وحج ثانية سنة 528 ولقي بمكة أبا بكر عتيق بن عبد الرحمن الأوريولي في هذه السنة فحمل عنه ودخل العراق وخراسان وأقام بها أعواما وطار ذكره في هذه البلاد وعظم شأنه في العلم والدين وكان من بيت شرف وجاه في بلده عريض مع سعة الحال والمال وتوفي بهراة سنة 551 وقيل إن وفاته سنة 548 وذكره العماد في الخريدة والسمعاني في الذيل وأنشد له
( تلونت الأيام لي بصروفها ... فكنت على لون من الصبر واحد )
( فإن أقبلت أدبرت عنها وإن نأت ... فأهون بمفقود لأكرم فاقد )
وولد سنة 484 بشلب رحمه الله تعالى
287 - ومنهم أبو محمد عبد الله بن موسى الأزدي المرسي ويعرف ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! !

بابن برطلة سمع من صهره القاضي الشهيد أبي علي الصدفي ورحل حاجا سنة 510 فأدى الفريضة وسمع من الطرطوشي والأنماطي والسلفي وغيرهم وانصرف إلى مرسية بلده وكان حسن السمت خاشعا مخبتا خيرا متواضعا نبيها نزها سالم الباطن وحكى عن شيخه أبي عبد الله الرازي عن أبيه أنه أخبره أن قاضي البرلس وكان رجلا صالحا خرج ذات ليلة إلى النيل فتوضأ وأسبغ وضوءه ثم قام فقرن قدميه وصلى ما شاء الله تعالى أن يصلي فسمع قائلا يقول
( لولا أناس لهم سرد يصومونا ... وآخرون لهم ورد يقومونا )
( لزلزلت أرضكم من تحتكم سحرا ... لأنكم قوم سوء لا تبالونا )
قال فتجوزت في صلاتي وأدرت طرفي فما رأيت شخصا ولا سمعت حسا فعلمت أن ذلك زاجر من الله تعالى
وقال ابن برطل رحمه الله تعالى أنشدني أبو عامر قال دخلت بعض مراسي الثغر فوجدت في حجر منقوش هذه الأبيات
( نزلت ولي أمل عودة ... ولكنني لست أدري متى )
( ودافعني قدر لم أطق ... دفاعا لمكروهه إذ أتى )
( ومن أمره في يدي غيره ... سيغلب إن لان أو إن عتا )
( فيا نازلا بعدنا ههنا ... نحييك إن كنت نعم الفتى )
فسألت عن منشدها فقيل لي هو أبو بكر بن أبي درهم الوشقي وكان قد حج وأراد العودة فقال هذه الأبيات ورواها بعضهم رحلت مكان نزلت وهو أصوب وأبدل قوله يا نازلا بيا ساكنا والخطب سهل

فيه وبعض يقول إن الأبيات وجدت بجامع مصر والله تعالى أعلم
289 - ومنهم أبو محمد عبد الله بن محمد بن خلف بن سعادة الداني الأصبحي لازم ابن سعد الخير واحتذى أول أمره مثال خطه فقاربه وسمع منه ثم رحل إلى المشرق فسمع بالإسكندرية من أبي الطاهر بن عوف والسلفي وغير واحد قال التجيبي كان معنا بالإسكندرية بالعادلية منها وبقراءته سمعنا صحيح البخاري على السلفي سنة 573 قال وأنشدنا لشيخه الأستاذ أبي الحسن علي بن إبراهيم بن سعد الخير البلنسي
( يا لاحظا تمثال نعل نبيه ... قبل مثال النعل لا متكبرا )
( والثم له فلطالما عكفت به ... قدم النبي مروحا ومبكرا )
( أولا ترى أن المحب مقبل ... طللا وإن لم يلف فيه مخبرا )
وقد سبق ابن سعادة أبو عبد الله وهو غير هذا والله تعالى أعلم
289 - ومنهم أبو محمد عبد الله بن يوسف القضاعي المري سمع من أبي جعفر بن غزلون صاحب الباجي وغير واحد ورحل إلى المشرق فسمع بالإسكندرية من السلفي والرازي وتجول هنالك وأخذ عنه أبو الحسن بن المفضل المقدسي وغير واحد وقال ابن المفضل أنشدني المذكور قال أنشدني أبو محمد بن صارة
( وكوكب أبصر العفريت مسترقا ... للسمع فانقض يدني خلفه لهبه )

( كفارس حل إعصار عمامته ... فجرها كلها من خلفه عذبه )
290 - شهاب الدين بن أحمد بن عبد الله ابن مهاجر الوادي آشي الحنفي 291 - ومنهم شهاب الدين أحمد بن عبد الله بن مهاجر الوادي آشي الحنفي سكن طرابلس الشام ثم انتقل إلى حلب وأقام بها وصار من العدول المبرزين في العدالة بحلب يعرف النحو والعروض ويشتغل فيهما وله انتماء إلى قاضي القضاة الناصر بن العديم قال الصفدي رأيته بحلب أيام مقامي بها سنة 723 فرأيته حسن التودد وأنشدني لنفسه من لفظه
( ما لاح في درع يصول بسيفه ... والوجه منه يضيء تحت المغفر )
( إلا حسبت البحر مد بجدول ... والشمس تحت سحائب من عنبر )
قال الصفدي جمع هذا المقطوع بين قول ابن عباد
( ولما اقتحمت الوغى دارعا ... وقنعت وجهك بالمغفر )
( حسبنا محياك شمس الضحى ... عليها سحاب من العنبر )
وبين قول أبي بكر الرصافي
( لو كنت شاهده وقد غشي الوغى ... يختال في درع الحديد المسبل )
( لرأيت منه والقضيب بكفه ... بحرا يريق دم الكماة بجدول )
وقال يمدح الشيخ كمال الدين محمد بن الزملكاني وقد توجه إلى حلب قاضي القضاة

( يمن ترنم فوق الأيك طائره ... وطائر عمت الدنيا بشائره )
( وسؤدد أصبح الإقبال ممتثلا ... في أمره ما أخوه العز آمره )
( ومنها
( من مخبر عني الشهباء أن كمال ... الدين قد شيدت فيه مقاصره )
( وأن تقليده الزاهي وخلعته التي ... تطرز عطفيها مآثره )
( بالنفس أفديك من تقليد مجتهد ... سواه يوجد في الدنيا مناظره )
( أنشدت حين أدار البشر كأس طلى ... حكت أوائله صفوا أواخره )
( وقد بدت في بياض الطرس أسطره ... سودا لتبدي ما أهدت محابره )
( ساق تكون من صبح ومن غسق ... فابيض خداه واسودت غدائره )
( وخلعة قلت إذ لاحت لتزرينا ... بالروض تطفو على نهر أزاهره )
( وقد رآها عدو كان يضمر لي ... من قبل سوءا فخانته ضمائره )
( ورام صبرا فأعيته مطالبه ... وغيض الدمع فانهلت بوادره )
( بعودة الدولة الغراء ثالثة ... أمنت منك ونام الليل ساهره )
وقال أيضا
( تسعر في الوغى نيران حرب ... بأيديهم مهندة ذكور )
( ومن عجب لظى قد سعرتها ... جداول قد أقلتها بدور )
وقال ملغزا في قالب لبن
( ما آكل في فمين ... يغوط من مخرجين )
( مغرى بقبض وبسط ... وما له من يدين )
( ويقطع الأرض سعيا ... من غير ما قدمين )

وخمس لامية العجم مدحا في رسول الله قال الصفدي ولما كنت في حلب كتب إلى أبياتا انتهى
291 - ومنهم أبو جعفر أحمد بن صابر القيسي قال أبو حيان كان المذكور رفيقا للأستاذ أبي جعفر بن الزبير شيخنا وكان كاتبا مترسلا شاعرا حسن الخط على مذهب أهل الظاهر وكان كاتب أبي سعيد فرج بن السلطان الغالب بالله بن الأحمر ملك الأندلس وسبب خروجه من الأندلس أنه كان يرفع يديه في الصلاة على ما صح في الحديث فبلغ ذلك السلطان أبا عبد الله فتوعده بقطع يديه فضج من ذلك وقال إن إقليما تمات فيه سنة رسول الله حتى يتوعد بقطع اليد من يقيمها لجدير أن يرحل منه فخرج وقدم ديار مصر وسمع بها الحديث وكان فاضلا نبيلا ومن شعره أتنكر أن يبيض رأسي لحادث ... من الدهر لا يقوى له الجبل الراسي )
( وكان شعارا في الهوى قد لبسته ... فرأسي أمي وقلبي عباسي )
قلت لو قال شيبي لكان الغاية
وأنشد له بعضهم
( فلا تعجبا ممن عوى خلف ذي علا ... لكل علي في الأنام معاويه ) قلت لا يخفى ما فيه من عدم سلوك الأدب مع الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين ويرحم الله بعض الأندلسيين حيث قال في رجز كبير
( ومن يكن يقدح في معاويه ... فذاك كلب من كلاب عاويه )

وأنشد أبو حيان للمذكور
( أرى الدهر ساد به الأرذلون ... كالسيل يطفو عليه الغثا )
( ومات الكرام وفات المديح ... فلم يبق للقول إلا الرثا )
وأنشد له أيضا
( لولا ثلاث هن والله من ... أكبر آمالي في الدنيا )
( حج لبيت الله أرجو به ... أن يقبل النية والسعيا )
( والعلم تحصيلا ونشرا إذا ... رويت أوسعت الورى ريا )
( وأهل ود أسأل الله أن ... يمتع بالبقيا إلى اللقيا )
( ما كنت أخشى الموت أنى أتى ... بل لم أكن ألتذ بالمحيا )
وقال أبو حيان في هذه المادة
( أما إنه لولا ثلاث أحبها ... تمنيت أني لا أعد من الأحيا )
( فمنها رجائي أن أفوز بتوبة ... تكفر لي ذنبا وتنجح لي سعيا )
( ومنهن صوني النفس عن كل جاهل ... لئيم فلا أمشي إلى بابه مشيا )
( ومنهن أخذي بالحديث إذا الورى ... نسوا سنة المختار واتبعوا الرأيا )
( أتترك نصا للرسول وتقتدي ... بشخص لقد بدلت بالرشد 7 الغيا )
292 - ومنهم الأستاذ أبو القاسم ابن الإمام القاضي أبي الوليد الباجي سكن سرقسطة وغيرها وروى عن أبيه معظم علمه وخلفه بعد وفاته في حلقته وغلب عليه علم الأصول والنظر وله تآليف تدل على حذقه منها العقيدة في المذاهب السديدة ورسالة الاستعداد للخلاص من المعاد

وكان غاية في الورع توفي بجدة بعد منصرفه من الحج سنة 493 رحمه الله تعالى 294 - ومنهم الإمام الفاضل الأديب أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الساحلي الغرناطي قال العز بن جماعة قدم علينا من المغرب سنة 724 ثم رجع إلى المغرب في هذه السنة وبلغنا أنه توفي بمراكش سنة نيف وأربعين وسبعمائة وأنشد والدي قصيدة من نظمه امتدحه بها وأنا أسمع ومن خطه نقلت وهي
( قفا موردا عينا جرت بعدكم دما ... أناضي أسفار طوين على ظما )
( غدون أهلات تناقل أنجما ... ورحن حنيات تفوق أسهما )
( يجشمها الحادي الأمرين حسرا ... ويوطئها الحادي الأحرين هيما )
( على منسميها للشقائق منبت ... وفي فمويها للشقاشق مرتمى )
إلى أن قال
( وتعسا لآمال جهام سحابها ... تزجى ركاما ما استهل ولا همى ) تجاذبها نفس تجيش نفيسة ... ومن لم يجد إلا صعيدا تيمما )
( فهل ذمم يرعاه ليل طويته ... طواني سرا بين جنبيه منهما )
( أقبل منه للبروق مباسما ... وأرشف من بهماء ظلمائه لمى )
( إلى أن تجلى من كنانة بدرها ... فعرس ركبي في حماه وخيما )

( ثمال اليتامى حيث ليس مظلل ... وكهف الأيامى أيما عز مرتمى )
ومنها
( فيا كفه هل أنت أم غيث ديمة ... أسالت عبابا في ثرى الجود عيلما )
( ويا سعيه يهنيك أجر ثنى به ... على معطفي علياه بردا مسهما )
( قضى بمنى أوطار نفس كريمة ... وروى صداها حين حل بزمزما )
( وناداه داعي الحق حي على الهدى ... فأسرج طوعا في رضاه وألجما )
( فلله ما أهدى وأرشد واهتدى ... ولله ما أعطى وأوفى وأنعما )
ومنها
( أمت بآداب وعلم كليهما ... أقاما لديك الدعي فرضا وألزما )
وهي طويلة
294 - ومن الراحلين من الأندلس الوليد بن هشام من ولد المغيرة بن عبد الرحمن الداخل فيما حكى بعض المؤرخين خرج من الأندلس على طريقة الفقر والتجرد ووصل برقة بركوة لا يملك سواها فعرف بأبي ركوة وأظهر الزهد والعبادة واشتغل بتعليم الصبيان وتلقينهم القرآن وتغيير المنكر حتى خدع البربر بقوله وفعله وزعم أن مسلمة بن عبد الملك بشر بخلافته بما كان عنده من علم الحدثان وكان يقال عن مسلمة إنه أخذ علم الحدثان عن خالد بن يزيد بن معاوية وأخرج لهم أرجوزة أسندها إلى مسلمة ومنها في وصفه
( وابن هشام قائم في برقه ... به ينال عبد شمس حقه )

( يكون في بربرها قيامه ... وقرة العرب لها إكرامه )
واتفق أن قرة انحرفوا عن الحاكم فمالوا إليه وحصروا معه مدينة برقة حتى فتحوها وخطبوا له فيها بالخلافة وكان قيامه في رجب سنة 397 فهزم عسكر باديس الصنهاجي صاحب إفريقية وعسكر الحاكم بمصر وأحيا أمره وخاطبه بطانة الحاكم لكثرة خوفهم من سفك الحاكم الدماء ورغبوه في الوصول إلى أوسيم وهو مكان بالجيزة قبالة القاهرة فلما وصل إليها قام بمحاربته الفضل بن صالح القيام المشهور إلى أن هزم أبا ركوة ثم جاء به إلى القاهرة فأمر الحاكم أن يطاف به على جمل ثم قتل صبرا في 13 رجب سنة 399 ولما حصل في يد الحاكم كتب إليه
( فررت ولم يغن الفرار ومن يكن ... مع الله لم يعجزه في الأرض هارب )
( ووالله ما كان الفرار لحاجة ... سوى فزعي الموت الذي أنا شارب )
( وقد قادني جرمي إليك برمتي كما اجتر ميتا في رحى الحرب سالب )
( وأجمع كل الناس أنك قاتلي ... فيا رب ظن ربه فيه كاذب )
( وما هو إلا الانتقام وينتهي ... وأخذك منه واجبا وهو واجب )
ولأبي ركوة المذكور أشعار كثيرة منها قوله
( بالسيف يقرب كل أمر ينزح ... فاطلب به إن كنت ممن يفلح )
وله
( على المرء أن يسعى لما فيه نفعه ... وليس عليه أن يساعده الدهر ) وقوله
( إن لم أجلها في ديار العدا ... تملأ وعر الأرض والسهلا )
( فلا سمعت الحمد من قاصد ... يوما ولا قلت له أهلا )

وله غير ذلك مما يطول وخبره مشهور
295 - ومنهم أبو زكريا الطليطلي يحيى بن سليمان قدم إلى الإسكندرية ثم رحل إلى الشام واستوطن حلب وله ديوان شعر أكثر فيه من المديح والهجاء قال بعض من طالعه ما رأيته مدح أحدا إلا وهجاه وله مصنفات في الأدب ومن نظمه قوله
( أرض سقت غيطانها أعطانها ... وزهت على كثبانها قضبانها ) ومنها
( فتكت بألباب الكماة فسيفها ... من طرفها وسنانها وسنانها )
( لم يبق شخص بالبسيطة سالما ... إلا سبى إنسانه إنسانها ) ومنها
( وتصاحبت وتجاوبت أطيارها ... وتداولت وتناولت ألحانها )
( وتنسمت وتبسمت أيامها ... وتهللت وتكللت أزمانها )
( بمديرها ومنيرها ونميرها ... ومعيرها حسنا جلاه عيانها )
296 - أبو بكر يحيى بن عبد الله بن محمد القرطبي المعروف بالمغيلي سمع من محمد بن عبد الملك بن أيمن وقاسم بن أصبغ وغيرهما ورحل فسمع من أبي سعيد بن الأعرابي وكان بصيرا بالعربية والشعر ومؤلفا جيد النظر حسن الاستنباط حدث وتوفي فجأة في شهر ربيع الأول سنة 362 قاله ابن الفرضي

297 - ومنهم الإمام المحدث أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن سلمة الأنصاري الغرناطي قدم المشرق وتوفي بمصر سنة 703 عن نحو خمسين سنة بالبيمارستان المنصوري قال قاضي القضاة عبد العزيز بن جماعة الكناني في كتابه نزهة الألباب أنشدنا المذكور لنفسه بالقاهرة بعد قدومه من مكة والمدينة وقد رام أن يعود إليهما فلم يتيسر له
( لئن بعدت عني ديار الذي أهوى ... فقلبي على طول التباعد لا يقوى )
( فحدث رعاك الله عن عرب رامة ... فإني لهم عبد على السر والنجوى )
( فإن مت شوقا في الهوى وصبابة ... فيا شرفي إن مت في حب من أهوى )
( فيا أيها العذال كفوا ملامكم ... فما عندكم بعض الذي بي من الشكوى )
( ويا جيرة الحي الذي ولهي بهم ... أما ترحموا صبا يحن إلى حزوى )
( ويا أهل ذياك الحمى وحياتكم ... يمين وفي صادق القول والدعوى )
( ملكتم قيادي فارحموا وترفقوا ... فأنتم مرادي لا سعاد ولا علوى )
( فما لي سواكم سادتي لا عدمتكم ... فجودوا بوصل أنتم الغاية القصوى )
انتهى
298 - ومنهم الفاضل الأديب أبو عبد الله محمد بن علي بن يحيى بن علي الغرناطي قال ابن جماعة في الكتاب المسمى قريبا أنشدني المذكور لنفسه على قبر سيدنا حمزة رضي الله تعالى عنه
( يا سيد الشهداء بعد محمد ... ورضيع ذي المجد المرفع أحمد )
( يا ابن الأعزة من خلاصة هاشم ... سرج المعالي والكرام المجد )
( يا أيها البطل الشجاع المحتمي ... دين الإله ببأسه المستأسد ...
( يا نبعة الشرف الأصيل المعتلي ... يا ذروة الحسب الأثيل الأتلد )

( يا نجدة الملهوف في قحم الوغى ... عند التهاب جحيمها المتوقد )
( يا غيث ذي الأمل البعيد مرامه ... يا غوث موتور الزمان الأنكد )
( يا من لعظم مصابه خص الأسى ... قلب الرسول وعم كل موحد )
( يا حمزة الخير المؤمل نفعه ... يوم الهياج وعند فقد المنجد )
( وافاك يا أسد الإله وسيفه ... وفد ألموا من حماك بمعهد )
( جئناك يا عم الرسول وصنوه ... قصد الزيارة فاحتفل بالقصد )
( واسأل إلهك في اغتفار ذنوبنا ... شيم المزور قيامه بالعود )
( لذنا بجانبك الكريم توسلا ... وكذا العبيد ملاذهم بالسيد )
( فاشفع لضيفك فالكريم مشفع ... عند الكريم ومن يشفع يقصد )
( يا ابن الكرام المكرمين نزيلهم ... أهل المكارم والعلا والسؤدد )
( نزل الضيوف جناب ساحتك التي ... منها يؤمل كل عطف مسعد )
( فاجعل أبا يعلى قرانا عطفة ... وارغب لربك في هدانا واقصد )
( فعسى يمن على الجميع بتوبة ... يهدي بها نهج الطريق الأرشد )
( فقد اعتمدنا منك خير وسيلة ... نرجو بها حسن التجاوز في غد )
( لم لا تؤم وأنت عم محمد ... ولدينه قد صلت صولة أيد )
( وصحبته ونصرته وعضدته ... وذببت عنه باللسان وباليد )
( وبذلت نفسك في رضاه بجنة ... فقبلت في ذات الإله الأوحد )
( فجزاك عنا الله خير جزائه ... وسقا ثراك حيا الغمام المرعد )
( وعلى رسول الله منه سلامة ... وعليك متصل الرضى المتجدد
ولد ببعض أعمال غرناطة قبل التسعين وستمائة وتوفي بالمدينة الشريفة طابة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام سنة 715 ودفن بالبقيع رحمه الله تعالى انتهى
299 - ومنهم الشيخ نور الدين أبو الحسن المايرقي من أقارب بعض

ملوك المغرب وكان من الفضلاء العلماء الأدباء وله مشاركة جيدة في العلوم ونظم حسن ومنه قوله
( القضب راقصة والطير صادحة ... والنشر مرتفع والماء منحدر )
( وقد تجلت من اللذات أوجهها ... لكنها بظلال الدوح تستتر )
( فكل واد به موسى يفجره ... وكل روض على حافاته الخضر )
وقوله
( وذي هيف راق العيون انثناؤه ... بقد كريان من البان مورق )
( كتبت إليه هل تجود بزورة ... فوقع لا خوف الرقيب المصدق )
( فأيقنت من لا بالعناق تفاؤلا ... كما اعتنقت لا ثم لم تتفرق )
وهذا أحسن من قول ذي القرنين بن حمدان
( إني لأحسد لا في أحرف الصحف ... إذا رأيت اعتناق اللام للألف )
( وما أظنهما طال اجتماعهما ... إلا لما لقيا من لوعة الأسف )
وأحسن من هذا قول القيسراني
( أستشعر اليأس في لا ثم يطمعني ... إشارة في اعتناق اللام للألف )
وكانت وفاة أبي الحسن المذكور في ربيع الأول سنة 655 ودفن بقاسيون رحمه الله تعالى والأبيات التي أولها القضب راقصة الخ نسبها له اليونيني وغير واحد والصواب أنها ليست له وإنما هي لنور الدين ابن سعيد صاحب المغرب وقد تقدم ذكره ولعل السهو سرى من تشارك الاسم واللقب والقطر ومثل هذا كثيرا ما يقع والله تعالى أعلم
300 - ومن الراحلين من أهل الأندلس إلى المشرق ابن عتبة الإشبيلي

وكان فارق إشبيلية حين تولاها ابن هود واضطرمت بفتنته الأندلس نارا ولما قدم مصر هاربا من تلك الأهوال تغيرت عليه البلاد وتعدلت به الأحوال فلما سئل عن حاله بعد بعده عن أرضه وترحاله بادر وأنشد
( أصبحت في مصر مستضاما ... أرقص في دولة القرود )
( واضيعة العمر في أخير ... مع النصارى أو اليهود )
( بالجد رزق الأنام فيهم ... لا بذوات ولا جدود )
( لا تبصر الدهر من يراعي ... معنى قصيد ولا قصود )
( أود من لؤمهم رجوعا ... للغرب في دولة ابن هود )
وتذكرت بقوله أرقص في دولة القرود ما وقع لأبي القاسم بن القطان وهو مما يستطرف ويستظرف وذلك أنه لما ولي الوزارة الزينبي دخل عليه أبو القاسم المذكور والمجلس حافل بالرؤساء والأعيان فوقف بين يديه ودعا له وأظهر الفرح والسرور ورقص فقال الوزير لبعض من يفضي إليه بسره قبح الله هذا الشيخ فإنه يشير برقصه إلى قول الشاعر وأرقص للقرد في دولته
301 - ومن المرتحلين أبو عبد الله ابن جابر محمد بن جابر الضرير من أهل المرية ويعرف بشمس الدين بن جابر الضرير وله ترجمة في الإحاطة ذكرناها مع زيادة عليها عند تعرضنا لأولاد لسان الدين بن الخطيب رحمه الله تعالى ! ورحل إلى المشرق ودخل مصر والشام واستوطن حلب وهو صاحب البديعية المعروفة ببديعية العميان وله أمداح نبوية كثيرة وتواليف منها شرح ألفية ابن مالك وغير ذلك وله ديوان شعر وأمداح نبوية في غاية الإجادة ومن نظمه رحمه الله تعالى موريا بأسماء الكتب

( عرائس مدحي كم أتين لغيره ... فلما رأته قلن هذا من الأكفا )
( نوادر آدابي ذخيرة ماجد ... شمائل كم فيهن من نكت تلفى )
( مطالعها هن المشارق للعلا ... قلائد قد راقت جواهرها رصفا )
( رسالة مدحي فيك واضحة ولي ... مسالك تهذيب لتنبيه من أغفى )
( فيا منتهى سؤلي ومحصول غايتي ... لأنت امرؤ من حاصل المجد مستصفى )
وقد اشتملت هذه الأبيات الخمسة على التورية بعشرين كتابا وهي العرائس للثعالبي والنوادر للقالي وغيره والذخيرة لابن بسام وغيره والشمائل للترمذي والنكت لعبد الحق الصقلي وغيره والمطالع لابن قرقول وغيره والمشارق للقاضي عياض وغيره والقلائد لابن خاقان وغيره ورصف المباني في حروف المعاني للأستاذ ابن عبد النور وهو كتاب لم يصنف في فنه مثله والرسالة لابن أبي زيد وغيره والواضحة لابن حبيب والمسالك للبكري وغيره والجواهر لابن شاس وغيره والتهذيب في اختصار المدونة وغيره والتنبيه لأبي إسحاق وغيره ومنتهى السؤل لابن الحاجب والمحصول للإمام الرازي والغاية للنووي وغيره والحاصل مختصر المحصول والمستصفى للغزالي
وما أحسن قول الحكيم موفق الدين
( لله أيامنا والشمل منتظم ... نظما به خاطر التفريق ما شعرا )
( والهف نفسي على عيش ظفرت به ... قطعت مجموعه المختار مختصرا )
وهذه ثلاثة كتب مشهورة المختار والمجموع والمختصر وأحسن منه قول الآخر
( عن حالتي يا نور عيين لا تسل ... ترك الجواب جواب تلك المسأله )

( حالي إذا حدثت لا لمعا ولا ... جملا لإيضاحي بها من تكمله )
( عندي جوى يذر الفصيح مبلدا ... فاترك مفصله ودونك مجمله )
( القلب ليس من الصحاح فيرتجى ... إصلاحه والعين سحب مثقله )
( وقد أوردنا في ترجمة أبي عبد الله بن جزى الكاتب الأندلسي جملة مستكثرة في التورية بأسماء الكتب فلتراجع ثمة
رجع إلى الشمس بن جابر فنقول ومن نظمه رحمه الله تعالى تثمينه للأبيات المشهورة
( لم يبق في اصطبار ... )
( مذ خلفوني وساروا ... )
( وللحبيب أشاروا ... )
( جار الكرام فجاروا ... )
( لله ذاك الأوار ... )
( بانوا فما الدار دار ... )
( يا بدر أهلك جاروا ... وعلموك التجري )
( كانوا من الود أهلي ... )
( ما عاملوني بعدل ... ) أصموا فؤادي بنبل ... )
( يا بين بينت ثكلي ... )
( يا روح قلبي قل لي ... أهم دعوك لقتلي ... )
( وحرموا لك وصلي ... وحللوا لك هجري ... )

( حسبي وماذا عناد ... )
( هم المنى والمراد ... )
( وإن عن الحق حادوا ... )
( أو جاملوني وجادوا ... ) يا من به الكل سادوا ... )
( والكل عندي سداد ... )
( فليفعلوا ما أرادوا ... فإنهم أهل بدر ... )
( وتذكرت بهذا قول أبي البركات أيمن بن محمد السعدي رحمه الله تعالى
( للعاشقين انكسار ... وذلة وافتقار )
( وللملاح افتخار ... وعزة واقتدار )
( وأهل بدري أشاروا وودعوني وساروا )
يا بدر - إلخ
كتبت والوصل يملي ... جد الهوى بعد هزل )
( وحار ذهني وعقلي ... ما بين بدري وأهلي )
( يا بدر فاحكم بعدل ... إذا أتوك بعذل )
وحرموا - إلخ
( لولا هواك المراد ... ما كنت ممن يصاد )
( ولا شجاني البعاد ... يا بدر أهلك جادوا )
( غلطت جاروا وزادوا ... لكنهم بك سادوا )
فليفعلوا - إلخ

رجع إلى ابن جابر فنقول
توفي رحمه الله تعالى في إلبيرة في جمادى الآخرة سنة 780 ومن نظمه قوله
( يا أهل طيبة في مغناكم قمر ... يهدي إلى كل محمود من الطرق )
( كالغيث في كرم والليث في حرم ... والبدر في أفق والزهر في خلق )
وله
( ولما وقفنا كي نودع من نأى ... ولم يبق إلا أن تحث الركائب )
( بكينا وحق للمحب إذا بكى ... عشية سارت عن حماه الحبائب )
وقال
( أما معاني المعاني فهي قد جمعت ... في ذاته فبدت نارا على علم )
( كالبدر في شيم والبحر في ديم ... والزهر في نعم والدهر في نقم )
وقال
( ضحكت فقلت كأن جيدك قد غدا ... يهدي لثغرك من جواهر عقده )
( وكأن ورد الخد منك بمائه ... قد شاب عذب لماك حالة ورده )
وقال
( منعتنا قرى الجمال وقالت ... ليس في غير زادنا من مجال )
( فأقمنا على الرحال وقلنا ... مالنا حاجة بحط الرحال )

وقال
( عذب قلبي رشأ ناعم ... أسهر جفني طرفه الناعس )
( يحرس باللحظ جنى خده ... يا ليته لو غفل الحارس ) وله
( وافيت ربعهم وقد بعد المدى ... ونأى الفريق من الديار وسارا )
( ما كدت أعرف بعد طول تأمل ... دارا بها طاف السرور ودارا )
وله
( ولست أرى الرجال سوى أناس ... همومهم موافاة الرجال )
( أطالوا في الندى إهلاك مال ... فعاشوا في الأنام ذوي كمال )
وقال
( أيها المتهمون نفسي فداكم ... أنجدوني على الوصول لنجد )
( وقفوا بي على منازل ليلى ... فوجودي هناك يذهب وجدي )
وما كتبه على كتاب نسيم الصبا لابن حبيب وصورته لما وقفت على الفصول الموسومة بنسيم الصبا المرسومة في صفحات الحسن فإذا أبصرها اللبيب صبا انتعش بها الخاطر انتعاش النبت بالغمام وهمت سحائب بيانها فأثمرت حدائق الكلام وأخرجت أرض القرائح ما فيها من النبات وسمعت الآذان صخبة الأذهان بهذه الأبيات
( هذي فصول الربيع في الزمن ... كم حسن أسندت إلى حسن )

( رقت وراقت فمن شمائلها ... بمثل صرف الشمول تتحفني )
( كم ملح قد حوت وكم لمح ... يعجبني لفظها ويعجزني )
( كم فيه من نفث ومن نكت ... أشهدني حسنها فأدهشني )
( جمع عدمنا له النظير فلا ... يصرف عن خاطر ولا أذن )
( يا خير أهل العلا وبحرهم ... أي بديع الكلام لم ترني )
( بدرك في مطلع الفضائل لا ... يكون مثل له ولم يكن )
( هذي الفصول التي أتيت بها ... قد أفحمت كل ناطق لسن )
( كم فن معنى بها يذكرني ... شجوي لشدو الحمام في فنن )
( فمن نسيب مع النسيم جرى ... لطفا فأزرى بالجوهر الثمن )
( وحسن سجع كالزهر في أفق ... والزهر في ناعم من الغصن )
( له معان أعيت مداركها ... كل معان بنيلهن عني )
( لا زال راق للمجد راقمها ... ذا سنن حاز أحسن السنن ) فصول هي للحسن أصول وشمول لها على كل القلوب شمول ليس لقدامة على التقدم إليها حصول ولا لسحبان لأن يسحب ذيلها وصول ولا انتهى قس الإيادي لهذه الأيادي ولا ظفر بديع الزمان بهذه البدائع الحسان لقد قصر فيها حبيب عن ابنه وحار بين لطافة فضله وفضل ذهنه نزهت في طرف خمائلها ونبهت بلطف شمائلها تالله إنها لسحر حلال وخلال ما مثلها خلال كلام كله كمال ومجال لا يرى فيه إلا جمال راقم بردها وناظم عقدها في كل فصل جاء بكمال فضل وفي كل معنى عمر بالبراعة مغنى أعرب فأغرب وأوجر فأعجز وأطال فأطاب وأجاد حين أجاب فما أنفس فرائده وأنفع فوائده وأفصح مقاله وأفسح مجاله وأطوع للنظم طباعه وأطول في النثر باعه أزاهر نبتت في كتاب وجواهر تكونت من ألفاظ عذاب ومواهب لا تدرك

بيد اكتساب فسبحان من يرزق من يشاء بغير حساب فصول أحلى في الأفواه من الشهد وأشهى إلى النواظر من النوم بعد السهد سبك أدبها في قالب النكت الحسان وذهب بمحامد عبد الحميد ومحاسن حسان فما أحقها أن تسمى فصول الربيع وأصول البديع لا زال حسنها يملأ الأوراق بما راق ويزين الآفاق بما فاق ولا برحت حدائق براعته نزهة للأحداق وحقائق بلاغته في جيد الإجازة بمنزلة الأطواق بمن الله تعالى وكرمه انتهى
وحيث جرى ذكر كتاب نسيم الصبا فلا بأس أن نذكر تقاريظ العلماء له فمن ذلك قول القاضي شرف الدين بن ريان وقفت على هذا الكتاب الذي أبدع فيه مؤلفه ونظم فيه الجواهر النفيسة مصنفه وأينعت حدائق أدبه فدنا ثمرها لمن يقطفه وعرفت مقدار ما فيه من الإنشاء وأين من يعرفه فوجدته ألطف من اسمه وأحسن من الدرر في نظمه وأطيب من الورد عند شمه هبت على رياض فصوله نسيم صباها ففاقت الأزهار في رباها وتشوقت قلوب الأدباء إلى انتشاق شذاها وطيب رياها وفاضت عليه أنوار البدر فأغنى سناها عن الشمس وضحاها وتحلت نحور البلغاء من كلامه بالدر اليتيم ومن معانيه بالعقد النظيم وترنحت أفنان فنون الفصاحة لما هب عليها ذلك النسيم كل فصل له في الفضل أسلوب على بابه وطريق انفرد به منشئه محاسن لا توجد إلا في كتابه صدر هذا الكتاب عن علم سابق وفكر ثاقب وذهن رائق ونفس صادق وروية ملأت تصانيفها المغارب والمشارق وقريحة إذا ذقت جناها وشمت سناها تذكرت ما بين العذيب وبارق فالله تعالى يبقي مصنفه قبلة لأهل الأدب ويديمه ويبلغه من سعادة الدنيا والآخرة ما يرومه بمنه وكرمه انتهى
وقرظ عليه بعضهم بقوله وقف المملوك سليمان بن داود المصري على فصول الحكم من هذه الفصول ووجد من نسيم الصبا أمارات القبول ونزه طرفه في رياض هذا الكتاب وخاطب فكره العقيم في وصفه فعجز عن

رد الجواب
( ماذا أقول وكل وصف دونه ... أين الحضيض من السماك الأعزل )
يا لها كلمات نقصت قدر الأفاضل وفضحت فصحاء الأوائل وسحبت ذيل الفصاحة على سحبان وائل وزادت في البلاغة على فريد وغيرت حال القدماء فما عبد الرحيم الفاضل وما عبد الحميد وذلت لها تشبيهات ابن المعتز طوعا وملكت زمام البيان فما تركت للبديع منه نوعا
( قطف الرجال القول حين نباته وقطفت أنت القول لما نورا )
وخطاب أعجز الخطباء وصفه وجواب ألغى البلغاء رصفه وغرائب تعرفت بمبديها وشوارد تألفت بمهديها وجنان بلاغة لم يطمث أبكارها إنس قبلك ولا جان ولم يقطف أزهارها عين ناظر ولا يد جان معان تطرب السمع لها حكم وأحكام وألفاظ هي الأرواح للأرواح أجسام فلما ألقى فهمه عروة المتماسك وضاقت عليه في وصفه المسالك وعجز عن وصف بلوغ بلاغته عطف على حسن كتابته فرأى خطا يسبي الطرف ويستغرق الظرف نسج قلمه الكريم من وشي البلاغة ديباجا واتخذ من محاسن الحسان طريقا ومنهاجا فألفى ألفات كاعتدال القدود ونونات كأهلة السعود وسينات كالطرر ونقطا كالدرر جعل للأقلام حجة قاطعة على السيوف وحلى الأسماع بحلية زائدة على الشنوف فعطف ساعة يطنب في دعائه وشكره وآونة يميل من طربه بألفاظه وسكره فلله در ألفاظك ودرر فضلك وأحسن بوابلك الهاطل بالبيان وطلك

لسانك غواص ولفظك جوهر ... وصدرك بحر بالفضائل زاخر )
والله المسؤول أن يرفع قدر مقالك
( ومقام قدرك ويوضح منهاج الأدب بنور بدرك بمنه وكرمه إنه على كل شيء قدير
وكتب قاضي القضاة تاج الدين السبكي رحمه الله تعالى في تقريظ الكتاب المذكور ما نصه الحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم حدقت نحو الحدائق وفوقت سهمي تلقاء الغرض الشائق وطرقت إلى ما يضيء أخا الحجى أسهل الطرائق فما علل صداي كنسيم الصبا ولا كمثله سهما صائبا صابه من لا صبا ولا نظرت نظيره حديقة تنبت فضة وذهبا
( وتجيء من ملح الكلام بطارف أو تالده )
( كلم نوابغ نحو آفاق ... المطالع صاعده )
( لو رامها قس لما ... ألفى أباه ساعده )
( أبدى نتائج عيه ... في ذي المعاني الشارده )
فعين الله تعالى عليها كلمات عليها منه رقيب ومحاسن تسلى عندها بالحسن حبيب وفوائد حسان يذكرنا بها حسان البعيد حسن القريب كتبه عبد الوهاب السبكي انتهى
وكتب ناصر الدين صاحب دواوين الإنشاء ما صورته وقفت على هذا الكتاب الذي أشبه الدر في انتظامه والثغر في ابتسامه وقطر الندى في انسجامه وزهر الروض في البكر إذا غنت على غصونه مطربات حمامه فوجدت بين اسمه ومسماه مناسبة اقتضاها طبع مؤلفه السليم واتصالا قريبا كاتصال الصديق الحميم فتحققت أن مؤلفه - أبقاه الله تعالى وحرسه - أبدع في

تأليفه وأصاب في تمييزه بهذا الاسم وتعريفه فهو في اللطافة كالماء في إروائه وكالهواء المعتدل في ملاءمة الأرواح بجوهر صفائه وكالسلك إذا انتقى جوهره وأجيد في انتقائه قد أينعت ثمرات فضائله فأصبحت دانية القطوف وتجلت عرائس بلاغته فظهر بدرها بلا كسوف وانجابت ظلمات الهموم بسماع موصول مقاطعه التي هي في الحقيقة لأذن الجوزاء شنوف فأكرم به من كتاب ما الروض أبهى من وسيمه ولا الريحان بأعطر من شميمه ولا المدامة بأرق من هبوب نسيمه ولا الدر بأسنى زهرا بل زهوا من رسومه إذا تدبره الأديب أغنته تلك الأفانين عن نغمات القوانين وإذا تأمله الأريب نزه طرفه في رياض البساتين قد سور على كل نوع من البديع باب لا يدخله إلا من خص من البلاغة باللباب والله تعالى يؤتيه الحكمة وفصل الخطاب ويمتع بفضائله التي شهدها أهل العلم وذوو الألباب بمنه وكرمه وكتبه محمد بن يعقوب الشافعي
وكتب الصفدي شارح لامية العجم بما نصه وقفت على هذا المصنف الموسوم بنسيم الصبا والتأليف الذي لو مر بالمجنون لما ألف ليلاه ولا مال إليها ولا صبا والإنشاء الذي إن شاء قائله جعل الكلام غيره في هبات الهواء هبا والنثر الذي أغار قائله على سبائك الذهب الإبريز وسبى والكلام الذي نبا عنه الجاحظ جاحدا وما له ذكر ولا نبا فسبحت جواهر حروفه لمن أوجده في هذا العصر وعلمت أن ألفاظه ترمي قلوب حساده بشرر كالقصر وتحققت أن قعقعة طروسه أصوات أعلامه التي تخفق له بالنصر وتيقنت أن سطوره غصون لا تصل إليها كف جناية بجنى ولا هصر
( لأهل النظم والنثر قابلوا ... ( ترائبها مصقولة كالسجنجل )
( وميلوا بأعطاف التعجب إنها ... ( نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل )
ولما ملت بعدما ثملت وغزلت بعدما هزلت جردت من نفسي شخصا

أخاطبه وأجاريه في أوصاف محاسنها التي أناهبه منها وأناهيه فقال لي هذا الفن الفذ والنثر الذي قهر أقران هذه الصناعة وبذ والأدب الذي سد الطرق على أوابده فما فاته شيء ولا شذ وهذا الإنشاء الذي ما له عديل في هذا العديد ولا ضريب وهذا الكلام الذي فاق في الآفاق فما لحبيب بن أوس حسن حسن بن حبيب فعين الله تعالى على هذه الكلم الساحرة والفوائد التي أيقظت جفن الأدب بعد ما كان بالساهرة ومتع الله تعالى الزمان وأهله بهذا النوع الغض والنقد النض والبز البض والبديع الذي رم ما تشعث من ربع هذا الفن ورض واقتض المعاني أبكاره وافتض وأرسل جارح بلاغته على الجوارح فصادها وانقص وانقض وأنبط ماء الفصاحة لما تحدر وارفض واستمال القلب الفظ لما فك ختم ذهوله وفض إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير بمنه وكرمه وكتبه خليل الصفدي انتهى
302 - ومنهم الأديب أبو جعفر الإلبيري رفيق ابن جابر السابق الذكر وهو البصير وابن جابر الأعمى وله نظم بديع منه قوله
( أبدت لي الصدغ على خدها ... فأطلع الليل لنا صبحه )
( فخدها مع قدها قائل ... ( هذا شقيق عارض رمحه )
وقوله وقد دخل حمص
( حمص لمن أضحى بها جنة ... يدنو لديها الأمل القاصي )
( حل بها العاصي ألا فاعجبوا ... من جنة حل بها العاصي ) وقوله
( إن بين الحبيب عندي موت ... وبه قد حييت منذ زمان )

( ليت شعري متى تشاهده العين ... وتقضي من اللقاء الأماني )
قال وفيه استخدام لأن البين يطلق على البعد والقرب انتهى ومن نظمه أيضا رحمه الله تعالى
( ومورد الوجنات دب عذاره ... فكأنه خط على قرطاس )
( لما رأيت عذاره مستعجلا ... قد رام يخفي الورد منه بآس )
( ناديته قف كي أودع ورده ... ( ما في وقوفك ساعة من باس )
وهذا المعنى قد تبارى فيه الشعراء وتسابقوا في مضماره فمنهم من جلى وبرز وحاز خصل السبق وأحرز ومنهم من كان مصليا ومنهم من غدا لجيد الإحسان محليا ومنهم من عاد قبل الغاية موليا
رجع - ومن تأليفه رحمه الله تعالى شرحه لبديعية رفيقه ابن جابر المذكور
وقال في خطبته ولما كانت القصيدة المنظومة في علم البديع المسماة بالحلة السيرا في مدح خير الورى التي أنشأها صاحبنا الإمام العلامة شمس الدين أبو عبد الله بن جابر الأندلسي نادرة في فنها فريدة في حسنها يجنى ثمر البلاغة من غصنها وتنهل سواكب الإجادة من مزنها لم ينسج على منوالها ولا سمحت قريحة بمثالها رأيت أن أضع لها شرحا يجلو عرائس معانيها لمعانيها ويبدي غرائب ما فيها لموافيها لا أمل الناظر فيه بالتطويل ولا أعوقه بكثرة الاختصار عن مدارك التحصيل فخير الأمور أوسطها والغرض ما يقرب المقاصد ويضبطها فأعرب من ألفاظها كل خفي وأسكت من لغاتها عن كل جلي والله أسأل أن يبلغنا ما قصدناه ويوردنا أحسن الموارد فيما أردناه انتهى
وسمي الشرح المذكور طراز الحلة وشفاء الغلة ومما أورده رحمه الله تعالى في ذلك الشرح من نظم نفسه قوله

( طيبة ما أطيبها منزلا ... سقى ثراها المطر الصيب )
( طابت بمن حل بأرجائها ... فالترب منها عنبر طيب )
( يا طيب عيشي عند ذكري لها ... والعيش في ذاك الحمى أطيب )
وقال رحمه الله تعالى في هذا الشرح بعد كلام ما نصه وإذا أردت أن تنظر إلى تفاوت درجات الكلام في هذا المقام فانظر إلى إسحاق الموصلي كيف جاء إلى قصر مشيد ومحل سرور جديد فخاطبه بما يخاطب به الطلول البالية والمنازل الدارسة الخالية فقال
( يا دار غيرك البلى ومحاك ... )
فأحزن في موضع السرور وأجرى كلامه على عكس الأمور وانظر إلى قول القطامي
( إنا محيوك فاسلم أيها الطلل ... وإن بليت وإن طالت بك الطيل )
فانظر كيف جاء إلى طلل بال ورسم خال فأحسن حين حياه ودعا له بالسلامة كالمبتهج برؤية محياه فلم يذكر دروس الطلل وبلاه حتى آنس المسامع بأوفى التحية وأزكى السلامة والذي فتح هذا الباب وأطنب فيه غاية الإطناب صاحب اللواء ومقدم الشعراء حيث قال
( ألا عم صباحا أيها الطلل البالي ... وهل يعمن من كان في العصر الخالي ) وهل يعمن إلا سعيد مخلد

( ولما وقفنا للوداع وقد بت ... قباب بنجد قد علت ذلك الوادي )
( نظرت فألفيت السبيكة فضة ... لحسن بياض الزهر في ذلك النادي )
( فلما كستها الشمس عاد لجينها ... لها ذهبا فاعجب لإكسيرها البادي )
والسبيكة موضع خارج غرناطة
وقال رحمه الله
( هذه عشرة تقضت وعندي ... من أليم البعاد شوق شديد )
( وإذا رأيت إطفاء شوقي بالتلاقي فذاك رأي سديد )
وقال رحمه الله تعالى وقد أهدى طاقية
( خذها إليك هدية ... ممن يعز على أناسيك )
( اخترتها لك عندما ... أضحت هدية كل ناسك )
( أرسلتها طاقية ... لتنوب عن تقبيل راسك )
وله من رسالة وافى كتابك فوجدنا أزهى من الأزهار وأبهى من حسن الحباب على الأنهار يشرق إشراق نجوم السماء ويسمو إلى الأسماع سمو حباب الماء
وقال رحمه الله تعالى في العوض على مذهب الخليل (
( خل الأنام ولا تخالط منهم ... أحدا ولو أصفى إليك ضمائره )
( إن الموفق من يكون كأنه ... متقارب فهو الوحيد بالدائرة )
وقال على مذهب الأخفش
( إن الخلاص من الأنام لراحة ... لكنه ما نال ذلك سالك )
( أضحى بدائرة له متقارب ... يرجو الخلاص فعاقه متدارك )

متدارك وله
( دائرة الحب قد تناهت ... فما لها في الهوى مزيد )
( فبحر شوقي بها طويل ... وبحر دمعي بها مديد )
( وإن وجدي بها بسيط ... فليفعل الحسن ما يريد )
وهذا المعنى استعمله الشعراء كثيرا ومنهم الشيخ شهاب الدين بن صارو البعلي قال أبو جعفر المترجم له أنشدنا شهاب الدين المذكور لنفسه بحماة
( وبي عروضي سريع الجفا ... يغار غصن البان من عطفه )
( الورد من وجنته وافر ... لكنه يمنع من قطفه )
قال وأنشدنا أيضا لنفسه
( وبي عروضي سريع الجفا ... وجدي به مثل جفاه طويل )
( قلت له قطعت قلبي أسى ... فقال لي التقطيع دأب الخليل )
انتهى
وأنشد رحمه الله تعالى لرفيقه ابن جابر الضرير السابق الترجمة في ذلك
( إن صد عني فإني لا أعاتبه ... فما التنافر في الغزلان تنقيص )
( شوقي مديد وحبي كامل أبدا ... لأجل ذلك قلبي فيه موقوص )
وأنشد له أيضا في ذلك
( عالم بالعروض يخبن قلبي ... في مديد الهوى بلحظ سريع )
( عنده وافر من الردف يبدو ... وخفيف من خصره المقطوع )

وله
( صدود لي مديد ... وأمر حبي طويل )
( وفيه أسباب حسن ... وتلك عندي الأصول )
( فحضره لي حفيف وردفه لي ثقيل )
وله
( سبب خفيف خصرها ووراءه ... من ردفها سبب ثقيل ظاهر )
( لم يجمع النوعان في تركيبها ... إلا لأن الحسن فيها وافر )
وقد ذكر أبو جعفر - رحمه الله تعالى - لرفيقه ابن جابر السابق الذكر مقطوعات كثيرة منها قوله
( يا أيها الحادي اسقني كأس السرى ... نحو الحبيب ومهجتي للساقي )
( حي العراق على النوى واحمل إلى ... أهل الحجاز رسائل العشاق )
( يا حسن ألحان الحداة إذا جرت ... نغماتها بمسامع المشتاق )
وأورده له أيضا
( يا حسن ليلتنا التي قد زارني ... فيها فأنجز ما مضى من وعده )
( قومت شمس جماله فوجدتها ... في عقرب الصدغ الذي في خده )
رجع إلى أبي جعفر - رحمه الله تعالى - ومن فوائده أنه لما ذكر فذلكة الحساب قال هي التي يضعها أهل الحساب آخر جملهم المتقدمة فيقولون فذلك كذا كذا انتهى

ولما أنشد رحمه الله تعالى قول بعضهم
( غزال قد غزا قلبي ... بألحاظ وأحداق )
( له الثلثان من قلبي ... وثلثا ثلثه الباقي )
( وثلثا ثلث ما يبقى ... وباقي الثلث للساقي )
( وتبقى أسهم ست ... تقسم بين عشاق )
قال ما نصه هذا الشاعر قسم قلبه إلى 81 سهما فجعل لمحبوبه منها الثلثين 54 وبقي الثلث 27 فزاده ثلثيه 18 فصار له 72 يبقى ثلث الثلث وهو 9 زاده منها ثلثي ثلثها وهو اثنان وبقي من الثلث واحد أعطاه للساقي فبقي من التسعة ستة قسمها بين العشاق فاجتمع لمحبوبه 74 وللساقي سهم واحد وللعشاق ستة والجملة 81 انتهى
وأنشد رحمه الله تعالى في علم الحساب لرفيقه ابن جابر السابق الذكر
( قسم القلب في الغرام بلحظ ... يضرب القلب حين يرسل سهمه )
( هذه في هواه يا قوم حالي ... ضاع قلبي ما بين ضرب وقسمه )
وأنشد له في الهندسة
( محيط بأشكال الملاحة وجهه ... كأن به إقليدسا يتحدث )
( فعارضه خط استواء وخاله ... به نقطة والشكل شكل مثلث )
وأنشد له في خط الرمل
( فوق خديه للعذار طريق ... قد بدا تحته بياض وحمره )
( قيل ماذا فقلت أشكال حسن ... تقتضي أن أبيع قلبي بنظره )
وأنشد له في علم الخط
( قد حقق الحسن نور حاجبه ... وخط في الصدغ واو ريحان )

( ومد من حسن قده ألفا ... أوقف عيني وقوف حيران )
وأنشد له أيضا
( ألف ابن مقلة في الكتاب كقده ... والنون مثل الصدغ في التحسين )
( والعين مثل العين لكن هذه ... شكلت بحسن وقاحة ومجون )
( وعلى الجبين لشعره سين بدت ... حار ابن مقلة عند تلك السين )
( قل للذي قد خط تحت الصدغ من ... خيلانه نقطا لجلب فنون )
( يا للرجال ويا لها من فتنة ... في وضع ذاك النقط تحت النون )
وأورد له في ذكر الأقلام السبعة وغيرها
( تعليق ردفك بالخصر الخفيف له ... ثلث الجمال وقد وفته أجفان )
( خذ عليه رقاع الروض قد جعلت ... وفي حواشيه للصدغين ريحان )
( خط الشباب بطومار العذار به ... سطرا ففضاحه للناس فتان )
( محقق نسخ صبري عن هواه ومن ... توقيع مدمعي المنثور برهان )
( يا حسن ما قلم الأشعار خط على ... ذاك الجبين فلا يسلوه إنسان )
( أقسمت بالمصحف الشامي وأحرفه ... ما مر بالبال يوما عنك سلوان )
( ولا غبار على حبي فعندك لي ... حساب شوق له في القلب ديوان )
وأنشد له
( يا صاحب المال ألم تستمع ... ) لقوله ( ما عندكم ينفد )
( فاعمل به خيرا فوالله ما ... يبقى ولا أنت به مخلد
وله
( إن شئت أن تجد العدو وقد غدا ... لك صاحبا يولي الجميل ويحسن )
( فاعمل كما قال الخبير بخلقه ... في قوله ( ادفع بالتي هي أحسن )

وله
( إذا شئت رزقا بلا حسبة ... فلذ بالتقى واتبع سبله )
( وتصديق ذلك في قوله ( ومن يتق الله يجعل له )
وأورد له أيضا
( عمل إن لم يوافق نية ... فهو غرس لا يرى منه ثمر )
( ( إنما الأعمال بالنيات ) قد ... نصه عن سيد الخلق عمر )
وقوله
( الخير في أشياء عن خير الورى ... وردت فأبدت كل نهج بين )
( دع ما يريبك واعملن بنية ... وازهد ولا تغضب وخلقك حسن )
وقوله
( حياء المرء يزجره فيخشى ... فخف من لا يكون له حياء )
( فقد قال الرسول بأن مما ... به نطق الكرام الأنبياء ) إذا ما أنت لم تستحي فاصنع ... كما تختار وافعل ما تشاء )
وقوله
( قال الرسول " الحياء خير " ... فاصحب من الناس ذا حياء )
( وعن قليل الحياء فابعد ... فخيره ليس ذا رجاء )
وقوله
( من سلم المسلمون كلهم ... وآمنوا من لسانه ويده )

( فذلك المسلم الحقيق بذا ... جاء حديث لا شك في سنده )
( ولابن جابر مما كتب به إلى الصلاح الصفدي )
( إن البراعة لفظ أنت معناه ... وكل شيء بديع أنت معناه )
( إنشاد نظمك أشهى عند سامعه ... من نظم غيرك لو إسحاق غناه )
وهي طويلة فأجابه الصفدي )
بقوله
( يا فاضلا كرمت فينا سجاياه ... وخصنا باللآلي في هداياه )
( خصصتني بقريض شف جوهره ... لما تألق منه نور معناه )
( من كل بيت مبانيه مشيدة ... كم من خبايا معان في زواياه )
وهي طويلة
رجع إلى نظم أبي جعفر - فمن ذلك قوله
( تريك قدا على ردف تجاذبه ... كخوطة في كثيب الرمل قد نبتت )
( ريا القرنفل في ريح الصبا سحرا ... يضوع منها إذا نحوي قد التفتت )
عقد بهما ألفاظ قول امرئ القيس
( إذا التفتت نحوي تضوع ريحها ... نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل )
وأورد له قوله
( ولولا نجاء العيس حول ديارها ... غداة منى لم يبق في الركب محرم )
( ففوق ذرا المتنين برد مهلل ... وتحت رداء الخز وجه معلم )

عقد في الأول قول قيس بن الخطيم
( ديار
( التي كنا ونحن على منى ... تحوط بنا لولا نجاء الركائب )
وعقد في الثاني قول ابن أخي ربيعة
( أماطت رداء الخز عن حر وجهها ... وأرخت على المتنين بردا مهللا )
وأورد له قوله
( إن ادعى لك مروان الجلال فقل ... لا يجهل المرء بين الناس رتبته )
( إن الجلالة حقا للمقول له ... هذا الذي تعرف البطحاء وطأته )
وقوله
( من منصفي يا قوم من ظبية ... تسرف في هجري وتأبى الوصال )
( وكلما أسأل عن عذرها ... تقول لي ما كل عذر يقال )
وقوله
( هم حسدوا الرسول فلم يجيبوا ... وكم حسدوا فصار لهم فرار )
( وهاجر عند ما هجروا فأضحى ... لخيمة أم معبد الفخار )
وقوله
( بحسبك أن تبيت على رجاء ... ولو حطتك لليأس الخطوب )
( ومهما أكربتك صروف دهر ... فقل ما قاله الرجل الأريب )
( عسى الكرب الذي أمسيت فيه يكون وراءه فرج قريب )

وقوله
( خليلي هذا قبر أشرف مرسل ... قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل )
( رويدكما نبكي الذنوب التي خلت ... ( بسقط اللوى بين الدخول فحومل ) )
( منازل كانت للتصابي فأقفرت ... ( لما نسجتها من جنوب وشمأل ) )
قال ثم جرى على هذا النمط واستخرج الدرر النفيسة من ذلك السفط وقال قبله إنه أخذ أعجاز هذه القصيدة من أولها إلى آخرها على التوالي وصنع لها صدورا وصرفها إلى مدح النبي فجاء في ذلك بما لم يسبق إليه ولم يقف أحد في تلك المعاني على ما وقف عليه انتهى
وقوله
( كم ليال خلت بكم كاللآلي ... نظمتها لنا يد الأزمان )
( أيها النازحون عن رأي عيني ... وهم في جوانحي وجناني )
( ما ألذ الوصال بعد التنائي ... وأمر الفراق بعد التداني )
( قد وكلناكم لرب كريم ... غير وان عن عبده في أوان )
( ما رحلنا عن اختيار ولكن ... رحلتنا تلونات الزمان )
وقوله
( تشتكي الصفر من يديه وترضى السمر ... عن راحتيه عند الحروب )
( أحمر السيف أخضر السيب حيث الأرض ... غبراء من سواد الخطوب )
وقوله مما التزم في أوله الدال
( دفاع لمكروه أمان لخائف ... سحاب لمستجد هلاك لمستعدي )
( دروب على الحسنى عفو لمن جنى ... مثيب لمن أثنى مجيب لذي قصد )

( دع الغيث إن أعطى دع الليث إن سطا ... دع الروض إذ يهدي دع البدر إذ يهدي )
وقوله
( غزال ما توسد ظل ... بان بهاجرة ولا عرف الظلالا )
( تبسم لؤلؤا واهتز غصنا ... وأعرض شادنا وبدا هلالا )
وقوله
( رفع الخصر فوق منصوب ردف ... ولجزم القلوب فرعيه جرا )
( مال غصنا رنا رشا فاح مسكا ... تاه درا أرخى دجى لاح بدرا )
وقوله حين زار قبر قس بن ساعدة بجبل سمعان
( هذي منازل ذي العلاقس ... بن ساعدة الإيادي )
( كم عاش في الدنيا وكم ... أسدى إلينا من أيادي )
( قد زانها بحلى البلاغة ... مفصحا في كل نادي )
( قد قر في بطن الثرى ... متفردا بين العباد )
قال أبو جعفر زرنا قبره فرأينا موضعا ترتاح إليه النفس ويلوح عليه الأنس وعند قبره عين ماء يقال إنه ليس بجبل سمعان عين تجري غيرها هنالك وأورد له قوله
( كرام فخام من ذؤابة هاشم ... يقولون للأضياف أهلا ومرحبا )
( فيفعل في فقر المقلين جودهم ... كفعل علي يوم حارب مرحبا )
رجع إلى أبي جعفر رحمة الله تعالى فنقول إنه كان بمدينة النبي سنة 755 ولما ذكر الروضة قال قيل ولا تكون الروضة إلا بماء يسقيها أو إلى جنبها ولا يقال في موضع الشجر روضة انتهى وقال

( لقوامه الألف التي ... جاءت بحسن ما ألف )
( عانقته فكأنني ... لام معانقة الألف )
وقال رحمه الله تعالى معتذرا عمن لم يسلم
( لا تعتبن على ترك السلام فقد ... جاءتك أحرفه كتبا بلا قلم )
( فالسين من طرتي واللام مع ألف ... من عارضي وهذا الميم ميم فمي )
وقال رحمه الله تعالى
( لا يقنطنك ذنب ... قد كان منك عظيم )
( فالله قد قال قولا ... وهو الجواد الكريم ) ( نبئ عبادي أني ... أنا الغفور الرحيم )
وقال
( إذا ظلم المرء فاصبر له ... فبالقرب يقطع منه الوتين )
( فقد قال ربك وهو القوي ... ( وأملي لهم إن كيدي متين )
ومن نثره لما ذكر قصيدة كعب بن زهير رضي الله تعالى عنه ما نصه وهذه القصيدة لها الشرف الراسخ والحكم الذي لم يوجد له ناسخ أنشدها كعب في مسجد المصطفى بحضرته وحضرة أصحابه وتوسل بها فوصل إلى العفو عن عقابه فسد خلته وخلع عليه حلته وكف عنه كف من أراده وأبلغه في نفسه وأهله مراده وذلك بعد إهدار دمه وما سبق من هذر كلمه فمحت حسناتها تلك الذنوب وسترت محاسنها وجه تلك العيوب ولولاها لمنع المدح والغزل وقطع من أخذ الجوائز على الشعر

الأمل فهي حجة الشعراء فيما سلكوه وملاك أمرهم فيما ملكوه حدثني بعض شيوخنا بالإسكندرية بإسناده أن بعض العلماء كان لا يستفتح مجلسه إلا بقصيدة كعب فقيل له في ذلك فقال رأيت رسول الله فقلت يا رسول الله قصيدة كعب أنشدها بين يديك فقال نعم وأنا أحبها وأحب من يحبها قال فعاهدت الله أني لا أخلو من قراءتها كل يوم قلت ولم تزل الشعراء من ذلك الوقت إلى الآن ينسجون على منوالها ويقتدون بأقوالها تبركا بمن أنشدت بين يديه ونسب مدحها إليه ولما صنع القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر قصيدة في مدح النبي على وزن بانت سعاد قال
( لقد قال كعب في النبي قصيدة ... وقلنا عسى في مدحه نتشارك )
( فإن شملتنا بالجوائز رحمة ... كرحمة كعب فهو كعب مبارك )
انتهى
وقال رحمه الله تعالى
( لقد كر العذار بوجنتيه ... كما كر الظلام على النهار )
( فغابت شمس وجنته وجاءت ... على مهل عشيات العذار )
( فقلت لناظري لما رآها ... وقد خلط السواد بالاحمرار )
( تمتع من شميم عرار نجد ... فما بعد العشية من عرار ) وقال
( قالوا عشقت وقد أضر بك الهوى ... فأجبتهم يا ليتني لم أعشق )
( قالوا سبقت إلى محبة حسنه ... فأجبتهم ما فاز من لم يسبق
ولما أنشد رحمه الله تعالى قول ابن الخشاب في المستضيء بالله

( ورد الورى سلسال جودك فارتووا ... ووقفت دون الورد وقفة حائم )
( ظمآن أطلب خفة من زحمة ... والورد لا يزداد غير تزاحم )
قال ما نصه فانظر حسن هذين البيتين كيف جريا كالماء في سلاسته ووقعا من القلوب كالشهد في حلاوته مع أن ناظمهما ما خرج عن وصف الماء كلامه ولا تعدى ذلك المعنى نظامه حتى قيل إن فيهما عشرة مواضع من مراعاة النظير فهما في الحسن ما لهما من نظير لكنه ما سلم مليح من عيب ولا خلا من وقوع ريب فمع هذه المحاسن الوافية ما سلما من عيب القافية انتهى
ولنختم ترجمته بقوله عند شرح بيت رفيقه
( خير الليالي ليالي الخير في إضم ... والقوم قد بلغوا أقصى مرادهم ) ما نصه يقول إن خير الليالي التي تنشرح لها الصدور ويحمد فيها الورود والصدور ليالي الخير في إضم حيث النزيل لم يضم والقوم قد وردوا موارد الكرم وبلغوا أقصى مرادهم في ذلك الحرم
303 - ومن الراحلين الولي الصالح أبو مروان عبد الملك بن إبراهيم بن بشر القيسي وهو ابن أخت ابن صاحب الصلاة البجانسي نسبة إلى بجانس قرية من قرى وادي آش وكان - رحمه الله تعالى ! - في أواسط المائة السابعة وقد ذكره الفقيه أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن يحيى الأزدي الفشتالي في تأليفه الذي سماه تحفة المغرب ببلاد المغرب وقال فيه راضوا نفوسهم لتنقاد للمولى سرا وعلنا وزهدوا في الدنيا فلم يقولوا معنا ولا لنا وانتدبوا لقول الله تعالى ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) [ العنكبوت69 ] وقال صاحب التأليف المذكور سألت الشيخ أبا مروان يوما في مسيري معه من وادي آش إلى بلده بجانس سنة تسع وأربعين وستمائة فقلت له أنت

يا سيدي لم تكن قرأت ولا لازمت المشايخ قبل سفرك للمشرق ولا سافرت مع عالم تقتدي ببركته في هذا الطريق فقال لي أقام الله تعالى لي من باطني شيخا قلت له كيف قال كنت إذا عرض لي أمر نظرت في خاطري فيخطر لي خاطران في ذلك أحدهما محمود والآخر مذموم فكنت أجتنب المذموم وأرتكب المحمود فإذا وصلت إلى أقرب بلد سألت عمن فيه من المشايخ والعلماء فأسأله عن ذلك فكان يذكر لي المحمود محمودا والمذموم مذموما فأحمد الله تعالى أن وفقني ومع تتابع ذلك واتصاله دون مخالفة لم أعتمد على ما يقع بخاطري من الأمور الشرعية إلى الآن حتى أسأل عنه من حضر من العلماء انتهى ومن كلام صاحب التأليف المذكور قوله في حق الصوفية نفعنا الله تعالى بهم حموا طريق الحق فحاماهم ونور بصائرهم فأصمهم عن الباطل وأعماهم وأهانوا في رضاه نفوسهم ورفضوا نعماهم فأعلى قدرهم عنده وعند الناس وأسماهم انتهى وما أحسن قوله في التأليف المذكور يا هذا من حافظ حوفظ عليه ومن طلب الخير بصدق وصل إليه ومن أخلص العبودية لربه قام الأحرار خدمة بين يديه انتهى
304 - ومنهم الطيب الماهر الشهير ضياء الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن البيطار المالقي نزيل القاهرة وهو الذي عناه ابن سعيد في كتابه المغرب بقوله وقد جمع أبو محمد المالقي الساكن الآن بقاهرة مصر كتابا في هذا الشأن حشر فيه ما سمع به فقدر عليه من تصانيف الأدوية المفردة ككتاب الغافقي وكتاب الزهراوي وكتاب الشريف الإدريسي الصقلي وغيرها وضبطه على حروف المعجم وهو النهاية في مقصده

وقد ذكرت كلام ابن سعيد هذا بجملته في غير هذا الموضع فليراجع وكان ابن البيطار أوحد زمانه في معرفة النبات سافر إلى بلاد الأغارقة وأقصى بلاد الروم والمغرب واجتمع بجماعة كثيرة من الذين يعانون هذا الفن وعاين منابته وتحققها وعاد بعد أسفاره وخدم الكامل بن العادل وكان يعتمد عليه في الأدوية والحشائش وجعله في الديار المصرية رئيسا على سائر العشابين وأصحاب البسطات ومن بعده خدم ولده الصالح وكان حظيا عنده إلى أن توفي بشعبان سنة 646 التي توفي بها ابن الحاجب وله من المصنفات كتاب الجامع في الأدوية المفردة وكتاب المغني أيضا في الأدوية وكتاب الإبانة والإعلام بما في المنهاج من الخلل والأوهام وكتاب الأفعال العجيبة والخواص الغريبة وشرح كتاب ديسقوريدوس قال الذهبي انتهت إليه معرفة تحقيق النبات وصفاته وأماكنه ومنافعه وتوفي بدمشق انتهى
305 - ومنهم الشيخ أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن علي القرشي البسطي الشهير بالقلصادي - بفتحات - كما قال السخاوي الصالح الرحلة المؤلف الفرضي آخر من له التآليف الكثيرة من أئمة الأندلس وأكثر تصانيفه في الحساب والفرائض كشرحيه العجيبين على تلخيص ابن البناء والحوفي وكفاه فخرا أن الإمام السنوسي صاحب العقائد أخذ عنه جملة من الفرائض والحساب وأجازه جميع مروياته وأصله من بسطة ثم انتقل إلى غرناطة فاستوطنها وأخذ بها عن جماعة كابن فتوح والسرقسطي وغيرهما ثم ارتحل إلى المشرق ومر بتلمسان فأخذ بها عن الإمام عالم الدنيا ابن مرزوق والقاضي أبي الفضل قاسم العقباني وأبي العباس ابن زاغ وغيرهم

ثم ارتحل فلقي بتونس تلامذة ابن عرفة كابن عقاب والقلشاني وحلولو وغيرهم ثم حج ولقي أعلاما وعاد فاستوطن غرناطة إلى أن حل بوطنه ما حل فتحيل في خلاصه من الشرك وارتحل ومر بتلمسان فنزل بها على الكفيف ابن مرزوق ابن شيخه ثم جدت به الرحلة إلى أن وافته منيته بباجة إفريقية منتصف ذي الحجة سنة 891 وكان كثير المواظبة على الدرس والكتابة والتأليف ومن تآليفه أشرف المسالك إلى مذهب مالك وشرح مختصر خليل وشرح الرسالة وشرح التلقين وهداية الأنام في شرح مختصر قواعد الإسلام وهو شرح مفيد وشرح رجز القرطبي وتنبيه الإنسان إلى علم الميزان والمدخل الضروري وشرح إيساغوجي في المنطق وله شرح الأنوار السنية لابن جزى وشرح رجز الشراز في الفرائض الذي أوله
( بحمد خير الوارثين أبتدي ... وبالسراج النبوي أهتدي )
وشرح حكم ابن عطاء الله ورجز أبي عمرو بن منظور في أسماء النبي وشرح البردة ورجز ابن بري ورجز شيخه أبي إسحاق بن فتوح في النجوم الذي أوله
( سبحان رافع السماء سقفا ... ناصبها دلالة لا تخفى ) وشرح رجز أبي مقرعة وله النصيحة في السياسة العامة والخاصة وهداية النظار في تحفة الأحكام والأسرار وكشف الجلباب عن علم الحساب وكشف الأسرار عن علم الغبار والتبصرة وقانون الحساب في قدر التلخيص وشرحه وشرحان على التلخيص كبير وصغير وشرح ابن الياسمين في الجبر والمقابلة ومختصره وكليات الفرائض وشرحها

وشرحان للتلمسانية كبير وصغير وشرح فرائض صالح بن شريف وابن الشاط وفرائض مختصر خليل والتلقين وابن الحاجب وله كتاب الغنية في الفرائض وغنية النحاة وشرحاها الكبير والصغير وتقريب المواريث ومنتهى العقول البواحث وشرح مختصر العقباني ولم يتم ومدخل الطالبين ومختصر مفيد في النحو وشرح رجز ابن مالك والجرومية وجمل الزجاجي وملحة الحريري والخزرجية ومختصر في العروض وغير ذلك وأخذ بمصر عن الحافظ ابن حجر والزين طاهر النويري وأبي القاسم النويري والعلامة الجلال المحلي والتقى الشمني وأبي الفتح المراغي وغيرهم حسبما ذكر ذلك في رحلته الشهيرة وهي حاوية لشيوخه بالمغرب والمشرق وجملة من أحوالهم رحم الله تعالى الجميع !
306 - ومنهم أبو عبد الله الراعي وهو شمس الدين محمد بن إسماعيل الأندلسي الغرناطي ولد بها سنة 782 تقريبا ونشأ بها وأخذ الفقه والأصول والعربية عن جماعة منهم أبو جعفر أحمد بن إدريس بن سعيد الأندلسي وسمع على أبي بكر عبد الله بن محمد بن محمد المعافري ابن الدب ويعرف بابن أبي عامر والخطيب أبي عبد الله محمد بن علي بن الحفار ومحمد بن عبد الملك بن علي القيسي المنتوري صاحب الفهرسة الكبيرة الشهيرة ومما أخذ عنه الجرومية بأخذه لها عن الخطيب أبي جعفر أحمد بن محمد بن سالم الجذامي عن القاضي أبي عبد الله محمد بن إبراهيم الحضرمي عن مؤلفها أبي عبد الله محمد بن محمد بن داود الصنهاجي عرف بابن آجروم وجميع خلاصة الباحثين في حصر حال الوارثين للقاضي أبي بكر عبد الله بن يحيى بن زكريا الأنصاري بأخذه لها عن مؤلفها وأجاز له أبو الحسن علي بن عبد الله بن الحسن الجذامي والقاضي

أبو الفضل قاسم بن سعيد العقباني والعلامة أبو الفضل محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن ابن الإمام وعالم الدنيا أبو عبد الله محمد بن مرزوق التلمساني وغيرهم من المغاربة ومن أشياخه من أهل المشرق الكمال بن خير السكندري والزين أبو بكر المراغي والزين محمد الطبري وأبو إسحاق إبراهيم بن العفيف النابلسي في آخرين ودخل القاهرة سنة 825 فحج واستوطنها وسمع بها من الشهاب المتبولي وابن الجزري والحافظ ابن حجر وطائفة وأم بالمؤيدية وقتا وتصدى للاشتغال فانتفع به الناس طبقة بعد أخرى لا سيما في العربية بل هي كانت فنه الذي اشتهر به وبجودة الإرشاد لها وشرح كلا من الجرومية والألفية والقواعد وغيرها مما حمله عنه الفضلاء وله نظم وسط قال السخاوي كتبت عنه منه الكثير ومما لم أسمعه منه ما أودعه في مقدمة كتاب صنفه في نصرة مذهبه وأثبته دفعا لشيء نسب إليه فقال
( عليك بتقوى الله ما شئت واتبع ... أئمة دين الحق تهد وتسعد )
( فمالكهم والشافعي وأحمد ... ونعمانهم كل إلى الخير يرشد )
( فتابع لمن أحببت منهم ولا تمل ... لذي الجهل والتصيب إن شئت تحمد )
( فكل سواء في وجيبة الاقتدا ... متابعهم جنات عدن يخلد )
( وحبهم دين يزين وبغضهم ... خروج عن الإسلام والحق يبعد )
( فلعنة رب العرش والخلق كلهم ... على من قلاهم والتعصب يقصد )
وكان حاد اللسان والخلق شديد النفرة من الشيخ يحيى العجيسي أضر بأخرة ومات بسكنه بالصالحية يوم الثلاثاء 27 ذي الحجة سنة 853 بعد أن أنشد قبيل موته بشهر في حال صحته الشيخ جمال الدين ابن الأمانة من نظمه قوله
( أفكر في موتي وبعد فضيحتي ... فيحزن قلبي من عظيم خطيئتي )
( وتبكي دما عيني وحق لها البكا ... على سوء أفعالي وقلة حيلتي )

( وقد ذابت اكبادي عناء وحسرة ... على بعد أوطاني وفقد أحبتي )
( فما لي إلا الله أرجوه دائما ... ولا سيما عند اقتراب منيتي )
( فنسأل ربي في وفاتي مؤمنا ... بجاه رسول الله خير البرية )
قال السخاوي ومما كتبته عنه
( ألفيته حول المعلم باكيا ... ودموعه قد صاغها من كوثر )
( نثر الدموع على الخدود فخلتها ... درا تناثر في عقيق أحمر ) وقوله
( عليك بنعمة رب العلا ... وراع الملوك لرعي الذمم )
( وذو العلم فارع له حقه ... وإلا تفارق وتلق الندم ) فهذا مقالي فلتسمعوا ... نصيحة حبر من أهل الحكم )
( إذا كنت في نعمة فارعها ... فإن المعاصي تزيل النعم ) وقال
( للغرب فضل شائع لا يجهل ... ولأهله شرف ودين يكمل )
( ظهرت به أعلام حق حققت ... ما قاله خير الأنام المرسل )
( من أنهم حتى القيامة لن يزا لوا ... ظاهرين على الهدى لن يخذلوا )
وممن حدث عن الراعي الحافظ ابن فهد والبرهان البقاعي ومن تأليفه شرح القواعد وكتاب انتصار الفقير السالك لمذهب الإمام الكبير مالك في كراريس أربعة حسن في موضوعة وله النوازل النحوية في عشرة كراريس أو أكثر وفيها فوائد حسنة وأبحاث رائقة تكلم معه في بعضها أبو

عبد الله بن العباس التلمساني وذكر بعضهم أنه اختصر شرح شيخه ابن مرزوق على مختصر الشيخ خليل من باب القضاء إلى آخر الكتاب انتهى وجرت له في صغره حكاية دلت على نبله وهي أنه دخل على الطلبة رجل وهم بجامع غرناطة فسألهم عمن كان وراء إمام فحدث للإمام عذر ذهب لأجله مثل الرعاف مثلا فصلوا بعض الصلاة لأنفسهم ثم اقتدوا بإمام منهم قدموه فيما بقي فهل تصح صلاتهم أم لا فلم يكن عند أحد من الحاضرين فيها علم فقال هو إن الصلاة باطلة لأن النحاة يقولون الإتباع بعد القطع لا يجوز وقد حكى ذلك في شرحه للجرومية الذي سماه بعنوان الإفادة في باب النعت إذ قال ما نصه كنت جالسا بمسجد قيسارية غرناطة أنتظر سيدنا وشيخنا أبا الحسن علي بن سمعة رحمه الله تعالى مع جماعة من كبار طلبته وكنت إذ ذاك أصغرهم سنا وأقلهم علما فدخل سائل سأل عن مسألة فقهية نصها إن إماما صلى بجماعة جزءا من صلاة ثم غلب عليه الحدث فخرج ولم يستخلف عليهم فقام كل واحد من الجماعة وصلى وحده جزءا من الصلاة ثم بعد ذلك استخلفوا من أتم بهم الصلاة فهل تصح تلك الصلاة أم لا فلم يكن فيها عند الحاضرين جواب فقلت أنا أجاوب فيها بجواب نحوي فقال هات الجواب فقلت هذا إتباع بعد القطع وهو ممتنع عند النحويين فصلاة هؤلاء باطلة فاستظرفها مني من حضر لصغر سني ثم طلبنا النص فيها فلم نلقه في ذلك التاريخ ولو لقيناه لكان حسنا انتهى ومن ألغازه قوله
( حاجيتكم نحاتنا المصرية ... أولي الذكا والعلم والطعميه )
( ما كلمات أربع نحويه ... جمعن في حرفين للأحجيه )

يعني فعل الأمر للواحد من وأى يئي إذا أضمر فإنك تقول فيه إ يا زيد على حرف واحد وهو الهمزة المقطوعة فإذا قلت قل إ ونقلت حركته على لغة النقل إلى الساكن صار هكذا قل فذهب فعل الأمر وفاعله فهي كلمات أربع فعلا أمر وفاعلاهما جمعن في حرفين القاف واللام فافهم وأحسن من هذا قوله ملغزا في ذلك أيضا
( في أي لفظ يا نحاة الملة ... حركة قامت مقام الجملة ) وبالجملة فمحاسنه كثيرة رحمه الله تعالى ورضي عنه ومن فوائده قوله حكى لي بعض علماء المالكية قال كنا نقرأ المدونة على الشيخ سراج الدين البلقيني الشافعي فوقعت مسألة خلافية بين مالك والشافعي فقال الشيخ في مسألة مذهبنا كذا في مسألة لم يقل فيها الشافعي بما قال وإنما نسبها البلقيني لنفسه ثم فطن وخاف ينتقد عليه المالكية ويقولوا له أنت شافعي وهذا ليس مذهب الشافعي فقال فإن قلتم يا مالكية لسنا بمالكية وإنما أنتم شافعية قلنا كذلك أنتم قاسمية وقد اجتمعنا الكل في مالك قال وهذا الكلام حلو حسن في غاية الإنصاف من الشيخ قال ولما قرئ عليه كتاب الشفاء مدحه وأثنى عليه إلى الغاية وكان يحضره جماعة من المالكية فقال القاضي جمال الدين ابنه ما لكم يا مالكية لا تكونون مثل القاضي عياض فقال له أبوه الشيخ سراج الدين المذكور وما لك لا تقول للشافعية ما لكم يا شافعية لا تكونون مثل القاضي عياض ومن فوائد الراعي في باب العلم من شرحه على الألفية في الكلب عشر خصال محمودة ينبغي أن تكون في كل فقير لا يزال جائعا وهو من دأب الصالحين ولا يكون له موضع يعرف به وذلك من علامة المتوكلين ولا ينام من الليل إلا القليل وذلك من صفات المحبين وإذا مات لا يكون له ميراث وذلك من أخلاق الزاهدين ولا يهجر صاحبه وإن جفاه وطرده

وذلك من شيم المريدين ويرضى من الدنيا بأدنى يسير وذلك من إشارة القانعين وإذا غلب عن مكانه تركه وانصرف إلى غيره وذلك من علامة المتواضعين وإذا ضرب وطرد ثم دعي أجاب وذلك من أخلاق الخاشعين وإذا حضر شيء من الأكل وقف ينظر من بعيد وذلك من أخلاق المساكين وإذا رحل لم يرحل معه بشيء وذلك من علامة المتجردين انتهى بمعناه وقد نسبه للحسن البصري رحمه الله تعالى ورضي عنه بمنه ومن تصانيفه رحمه الله تعالى كتاب الفتح المنير في بعض ما يحتاج إليه الفقير في غاية الإفادة ملكته بالمغرب ولم أره بهذه البلاد المشرقية وحفظت منه فوائد ممتعة
307 - ومن الراحلين من الأندلس إلى المشرق بعد أخذ جميع بلاد الأندلس - أعادها الله تعالى قاضي الجماعة بغرناطة أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد بن الأزرق قال السخاوي إنه لازم الأستاذ إبراهيم بن أحمد بن فتوح مفتي غرناطة في النحو والأصلين والمنطق بحيث كان جل انتفاعه به وحضر مجالس أبي عبد الله محمد بن محمد السرقسطي العالم الزاهد مفتيها أيضا في الفقه ومجالس الخطيب أبي الفرج عبد الله بن أحمد البقني والشهاب قاضي الجماعة بغرناطة أبي العباس أحمد بن أبي يحيى بن شرف التلمساني انتهى وله رحمه الله تعالى تآليف منها بدائع السلك في طبائع الملك كتاب حسن مفيد في موضوعه لخص فيه كلام ابن خلدون في مقدمة تاريخه وغيره مع زوائد كثيرة ومنها روضة الأعلام بمنزلة العربية من علوم الإسلام

مجلد ضخم فيه فوائد وحكايات لم يؤلف في فنه مثله وقفت عليه بتلمسان وحفظت منه ما أنشده لبعض أهل عصره مما يكتب في سيف
( إن عمت الأفق من نقع الوغى سحب ... فشم بها بارقا من لمع إيماضي )
( وإن نوت حركات النصر أرض عدى ... فليس للفتح إلا فعلي الماضي ) ومن إنشائه في التأليف المذكور ما صورته قلت ولقد كان شيخنا العلامة أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن فتوح قدس الله تعالى روحه يفسح لصاحب البحث مجالا رحبا ويوسع المراجع له قبولا ورحبا بل يطالب بذلك ويقتضيه ويختار طريق التعليم به ويرتضيه توفيقا على ما خلص له تحقيقه ووضح له في معيار الاختيار تدقيقه وإلا فقد كان ما يلقيه غاية ما يتحصل ويتمهد به مختار ما يحفظ ويتأصل انتهى وهو يدل على ملكته في الإنشاء ويحقق ما يحصله إلا أن ذلك إذا طال حتى وقع الملل والضجر أو كاد فينبغي الإمساك عن البحث لئلا يفضي الحال إلى ما ينهى عنه قال ومخالفة التلميذ الشيخ في بعض المسائل إذا كان لها وجه وعليها دليل قائم يقبله غير الشيخ من العلماء ليس من سوء أدب التلميذ مع الشيخ ولكن مع ملازمة التوقير الدائم والإجلال الملائم فقد خالف ابن عباس عمر وعليا وزيد بن ثابت رضي الله تعالى عنهم وكان قد أخذ عنهم وخالف كثير من التابعين بعض الصحابة وإنما أخذوا العلم عنهم وخالف مالك كثيرا من أشياخه وخالف الشافعي وابن القاسم وأشهب مالكا في كثير من المسائل وكان مالك أكبر أساتيذ الشافعي وقال لا أحد أمن علي من مالك وكاد كل من أخذ العلم أن يخالفه بعض تلامذته في عدة مسائل ولم يزل ذلك دأب التلاميذ مع الأساتيذ إلى زماننا هذا وقال وشاهدنا ذلك في أشياخنا مع أشياخهم رحمهم الله تعالى قال ولا ينبغي للشيخ أن يتبرم من هذه المخالفة

إذا كانت على الوجه الذي وصفناه والله تعالى أعلم انتهى ولما أنشد ابن الأزرق المذكور في كتابه روضة الأعلام قول القائل في مدح ابن عصفور
( نقل النحو إلينا الدؤل ... ي عن أمير المؤمنين البطل ) بدأ النحو علي وكذا ... ختم النحو ابن عصفور علي )
قال بعده ما نصه على أن صاحبنا الكاتب الأديب الأبرع أبا عبد الله محمد بن الأزرق الوادي آشي رحمه الله تعالى قد قال فيما يدافع ابن عصفور عما اقتضاه هذا المدح له بتفضيل الأستاذ المحقق أبي الحسن بن الضائع عليه ولقد أبدع في ذلك ما شاء لما تضمن من التورية
( بضائعك ابن الضائع الندب قد أتت ... بحظ من التحقيق والعلم موفور )
( فطرت عقابا كاسرا أو ما ترى ... مطارك قد أعيا جناح ابن عصفور ) انتهى وقد نقل عن ابن الأزرق صاحب المعيار في جامعه وأثنى عليه غير واحد ومن أعظم تآليفه شرحه الحافل على مختصر خليل المسمى ب شفاء الغليل في شرح مختصر خليل وقد توارد معه الشيخ ابن غازي على هذه التسمية وكان مولانا العم الإمام شيخ الإسلام سيدي سعيد بن أحمد المقري رضي الله تعالى عنه قال لي حين سألته عن هذا التوارد لعل تسمية ابن الأزرق شفاء العليل بالعين قلت يبعد ذلك أن جماعة من تلامذته الأكابر كالوادي آشي وغيره كتبوه بخطوطهم بالغين المعجمة فبان أنه من توارد الخواطر وأن كلا منهما لم يقف على تسمية الآخر والله تعالى أعلم وقد رأيت جملة من هذا الشرح بتلمسان وذلك نحو ثلاثة مجلدات ولا أدري هل أكمله أم لا لأن تقديره بحسب ما رأيت يكون عشرين مجلدا إذ المجلد الأول ما أتم مسائل الصلاة

ورأيت الخطبة وحدها في أكثر من كراسة أبان فيها عن علوم ولم أر في شروح خليل مع كثرتها مثله ودخل تلمسان لما استولى العدو على بلاد الأندلس ثم ارتحل إلى المشرق فدخل مصر واستنهض عزائم السلطان قايتباي لاسترجاع الأندلس فكان كمن يطلب بيض الأنوق أو الأبيض العقوق ثم حج ورجع إلى مصر فجدد الكلام في غرضه فدافعوه عن مصر بقضاء القضاة في بيت المقدس فتولاه بنزاهة وصيانة وطهارة ولم تطل مدته هنالك حتى توفي به بعد سنة خمس وتسعين وثمانمائة حسبما ذكره صاحب الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل فليراجع فإنه طال عهدي به ومن بارع نظمه رحمه الله تعالى قوله في المجبنات
( ورب محبوبة تبدت ... كأنها الشمس في حلاها )
( فأعجب لحال الأنام من قد ... أحبها منهم قلاها )
ومنه قوله رحمه الله تعالى
( عذري في هذا الدخان الذي ... جاور داري واضح في البيان )
( قد قلتم إن بها زخرفا ... ولا يلي الزخرف إلا الدخان ) وقوله
( تأملت من حسن الربيع نضارة ... وقد غردت فوق الغصون البلابل )
( حكت في غصون الدوح قسا فصاحة ... لتعلم أن النبت في الروض باقل ) وقوله
( وقائلة صف للربيع محاسنا ... فقلت وعندي للكلام بدار )
( همي ببطاح الأرض صوب من الحيا ... فللنبت في وجه الزمان عذار )

وقوله
( تعجبت من يانع الورد في ... سنا وجنة نبتها بارض )
( ولم لا يرى وردها يانعا ... وقد سال من فوقها العارض )
وقوله رحمه الله تعالى عند وفاة والدته
( تقول لي ودموع العين واكفة ... ما أفظع البين والترحال يا ولدي )
( فقلت أين السرى قالت لرحمة من ... قد عز في الملك لم يولد ولم يلد )
قال تلميذه الحافظ ابن داود مما ألفيته بخط قاضي الجماعة أبي عبد الله بن الأزرق عن علي رضي الله تعالى عنه من أراد أن يطول الله عمره ويظفر بعدوه ويصان من فتن الدنيا ويوسع عليه باب رزقه فليقل هذا التسبيح إذا أصبح ثلاثا وإذا أمسى ثلاثا سبحان الله ملء الميزان ومنتهى العلم ومبلغ الرضى وعدد النعم وزنة العرش والحمد لله ملء الميزان ومنتهى العلم ومبلغ الرضى وعدد النعم وزنة العرش ولا إله إلا الله ملء الميزان ومنتهى العلم ومبلغ الرضى وعدد النعم وزنة العرش والله أكبر ملء الميزان ومنتهى العلم ومبلغ الرضى وعدد النعم وزنة العرش ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم مثل ذلك وصلى الله على سيدنا محمد وآله مثل ذلك قال وبخطه أيضا لنيل الرزق وما يراد يا باسط يا جواد يا علي في عرشك بحق حقك على جميع خلقك ابسط لي رزقك وسخر لي خلقك وبخطه أيضا بسم الله الرحمن الرحيم الدافع المانع الحافظ الحي القيوم القوي القادر الولي الناصر الغالب الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم وبخطه أيضا يا فتاح يا عليم يا نور يا هادي يا حق يا مبين

افتح لي فتحا تنور به قلبي وتشرح به صدري واهدني إلى طريق ترضاه وبين لي أمري وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا انتهى وقال رحمه الله تعالى موريا
( من تكن صنعته الإنشاء ... لا ينكر الرزق لأقصى العمر )
( ولو استعلى على السبع الدرا ... ري بما فيه فمه من درر )
( فأنا الكاتب لكن لو يباع ... لي العتق لكنت المشترى )
هكذا رأيت نسبتها إليه
ولنختم ترجمته بل والباب جميعا بقوله رحمه الله تعالى عند نزول طاغية النصارى بمرج غرناطة أعادها الله تعالى للإسلام بجاه النبي عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام
( مشوق بخيمات الأحبة مولع ... تذكره نجد وتغريه لعلع )
( مواضيعكم يا لائمين على الهوى ... فلم يبق للسلوان في القلب موضع )
( ومن لي بقلب تلتظي فيه زفرة ... ومن لي بجفن تنهمي منه أدمع )
( رويدك فارقب للطائف موضعا ... وخل الذي من شره يتوقع )
( وصبرا فإن الصبر خير غنيمة ... ويا فوز من قد كان للصبر يرجع )
( وبت واثقا باللطف من خير راحم ... فألطافه من لحمه العين أسرع )
( وإن جاء خطب فانتظر فرجا له ... فسوف تراه في غد عنك يرفع )
( وكن راجعا لله في كل حالة ... فليس لنا إلا إلى الله مرجع )

وأنكر غير واحد دخول أحد من الصحابة الأندلس
وذكر بعض الحفاظ المنيذر المذكور وقال إنه المنيذر اليماني وذكر الحجاري أنه من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم وأنه دخل الأندلس مع موسى بن نصير غازيا وقال ابن بشكوال يقال فيه المنيذر لكونه من أحداث الصحابة رضي الله تعالى عنهم وقد حكى ذلك الرازي وذكره ابن عبد البر في كتاب الاستيعاب في الصحابة وسماه بالمنيذر الإفريقي وقال ابن بشكوال إن ابن عبد البر روى عنه حديثا سمعه من رسول الله وذكره أبو علي بن السكن في كتاب الصحابة وقال روي عنه حديث واحد وأرجو أن يكون صحيحا وذكره ابن قانع في معجم الصحابة له وذكره البخاري في تاريخه الكبير إذ قال أبو المنيذر صاحب رسول الله وكان قد حدث بإفريقية عن رسول الله قال " من قال رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا فأنا الزعيم لآخذن بيده فأدخله الجنة " كذا ذكره البخاري بالكنية وهذا الحديث هو الذي رووه عنه لا يعرف له غيره وذكره أبو جعفر أحمد بن رشدين في كتاب مسند الصحابة له فقال المنيذر اليماني إما من مذحج أو غيرها وذكر الحديث سواء وقد أشرنا فيما سبق إلى المنيذر هذا ومن التابعين الداخلين الأندلس أميرها موسى بن نصير وقد سبق الكلام عليه ما فيه كفاية

3 - ومن التابعين الداخلين الأندلس حنش الصنعاني
وفي كتاب ابن بشكوال قال ابن وضاح حنش لقب له واسمه حسين بن عبد الله وكنيته أبو علي ويقال أبو رشدين قال ابن بشكوال وهو من صنعاء الشام وذكره أبو سعيد ابن يونس في تاريخ أهل مصر وإفريقية والأندلس فقال إنه كان مع علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وغزا المغرب مع رفيقه رويفع بن ثابت وغزا الأندلس مع موسى بن نصير وكان فيمن ثار مع ابن الزبير على عبد الملك بن مروان فأتى به عبد الملك في وثاق فعفا عنه وكان أول من ولي عشور إفريقية في الإسلام وتوفي بإفريقية سنة مائة
وذكر ابن يونس عن حنش أنه كان إذا فرغ من عشائه وحوائجه وأراد الصلاة من الليل أوقد المصباح وقرب المصحف وإناء فيه ماء فإذا وجد النعاس استنشق الماء وإذا تعايا في آية نظر في المصحف وإذا جاء سائل يستطعم لم يزل يصيح بأهله أطعموا السائل حتى يطعم
قال ابن حبيب دخل الأندلس من التابعين حنش بن عبد الله الصنعاني وهو الذي أشرف على قرطبة من الفج المسمى بفج المائدة وأذن وذلك في غير وقت الأذان فقال له أصحابه في ذلك فقال إن هذه الدعوة لا تنقطع من هذه البقعة إلا أن تقوم الساعة هكذا ذكره غير واحد وقد كشف الغيب خلاف ذلك فلعل الرواية موضوعة أو مؤولة والله تعالى أعلم
وذكره ابن عساكر في تاريخه وطول ترجمته وقال إن صنعاء المنسوب إليها قرية من قرى الشام وليست صنعاء اليمن وقد قيل إنه لم يرو عن حنش الشاميون وإنما روى عنه المصريون وحدث حنش عن عبد الله بن عباس أنه قال له إن استطعت أن تلقى الله تعالى وسيفك حليته حديد فافعل

وكان عبد الملك بن مروان حين غزا المغرب مع معاوية بن حديج نزل عليه بإفريقية سنة خمسين فحفظ له ذلك فعفا عنه حين أتي به في وثاق حين ثار مع ابن الزبيرس
وسئل أبو زرعة عن حنش فقال ثقة ولم يذكر ابن عساكر أن حنشا لقب له وأن اسمه حسين بل اقتصر على اسمه حنش ولعله الصواب لا ما قاله ابن وضاح والله تعالى أعلم
وفي تاريخ ابن الفرضي أبي الوليد أن حنشا كان بسرقسطة وأنه الذي أسس جامعها وبها مات وقبره بها معروف عند باب اليهود بغربي المدينة
وفي تاريخ ابن بشكوال أنه أخذ أيضا قبلة جامع إلبيرة وعدل وزن قبلة جامع قرطبة الذي هو فخر الأندلس
4

ومن التابعين الداخلين للأندلس أبو عبد الله علي بن رباح اللخمي ذكر ابن يونس في تاريخ مصر أنه ولد سنة خمس عشرة عام اليرموك وكان أعور ذهبت عينه يوم ذات السواري في البحر مع عبد الله بن سعد سنة أربع وثلاثين وكان يفد لليمانية من أهل مصر على عبد الملك بن مروان وكانت له من عبد العزيز بن مروان منزلة وهو الذي زف أم البنين بنت عبد العزيز إلى الوليد بن عبد الملك ثم عنت عليه عبد العزيز فأغزاه إفريقية فلم يزل بإفريقية إلى أن توفي بها ويقال كانت وفاته سنة أربع عشرة ومائة
قال ابن بشكوال أهل مصر يقولون علي بن رباح بفتح العين وأما أهل العراق فعلي بضم العين وقد سبق هذا الكلام عن ابن معين في الباب الثاني وقال وقال ابنه موسى بن علي من قال لي موسى بن علي بالتصغير لم أجعله في حل
5 - ومن التابعين الداخلين أبو عبد الرحمن عبد الله بن يزيد المعافري الحبلي قال ابن بشكوال إنه يروي عن أبي أيوب الأنصاري وعبد الله ابن عمرو رضي الله تعالى عنهم وغيرهم وروى عنه جماعة
وذكر البخاري في تاريخه الكبير أنه يعد في المصريين وذكر ابن يونس في تاريخ المغرب أنه توفي بإفريقية سنة مائة وكان رجلا صالحا فاضلا رحمه الله تعالى ! ويذكر أهل قرطبة أنه توفي بقرطبة وأنه دفن بقبليها وقبره مشهور يتبرك به والله تعالى أعلم بحقيقة الأمر في ذلك 6 - ومن الداخلين من التابعين حبان بن أبي جبلة
ذكر ابن بشكوال أنه مولى قريش ويكنى أبا النضر وذكره أبو العرب محمد بن تميم في تاريخ إفريقية وقال حدثني فرات بن محمد أن عمر بن عبد العزيز أرسل عشرة من التابعين يفقهون أهل إفريقية منهم حبان بن أبي جبلة روى عن عمرو بن العاص وعبد الله بن عباس وابن عمر رضي الله تعالى عنهم
ويقال توفي بإفريقية سنة اثنتين وعشرين ومائة وقيل سنة خمسة وعشرين ومائة وذكر ابن الفرضي أنه غزا مع موسى بن نصير حين افتتح الأندلس حتى انتهى إلى حصن من حصونها يقال له قرقشونة فتوفي به قال وقال لنا أبو محمد الثغري بين قرقشونة وبرشلونة مسافة خمس وعشرين ميلا وفيها الكنيسة المعظمة عندهم المسماة شنت مرية ذكر أن فيها سبع سوار فضة خالصة لم ير الراؤون مثلها لا يحزم الإنسان بذراعيه واحدة منها مع طول مفرط هكذا نقله ابن سعيد عمن ذكر والله تعالى أعلم

7 - ومن الداخلين من التابعين فيما ذكر المغيرة بن أبي بردة نشيط بن كنانة العذري روى عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ويروي عنه مالك في موطئه وذكره البخاري في تاريخه الكبير وفي كتاب الحافظ ابن بشكوال أنه دخل الأندلس مع موسى بن نصير فكان موسى بن نصير يخرجه على العساكر
8 - ومن التابعين حيوة بن رجاء التميمي ذكر ابن حبيب أنه دخل الأندلس مع موسى بن نصير وأصحابه وأنه من جملة التابعين رضي الله تعالى عنهم ! قاله ابن بشكوال في مجموعه المترجم ب التنبيه والتعيين لمن دخل الأندلس من التابعين
قال ابن الأبار وقد سمعته من أبي الخطاب بن واجب وسمعه هو منه انتهى
وقال ابن الأبار في موضع آخر ما صورته رجاء بن حيوة مذكور في الذين دخلوا الأندلس من التابعين وفي ذلك عندي نظر وما أراه يصح والله تعالى أعلم انتهى فانظر هذا فإنه سماه رجاء بن حيوة وذلك السابق حيوة بن رجاء فالله سبحانه أعلم بحقيقة الأمر في ذلك
9 - ومنهم عياض بن عقبة الفهري من خيار التابعين ذكره ابن حبيب في الأربعة الذين حضروا غنائم الأندلس ولم يغلوا
10 - ومنهم عبد الله بن شماسة الفهري ذكر ابن بشكوال أنه مضري وأن البخاري ذكره في تاريخه

11 - ومنهم عبد الجبار بن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري جده عبد الرحمن أحد العشرة رضي الله تعالى عنهم وهو ممن ذكره ابن بشكوال في الأربعة من التابعين الذين لم يغلوا
12 - ومنهم منصور بن خزامة فيما يذكر قال ابن بشكوال قرأت في كتاب روايات الشيخ أبي عبد الله بن عابد الراوية رحمه الله تعالى قال وممن دخل الأندلس من المعمرين ما وجدت بخط المستنصر بالله الحكم بن عبد الرحمن الناصر رضي الله تعالى عنه في بعض كتبه المختزنة أنه قال طرأ علينا رجل أسود من ناحية السودان في سنة تسع وعشرين وثلاثمائة فذكر أنه منصور بن حزامة مولى رسول الله وكان يزعم أنه أدرك أيام عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه وأنه كان مراهقا وكان مع عائشة رضي الله تعالى عنها يوم الجمل وأنه شهد صفين وأن حزامة أعتقه رسول الله وخرج عن الأندلس في سنة ثلاثين وثلاثمائة إلى المغرب انتهى
قلت هذا كله لا أصل له ويرحم الله تعالى حافظ الإسلام ابن حجر حيث كتب على هذا الكلام ما صورته هذا هذيان لا أصل له ولا يغتر به وكذلك ترجمة أشج الغرب اتفق الحفاظ على كذبه انتهى قلت وما هو إلا من نمط عكراش والله تعالى يحفظنا من سماع الأباطيل بمنه
ومن هذه الأكاذيب ما يذكرون عن أبي الحسن علي بن عثمان بن خطاب وأنه يعرف بأبي الدنيا وأنه كان معمرا مشهورا بصحبة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وأنه رأى جماعة من كبار الصحابة رضي الله تعالى عنهم ووصفهم بصفاتهم وأنه رأى عائشة رضي الله تعالى عنها فيما زعم وقدم قرطبة على المستنصر الحكم بن الناصر وهو ولي عهد وسأله أبو بكر ابن القوطية عن مغازي علي وكتبها عنه وقد ذكره ابن بشكوال وغيره في كتبهم وتواريخهم فقد ذكر الثقات العارفون بالفن أنه كذاب دجال مائن

جاهل فإياك والاغترار بمثل ذلك مما يوجد في كتب كثير من المؤرخين بالمشرق والأندلس ولا يلتفت إلى قول تميم بن محمد التميمي إنه كان إذ لقيه ابن ثلاثمائة سنة وخمس سنين قال تميم واتصلت بنا وفاته ببلده في نحو سنة عشرين وثلاثمائة وبالجملة فلا أصل له وإنما ذكرناه للتنبيه عليه
وقد عرفت بما ذكرناه التابعين الداخلين الأندلس على أن للتحقيق أنهم لم يبلغوا ذلك العدد وإنما هم نحو خمسة أو أربعة كما ألمعنا به في غير هذا الموضع والله تعالى
13 - ومن الداخلين إلى الأندلس مغيث فاتح قرطبة وقد تقدم بعض الكلام عليه وذكر ابن حيان والحجاري أنه رومي زاد الحجاري وليس برومي على الحقيقة وتصحيح نسبه أنه مغيث بن الحارث بن الحويرث بن جبلة بن الأيهم الغساني سبي من الروم بالمشرق وهو صغير فأدبه عبد الملك بن مروان مع ولده الوليد وأنجب في الولادة وصار منه بنو مغيث الذين نجبوا في قرطبة وسادوا وعظم بيتهم وتفرعت دوحتهم وكان منهم عبد الرحمن بن مغيث حاجب عبد الرحمن بن معاوية صاحب الأندلس وغيره
ونشأ مغيث بدمشق ودخل الأندلس مع طارق فاتحها وجاز على ما في طريقها من البلاد إلى الشام وقدمه طارق لفتح قرطبة ففتحها ووقع بينه وبين طارق ثم وقع بينه وبين موسى بن نصير سيد طارق فرحل معهما إلى دمشق ثم عاد ظافرا عليهما إلى الأندلس وأنسل بقرطبة البيت المذكور وفي المسهب أنه فتح قرطبة في شوال سنة 92 ثم فتح الكنيسة التي تحصن بها ملك قرطبة بعد حصار ثلاثة أشهر في محرم سنة 93 ولم يذكر له مولدا ولا وفاة
وذكر الحجاري أنه تأدب بدمشق مع بني عبد الملك فأفصح بالعربية وصار يقول من الشعر والنثر ما يجوز كتبه وتدرب على الركوب وأخذ نفسه بالإقدام

في مضايق الحروب حتى تخرج في ذلك تخرجا أهله للتقدم على الجيش الذي فتح قرطبة وكان مشهورا بحسن الرأي والكيد وقد قدمنا كيفية فتحه قرطبة وأسره ملكها الذي لم يؤسر من ملوك الأندلس غيره لأن منهم من عقد على نفسه أمانا ومنهم من فر إلى جليقية
وذكر الحجاري أنه لما حصل بيده ملك قرطبة وحريمه رأى فيهن جارية كأنها بينهن بدر بين نجوم وهي تكثر التعرض له بجمالها فوكل بها من عرض عليها العذاب إن لم تقر بما عزمت عليه في شأن مغيث وأنه قد فطن من كثرة تعرضها له بحسنها لما أضمرته من المكر في شأنه فأقرت أنها أكثرت التعرض لتقع بقلبه إذ حسنها فتان وقد أعدت له خرقة مسمومة لتمسح بها ذكره عند وقاعها فحمد الله تعالى على ما ألهمه إليه من مكرها وقال لو كانت نفس هذه الجارية في صدر أبيها ما أخذت قرطبة من ليلة وذكر أن سليمان بن عبد الملك لما أصغى إلى طارق في شأن سيده موسى بن نصير فعذبه واستصفى أمواله أراد أن يصرف سلطان الأندلس إلى طارق وكان مغيث قد تغير عليه فاستشار سليمان مغيثا في تولية طارق وقال له كيف أمره بالأندلس فقال لو أمر أهلها بالصلاة إلى أي قبلة شاءها لتبعوه ولم يروا أنهم كفروا فعملت هذه المكيدة في نفس سليمان وبدا له في ولايته فلقيه بعد ذلك طارق فقال له ليتك وصفت أهل الأندلس بعصياني ولم تضمر في الطاعة ما أضمرت فقال مغيث ليتك تركت لي العلج فتركت لك الأندلس وكان طارق قد أراد أن يأخذ منه ملك قرطبة الذي حصل في يده فلم يمكنه منه فأغرى به سيده موسى بن نصير وقال له يرجع إلى دمشق وفي يده عظيم من عظماء الأندلس وليس في أيدينا مثله فأي فضل يكون لنا عليه فطلبه منه فامتنع من تسليمه قال ابن حيان فهجم موسى على العلج وانتزعه من مغيث فقيل له إن سرت به معك حيا ادعاه مغيث والعلج لا ينكر ولكن اضرب عنقه ففعل فاضطغنها عليه مغيث وبالغ

في أذيته عند سليمان
وذكر الحجاري في المسهب أن لمغيث من الشعر ما يجوز كتبه فمن ذلك شعر خاطب به موسى بن نصير ومولاه طارقا ويكفي منه هنا قوله
( أعنتكم ولكن ما وفيتم ... فسوف أعيث في غرب وشرق ) وعنوان طبقته في النثر أن موسى بن نصير قال له وقد عارضه بكلام في محفل من الناس كف لسانك فقال لساني كالمفصل ما أكفه إلا حيث يقتل
وأضافه ابن حيان والحجاري إلى ولاء الوليد بن عبد الملك وهو الذي وجهه إلى الأندلس غازيا ففتح قرطبة ثم عاد إلى المشرق فأعاده الوليد رسولا عنه إلى موسى بن نصير يستحثه على القدوم عليه فوفد معه فوجدوا الوليد قد مات فخدم بعده سليمان بن عبد الملك
14 - 15 - ومن الداخلين أيوب بن حبيب اللخمي ذكر ابن حيان أنه ابن أخت موسى بن نصير وأن أهل إشبيلية قدموه على سلطان الأندلس بعد قتل عبد العزيز بن موسى واتفقوا في أيامه على تحويل السلطان من إشبيلية إلى قرطبة فدخل إليها بهم وكان قيامه بأمرهم ستة أشهر وقيل إن الذي نقل السلطنة من إشبيلية إلى قرطبة الحر بن عبد الرحمن الثقفي
قال الرازي قدم الحر واليا على الأندلس في ذي الحجة سنة سبع وتسعين ومعه أربعمائة رجل من وجوه إفريقية فمنهم أول طوالع الأندلس المعدودين وقال ابن بشكوال كانت مدة الحر سنتين وثمانية أشهر وكانت ولايته بعد قيام أيوب بن حبيب اللخمي
16 - 26 - ومن الداخلين السمح بن مالك الخولاني ولي الأندلس

بعد الحر بن عبد الرحمن السابق قال ابن حيان ولاه عمر بن عبد العزيز وأوصاه أن يخمس من أرض الأندلس ما كان عنوة ويكتب إليه بصفتها وأنهارها وبحارها قال وكان من رأيه أن ينقل المسلمين عنها لانقطاعهم وبعدهم عن أهل كلمتهم قال وليت الله تعالى أبقاه حتى يفعل فإن مصيرهم مع الكفار إلى بوار إلا أن يستنقذهم الله تعالى برحمته
وذكر ابن حيان أن قدوم السمح كان في رمضان سنة مائة وأنه الذي بنى قنطرة قرطبة بعدما استأذن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى ! وكانت دار سلطانه قرطبة
قال ابن بشكوال استشهد بأرض الفرنجة يوم التروية سنة اثنتين ومائة
قال ابن حيان كانت ولايته سنتين وثمانية أشهر وذكر أنه قتل في الوقعة المشهورة عند أهل الأندلس بوقعة البلاط وكانت جنود الإفرنجة قد تكاثرت عليه فأحاطت بالمسلمين فلم ينج من المسلمين أحد قال ابن حيان فيقال إن الأذان يسمع بذلك الموضع إلى الآن
وقدم أهل الأندلس على أنفسهم بعده عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي
وذكر ابن بشكوال أنه من التابعين الذين دخلوا الأندلس وأنه يروي عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما وقال وكانت ولايته للأندلس في حدود العشر ومائة من قبل عبيدة بن عبد الرحمن القيسي صاحب إفريقية واستشهد في قتال العدو بالأندلس سنة خمس عشرة انتهى
وفيه مخالفة لما سبق أنه ولي بعد السمح وأن السمح قتل سنة 102 وهذا يقول تولى سنة 110 فأين ذا من ذاك والله تعالى أعلم

ووصفه الحميدي بحسن السيرة والعدل في قسمة الغنائم وذكر الحجاري أنه ولي الأندلس مرتين وربما يجاب بهذا عن الإشكال الذي قدمناه قريبا ويضعفه أن ابن حيان قال دخل الأندلس حين وليها الولاية الثانية من قبل ابن الحبحاب في صفر سنة ثلاث عشرة ومائة وغزا الإفرنج فكانت له فيهم وقائع جمة إلى أن استشهد وأصيب عسكره في شهر رمضان سنة 114 في موضع يعرف ببلاط الشهداء
قال ابن بشكوال وتعرف غزوته هذه بغزوة البلاط وقد تقدم مثل هذا في غزوة السمح فكانت ولايته سنة وثمانية أشهر وفي رواية سنتين وثمانية أشهر وقيل غير ذلك وكان سرير سلطانه حضرة قرطبة وولي الأندلس بعده عنبسة بن سحيم الكلبي وذكر ابن حيان أنه قدم على الأندلس واليا من قبل يزيد بن أبي مسلم كاتب الحجاج حين كان صاحب إفريقية وكان قدومه الأندلس في صفر سنة 103 فتأخر بقدومه عبد الرحمن المتقدم الذكر قال ابن بشكوال فاستقامت به الأندلس وضبط أمرها وغزا بنفسه إلى أرض الإفرنجة وتوفي في شعبان سنة 107 فكانت ولايته أربعة أعوام وأربعة أشهر وقيل ثمانية أشهر

وذكر ابن حيان أنه في أيامه قام بجليقية علج خبيث يدعى بلاي فعاب على العلوج طول الفرار وأذكى قرائحهم حتى سما بهم إلى طلب الثار ودافع عن أرضه ومن وقته أخذ نصارى الأندلس في مدافعة المسلمين عما بقي بأيديهم من أرضهم والحماية عن حريمهم وقد كانوا لا يطمعون في ذلك وقيل إنه لم يبق بأرض جليقية قرية فما فوقها لم تفتح إلا الصخرة التي لاذ بها هذا العلج ومات أصحابه جوعا إلى أن بقي في مقدار ثلاثين رجلا ونحو عشر نسوة وما لهم عيش إلا من عسل النحل في جباح معهم في خروق الصخرة وما زالوا ممتنعين بوعرها إلى أن أعيا المسلمين أمرهم واحتقروهم وقالوا ثلاثون علجا ما عسى أن يجيء منهم فبلغ أمرهم بعد ذلك في القوة والكثرة والاستيلاء ما لا خفاء به
وملك بعده أذفونش جد عظماء الملوك المشهورين بهذه السمة
قال ابن سعيد فآل احتقار تلك الصخرة ومن احتوت عليه إلى أن ملك عقب من كان فيها المدن العظيمة حتى إن حضرة قرطبة في يدهم الآن جبرها الله تعالى ! وهي كانت سرير السلطنة لعنبسة اه
قال ابن حيان والحجاري إنه لما استشهد عنبسة قدم أهل الأندلس عليهم عذرة بن عبد الله الفهري ولم يعده ابن بشكوال في سلاطين الأندلس بل قال ثم تتابعت ولاة الأندلس مرسلين من قبل صاحب إفريقية أولهم يحيى بن سلمة وذكر الحجاري أن عذرة كان من صلحائهم وفرسانهم وصار لعقبه نباهة

وولده هشام بن عذرة هو الذي استولى على طليطلة قصبة الأندلس وفي عقبه بوادي آش من مملكة غرناطة نباهة وأدب قال ابن سعيد وهم إلى الآن ذوو بيت مؤصل ومجد مؤثل وكان سرير سلطنة عذرة قرطبة
وولي بعده يحيى بن سلمة الكلبي قال ابن بشكوال أنفذه إلى الأندلس بشر بن صفوان الكلبي والي إفريقية إذ استدعى منه أهلها واليا بعد مقتل أميرهم عنبسة فقدمها في شوال سنة سبع ومائة وأقام عليها سنة وستة أشهر لم يغز فيها بنفسه غزوة ونحوه لابن حيان وكان سريره قرطبة
وتولى بعده عثمان بن أبي نسعة الخثعمي وذكر ابن بشكوال أنه قدم عليها واليا من قبل عدي بن عبد الرحمن السلمي صاحب إفريقية في شعبان سنة عشر ومائة ثم عزل سريعا بعد خمسة أشهر وكان سرير سلطانه بقرطبة
وولي بعده حذيفة بن الأحوص القيسي قال ابن بشكوال وأتى إليها واليا من قبل عبيدة المذكور على اختلاف فيه وفي ابن أبي نسعة أيهما تولى قبل صاحبه وكان قدوم حذيفة في ربيع الأول سنة عشر ومائة وعزل عنها سريعا أيضا وقيل إن ولايته استتمت سنة وكان بقرطبة وولي بعده الأندلس الهيثم بن عبيد الكلابي قال ابن بشكوال ولاه عبيدة المذكور فوافى الأندلس في المحرم سنة إحدى عشرة ومائة وقيل إنه ولي سنتين وأياما وقد قيل أربعة أشهر وكان بقرطبة وولي بعده محمد بن عبد الله الأشجعي قال ابن بشكوال قدمه الناس عليهم وكان فاضلا فصلى بهم شهرين
قال ثم قدم عليهم واليا عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي الذي تقدمت ترجمته وذكرت ولايته الأولى للأندلس وليها من قبل عبيد الله بن الحبحاب صاحب إفريقية إلى أن استشهد كما تقدم
وولي الأندلس بعده عبد الملك بن قطن الفهري وذكر الحجاري أن من نسله بني القاسم أصحاب البونت وبني الجد أعيان إشبيلية قال ابن بشكوال قدم الأندلس في شهر رمضان سنة أربع عشرة ومائة فكانت مدة ولايته عامين

وقيل أربع سنين ثم عزل عنها ذميما في شهر رمضان سنة ست عشرة ومائة قال وكان ظلوما في سيرته جائرا في حكومته وغزا أرض البشكنس فأوقع بهم
وذكر ابن بشكوال أنه لما عزل وولي عقبة بن الحجاج وثب ابن قطن عليه فخلعه لا أدري أقتله أم أخرجه وملك الأندلس بقية إحدى وعشرين ومائة إلى أن رحل بلج بن بشر بأهل الشام إلى الأندلس فغلبه عليها وقتل عبد الملك بن قطن وصلب في ذي القعدة سنة ثلاث وعشرين ومائة بعد ولاية بلج بعشرة أشهر وصلب بصحراء ربض قرطبة بعدوة النهر حيال رأس القنطرة وصلبوا عن يمينه خنزيرا وعن يساره كلبا وأقام شلوه على جذعه إلى أن سرقه مواليه بالليل وغيبوه فكان المكان بعد ذلك يعرف بمصلب ابن قطن فلما ولي ابن عمه يوسف بن عبد الرحمن الفهري استأذنه ابنه أمية بن عبد الملك وبنى فيه مسجدا نسب إليه فقيل مسجد أمية وانقطع عنه اسم المصلب وكان سن عبد الملك عند مقتله نحو التسعين
وذكر ابن بشكوال أن عقبة بن الحجاج السلولي ولاه عبيد الله بن الحبحاب صاحب إفريقية الأندلس ودخلها سنة سبع عشرة ومائة وقيل في السنة التي قبلها فأقام بها سنين محمود السيرة مثابرا على الجهاد مفتتحا للبلاد حتى بلغ سكنى المسلمين أربونة وصار رباطهم على نهر رودونة فأقام عقبة بالأندلس سنة إحدى وعشرين ومائة وكان قد اتخذ بأقصى ثغر الأندلس الأعلى مدينة يقال لها أربونة كان ينزلها للجهاد وكان إذا أسر الأسير لم يقتله حتى يعرض عليه الإسلام ويبين له عيوب دينه فأسلم على يده ألفا رجل وكانت ولايته خمس سنين وشهرين قال الرازي فثار أهل الأندلس بعقبة فخلعوه في صفر سنة ثلاث وعشرين في خلافة هشام بن عبد الملك وولوا على أنفسهم عبد الملك بن قطن وهي ولايته الثانية

فكانت ولاية عقبة الأندلس ستة أعوام وأربعة أشهر وتوفي في صفر سنة 123 وسريره قرطبة
27 - 31 - ومن الداخلين إلى الأندلس بلج بن بشر بن عياض القشيري قال ابن حيان لما انتهى إلى الخليفة هشام بن عبد الملك ما كان من أمر خوارج البربر بالمغرب الأقصى والأندلس وخلعهم لطاعته وعيثهم في الأرض شق عليه فعزل عبيد الله بن الحبحاب عن إفريقية وولى عليها كلثوم بن عياض القشيري ووجه معه جيشا كثيفا لقتالهم كان فيه مع ما انضاف إليه من جيوش البلاد التي صار عليها سبعون ألفا ومع ذلك فإنه لما تلاقى مع مسيرة البربري المدعي للخلافة هزمه ميسرة وجرح كلثوم ولاذ بسبتة وكان بلج ابن أخيه معه فقامت قيامة هشام لما سمع بما جرى عليه فوجه لهم حنظلة بن صفوان فأوقع بالبربر ففتح الله تعالى على يديه
ولما اشتد حصار بلج وعمه كلثوم ومن معهما من فل أهل الشام بسبتة وانقطعت عنهم الأقوات وبلغوا من الجهد إلى الغاية استغاثوا بإخوانهم من عرب الأندلس فتثاقل عنهم صاحب الأندلس عبد الملك بن قطن لخوفه على سلطانه منهم فلما شاع خبر ضرهم عند رجال العرب أشفقوا عليهم فأغاثهم زياد بن عمرو اللخمي بمركبين مشحونين ميرة أمسكا من أرماقهم فلما بلغ ذلك عبد الملك بن قطن ضربه سبعمائة سوط ثم اتهمه بعد ذلك بتغريب الجند عليه فسمل عينيه ثم ضرب عنقه وصله وصلب عن يساره كلبا واتفق في هذا الوقت أن برابر الأندلس لما بلغهم ما كان من ظهور برابر العدوة على العرب انتقضوا على عرب الأندلس واقتدوا بما فعله إخوانهم ونصبوا عليهم إماما فكثر إيقاعهم بجيوش ابن قطن واستفحل أمرهم فخاف ابن قطن أن يلقى منهم ما لقي العرب ببر العدوة من إخوانهم وبلغه أنهم قد عزموا على قصده فلم ير أجدى من الاستعداد بصعاليك عرب الشام أصحاب بلج الموتورين فكتب

لبلج وقد مات عمه كلثوم في ذلك الوقت فأسرعوا إلى إجابته وكانت أمنيتهم فأحسن إليهم وأسبغ النعم عليهم وشرط عليهم أن يأخذ منهم رهائن فإذا فرغوا له من البربر جهزمهم إلى إفريقية وخرجوا له عن أندلسه فرضوا بذلك وعاهدوه عليه فقدم عليهم وعلى جنده ابنيه قطنا وأمية والبربر في جموع لا يحصيها غير رازقها فاقتتلوا قتالا صعب فيه المقام إلى أن كانت الدائرة على البربر فقتلتهم العرب بأقطار الأندلس حتى ألحقوا فلهم بالثغور وخفوا عن العيون فكر الشاميون وقد امتلأت أيديهم من الغنائم فاشتدت شوكتهم وثابت همتهم وبطروا ونسوا العهود وطالبهم ابن قطن بالخروج عن الأندلس إلى إفريقية فتعللوا عليه وذكروا صنيعه بهم أيام انحصارهم في سبتة وقتله الرجل الذي أغاثهم بالميرة فخلعوه وقدموا على أنفسهم أميرهم بلج بن بشر وتبعه جند ابن قطن وحملوا عليه في قتل ابن قطن فأبى فثارت اليمانية وقالوا قد حميت لمضرك والله لا نطيعك فلما خاف تفرق الكلمة أمر بابن قطن فأخرج إليهم وهو شيخ كبير كفرخ نعامة قد حضر وقعة الحرة مع أهل اليمامة فجعلوا يسبونه ويقولون له أفلت من سيوفنا يوم الحرة ثم طالبتنا بتلك الترة فعرضتنا لأكل الكلاب والجلود وحبستنا بسبتة محبس الضنك حتى أمتنا جوعا فقتلوه وصلبوه كما تقدم وكان أمية وقطن ابناه عندما خلع قد هربا وحشدا لطلب الثأر واجتمع عليهما العرب الأقدمون والبربر وصار معهم عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع الفهري كبير الجند وكان في أصحاب بلج فلما صنع بابن عمه عبد الملك ما صنع فارقه فانحاز فيمن يطلب ثأره وانضم إليهم عبد الرحمن بن علقمة اللخمي صاحب أربونة وكان فارس الأندلس في وقته فأقبلوا نحو بلج في مائة ألف أو يزيدون وبلج قد استعد

لهم في مقدار اثني عشر ألفا سوى عبيد له كثيرة وأتباع من البلديين فاقتتلوا وصبر أهل الشام صبرا لم يصبر مثله أحد قط وقال عبد الرحمن بن علقمة اللخمي أروني بلجا فوالله لأقتلنه أو لأموتن دونه فأشاروا إليه نحوه فحمل بأهل الثغر حملة انفرج لها الشاميون والراية في يده فضربه عبد الرحمن ضربتين مات منهما بعد ذلك بأيام قلائل
ثم إن البلديين انهزموا بعد ذلك هزيمة قبيحة واتبعهم الشاميون يقتلون ويأسرون فكان عسكرا منصورا مقتولا أميره وكان هلاك بلج في شوال سنة أربع وعشرين ومائة وكانت مدته أحد عشر شهرا وسريره قرطبة والعرب الشاميون الداخلون معه إلى الأندلس يعرفون عند أهل الأندلس بالشاميين والذين كانوا في الأندلس قبل دخوله يشهرون بالبلديين
ولما هلك بلج قدم الشاميون عليهم بالأندلس ثعلبة بن سلامة العاملي وقد كان عندهم عهد الخليفة هشام بذلك فسار فيهم بأحسن سيرة ثم إن أهل الأندلس الأقدمين من العرب والبربر سموا بعد الوقعة لطلب الثأر فآل أمره معهم إلى أن حصروه بمدينة ماردة وهم لا يشكون في الظفر إلى أن حضر عيد تشاغلوا به فأبصر ثعلبة منهم غرة وانتشارا وأشرا بكثرة العدد والاستيلاء فخرج عليهم في صبيحة عيدهم وهم ذاهلون فهزمهم هزيمة قبيحة وأفشى فيهم القتل وأسر منهم ألف رجل وسبى ذريتهم وعيالهم وأقبل إلى قرطبة من سبيهم بعشرة آلاف أو يزيدون حتى نزل بظاهر قرطبة يوم خميس وهو يريد أن يحمل الأسارى على السيف بعد صلاة الجمعة
وأصبح الناس منتظرين لقتل الأسارى فإذا بهم قد طلع عليهم لواء فيه موكب فنظروا فإذا أبو الخطار قد أقبل واليا على الأندلس وهو أبو الخطار حسام بن ضرار الكلبي وذكر ابن حيان أنه قدم واليا من قبل حنظلة بن صفوان صاحب إفريقية والخليفة حينئذ الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان وذلك في رجب سنة خمس وعشرين ومائة بعد عشرة أشهر وليها ثعلبة بن سلامة قال وكان

مع فروسيته شاعرا محسنا وكان في أول ولايته قد أظهر العدل فدانت له الأندلس إلى أن مالت به العصبية اليمانية على المضرية فهاج الفتنة العمياء وكان سبب هذه الفتنة أن أبا الخطار بلغ به التعصب لليمانية أن اختصم عنده رجل من قومه مع خصم له من كنانة كان أبلج حجة من ابن عم أبي الخطار فمال أبو الخطار مع ابن عمه فأقبل الكناني إلى الصميل بن حاتم الكلابي أحد سادات مضر فشكا له حيف أبي الخطار وكان أبيا للضيم حاميا للعشيرة فدخل على أبي الخطار وأمض عتابه فنجهه أبو الخطار وأغلظ له فرد الصميل عليه فأمر به أبو الخطار فأقيم ودع قفاه حتى مالت عمامته فلما خرج قال له بعض من على الباب أبا جوشن ما بال عمامتك مائلة فقال إن كان لي قوم فسيقيمونها
وأقبل إلى داره فاجتمع إليه قومه حين بلغهم ذلك ممتعضين فباتوا عنده فلما أظلم الليل قال ما رأيكم فيما حدث علي فإنه منوط بكم فقالوا أخبرنا بما تريد فإن رأينا تبع رأيك فقال أريد والله إخراج هذا الأعرابي من هذا السلطان على ما خيلت وأنا خارج لذلك عن قرطبة فإنه ما يمكنني ما أريد إلا بالخروج فإلى أين ترون أقصد فقالوا اذهب حيث شئت ولا تأت أبا عطاء القيسي فإنه لا يواليك على أمر ينفعك وكان أبو عطاء هذا سيدا مطاعا يسكن بإستجة وكان مشاحنا للصميل مساميا له في القدر فسكت عند ذكره أبو بكر بن الطفيل العبدي وكان من أشرافهم إلا أنه كان حديث السن فقال له الصميل ألا تتكلم فقال أتكلم بواحدة ما عندي غيرها قال وما هي قال إن عدوت إتيان أبي عطاء وشتت أمرك به لم يتم أمرنا وهلكنا وإن أنت قصدته لم ينظر في شيء مما سلف بينكما وحركته الحمية لك فأجابك إلى ما تريد فقال له الصميل أصبت الرأي وخرج من ليلته وقام أبو عطاء في نصرته على ما قدره العبدي وعمد إلى ثوابة بن يزيد الجذامي أحد أشراف اليمن وساداتهم وكان ساكنا بمورور وقد استفسد إليه أبو الخطار فأجابهما في

والتقدم على المضرية فاجتمعوا في شذونة وآل الأمر إلى أن هزموا أبا الخطار على وادي لكة وحصل أسيرا في أيديهم فأرادوا قتله ثم أرجأوه وأوثقوه وأقبلوا به إلى قرطبة وذلك في رجب سنة 127 بعد ولاية أبي الخطار بسنتين
ولما سجن أبو الخطار في قرطبة امتعض له عبد الرحمن بن حسان الكلبي فأقبل إلى قرطبة ليلا في ثلاثين فارسا معهم طائفة من الرجالة فهجموا على الحبس وأخرجوه منه ومضوا به إلى غرب الأندلس فعاد في طلب سلطانه ودب في يمانيته حتى اجتمع له عسكر أقبل بهم إلى قرطبة فخرج إليه ثوابة ومعه الصميل فقام رجل من المضرية ليلا فصاح بأعلى صوته يا معشر اليمن ما لكم تتعرضون إلى الحرب وتردون المنايا عن أبي الخطار أليس قد قدرنا عليه لو أردنا قتله لفعلنا لكننا مننا وعفونا وجعلنا الأمير منكم أفلا تفكرون في أمركم فلو أن الأمير من غيركم عذرتم ولا والله لا نقول هذا رهبة منكم ولا خوفا لحربكم ولكن تحرجا من الدماء ورغبة في عافية العامة فتسامع الناس به وقالوا صدق فتداعوا للرحيل ليلا فما أصبحوا إلا على أميال
قال الرازي ركب أبو الخطار البحر من ناحية تونس في المحرم سنة 125 وفي كتاب أبي الوليد ابن الفرضي كان أبو الخطار أعرابيا عصبيا أفرط في التعصب لليمانيين وتحامل على مضر وأسخط قيسا فثار به زعيمهم الصميل فخلعه ونصب مكانه ثوابة وهاج بين الفريقين الحروب المشهورة وخلع أبو الخطار بعد أربع سنين وتسعة أشهر وذلك سنة 128 وآل أمره إلى أن قتله الصميل
وولي الأندلس ثوابة بن سلامة الجذامي قال ابن بشكوال لما اتفقوا عليه خاطبوا بذلك عبد الرحمن بن حبيب صاحب القيروان فكتب إليه بعهد الأندلس وذلك سلخ رجب سنة 127 فضبط البلد وقام بأمره كله

الصميل واجتمع عليه أهل الأندلس وأقام واليا سنة أو نحوها ثم هلك وفي كتاب ابن الفرضي أنه ولي سنتين
ثم ولي الأندلس يوسف بن عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة ابن عقبة ابن نافع الفهري وجده عقبة بن نافع صاحب إفريقية وباني القيروان المجاب الدعوة صاحب الغزوات والآثار الحميدة ولهذا البيت في السلطنة بإفريقية والأندلس نباهة
وذكر الرازي أن مولده بالقيروان ودخل أبوه الأندلس من إفريقية مع حبيب بن أبي عبيدة الفهري عند افتتاحهم ثم عاد إلى إفريقية وهرب عنه ابنه يوسف هذا من إفريقية إلى الأندلس مغاضبا له فهوي الأندلس واستوطنها فساد بها قال الرازي كان يوسف يوم ولي الأندلس ابن سبع وخمسين سنة وأقامه أهل الأندلس بعد أميرهم ثوابة وقد مكثوا بغير وال أربعة أشهر فاجتمعوا عليه بإشارة الصميل من أجل أنه قرشي رضي به الحيان فرفعوا الحرب ومالوا إلى الطاعة فدانت له الأندلس تسع سنين وتسعة أشهر وقال ابن حيان قدمه أهل الأندلس في ربيع الآخر سنة 129 واستبد بالأندلس دون ولاية أحد له غير من بالأندلس وحكى ابن حيان أنه أنشد قول حرقة بنت النعمان بن المنذر يوم خلعه بالأمان من سلطانه ودخوله عسكر عبد الرحمن الداخل المرواني
( فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا ... إذا نحن فيهم سوقة نتنصف )
قال ابن حيان لما سمع أبو الخطار بتقديمه حرك يمانيته فأجابوا دعوته فأدى ذلك إلى وقعة شقندة بين اليمانية والمضرية فيقال إنه لم يك بالمشرق ولا بالمغرب حرب أصدق منها جلادا ولا أصبر رجالا طال صبر بعضهم على بعض إلى أن فني السلاح وتجاذبوا بالشعور وتلاطموا بالأيدي وكل بعضهم عن بعض وثابت للصميل غرة في اليمانية في بعض الأيام فأمر بتحريك أهل الصناعات بأسواق قرطبة فخرجوا في نحو أربعمائة رجل من

أنجادهم بما حضرهم من السكاكين والعصي ليس فيهم حامل رمح ولا سيف إلا قليلا فرماهم على اليمانية وهم على غفلة وما فيهم من يبسط يدا لقتال ولا ينهض لدفاع فانهزمت اليمانية ووضعت المضربة السيف فيهم فأبادوا منهم خلقا واختفى أبو الخطار تحت سرير رحى فقبض عليه وجيء به إلى الصميل فضرب عنقه وقد ذكرنا خبر انخلاع يوسف عن سلطانه في ترجمة عبد الرحمن الداخل وهو آخر سلاطين الأندلس الذين ولوها من غير موارثة حتى جاءت الدولة المروانية
وذكر ابن حيان أن القائم بدولة يوسف والمستولي عليها الصميل بن حاتم بن شمر بن ذي الجوشن الكلابي وجده شمر هو قاتل الحسين رضي الله تعالى عنه وكان شمر قد فر من المختار بولده من الكوفة إلى الشام فلما خرج كلثوم بن عياض للمغرب كان الصميل فيمن خرج معه ودخل الأندلس في طالعة بلج وكان شجاعا جوادا جسورا على قلب الدول فبلغ ما بلغ وآل أمره إلى أن قتله عبد الرحمن الداخل المرواني في سجن قرطبة مخنوقا
وذكر ابن حيان أنه كان ممن ثار على يوسف الفهري عبد الرحمن بن علقمة اللخمي فارس الأندلس ووالي ثغر أربونة وكان ذا بأس شديد ووجاهة عظيمة فبينما هو في تدبير غزو يوسف إذ اغتاله أصحابه وأقبلوا برأسه إليه
ثم ثار عليه بعد ذلك بمدينة باجة عروة بن الوليد في أهل الذمة وغيرهم فملك إشبيلية وكثر جمعه إلى أن خرج له يوسف فقتله وثار عليه بالجزيرة الخضراء عامر العبدري فخرج له وأنزله على أمان في سكنى قرطبة ثم ضرب عنقه بعد ذلك
وقيل إن أول من خرج على يوسف عمرو بن يزيد الأزرق في إشبيلية فظفر به فقتله وثار عليه في كورة سرقسطة الحباب الزهري إلى أن ظفر به يوسف فقتله ثم جاءته الداهية العظمى بدخول عبد الرحمن بن معاوية المرواني إلى الأندلس وسعيه في إفساد سلطانه فتم له ما أراده والله تعالى أعلم

32 - ومن الداخلين من المشرق إلى الأندلس ملكها عبد الرحمن بن معاوية ابن أمير المؤمنين هشام بن عبد الملك بن مروان المعروف بالداخل وذلك أنه لما أصاب دولتهم ما أصاب واستولى بنو العباس على ما كان بأيديهم واستقر قدمهم في الخلافة فر عبد الرحمن إلى الأندلس فنال بها ملكا أورثه عقبه حقبة من الدهر
قال ابن حيان في المقتبس إنه لما وقع الاختلال في دولة بني أمية والطلب عليهم فر عبد الرحمن ولم يزل في فراره منتقلا بأهله وولده إلى أن حل بقرية على الفرات ذات شجر وغياض يريد المغرب لما حصل في خاطره من بشرى مسلمة فمما حكي عنه أنه قال إني لجالس يوما في تلك القرية في ظلمة بيت تواريت فيه لرمد كان بي وابني سليمان بكر ولدي يلعب قدامي وهو يومئذ ابن أربع سنين أو نحوها إذ دخل الصبي من باب البيت فازعا باكيا فأهوى إلى حجري فجعلت أدفعه لما كان بي ويأبى إلا التعلق وهو دهش يقول ما يقوله الصبيان عند الفزع فخرجت لأنظر فإذا بالروع قد نزل بالقرية ونظرت فإذا بالرايات السود عليها منحطة وأخ لي حديث السن كان معي يشتد هاربا ويقول لي النجاء يا أخي فهذه رايات المسودة فضربت بيدي على دنانير تناولتها ونجوت بنفسي والصبي أخي معي وأعلمت أخواتي بمتوجهي ومكان مقصدي وأمرتهن أن يلحقنني ومولاي بدر معهن وخرجت فكمنت في موضع ناء عن القرية فما كان إلا ساعة حتى أقبلت

الخيل فأحاطت بالدار فلم تجد أثرا ومضيت ولحقني بدر فأتيت رجلا من معارفي بشط الفرات فأمرته أن يبتاع لي دواب وما يصلح لسفري فدل علي عبد سوء له العامل فما راعنا إلا جلبة الخيل تحفزنا فاشتددنا في الهرب فسبقناها إلى الفرات فرمينا فيه بأنفسنا والخيل تنادينا من الشط ارجعا لا بأس عليكما فسبحت حاثا لنفسي وكنت أحسن السبح وسبح الغلام أخي فلما قطعنا نصف الفرات قصر أخي ودهش فالتفت إليه لأقوي من قلبه وإذا هو قد أصغى إليهم وهم يخدعونه عن نفسه فناديته تقتل يا أخي إلي إلي فلم يسمعني وإذا هو قد اغتر بأمانهم وخشي الغرق فاستعجل الانقلاب نحوهم وقطعت أنا الفرات وبعضهم قد هم بالتجرد للسباحة في أثري فاستكفه أصحابه عن ذلك فتركوني ثم قدموا الصبي أخي الذي صار إليهم بالأمان فضربوا عنقه ومضوا برأسه وأنا أنظر إليه وهو ابن ثلاث عشرة سنة فاحتملت فيه ثكلا ملأني مخافة ومضيت إلى وجهي أحسب أني طائر وأنا ساع على قدمي فلجأت إلى غيضة آشبة فتواريت فيها حتى انقطع الطلب ثم خرجت أؤم المغرب حتى وصلت إلى إفريقية
قال ابن حيان وسار حتى أتى إفريقية وقد ألحقت به أخته شقيقته أم الأصبغ مولاه بدرا ومولاه سالما ومعهما دنانير للنفقة وقطعة من جوهر فنزل بإفريقية وقد سبقه إليها جماعة من فل بني أمية وكان عند واليها عبد الرحمن بن حبيب الفهري يهودي حدثاني صحب مسلمة ابن عبد الملك وكان يتكهن له ويخبره بتغلب القرشي المرواني الذي هو من أبناء ملوك القوم واسمه عبد  ==

4.   : مجلد 4. نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب
المؤلف : أحمد بن محمد المقري التلمساني

الرحمن وهو ذو ضفيرتين يملك الأندلس ويورثها عقبه فاتخذ الفهري عند ذلك ضفيرتين أرسلهما رجاء أن تناله الرواية فلما جيء بعبد الرحمن ونظر إلى ضفيرتيه قال لليهودي ويحك هذا هو وأنا قاتله فقال له اليهودي إنك إن قتلته فما هو به وإن غلبت على تركه إنه لهو
وثقل فل بني أمية على ابن حبيب صاحب إفريقية فطرد كثيرا منهم مخافة وتجنى على ابنين للوليد بن يزيد كانا قد استجارا به فقتلهما وأخذ مالا كان مع إسماعيل بن أبان بن عبد العزيز بن مروان وغلبه على أخته فتزوجها بكرهه وطلب عبد الرحمن فاستخفى انتهى
وذكر ابن عبد الحكم أن عبد الرحمن الداخل أقام ببرقة مستخفيا خمس سنين وآل أمره في سفره إلى أن استجار ببني رستم ملوك تيهرت من المغرب الأوسط وتقلب في قبائل البربر إلى أن استقر على البحر عند قوم من زنانة وأخذ في تجهيز بدر مولاه إلى العبور للأندلس لموالي بني أمية وشيعتهم بها وكانت الموالي المروانية المدونة بالأندلس في ذلك الأوان ما بين الأربعمائة والخمسمائة ولهم جمرة وكانت رياستهم إلى شخصين أبي عثمان عبيد الله بن عثمان وعبد الله بن خالد وهما من موالي عثمان رضي الله تعالى عنه وكانا يتوليان لواء بني أمية يعتقبان حمله ورياسة جند الشام النازلين بكورة إلبيرة فعبر بدر مولى عبد الرحمن إلى أبي عثمان بكتاب عبد الرحمن يذكره فيه أيادي سلفه من بني أمية وسببه بهم ويعرفه مكانه من السلطان وسعيه لنيله إذ كان الأمر لجده هشام فهو حقيق بوراثته ويسأله القيام بشأنه وملاقاة من يثق به من الموالي الأموية وغيرهم ويتلطف في إدخاله إلى الأندلس ليبلي عذرا في الظهور عليها ويعده بإعلاء الدرجة ولطف المنزلة ويأمره أن يستعين في ذلك بمن يأمنه ويرجو قيامه معه ويأخذ فيه مع اليمانية ذوي الحنق على المضرية لما بين الحيين من الترات فمشى أبو عثمان لما دعاه إليه وبانت له فيه طماعية وكان عند ورود بدر قد تجهز إلى ثغر سرقسطة لنصرة

صاحبها الصميل بن حاتم وجه دولة يوسف بن عبد الرحمن صاحب الأندلس فقال لصهره عبد الله بن خالد المذكور لو كنا ذاكرنا الصميل خبر بدر وما جاء به لنختبر ما عنده في موافقتنا وكانا على ثقة في أنه لا يظهر على سرهما أحدا لمروءته وأنفته فقال له إن نحن فعلنا لم نأمن من أن تدركه الغيرة على سلطان يوسف لما هو عليه من شرف القدر وجلالة المنزلة فيتوقع سقوط رياسته فلا يساعدنا قال أبو عثمان فنمسح إذا على أمره ونذكر له أنه قصد لإرادة الإيواء والأمان وطلب أخماس جده هشام لدينا ليتعيش بها لا يريد غير ذلك فاتفقنا على هذا
فلما ودعا الصميل خلوا به في ذلك وقد ظهر لهما منه حقد على صاحبه يوسف في إبطائه عن إمداده لما حاربه الحباب الزهري بكورة سرقسطة فقال لهما أنا معكما فيما تحبان فاكتبا إليه أن يعبر فإذا حضر سألنا يوسف أن ينزله في جواره وأن يحسن له ويزوجه بابنته فإن فعل وإلا ضربنا صلعته بأسيافنا وصرفنا الأمر عنه إليه فشكراه وقبلا يده ثم ودعاه وأقام بطليطلة وقد ولاه يوسف عليها وعزله عن الثغر وانصرفا إلى وطنهما بإلبيرة وقد كانا لقيا من كان معهما في العسكر من وجوه الناس وثقاتهم فطارحاهم أمر ابن معاوية ثم دسا في الكور إلى ثقاتهما بمثل ذلك فدب أمره فيهم دبيب النار في الجمر وكانت سنة خلف بالأندلس بعد خروج من المجاعة التي دامت بالناس
وفي رواية أن الصميل لأن لهما في أن يطلب الأمر عبد الرحمن الداخل لنفسه ثم دبر ذلك لما انصرفا فتراجع فيه فردهما وقال إني رويت في الأمر الذي أدرته معكما فوجدت الفتى الذي دعوتماني إليه من قوم لو بال أحدهم بهذه الجزيرة غرقنا نحن وأنتم في بوله وهذا رجل نتحكم عليه ونميل على جوانبه ولا يسعنا بدل منه ووالله لو بلغتما بيوتكما ثم بدا لي فيما

فارقتكما عليه لرأيت أن لا أقصر حتى ألقاكما لئلا أغركما من نفسي فإني أعلمكما أن أول سيف يسل عليه سيفي فبارك الله لكما في رأيكما فقالا له ما لنا رأي إلا رأيك ولا مذهب لنا عنك
ثم انصرفا عنه على أن يعينهما في أمره إن طلب غير السلطان وانفصلا عنه إلى إلبيرة عازمين على التصميم في أمره ويئسا من مضر وربيعة ورجعا إلى اليمانية وأخذا في تهييج أحقاد أهل اليمن على مضر فوجداهم قوما قد وغرت صدورهم عليهم يتمنون شيئا يجدون به السبيل إلى إدراك ثأرهم واغتنما بعد يوسف صاحب الأندلس في الثغر وغيبة الصميل فابتاعا مركبا ووجها فيه أحد عشر رجلا منهم مع بدر الرسول وفيهم تمام بن علقمة وغيره وكان عبد الرحمن قد وجه خاتمه إلى مواليه فكتبوا تحت ختمه إلى من يرجونه في طلب الأمر فبثوا من ذلك في الجهات ما دب به أمرهم ولما وجه أبو عثمان المركب المذكور مع شيعته ألفوه بشط مغيلة من بلاد البربر وهو يصلي وكان قد اشتد قلقه وانتظاره لبدر رسوله فبشره بدر بتمكن الأمر وخرج إليه تمام مكثرا لتبشيره فقال له عبد الرحمن ما اسمك قال تمام قال وما كنيتك قال أبو غالب فقال الله أكبر ! الآن تم أمرنا وغلبنا بحول الله تعالى وقوته وأدنى منزلة أبي غالب لما ملك ولم يزل حاجبه حتى مات عبد الرحمن
وبادر عبد الرحمن بالدخول إلى المركب فلما هم بذلك أقبل البربر فتعرضوا دونه ففرقت فيهم من مال كان مع تمام صلات على أقدارهم حتى لم يبق أحد حتى أرضاه فلما صار عبد الرحمن بداخل المركب أقبل عات منهم لم يكن أخذ شيئا فتعلق بحبل الهودج يعقل المركب فحول رجل اسمه شاكر يده بالسيف فقطع يد البربري وأعانتهم الريح على التوجه بمركبهم حتى حلوا بساحل إلبيرة في جهة المنكب وذلك في ربيع الآخر سنة 138 فأقبل إليه نقيباه أبو عثمان وصهره أبو خالد فنقلاه إلى

قرية طرش منزل أبي عثمان فجاءه يوسف بن بخت وانثالت عليه الأموية وجاء جدار بن عمرو المذحجي من أهل مالقة فكان بعد ذلك قاضيه في العساكر وجاءه أبو عبدة حسان بن مالك الكلبي من إشبيلية فاستوزره وانثال عليه الناس انثيالا فقوي أمره مع الساعات فضلا عن الأيام وأمده الله تعالى بقوة عالية فكان دخوله قرطبة بعد ذلك بسبعة أشهر
وكان خبر دخوله للأندلس قد صادف صاحبها يوسف الفهري بالثغر وقد قبض على الحباب الزهري الثائر بسرقسطة وعلى عامر العبدري الثائر معه فبينما هو بوادي الرمل بمقربة من طليطلة وقد ضرب عنق عامر العبدري وابن عامر برأي الصميل إذ جاءه قبل أن يدخل رواقه رسول يركض من عند ولده عبد الرحمن بن يوسف من قرطبة يعلمه بأمر عبد الرحمن ونزوله بساحل جند دمشق واجتماع الموالي المروانية إليه وتشوف الناس لأمره فانتشر الخبر في العسكر لوقته وشمت الناس بيوسف لقتله القرشيين عامرا وابنه وختره بعهدهما فسارع عدد كثير إلى البدار لعبد الرحمن الداخل وتنادوا بشعارهم وقوضوا عن عسكره واتفق أن جادت السماء بوابل لا عهد بمثله لما شاء الله تعالى من التضييق على يوسف فأصبح وليس في عسكره سوى غلمانه وخاصته وقوم الصميل قيس وأتباعه فأقبل إلى طليطلة وقال للصميل ما الرأي فقال بادره الساعة قبل أن يغلظ أمره فإني لست آمن عليك هؤلاء اليمانية لحنقهم علينا فقال له يوسف أتقول ذلك ومع من نسير إليه وأنت ترى الناس قد ذهبوا عنا وقد أنفضنا من المال وأنضينا الظهر ونهكتنا المجاعة في سفرتنا هذه ولكن نسير إلى قرطبة فنستأنف الاستعداد له بعد أن ننظر في أمره ويتبين لنا خبره فلعله دون ما كتب

إلينا فقال الصميل الرأي ما أشرت به عليك وليس غيره وسوف تتبين غلطك فيما تنكبه ومضوا إلى قرطبة
وسار عبد الرحمن الداخل إلى إشبيلية وتلقاه رئيس عربها أبو الصباح بن يحيى اليحصبي واجتمع الرأي على أن يقصدوا به دار الإمارة قرطبة فلما نزلوا بطشانة قالوا كيف نسير بأمير لا لواء له ولا علم نهتدي إليه فجاءوا بقناة وعمامة ليعقدوها عليه فكرهوا أن يميلوا القناة لتعقد تطيرا فأقاموها بين زيتونتين متجاورتين فصعد رجل فرع إحداهما فعقد اللواء والقناة قائمة كما سيأتي وحكي أن فرقدا العالم صاحب الحدثان مر بذلك الموضع فنظر إلى الزيتونتين فقال سيعقد بين هاتين الزيتونتين لواء لأمير لا يثور عليه لواء إلا كسره فكان ذلك اللواء يسعد به هو وولده من بعده ولما أقبل إلى قرطبة خرج له يوسف وكانت المجاعة توالت قبل ذلك ست سنين فأورثت أهل الأندلس ضعفا ولم يكن عيش عامة الناس بالعسكر ما عدا أهل الطاقة مذ خرجوا من إشبيلية إلا الفول الأخضر الذي يجدونه في طريقهم وكان الزمان زمان ربيع فسمي ذلك العام عام الخلف وكان نهر قرطبة حائلا فسار يوسف من قرطبة وأقبل ابن معاوية على بر إشبيلية والنهر بينهما فلما رأى يوسف تصميم عبد الرحمن إلى قرطبة رجع مع النهر محاذيا له فتسايرا والنهر حاجز بينهما إلى أن حل يوسف بصحراء المصارة غربي قرطبة وعبد الرحمن في مقابلته وتراسلا في الصلح وقد أمر يوسف بذبح الجزر وتقدم بعمل الأطعمة وابن معاوية آخذ في خلاف ذلك قد أعد للحرب عدتها واستكمل أهبتها وسهر الليل كله على نظام أمره كما سنذكره ثم انهزم أهل قرطبة وظفر عبد الرحمن الداخل ونصر نصرا لا كفاء له وانهزم

الصميل وفر إلى شوذر من كورة جيان وفر يوسف إلى جهة ماردة
وذكر أن أبا الصباح رئيس اليمانية قال لهم عند هزيمة يوسف يا معشر يمن هل لكم إلى فتحين في يوم قد فرغنا من يوسف وصميل فلنقتل هذا الفتى المقدامة ابن معاوية فيصير الأمر لنا نقدم عليه رجلا منا ونحل عنه هذه المضرية فلم يجبه أحد لذلك وبلغ الخبر عبد الرحمن فأسرها في نفسه إلى أن اغتاله بعد عام فقتله
ولما انقضت الهزيمة أقام ابن معاوية بظاهر قرطبة ثلاثة أيام حتى أخرج عيال يوسف من القصر وعف وأحسن السيرة ولما حصل بدار الإمارة وحل محل يوسف لم يستقر به قرار من إفلات يوسف والصميل فخرج في إثر عدوه واستخلف على قرطبة القائم بأمره أبا عثمان واستكتب كاتب يوسف أمية بن زياد واستنام إليه إذ كان من موالي بني أمية ونهض في طلب يوسف فوقع يوسف على خبره فخالفه إلى قرطبة ودخل القصر وتحصن أبو عثمان خليفة عبد الرحمن بصومعة الجامع فاستنزله بالأمان ولم يزل عنده إلى أن عقد الصلح بينه وبين ابن معاوية وكان عقد الصلح المشتمل عليه وعلى وزيره الصميل في صفر سنة 139 وشارطه على أن يخلي بينه وبين أمواله حيثما كانت وأن يسكن بلاط الحر منزلة بشرقي قرطبة - على أن يختلف كل يوم إلى ابن معاوية ويريه وجهه وأعطاه رهينة على ذلك ابنه أبا الأسود محمد بن يوسف زيادة على ابنه عبد الرحمن الذي أسره ابن معاوية يوم الوقعة ورجع العسكران وقد اختلطا إلى قرطبة
وذكر ابن حيان أن يوسف بن عبد الرحمن نكث سنة 141 فهرب من قرطبة وسعى بالفساد في الأرض وقد كانت الحال اضطربت به في قرطبة ودس له قوم قاموا عليه في أملاكه زعموا أنه غصبهم إياها فدفع معهم إلى الحكام

فأعنتوه وحمل عنه في التألم بذلك كلام رفع إلى ابن معاوية أصاب أعداء يوسف به السبيل إلى السعاية به والتخويف منه فاشتد توحشه فخرج إلى جهة ماردة واجتمع إليه عشرون ألفا من أهل الشتات فغلظ أمره وحدثته نفسه بلقاء ابن معاوية فخرج نحوه من ماردة وخرج ابن معاوية من قرطبة فبينما ابن معاوية في حصن المدور مستعد إذ التقى بيوسف عبد الملك بن عمر بن مروان صاحب إشبيلية فكانت بينهما حرب شديدة انكشف عنها يوسف بعد بلاء عظيم منهزما واستحر القتل في أصحابه فهلك منهم خلق كثير وسار يوسف لناحية طليطلة فلقيه في قرية من قراها عبد الله بن عمرو الأنصاري فلما عرفه قال لمن معه هذا الفهري يفر قد ضاقت عليه الأرض وقتله الراحة له والراحة منه فقتله واحتز رأسه وقدم به إلى عبد الرحمن فلما قرب وأوذن عبد الرحمن به أمره أن يتوقف به دون جسر قرطبة وأمر بقتل ولده عبد الرحمن المحبوس عنده وضم إلى رأسه رأسه ووضعا على قناتين مشهرين إلى باب القصر
وكان عبد الرحمن لما فر يوسف قد سجن وزيره الصميل لأنه قال له أين توجه فقال لا أعلم فقال ما كان ليخرج حتى يعلمك ومع ذلك فإن ولدك معه وأكد عليه في أن يحضره فقال لو أنه تحت قدمي هذه ما رفعتها لك عنه فاصنع ما شئت فحينئذ أمر به للحبس وسجن معه ولدي يوسف أبا الأسود محمدا المعروف بعد بالأعمى وعبد الرحمن فتهيأ لهما الهرب من نقب فأما أبو الأسود فنجا سالما واضطرب في الأرض يبغي الفساد إلى أن هلك حتف أنفه وأما عبد الرحمن فأثقله اللحم فانبهر فرد إلى الحبس حتى قتل كما تقدم وأنف الصميل من الهرب فأقام بمكانه فلما

قتل يوسف أدخل ابن معاوية على الصميل من خنقه فأصبح ميتا فدخل عليه مشيخة المضرية في السجن فوجدوه ميتا وبين يديه كأس ونقل كأنه بغت على شرابه فقالوا والله إنا لنعلم يا أبا جوشن أنك ما شربتها ولكن سقيتها ومما ظهر من بطش الأمير عبد الرحمن بن معاوية وصرامته فتكه بأحدى دعائم دولته رئيس اليمانية أبي الصباح يحيى وكان قد ولاه إشبيلية وفي نفسه منه ما أوجب فتكه به
ومن ذلك النوع حكايته مع العلاء بن مغيث اليحصبي إذ ثار بباجة وكان قد وصل من إفريقية على أن يظهر الرايات السود بالأندلس فدخل في ناس قليلين فأرسى بناحية باجة ودعا أهلها ومن حولهم فاستجاب له خلق كثير إلى أن لقيه عبد الرحمن بجهة إشبيلية فهزمه وجيء به وبأعلام أصحابه فقطع يديه ورجليه ثم ضرب عنقه وأعناقهم وأمر فقرطت الصكاك في آذانهم بأسمائهم وأودعت جوالقا محصنا ومعها اللواء الأسود وأنفذ بالجوالق تاجرا من ثقاته وأمره أن يضعه بمكة أيام الموسم ففعل ووافق أبا جعفر المنصور قد حج فوضعه على باب سرادقه فلما كشفه ونظر إليه سقط في يده واستدعى عبد الرحمن وقال عرضنا هذا البائس يعني العلاء - للحتف ما في هذا الشيطان مطمع فالحمد لله الذي صير هذا البحر بيننا وبينه
ولما أوقع عبد الرحمن باليمانية الذين خرجوا في طلب ثأر رئيسهم أبي الصباح اليحصبي وأكثر القتل فيهم استوحش من العرب قاطبة وعلم أنهم على دغل وحقد فانحرف عنهم إلى اتخاذ المماليك فوضع يده في الابتياع فابتاع موالي الناس بكل ناحية واعتضد أيضا بالبرابر ووجه عنهم إلى بر العدوة فأحسن لمن وفد عليه إحسانا رغب من خلفه في المتابعة قال ابن

حيان واستكثر منهم ومن العبيد فاتخذ أربعين ألف رجل صار بهم غالبا على أهل الأندلس من العرب فاستقامت مملكته وتوطدت
وقال ابن حيان كان عبد الرحمن راجح الحلم فاسح العلم ثاقب الفهم كثير الحزم نافذ العزم بريئا من العجز سريع النهضة متصل الحركة لا يخلد إلى راحة ولا يسكن إلى دعة ولا يكل الأمور إلى غيره ثم لا ينفرد في إبرامها برأيه شجاعا مقداما بعيد الغور شديد الحدة قليل الطمأنينة بليغا مفوها شاعرا محسنا سمحا سخيا طلق اللسان وكان يلبس البياض يعتم به ويؤثره وكان قد أعطي هيبة من وليه وعدوه وكان يحضر الجنائز ويصلي عليها ويصلي بالناس إذا كان حاضرا الجمع والأعياد ويخطب على المنبر ويعود المرضى ويكثر مباشرة الناس والمشي بينهم إلى أن حضر في يوم جنازة فتصدى له في منصرفه عنها رجل متظلم عامي وقاح ذو عارضة فقال له أصلح الله الأمير ! إن قاضيك ظلمني وأنا أستجيرك من الظلم فقال له تنصف إن صدقت فمد الرجل يده إلى عنانه وقال أيها الأمير أسألك بالله لما برحت من مكانك حتى تأمر قاضيك بإنصافي فإنه معك فوجم الأمير والتفت إلى من حوله من حشمه فرآهم قليلا ودعا بالقاضي وأمر بإنصافه فلما عاد إلى قصره كلمه بعض رجاله ممن كان يكره خروجه وابتذاله فيما جرى فقال له إن هذا الخروج الكثير - أبقى الله تعالى الأمير ! - لا يجمل بالسلطان العزيز وإن عيون العامة تخلق تجلته ولا تؤمن بوادرهم عليه فليس الناس كما عهدوا فترك من يومئذ شهود الجنائز وحضور المحافل ووكل بذلك ولده هشاما

ومن نظم عبد الرحمن الداخل ما كتب به إلى أخته بالشام
( أيها الراكب الميمم أرضي ... اقر مني بعض السلام لبعضي )
( إن جسمي كما تراه بأرض ... وفؤادي ومالكيه بأرض )
( قدر البين بيننا فافترقنا ... وطوى البين عن جفوني غمضي )
( قد قضى الدهر بالفراق علينا ... فعسى باجتماعنا سوف يقضي ) الوفود
وكتب إلى بعض من وفد عليه من قومه لما سأله الزيادة في رزقه واستقل ما قابله به وذكره بحقه بهذه الأبيات
( من قام ذا امتعاض ... منتضي الشفرتين نصلا )
( فجاب قفرا وشق بحرا ... مساميا لجة ومحلا )
( دبر ملكا وشاد عزا ... ومنبرا للخطاب فصلا )
( وجند الجند حين أودى ... ومصر المصر حين أجلى )
( ثم دعا أهله إليه ... حيث أنتأوا أن هلم أهلا )
( فجاء هذا طريد جوع ... شديد روع يخاف قتلا )
( فنال أمنا ونال شبعا ... ونال مالا ونال أهلا )
( ألم يكن حق ذا على ذا ... أعظم من منعم ومولى )
وحكى ابن حيان أن عبد الرحمن لما أذعن له يوسف صاحب الأندلس

واستقر ملكه استحضر الوفود إلى قرطبة فانثالوا عليه ووالى القعود لهم في قصره عدة أيام في مجالس يكلم فيها رؤساءهم ووجوههم بكلام سرهم وطيب نفوسهم مع أنه كساهم وأطعمهم ووصلهم فانصرفوا عنه محبورين مغتبطين يتدارسون كلامه ويتهافتون بشكره ويتهانون بنعمة الله تعالى عليهم فيه
وفي بعض مجالسهم هذه مثل بين يديه رجل من جند قنسرين يستجديه فقال له يا ابن الخلائف الراشدين والسادة الأكرمين إليك فررت وبك عذت من زمن ظلوم ودهر غشوم قلل المال وكثر العيال وشعث الحال فصير إلى نداك المآل وأنت ولي الحمد والمجد والمرجو للرفد فقال له عبد الرحمن مسرعا قد سمعنا مقالتك وقضينا حاجتك وأمرنا بعونك على دهرك على كرهنا لسوء مقامك فلا تعودن ولا سواك لمثله من إراقة ماء وجهك بتصريح المسألة والإلحاف في الطلبة وإذا ألم بك خطب أو حزبك أمر فارفعه إلينا في رقعة لا تعدوك كيما نستر عليك خلتك ونكف شمات العدو عنك بعد رفعك لها إلى مالكك ومالكنا عز وجهه بإخلاص الدعاء وصدق النية وأمر له بجائزة حسنة وخرج الناس يتعجبون منه من حسن منطقه وبراعة أدبه وكف فيما بعد ذوو الحاجات عن مقابلته بها شفاها في مجلسه
قال ابن حيان ووقع إلى سليمان بن يقظان الأعرابي على كتاب منه سلك به سبيل الخداع أما بعد فدعني من معاريض المعاذير والتعسف عن جادة الطريق لتمدن يدا إلى الطاعة والاعتصام بحبل الجماعة أو لأزوين بنانها عن رصف المعصية نكالا بما قدمت يداك وما الله بظلام للعبيد
وفي المسهب أن عبد الرحمن كان من البلاغة بالمكان العالي الذي يرتد عنه أكثر بني مروان حسيرا
وقد جرى بينه وبين مولاه بدر ما لا يجب إهماله

وذلك أنه لما سعى بدر في تكميل دولته من ابتدائها إلى استقرارها صحبه عجب وامتنان كادا يردان به حياض المنية فأول ما بدأ به أن قال بعنا أنفسنا وخاطرنا بها في شأن من هانت عليه لما بلغ أقصى أمله
وقال وقد أمره بالخروج إلى غزاة إنما تعبنا أولا لنستريح آخرا وما أرانا إلا في أشد مما كنا وأطال أمثال هذه الأقوال وأكثر الاستراحة في جانبه فهجره وأعرض عنه فزاد كلامه وكتب له رقعة منها أما كان جزائي في قطع البحر وجوب القفر والإقدام على تشتيت نظام مملكة وإقامة أخرى غير الهجر الذي أهانني في عيون أكفائي وأشمت بي أعدائي وأضعف أمري ونهيي عند من يلوذ بي وبتر مطامع من كان يكرمني ويحفدني على الطمع والرجاء وأظن أعداءنا بني العباس لو حصلت بأيديهم ما بلغوا بي أكثر من هذا فإنا لله وإنا إليه راجعون
فلما وقف عبد الرحمن على رقعته اشتد غيظه عليه فوقع عليها وقفت على رقعتك المنبئة عن جهلك وسوء خطابك ودناءة أدبك ولئيم معتقدك والعجب أنك متى أردت أن تبني لنفسك عندنا متاتا أتيت بما يهدم كل متات مشيد مما تمن به مما قد أضجر الأسماع تكراره وقدحت في النفوس إعادته مما استخرنا الله تعالى من أجله على أمرنا باستئصال مالك وزدنا في هجرك وإبعادك وهضنا جناح إدلالك فلعل ذلك يقمع منك ويردعك حتى نبلغ منك ما نريد إن شاء الله تعالى فنحن أولى بتأديبك من كل أحد إذ شرك مكتوب في مثالبنا وخيرك معدود في مناقبنا
فلما ورد هذا الجواب على بدر سقط في يده وسلم للقضاء وعلم أنه لا ينفع فيه قول ووجه عبد الرحمن من استأصل ماله وألزمه داره وهتك حرمته وقص جناح جاهه وصيره أهون من قعيس على عمته ومع هذا فلم ينته بدر عن الإكثار من مخاطبة مولاه تارة يستلينه وتارة يذكره وتارة ينفث مصدورا بخط قلمه ما يلقيه عليه بلسانه غير مفكر فيما يؤول إليه إلى أن كتب له قد طال هجري وتضاعف همي وفكري وأشد ما علي كوني سليبا من مالي فعسى أن تأمر

لي بإطلاق مالي وأتحد به في معزل لا أشتغل بسلطان ولا أدخل في شيء من أموره ما عشت فوقع له إن لك من الذنوب المترادفة ما لو سلب معها روحك لكان بعض ما استوجبته ولا سبيل إلى رد مالك فإن تركك بمعزل في بلهنية الرفاهية وسعة ذات اليد والتخلي من شغل السلطان أشبه بالنعمة منه بالنقمة فايأس من ذلك فإن اليأس مريح
فسكت لما وقف على هذه الإجابة مدة إلى أن أتى عيد فاشتد به حزنه لما رأى من حاجة من يلوذ به وهمهم بما يفرح به الناس فكتب إليه في ذلك رقعة منها وقد أتى هذا العيد الذي خالفت فيه أكثر من أساء إليك وسعى في خراب دولتك ممن عفوت عنه فتبنك النعمة في ذراك واقتعد ذروة العز وأنا على ضد من هذا سليبا من النعمة مطرحا في حضيض الهوان أيأس مما يكون وأقرع السن على ما كان
فلما وقف على هذه الرقعة أمر بنفيه عن قرطبة إلى أقصى الثغر وكتب له على ظهر رقعته لتعلم أنك لم تزل بمقتك حتى ثقلت على العين طلعتك ثم زدت إلى أن ثقل على السمع كلامك ثم زدت إلى أن ثقل على النفس جوارك وقد أمرنا بإقصائك إلى أقصى الثغر فبالله إلا ما أقصرت ولا يبلغ بك زائد المقت إلى أن تضيق بك معي الدنيا ورأيتك تشكو لفلان وتتألم من فلان وما تقولوه عليك وما لك عدو أكبر من لسانك فما طاح بك غيره فاقطعه قبل أن يقطعك ولما فتح الداخل سرقسطة وحصل في يده ثائرها الحسين الأنصاري وشدخت رؤوس وجوهها بالعمد وانتهى نصره فيها إلى غاية أمله أقبل خواصه يهنئونه فجرى بينهم أحد من لا يؤبه به من الجند فهنأه بصوت عال فقال والله لولا أن هذا اليوم يوم أسبغ علي فيه النعمة من هو فوقي فأوجب علي ذلك أن أنعم فيه على من هو دوني لأصلينك ما تعرضت له من

سوء النكال من تكون حتى تقبل مهنئا رافعا صوتك غير متلجلج ولا متهيب لمكان الإمارة ولا عارف بقيمتها حتى كأنك تخاطب أباك أو أخاك وإن جهلك ليحملك على العود لمثلها فلا تجد مثل هذا الشافع في مثلها من عقوبة فقال ولعل فتوحات الأمير يقترن اتصالها باتصال جهلي وذنوبي فتشفع لي متى أتيت بمثل هذه الزلة لا أعدمنيه الله تعالى فتهلل وجه الأمير وقال ليس هذا باعتذار جاهل ثم قال نبهونا على أنفسكم إذا لم تجدوا من ينبهنا عليها ورفع مرتبته وزاد في عطائه
ولما أنحى أصحابه على أصحاب الفهري بالقتل يوم هزيمتهم على قرطبة قال لا تستأصلوا شأفة أعداء ترجون صداقتهم واستبقوهم لأشد عداوة منهم يشير إلى استبقائهم ليستعان بهم على أعداء الدين
ولما اشتد الكرب بين يديه يوم حربه مع الفهري ورأى شدة مقاساة أصحابه قال هذا اليوم هو أس ما يبنى عليه إما ذل الدهر وإما عز الدهر فاصبروا ساعة فيما لا تشتهون تربحوا بها بقية أعماركم فيما تشتهون ولما خرج من البحر أول قدومه على الأندلس أتوه بخمر فقال إني محتاج لما يزيد في عقلي لا لما ينقصه فعرفوا بذلك قدره ثم أهديت إليه جارية جميلة فنظر إليها وقال إن هذه من القلب والعين بمكان وإن أنا اشتغلت عنها بهمتي فيما أطلبه ظلمتها وإن اشتغلت بها عما أطلبه ظلمت همتي ولا حاجة لي بها الآن وردها على صاحبها
ولما استقامت له الدولة بلغه عن بعض من أعانه أنه قال لولا أنا ما توصل لهذا الملك ولكان منه أبعد من العيوق وأن آخر قال سعده أعانه لا عقله وتدبيره فحركه ذلك إلى أن قال
( لا يلف ممتن علينا قائل ... لولاي ما ملك الأنام الداخل )
( سعدي وحزمي والمهند والقنا ... ومقادر بلغت وحال حائل )

( إن الملوك مع الزمان كواكب ... نجم يطالعنا ونجم آفل )
( والحزم كل الحزم أن لا يغفلوا أيروم تدبير البرية غافل ويقول قوم سعده لا عقله خير السعادة ما حماها العاقل أبني أمية قد جبرنا صدعكم بالغرب رغما والسعود قبائل ما دام من نسلي إمام قائم فالملك فيكم ثابت متواصل )
وحكى ابن حيان أن جماعة من القادمين عليه من قبل الشام حدثوه يوما في بعض مجالسهم عنده ما كان من الغمر بن يزيد بن عبد الملك أيام محنتهم وكلامه لعبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس الساطي بهم وقد حضروا رواقه وفيه وجوه المسودة من دعاة القوم وشيعتهم رادا على عبد الله فيما أراقه من دماء بني أمية وثلبهم والبراءة منهم فلم تردعه هيبته وعصف ريحه واحتفال جمعه عن معارضته والرد عليه بتفضيله لأهل بيته والذب عنهم وأنه جاء في ذلك بكلام غاظ عبد الله وأغصه بريقه وعاجل الغمر بالحتف فمضى وخلف في الناس ما خلف من تلك المعارضة في ذلك المقام وكثر القوم في تعظيم ذلك فكأن الأمير عبد الرحمن احتقر ذلك الذي كان من الغمر في جنب ما كان منه في الذهاب بنفسه عن الإذعان لعدوهم والأنف من طاعتهم والسعي في اقتطاع قطعة من مملكة الإسلام عنه وقام عن مجلسه فصاغ هذه الأبيات بديهة
( من قام ذا امتعاض ... فشال ما قل واضمحلا )
( ومن غدا مصلتا لعزم ... مجردا للعداة نصلا )
( فجاب قفرا وشق بحرا ... ولم يكن في الأنام كلا )
( فشاد ملكا وشاد عزا ... ومنبرا للخطاب فصلا )

( وجند الجند حين أودى ... ومصر المصر حين أجلى )
( ثم دعا أهله جميعا ... حيث انتأوا أن هلم أهلا )
وله غير ذلك من الشعر وسيأتي بعضه مما يقارب هذه الطبقة وأول ناصر لعبد الرحمن سائر معه في الخمول والاستخفاء مولاه المتقدم الذكر سعى في سلطانه شرقا وغربا وبرا وبحرا فلما كمل له الأمر سلبه من كل نعمة وسجنه ثم أقصاه إلى أقصى الثغر حتى مات وحاله أسوأ حال والله تعالى أعلم بالسرائر فلعل له عذرا ويلومه من يسمع مبدأه ومآله
ورأس الجماعة الذين توجه إليهم بدر في القيام بسلطانه أبو عثمان ولما توطدت دولة الداخل استغنى عنه وعن أمثاله فأراد أبو عثمان أن يشغل خاطره وينظر في شيء يحتاج به إليه فجعل ابن أخته يثور عليه في حصن من حصون إلبيرة فوجه عبد الرحمن من قبض عليه وضرب عنقه ثم أخذ أبو عثمان مع ابن أخي الداخل وزين له القيام عليه فسعي لعبد الرحمن بابن أخيه قبل أن يتم أمره فضرب عنقه وأعناق الذين دبروا معه وقيل له إن أبا عثمان كان معه وهو الذي ضمن له تمام الأمر فقال هو أبو سلمة هذه الدولة فلا يتحدث الناس عنه بما تحدثوا عن بني العباس في شأن أبي سلمة لكن سأعتبه عتبا أشد من القتل وجعل يوعده ثم ورجع له إلى ما كان عليه في الظاهر
وكان صاحبه الثاني في المؤازرة والقيام بالدولة صهره عبد الله بن خالد وكان قد ضمن لأبي الصباح رئيس اليمانية عن الداخل أشياء لم يف بها الداخل وقتل أبا الصباح فانعزل عبد الله وأقسم لا يشتغل بشغل سلطان حياته فمات منفردا عن السلطان

وكان ثالثهما في النصرة والاختصاص تمام بن علقمة وهو الذي عبر البحر إليه وبشره باستحكام أمره فقتل هشام بن عبد الرحمن ولد تمام المذكور وكذلك فعل بولد أبي عثمان المتقدم الذكر قال ابن حيان فذاقا من ثكل ولديهما على يدي أعز الناس عليهما ما أراهما أن أحدا لا يقدر أن ينظر في تحسين عاقبته
وإذا تتبع الأمر في الذين يقومون في قيام دولة كان مآلهم مع من يظهرونه هذا المآل وأصعب وذكر أن أول حجاب الداخل تمام بن علقمة مولاه ذو العمر الطويل ثم يوسف بن بخت الفارسي مولى عبد الملك بن مروان وله بقرطبة عقب نابه ثم عبد الكريم بن مهران من ولد الحارث بن أبي شمر الغساني ثم عبد الرحمن بن مغيث بن الحارث بن حويرث بن جبلة بن الأيهم الغساني وأبوه مغيث فاتح قرطبة الذي تقدمت ترجمته ثم منصور الخصي وكان أول خصي استحجبه بنو مروان بالأندلس ولم يزل حاجبه إلى أن توفي الداخل
ولم يكن للداخل من ينطلق عليه سمة وزير لكنه عين أشياخا للمشاورة والمؤازرة أولهم أبو عثمان المتقدم الذكر وعبد الله بن خالد السابق الذكر وأبو عبدة صاحب إشبيلية وشهيد بن عيسى بن شهيد مولى معاوية بن مروان ابن الحكم وكان من سبي البرابر وقيل إنه رومي وبنو شهيد الفضلاء من نسله وعبد السلام بن بسيل الرومي مولى عبد الله بن معاوية ولولده نباهة عظيمة في الوزارة وغيرها وثعلبة بن عبيد بن النظام الجذامي صاحب سرقسطة لعبد الرحمن وعاصم بن مسلم الثقفي من كبار شيعته وأول من خاض النهر وهو عريان يوم الوقعة بقرطبة ولعقبه في الدولة نباهة

وأول من كتب له عند خلوص الأمر له واحتلاله بقرطبة كبير نقبائه أبو عثمان وصاحبه عبد الله بن خالد المتقدما الذكر ثم لزم كتابته أمية بن يزيد مولى معاوية بن مروان وكان في عديد من يشاوره أيضا ويفضل أمره وآراءه وكان يكتب قبله ليوسف الفهري وقيل إنه ممن اتهم في ممالأة اليزيدي في إفساد دولة عبد الرحمن فاتفق أن مات قبل قتل اليزيدي واطلاع عبد الرحمن على الأمر وذكر ابن زيدون أن الداخل ألفى على قضاء الجماعة بقرطبة يحيى ابن يزيد اليحصبي فأقره حينا ثم ولى بعده أبا عمرو معاوية بن صالح الحمصي ثم عمر ابن شراحيل ثم عبد الرحمن بن طريف وكان جدار بن عمرو يقضي في العساكر وكان الداخل يرتاح لما استقر سلطانه بالأندلس إلى أن يفد عليه فل بيته بني مروان حتى يشاهدوا ما أنعم الله تعالى عليه وتظهر يده عليهم فوفد عليه من بني هشام بن عبد الملك أخوه الوليد بن معاوية وابن عمه عبد السلام بن يزيد بن هشام قال ابن حيان وفي سنة 163 قتل الداخل عبد السلام ابن يزيد بن هشام المعروف باليزيدي وقتل معه من الوافدين عليه عبيد الله بن أبان بن معاوية بن هشام وهو ابن أخي الداخل وكانا تحت تدبير يبرمانه في طلب الأمر فوشى بهما مولى لعبيد الله بن أبان وكان قد ساعدهما على ما هما به من الخلاف أبو عثمان كبير الدولة فلم ينله ما نالهما
وذكر الحجاري أن الداخل كان يقول أعظم ما أنعم الله تعالى به علي بعد تمكني من هذا الأمر القدرة على إيواء من يصل إلي من أقاربي والتوسع في الإحسان إليهم وكبري في أعينهم وأسماعهم ونفوسهم بما منحني الله تعالى من هذا السلطان الذي لا منة علي فيه لأحد غيره
وذكر ابن حزم أنه كان فيمن وفد عليه ابن أخيه المغيرة بن الوليد بن معاوية فسعى في طلب الأمر لنفسه فقتله سنة 167 وقتل معه من أصحابه هذيل بن الصميل بن حاتم ونفى أخاه الوليد بن معاوية والد المغيرة المذكور إلى العدوة

بماله وولده وأهله
وفي المسهب حدث بعض موالي عبد الرحمن الخاصين به أنه دخل على الداخل إثر قتله ابن أخيه المغيرة المذكور وهو مطرق شديد الغم فرفع رأسه إلي وقال ما عجبي إلا من هؤلاء القوم سعينا فيما يضجعهم في مهاد الأمن والنعمة وخاطرنا فيه بحياتنا حتى إذا بلغنا منه إلى مطلوبنا ويسر الله تعالى أسبابه أقبلوا علينا بالسيوف ولما أويناهم وشاركناهم فيما أفردنا الله تعالى به حتى أمنوا ودرت عليهم أخلاف النعم هزوا أعطافهم وشمخوا بآنافهم وسموا إلى العظمى فنازعونا فيما منحنا الله تعالى فخذلهم الله بكفرهم النعم إذ أطلعنا على عوراتهم فعاجلناهم قبل أن يعاجلونا وأدى ذلك إلى أن ساء ظننا في البريء منهم وساء أيضا ظنه فينا وصار يتوقع من تغيرنا عليه ما نتوقع نحن منه وإن أشد ما علي في ذلك أخي والد هذا المخذول كيف تطيب لي نفس بمجاورته بعد قتل ولده وقطع رحمه أم كيف يجتمع بصري مع بصره اخرج له الساعة فاعتذر إليه وهذه خمسة آلاف دينار ادفعها إليه واعزم عليه في الخروج عني من هذه الجزيرة إلى حيث شاء من بر العدوة
قال فلما وصلت إلى أخيه فوجدته أشبه بالأموات منه بالأحياء فآنسته وعرفته ودفعت له المال وأبلغته الكلام فتأوه وقال إن المشؤوم لا يكون بليغا في الشؤم حتى يكون على نفسه وعلى سواه وهذا الولد العاق الذي سعى في حتفه قد سرى ما سعى فيه إلى رجل طلب العافية وقنع بكسر بيت في كنف من يحمل عنه معرة الزمان وكله ولا حول ولا قوة إلا بالله لا مرد لما حكم به وقضاه ثم ذكر أنه أخذ في الحركة إلى بر العدوة
قال ورجعت إلى الأمير فأعلمته بقوله فقال إنه نطق بالحق ولكن لا يخدعني بهذا القول عما في نفسه والله لو قدر أن يشرب من دمي ما عف عنه لحظة فالحمد لله الذي أظهرنا

عليهم بما نويناه فيهم وأذلهم بما نووه فينا
واعلم أنه دخل الأندلس أيام الداخل من بني مروان وغيرهم من بني أمية جماعة كثيرون سرد أسماءهم غير واحد من المؤرخين وذكر أعقابهم بالأندلس ومنهم جزي بن عبد العزيز أخو عمر بن عبد العزيز وسيأتي قريبا وقد ثار على عبد الرحمن الداخل من أعيان الغرب وغيرهم جماعة كثيرون ظفره الله تعالى بهم وقد سبق ذكر بعضهم ومنهم الدعي الفاطمي البربري بشنت مرية فأعيا الداخل أمره وطال شره سنين متوالية إلى أن فتك به بعض أصحابه فقتله
ومنهم حيوة بن ملابس الحضرمي رئيس إشبيلية وعبد الغفار بن حميد اليحصبي رئيس لبلة وعمرو بن طالوت رئيس باجة اجتمعوا وتوجهوا نحو قرطبة يطلبون دم رئيس اليمانية أبي الصباح فقتلوا في هزيمة عظيمة وقيل نجوا بالفرار فأمنهم الداخل
وفي سنة 157 ثار بسرقسطة الحسين بن يحيى بن سعيد بن سعد بن عبادة الخزرجي وشايعه سليمان بن يقظان الأعرابي الكلبي رأس الفتن وآل أمرهما إلى أن فتك الحسين بسليمان وقتل الداخل الحسين كما
مر وفي سنة 163 ثار الرماحس بن عبد العزيز الكناني بالجزيرة الخضراء فتوجه له عبد الرحمن الداخل ففر في البحر إلى المشرق
قال ابن حيان كان مولد عبد الرحمن الداخل سنة 113 وقيل في التي قبلها بالعلياء من تدمر وقيل بدير حنا من دمشق وبها توفي أبوه معاوية في حياة أمير المؤمنين هشام بن عبد الملك وكان قد رشحه للخلافة - وبقبر معاوية المذكور استجار الكميت الشاعر حين أهدر هشام دمه -
وتوفي الداخل لست بقين من ربيع الآخر سنة 171 وهو ابن سبع وخمسين سنة وأربعة

أشهر وقيل اثنتان وستون سنة ودفن بالقصر من قرطبة وصلى عليه ابنه عبد الله
وكان منصورا مؤيدا مظفرا على أعدائه وقد سردنا من ذلك جملة حتى قال بعضهم إن الراية التي عقدت له بالأندلس حين دخلها لم تهزم قط وإن الوهن ما ظهر في ملك بني أمية إلا بعد ذهاب تلك الراية قال أكثر هذا مؤرخ الأندلس الثبت الثقة أبو مروان ابن حيان رحمه الله تعالى
ولا بأس أن نورد زيادة على ما سلف وإن تكرر بعض ذلك فنقول قال بعض المؤرخين من أهل المغرب بعد كلام ابن حيان الذي قدمنا ذكره ما نصه كان الإمام عبد الرحمن الداخل راجح العقل راسخ الحلم واسع العلم كثير الحزم نافذ العزم لم ترفع له قط راية على عدو إلا هزمه ولا بلد إلا فتحه شجاعا مقداما شديد الحذر قليل الطمأنينة لا يخلد إلى راحة ولا يسكن إلى دعة ولا يكل الأمر إلى غيره كثير الكرم عظيم السياسة يلبس البياض ويعتم به ويعود المرضى ويشهد الجنائز ويصلي بالناس في الجمع والأعياد ويخطب بنفسه جند الأجناد وعقد الرايات واتخذ الحجاب والكتاب وبلغت جنوده مائة ألف فارس
وملخص دخوله الأندلس أنه لما اشتد الطلب على فل بني أمية بالمشرق من وارثي ملكهم بني العباس خرج مستترا إلى مصر فاشتد الطلب على مثله فاحتال حتى وصل برقة ثم لم يزل متوغلا في سيره إلى أن بلغ المغرب الأقصى ونزل بنفزة وهم أخواله فأقام عندهم أياما ثم ارتحل إلى مغيلة بالساحل فأرسل مولاه بدرا بكتابه إلى مواليهم بالأندلس عبيد الله بن عثمان وعبد الله ابن خالد وتمام بن علقمة وغيرهم فأجابوه واشتروا مركبا وجهزوه بما يحتاج

إليه وكان الذي اشتراه عبيد الله بن عثمان وأركب فيه بدرا وأعطاه خمسمائة دينار برسم النفقة وركب معه تمام بن علقمة وبينما هو يتوضأ لصلاة المغرب على الساحل إذ نظر إلى المركب في لجة البحر مقبلا حتى أرسى أمامه فخرج إليه بدر سابحا فبشره بما تم له بالأندلس وبما اجتمع عليه الأمويون والموالي ثم خرج إليه تمام ومن معه في المركب فقال له ما اسمك وما كنيتك فقال اسمي تمام وكنيتي أبو غالب فقال تم أمرنا وغلبنا عدونا إن شاء الله تعالى ثم ركبوا المركب معه فنزل بالمنكب وذلك غرة ربيع الأول سنة 138
فلما اتصل خبر جوازه بالأموية أتاه عبيد الله بن عثمان وجماعة فتلقوه بالإعظام والإكرام وكان وقت العصر فصلى بهم العصر وركبوا معه إلى قرية طرش من كور إلبيرة فنزل بها وأتاه بها جماعة من وجوه الموالي وبعض العرب فبايعوه وكان من أمره ما يذكر وقيل إنه أقام بإلبيرة حتى كمل من معه ستمائة فارس من موالي بني أمية ووجوه العرب فخرج من إلبيرة إلى كورة رية فدخلت في جماعته ثم بايعته أهلها وأجنادها ثم ارتحل إلى شذونة ثم إلى مورور ثم سار إلى إشبيلية
وقال بعضهم لما أراد عبد الرحمن قصد قرطبة عند دخوله الأندلس من المشرق نزل بطشانة فأشاروا عليه أن يعقد له لواء فجاءوا بعمامة وقناة فكرهوا أن يميلوا القناة تطيرا فأقاموها بين شجرتين من الزيتون متجاورتين وصعد رجل على فرع إحداهما فعقد اللواء والقناة قائمة وتبرك هو وولده بهذا اللواء فكان بعد أن بلي لا تحل منه العقدة التي عقدت أولا بل تعقد فوقها الألوية الجدد وهي مستكنة تحتها ولم يزل الأمر على ذلك حتى انتهت الدولة إلى عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل وقيل إلى ابنه محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل فاجتمع الوزراء على تجديد اللواء فلما رأوا تحت اللواء أسمالا خلقة ملفوفة

معقدة جهلوها فاسترذلوها وأمروا بحلها ونبذها وجددوا غيرها وكان جهور بن يوسف بن بخت شيخهم غائبا فحضر في اليوم الثاني وطولع بالقصة فأنكرها أشد إنكار وساءه ما فعلوه وقال إن جهلتم شأن تلك الأخلاق فكان ينبغي أن تتوقفوا عن نبذها حتى تسألوا المشايخ وتتفكروا في أمرها وخبرهم خبرها فتطلبوا تلك الأخلاق فلم توجد ويقال كما قال ابن حيان إنه لم يزل يعرف الوهن في ملك بني أمية بالأندلس من ذلك اليوم وقد كان الذي عقده أولا عبد الله بن خالد من موالي بني أمية وكان والده خالد عقد لواء مروان بن الحكم جد عبد الرحمن الأعلى لما اجتمع عليه بنو أمية وبنو كلب بعد انقراض دولة بني حرب على قتال الضحاك بن قيس الفهري يوم مرج راهط فانتصر على الضحاك وقتله ولما عرف الأمير بقصة اللواء حزن أشد حزن وانفتقت عليه إثر ذلك الفتوق العظام وكانوا يرون أنها جرت بسبب اللواء لأنه لم ينهزم قط جيش كان تحته على ما اقتضته حكمة الله التي لا تتوصل إليها الأفكار وتولى حمل هذا اللواء لعبد الرحمن الداخل أبو سليمان داود الأنصاري ولم يزل يحمله ولده من بعده إلى أيام محمد بن عبد الرحمن
ولما تلاقى عبد الرحمن الداخل مع أمير الأندلس يوسف الفهري بالقرب من قرطبة وتراسلا فخادعه يومين آخرهما يوم عرفة من سنة ثمان وثلاثين ومائة أظهر عبد الرحمن قبول الصلح فبات الناس على ذلك ليلة العيد وكان قد أسر خلاف ما أظهر واستعد للحرب ولما أصبح يوم الأضحى لم ينشب أن غشيت الخيل ووكل عبد الرحمن بخالد بن زيد الكاتب رسول يوسف جماعة وأمرهم إن كانت الدائرة عليهم أن يضربوا عنقه وإلا فلا فكان خالد يقول ما كان شيء في ذلك الوقت أحب إلي من غلبة عبد الرحمن الداخل عدو صاحبي وركب عبد الرحمن جوادا فقالت اليمانية الذين أعانوه هذا فتى حديث السن تحته جواد وما نأمن أول ردعة يردعها أن يطير منهزما

على جواده ويدعنا فأتى عبد الرحمن أحد مواليه فأخبره بمقالتهم فدعا أبا الصباح وكان له بغل أشهب يسميه الكوكب فقال له إن فرسي هذا قلق تحتي لا يمكنني من الرمي فقدم إلي بغلك المحمود أركبه فقدمه فلما ركب اطمأن أصحابه وقال عبد الرحمن لأصحابه أي يوم هذا قالوا الخميس يوم عرفة فقال فالأضحى غدا يوم الجمعة والمتزاحفان أموي وفهري والجندان قيس ويمن قد تقابل الأشكال جدا وأرجو أنه أخو يوم مرج راهط فأبشروا وجدوا فذكرهم يوم مرج راهط الذي كانت فيه الوقعة بين جده مروان بن الحكم وبين الضحاك بن قيس الفهري وكانت يوم جمعة ويوم أضحى فدارت الدائرة لمروان على الضحاك فقتل الضحاك وقتل معه سبعون ألفا من قبائل قيس وأحلافهم وقيل إنه لم يحضر مرج راهط من قيس مع مروان غير ثلاثة نفر عبد الرحمن بن مسعدة الفزاري وابن هبيرة المحاربي وصالح الغنوي وكذا لم يحضر مع عبد الرحمن الداخل يوم المصارة غربي قرطبة من قيس غير ثلاثة جابر بن العلاء بن شهاب والحصين بن الدجن العقيليان وهلال بن الطفيل العبدي وكان الظفر لعبد الرحمن وانهزم يوسف وصبر الصميل بن حاتم بعده معذرا وعشيرته يحفونه فلما خاف انهزامهم عنه تحول على بغله الأشهب معارضة لعبد الرحمن الداخل فمر به أبو عطاء فقال له يا أبا جوشن احتسب نفسك فإن للأشباه أشباها أموي بأموي وفهري بفهري وكلبي بكلبي ويوم أضحى بيوم أضحى ويمني بقيسي والله إني لأحسب هذا اليوم بمثل مرج راهط سواء فقال له الصميل كبرت وكبر علمك الآن تنجلي الغماء وسحرك منتفخ فانثنى أبو عطاء لوجهه منقلبا وانهزم الصميل وملك عبد الرحمن قرطبة

ويوسف الفهري هو ابن عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع الفهري باني القيروان وأمير معاوية على إفريقية والمغرب وهو مشهور
وأما الصميل فهو ابن حاتم بن شمر بن ذي الجوشن وقيل الصميل بن حاتم بن عمرو بن جندع بن شمر بن ذي الجوشن كان جده شمر من أشراف الكوفة وهو أحد قتلة الحسين رضي الله تعالى عنه ودخل الصميل الأندلس حين دخل كلثوم بن عياض المغرب غازيا وساد بها وكان شاعرا كثير السكر أميا لا يكتب ومع ذلك فانتهت إليه في زمانه رياسة العرب بالأندلس وكان أميرها يوسف الفهري كالمغلوب معه وكانت ولاية الفهري الأندلس سنة تسع وعشرين ومائة فدانت له تسع سنين وتسعة أشهر وعنه كما مر انتقل سلطانها إلى بني أمية واستفحل ملكهم بها إلى بعد الأربعمائة ثم انتثر سلكهم وباد ملكهم كما وقع لغيرهم من الدول في القرون السالفة سنة الله التي قد خلت في عباده
وكانت مدة الأمراء قبل عبد الرحمن الداخل من يوم فتحت الأندلس إلى هزيمة يوسف الفهري والصميل ستا وأربعين سنة وشهرين وخمسة أيام لأن الفتح كان حسبما تقدم لخمس خلون من شوال سنة اثنتين وتسعين وهزيمة يوسف يوم الأضحى لعشر خلون من ذي الحجة سنة ثمان وثلاثين ومائة والله غالب على أمره
وحكي أن عبد الرحمن بن معاوية دخل يوما على جده هشام وعنده أخوه مسلمة بن عبد الملك وكان عبد الرحمن إذ ذاك صبيا فأمر هشام أن ينحى عنه فقال له مسلمة دعه يا أمير المؤمنين وضمه إليه ثم قال يا أمير المؤمنين هذا صاحب بني أمية ووزرهم عند زوال ملكهم فاستوص به خيرا قال فلم أزل أعرف مزية من جدي من ذلك الوقت
وكان الداخل يقاس بأبي جعفر المنصور في عزمه وشدته وضبط المملكة ووافقه في أن أم كل منهما بربرية وأن كلا منهما قتل ابن أخيه إذ قتل

المنصور ابن السفاح وقتل عبد الرحمن ابن أخيه المغيرة بن الوليد بن معاوية ومن شعر عبد الرحمن وقد رأى نخلة برصافته
( تبدت لنا وسط الرصافة نخلة ... تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل )
( فقلت شبيهي في التغرب والنوى ... وطول اكتئابي عن بني وعن أهلي )
( نشأت بأرض أنت فيها غريبة ... فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي )
( سقتك غوادي المزن في المنتأى الذي ... يسح ويستمري السماكين بالوبل )
وكان نقش خاتمه بالله يثق عبد الرحمن وبه يعتصم
وأشاع سنة 163 الرحيل إلى الشام لانتزاعها من بني العباس وكاتب جماعة من أهل بيته ومواليه وشيعته وعمل على أن يستخلف ابنه سليمان بالأندلس في طائفة ويذهب بعامة من أطاعه ثم أعرض عن ذلك بسبب أمر الحسين الأنصاري الذي انتزى عليه بسرقسطة فبطل ذلك العزم
ومن شعر عبد الرحمن أيضا قوله يتشوق إلى معاهد الشام
( أيها الراكب الميمم أرضي ... اقر مني بعض السلام لبعضي )
( إن جسمي كما علمت بأرض ... وفؤادي ومالكيه بأرض )
( قدر البين بيننا فافترقنا ... وطوى البين عن جفوني غمضي )
( قد قضى الله بالفراق علينا ... فعسى باجتماعنا سوف يقضي )
وترجمة الداخل طويلة وقد ذكر منها ما فيه مقنع انتهى والله تعالى الموفق للصواب

وفي بنائه جامع قرطبة يقول بعضهم
( وأبرز في ذات الإله ووجهه ... ثمانين ألفا من لجين وعسجد )
( وأنفقها في مسجد زانه التقى ... وقر به دين النبي محمد )
( ترى الذهب الوهاج بين سموكه ... يلوح كلمح البارق المتوقد )
33 - ومن الوافدين على الأندلس أبو الأشعث الكلبي دخل الأندلس وكان شيخا مسنا يروي عن أمه عن عائشة رضي الله تعالى عنها إلا أنه كان مندرا صاحب دعابة وكان مختصا بعبد الرحمن بن معاوية وله منه مكانة لطيفة يدل بها عليه ولما توفي حبيب بن عبد الملك بن عمر بن الوليد ابن عبد الملك بن مروان وكانت له من عبد الرحمن خاصة لم تكن لأحد من أهل بيته جعل عبد الرحمن يبكي ويجتهد في الدعاء والاستغفار لحبيب وكان إلى جنبه أبو الأشعث هذا قائما وكانت له دالة عليه ودعابة يحتملها منه فأقبل عند استعباره كالمخاطب للمتوفى علانية يقول يا أبا سلميان لقد نزلت بحفرة قلما يغني عنك فيها بكاء الخليفة عبد الرحمن بعره فأعرض عنه عبد الرحمن وقد كاد التبسم يغلبه هكذا ذكره ابن حيان رحمه الله تعالى في المقتبس ونقله عنه الحافظ ابن الأبار
34 - ومن الداخلين إلى الأندلس جزي بن عبد العزيز أخو عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه ! دخل الأندلس ومات في مدة الداخل وكان من أولياء الله تعالى مقتفيا سبيل أخيه عمر بن عبد العزيز رحمهما الله تعالى
35 - ومنهم بكر بن سوادة بن ثمامة الجذامي ويكنى أبا ثمامة وجده صحابي وكان بكر هذا فقيها كبيرا من التابعين روى عن جماعة من الصحابة كعبد الله بن عمرو بن العاص وقيس بن سعد بن عبادة وسهل بن سعد الساعدي وسفيان بن وهب الخولاني وحبان بن سمح الصدائي وقيد اسمه الدارقطني رحمه الله تعالى حبان بكسر الحاء المهملة وبباء معجمة بواحدة ونقله الأمير كذلك وهو ممن وفد على رسول الله وشهد فتح مصر قال ابن يونس ويقال فيه حبان بالكسر وحبان بالفتح أصح انتهى وضبطه بعضهم بالياء المثناة تحت
رجع - وممن روى عنه بكر من الصحابة أبو ثور الفهمي وأبو عميرة المزني وروى عن جماعة من التابعين أيضا كسعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن وعروة بن الزبير وجماعة سواهم يكثر عددهم ويطول سردهم منهم ربيعة بن قيس الجملي وأبو عبد الرحمن الحبلي وزياد بن نعيم الحضرمي وسفيان بن هانئ الجيشاني وسعيد بن شمر السبائي وعبد الله بن المستورد بن شداد الفهري وعبد الرحمن بن أوس المزني وزيادة بن ثعلبة البلوي وشيبان بن أمية القتباني وعامر بن ذريح الحميري وعمير بن الفيض اللخمي وأبو حمزة الخولاني وعياض بن فروخ المعافري ومسلم بن مخشي المدبجي وهانئ بن معاوية الصدفي وغيرهم ممن اشتمل على ذكرهم التاريخان لابن عبد الحكم وابن يونس
وممن روى عن بكر المذكور عبد الله بن لهيعة وعمرو بن الحارث وجعفر ابن ربيعة وأبو زرعة بن عبد الحكم الإفريقي وغيرهم
قال ابن يونس توفي بإفريقية في خلافة هشام بن عبد الملك وقيل بل

35 - ومنهم بكر بن سوادة بن ثمامة الجذامي ويكنى أبا ثمامة وجده صحابي وكان بكر هذا فقيها كبيرا من التابعين روى عن جماعة من الصحابة كعبد الله بن عمرو بن العاص وقيس بن سعد بن عبادة وسهل بن سعد الساعدي وسفيان بن وهب الخولاني وحبان بن سمح الصدائي وقيد اسمه الدارقطني رحمه الله تعالى حبان بكسر الحاء المهملة وبباء معجمة بواحدة ونقله الأمير كذلك وهو ممن وفد على رسول الله وشهد فتح مصر قال ابن يونس ويقال فيه حبان بالكسر وحبان بالفتح أصح انتهى وضبطه بعضهم بالياء المثناة تحت
رجع - وممن روى عنه بكر من الصحابة أبو ثور الفهمي وأبو عميرة المزني وروى عن جماعة من التابعين أيضا كسعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن وعروة بن الزبير وجماعة سواهم يكثر عددهم ويطول سردهم منهم ربيعة بن قيس الجملي وأبو عبد الرحمن الحبلي وزياد بن نعيم الحضرمي وسفيان بن هانئ الجيشاني وسعيد بن شمر السبائي وعبد الله بن المستورد بن شداد الفهري وعبد الرحمن بن أوس المزني وزيادة بن ثعلبة البلوي وشيبان بن أمية القتباني وعامر بن ذريح الحميري وعمير بن الفيض اللخمي وأبو حمزة الخولاني وعياض بن فروخ المعافري ومسلم بن مخشي المدبجي وهانئ بن معاوية الصدفي وغيرهم ممن اشتمل على ذكرهم التاريخان لابن عبد الحكم وابن يونس
وممن روى عن بكر المذكور عبد الله بن لهيعة وعمرو بن الحارث وجعفر ابن ربيعة وأبو زرعة بن عبد الحكم الإفريقي وغيرهم
قال ابن يونس توفي بإفريقية في خلافة هشام بن عبد الملك وقيل بل

غرق في مجاز الأندلس سنة ثمان وعشرين ومائة قال وجده ثمامة من أصحاب رسول الله وله بمصر حديث رواه عمرو بن الحارث
وقال أبو بكر عبد الله بن محمد القيرواني المالكي في تاريخه المسمى ب رياض النفوس وقد ذكر بكرا هذا إنه كان أحد العشرة التابعين يعني الموجهين إلى إفريقية من قبل عمر بن عبد العزيز في خلافته ليفقهوا أهل إفريقية ويعلموهم أمر دينهم قال وأغرب بحديث عن عقبة بن عامر لم يروه غيره فيما علمت حدث عبد الله بن لهيعة عنه عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله " إذا كان رأس مائتين فلا تأمر بمعروف ولا تنه عن منكر وعليك بخاصة نفسك " وحكى المالكي أيضا عن أبي سعيد بن يونس قال كان فقيها مفتيا سكن القيروان وكانت وفاته كما تقدم وذكره الحميدي في الداخلين إلى الأندلس ولم يذكره ابن الفرضي
36 - ومنهم رزيق بن حكيم أحد المعدودين في الداخلين إلى الأندلس ذكره أبو الحسن بن النعمة عن أبي المطرف عبد الرحمن بن يوسف الرفاء القرطبي وحكى أنه كتب ذلك من خطه وسماه مع جماعة منهم حبان بن أبي جبلة وعلي بن أبي رباح وأبو عبد الرحمن الحبلي وحنش بن عبد الله الصنعاني ومعاوية ابن صالح وزيد بن الحباب العكلي وانتهى عددهم برزيق هذا سبعة ولم يذكره ابن الفرضي ولا غيره قاله الحافظ أبو عبد الله القضاعي
37 - ومنهم زيد بن قاصد السكسكي قال ابن الأبار وهو تابعي دخل الأندلس وحضر فتحها وأصله من مصر يروي عن عبد الله بن عمرو

ابن العاص رضي الله تعالى عنه ! وروى عنهس عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي ذكره يعقوب بن سفيان وأورد له حديثا من كتاب الحميدي انتهى ش
38 - ومنهم زرعة بن روح الشامي دخل الأندلس وحدث عنه ابنه مسلمة بن زرعة بحكاية عن القاضي مهاجر بن نوفل
39 - ومنهم محمد بن أوس بن ثابت الأنصاري قال ابن الأبار تابعي دخل الأندلس يروي عن أبي هريرة قرأته بخط ابن حبيش وقال أبو سعيد بن يونس مؤرخ مصر إنه يروي عنه الحارث بن يزيد ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان وكان غزا المغرب والأندلس مع موسى بن نصير ويروي عن أبي هريرة رضي الله عنه وقال الحميدي إنه كان من أهل الدين والفضل معروفا بالفقه ولي بحر إفريقية سنة ثلاث وتسعين وغزا المغرب والأندلس مع موسى بن نصير فيما حكاه ابن يونس صاحب تاريخ مصر وكان على بحر تونس سنة ثنتين ومائة على ما حكاه عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم
ولما قتل يزيد بن أبي مسلم والي إفريقية اجتمع رأي أهلها عليه فولوه أمرهم وذلك في خلافة يزيد بن عبد الملك بن مروان إلى أن ولي بشر بن صفوان الكلبي إفريقية وكان على مصر فخرج إليها واستخلف أخاه حنظله انتهى
40 - ومنهم عبد الملك بن عمر بن مروان بن الحكم الأموي فر من الشام خوفا من المسودة فمر بمصر ومضى إلى الأندلس وقد غلب عليها الأمير عبد الرحمن بن معاوية الداخل فأكرمه ونوه به وولاه إشبيلية لأنه

كان قعدد بني أمية ثم إنه لما وجد الداخل يدعو لأبي جعفر المنصور أشار عليه بقطع اسمه من الخطبة وذكره بسوء صنيع بني العباس ببني أمية فتوقف عبد الرحمن في ذلك فما زال به عبد الملك حتى قطع الدعاء له وذلك أنه قال له حين امتنع من ذلك إن لم تقطع الخطبة لهم قتلت نفسي فقطع حينئذ عبد الرحمن الخطبة بالمنصور بعد أن خطب باسمه عشرة أشهر ولما زحف أهل غرب الأندلس نحو قرطبة لحرب الأمير عبد الرحمن أنهض إليهم عبد الملك هذا فنهض في معظم الجيش وقدم ابنه أمية أمامه في أكثر العساكر فخالطهم أمية فوجد فيهم قوة فخاف الفضيحة معهم فانحاز منهزما إلى أبيه فلما جاءه سقط في يده وقال له ما حملك على أن استخففت بي وجرأت الناس علي والعدو إن كنت قد فررت من الموت فقد جئت إليه فأمر بضرب عنقه وجمع أهل بيته وخاصته وقال لهم طردنا من الشرق إلى أقصى هذا الصقع ونحسد على لقمة تبقي الرمق اكسروا جفون السيوف فالموت أولى أو الظفر ففعلوا وحملوا وتقدمهم فهزم اليمانية وأهل إشبيلية ولم تقم بعدها لليمانية قائمة وقتل بين الفريقين ثلاثون ألفا وجرح عبد الملك فأتاه عبد الرحمن وجرحه يجري دما وسيفه يقطر دما وقد لصقت يده بقائم سيفه فقبل بين عينيه وجزاه خيرا وقال له يا ابن عم قد أنكحت ابني وولي عهدي هشاما ابنتك فلانة وأعطيتها كذا وكذا وأعطيتك كذا ولأولادك كذا وأقطعتك وإياهم كذا ووليتكم الوزارة
ومن شعره لما نظر نخلة منفردة بإشبيلية فتذكر وطنه بالشام وقال
( يا نخل أنت فريدة مثلي ... في الأرض نائية عن الأهل )
( تبكي وهل تبكي مكممة ... عجماء لم تجبل على جبل )
( ولو أنها عقلت إذا لبكت ... ماء الفرات ومنبت النخل )
( لكنها حرمت وأخرجني ... بغضي بني العباس عن أهلي )
41 - ومن الداخلين من المشرق إلى الأندلس هاشم بن الحسين بن إبراهيم ابن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم أجمعين
ونزل حين دخوله بلبلة وتعرف منازلهم فيها بمنازل الهاشمي وذكره أمير المؤمنين الحكم المستنصر في كتابه أنساب الطالبيين والعلويين القادمين إلى المغرب 42 - ومن الداخلين إلى الأندلس عبد الله بن المغيرة الكناني حليف بني عبد الدار سماه أبو محمد الأصيلي الفقيه في الداخلين الأندلس من التابعين حكى ذلك عنه أبو القاسم بن بشكوال في مجموعه المسمى ب التنبيه والتعيين قال ابن الأبار وما أراه يتابع عليه وذكره أبو سعيد ابن يونس من أهل إفريقية انتهى وذكر أنه يروي عن سفيان بن وهب الخولاني
43 - ومنهم عبد الله المعمر الذي طرأ على الأندلس في آخر الزمان وكان يزعم أنه لقي بعض التابعين
قال ابن الأبار روى عنه أبو محمد أسد الجهني ذكر ذلك القيشي وفيه عندي نظر انتهى
44 - ومنهم أبو عمرو عبد الرحمن بن شماسة بن ذئب المهري روى عن أبي ذر وقيل عن أبي نضرة عن أبي ذر وعائشة وعمرو بن العاص

( يا نخل أنت فريدة مثلي ... في الأرض نائية عن الأهل )
( تبكي وهل تبكي مكممة ... عجماء لم تجبل على جبل )
( ولو أنها عقلت إذا لبكت ... ماء الفرات ومنبت النخل )
( لكنها حرمت وأخرجني ... بغضي بني العباس عن أهلي )
41 - ومن الداخلين من المشرق إلى الأندلس هاشم بن الحسين بن إبراهيم ابن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم أجمعين
ونزل حين دخوله بلبلة وتعرف منازلهم فيها بمنازل الهاشمي وذكره أمير المؤمنين الحكم المستنصر في كتابه أنساب الطالبيين والعلويين القادمين إلى المغرب 42 - ومن الداخلين إلى الأندلس عبد الله بن المغيرة الكناني حليف بني عبد الدار سماه أبو محمد الأصيلي الفقيه في الداخلين الأندلس من التابعين حكى ذلك عنه أبو القاسم بن بشكوال في مجموعه المسمى ب التنبيه والتعيين قال ابن الأبار وما أراه يتابع عليه وذكره أبو سعيد ابن يونس من أهل إفريقية انتهى وذكر أنه يروي عن سفيان بن وهب الخولاني
43 - ومنهم عبد الله المعمر الذي طرأ على الأندلس في آخر الزمان وكان يزعم أنه لقي بعض التابعين
قال ابن الأبار روى عنه أبو محمد أسد الجهني ذكر ذلك القيشي وفيه عندي نظر انتهى
44 - ومنهم أبو عمرو عبد الرحمن بن شماسة بن ذئب المهري روى عن أبي ذر وقيل عن أبي نضرة عن أبي ذر وعائشة وعمرو بن العاص

وابنه عبد الله وزيد بن ثابت وأبي نضرة الغفاري وعقبة بن عامر الجهني وعوف ابن مالك الأشجعي ومعاوية بن حديج ومسلمة بن مخلد وأبي رهم ذكره ابن يونس في تاريخ مصر وسماه ابن بشكوال في الداخلين الأندلس من التابعين وروي ذلك عن الحميدي قاله ابن الأبار وقال ابن يونس وآخر من حدث عنه بمصر حرملة بن عمران
45 - ومن الداخلين إلى الأندلس من المشرق عبد الله بن سعيد بن عمار ابن ياسر رضي الله تعالى عنه ! وقد ذكره ابن حيان في مقتبسه وأخبر أن يوسف بن عبد الرحمن الفهري كتب له أن يدافع عبد الرحمن المرواني الداخل للأندلس وكان المذكور إذ ذاك أميرا على اليمانية من جند دمشق وإنما ركن إليه في محاربة عبد الرحمن لما بين بني عمار وبني أمية من الثأر بسبب قتل عمار بصفين وكان عمار رضي الله تعالى عنه من شيعة علي كرم الله وجهه
وهذا عبد الله بن سعيد هو جد بني سعيد أصحاب القلعة الذين منهم عدة رؤساء وأمراء وكتاب وشعراء ومنهم صاحب المغرب وغير واحد ممن عرفنا به في هذا الكتاب ومن مشاهيرهم أبو بكر محمد بن سعيد بن خلف بن سعيد صاحب أعمال غرناطة في مدة الملثمين قال وهو القائل يفتخر
( إن لم أكن للعلاء أهلا ... بما تراه فمن يكون )
( فكل ما أبتغيه دوني ... ولي على همتي ديون )
( ومن يرم ما يقل عنه ... فذاك من فعله جنون )

( فرع بأفق السماء سام ... وأصله راسخ مكين )
وقوله
( الله يعلم أني ... أحب كسب المعالي )
( وإنما أتوانى ... عنها لسوء المآل )
( تحتاج للكد والبذل ... واصطناع الرجال )
( دع كل من شاء يسمو ... لها بكل احتيال )
( فحالهم في انعكاس ... بها وحالي حالي )
وتراجمهم واسعة وقد بسطت في المسهب و المغرب وغيرهما وقد قدمنا في الباب قبل هذا من أخبار بني سعيد هؤلاء ما يثلج الصدر فليراجع
46 - ومن الوافدين على الأندلس من المشرق أبو زكريا عبد الرحيم بن أحمد بن نصر بن إسحاق بن عمرو بن مزاحم بن غياث التميمي البخاري الحافظ نزيل مصر
سمع ببخارى بلده من إبراهيم بن محمد بن يزداد وأخيه أحمد وكانا يرويان معا عن عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي وعن أبي الفضل السليماني ببيكند وأبي عبد الله محمد بن أحمد المعروف بغنجار وأبي يعلى حمزة بن عبد العزيز المهلبي وأقرانه باليمن وأبي القاسم تمام بن محمد الرازي بدمشق وابن أبي كامل بأطرابلس الشام وأبي محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ بمصر وله رواية عن أبي نصر الكلاباذي وأبي عبد الله الحاكم وأبي بكر بن فورك المتكلم وأبي العباس ابن الحاج الإشبيلي وأبي القاسم علي بن أحمد الخزاعي صاحب الهيثم ابن كليب وأبي الفضل العباس بن محمد الحداد التنيسي وأبي الفتح محمد بن إبراهيم الجحدري وأبي بكر محمد

ابن داود العسقلاني وهلال الحفار وصدقة بن محمد بن مروان الدمشقي ولقي بإفريقية العابد ولي الله سيدي محرز بن خلف التميمي مولاهم وصحبه وقال لقد هبته يوم لقيته هيبة لم أجدها لأحد في نفسي من الناس ودخل الأندلس وبلاد المغرب وكتب بها عن شيوخها ولم يزل يكتب إلى أن مات حتى كتب عمن دونه وله رسالة الرحلة وأسبابها وقول لا إله إلا الله وثوابها فسمع منه أبو عبد الله الرازي وذكره في مشيخته قال الحافظ ابن الأبار ومنها نقلت اسمه وتعرفت دخوله الأندلس وحدث عنه هو وجماعة منهم أبو مروان الطبني وقال هو من الرحالين في الآفاق أخبرني أنه يحدث عن مئين من أهل الحديث وأبو عبد الله الحميدي وأبو بكر جماهر بن عبد الرحمن الطليطلي وأبو عبد الله بن منصور الحضرمي وأبو سعيد الرهاوي وأبو محمد جعفر بن محمد السراج وأبو بكر محمد بن أحمد بن عبد الباقي وأبو الحسن ابن مشرف الأنماطي وأبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي وأبو محمد شعيب بن سبعون الطرطوشي وأبو بكر ابن نعمة العابد وأبو الحسن علي بن الحسين الموصلي الغراف وأبو عثمان سعد بن عبد الله الحيدري من شيوخ السلفي وأبو محمد عبد الكريم بن حمزة بن الخضر السلمي وأبو إسحاق الكلاعي من شيوخ أبي بحر الأسدي وأبو محمد ابن عتاب كتب إليه بجميع ما رواه ولم يعرف ذلك في حياته
وسماه أبو الوليد بن الدباغ في الطبقة العاشرة من طبقات أئمة المحدثين من تأليفه مع أبي عمر ابن عبد البر وأبي محمد ابن حزم وأبي بكر بن ثابت الخطيب وذكره أبو القاسم ابن عساكر في تاريخه وقال سمع بما وراء النهر والعراق ومصر واليمن والقيروان ثم سكن مصر وقدم دمشق قديما وحدث بها وسمى جماعة كثيرة من الرواة عنه وحكى أنه قال لي ببخارى أربعة عشر ألف جزء حديث أريد أن أمضي وأجيء بها

قال وسئل عن مولده فقال في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة قال وتوفي بالحوراء سنة إحدى وسبعين وأربعمائة رحمه الله تعالى ورضي عنه ! انتهى
قلت والذي أعتقده أنه لم يدخل الأندلس من أهل المشرق أحفظ منه للحديث وهو ثقة عدل ليس له مجازفة والحق أبلج
47 - وممن دخل الأندلس من المشرق عبد الجبار بن أبي سلمة الفقيه عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف القرشي الزهري دخل الأندلس مع موسى بن نصير وكان على ميسرة معسكره ونزل باجة ثم بطليوس ومن نسله الزهريون الأشراف الذين كانوا بإشبيلية انتقلوا إلى سكناها قديما هكذا في خبر القاضي أبي الحسين الزهري منهم عن أبي بكر بن خير وغيره قال ابن بشكوال في مجموعه المسمى ب التنبيه والتعيين لمن دخل الأندلس من التابعين عبد الجبار بن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف من التابعين وقع ذكره في كتاب شيخنا أبي الحسن بن مغيث انتهى
قال ابن الأبار ولم يزد على هذا انتهى أبو
48 - ومن الداخلين إلى الأندلس من المشرق أبو محمد عبد الوهاب بن عبد الله بن عبد الوهاب من أهل مصر وسكن بغداد ويعرف بالطندتائي قرية بمصر نسب إليها روى عن أبي محمد الشارمساحي وتفقه به وقدم الأندلس رسولا بزعمه من عند الخليفة العباسي فسكن مرسية ودرس بها وخرج منها سنة اثنتين وأربعين وستمائة بعد أن تملكها النصارى صلحا وأسر بناحية صقلية قال ابن الأبار ثم بلغني أنه تخلص ولحق ببلده رحمه الله تعالى
49 - ومنهم عبد الخالق بن إبراهيم الخطيب يكنى أبا القاسم قال

ابن الأبار لا أعرف موضعه من بلاد المشرق وكان أديبا قوي العارضة مطبوع الشعر مديد النفس ومن شعره من قصيدة صنعها في وقت رحلته إلى الأندلس قوله
( على الذل أو فاحلل عقال الركائب ... وللضيم أو فاحلل صدور الكتائب )
( فإما حياة بعد إدراك منية ... وإما ممات تحت عز القواضب )
( فما العيش في ظل الهوان بطيب ... وما الموت في سبل العلاء بعائب ) 50 - ومنهم أبو محمد عبد اللطيف بن أبي الطاهر أحمد بن محمد بن هبة الله الهاشمي الصدفي من أهل بغداد يعرف بالنرسي دخل الأندلس وكان يزعم أنه روى عن أبي الوقت السجزي وأبي الفرج الجوزي وغيرهما وله تأليف سماه الدليل في الطريق من أقاويل أهل التحقيق ذكره أبو عبد الله محمد بن سعيد الطراز وضعفه بعد ما سمع منه أخذ عنه وسمع منه هو وأبو القاسم عبد الرحمن بن القاسم المغيلي وغيرهما وقال ورد علينا غرناطة قريبا من سنة ثلاث عشرة وستمائة وتوفي - عفا الله تعالى عنه بإشبيلية قريبا من هذا التاريخ وقال فيه أبو القاسم ابن فرقد عبد اللطيف بن عبد الله الهاشمي البغدادي النرسي منسوب إلى قرية من قرى بغداد سمع صحيح البخاري من أبي الوقت السجزي وروى عن غيره وله تآليف قال ابن الأبار في التصوف منها تأليف في إباحة السماع قرأت عليه أكثره وقرأت عليه عوالي النقيب بمدينة إشبيلية بحومة القصر المبارك عام خمسة عشر وستمائة
51 - ومنهم أبو بكر عمر بن عثمان بن محمد بن أحمد الخراساني

الباخرزي الماليني يكني أبا بكر سمع من أبي الخير أحمد بن إسماعيل الطالقاني القزويني وأبي يعقوب يوسف بن عمر بن أحمد الخالدي الزنجاني وقدم الأندلس وحدث بصحيفتي الأشج وجعفر بن نسطور الرومي وسمع منه بغرناطة ومرسية وغيرهما من بلاد الأندلس وحدث عنه أبو القاسم الملاحي وسمع منه بمالقة أبو جعفر ابن عبد الجبار وأبو علي ابن هاشم في صفر سنة 600 ومولده في ربيع الأول سنة 560 انتهى من تكملة ابن الأبار قلت ولا يخفى على من له بصر بعلم الحديث أن الأشج وابن نسطور لا يلتفت إليهما ويرحم الله تعالى السلفي الحافظ إذ قال
( حديث ابن نسطور وقيس ويعنم ... وبعد أشج الغرب ثم خراش )
( ونسخة دينار ونسخة تربه ... أبي هدبة القيسي شبه فراش )
قال ابن عات كان الحافظ السلفي إذا فرغ من إنشاد هذين البيتين ينفخ في يديه إشارة إلى أن هذه الأشياء كالريح انتهى
52 - ومن الوافدين على الأندلس من أهل المشرق علي بن بندار بن إسماعيل بن موسى بن يحيى بن خالد بن برمك البرمكي من أهل بغداد قدم الأندلس تاجرا سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة وكان قد أخذ عن أبي الحسن عبد الله بن أحمد بن محمد بن المغلس الفقيه الداودي وتلمذ له وسمع منه الموضح والمنجح من تآليفه في الفقه وما تم له من أحكام القرآن هكذا نقله الحافظ ابن حزم عن أمير المؤمنين الحكم المستنصر بالله المعتني بهذا الشأن رحمه الله تعالى
53 - ومنهم أبو العلاء عبيد بن محمد بن عبيد أبو العلاء النيسابوري

لقيه الحافظ أبو علي الصدفي ببغداد وأخذ عنه إذ قدمها حاجا وهو يحدث عن أبي سعيد عبد الرحمن بن أحمد البصروي قال أبو علي وأراه دخل الأندلس ويغلب على ظني أني لقيته بسرقسطة ذكر ذلك القاضي عياض في المعجم من تأليفه والله تعالى أعلم
54 - ومنهم سهل بن علي بن عثمان التاجر النيسابوري يكني أبا نصر سمع جماعة من الخراسانيين وغيرهم منهم أبو بكر أحمد بن خلف الشيرازي وأبو الفتح السمرقندي وأدرك الإمام أبا المعالي الجويني وحضر مدلسه ودرسه ولقي بعده أصحابه القشيري والطوسي وغيرهما وكان شافعي المذهب ذكره عياض وقال حدثني بحكايات وفوائد وأنشدني لأبي طاهر السلفي وأجازني جميع رواياته وحدثني أن وفاة أبي المعالي كانت بنيسابور سنة خمس أو أربع وسبعين وأربعمائة وقال أبو محمد العثماني أنشدنا أبو نصر سهل بن علي النيسابوري الحقواني قال أنشدنا أبو الفتح نصر ابن الحسن أنشدنا أبو العباس العذري قال أنشدنا أبو محمد بن حزم الحافظ لنفسه
( ولما رأيت الشيب حل مفارقي ... نذيرا بترحال الشباب المفارق )
( رجعت إلى نفسي فقلت لها انظري ... إلى ما أتى هذا ابتداء الحقائق )
( دعي دعوات اللهو قد فات وقتها ... كما قد أفات الليل نور المشارق )
( دعي منزل اللذات ينزل أهله ... وجدي لما ندعي إليه وسابقي )
قال عياض توفي سهل هذا غريقا في البحر منصرفا إلى بلده من المرية رحمه الله تعالى

55 - ومنهم أبو المكارم هبة الله بن الحسين المصري كان من أهل العلم عارفا بالأصول حافظا للحديث متيقظا حسن الصورة والشارة دخل الأندلس وولي قضاء إشبيلية منها آخر شعبان سنة تسع وسبعين وخمسمائة قال ابن الأبار وبه صرف أبو القاسم الخولاني وأقام بها سنة وحضر غزوة شنترين وكان قدوم أبي المكارم هذا الأندلس خوفا من صلاح الدين يوسف بن أيوب في قوم من شيعة العبيدي ملك مصر ووفد أيضا معه أبو الوفاء المصري ثم استصحبه أمير المؤمنين يعقوب المنصور معه في غزوة قفصة الثانية وولاه حينئذ قضاء تونس وكان قد ولي قضاء فاس وولي أيضا أبو الوفاء صاحبه القضاء وتوفي وهو يتولى قضاء تونس سنة ست وثمانين وخمسمائة رحمه الله تعالى
56 - ومنهم يحيى بن عبد الرحمن بن عبد المنعم بن عبد الله القيسي الدمشقي أصله من دمشق وبها ولد ويعرف بالأصبهاني في مجلس أبي طاهر السلفي لدخوله إياها وإقامته بها أزيد من خمسة أعوام لقراءة الخلافيات ويكنى أبا زكريا وسمع بالمشرق أبا بكر بن ماشاذة السكري وأبا الرشيد بن خالد البيع وأبا الطاهر السلفي وغيرهم وقصد المغرب بعد أداء الفريضة فلقي ببجاية أبا محمد عبد الحق الإشبيلي وأجازه وحضه على الوعظ والتذكير فامتثل ذلك ودخل الأندلس وتجول ببلادها واستوطن غرناطة منها وكان فقيها على مذهب الشافعي عارفا بالأصول والتصوف زاهدا ورعا كثير المعروف والصدقة يعظ الناس ويسمع الحديث ولم يكن بالضابط فيما قاله الحافظ ابن الأبار قال وله كتاب الروضة الأنيقة من تأليفه حدث عنه جماعة من الجلة منهم أبو جعفر ابن عميرة الضبي وابنا حوط الله أبو محمد وأبو

سليمان وأبو القاسم الملاحي وأبو العباس بن الجيار وأبو الربيع بن سالم وقال أنشدني عند توديعي إياه بغرناطة قال سمعت بعض المذكورين ينشد
( يا زائرا زار وما زارا ... كأنه مقتبس نارا )
( مر بباب الدار مستعجلا ... ما ضره لو دخل الدارا )
( نفسي فداء لك من زائر ... ما زار حتى قيل قد سارا )
وسمع منه أبو جعفر بن الدلال كتاب المعالم للخطابي في شرح سنن أبي داود بقراءة جميعه عليه
ومولده في شوال سنة ثمان وأربعين وخمسمائة وتوفي بغرناطة بعد أن سكنها يوم الاثنين سادس شوال سنة ثمان وستمائة قال ابن الأبار وفي هذا اليوم يعينه كانت وفاة شيخنا أبي عبد الله بن نوح ببلنسية رحمهما الله تعالى
57 - ومن الوافدين من المشرق إلى الأندلس إسماعيل بن عبد الرحمن بن علي القرشي من ذرية عبد بن زمعة أخي سودة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها ! رحل من مصر إلى الأندلس في زمن السلطان الحاكم المستنصر بالله أعوام الستين وثلاثمائة حين ملك بنو عبيد مصر وأظهروا فيها معتقدهم الخبيث فحل يومئذ من الحكم المستنصر محل الرحب والسعة ولما ثارت الدولة العامرية أوى إلى إشبيلية وأوطنها دارا واتخذها قرارا وبها لقيه أبو عمر بن عبد البر علامة الأندلس فدرس عليه واقتبس مما لديه وقد ذكره في تاريخ شيوخه ولم يزل عقبه بها إلى أن نجم منهم أبو الحسين سالم بن محمد بن سالم وهو من رجال الذخيرة وله نثر كما تفتح الزهر وتدفق البحر ونظم كما اتسق الدر وسفرت عن محاسنها الأوجه الغر

فمن نظمه قوله
( خليلي هل ليلى ونجد كعهدنا ... فيا حبذا ليلى ويا حبذا نجد )
( عسى الدهر أن يقضي لنا بالتفاتة ... فيا رب قرب قد يجدده بعد )
وله أثناء رسالة
( قوس العلا وضعت في كف باريها ... وأسهم الخطب عادت نحو راميها )
( ومنها وإنما الشمس لاحت في مطالعها ... بلى وأجرى جياد الخيل مجريها )
ونشأن هذا النجم الثاقب والصيب الساكب وقد أخذ من العلوم في غير ما فن وحقق فيه كل ما ظن وذكره في المسهب وسمط الجمان وفضله شهر رحمه الله تعالى
58 - ومنهم أبو علي القالي صاحب الأمالي والنوادر وفد على الأندلس أيام الناصر أمير المؤمنين عبد الرحمن فأمر ابنه الحكم - وكان يتصرف عن أمر أبيه كالوزير - عاملهم ابن رماحس أن يجيء مع أبي علي إلى قرطبة ويتلقاه في وفد من وجوه رعيته ينتخبهم من بياض أهل الكورة تكرمة لأبي علي ففعل وسار معه نحو قرطبة في موكب نبيل فكانوا يتذاكرون الأدب في طريقهم ويتناشدون الأشعار إلى أن تحاوروا يوما وهم سائرون أدب عبد الملك بن مروان ومساءلته جلساءه عن أفضل المناديل وإنشاده بيت عبدة بن الطبيب

( ثمت قمنا إلى جرد مسومة ... أعرافهن لأيدينا مناديل )
وكان الذاكر للحكاية الشيخ أبا علي فأنشد الكلمة في البيت أعرافها لأيدينا مناديل فأنكرها ابن رفاعة الإلبيري وكان من أهل الأدب والمعرفة وفي خلقه حرج وزعارة فاستعاد أبا علي البيت متثبتا مرتين في كلتيهما أنشده أعرافها فلوى ابن رفاعة عنانه منصرفا وقال مع هذا يوفد على أمير المؤمنين وتتجشم الرحلة لتعظيمه وهو لا يقيم وزن بيت مشهور بين الناس لا تغلط الصبيان فيه ! والله لا تبعته خطوة وانصرف عن الجماعة وندبه أميره ابن رماحس أن لا يفعل فلم يجد فيه حيلة وكتب إلى الحكم يعرفه ويصف له ما جرى لابن رفاعة ويشكوه فأجابه على ظهر كتابه الحمد لله الذي جعل في بادية من بوادينا من يخطئ وافد أهل العراق إلينا وابن رفاعة أولى بالرضى عنه من السخط فدعه لشأنه وأقدم بالرجل غير منتقص من تكرمته فسوف يعليه الاختبار إن شاء الله تعالى أو يحطه
وبعض المؤرخين يزعم أن وفادة أبي علي القالي إنما كانت في خلافة الحكم المستنصر بالأندلس لا في خلافة أبيه الناصر والصواب أن وفادته في أيام الناصر لما ذكره غير واحد من حصره وعيه عن الخطبة يوم احتفال الناصر لرسول الإفرنج كما ألمعنا به في غير هذا الموضع
وفي القالي يقول شاعر الأندلس الرمادي
( من حاكم بيني وبين عذولي ... الشجو شجوي والعويل عويلي )
( في أي جارحة أصون معذبي ... سلمت من التعذيب والتنكيل )

( إن قلت في بصري فثم مدامعي ... أو قلت في قلبي فثم غليلي )
( لكن جعلت له المسامع موضعا ... وحجبتها عن عذل كل عذول ) ولما سمع المتنبي البيت الثاني قال يصونه في استه وكان الرمادي لما سمع قول المتنبي
( كفى بجسمي نحولا أنني رجل ... لولا مخاطبتي إياك لم ترني )
قال أظنه ضرطة والجزاء من جنس العمل
وباسم أمير المؤمنين الحكم المستنصر بالله طرز الشيخ أبو علي القالي كتاب الأمالي
وكان الحكم كريما معنيا بالعلم وهو الذي وجه إلى الحافظ أبي الفرج الأصبهاني ألف دينار على أن يوجه له نسخة من كتاب الأغاني وألف أبو محمد الفهري كتابا في نسب أبي علي البغدادي ورواياته ودخوله الأندلس
وحكى ابن الطيلسان عن ابن جابر أنه قرأ هذين البيتين في لوح رخام كان سقط من القبة المبنية على قبر أبي علي البغدادي عند تهدمها وهما
( صلوا لحد قبري بالطريق وودعوا ... فليس لمن وارى التراب حبيب )
( ولا تدفنوني بالعراء فربما ... بكى أن رأى قبر الغريب غريب ) واسم أبي علي إسماعيل بن القاسم بن عيذون بن هارون بن عيسى بن محمد ابن سليمان وجده سليمان مولى عبد الملك بن مروان وكان أبو علي أحفظ أهل زمانه باللغة والشعر ونحو البصريين وأخذ الأدب عن أبي بكر بن دريد الأزدي وأبي بكر بن الأنباري وابن درستويه وغيرهم وأخذ عنه أبو بكر الزبيدي الأندلسي صاحب مختصر العين ولأبي علي التصانيف الحسان ك الأمالي والبارع وطاف البلاد وسافر إلى بغداد سنة 303 وأقام بالموصل لسماع الحديث من أبي يعلى الموصلي ودخل بغداد سنة 303 وأقام بها إلى سنة 328 وكتب بها الحديث ثم خرج من بغداد قاصدا الأندلس وسمع

من البغوي وغيره
قال ابن خلكان ودخل قرطبة لثلاث بقين من شعبان سنة ثلاثين وثلاثمائة انتهى
وهو مما يعين أنه قدم في زمن الناصر لا في زمن ابنه الحكم كما تقدم وقد صرح بذلك الصفدي في الوافي فقال ولما دخل المغرب قصد صاحب الأندلس الناصر لدين الله عبد الرحمن فأكرمه وصنف له ولولده الحكم تصانيف وبث علومه هناك انتهى وقال ابن خلكان إنه استوطن قرطبة إلى أن توفي بها في شهر ربيع الآخر وقيل جمادى الأولى سنة 356 ليلة السبت لست خلون من الشهر المذكور ودفن ظاهر قرطبة ومولده بمنازجرد من ديار بكر
سنة 288 وقيل سنة 280 وإنما قيل له القالي لأنه سافر إلى بغداد مع أهل قاليقلا وهي من أعمال ديار بكر
وهو من محاسن الدنيا رحمه الله تعالى
وعيذون بفتح العين وسكون الياء المثناة التحتية وضم الذال المعجمة
وقال ابن خلكان في ترجمة ابن القوطية إن أبا علي القالي لما دخل الأندلس اجتمع به وكان يبالغ في تعظيمه قال له الحكم بن عبد الرحمن الناصر من أنبل من رأيته ببلدنا هذا في اللغة فقال محمد بن القوطية وكان ابن القوطية مع هذه الفضائل من العباد النساك وكان جيد الشعر صحيح الألفاظ حسن المطالع والمقاطع إلا أنه تركه ورفضه وقال الأديب أبو بكر ابن هذيل إنه توجه يوما إلى ضيعة له بسفح جبل قرطبة وهي من بقاع الأرض الطيبة

المونقة فصادف أبا بكر بن القوطية المذكور صادرا عنها وكانت له أيضا هناك ضيعة قال فلما رآني عرج علي واستبشر بلقائي فقلت مداعبا له
( من أين أقبلت يا من لا شبيه له ... ومن هو الشمس والدنيا له ) فلك قال فتبسم وأجاب بسرعة
( من منزل تعجب النساك خلوته ... وفيه ستر على الفتاك إن فتكوا )
فما تمالكت أن قبلت يده إذ كان شيخي ودعوت له انتهى
وهو صاحب كتاب الأفعال الذي فتح فيه هذا الباب فتلاه ابن القطاع وله كتاب المقصور والممدود جمع فيه ما لا يحد ولا يعد وأعجز من بعده به وفاق من تقدمه رحمه الله تعالى ورضي عنه
وممن أخذ عن أبي علي القالي بالأندلس أبو بكر محمد الزبيدي صاحب كتاب مختصر العين وغيره وكان الزبيدي كثيرا ما ينشد
( الفقر في أوطاننا غربة ... والمال في الغربة أوطان )
( والأرض شيء كلها واحد ... والناس إخوان وجيران ) وترجمة الزبيدي واسعة وكان مؤدب المؤيد هشام ووصفه بأنه كان في صباه في غاية الحذق والذكاء رحمه الله تعالى
وكان القالي قد بحث على ابن درستويه كتاب سيبويه ودقق النظر وانتصر للبصريين وأملى شيئا من حفظه ككتاب النوادر والأمالي والمقصور الممدود والإبل والخيل والبارع في اللغة نحو خمسة آلاف

ورقة لم يصنف مثله في الإحاطة والجمع ولم يتم ورتب كتاب المقصور والممدود على التفعيل ومخارج الحروف من الحلق مستقصى في بابه لا يشذ منه شيء وكتاب فعلت وأفعلت وكتاب مقاتل الفرسان وتفسير السبع الطوال
وكان الزبيدي إماما في الأدب ولكنه عرف فضل القالي فمال إليه واختص به واستفاد منه وأقر له
وكان الحكم المستنصر قبل ولايته الأمر وبعدها ينشط أبا علي ويعينه على التأليف بواسع العطاء ويشرح صدره بالإفراط في الإكرام وكانوا يسمونه البغدادي لوصوله إليها من بغداد ويقال إن الناصر هو الذي استدعاه من بغداد لولائه فيهم وفيه يقول الرمادي متخلصا في لاميته السابق بعضها
( روض تعاهده السحاب كأنه ... متعاهد من عهد إسماعيل )
( قسه إلى الأعراب تعلم أنه ... أولى من الأعراب بالتفضيل )
( حازت قبائلهم لغات فرقت ... فيهم وحاز لغات كل قبيل )
( فالشرق خال بعده وكأنما ... نزل الخراب بربعه المأهول )
( فكأنه شمس بدت في غربنا ... وتغيبت عن شرقهم بأفول )
( يا سيدي هذا ثنائي لم أقل ... زورا ولا عرضت بالتنويل )
( من كان يأمل نائلا فأنا امرؤ ... لم أرج غير القرب في تأميلي )
وقد تقدمت أبيات القالي التي أجاب بها منذر بن سعيد في الباب قبل هذا فلتراجع ثمة والله تعالى أعلم 59 - ومن الوافدين إلى الأندلس من المشرق أبو العلاء صاعد بن الحسين بن عيسى البغدادي اللغوي

وأصله من الموصل قال ابن بسام ولما دخل صاعد قرطبة أيام المنصور بن أبي عامر عزم المنصور على أن يعفي به آثار أبي علي البغدادي الوافد على بني أمية فما وجد عنده ما يرتضيه وأعرض عنه أهل العلم وقدحوا في علمه وعقله ودينه ولم يأخذوا عنه شيئا لقلة الثقة به وكان ألف كتابا سماه كتاب الفصوص فدحضوه ورفضوه ونبذوه في النهر ومن شعره قوله
( ومهفهف أبهى من القمر ... قهر الفؤاد بفاتن النظر )
( خالسته تفاح وجنته ... فأخذتها منه على غرر )
( فأخافني قوم فقلت لهم ... لا قطع في ثمر ولا كثر ) والكثر الجمار وهذا اقتباس من الحديث
وقال الحميدي سمعت أبا محمد بن حزم الحافظ يقول سمعت أبا العلاء صاعدا ينشد بين يدي المظفر عبد الملك بن أبي عامر من قصيدة يهنيه فيها بعيد الفطر سنة 396
( حسبت المنعمين على البرايا ... فألفيت اسمه صدر الحساب )
( وما قدمته إلا كأني ... أقدم تاليا أم الكتاب )
وذكر الحميدي أن عبد الله بن ماكان الشاعر تناول نرجسة فركبها في وردة ثم قال لصاعد ولأبي عامر بن شهيد صفاها فأفحما ولم يتجه لهما القول فبينما هم على ذلك إذ دخل الزهيري صاحب أبي العلاء وتلميذه وكان شاعرا

أديبا أميا لا يقرأ فلما استقر به المجلس أخبر بما هم فيه فجعل يضحك ويقول
( ما للأديبين قد اعيتهما ... مليحة من ملح الجنه )
( نرجسة في وردة ركبت ... كمقلة تطرف في وجنه )
انتهى ومن غريب ما جرى لصاعد أن المنصور جلس يوما وعنده أعيان مملكته ودولته من أهل العلم كالزبيدي والعاصمي وابن العريف وغيرهم فقال لهم المنصور هذا الرجل الوافد علينا يزعم أنه متقدم في هذه العلوم وأحب أن يمتحن فوجه إليه فلما مثل بين يديه والمجلس قد احتفل خجل فرفع المنصور محله وأقبل عليه وسأله عن أبي سعيد السيرافي فزعم أنه لقيه وقرأ عليه كتاب سيبويه فبادره العاصمي بالسؤال عن مسألة من الكتاب فلم يحضره جوابها واعتذر بأن النحو ليس جل بضاعته فقال له الزبيدي فما تحسن أيها الشيخ فقال حفظ الغريب قال فما وزن أولق فضحك صاعد وقال أمثلي يسأل عن هذا إنما يسأل عنه صبيان المكتب قال الزبيدي قد سألناك ولا نشك أنك تجهله فتغير لونه وقال أفعل وزنه فقال الزبيدي صاحبكم ممخرق فقال له صاعد إخال الشيخ صناعته الأبنية فقال له أجل فقال صاعد وبضاعتي أنا حفظ الأشعار ورواية الأخبار وفك المعمى وعلم الموسيقى فقال فناظره ابن العريف فظهر عليه صاعد وجعل لا يجري في المجلس كلمة إلا أنشد عليها شعرا شاهدا وأتى بحكاية يجانسها فأعجب المنصور ثم أراه كتاب النوادر لأبي علي القالي فقال

إن أراد المنصور أمليت على كتاب دولته كتابا أرفع منه وأجل لا أورد فيه خبرا مما أورده أبو علي فأذن له المنصور في ذلك وجلس بجامع مدينة الزاهرة يملي كتابه المترجم ب الفصوص فلما أكمله تتبعه أدباء الوقت فلم تمر فيه كلمة صحيحة عندهم ولا خبر ثبت لديهم وسألوا المنصور في تجليد كراريس بياض تزال جدتها حتى توهم القدم وترجم عليه كتاب النكت تأليف أبي الغوث الصنعاني فترامى إليه صاعد حين رآه وجعل يقبله وقال إي والله قرأته بالبلد الفلاني على الشيخ أبي فلان فأخذه المنصور من يده خوفا أن يفتحه وقال له إن كنت قد قرأته كما تزعم فعلام يحتوي فقال وأبيك لقد بعد عهدي به ولا أحفظ الآن منه شيئا ولكنه يحتوي على لغة منثورة لا يشوبها شعر ولا خبر فقال له المنصور أبعد الله مثلك ! فما رأيت أكذب منك وأمر بإخراجه وأن يقذف كتاب الفصوص في النهر فقال فيه بعض الشعراء
( قد غاص في النهر كتاب الفصوص ... وهكذا كل ثقيل يغوص )
فأجابه صاعد
( عاد إلى معدنه إنما ... توجد في قعر البحار الفصوص )
قال ابن بسام وما أظن أحدا يجترئ على مثل هذا وإنما صاعد اشترط أن لا يأتي إلا بالغريب غير المشهور وأعانهم على نفسه بما كان يتنفق به من الكذب
وحكى ابن خلكان أن المنصور أثابه على كتاب الفصوص بخمسة

آلاف دينار
ومن أعجب ما جرى له أنه كان بين يدي المنصور فأحضرت إليه وردة في غير وقتها لم يستتم فتح ورقها فقال فيها صاعد مرتجلا
( أتتك أبا عامر وردة ... يذكرك المسك أنفاسها )
( كعذراء أبصرها مبصر ... فغطت بأكمامها راسها )
فسر بذلك المنصور وكان ابن العريف حاضرا فحسده وجرى إلى مناقضته وقال لابن أبي عامر هذان البيتان لغيره وقد أنشدنيهما بعض البغداديين بمصر لنفسه وهما عندي على ظهر كتاب بخطه فقال له المنصور أرنيه فخرج ابن العريف وركب وحرك دابته حتى أتى مجلس ابن بدر وكان أحسن أهل زمانه بديهة فوصف له ما جرى فقال هذه الأبيات ودس فيها بيتي صاعد
( عشوت إلى قصر عباسة ... وقد جدل النوم حراسها )
( فألفيتها وهي في خدرها ... وقد صرع السكر أناسها )
( فقالت أسار على هجعة ... فقلت بلى فرمت كاسها )
( ومدت يديها إلى وردة ... يحاكي لك الطيب أنفاسها )
( كعذراء أبصرها مبصر ... فغطت بأكمامها راسها )
( وقالت خف الله لا تفضحن ... في ابنة عمك عباسها )
( فوليت عنها على غفلة ... وما خنت ناسي ولا ناسها )
فطار ابن العريف بها وعلقها على ظهر كتاب بخط مصري ومداد أشقر

ودخل بها على المنصور فلما رآها اشتد غيظه على صاعد وقال للحاضرين غدا أمتحنه فإن فضحه الامتحان أخرجته من البلاد ولم يبق في موضع لي عليه سلطان فلما أصبح وجه إليه فأحضر وأحضر جميع الندماء فدخل بهم إلى مجلس محفل قد أعد فيه طبقا عظيما فيه السقائف مصنوعة من جميع النواوير ووضع على السقائف لعب من ياسمين في شكل الجواري وتحت سقائف بركة ماء قد ألقي فيها اللآلئ مثل الحصباء وفي البركة حية تسبح فلما دخل صاعد ورأى الطبق قال له المنصور إن هذا يوم إما أن تسعد فيه معنا وإما أن تشقى بالضد عندنا لأنه قد زعم قوم أن كل ما تأتي به دعوى وقد وقفت من ذلك على حقيقة وهذا طبق ما توهمت أنه حضر بين يدي ملك قبلي شكله فصفه بجميع ما فيه وعبر بعض عن هذه القصة بقوله أمر فعبئ له طبق فيه أزهار ورياحين وياسمين وبركة ماء حصباؤها اللؤلؤ وكان في البركة حية تسبح وأحضرها صاعد فلما شاهد ذلك قال له المنصور إن هؤلاء يذكرون أن كل ما تأتي به دعوى لا صحة لها وهذا طبق ما ظننت أنه عمل لملك مثله فإن وصفته بجميع ما فيه علمت صحة ما تذكره فقال صاعد بديهة
( أبا عامر هل غير جدواك واكف ... وهل غير من عاداك في الأرض خائف )
( يسوق إليك الدهر كل غريبة ... وأعجب ما يلقاه عندك واصف )
( وشائع نور صاغها هامر الحيا ... على حافتيها عبقر ورفارف )
( ولما تناهى الحسن فيها تقابلت ... عليها بأنواع الملاهي الوصائف )
( كمثل الظباء المستكنة كنسا ... تظللها بالياسمين السقائف )
( وأعجب منها أنهن نواظر ... إلى بركة ضمت إليها الطرائف )
( حصاها اللآلي سابح في عبابها ... من الرقش مسموم الثعابين زاحف )

( ترى ما تراه العين في جنباتها ... من الوحش حتى بينهن السلاحف )
فاستغربت له يومئذ تلك البديهة في مثل ذلك الموضع وكتبها المنصور بخطه وكان إلى ناحيته من تلك السقائف سفينة فيها جارية من النوار تجذف بمجاذيف من ذهب لم يرها صاعد فقال له المنصور أحسنت إلا أنك أغفلت ذكر المركب والجارية فقال للوقت
( وأعجب منها غادة في سفينة ... مكللة تصبو إليها المهاتف )
( إذا راعها موج من الماء تتقي ... بسكانها ما أنذرته العواصف )
( متى كانت الحسناء ربان مركب ... تصرف في يمنى يديه المجاذف )
( ولم تر عيني في البلاد حديقة ... تنقلها في الراحتين الوصائف )
( ولا غرو أن شاقت معاليك روضة ... وشتها أزاهير الربى والزخارف )
( فأنت امرؤ لو رمت نقل متالع ... ورضوى ذرتها من سطاك نواسف )
( إذا قلت قولا أو بدهت بديهة ... فكلني له إني لمجدك واصف )
فأمر له المنصور بألف دينار ومائة ثوب ورتب له في كل شهر ثلاثين دينارا وألحقه بالندماء قال وكان شديد البديهة في ادعاء الباطل قال له المنصور يوما ما الخنبشار فقال حشيشة يعقد بها اللبن ببادية الأعراب وفي ذلك يقول شاعرهم
( لقد عقدت محبتها بقلبي ... كما عقد الحليب بخنبشار

وقال له يوما وقد قدم إليه طبق فيه تمر ما التمركل في كلام العرب فقال يقال تمركل الرجل تمركلا إذا التف في كسائه
وكان مع ذلك عالما
قال وكان لأبن أبي عامر فتى يسمى فاتنا أوحد لا نظير له في علم كلام العرب فناظر صاعدا هذا فقطعه وظهر عليه وبكته فأعجب المنصور منه فتوفي فاتن هذا سنة 402 وبيعت في تركته كتب مضبوطة جليلة مصححة وكان منقادا لما نزل به من المثلة فلم يتخذ النساء كغيره وكان في ذلك الزمان بقرطبة جملة من الفتيان المخانيث ممن أخذ بأوفر نصيب من الأدب
قال ورأيت تأليفا لرجل منهم يعرف بحبيب ترجمه بكتاب الاستظهار والمغالبة على من أنكر فضائل الصقالبة وذكر فيه جملة من أشعارهم وأخبارهم ونوادرهم
وقال ابن بسام وغيره ومن عجائب ما جرى لصاعد أنه أهدى أيلا إلى المنصور وكتب على يد موصله
( يا حرز كل مخوف وأمان كل ... مشرد ومعز كل مذلل )
( يا سلك كل فضيلة ونظام كل ... جزيلة وثراء كل معيل ) ومنها
( ما إن رأت عيني وعلمك شاهد ... شروى علائك في معم مخول ) ومنها

( وأبي مؤانس غربتي وتحفظي ... من صفر أيامي ومن ومستعملي )
( عبد جذبت بضبعه ورفعت من ... مقداره أهدى إليك بأيل )
( سميته غرسية وبعثته ... في حبله ليصح فيه تفاؤلي )
( فلئن قبلت فتلك أنفس منة ... أسدى بها ذو منحة وتطول )
( صبحتك غادية السرور وجللت ... أرجاء ربعك بالسحاب المخضل ) فقضي في سابق علم الله سبحانه وتعالى أن ملك الروم أسر في ذلك اليوم بعينه الذي بعث فيه بالإيل وسماه باسمه على التفاؤل انتهى
وكان غرسية أمنع من النجم وسبب أخذه أنه خرج يتصيد فلقيته خيل للمنصور من غير قصد فأسرته وجاءته به فكان هذا الاتفاق مما عظم به العجب
ولنزد من أخبار صاعد فنقول حكي أن المنصور قال بسبب هذه القضية إنه لم يتفق لصاعد هذا الفأل الغريب إلا لحسن نيته وسريرته وصفاء باطنه فرفع قدره من ذلك اليوم فوق ما كان ورجحه على أعدائه وحق له ذلك
وفي الزهرة الثامنة والعشرين من كتاب الأزهار المنثورة في الأخبار المأثورة حكي أن صاعدا قال جمعت خرق الأكياس والصرر التي قبضت فيها صلات المنصور محمد بن أبي عامر فقطعت لكافور الأسود غلامي منها قميصا كالمرقعة وبكرت به معي إلى قصر المنصور فاحتلت في تنشيطه حتى طابت نفسه فقلت يا مولانا لعبدك حاجة فقال أذكرها قلت

وصول غلامي كافور إلى هنا فقال وعلى هذه الحال فقلت لا أقنع بسواه إلا بحضوره بين يديك فقال أدخلوه فمثل قائما بين يديه في موقعته وهو كالنخلة إشرافا فقال قد حضر وإنه لباذ الهيئة فمالك أضعته فقلت يا مولانا هنالك الفائدة اعلم يا مولاي أنك وهبت لي اليوم ملء جلد كافور مالا فتهلل وقال لله درك من شاكر مستنبط لغوامض معاني الشكر ! وأمر لي بمال واسع وكسوة وكسا كافورا أحسن كسوة انتهى
ولما دخل صاعد دانية وحضر مجلس الموفق مجاهد العامري أمير البلد كان في المجلس أديب يقال له بشار فقال للموفق دعني أعبث بصاعد فقال له لا تتعرض إليه فإنه سريع الجواب فأبى إلا مساءلته وكان بشار المذكور أعمى فقال لصاعد يا أبا العلاء ما الجرنفل في كلام العرب فعرف صاعد أنه وضع هذه الكلمة وليس لها أصل في اللغة فقال بعد أن أطرق ساعة الجرنفل في اللغة الذي يفعل بنساء العميان ولا يتجاوزهن إلى غيرهن وهو في ذلك كله يصرح ولا يكني فخجل بشار وانكسر وضحك من كان حاضرا فقال له الموفق قلت لك لا تفعل فلم تقبل انتهى
والجرنفل بضم الجيم والراء وسكون النون وضم الفاء وبعدها لام
ولصاعد أخبار ونوادر كثيرة غير ما تقدم وله مع المنصور بن أبي عامر رحمه الله تعالى من ذلك كثير وبعضه ذكرناه في هذا الكتاب
ومن حكاياته أنه خرج معه يوما إلى رياض الزاهرة فمد المنصور يده إلى شيء من الريحان المعروف بالترنجان فعبث به ورماه إلى صاعد وأشار إليه أن يقول فيه فارتجل
( لم أدر قبل ترنجان عبثت به ... ) الأبيات الآتية

طرف من أخبار المنصور
وهذا المنصور بن أبي عامر قد تقدمت جملة من أخباره ومن أعجب ما وقع له ما رأيته بخزانة فاس في كتاب ألفه صاحبه في الأزهار والأنوار حكى فيه في ترجمة النيلوفر أن المنصور لما قدم عليه رسول ملك الروم الذي هو أعظم ملوكهم في ذلك الزمان ليطلع على أحوال المسلمين وقوتهم فأمر المنصور أن يغرس في بركة عظيمة ذات أميال نيلوفر على ما تسع ثم أمر بأربعة قناطير من الذهب وأربعة قناطير من الفضة فسبكت قطعا صغارا على قدر ما تسع النيلوفرة ثم ملأ بها جميع النيلوفر الذي في البركة وأرسل إلى الرومي فحضر عنده قبل الفجر في مجلسه السامي بالزاهرة بحيث يشرف على موضع البركة فلما قرب طلوع الشمس جاء ألف من الصقالبة عليهم أقبية الذهب والفضة ومناطق الذهب والفضة وبيد خمسمائة أطباق ذهب وبيد خمسمائة أطباق فضة فتعجب الرسول من حسن صورهم وجمال شارتهم ولم يدر ما المراد فحين أشرقت الشمس ظهر النيلوفر من البركة فبادروا لأخذ الذهب والفضة من النيلوفر وكانوا يجعلون الذهب في أطباق الفضة والفضة في أطباق الذهب حتى التقطوا جميع ما فيها وجاؤوا به فوضعوه بين يدي المنصور حتى صار كوما بين يديه فتعجب النصراني من ذلك وأعظمه وطلب المهادنة من المسلمين وذهب مسرعا إلى مرسله وقال له لا تعاد هؤلاء القوم فإني رأيت الأرض تخدمهم بكنوزها انتهى
وهذه القضية من الغرائب وإنها لحيلة عجيبة في إظهار عز الإسلام وأهله
وكان المنصور بن أبي عامر آية الله سبحانه في السعد ونصرة الإسلام قال ابن بسام نقلا عن ابن حيان إنه لما انتهت خلافة بني مروان بالأندلس إلى الحكم تاسع الأئمة وكان مع فضله قد استهواه حب الولد حتى خالف الحزم

في توريثه الملك بعده في سن الصبا دون مشيخة الإخوة وفتيان العشيرة ومن كان ينهض بالأمر ويستقل بالملك قال ابن بسام وكان يقال لا يزال ملك بني أمية بالأندلس في إقبال ودوام ما توارثه الأبناء عن الآباء فإذا انتقل إلى الإخوة وتوارثوه فيما بينهم أدبر وانصرم ولعل الحكم لحظ ذلك فلما مات الحكم أخفى جؤذر وفائق فتياه ذلك وعزما على صرف البيعة إلى أخيه المغيرة وكان فائق قد قال له إن هذا لا يتم لنا إلا بقتل جعفر المصحفي فقال له جؤذر ونستفتح أمرنا بسفك دم شيخ مولانا فقال له هو والله ما أقول لك ثم بعثنا إلى المصحفي ونعيا إليه الحكم وعرفاه رأيهما في المغيرة فقال لهما المصحفي وهل أنا إلا تبع لكما وأنتما صاحبا القصر ومدبرا الأمر فشرعا في تدبير ما عزما عليه وخرج المصحفي وجمع أجناده وقواده ونعى إليهم الحكم وعرفهم مقصود جؤذر وفائق في المغيرة وقال إن بقينا على ابن مولانا كانت الدولة لنا وإن بدلنا استبدل بنا فقالوا الرأي رأيك فبادر المصحفي بإنفاذ محمد بن أبي عامر مع طائفة من الجند إلى دار المغيرة لقتله فوافاه ولا خبر عنده فنعى إليه الحكم أخاه فجزع وعرفه جلوس ابنه هشام في الخلافة فقال أنا سامع مطيع فكتب إلى المصحفي بحاله وما هو عليه من الاستجابة فأجابه المصحفي بالقبض عليه وإلا وجه غيره ليقتله فقتله خنقا
فلما قتل المغيرة واستوثق الأمر لهشام بن الحكم افتتح المصحفي أمره بالتواضع والسياسة واطراح الكبر ومساواة الوزراء في الفرش وكان ذلك من أول ما استحسن منه وتوفر على الاستئثار بالأعمال والاحتجان للأموال وعارضه محمد بن أبي عامر فتى ماجد أخذ معه بطرفي نقيض بالبخل جودا وبالاستبداد أثرة وتملك قلوب الرجال إلى أن تحركت همته للمشاركة في التدبير بحق الوزارة وقوي على أمره بنظره في الوكالة وخدمته

للسيدة صبح أم هشام وكانت حاله عند جميع الحرم أفضل الأحوال بتصديه لمواقع الإرادة ومبالغته في تأدية لطيف الخدمة فأخرجن له أمر هشام الخليفة إلى الحاجب جعفر المصحفي بأن لا ينفرد عنه برأي وكان غير متخيل منه سكونا إلى ثقته فامتثل الأمر وأطلعه على سره وبالغ في بره وبالغ محمد بن أبي عامر في مخادعته والنصح له فوصل المصحفي يده بيده واستراح إلى كفايته وابن أبي عامر يمكر به ويضرب عليه ويغري به الحسدة ويناقضه في أكثر ما يعامل به الناس ويقضي حوائجهم ولم يزل على ما هذه سبيله إلى أن انحل أمر المصحفي وهوى نجمه وتفرد محمد بن أبي عامر بالأمر ومنع أصحاب الحكم وأجلاهم وأهلكهم وشردهم وشتتهم وصادرهم وأقام من صنائعهم من استغنى به عنهم وصادر الصقالبة وأهلكهم وأبادهم في أسرع مدة
قال ابن حيان وجاشت النصرانية بموت الحكم وخرجوا على أهل الثغور فوصلوا إلى باب قرطبة ولم يجدوا عند جعفر المصحفي غناء ولا نصرة وكان مما أتى عليه أن أمر أهل قلعة رباح بقطع سد نهرهم لما تخيله من أن في ذلك النجاة من العدو ولم تتسع حيلته لأكثر منه مع وفور الجيوش وجموم الأموال وكان ذلك من سقطات جعفر فأنف محمد بن أبي عامر من هذه الدنية وأشار على جعفر بتجريد الجيش بالجهاد وخوفه سوء العاقبة في تركه وأجمع الوزراء على ذلك إلا من شذ منهم واختار ابن أبي عامر

الرجال وتجهز للغزاة واستصحب مائة ألف دينار ونفذ بالجيش ودخل على الثغر الجوفي إلى جليقية ونازل حصن الحامة ودخل الربض وغنم وقفل فوصل الحضرة بالسبي بعد اثنين وخمسين يوما فعظم السرور به وخلصت قلوب الأجناد له واستهلكوا في طاعته لما رأوه من كرمه
ومن أخبار كرمه ما حكاه محمد بن أفلح غلام الحكم قال دفعت إلى ما لا أطيقه من نفقة في عرس ابنة لي ولم يبق معي سوى لجام محلى ولما ضاقت بي الأسباب قصدته بدار الضرب حين كان صاحبها والدراهم بين يديه موضوعة مطبوعة فأعلمته ما جئت له فابتهج بما سمعه مني وأعطاني من تلك الدراهم وزن اللجام بحديده وسيوره فملأ حجري وكنت غير مصدق بما جرى لعظمه وعملت العرس وفضلت لي فضلة كثيرة وأحبه قلبي حتى لو حملني على خلع طاعة مولاي الحكم لفعلت وكان ذلك في أيام الحكم قبل أن يقتعد ابن أبي عامر الذروة
وقال غير واحد إنه صنع يومئذ قصرا من فضة لصبح أم هشام وحمله على رؤوس الرجال فجلب حبها بذلك وقامت بأمره عند سيدها الحكم وحدث الحكم خواصه بذلك وقال إن هذا الفتى قد خلب عقول حرمنا بما يتحفهن به قالوا وكان الحكم لشدة نظره في علم الحدثان يتخيل في ابن أبي عامر أنه المذكور في الحدثان ويقول لأصحابه أما تنظرون إلى صفرة كفيه ويقول في بعض الأحيان لو كانت به شجة لقلت إنه هو بلا شك فقضى الله أن تلك الشجة حصلت للمنصور يوم ضربه غالب بعد موت الحكم بمدة
قال ابن حيان وكان بين المصحفي وغالب صاحب مدينة سالم وشيخ الموالي وفارس الأندلس عداوة عظيمة ومباينة شديدة ومقاطعة مستحكمة

وأعجز المصحفي أمره وضعف عن مباراته وشكا ذلك إلى الوزراء فأشاروا عليه بملاطفته واستصلاحه وشعر بذلك ابن أبي عامر فأقبل على خدمته وتجرد لإتمام إرادته ولم يزل على ذلك حتى خرج الأمر بأن ينهض غالب إلى تقدمة جيش الثغر وخرج ابن أبي عامر إلى غزوته الثانية واجتمع به وتعاقدا على الإيقاع بالمصحفي وقفل ابن أبي عامر ظافرا غانما وبعد صيته فخرج أمر الخليفة هشام بصرف المصحفي عن المدينة وكانت في يده يومئذ وخلع على ابن أبي عامر ولا خبر عند المصحفي وملك ابن أبي عامر الباب بولايته للشرطة وأخذ عن المصحفي وجوه الحيلة وخلاه وليس بيده من الأمر إلا أقله وكان ذلك بإعانة غالب له وضبط المدينة ضبطا أنسى به أهل الحضرة من سلف من الكفاة أولي السياسة وانهمك ابن أبي عامر في صحبة غالب ففطن المصحفي لتدبير ابن أبي عامر عليه فكاتب غالبا يستصلحه وخطب أسماء بنته لابنه عثمان فأجابه غالب لذلك وكادت المصاهرة تتم له وبلغ ابن أبي عامر الأمر فقامت قيامته وكاتب غالبا يخوفه الحيلة ويهيج حقوده وألقى عليه أهل الدار وكاتبوه فصرفوه عن ذلك ورجع غالب إلى ابن أبي عامر فأنكحه البنت المذكورة وتم له العقد في محرم سنة سبع وستين وثلاثمائة فأدخل السلطان تلك الابنة إلى قصره وجهزها إلى محمد بن أبي عامر من قبله فظهر أمره وعز جانبه وكثر رجاله وصار جعفر المصحفي بالنسبة إليه كلا شيء واستقدم السلطان غالبا وقلده الحجابة شركة مع جعفر المصحفي ودخل ابن أبي عامر على ابنته ليلة النيروز وكانت أعظم ليلة عرس في الأندلس وأيقن المصحفي بالنكبة وكف عن اعتراض ابن أبي عامر في شيء من التدبير وابن أبي عامر يساتره ولا يظاهره وانفض عنه الناس وأقبلوا على ابن أبي عامر إلى أن صار المصحفي يغدو إلى قصر قرطبة

ويروح وهو وحده وليس بيده من الحجابة سوى اسمها وعوقب المصحفي بإعانته على ولاية هشام وقتل المغيرة
ثم سخط السلطان على المصحفي وأولاده وأهله وأسبابه وأصحابه وطولبوا بالأموال وأخذوا برفع الحساب لما تصرفوا فيه وتوصل ابن أبي عامر بذلك إلى اجتثاث أصولهم وفروعهم وكان هشام ابن أخي المصحفي قد توصل إلى أن سرق من رؤوس النصارى التي كانت تحمل بين يدي ابن أبي عامر في الغزاة الثالثة ليقدم بها على الحضرة وغاظه ذلك منه فبادره بالقتل في المطبق قبل عمه جعفر المصحفي فلما استقصى ابن أبي عامر مال جعفر حتى باع داره بالرصافة وكانت من أعظم قصور قرطبة واستمرت النكبة عليه سنتين مرة يحتبس ومرة يترك ومرة يقر بالحضرة ومرة ينفر عنها ولا براح له من المطالبة بالمال ولم يزل على هذا الحكم حتى استصفي ولم يبق فيه محتمل واعتقل في المطبق بالزهراء إلى أن هلك وأخرج إلى أهله ميتا وذكر أنه سمه في ماء شربه قال محمد بن إسماعيل سرت مع محمد بن مسلمة إلى الزهراء لنسلم جسد جعفر بن عثمان إلى أهله بأمر المنصور وسرنا إلى منزله فكان مغطى بخلق كساء لبعض البوابين ألقاه على سريره وغسل على فردة باب اختلع من ناحية الدار وأخرج وما حضر أحد جنازته سوى إمام مسجده المستدعى للصلاة عليه ومن حضر من ولده فعحبت من الزمان انتهى
وما أحسن عبارة صاحب المطمح عن هذه القضية إذ قال قال محمد بن إسماعيل كاتب المنصور سرت بأمره لتسليم جسد جعفر إلى أهله وولده

والحضور على إنزاله في ملحده فنظرته ولا أثر فيه وليس عليه شيء يواريه غير كساء خلق لبعض البوابين فدعا له محمد بن مسلمة بغاسل فغسله والله على فردة باب اقتطع من جانب الدار وأنا أعتبر من تصرف الأقدار وخرجنا بنعشه إلى قبره وما معنا سوى إمام مسجده المستدعى للصلاة عليه وما تجاسر أحد منا للنظر إليه وإن لي في شأنه لخبرا ما سمع بمثله طالب وعظ ولا وقع في سمع ولا تصور في لحظ وقفت له في طريقه من قصره أيام نهيه وأمره أروم أن أناوله قصة كانت به مختصة فوالله ما تمكنت من الدنو منه بحيلة لكثافة موكبه وكثرة من حف به وأخذ الناس السكك عليه وأفواه الطرق داعين ومارين بين يديه وساعين حتى ناولت قصتي بعض كتابه الذين نصبهم جناحي موكبه لأخذ القصص فانصرفت وفي نفسي ما فيها من الشرق بحاله والغصص فلم تطل المدة حتى غضب عليه المنصور واعتقله ونقله معه في الغزوات واحتمله واتفق أن نزلت بجليقية إلى جانب خبائه في ليلة نهى فيها المنصور عن وقود النيران ليخفى على العدو أثره ولا ينكشف إليه خبره فرأيت والله عثمان ولده يسفه دقيقا قد خلطه بماء يقيم به أوده ويمسك بسببه رمقه بضعف حال وعدم زاد وهو يقول
( تعاطيت صرف الحادثات فلم أزل ... أراها توفي عند موعدها الحرا )
( فلله أيام مضت بسبيلها ... فإني لا أنسى لها أبدا ذكرا )
( تجافت بها عنا الحوادث برهة ... وأبدت لنا منها الطلاقة والبشرا )
( ليالي ما يدري الزمان مكانها ... ولا نظرت منها حوادثه شزرا )
( وما هذه الأيام إلا سحائب ... على كل أرض تمطر الخير والشرا )
انتهى
وأما غالب الناصري فإنه حضر مع ابن أبي عامر في بعض الغزوات وصعد إلى بعض القلاع لينظرا في أمرها فجرت محاورة بين ابن أبي عامر وغالب فسبه غالب وقال له يا كلب أنت الذي أفسدت الدولة وخربت القلاع وتحكمت في الدولة وسل سيفه فضربه وكان بعض الناس حبس يده فلم تتم الضربة وشجه فألقى ابن أبي عامر نفسه من رأس القلعة خوفا من أن يجهز عليه فقضى الله تعالى أنه وجد شيئا في الهوي منعه من الهلاك فاحتمله أصحابه وعالجوه حتى برئ ولحق غالب بالنصارى فجيش بهم وقابله ابن أبي عامر بمن معه من جيوش الإسلام فحكمت الأقدار بهلاك غالب وتم لابن أبي عامر ما جد له وتخلصت دولته من الشوائب
قالوا ولما وقعت وحشة بين ابن أبي عامر والمؤيد وكان سببها تضريب الحساد فيما بينهما وعلم أنه ما دهي إلا من جانب حاشية القصر فرقهم ومزقهم ولم يدع فيه منهم إلا من وثق به أو عجز عنه ثم ذكر له أن الحرم قد انبسطت أيديهن في الأموال المختزنة بالقصر وما كانت السيدة صبح أخت رائق تفعله من إخراج الأموال عندما حدث من تغيرها على ابن أبي عامر وأنها أخرجت في بعض الأيام مائة كوز مختومة على أعناق الخدم الصقالبة فيها الذهب والفضة وموهت ذلك كله بالمري والشهد وغيره

( تجافت بها عنا الحوادث برهة ... وأبدت لنا منها الطلاقة والبشرا )
( ليالي ما يدري الزمان مكانها ... ولا نظرت منها حوادثه شزرا )
( وما هذه الأيام إلا سحائب ... على كل أرض تمطر الخير والشرا )
انتهى
وأما غالب الناصري فإنه حضر مع ابن أبي عامر في بعض الغزوات وصعد إلى بعض القلاع لينظرا في أمرها فجرت محاورة بين ابن أبي عامر وغالب فسبه غالب وقال له يا كلب أنت الذي أفسدت الدولة وخربت القلاع وتحكمت في الدولة وسل سيفه فضربه وكان بعض الناس حبس يده فلم تتم الضربة وشجه فألقى ابن أبي عامر نفسه من رأس القلعة خوفا من أن يجهز عليه فقضى الله تعالى أنه وجد شيئا في الهوي منعه من الهلاك فاحتمله أصحابه وعالجوه حتى برئ ولحق غالب بالنصارى فجيش بهم وقابله ابن أبي عامر بمن معه من جيوش الإسلام فحكمت الأقدار بهلاك غالب وتم لابن أبي عامر ما جد له وتخلصت دولته من الشوائب
قالوا ولما وقعت وحشة بين ابن أبي عامر والمؤيد وكان سببها تضريب الحساد فيما بينهما وعلم أنه ما دهي إلا من جانب حاشية القصر فرقهم ومزقهم ولم يدع فيه منهم إلا من وثق به أو عجز عنه ثم ذكر له أن الحرم قد انبسطت أيديهن في الأموال المختزنة بالقصر وما كانت السيدة صبح أخت رائق تفعله من إخراج الأموال عندما حدث من تغيرها على ابن أبي عامر وأنها أخرجت في بعض الأيام مائة كوز مختومة على أعناق الخدم الصقالبة فيها الذهب والفضة وموهت ذلك كله بالمري والشهد وغيره

والأصباغ المتخذة بقصر الخلافة وكتبت على رؤوس الكيزان أسماء ذلك ومرت على صاحب المدينة فما شك أنه ليس فيها إلا ما هو عليها وكان مبلغ ما حملت فيها من الذهب ثمانين ألف دينار فأحضر ابن أبي عامر جماعة وأعلمهم أن الخليفة مشغول عن حفظ الأموال بانهماكه في العبادة وأن في إضاعتها آفة على المسلمين وأشار بنقلها إلى حيث يؤمن عليها فيه فحمل منها خمسة آلاف ألف دينار عن قيمة ورق وسبعمائة ألف دينار وكانت صبح قد دافعت عما بالقصر من الأموال ولم تمكن من إخراجها فاجتمع ابن أبي عامر بالخليفة هشام واعترف له بالفضل والغناء في حفظ قواعد الدولة فخرست ألسنة الأعدا والحسدة وعلم المنصور ما في نفوس الناس لظهور هشام ورؤيتهم له إذ كان منهم من لم يره قط فأبرزه للناس وركب الركبة المشهورة واجتمع لذلك من الخلق ما لا يحصى وكانت عليه الطويلة والقضيب في يده زي الخلافة والمنصور يسايره
ثم خرج المنصور لآخر غزواته وقد مرض المرض الذي مات فيه وواصل شن الغارات وقويت عليه العلة فاتخذ له سرير خشب ووطئ عليه ما يقعد عليه وجعلت عليه ستارة وكان يحمل على أعناق الرجال والعساكر تحف به وكان هجر الأطباء في تلك العلة لاختلافهم فيها وأيقن بالموت وكان يقول إن زماني يشتمل على عشرين ألف مرتزق ما أصبح

فيهم أسوأ حالة مني ولعله يعني من حضر تلك الغزاة وإلا فعساكر الأندلس ذلك الزمان أكثر من ذلك العدد - واشتغل ذهنه بأمر قرطبة وهو في مدينة سالم فلما أيقن بالوفاة أوصى ابنه عبد الملك وجماعته وخلا بولده وكان يكرر وصاته وكلما أراد أن ينصرف يرده وعبد الملك يبكي وهو ينكر عليه بكاءه ويقول وهذا من أول العجز وأمره أن يستخلف أخاه عبد الرحمن على العسكر
وخرج عبد الملك إلى قرطبة ومعه القاضي أبن ذكوان فدخلها أول شوال وسكن الإرجاف بموت والده وعرف الخليفة كيف تركه
ووجد المنصور خفة فأحضر جماعة بين يديه وهو كالخيال لا يبين الكلام وأكثر كلامه بالإشارة كالمسلم المودع وخرجوا من عنده فكان آخر العهد به ومات لثلاث بقين من شهر رمضان وأوصى أن يدفن حيث يقبض فدفن في قصره بمدينة سالم
واضطرب العسكر وتلوم ولده أياما وفارقه بعض العسكر إلى هشام وقفل هو إلى قرطبة فيمن بقي معه ولبس فتيان المنصور المسوح والأكسية بعد الوشي والحبر والخز
وقام ولده عبد الملك المظفر بالأمر وأجراه هشام الخليفة على عادة أبيه وخلع عليه وكتب له السجل بولاية الحجابة وكان الفتيان قد اضطربوا فقوم المائل وأصلح الفاسد وجرت الأمور على السداد وانشرحت الصدور بما شرع فيه من عمارة البلاد فكان أسعد مولود ولد في الأندلس
ولنمسك عنان القلم في أمر ابن أبي عامر فقد قدمنا في محله جملة من أحواله وما ذكرناه هنا وإن كان محله ما سبق وبعضه قد تكرر معه فهو لا يخلو من فوائد زوائد والله تعالى ولي التوفيق

رجع إلى أخبار صاعد اللغوي البغدادي
359 - رجع إلى أخبار صاعد اللغوي البغدادي رجع إلى أخبار صاعد اللغوي البغدادي وحكي أنه دخل على المنصور يوم عيد وعليه ثياب جدد وخف جديد فمشى على حافة البركة لازدحام الحاضرين في الصحف فزلق فسقط في الماء فضحك المنصور وأمر بإخراجه وقد كاد البرد أن يأتي عليه فخلع عليه وأدنى مجلسه وقال له هل حضرك شيء فقال
( كانا في الزمان عجيبة ... ضرط ابن وهب ثم وقعة صاعد )
فاستبرد ما أتى به فقال أبو مروان الكاتب الجزيري هلا قلت
( سروري بغرتك المشرقه ... وديمة راحتك المغدقه )
( ثناني نشوان حتى غرقت ... في لجة البركة المطبقه )
( لئن ظل عبدك فيها الغريق ... فجودك من قبلها أغرقه )
فقال له المنصور لله درك يا أبا مروان ! قسناك بأهل بغداد ففضلتهم فبمن نقيسك بعد انتهى
وقال في الذخيرة في ترجمة صاعد وفد على المنصور نجما من المشرق غرب ولسانا عن العرب أعرب وأراد المنصور أن يعفي به آثار أبي علي القالي فألفى سيفه كهاما وسحابه جهاما من رجل يتكلم بملء فيه ولا يوثق بكل ما يذره ولا ما يأتيه انتهى باختصار
وأصل صاعد من ديار الموصل وقال ارتجالا وقد عبث المنصور بترنجان
( لم أدر قبل ترنجان عبثت به ... أن الزمرد أغصان وأوراق )
( من طيبه سرق الأترج نكهته ... يا قوم حتى من الأشجار سراق )
( كأنما الحاجب المنصور علمه ... فعل الجميل فطابت منه أخلاق )
وقدمه الحجاري بقوله
( كأن إبريقنا والراح في فمه ... طير تناول ياقوتا بمنقار )
وقبله
( وقهوة من فم الإبريق صافية ... كدمع مفجوعة بالإلف معبار )
وقال في بدائع البدائه دخل صاعد اللغوي على بعض أصحابه في مجلس شراب فملأ الساقي قدحا من إبريق فبقيت على فم الإبريق نقطة من الراح قد تكونت ولم تقطر فاقترح عليه الحاضرون وصف ذلك فقال
( وقهوة من فم الإبريق ساكبة ... ) البيتين
ثم قال بعدهما وإنما اهتدم صاعد قول الشريف أبي البركات علي بن الحسين العلوي
( كأن ريح الروض لما أتت ... فتت علينا مسك عطار )
( كأنما إبريقنا طائر ... يحمل ياقوتا بمنقار ) انتهى

( من طيبه سرق الأترج نكهته ... يا قوم حتى من الأشجار سراق )
( كأنما الحاجب المنصور علمه ... فعل الجميل فطابت منه أخلاق )
وقدمه الحجاري بقوله
( كأن إبريقنا والراح في فمه ... طير تناول ياقوتا بمنقار )
وقبله
( وقهوة من فم الإبريق صافية ... كدمع مفجوعة بالإلف معبار )
وقال في بدائع البدائه دخل صاعد اللغوي على بعض أصحابه في مجلس شراب فملأ الساقي قدحا من إبريق فبقيت على فم الإبريق نقطة من الراح قد تكونت ولم تقطر فاقترح عليه الحاضرون وصف ذلك فقال
( وقهوة من فم الإبريق ساكبة ... ) البيتين
ثم قال بعدهما وإنما اهتدم صاعد قول الشريف أبي البركات علي بن الحسين العلوي
( كأن ريح الروض لما أتت ... فتت علينا مسك عطار )
( كأنما إبريقنا طائر ... يحمل ياقوتا بمنقار ) انتهى

ومن نظم صاعد
( قلت له والرقيب يعجله ... مودعا للفراق أين أنا )
( فمد كفا إلى ترائبه ... وقال سر وادعا فأنت هنا )
وقال صاعد لما أمر المنصور بن أبي عامر بمعارضة قصيدة لأبي نواس
( إني لأستحيي علاك ... من ارتجال القول فيه )
( من ليس يدرك بالروية ... كيف يدرك بالبديه )
وقال حاشد البغدادي في صاعد اللغوي وكان صاعد ينشدهما ويبكي ويقول ما هجيت بشيء أشد علي منهما
( إقبل هديت أبا العلاء نصيحتي ... بقبولها وبواجب الشكر )
( لا تهجون أسن منك فربما ... تهجو أباك وأنت لا تدري )
نعوذ بالله من لسان الشعراء وأنواع البلاء بجاه نبينا محمد
ومن نظم صاعد قوله
( بعثت إليك من خيري روض ... مكرمة كأوراق العقيق )
( توكل بالغروب عن التصابي ... وتصطاد الخليع من الطريق )
وروى صاعد عن القاضي أبي سعيد الحسن بن عبد الله السيرافي وأبي علي

الحسن بن أحمد الفارسي وأبي بكر بن مالك القطيعي وأبي سليمان الخطابي وغيرهم
قال الحميدي خرج من الأندلس في الفتنة وقصد صقلية فمات بها قريبا من سنة عشر وأربعمائة
وقال ابن حزم توفي بصقلية سنة سبع عشرة وأربعمائة
وقال ابن بشكوال في حقه إنه يتهم بالكذب وقلة الصدق فيما يورده عفا الله تعالى عنه ! وقدم الأندلس من مصر أيام المؤيد وتحكم المنصور بن أبي عامر في حدود سنة 380 فأكرمه المنصور وزاد في الإحسان إليه والإفضال عليه وكان عالما باللغة والآداب والأخبار سريع الجواب حسن الشعر طيب المعاشرة فكه المجالسة
وقال بعضهم دخل صاعد على المنصور وعنده كتاب ورد عليه من عامل له في بعض الجهات اسمه مبرمان بن يزيد يذكر فيه القلب والتزبيل وهما عندهم اسم الأرض قبل زراعتها فقال له يا أبا العلاء قال لبيك يا مولانا فقال هل رأيت أو وصل إليك من الكتب القوالبة والزوالبة لمبرمان ابن يزيد قال إي والله ببغداد في نسخة لأبي بكر ابن دريد بخط ككراع النمل في جوانبها علامات الوضاع فقال له أما تستحيي أبا العلاء من هذا الكذب هذا كتاب عاملي ببلد كذا واسمه كذا يذكر فيه كذا فجعل يحلف له أنه ما كذب ولكنه أمر وافق ومات عن سن عالية رحمه الله تعالى

60 - ومن الوافدين على الأندلس من المشرق الشيخ تاج الدين بن حمويه السرخسي ولد سنة 572 وقد ذكر في رحلته عجائب شاهدها بالمغرب ومشايخ لقيهم فمنهم الحافظ أبو محمد عبد الله بن سليمان بن داود بن حوط الله الأنصاري قال سمعت عليه سنة سبع وتسعين وخمسمائة الحديث وشيئا من تصانيف المغاربة وروى لنا عن الحافظ أبي إسحاق إبراهيم بن يوسف بن إبراهيم بن قرقول وولي ابن حوط الله المذكور قضاء غرناطة وأدرك ابن بشكوال وابن حبيش وابن حميد المرسي النحوي وأبا يزيد السهيلي صاحب الروض وغيرهم
ومن الشيوخ الذين لقيهم السرخسي المذكور بالمغرب الفقيه ابن أبي تميم قال وأنشدني
( إسمع أخي نصيحتي ... والنصح من محض الديانه )
( لا تقربن إلى الشهادة ... والوساطة والأمانه )
( تسلم من ان تعزى لزور ... فضول أو خيانه وذكر ) أنه أدرك الشيخ الولي العارف بالله سيدي أبا العباس أحمد بن جعفر الخزرجي السبتي صاحب الحالات والكرامات الظاهرة والطريقة الغريبة والأحوال العجيبة قال أدركته بمراكش سنة أربع وتسعين وخمسمائة وقد ناهز الثمانين ومهما حصل عنده مال فرقه في الحال وتركته في سنة ثمان وتسعين حيا يرزق انتهى
وولي الله السبتي قد ذكرت في غير هذا الموضع بعض أحواله فلتراجع في الباب الثامن من ترجمة لسان الدين بن الخطيب ومحله مقصود

لقضاء الحاجات وقد زرته مرارا عديدة سنة 1010
وقال لسان الدين في نفاضة الجراب كتبت عن السلطان الغني بالله محمد بن يوسف بن نصر ونحن بفاس يخاطب الضريح المقصود والمنهل المورود والمرعى المنتجع والخوان الذي يكفي الغرثى ويمرض المرضى ويقوت الزمنى ويتعداهم إلى أهل الجدة زعموا والغنى قبر ولي الله سيدي أبي العباس السبتي نفعنا الله به وجبر حالنا وأعاد علينا النعم ودفع عنا النقم
( يا ولي الإله أنت جواد ... وقصدنا إلى حماك المنيع )
( راعنا الدهر بالخطوب فجئنا ... نرتجي من علاك حسن الصنيع )
( فمددنا لك الأكف نرجي عودة العز تحت شمل جميع )
( قد جعلنا وسيلة تربك الزا كي ... وزلفى إلى العليم السميع )
( كم غريب أسرى إليك فوافى ... برضا عاجل وخير سريع )
يا ولي الله الذي جعل جاهه سببا لقضاء الحاجات ورفع الأزمات وتصريفه باقيا بعد الممات وصدق لقول الحكايات ظهور الآيات نفعني الله بنيتي في بركة تربك وأظهر علي أثر توسلي بك إلى الله ربك مزق شملي وفرق بيني وبين أهلي وتعدي علي وصرفت وجوه المكايد إلي حتى أخرجت من وطني وبلدي ومالي وولدي ومحل جهادي وحقي الذي صار لي طوعا عن آبائي وأجدادي عن بيعة لم يحل عقدتها الدين ولا ثبوت جرحة تشين وأنا قد قرعت باب الله سبحانه بتأميلك فالتمس لي قبوله بقبولك وردني إلى وطني على أفضل حال وأظهر علي كرامتك التي تشد إليها ظهور الرحال فقد جعلت وسيلتي إليك رسول الحق إلى جميع الخلق والسلام عليك أيها الولي الكريم الذي يأمن به الخائف وينتصف الغريم ورحمة الله
انتهى رجع والسرخسي المذكور قال في حقه بعض الأئمة إنه الشيخ الإمام

شيخ الشيوخ تاج الدين أبو محمد عبد الله بن عمر بن علي بن محمد بن حمويه له رحلة مغربية انتهى
وهو من بيت كبير وقال البدري في تاريخه في حقه ما صورته تاج الدين شيخ الشيوخ بدمشق أحد الفضلاء المؤرخين المصنفين له كتاب في ثماني مجلدات ذكر فيه أصول الأشياء وله السياسة الملوكية صنفها للملك الكامل محمد وغير ذلك وسمع الحديث وحفظ القرآن وكان قد بلغ الثمانين وقيل لم يبلغها وقد سافر إلى بلاد المغرب سنة ثلاث وتسعين واتصل بمراكش عند ملكها المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن فأقام هنالك إلى سنة ستمائة وقدم مصر وولي مشيخة الشيوخ بعد أخيه صدر الدين ابن حمويه انتهى
وقال غيره إنه كان فاضلا متواضعا نزها حسن الاعتقاد قال أبو المظفر كان يحضر مجالسي وأنشدني يوما
( لم ألق مستكبرا إلا تحول لي ... عند اللقاء له الكبر الذي فيه )
( ولا حلا لي من الدنيا ولذتها ... إلا مقابلتي للتيه بالتيه )
وقال السرخسي المذكور في رحلته إني وإن كنت خراساني الطينة لكني شامي المدينة وإن كانت العمومة من المشرق فإن الخؤولة من المغرب فحدث باعث يدعو إلى الحركات والأسفار ومشاهدة الغرائب في النواحي والأقطار وذلك في حال ريعان الشباب الذي تعضده عزائم النفوس بنشاطها والجوارح بخفة حركاتها وانبساطها فخرجت سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة إلى زيارة البيت المقدس وتجديد العهد ببركاته واغتنام الأجر في حلول بقاعه ومزاراته ثم سرت منه إلى الديار المصرية وهي آهلة بكل ما تتجمل به البلاد وتزدهي وينتهي وصف الواصف لشؤونها ولا تنتهي ثم دخلت الغرب من الإسكندرية في البحر ودخلت مدينة مراكش أيام السيد الإمام أمير المؤمنين

أبي يوسف يعقوب المنصور بن يوسف بن عبد المؤمن بن علي فاتصلت بخدمته والذي علمت من حاله أنه كان يجيد حفظ القرآن ويحفظ متون الأحاديث ويتقنها ويتكلم في الفقه كلاما بليغا وكان فقهاء الوقت يرجعون إليه في الفتاوى وله فتاوى مجموعة حسبما أدى إليه اجتهاده وكان الفقهاء ينسبونه إلى مذهب الظاهر وقد شرحت أحوال سيرته وما جرى في أيام دولته في كتاب التاريخ المسمى عطف الذيل وقد صنف كتابا جمع فيه متون أحاديث صحاح تتعلق بها العبادات سماه الترغيب وتهدده ملك الإفرنج ألفنش في كتابه فمزقه وقال لرسوله ( ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون ) [ النمل37 ] إن شاء الله تعالى ثم قال للكاتب اكتب على هذه القطعة يعني من كتابه الذي مزقه الجواب ما ترى لا ما تسمع
( فلا كتب إلا المشرفية والقنا ... ولا رسل إلا الخميس العرمرم )
ومن شعره أبيات كتب بها إلى العرب وهي
( يا أيها الراكب المزجي مطيته ... على عذافرة تشقى بها الأكم )
( بلغ سليما على بعد الديار بها ... بيني وبينكم الرحمن والرحم )
( يا قومنا لا تشبوا الحرب إن خمدت ... واستمسكوا بعرى الإيمان واعتصموا )
( كم جرب الحرب من قد كان قبلكم ... من القرون فبادت دونها الأمم )
( حاشا الأعارب أن ترضى بمنقصة ... يا ليت شعري هل ترآهم علموا )
( يقودهم أرمني لا خلاق له ... كأنه بينهم من جهلهم علم ) يعني بالأرمني قراقوش مملوك بني أيوب الذي كان ذهب إلى بلاد الغرب

الأدنى وأوقد النار الحربية من طرابلس إلى تونس مع ابن غانية اللمتوني وحديثه مشهور وتمام الأبيات
( الله يعلم أني ما دعوتكم ... دعاء ذي قوة يوما فينتقم )
( ولا لجأت لأمر يستعان به ... من الأمور وهذا الخلق قد علموا )
( لكن لأجزي رسول الله عن نسب ... ينمى إليه وترعى تلكم الذمم )
( فإن أتيتم فحبل الوصل متصل ... وإن أبيتم فعند السيف نحتكم )
ثم قال السرخسي وبلغني أن قوما من الغرباء قصدوه ومعهم حيوانات معلمة منها أسد وغراب أما الأسد فيقصده من دون أهل المجلس ويربض بين يديه وربما أومأ بالسجود ومد ذراعيه وأما الغراب فكان يقول النصر والتمكين لسيدنا أمير المؤمنين وفي ذلك يقول بعض الشعراء
( أنس الشبل ابتهاجا بالأسد ... ورأى شبه أبيه فقصد )
( أنطق الخالق مخلوقاته ... شهدوا والكل بالحق شهد )
( أنك الخيرة من صفوته ... بعد ما طال على الناس الأمد )
فأعطاهم وكساهم وأحسن حباهم
وبلغني أن قوما أتوه بفيل من بلاد السودان هدية فأمر لهم بصلة ولم يقبله منهم وقال نحن لا نريد أن نكون أصحاب الفيل
وقال لي يوما كيف ترى هذه البلاد وأين هي من بلادك الشامية فقلت يا سيدنا بلادكم حسنة أنيقة مجملة مكملة وفيها عيب واحد فقال ما هو فقلت أنها تنسي الأوطان فتبسم وظهر لي إعجابه

بالجواب وأمر لي من غد بزيادة رتبة وإحسان
وحدثني بعض عمالهم أنه فرق على الجند والأمراء والفقراء في عيد سنة أربع وتسعين ثلاثة وسبعين ألف شاة من ضأن ومعز ودرج إلى رحمة الله تعالى سنة خمس وتسعين وخمسمائة وكان قد استخلف ولده محمدا وقرر الأمر له انتهى
قلت بهذا وأمثاله تعلم فساد ما زعمه غير واحد أن يعقوب المنصور هذا تخلى عن الملك وفر زهدا فيه إلى المشرق وأنه دفن بالبقاع لأن هذه مقالة عامية لا يثبتها علماء المغرب وسبب هذه المقالة تولع العامة به فكذبوا في موته وقالوا إنه ترك الملك وحكوا ما شاع إلى الآن وذاع مما ليس له أصل
ويرحم الله تعالى الإمام العلامة القاضي الشريف الغرناطي شارح الخزرجية إذ قال في شرح مقصورة حازم عند ذكره وقعة الأرك ما معناه إن بعض الناس يزعمون أن المنصور ترك الملك وذهب إلى المشرق وهذا كلام لا يصح ولا أصل
له انتهى
وقال في المغرب كان أبوه يوسف قد استوزره في حياته وتخرج بين يديه وتمرس وهزم الفرنج الهزيمة العظيمة وتولع بالعلم حتى نفى التقليد وحرق كتب المذاهب وقتل على السكر انتهى
وحكى لسان الدين الوزير ابن الخطيب في شرح كتابه رقم الحلل في نظم الدول أن المنصور طلب من بعض أعيان دولته رجلين لتأديب ولده يكون أحدهما برا في عمله والآخر بحرا في علمه فجاءه بشخصين زعم أنهما على وفق مقترح المنصور فلما اختبرهما لم يجدهما كما وصف فكتب إلى الآتي بهما ( ظهر الفساد في البر والبحر ) [ الروم41 ] انتهى وناهيك

بهذا دلالة على قوة فطنته ومعرفته رحمه الله تعالى
رجع إلى أخبار السرخسي
وقال في رحلته لما ذكر السيد أبا الربيع سليمان بن عبد الله ابن أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي وكان في تلك المدة يلي مدينة سجلماسة وأعمالها اجتمعت به حين قدم إلى مراكش بعد وفاة المنصور يعقوب لمبايعة ولده محمد فرأيته شيخا بهي المنظر حسن المخبر فصيح العبارة باللغتين العربية والبربرية ومن كلامه في جواب رسالة إلى ملك السودان بغانة ينكر عليه تعويق التجار قوله نحن نتجاور بالإحسان وإن تخالفنا في الأديان ونتفق على السيرة المرضية ونتألف على الرفق بالرعية ومعلوم أن العدل من لوازم الملوك في حكم السياسة الفاضلة والجور لا تعانيه إلا النفوس الشريرة الجاهلة وقد بلغنا احتباس مساكين التجار ومنعهم من التصرف فيما هم بصدده وتردد الجلابة إلى البلد مفيد لسكانها ومعين على التمكن من استيطانها ولو شئنا لاحتبسنا من في جهاتنا من أهل تلك الناحية لكنا لا نستصوب فعله ولا ينبغي لنا أن ننهى عن خلق ونأتي مثله والسلام
ووقع إلى عامل له كثرت الشكاوى منه قد كثرت فيك الأقوال وإغضائي عنك رجاء أن تتيقظ فتنصلح الحال وفي مبادرتي إلى ظهور الإنكار عليك نسبة إلى شر الاختيار وعدم الاختبار فاحذر فإنك على شفا جرف هار
ومن شعره المشهور قصيدة يمدح فيها ابن عمه المنصور يعقوب

( هبت بنصركم الرياح الأربع ... وجرت بسعدكم النجوم الطلع )
( واستبشر الفلك الأثير تيقنا ... أن الأمور إلى مرادك ترجع )
( وأمدك الرحمن بالفتح الذي ... ملأ البسيطة نوره المتشعشع )
( لم لا وأنت بذلت في مرضاته ... نفسا تفديها الخلائق أجمع )
( ومضيت في نصر الإله مصمما ... بعزيمة كالسيف بل هي أقطع )
( لله جيشك والصوارم تنتضى ... والخيل تجري والأسنة تلمع )
( من كل من تقوى الإله سلاحه ... ما إن له غير التوكل مفزع )
( لا يسلمون إلى النوازل جارهم ... يوما إذا أضحى الجوار يضيع ) ومنها يصف انهزام العدو
( إن ظن أن فراره منج له ... فبجهله قد ظن ما لا ينفع )
( أين المفر ولا فرار لهارب ... والأرض تنشر في يديك وتجمع )
( أخليفة الله الرضى هنيته ... فتح يمد بما سواه ويشفع )
( فلقد كسوت الدين عزا شامخا ... ولبست منه أنت ما لا يخلع )
( هيهات سر الله أودع فيكم ... والله يعطي من يشاء ويمنع )
( لكم الهدى لا يدعيه سواكم ... ومن ادعاه يقول ما لا يسمع )
( إن قيل من خير الخلائق كلها ... فإليك يا يعقوب تومي الإصبع )
( إن كنت تتلو السابقين فإنما ... أنت المقدم والخلائق تبع )
( خذها أمير المؤمنين مديحة ... من قلب صدق لم يشنه تصنع )
( واسلم أمير المؤمنين لأمة ... أنت الملاذ لها وأنت المفزع )
( فالمدح مني في علاك طبيعة ... والمدح من غيري إليك تطبع )
( وعليك يا علم الهداة تحية ... يفنى الزمان وعرفها يتضوع )

قال لي الفقيه أبو عبد الله محمد القسطلاني دخلت إلى السيد أبي الربيع بقصر سجلماسة وبين يديه أنطاع عليها رؤوس الخوارج الذين قطعوا الطريق على السفار بين سجلماسة وغانة وهو ينكت الأرض بقضيب من الآبنوس ويقول
( ولا غرو أن كانت رؤوس عداته ... جوابا إذا كان السيوف رسائله )
ومات بعد الستمائة رحمه الله تعالى انتهى
وقال لما هجره أمير المؤمنين يعقوب المنصور ووافق ذلك أن وفد على حضرة الخلافة مراكش جمع من العرب والغز من بلاد المشرق ونزلوا بتمرتانسقت ظاهر مراكش واستأذنوا في وقت الدخول فكتب إلى المنصور
( يا كعبة الجود التي حجت لها ... عرب الشآم وغزها والديلم )
( طوبى لمن أمسى يطوف بها غدا ... ويحل بالبيت الحرام ويحرم )
( ومن العجائب أن يفوز بنظرة ... من بالشآم ومن بمكة يحرم )
فعفا عنه وأحسن إليه وأمره بالدخول بهم والتقدم عليهم 370 حديث لأبي سعيد صاحب المغرب عن أبي الربيع سليمان بن عبد المؤمن وقال في المغرب في حق السيد أبي الربيع المذكور ما ملخصه لم يكن في بني عبد المؤمن مثله في هذا الشأن الذي نحن بصدده وكان تقدم على مملكتي سجلماسة وبجاية وكان كاتبا شاعرا أديبا ماهرا وشعره مدون وله ألغاز

وهو القائل في جارية حارية اسمها ألوف
( قولا أين قلبي ومن به ... وكيف بقاء المرء من بعد قلبه )
( ولو شئتما اسم الذي قد هويته ... لصحفتما أمري لكم بعد قلبه ) وله الأبيات المشهورة التي منها
( أقول لركب أدلجوا بسحيرة ... قفوا ساعة حتى أزور ركابها )
( وأملأ عيني من محاسن وجهها ... وأشكو إليها أن أطالت عتابها )
( فإن هي جادت بالوصال وأنعمت ... وإلا فحسبي أن رأيت قبابها )
وقال يخاطب ابن عمه يعقوب المنصور
( فلأملأن الخافقين بذكركم ... ما دمت حيا ناظما ومرسلا )
( ولأبذلن نصحي لكم جهدي وذا ... جهد المقل وما عسى أن أفعلا )
( ولأخلصن لك الدعاء وما أنا ... أهل له ولعله أن يقبلا )
وله مختصر كتاب الأغاني انتهى
رجع وذكر السرخسي أيضا في رحلته السيد أبا الحسن علي بن عمر ابن أمير المؤمنين عبد المؤمن وقال في حقه إنه كان من أهل الأدب والطرب ولي بجاية مدة ثم عزل عنها لإهماله وإغفاله وانهماكه في ملاذه أنشدني محمد بن سعيد المهدوي كاتبه قال كتب الأمير أبو الحسن إلى أمير المؤمنين يعقوب يمدحه ويستزيده ويطلب منه ما يقضي به ديونه

( وجوه الأماني بكم مسفره ... وضاحكة لي مستبشره )
( ولي أمل فيكم صادق ... قريب عسى الله أن يسره )
( علي ديون وتصحيفها ... وعندكم الجود والمغفره )
يعني ذنوب
وحدثني الشيخ أبو الحسن ابن فشتال الكاتب وقد أنشدته
( أوحشتني ولو اطلعت على الذي ... لك في ضميري لم تكن لي موحشا ) فقال أنشدته هذا البيت في مجلس السيد أبي الحسن فقال لي ولمن حضر هل تعرفون لهذا البيت ثانيا فما فينا من عرفه فأنشدنا
( أترى رشيت على اطراح مودتي ... ولقد عهدتك ليس تثنيك الرشا ) أوحشتني - البيت انتهى
وقال في المغرب في حق السيد المذكور ما ملخصه كان هذا السيد أبو الحسن قد ولي مملكة تلمسان وبجاية وله حكايات في الجود برمكية ونفس عالية زكية كتب إليه السيد أبو الربيع يوم جمعة
( اليوم يوم الجمعه ... يوم سرور ودعه )
( وشملنا مفترق فهل ترى أن نجمعه )
فأجابه بقوله
( اليوم يوم الجمعه ... وربنا قد رفعه )
( والشرب فيه بدعة ... فهل ترى أن ندعه )
قال ولفظة السيد في المغرب بذلك العصر لا تطلق إلا على بني عبد المؤمن بن علي انتهى
رجع قال السرخسي وقد ذكر في الرحلة المذكورة السيد أبا محمد عبد الله صاحب فاس وله من أبيات في الفخر وقد انتحلها غيره
( ألست ابن من تخشى الليالي انتقامهم ... وترجو نداهم غاديات السحائب )
( يخطون بالخطي في حومة الوغى ... سطور المنايا في نحور المقانب )
( كتابا بأطراف العوالي ونقسه ... دم القلب مشكولا بنضح الترائب )
( وما كنت أدري قبلهم أن معشرا ... أقاموا كتابا من نفوس الكتائب ) وأنشدني المقدم الأمير أبو زيد بن يكيت قال أنشدني بعض السادة من بني عبد المؤمن
( فديت من أصبحت في أسره وليس لي من حكمه فادي )
( إن حل يوما واديا كان لي ... جنة عدن ذلك الوادي )
ثم ذكر رحمه الله تعالى جملة من علماء الأندلس والمغرب لقيهم في هذه الرحلة ومن نظم السرخسي المذكور قوله رحمه الله تعالى
( يا ساهر المقلة لا عن كرى ... غفلت عن هجعي وأوصابي )
( لو لم يكن وجهك لي قبلة ... ما أصبح الحاجب محرابي ) وكان متفننا في العلوم وهو عم الأمراء الوزراء الرؤساء فخر الدين وإخوته ومن مصنفاته المسالك والممالك وعطف الذيل في التاريخ وله أمال وتخاريج وقدمه المنصور صاحب المغرب على جماعة وتوفي رحمه الله تعالى بدمشق ودفن في مقابر الصوفية عند المنيبع وكان عالي الهمة

قال ولفظة السيد في المغرب بذلك العصر لا تطلق إلا على بني عبد المؤمن بن علي انتهى
رجع قال السرخسي وقد ذكر في الرحلة المذكورة السيد أبا محمد عبد الله صاحب فاس وله من أبيات في الفخر وقد انتحلها غيره
( ألست ابن من تخشى الليالي انتقامهم ... وترجو نداهم غاديات السحائب )
( يخطون بالخطي في حومة الوغى ... سطور المنايا في نحور المقانب )
( كتابا بأطراف العوالي ونقسه ... دم القلب مشكولا بنضح الترائب )
( وما كنت أدري قبلهم أن معشرا ... أقاموا كتابا من نفوس الكتائب ) وأنشدني المقدم الأمير أبو زيد بن يكيت قال أنشدني بعض السادة من بني عبد المؤمن
( فديت من أصبحت في أسره وليس لي من حكمه فادي )
( إن حل يوما واديا كان لي ... جنة عدن ذلك الوادي )
ثم ذكر رحمه الله تعالى جملة من علماء الأندلس والمغرب لقيهم في هذه الرحلة ومن نظم السرخسي المذكور قوله رحمه الله تعالى
( يا ساهر المقلة لا عن كرى ... غفلت عن هجعي وأوصابي )
( لو لم يكن وجهك لي قبلة ... ما أصبح الحاجب محرابي ) وكان متفننا في العلوم وهو عم الأمراء الوزراء الرؤساء فخر الدين وإخوته ومن مصنفاته المسالك والممالك وعطف الذيل في التاريخ وله أمال وتخاريج وقدمه المنصور صاحب المغرب على جماعة وتوفي رحمه الله تعالى بدمشق ودفن في مقابر الصوفية عند المنيبع وكان عالي الهمة

حذف

شريف النفس قليل الطمع لا يلتفت إلى أحد رغبة في دنياه لا من أهله ولا من غيرهم وذكره صاحب المرآة وغيره وترجمته واسعة رحمه الله تعالى
61 - ومن الوافدين على الأندلس ظفر البغدادي سكن قرطبة وكان من رؤساء الوراقين المعروفين بالضبط وحسن الخط كعباس بن عمرو الصقلي ويوسف البلوطي وطبقتهما واستخدمه الحكم المستنصر بالله في الوراقة لما علم من شدة اعتناء الحكم بجمع الكتب واقتنائها وقد أشار ابن حيان في كتاب المقتبس إلى ظفر هذا رحمه الله تعالى ! محمد بن موسى الكناني 372 محمد بن موسى الكناني 62 - ومنهم الرازي وهو محمد بن موسى بن بشير بن جناد بن لقيط الكناني الرازي والد أبي بكر أحمد بن محمد صاحب التاريخ غلب عليه اسم بلده وكان يفد من المشرق على ملوك بني مروان تاجرا وكان مع ذلك متقنا في العلوم وهلك منصرفه من الوفادة على الأمير المنذر بن محمد بإلبيرة في شهر ربيع الآخر سنة 273 ذكره ابن حيان في المقتبس الوزير 63 - ومنهم الوزير أبو الفضل محمد بن عبد الواحد بن عبد العزيز ابن الحارث بن أسد بن الليث بن سليمان بن الأسود بن سفيان التميمي الدارمي البغدادي
سمع من أبي طاهر محمد بن عبد الرحمن المخلص

وغيره وخرج من بغداد رسولا عن أمير المؤمنين القائم بأمر الله العباسي رضي الله تعالى عنه إلى صاحب إفريقية المعز بن باديس واجتمع مع أبي العلاء المعري بالمعرة وأنشده قصيدة لامية يمدح بها صاحب حلب فقبل عينيه وقال له لله أنت من ناظم وخرج من إفريقية من أجل فتنة العرب وخيم عند المأمون بن ذي النون بطليطلة وله فيه أمداح كثيرة ومن فرائد شعره قوله
( يا ليل ألا انجليت عن فلق ... طلت ولا صبر لي على الأرق )
( جفت لحاظي التغميض فيك فما ... تطبق أجفانها على الحدق )
( كأنني صورة ممثلة ... ناظرها الدهر غير منطبق )
وقال
( يزرع وردا ناضرا ناظري ... في وجنة كالقمر الطالع )
( أمنع أن أقطف أزهاره ... في سنة المتبوع والتابع )
( فلم منعتم شفتي قطفها ... والحكم أن الزرع للزارع )
هكذا نسبها له غير واحد كابن سعيد وابن كتيلة وبعضهم ينسبها للقاضي عبد الوهاب قلت وقد أجاب عنها بعض المغاربة بقوله
( سلمت أن الحكم ما قلتم ... وهو الذي نص عن الشارع )

( فكيف تبغي شفة قطفه ... وغيرها المدعو بالزارع )
ورده شيخ شيوخ شيوخنا الإمام الحافظ أبو عبد الله التنسي ثم التلمساني بقوله
( في ذا الذي قد قلتم مبحث ... إذ فيه إيهام على السامع )
( سلمتم الحكم له مطلقا ... وغير ذا نص عن الشارع )
يعني أنه يلزم على قول المجيب أن يباح له النظر مطلقا والشرع خلافه
وأجاب بعض الحنفية بقوله
( لأن أهل الحب في حكمنا ... عبيدنا في شرعنا الواسع )
( والعبد لا ملك له عندنا ... فحقه للسيد المانع )
وهو جواب حسن لا بأس به ورأيت جوابا لبعض المغاربة على غير رويه وهو
( قل لأبي الفضل الوزير الذي ... باهى به مغربنا الشرق )
( غرست ظلما وأردت الجنى ... وما لعرق ظالم حق )
قلت وهذا مما يعين أن الأبيات لأبي الفضل الدارمي المذكور في الذخيرة لا للقاضي عبد الوهاب والله تعالى أعلم
ومن شعر الوزير المذكور قوله
( بين كريمين منزل واسع ... والود حال تقرب الشاسع )
( والبيت إن ضاق عن ثمانية ... متسع بالوداد للتاسع )
وولد رحمه الله تعالى سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة وهو من بيت علم وأدب قال الحميدي أخبرني بذلك أبو عمر رزق الله بن عبد الوهاب بن عبد العزيز

ابن الحارث وتوفي بطليطلة سنة أربع وخمسين وأربعمائة وقال ابن حيان توفي ليلة الجمعة لأربع عشرة ليلة خلت من شوال سنة خمس وخمسين وأربعمائة في كنف المأمون يحيى بن ذي النون وذكر أنه كان يتهم بالكذب فالله تعالى أعلم بحقيقة الأمر
وقال ابن ظافر في كتابه بدائع البدائه ما نصه حضر أبو الفضل الدارمي البغدادي مجلس المعز بن باديس وبالمجلس ساق وسيم قد مسك عذاره ورد خديه وعجزت الراح أن تفعل في الندامى فعل عينيه فأمره المعز بوصفه فقال بديها
( ومعذر نقش الجمال بمسكه ... خدا له بدم القلوب مضرجا )
( لما تيقن أن سيف جفونه ... من نرجس جعل العذار بنفسجا )
وقوله في جارية تبخرت بالند ومحطوطة والمتنين مهضومة الحشا ... منعمة الأرداف تدمى من اللمس )
( إذا ما دخان الند من جيبها علا ... على وجهها أبصرت غيما على شمس )
وقوله لأغررن بمهجتي في حبه ... غررا يطيل مع الخطوب خطابي )
( ولئن تعزز إن عندي ذلة ... تستعطف الأعداء للأحباب )
وقوله

( دعتني عيناك نحو الصبا ... دعاء يكرر في كل ساعه )
( ولولا وحقك عذر المشيب ... لقلت لعينيك سمعا وطاعه )
وقد تمثل بهذين البيتين لسان الدين بن الخطيب في خطبة تأليفه المسمى ب روضة التعريف بالحب الشريف
وقال أبو الفضل الدارمي المذكور أيضا
( سطا الفراق عليهم غفلة فغدوا ... من جوره فرقا من شدة الفرق )
( فسرت شرقا وأشواقي مغربة ... يا بعد ما نزحت عن طرقهم طرقي )
( لولا تدارك دمعي يوم كاظمة ... لأحرق الركب ما أبديت من حرق )
( يا سارق القلب جهرا غير مكترث ... أمنت في الحب أن تعدى على السرق )
( أرمق بعين الرضى تنعش بعاطفة ... قبل المنية ما أبقيت من رمقي )
( لم يبق مني سوى لفظ يبوح بما ... ألقى فيا عجبا للفظ كيف بقي )
( صلني إذا شئت أو فاهجر علانية ... فكل ذلك محمول على الحدق ) وقال
( تذكر نجدا والحمى فبكى وجدا ... وقال سقى الله الحمى وسقى نجدا )
( وحيته أنفاس الخزامى عشية ... فهاجت إلى الوجد القديم به وجدا )
( فأظهر سلوانا وأضمر لوعة ... إذا طفئت نيرانها وقدت وقدا )
( ولو أنه أعطى الصبابة حكمها ... لأبدى الذي أخفى وأخفى الذي أبدى )

وقال أيضا
( قلت للملقي على الخدين ... من ورد خمارا )
( أسبل الصدغ على خدك ... من مسك عذارا )
( أم أعان الليل حتى ... قهر الليل النهارا )
( قال ميدان جرى الحسن ... عليه فاستدارا )
( ركضت فيه عيون ... فأثارته غبارا ) وقال
( وكاتب أهديت نفسي له ... فهي من السوء فدا نفسه ) فلست أدري بعد ما حل بي بمسكه أتلف أم نقسه سلط خديه على مهجتي فاستأصلتها وهي من غرسه وقال
( وشادن أسرف في صده ... وزاد في التيه على عبده )
( الحسن قد بث على خده ... بنفسجا يزهو على ورده )
( رأيته يكتب في طرسه ... خطا يباري الدر من عقده )
( فخلت ما قد خطه كفه ... للحسن قد خط على خده ) وقال
( إني عشقت صغيرا ... قد دب فيه الجمال )
( وكاد يغشى حديث الفضول ... منه الدلال )
( لو مر في طرق الهجر ... لاعتراه ضلال ) 117
( يريك بدرا منيرا ... في الحسن وهو هلال ) وقال
( ظبي إذا حرك أصداغه ... لم يلتفت خلق إلى العطر )
( غنى بشعري منشدا ليتني اللفظ ... الذي أودعته شعري )
( فكلما كرر إنشاده ... قبلته فيه ولم يدر ) وقال
( أينفع قولي إنني لا أحبه ... ودمعي بما يمليه وجدي يكتب )
( إذا قلت للواشين لست بعاشق ... يقول لهم فيض المدامع يكذب )
وقال
( وهبني قد أنكرت حبك جملة ... وآليت أني لا أروم محطها )
( فمن أين لي في الحب جرح شهادة ... سقامي أملاها ودمعي خطها ) وقال
( أنا أخشى إن دام ذا الهجر أن ينشط ... من حبه عقال وثاقي )
( فأريح الفؤاد مما اعتراه ... وأرد الهوى على العشاق )
وقال
( كلانا لعمري ذائبان من الهوى ... فنارك من جمر وناري من هجر )
( فأنت على ما قد تقاسين من أذى ... فصدرك في نار وناري في صدري )

( يريك بدرا منيرا ... في الحسن وهو هلال ) وقال
( ظبي إذا حرك أصداغه ... لم يلتفت خلق إلى العطر )
( غنى بشعري منشدا ليتني اللفظ ... الذي أودعته شعري )
( فكلما كرر إنشاده ... قبلته فيه ولم يدر ) وقال
( أينفع قولي إنني لا أحبه ... ودمعي بما يمليه وجدي يكتب )
( إذا قلت للواشين لست بعاشق ... يقول لهم فيض المدامع يكذب )
وقال
( وهبني قد أنكرت حبك جملة ... وآليت أني لا أروم محطها )
( فمن أين لي في الحب جرح شهادة ... سقامي أملاها ودمعي خطها ) وقال
( أنا أخشى إن دام ذا الهجر أن ينشط ... من حبه عقال وثاقي )
( فأريح الفؤاد مما اعتراه ... وأرد الهوى على العشاق )
وقال
( كلانا لعمري ذائبان من الهوى ... فنارك من جمر وناري من هجر )
( فأنت على ما قد تقاسين من أذى ... فصدرك في نار وناري في صدري )

وقال
( ومن عجب العشق أن القتيل ... يحن ويصبو إلى القاتل )
وقال ألم أجعل مثار النقع بحرا ... على أن الجياد له سفين ) وقال
( أصبحت أحلب تيسا لا مدر له ... والتيس من ظن أن التيس محلوب )
وأما الحكيم أبو محمد المصري وهو القائل
( رعى الله دهرا قد نعمنا بطيبه ... لياليه من شمس الكؤوس أصائل )
( ونرجسنا در على التبر جامد ... وخمرتنا تبر على الدر سائل )
فقد ترجمته في الذخيرة فليراجع فإن الذخيرة غريبة في البلاد المشرقية
وقد كان عندي بالمغرب من هذا النوع ما أستعين به فخلفته هنالك والله تعالى يلم الشمل
وقد ذكر فيها أنه مغربي سافر إلى مصر فقيل له المصري لذلك فليعلم والله تعالى أعلم
64 - ومن الوافدين على الأندلس أشهب بن العضد الخراساني قال ابن سعيد أنشدنا لما وفد على ابن هود في إشبيلية قصيدة ابن النبيه
( طاب الصبوح لنا فهاك وهات ... وادعاها وفيها في روضة غنا تخال طيورها ... وغصونها همزا على ألفات )
ولم أجد هذا البيت في قصيدة ابن النبيه انتهى
65 - ومن الوافدين على الأندلس من المشرق أبو الحسن البغدادي الفكيك وهو مذكور في الذخيرة وكان حلو الجواب مليح التندر يضحك من حضر ولا يضحك هو إذا ندر وكان قصيرا دميما
قال ورأيته يوما وقد لبس طاقا أحمر على بياض وفي رأسه طرطور أخضر عمم عليه عمة لازوردية وهو بين يدي المعتمد بن عباد ينشد شعرا قال فيه
( وأنت سليمان في ملكه ... وبين يديك أنا الهدهد )
وأنشد له في المعتمد
( أبا القاسم الملك المعظم قدره ... سواك من الأملاك ليس يعظم )
( لقد أصبحت حمص يعدلك جنة ... وقد أبعدت عن ساكنيها جهنم )
( ولي حياك الريع عاما وأشهر ... وإنني أزخرف أعلام الثناء وأرقم )
( وأنفقت ما أعطيتني ثقة بما ... أؤمل فالدينار عندي درهم )
( وقلبي إلى بغداد يصبو وإنني ... لنشر صباها دائما أتنسم )
وقال
( وذرى على ربع العقيق دموعه ... عقيقا ففيها توأم وفريد )
( شهدت وما تغني شهادة عاشق ... بأن قتيل الغانيات شهيد ) ومنها

في روضة غنا تخال طيورها ... وغصونها همزا على ألفات )
ولم أجد هذا البيت في قصيدة ابن النبيه انتهى
65 - ومن الوافدين على الأندلس من المشرق أبو الحسن البغدادي الفكيك وهو مذكور في الذخيرة وكان حلو الجواب مليح التندر يضحك من حضر ولا يضحك هو إذا ندر وكان قصيرا دميما
قال ورأيته يوما وقد لبس طاقا أحمر على بياض وفي رأسه طرطور أخضر عمم عليه عمة لازوردية وهو بين يدي المعتمد بن عباد ينشد شعرا قال فيه
( وأنت سليمان في ملكه ... وبين يديك أنا الهدهد )
وأنشد له في المعتمد
( أبا القاسم الملك المعظم قدره ... سواك من الأملاك ليس يعظم )
( لقد أصبحت حمص يعدلك جنة ... وقد أبعدت عن ساكنيها جهنم )
( ولي حياك الريع عاما وأشهر ... وإنني أزخرف أعلام الثناء وأرقم )
( وأنفقت ما أعطيتني ثقة بما ... أؤمل فالدينار عندي درهم )
( وقلبي إلى بغداد يصبو وإنني ... لنشر صباها دائما أتنسم )
وقال
( وذرى على ربع العقيق دموعه ... عقيقا ففيها توأم وفريد )
( شهدت وما تغني شهادة عاشق ... بأن قتيل الغانيات شهيد ) ومنها

( إذا قابلوه قبلوا ترب أرضه ... وهم لعلاه ركع وسجود )
( وقد هز منه الله للملك صارما ... تقام بحدي شفرتيه حدود ) وقال
( لأية حال حال عن سنة الكرى ... ولم أصغ يوما في هواه إلى العذل ) ومنها
( كأن بقاء الطل فوق جفونها ... دموع التصابي حرن في الأعين النجل )
ومنها
( تملكت رقي بالعوارف منعما ... وأغنيتني بالجود عن كل ذي فضل ) وأنسيتني أرض العراق ودجلة وربعي حتى ما أحن إلى أهلي ) وقال في المقتدر بن هود
( لعزك ذلت ملوك البشر ... وعفرت تيجانهم في العفر )
( وأصبحت أخطرهم بالقنا ... وأركبهم لجواد الخطر )
( سهرت وناموا غن المأثرات ... فما لهم في المعالي أثر )
( وجليت في حيث صلى الملوك ... فكل بذيل المنى قد عثر ) ومنها
( وأنتم ملوك إذا شاجروا ... أظلتهم من قناهم شجر ) وقال الفكيك من قصيدة
( غنى حسامك في أرجاء قرطبة ... صوتا أباد العدى والليل معتكر )
( حيث الدماء مدام والقنا زهر ... والقوم صرعى بكأس الحتف قد سكروا )

وكان مشهورا بالهجاء وله في نقيب بغداد وكانت في عنقه غدة
( بلغ الأمانة فهي في حلقومه ... لا ترتقي صعدا ولا تتنزل )
وقال في ناصر الدولة بن حمدان
( ولئن غلطت بأن مدحتك طالبا ... جدواك مع علمي بأنك باخل )
( فالدولة الغراء قد غلطت بأن ... سمتك ناصرها وأنت الخاذل )
( إن تم أمرك مع يد لك أصبحت ... شلاء فالأمثال شيء باطل )
ومما ينسب إليه وقيل لغيره
( ووعدتني وعدا حسبتك صادقا ... فجعلت من طمعي أجيء وأذهب )
( فإذا اجتمعت أنا وأنت بمجلس ... قالوا مسيلمة وهذا أشعب )
66 - ومنهم إبراهيم بن سليمان الشامي دخل الأندلس من المشرق في أخريات أيام الحكم شاديا للشعر وهو من موالي بني أمية ولم ينفق على الحكم وتحرك في أيام ولده الأمير عبد الرحمن فنفق عليه ووصله ثم في أيام الأمير محمد بن عبد الرحمن وكان أدرك بالمشرق كبار المحدثين كأبي نواس وأبي العتاهية
ومن شعره ما كتب به إلى الأمير عبد الرحمن
( يا من تعالى من أمية في الذرى ... قدما فأصبح عالي الأركان )
( إن الغمام غياثه في وقته ... والغيث من كفيك كل أوان )
( فالغيث قد عم البلاد وأهلها ... وظمئت بينهم فبل لساني ) وله في الأمير عبد الرحمن بن الحكم
( ومن عبد شمس بالمغارب عصبة ... فأسعدها الرحمن حيث أحلها )
( دحا تحتها مهدا من العز آمنا ... ومد جناحا فوقها فأظلها )

67 - ومنهم أبو بكر ابن الأزرق وهو محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن حامد بن موسى بن العباس بن محمد بن يزيد وهو الحصني ابن محمد بن مسلمة بن عبد الملك بن مروان من أهل مصر خرج من مصر سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة وصار إلى القيروان وامتحن بها مع الشيعة وأقام محبوسا بالمهدية ثم أطلق ووصل الأندلس سنة تسع وأربعين فأحسن إليه المستنصر بالله الحكم وكان أديبا حكيما سمع من خاله أبي بكر أحمد بن مسعود الزهري وولد سنة تسع عشرة وثلاثمائة بمصر وتوفي بقرطبة في ذي القعدة سنة خمس وثمانين وثلاثمائة رحمه الله تعالى
68 - ومن الواردين على الأندلس من المشرق رئيس المغنين أبو الحسن علي بن نافع الملقب بزرياب مولى أمير المؤمنين المهدي العباسي
قال في المقتبس زرياب لقب غلب عليه ببلاده من أجل سواد لونه مع فصاحة لسانه وحلاوة شمائله شبه بطائر أسود غرد عندهم وكان شاعرا مطبوعا وكان ابنه أحمد قد غلب عليه الشعر أيضا وكان من خبره في الوصول إلى الأندلس أنه كان تلميذا لإسحاق الموصلي ببغداد فتلقف من أغانيه استراقا وهدي من فهم الصناعة وصدق العقل مع طيب الصوت وصورة الطبع إلى ما فاق به إسحاق وإسحاق لا يشعر بما فتح عليه إلى أن جرى للرشيد مع إسحاق خبره المشهور في الاقتراح عليه بمغن غريب مجيد للصنعة لم يشتهر مكانه إليه فذكر له تلميذه هذا وقال إنه مولى لكم وسمعت له نزعات حسنة ونغمات رائقة ملتاطة بالنفس إذا أنا وقفته على ما استغرب منها وهو من اختراعي واستنباط فكري أحدس أن يكون له شأن فقال الرشيد هذا طلبتي فأحضرنيه لعل حاجتي عنده فأحضره فلما كلمه الرشيد أعرب عن نفسه

بأحسن منطق وأوجز خطاب وسأله عن معرفته بالغناء فقال نعم أحسن منه ما يحسنه الناس وأكثر ما أحسنه لا يحسنونه مما لا يحسن إلا عندك ولا يدخر إلا لك فإن أذنت غنيتك ما لم تسمعه أذن قبلك فأمر بإحضار عود أستاذه إسحاق فلما أدني إليه وقف عن تناوله وقال لي عود نحته بيدي وأرهفته بإحكامي ولا أرتضي غيره وهو بالباب فليأذن لي أمير المؤمنين في استدعائه فأمر بإدخاله إليه فلما تأمله الرشيد وكان شبيها بالعود الذي دفعه قال له ما منعك أن تستعمل عود أستاذك فقال إن كان مولاي يرغب في غناء أستاذي غنيته بعوده وإن كان يرغب في غنائي فلا بد لي من عودي فقال له ما أراهما إلا واحدا فقال صدقت يا مولاي ولا يؤدي النظر غير ذلك ولكن عودي وإن كان في قدر جسم عوده ومن جنس خشبه فهو يقع من وزنه في الثلث أو نحوه وأوتاري من حرير لم يغزل بماء سخن يكسبها أناثة ورخاوة وبمها ومثلثها اتخذتهما من مصران شبل أسد فلها في الترنم والصفاء والجهارة والحدة أضعاف ما لغيرها من مصران سائر الحيوان ولها من قوة الصبر على تأثير وقع المضارب المتعاورة بها ما ليس لغيرها فاستبرع الرشيد وصفه وأمره بالغناء فحبس ثم اندفع فغناه
( يا أيها الملك الميمون طائره ... هارون راح إليك الناس وابتكروا ) فأتم النوبة وطار الرشيد طربا وقال لإسحاق والله لولا أني أعلم من صدقك لي على كتمانه إياك لما عنده وتصديقه لك من أنك لم تسمعه قبل لأنزلت بك العقوبة لتركك إعلامي بشأنه فخذه إليك واعتن بشأنه حتى أفرغ له فإن لي فيه نظرا فسقط في يد إسحاق وهاج به من داء الحسد ما غلب صبره فخلا بزرياب وقال يا علي إن الحسد أقدم الأدواء وأدواها والدنيا فتانة والشركة في الصناعة عداوة ولا حيلة في حسمها وقد مكرت بي فيما انطويت عليه من إجادتك وعلو طبقتك وقصدت منفعتك

فإذا أنا قد أتيت نفسي من مأمنها بإدنائك وعن قليل تسقط منزلتي وترتقي أنت فوقي وهذا ما لا أصاحبك عليه ولو أنك ولدي ولولا رعيي لذمة تربيتك لما قدمت شيئا على أن أذهب نفسك يكون في ذلك ما كان فتخير في ثنتين لا بد لك منهما إما أن تذهب عني في الأرض العريضة لا أسمع لك خبرا بعد أن تعطيني على ذلك الأيمان الموثقة وأنهضك لذلك بما أردت من مال وغيره وإما أن تقيم على كرهي ورغمي مستهدفا إلي فخذ الآن حذرك مني فلست والله أبقي عليك ولا أدع اغتيالك باذلا في ذلك بدني ومالي فاقض قضاءك
فخرج زرياب لوقته وعلم قدرته على ما قال واختار الفرار قدامه فأعانه إسحاق على ذلك سريعا وراش جناحه فرحل عنه ومضى يبغي مغرب الشمس واستراح قلب إسحاق منه
وتذكره الرشيد بعد فراغه من شغل كان منغمسا فيه فأمر إسحاق بحضوره فقال ومن لي به يا أمير المؤمنين ذاك غلام مجنون يزعم أن الجن تكلمه وتطارحه ما يزهى به من غنائه فما يرى في الدنيا من يعدله وما هو إلا أن أبطأت عليه جائزة أمير المؤمنين وترك استعادته فقدر التقصير به والتهوين بصناعته فرحل مغاضبا ذاهبا على وجهه مستخفيا عني وقد صنع الله تعالى في ذلك لأمير المؤمنين فإنه كان به لمم يغشاه ويفرط خبطه فيفزع من رآه فسكن الرشيد إلى قول إسحاق وقال على ما كان به فقد فاتنا منه سرور كثير
ومضى زرياب إلى المغرب فنسي بالمشرق خبره إذ لم يكن اسمه شهر هنالك شهرته بالصقع الذي قطنه ونزعت إليه نفسه وسمت به همته فأم أمير الأندلس الحكم المباين لمواليه وخاطبه وذكر له نزاعه إليه واختياره إياه ويعلمه بمكانه من الصناعة التي ينتحلها ويسأله الإذن في الوصول إليه فسر الحكم بكتابه وأظهر له من الرغبة فيه والتطلع إليه وإجمال الموعد ما تمناه فسار زرياب نحوه بعياله وولده وركب بحر الزقاق إلى الجزيرة الخضراء فلم يزل بها حتى توالت عليه الأخبار بوفاة الحكم فهم بالرجوع إلى العدوة فكان معه منصور

اليهودي المغني رسول الحكم إليه فثناه عن ذلك ورغبه في قصد القائم مقام الحكم وهو عبد الرحمن ولده وكتب إليه بخبر زرياب فجاءه كتاب عبد الرحمن يذكر تطلعه إليه والسرور بقدومه عليه وكتب إلى عماله على البلاد أن يحسنوا إليه ويوصلوه إلى قرطبة وأمر خصيا من أكابر خصيانه أن يتلقاه ببغال ذكور وإناث وآلات حسنة فدخل هو وأهله البلد ليلا صيانة للحرم وأنزله في دار من أحسن الدور وحمل إليها جميع ما يحتاج إليه وخلع عليه وبعد ثلاثة أيام استدعاه وكتب له في كل شهر بمائتي دينار راتبا وأن يجرى على بنيه الذين قدموا معه - وكانوا أربعة عبد الرحمن وجعفر وعبيد الله ويحيى عشرون دينارا لكل واحد منهم كل شهر وأن يجرى على زرياب من المعروف العام ثلاثة آلاف دينار منها لكل عيد ألف دينار ولكل مهرجان ونوروز خمسمائة دينار وأن يقطع له من الطعام العام ثلاثمائة مدي ثلثاها شعير وثلثها قمح وأقطعه من الدور والمستغلات بقرطبة وبساتينها ومن الضياع ما يقوم بأربعين ألف دينار
فلما قضى له سؤله وأنجز موعوده وعلم أن قد أرضاه وملك نفسه استدعاه فبدأ بمجالسته على النبيذ وسماع غنائه فما هو إلا أن سمعه فاستهوله واطرح كل غناء سواه وأحبه حبا شديدا وقدمه على جميع المغنين وكان لما خلا به أكرمه غاية الإكرام وأدنى منزلته وبسط أمله وذاكره في أحوال الملوك وسير الخلفاء ونوادر العلماء فحرك منه بحرا زخر عليه مده فأعجب الأمير به وراقه ما أورده وحضر وقت الطعام فشرفه بالأكل معه هو وأكابر ولده ثم أمر كاتبه بأن يعقد له صكا بما ذكرناه آنفا ولما ملك قلبه واستولى عليه حبه فتح له بابا خاصا يستدعيه منه متى أراده
وذكر أن زريابا ادعى أن الجن كانت تعلمه كل ليلة ما بين نوبة إلى

صوت واحد كان يهب من نومه سريعا فيدعو بجاريتيه غزلان وهنيدة فتأخذان عودهما ويأخذ هو عوده فيطارحهما ليلته ويكتب الشعر ثم يعود عجلا إلى مضجعه وكذلك يحكى عن إبراهيم الموصلي في لحنه البديع المعروف بالماخوري أن الجن طارحته إياه والله تعالى أعلم بحقيقة ذلك
وزاد زرياب بالأندلس في أوتار عوده وترا خامسا اختراعا منه إذ لم يزل العود ذا أربعة أوتار على الصنعة القديمة التي قوبلت بها الطبائع الأربع فزاد عليها وترا خامسا أحمر متوسطا فاكتسب به عوده ألطف معنى وأكمل فائدة وذلك أن الزير صبغ أصفر اللون وجعل في العود بمنزلة الصفراء من الجسد وصبغ الوتر الثاني بعده أحمر وهو من العود مكان الدم من الجسد وهو في الغلظ ضعف الزير ولذلك سمي مثنى وصبغ الوتر الرابع أسود وجعل من العود مكان السوداء من الجسد وسمي البم وهو أعلى أوتار العود وهو ضعف المثلث الذي عطل من الصبغ وترك أبيض اللون وهو من العود بمنزلة البلغم من الجسد وجعل ضعف المثنى في الغلظ ولذلك سمي المثلث فهذه الأربعة من الأوتار مقابلة للطبائع الأربع تقضي طبائعها بالاعتدال فالبم حار يابس يقابل المثنى وهو حار رطب وعليه تسويته والزير حار يابس يقابل المثلث وهو حار رطب قوبل كل طبع بضده حتى اعتدل واستوى كاستواء الجسم بأخلاطه إلا أنه عطل من النفس والنفس مقرونة بالدم فأضاف زرياب من أجل ذلك إلى الوتر الأوسط الدموي هذا الوتر الخامس الأحمر الذي اخترعه بالأندلس ووضعه تحت المثلث وفوق المثنى فكمل في عوده قوى الطبائع الأربع وقام الخامس المزيد مقام النفس في الجسد
وهو الذي اخترع بالأندلس مضراب العود من قوادم النسر معتاضا به من مرهف الخشب فأبرع في ذلك للطف قشر الريشة ونقائه وخفته على

الأصابع وطول سلامة الوتر على كثرة ملازمته إياه
وكان زرياب عالما بالنجوم وقسمة الأقاليم السبعة واختلاف طبائعها وأهويتها وتشعب بحارها وتصنيف بلادها وسكانها مع ما سنح له من فك كتاب الموسيقى مع حفظه لعشرة آلاف مقطوعة من الأغاني بألحانها وهذا العدد من الألحان غاية ما ذكره بطليموس واضع هذه العلوم ومؤلفها
وكان زرياب قد جمع إلى خصاله هذه الاشتراك في كثير من ضروب الظرف وفنون الأدب ولطف المعاشرة وحوى من آداب المجالسة وطيب المحادثة ومهارة الخدمة الملوكية ما لم يجده أحد من أهل صناعته حتى اتخذه ملوك أهل الأندلس وخواصهم قدوة فيما سنه لهم من آدابه واستحسنه من أطعمته فصار إلى آخر أيام أهل الأندلس منسوبا إليه معلوما به فمن ذلك أنه دخل إلى الأندلس وجميع من فيها من رجل أو امرأة يرسل جمته مفروقا وسط الجبين عاما للصدغين والحاجبين فلما عاين ذوو التحصيل تحذيفه هو وولده ونساؤه لشعورهم وتقصيرها دون جباههم وتسويتها مع حواجبهم وتدويرها إلى آذانهم وإسدالها إلى أصداغهم - حسبما عليه اليوم الخدم الخصية والجواري هوت إليه أفئدتهم واستحسنوه
ومما سنه لهم استعمال المرتك المتخذ من المرداسنج لطرد ريح الصنان من مغابنهم ولا شيء يقوم مقامه وكانت ملوك الأندلس تستعمل قبله ذرور الورد وزهر الريحان وما شاكل ذلك من ذوات القبض والبرد فكانوا لا تسلم ثيابهم من وضر فدلهم على تصعيدها بالملح وتبييض لونها فلما جربوه أحمدوه جدا
وهو أول من اجتنى بقلة الهليون المسماة بلسانهم الإسفراج ولم يكن أهل الأندلس يعرفونها قبله ومما اخترعوه من الطبيخ اللون المسمى عندهم بالتفايا وهو مصطنع بماء الكزبرة

الرطبة محلى بالسنبوسق والكباب ويليه عندهم لون التقلية المنسوبة إلى زرياب
ومما أخذه عنه الناس بالأندلس تفضيله آنية الزجاج الرفيع على آنية الذهب والفضة وإيثاره فرش أنطاع الأديم اللينة الناعمة على ملاحف الكتان واختياره سفر الأديم لتقديم الطعام فيها على الموائد الخشبية إذ الوضر يزول عن الأديم بأقل مسحة ولبسه كل صنف من الثياب في زمانه الذي يليق به فإنه رأى أن يكون ابتداء الناس للباس البياض وخلعهم للملون من يوم مهرجان أهل البلد المسمى عندهم بالعنصرة الكائن في ست بقين من شهر يوفيه الشمسي من شهورهم الرومية فيلبسونه إلى أول شهر أكتوبر الشمسي منها ثلاثة أشهر متوالية ويلبسون بقية السنة الثياب الملونة ورأى أن يلبسوا في الفصل الذي بين الحر والبرد المسمى عندهم الربيع من مصبغهم جباب الخز والملحم والمحرر والدراريع التي لا بطائن لها لقربها من لطف ثياب البياض الظهائر التي ينتقلون إليها لخفتها وشبهها بالمحاشي ثياب العامة وكذا رأى أن يلبسوا في آخر الصيف وعند أول الخريف المحاشي المروية والثياب المصمتة وما شاكلها من خفائف الثياب الملونة ذوات الحشو والبطائن الكثيفة وذلك عند قرس البرد في الغدوات إلى أن يقوى البرد فينتقلون إلى أثخن منها من الملونات ويستظهرون من تحتها إذا احتاجوا إلى صنوف الفراء
واستمر بالأندلس أن كل من افتتح الغناء فيبدأ بالنشيد أول شدوه بأي نقر كان ويأتي إثره بالبسيط ويختم بالمحركات والأهزاج تبعا لمراسم زرياب وكان إذا تناول الإلقاء على تلميذ يعلمه أمره بالقعود على الوساد المدور المعروف بالمسورة وأن يشد صوته جدا إذا كان قوي الصوت فإن كان لينه أمره أن يشد على بطنه عمامة فإن ذلك مما يقوي الصوت ولا يجد متسعا في الجوف

عند الخروج على الفم فإن كان ألص الأضراس لا يقدر على أن يفتح فاه أو كانت عادته زم أسنانه عند النطق راضه بأن يدخل في فيه قطعة خشب عرضها ثلاث أصابع يبيتها في فمه ليالي حتى ينفرج فكاه وكان إذا أراد أن يختبر المطبوع الصوت المراد تعليمه من غير المطبوع أمره أن يصيح بأقوى صوته يا حجام أو يصيح آه ويمد بها صوته فإن سمع صوته بهما صافيا نديا قويا مؤديا لا يعتريه غنة ولا حبسة ولا ضيق نفس عرف أن سوف ينجب وأشار بتعليمه وإن وجده خلاف ذلك أبعده
وكان له من ذكور الولد ثمانية عبد الرحمن وعبيد الله ويحيى وجعفر ومحمد وقاسم وأحمد وحسن
ومن الإناث ثنتان علية وحمدونة
وكلهم غنى ومارس الصناعة واختلفت بهم الطبقة فكان أعلاهم عبيد الله ويتلوه عبد الرحمن لكنه ابتلي من فرط التيه وشدة الزهو وكثرة العجب بغنائه والذهاب بنفسه بما لم يكن له شبه فيه وقلما يسلم مجلس حضوره من كدر يحدثه ولا يزال يجترئ على الملوك ويستخف بالعظماء ولقد حمله سخفه على أن حضر يوما مجلس بعض الأكابر الأعاظم في أنس قد طاب به سروره وكان صاحب قنص تغلب عليه لذته فاستدعى بازيا كان كلفا به كثير التذكر له فجعل يمسح أعطافه ويعدل قوادمه ويرتاح لنشاطه فسأله عبد الرحمن أن يهبه له فاستحيا من رده وأعطاه إياه مع ضنه به فدفعه عبد الرحمن إلى غلامه ليعجل به إلى منزله وأسر إليه فيه بسر لم يطلع عليه فمضى لشأنه ولم يلبث أن جاءه بطيفورية مغطاة مكرمة بطابع مختوم عليها من فضة فإذا به لون مصوص قد اتخذ من البازي بعد ذبحه على ما حده لأهله وذهب إلى الانتقال عليه في شرابه وقال لصاحب المجلس شاركني في نقلي هذا فإنه شريف المركب بديع الصنعة فلما رآه الرجل أنكر صفته وعاب

لحمه وسأله عنه فقال هو البازي الذي كنت تعظم قدره ولا تصبر عنه قد صيرته إلى ما ترى فغضب صاحب المنزل حتى ربا في أثوابه وفارقه حلمه وقال له قد كان والله أيها الكلب السفيه على ما قدرته وما اقتديت فيه إلا بكبار الناس المؤثرين لمثله وما أسعفتك به إلا معظما من قدرك ما صغرت من قدري وأظهرت من هوان السنة عليك باستحلالك لسباع الطير المنهي عنها ولا أدع والله الآن تأديبك إذ أهملك أبوك معلم الناس المروءة ودعا له بالسوط وأمر بنزع قلنسوته وساط هامته مائة سوط فاستحسن جميع الناس فعله به وأبدوا الشماتة به
وكان محمد منهم مؤنثا وكان قاسمهم أحذقهم غناء مع تجويده وتزوج الوزير هشام بن عبد العزيز حمدونة أول من
وذكر عبادة الشاعر أن أول من دخل الأندلس من المغنين علون وزرقون دخلا في أيام الحكم بن هشام فنفقا عليه وكانا محسنين لكن غناؤهما ذهب لغلبة غناء زرياب عليه
وقال عبد الرحمن بن الشمر منجم الأمير عبد الرحمن ونديمه في زرياب
( يا علي بن نافع يا علي ... أنت أنت المهذب اللوذعي )
( أنت في الأصل حين يسأل عنه ... هاشمي وفي الهوى عبشمي )
وقال ابن سعيد وأنشد لزرياب والدي في معجمه
( علقتها ريحانة ... هيفاء عاطرة نضيره )
( بين السمينة والهزيلة ... والطويلة والقصيره )
( لله أيام لنا ... سلفت على دير المطيره ) لا عيب فيها للمتيم ... غير أن كانت يسيره ) انتهى

وكان لزرياب جارية اسمها متعة أدبها وعلمها أحسن أغانيه حتى شبت وكانت رائعة الجمال وتصرفت بين يدي الأمير عبد الرحمن بن الحكم تغنيه مرة وتسقيه أخرى فلما فطنت لإعجابه بها أبدت له دلائل الرغبة فأبى إلا التستر فغنته بهذه الأبيات وهي لها في ظن بعض الحفاظ
( يا من يغطي هواه ... من ذا يغطي النهارا )
( قد كنت أملك قلبي ... حتى علقت فطارا )
( يا ويلتا أتراه ... لي كان أو مستعارا )
( يا بأبي قرشي ... خلعت فيه العذارا )
فلما انكشف لزرياب أمرها أهداها إليه فحظيت
وكانت حمدونة بنت زرياب متقدمة في أهل بيتها محسنة لصناعتها متقدمة على أختها علية وهي زوجة الوزير هاشم بن عبد العزيز كما مر وطال عمر علية بعد أختها حمدونة ولم يبق من أهل بيتها غيرها فافتقر الناس إليها وحملوا عنها
وكانت مصابيح جارية الكاتب أبي حفص عمر بن قلهيل أخذت عن زرياب الغناء وكانت غاية في الإحسان والنبل وطيب الصوت وفيها يقول ابن عبد ربه صاحب العقد الفريد وكتب به إلى مولاها
( يا من يضن بصوت الطائر الغرد ... ما كنت أحسب هذا الضن من أحد )
( لو أن أسماع أهل الأرض قاطبة ... أصغت إلى الصوت لم ينقص ولم يزد )
من أبيات فخرج حافيا لما وقف على ذلك وأدخله إلى مجلسه وتمتع من سماعها رحم الله تعالى الجميع

وقال علويه كنت مع المأمون لما قدم الشام فدخلنا دمشق وجعلنا نطوف فيها على قصور بني أمية فدخلنا قصرا مفروشا بالرخام الأخضر وفيه بركة يدخلها الماء ويخرج منها فيسقي بستانا وفي القصر من الأطيار ما يغني صوته عن العود والمزمار فاستحسن المأمون ما رأى وعزم على الصبوح فدعا بالطعام فأكلنا وشربنا ثم قال لي غن بأطيب صوت وأطربه فلم يمر على خاطري غير هذا الصوت
( لو كان حولي بنو أمية لم ... ينطق رجال أراهم نطقوا )
فنظر إلي مغضبا وقال عليك لعنة الله وعلى بني أمية ! فعلمت أني قد أخطأت فجعلت أعتذر من هفوتي وقلت يا أمير المؤمنين أتلومني أن أذكر موالي بني أمية وهذا زرياب مولاك عندهم بالأندلس يركب في أكثر من مائة مملوك وفي ملكه ثلاثمائة ألف دينار دون الضياع وإني عندكم أموت جوعا وفي الحكاية طول واختلاف ومحل الحاجة منها ما يتعلق بزرياب رحم الله تعالى الجميع
وذكرها الرقيق في كتاب معاقرة الشراب على غير هذا الوجه ونصه وركب المأمون يوما من دمشق يريد جبل الثلج فمر ببركة عظيمة من برك بني أمية وعلى جانبها أربع سروات وكان الماء يدخل سيحا فاستحسن المأمون الموضع ودعا بالطعام والشراب وذكر بني أمية فوضع منهم وتنقصهم فأخذ علويه العود واندفع يغني
( أرى أسرتي في كل يوم وليلة ... يروح بهم داعي المنون ويغتدي )
( أولئك قوم بعد عز وثروة تفانوا ... فإلا أذرف العين أكمد ) فضرب المأمون بكأسه الأرض وقال لعلويه يا بن الفاعلة لم يكن لك وقت تذكر مواليك فيه إلا هذا الوقت فقال مولاكم زرياب عند موالي بالأندلس يركب في مائة غلام وأنا عندكم بهذه الحالة فغضب عليه نحو شهر ثم

رضي عنه
انتهى ونحوه لابن الرقيق في كتابه قطب السرور وقال في آخر الحكاية وأنا عندكم أموت من الجوع ثم قال وزرياب مولى المهدي ووصل إلى بني أمية بالأندلس فعلت حاله حتى كان كما قال علويه انتهى
ولما غنى زرياب بقوله
( ولو لم يشقني الظاعنون لشاقني ... حمام تداعت في الديار وقوع )
( تداعين فاستبكين من كان ذا هوى ... نوائح ما تجري لهن دموع )
ذيلها عباس بن فرناس يمدح بعض الرؤساء بديهة فقال
( شددت بمحمود يدا حين خانها ... زمان لأسباب الرجاء قطوع )
( بنى لمساعي الجود والمجد قبلة ... إليها جميع الأجودين ركوع ) وكان محمود جوادا فقال له يا أبا القاسم أعز ما يحضرني من مالي القبة يعني قبة قامت عليه بخمسمائة دينار وهي لك بما فيها مع كسوتي هذه ونكون في ضيافتك بقية يومنا ودعا بكسوة فلبسها ودفع إليه الكسوة
69 - ومن الوافدين من المشرق الأمير شعبان بن كوجبا من غز الموصل وفد على أمير المؤمنين يعقوب المنصور ملك الموحدين ورفع له أمداحا جليلة وقدمه على إمارة مدينة بسطة من الأندلس
قال أبو عمران بن سعيد أنشدني لنفسه
( يقولون إن العدل في الناس ظاهر ... ولم أر شيئا منه سرا ولا جهرا )

( ولكن رأيت الناس غالب أمرهم ... إذا ما جنى زيد أقادوا به عمرا )
( وإلا فما بال النطاسي كلما ... شكوت له يمنى يدي فصد اليسرى )
70 - ومن الوافدين من المشرق على الأندلس أبو اليسر إبراهيم بن أحمد الشيباني من أهل بغداد وسكن القيروان ويعرف بالرياضي وكان له سماع ببغداد من جلة المحدثين والفقهاء والنحويين لقي الجاحظ والمبرد وثعلبا وابن قتيبة ولقي من الشعراء أبا تمام والبحتري ودعبلا وابن الجهم ومن الكتاب سعيد بن حميد وسليمان بن وهب وأحمد بن أبي طاهر وغيرهم وهو الذي أدخل إفريقية رسائل المحدثين وأشعارهم وطرائف أخبارهم وكان عالما أديبا ومرسلا بليغا ضاربا في كل علم وأدب سمع وكتب بيده أكثر كتبه مع براعة خطه وحسن وراقته
وحكي أنه كتب على كبره كتاب سيبويه كله بقلم واحد ما زال يبريه حتى قصر فأدخله في قلم آخر وكتب به حتى فني بتمام الكتاب
وله تآليف منها لقيط المرجان وهو أكبر من عيون الأخبار وكتاب سراج الهدى في القرآن ومشكله وإعرابه ومعانيه والمرصعة والمدبجة
وجال في البلاد شرقا وغربا من خراسان إلى الأندلس وقد ذكر ذلك في أشعار له
وكان أديب الأخلاق نزيه النفس كتب لأمير إفريقية إبراهيم بن أحمد بن الأغلب ثم لابنه أبي العباس عبد الله وكان أيام زيادة الله بن عبد الله آخر ملوك الأغالبة على بيت الحكمة وتوفي بالقيروان سنة ثمان وتسعين ومائتين في أول ولاية عبيد الله الشيعي وهو ابن خمس وسبعين سنة
وممن ألم بذكره المؤرخ الأديب أبو إسحاق إبراهيم بن القاسم المعروف بالرقيق
وقال عريب بن سعد في حقه إنه كان أديبا شاعرا مرسلا حسن التأليف

وقدم الأندلس على الإمام محمد بن عبد الرحمن وذكر له معه قصة ذكرها ابن الأبار في كتابه إفادة الوفادة وحكى أن له مسندا في الحديث وكتابا في القرآن سماه سراج الهدى والرسالة الوحيدة والمؤنسة وقطب الأدب وغير ذلك من الأوضاع
قال وكتب لبني الأغلب حتى انصرمت أيامهم ثم كتب لعبيد الله حتى مات ومن الرواة عنه أبو سعيد عثمان بن سعيد الصيقل مولى زيادة الله بن الأغلب وأسند إليه الحافظ ابن الأبار رواية شعر أبي تمام بأن قال قرأت شعر حبيب على أبي الربيع بن سالم وقرأت جملة منه على غيره وناولني جميعه وحدثني به عن أبي عبد الله بن زرقون عن الخولاني عن أبي القاسم حاتم بن محمد عن أبي غالب تمام بن غالب بن عمر اللغوي عن أبيه أبي تمام عن أبي سعيد المذكور يعني ابن الصيقل عن أبي اليسر عن حبيب وهو إسناد غريب انتهى حذف بن 71 - ومنهم أبو إسحاق إبراهيم بن خلف بن منصور الغساني الدمشقي المعروف بالسنهوري وسنهور من بلاد مصر روى عن أبي القاسم ابن عساكر وأبي اليمن الكندي وأبي المعالي الفراوي وأبي الطاهر الخشوعي وغيرهم
قال أبو العباس النباتي قدم علينا - يعني إشبيلية - سنة ثلاث وستمائة وسمى جماعة من شيوخه وحكى أنه كان يروي موطأ أبي مصعب وصحيح مسلم بعلو
وقال أبو سليمان بن حوط الله أجازني وابني محمدا جميع ما رواه عن شيوخه الذين منهم أبو الفخر فناخسرو بن فيروز الشيرازي وذكر أن روايته بنزول لأنه لم يرحل إلا بعد وفاة الشيوخ المشاهير بهذا الشأن
وقال أبو الحسن ابن القطان وسماه في شيوخه قدم علينا تونس

سنة اثنتين وستمائة واستجزته لابني حسن فأجازه وإياي قال وانصرف من تونس إلى المغرب ثم الأندلس وقدم علينا بعد ذلك مراكش مفلتا من الأسر فظهر في حديثه عن نفسه تجازف واضطراب وكذب زهد فيه وإثر ذلك انصرف إلى المشرق راجعا وقد كان إذا أجاز ابني كتب بخطه جملة من أسانيده وسمى كتبا منها الموطأ والصحيحان وغير ذلك قال وقد تبرأت من عهدة جميعه لما أثبت من حاله وحدثني أبو القاسم بن أبي كرامة صاحبنا بتونس أن السنهوري هذا لما انصرف إلى مصر امتحن بملكها الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب لأجل معاداته أبا الخطاب بن الجميل فضرب بالسياط وطيف به على جمل مبالغة في إهانته انتهى
وقال بعض المؤرخين في حقه ما نصه الشيخ المحدث الرحالة إبراهيم السنهوري صاحب الرحلة إلى البلاد دخل الأندلس كما ذكره ابن النجار وغيره وهو الذي ذكر لمشايخ الأندلس وعلمائها أن الشيخ أبا الخطاب بن دحية يدعي أنه قرأ على جماعة من شيوخ الأندلس القدماء فأنكروا ذلك وأبطلوه وقالوا لم يلق هؤلاء ولا أدركهم وإنما اشتغل بالطلب أخيرا وليس نسبه بصحيح فيما يقوله ودحية لم يعقب فكتب السنهوري محضرا وأخذ خطوطهم فيه بذلك وقدم به ديار مصر فعلم أبو الخطاب بن دحية بذلك فاشتكى إلى السلطان منه وقال هذا يأخذ عرضي ويؤذيني فأمر السلطان بالقبض عليه فقبض وضرب بالسياط وأشهر على حمار وأخرج من ديار مصر وأخذ ابن دحية المحضر وحرقه ولم يزل ابن دحية على قرب من السلطان إلى حين وفاته وبنى له دارا للحديث وهي الكاملية ببين القصرين فلم يزل يحدث بها إلى أن مات
وقد ذكرنا في ترجمة ابن دحية من هذا الكتاب شيئا من أحواله وأن الناس

فيه معتقد ومنتقد وهكذا جرت العادة خصوصا في حق الغريب المنتسب للعلم
( وعند الله تجتمع الخصوم ... ) وممن كان عليه لا له أبو المحاسن محمد بن نصر المعروف بابن عنين فإنه قال فيه
( دحية لم يعقب فلم تعتزي ... إليه بالبهتان والإفك )
( ما صح عند الناس شيء سوى ... أنك من كلب بلا شك ) هكذا ذكره ابن النجار وأطال في الوقيعة في أبي الخطاب ابن دحية وقال الذهبي قرأت بخط الضياء عندما ذكر ابن دحية أنه قال لقيته بأصبهان ولم أسمع منه شيئا وأخبرني إبراهيم السنهوري بأصبهان أنه دخل المغرب وأن مشايخه كتبوا له جرحه وتضعيفه وقد رأيت أنا منه غير شيء مما يدل على ذلك وبسببه بنى السلطان الملك الكامل دار الحديث بالقاهرة وجعله شيخها وقد سمع منه الإمام أبو عمرو ابن الصلاح الموطأ سنة نيف وستمائة وأخبره به عن جماعة منهم أبو عبد الله ابن زرقون
وقال ابن واصل كان أبو الخطاب - مع فرط معرفته بالحديث وحفظه الكثير منه - متهما بالمجازفة في النقل وبلغ ذلك الملك الكامل فأمره أن يعلق شيئا على كتاب الشهاب فعلق كتابا تكلم فيه على أحاديثه وأسانيده فلما وقف الملك الكامل على ذلك قال له بعد أيام قد ضاع مني ذلك الكتاب فعلق لي مثله ففعل فجاء في الثاني مناقضة للأول فعلم الملك الكامل صحة ما قيل عنه ونزلت مرتبته عنده وعزله عن دار الحديث أخيرا وولى أخاه أبا عمرو عثمان

وقال ابن نقطة كان أبو الخطاب موصوفا بالمعرفة والفضل ولم أره إلا أنه كان يدعي أشياء لا حقيقة لها ذكر لي أبو القاسم بن عبد السلام - وكان ثقة - قال نزل عندنا ابن دحية فقال إني أحفظ صحيح مسلم والترمذي فأخذت خمسة أحاديث من الترمذي ومثلها من المسند ومثلها من الموضوعات فجعلتها في جزء ثم عرضت عليه حديثا من الترمذي فقال ليس بصحيح وآخر فقال لا أعرفه ولم يعرف منها شيئا فأفسد نفسه بذلك
وقال سبط ابن الجوزي إنه كان يتزيد في كلامه ويثلب المسلمين ويقع فيهم فترك الناس الرواية عنه وكذبوه وقد كان الملك الكامل مقبلا عليه فلما انكشف له شأنه أخذ منه دار الحديث وأهانه
وقال العماد ابن كثير قد تكلم الناس فيه بأنواع من الكلام ونسبه بعضهم إلى وضع حديث في قصر صلاة المغرب وكنت أود أن أقف على إسناده ليعلم كيف رجاله وقد أجمع العلماء - كما ذكره ابن المنذر وغيره - على أن صلاة المغرب لا تقصر واتفق أنه وصل في جمادى الأولى سنة 616 إلى غزة فخرج كل من في غزة بالأسلحة والعصي والحجارة إلى الموضع الذي هو فيه وضربوه ضربا شديدا بعد أن انهزم من كان معه انتهى
وقدمنا في ترجمته توثيق جماعة له فربك أعلم بحاله 72 - ومنهم عبد الله بن محمد بن آدم القارىء الخراساني رحل من خراسان إلى الأندلس يكنى أبا محمد ذكره أبو عمرو المقرىء وقال سمعته يقرأ مرات كثيرة فكان من أحسن الناس صوتا ولم تكن له معرفة بالقراءة ولا دراية بالأداء انتهى

73 - ومنهم عبد الرحمن بن داود بن علي الواعظ من أهل مصر يعرف بالزبزاري يكنى أبا البركات وأبا القاسم ويلقب زكي الدين قدم على الأندلس وتجول في بلادها واعظا ومذكرا وسمع منه الناس بقرطبة وإشبيلية ومرسية وبلنسية سنة 608
قال ابن الأبار وسمعت وعظه إذ ذاك بالمسجد الجامع من بلنسية وادعى الرواية عن أبي الوقت السجزي والسلفي وأبي الفضل عبد الله بن أحمد الطوسي وأبي محمد ابن المبارك بن الطباخ وأبي الفضل محمد بن يوسف الغزنوي وشهدة الكاتبة بنت الأبري زعم أنه قرأ عليها صحيح البخاري وجماعة بالمشرق والأندلس لم يلقهم ولم يسمع منهم وربما حدث بواسطة عن بعضهم وأكثرهم مجهولون وقفت على ذلك في فهرست روايته فزهد أكثر السامعين منه واطرحوا الرواية عنه ومنهم أبو العباس النباتي وأبو عبد الله بن أبي البقاء وجمع أربعين حديثا مسلسلة سماها باللآلئ المفصلة حدث فيها عن ابن بشكوال وابن غالب الشراط وغيرهما من الأندلسيين الذين لم يلقهم ولا أجازوا له أخذها عنه ابن الطيلسان وغيره وكان - مع هذا - فقيها على مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه فصيحا مشاركا في فنون من العلم سمح الله تعالى له انتهى ولا بأس أن نذكر جملة من النساء القادمات من المشرق على الأندلس ثم نعود أيضا إلى ذكر أعلام الرجال فنقول 74 - من النساء الداخلات الأندلس من المشرق عابدة المدنية أم ولد حبيب بن الوليد المرواني المعروف بدحون
وكانت جارية سوداء من رقيق المدينة حالكة اللون غير أنها تروي عن مالك بن أنس إمام دار الهجرة

وغيره من علماء المدينة حتى قال بعض الحفاظ إنها تروي عشرة آلاف حديث
وقال ابن الأبار إنها تسند حديثا كثيرا وهي أم ولده بشر بن حبيب والذي وهبها لدحون في رحلته إلى الحج هو محمد بن يزيد بن مسلمة بن عبد الملك بن مروان فقدم بها الأندلس وقد أعجب بعلمها وفهمها واتخذها لفراشه رحم الله تعالى الجميع 75 - ومنهن فضل المدنية وكانت حاذقة بالغناء كاملة الخصال وأصلها لإحدى بنات هارون الرشيد ونشأت وتعلمت ببغداد ودرجت من هناك إلى المدينة المشرفة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام فازدادت ثم طبقتها في الغناء واشتريت هنالك للأمير عبد الرحمن صاحب الأندلس مع صاحبتها علم المدنية وصواحب غيرها إليهن تنسب دار المدنيات بالقصر وكان يؤثرهن لجودة غنائهن ونصاعة ظرفهن ورقة أدبهن وتضاف إليهن جارية يقال لها قلم وهي ثالثة فضل وعلم في الحظوة عند الأمير المذكور وكانت أندلسية الأصل رومية من سبي البشكنس وحملت صبية إلى المشرق فوقعت بمدينة النبي وتعلمت هنالك الغناء فحذقته وكانت أديبة ذاكرة حسنة الخط راوية للشعر حافظة للأخبار عالمة بضروب الآداب
76 - ومن النساء الداخلات إلى الأندلس من المشرق قمر جارية إبراهيم بن حجاج اللخمي صاحب إشبيلية وكانت من أهل الفصاحة والبيان والمعرفة بصوغ الألحان وجلبت إليه من بغداد وجمعت أدبا وظرفا ورواية وحفظا مع فهم بارع وجمال رائع وكانت تقول الشعر بفضل

أدبها ولها في مولاها تمدحه
( ما في المغارب من كريم يرتجى ... إلا حليف الجود إبراهيم )
( إني حللت لديه منزل نعمة ... كل المنازل ما عداه ذميم ) وأنشد لها السالمي لما ذكرها عدة أشعار منها قولها تتشوق إلى بغداد
( آها على بغدادها وعراقها ... وظبائها والسحر في أحداقها )
( ومجالها عند الفرات بأوجه ... تبدو أهلتها على أطواقها )
( متبخترات في النعيم كأنما ... خلق الهوى العذري من أخلاقها )
( نفسي الفداء لها فأي محاسن ... في الدهر تشرق من سنا إشراقها ) 77 - ومنهن الجارية العجفاء قال الأرقمي قال لي أبو السائب وكان من أهل الفضل والنسك هل لك في أحسن الناس غناء فجئنا إلى دار مسلم بن يحيى مولى بني زهرة فأذن لنا فدخلنا بيتا عرضه اثنا عشر ذراعا في مثلها وطوله في السماء ستة عشر ذراعا وفي البيت نمرقتان قد ذهب عنهما اللحمة وبقي السدى وقد حشيتا بالليف وكرسيان قد تفككا من قدمهما ثم اطلعت علينا عجفاء كلفاء عليها قرقل هروي أصفر غسيل وكأن وركيها في خيط من رسخها فقلت لأبي السائب بأبي أنت ! ما هذه فقال اسكت فتناولت عودا فغنت
( بيد الذي شغف الفؤاد بكم ... تفريج ما ألقى من الهم )
( فاستيقني أن قد كلفت بكم ... ثم افعلي ما شئت عن علم )
( قد كان صرم في الممات لنا ... فعجلت قبل الموت بالصرم )

قال فتحسنت في عيني وبدا ما أذهب الكلف عنها وزحف أبو السائب وزحفت معه ثم تغنت
( برح الخفاء فأيما بك تكتم ... ولسوف يظهر ما تسر فيعلم )
( مما تضمن من عزيرة قلبه ... يا قلب إنك بالحسان لمغرم )
( يا ليت أنك يا حسام بأرضنا ... تلقي المراسي طائعا وتخيم )
( فتذوق لذة عيشنا ونعيمه ... ونكون إخوانا فماذا تنقم )
فقال أبو السائب إن نقم هذا فأعضه الله تعالى بكذا وكذا من أبيه ولا يكنى فزحفت مع أبي السائب حتى فارقنا النمرقتين وربت العجفاء في عيني كما يربو السويق بماء مزنة ثم غنت
( يا طول ليلي أعالج السقما ... إذ حل كل الأحبة الحرما )
( ما كنت أخشى فراقكم أبدا ... فاليوم أمسى فراقكم عزما ) فألقيت طيلساني وأخذت شاذكونة فوضعتها على رأسي وصحت كما يصاح على اللوبيا بالمدينة وقام أبو السائب فتناول ربعة في البيت فيها قوارير ودهن فوضعها على رأسه وصاح صاحب الجارية وكان ألثغ قوانيني يعني قواريري فاصطكت القوارير وتكسرت وسال الدهن على رأس أبي السائب وصدره وقال للعجفاء لقد هجت لي داء قديما ثم وضع الربعة
وكنا نختلف إليها حتى بعث عبد الرحمن بن معاوية صاحب الأندلس فابتيعت له العجفاء وحملت إليه

78 - ومن القادمين على الأندلس من المشرق الشيخ عبد القاهر بن محمد بن عبد الرحمن الموصلي
قال أبو حيان قدم علينا رسولا من ملك مصر إلى ملك الأندلس فسمعت منه بالمرية انتهى
79 - ومنهم أحمد بن الحسن بن الحارث بن عمرو بن جرير بن إبراهيم بن مالك المعروف بالأشتر بن الحارث النخعي يكنى أبا جعفر دخل الأندلس في أيام الأمير محمد بن عبد الرحمن وأصله من الكوفة وكان يروي أحاديث عظيمة العدد ذكر ذلك الرازي وحكى أن الأمير محمدا روى عنه منها وأنزله
80 - ومنهم أحمد بن أبي عبد الرحمن واسمه يزيد بن أحمد بن أبي عبد الرحمن القرشي الزهري من ولد عبد الرحمن بن عوف من أهل مصر وفد على الناصر بقرطبة وكان دخوله إليها في محرم سنة 343 فأكرم الناصر مثواه وكان فقيه أهل مصر ذكره ابن حيان
81 - ومنهم أبو الطاهر إسماعيل بن الإسكندراني لقي ببلده أبا طاهر السلفي وسمع منه ودرس عليه كتاب الاصطلاح للسمعاني وقدم الأندلس ودخل مرسية تاجرا وكان فقيها على مذهب الشافعي وأنشد على السلفي قوله
( أنا من أهل الحديث ... وهم خير فئه )
( عشت تسعين وأر جو ... أن أعيش لمائه ) فعاش كما تمنى رحمه الله تعالى

82 - ومنهم أبو الحسن علي بن محمد بن إسماعيل بن بشر الأنطاكي الإمام أبو الحسن التميمي نزيل الأندلس ومقرئها ومسندها أخذ القراءة عرضا وسماعا عن إبراهيم بن عبد الرزاق ومحمد بن الأخرم وأحمد بن يعقوب التائب وأحمد بن محمد بن خشيش ومحمد بن جعفر بن بيان وصنف قراءة ورش قرأ عليه جماعة منهم أبو الفرج الهيثم الصباغ وإبراهيم بن مبشر المقرئ وطائفة آخرون من قراء الأندلس وسمع منه عبد الله بن أحمد بن معاذ الداراني
قال أبو الوليد بن الفرضي أدخل الأنطاكي الأندلس علما جما وكان بصيرا بالعربية والحساب وله حظ من الفقه قرأ الناس عليه وسمعت أنا منه وكان رأسا في القراءات لا يتقدمه أحد في معرفتها في وقته وكان مولده بأنطاكية سنة 299 ومات بقرطبة في ربيع الأول سنة 377 رحمه الله تعالى
83 - ومنهم عمر بن مودود بن عمر الفارسي البخاري يكنى أبا البركات ولد بسلماس ونشأ بها كتب الحديث هنالك وتعلم العربية والفقه وهو من أبناء الملوك وانتقل إلى المغرب فدخل الأندلس ونزل مالقة في حدود ثلاثين وستمائة ودخل إشبيلية وكانت له رواية بالمشرق
قال ابن الأبار أجاز لي ما رواه ولم يسم أحدا من شيوخه وبلغني أنه سمع صحيح البخاري بالدامغان على أبي عبد الله محمد بن محمود وكانت إجازته لي سنة 631 وعاش بعد ذلك وتوفي بمراكش بعد الأربعين وستمائة وحدث بالأندلس وأخذ عنه الناس وكان من أهل التصوف والتحقق بعلم

الكلام رحمه الله تعالى 84 - ومنهم الشريف الأجل الرحالة الشيخ نجم الدين بن مهذب الدين وكنت لا أتحقق من أي البلاد هو من المشرق ثم إني علمت أنه من بغداد إذ وقفت على كتابين كتبهما في شأن العناية به الأديب العلامة أبو المطرف أحمد بن عبد الله بن عميرة المخزومي أحدهما لأبي العلاء حسان والثاني للكاتب أبي الحسن العنسي وهو الذي يفهم منه أنه من بغداد
ونص الأول
( يا ابن الوصي إذا حملت وصيتي ... أوجبت حقا للحقوق يضاف )
( وتحيتي كل التحايا دونها ... وكذاك دون رسولها الأشراف )
( أحسن بأن تلقى ابن حسان بها ... مهتزة لورودها الأعطاف )
( كالروض باكره الندى فلعرفها ... يا ابن النبي على الندي مطاف )
( وعلاك إن أبا العلا ومكانه ... يلفى به الإسعاد والإسعاف )
( وأحق من عرف الكرام بوصفهم ... من جمعت منهم له أوصاف ) هذه يا سيدي تحية تجب لها إجابة وحية وتصلح بها هشاشة وأريحية أودعتها بطن هذه العجالة وبعثتها مع صدر من أبناء الرسالة ولله دره من راضع در النبوة متواضع مع شرف الأبوة نازعته طرق الأشعار وأطراف الأخبار فوجدت بحرا حصاه الدر النفيس وروضا يجني منه أطايب السمر الجليس وينعت بنجم الدين وهو كنعته نجم يضيء سناه ويحل بيتا من الشرف ربه بناه وقد جاب الفضاء العريض ورأى القصور الحمر والبيض وورد الحجون بعد ما شرب من ماء جيحون وزار مشاهد الحرمين ثم سار في أرض الهرمين وفارق إفريقية لهذا الأفق مختارا وعبر إلى الأندلس فأطال بها اعتبارا وتشوق إلى حضرة الأنوار المفاضة والنعم السابغة الفضفاضة وجعل قصدها بحجة سفره طواف الإفاضة وهمه أن

يشاهد سناها العلوي ويبصر ما يحقر عنده المرئي والمروي وهي غاية يقول للأمل عليها أطلت حومي وجنة يتلو الداخل لها ( يا ليت قومي ) وسيدي هو منها باب على الفتح بني وجناب عنان الأمل إليه ثني وقصده من هذا الشريف أجل قاصد وأظلته سماء المجد بجمال المشتري وظرف عطارد ومتى نعتناه فالخبر ليس كالعيان ومتى شبهناه فالتمويه بالشبه عقوق العقيان ومن يفضح قريحته بأن يقول لها صفيه لكن يعرف عن نفسه بما ليس في وسع واصفيه ويقتضي من عزيمة بره ما لا سعة للمترخص فيه إن شاء الله تعالى وهو يديم علاكم ويحرس مجدكم وسناكم بمنه والسلام الكريم الطيب العميم يخصكم به معظم مجدكم المعتد بذخيرة ودكم المحافظ على كريم عهدكم ابن عميرة ورحمة الله تعالى وبركاته في الرابع والعشرين لربيع الآخر من سنة 639
انتهى ونص الثاني
( لك يا سيدي أبا الحسن ... فيمن له كل شاهد حسن )
( في الشرف المنتقى له قدم ... أثبتها بالوصي والحسن )
أيها الأخ الذي ملكته قيادي وأسكنته فؤادي عهدي بك تعتام الآداب النقية وتشتاق اللطائف المشرقية وتنصف فترى أن في سيلنا جفاء وفي مغربنا جفاء وأن المحاسن نبت أرض ما بها ولدنا وزرع واد ليس مما عهدنا وأنا في هذا أشايعك وأتابعك وأناضل من ينازلك وينازعك وقد أتانا الله تعالى بحجة تقطع الحجج وتسكت المهج وهو الشريف الأجل السيد المبارك نجم الدين بن مهذب الدين نجل الذرية المختارة ونجم الدرية السيارة جرى مع زعزع ونسيم ورتع في جميم وهشيم وشاهد عجائب كل إقليم وشرق إلى مطلع ابن جلا وغرب حتى نزل شاطئ سلا وقد توجه الآن إلى حضرة الإمامة الرشيدية أيدها الله تعالى لينتهي من أصابع العد

إلى العقدة ويحصل من مخض الحقيقة على الزبدة وقد علم أنه ما كل الخطب كخطبة المنبر ولا جميع الأيام مثل يوم الحج الأكبر وأدبه يا سيدي من نسبه أفقه بل على شكل حسبه وخلقه فإذا رأيته شهدت بأن الشرق قد أتحف إفريقية ببغداده بل رمانا بجملة أفلاذه والحظ فيما يجب من بره وتأنيسه إنما هو في الحقيقة لجليسه فيا غبطة من يسبق لجواره ويقبس من أنواره وأنت لا محالة تفهمه فهمي وتشيم من شيمه عارضا بري القلوب الهيم يهمي وتضرب في الأخذ من فوائده وقلائده بسهم وددت أنه سهمي والسلام انتهى
85 - ومنهم تقي الدين محمد ابن الشيخ شهاب الدين أبي العباس أحمد بن الغرس الحنفي المصري
قال الوادي آشي فيه إنه من أعيان مصر قال وسألته هل يقع بين أهل مصر تنازع في تفضيل بعض المذاهب على بعض فأجابني بأن هذا لا يقع عندهم بين أهل الرسوخ في العلم وذوي المعرفة والفهم وإنما يصدر هذا بين الناشئين قال وللحنفية الظهور عليهم حين يقولون لهم لنا عليكم اليد الطولى في الخبز لكونه بمصر يطبخ في الفرن بأرواث الدواب وكذلك تسخين الحمام فإن المالكية وغيرهم بمصر يقلدون الحنفية في ذلك قال وسألته حفظه الله تعالى هل للوباء بمصر وقت معلوم فقال لي جرت العادة عندهم بقدر الله تعالى وسره في خليقته أن كل سنة أولها ثاء مثلثة يكون فيها الوباء والله تعالى أعلم وأن هذا متعارف عندهم هكذا قال لي
وعيب ما يقع من بعض النقاد بتونس وما يصدر عنهم بكثرة من إلقائهم الأسئلة العويصة في أصول الدين وغيرها على من يرد عليهم قصدا في تعجيزه وتعنيته ثم قال إن من المنقول عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن من حفظت عنه تسعة وتسعون خصلة تقتضي الكفر وواحدة تقتضي الإيمان

أن الواحدة المقتضية للإيمان تغلب وتبقى حرمتها عليه انتهى
وقد ذكرنا في الباب الأول من هذا القسم حكاية البصري المغني القادم من المشرق من البصرة على عبد الوهاب الحاجب بإفريقية في دولة بني المعز بن باديس وسردنا دخوله عليه في مجلس أنسه وما اتفق في ذلك له معه وأنه وصف له بلاد الأندلس وحسنها وطيبها فارتحل المغني إليها ومات بها حسبما لخصناه من كلام الكاتب ابن الرقيق الأديب المؤرخ في كتابه قطب السرور ولولا أنه لم يسم المغني المذكور لجعلنا له ترجمة في هذا الباب إذ هو به أليق والأمر في ذلك سهل والله تعالى الموفق
86 - ومنهم الولي الصالح العارف بالله سيدي يوسف الدمشقي رضي الله تعالى عنه وهو كما قال ابن داود من كبار الأولياء شاذلي الطريقة قدم من المشرق إلى الأندلس وكان يأتي مدينة وادي آش الكرة بعد الكرة لزيارة معارف له بها وكان من الذين أخفاهم الله لا يعرف به إلا من تعرف له أعاد الله تعالى علينا من بركاته
قال العلامة ابن داود وحدثني مولاي والدي رضي الله تعالى عنه من لفظه بتلمسان أمنها الله تعالى يوم الاثنين لثنتي عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول سنة 895 قال دخل علي سنة شهر رمضان المعظم في زمان ولايتي الخطابة والإمامة بالعراص من خارج وادي آش أعادها الله تعالى ! فقعدت أول ليلة منه منفردا بالمسجد الأعظم من الرباط المذكور بين العشاءين وفكرت في ذكر أتخذه في هذا الشهر المبارك يكون جامعا بين الدنيا والآخرة فأجمعت على مطالعة حلية النواوي لعلي أقف على ما أختاره لذلك فلما أصبحت دخلت إلى المدينة ولم أكن أطلعت على فكرتي أحدا فلقيني الحاج الأستاذ أبو عبد الله ابن خلف رحمه الله تعالى في الطريق فقال لي سيدي يوسف الدمشقي يسلم عليك ويقول لك الذكر الذي تعمر به هذا الشهر الفاضل

اللهم ارزقني الزهد في الدنيا ونور قلبي بنور معرفتك قال لي والدي رضي الله تعالى عنه وكان هذا سبب تعرفي له ولقائي إياه وكنت قبل ذلك منكرا عليه لكثرة الدعاوى في هذا الطريق نفع الله تعالى به
انتهى ولنجعل هذه الترجمة آخر هذا الباب تبركا بهذا الولي الصالح نفعنا الله تعالى ببركاته ! مع علمي بأن الوافدين من المشرق على الأندلس كثيرون جدا إلا أن عدم المادة التي أستعين بها في هذه البلاد تبين عذري ولو اجتمعت على كتبي المخلفة بالمغرب لأتيت في ذلك وغيره بما يشفي ويكفي
( وفي الإشارة ما يغني عن الكلم ... )

الباب السابع
في نبذة مما من الله تعالى به على أهل الأندلس من توقد الأذهان وبذلهم في اكتساب المعارف والمعالي ما عز أو هان وحوزهم في ميدان البراعة من قصب اليراعة خصل الرهان وجملة من أجوبتهم الدالة على لوذعيتهم وأوصافهم المؤذنة بألمعيتهم وغير ذلك من أحوالهم التي لها على فضلهم أوضح برهان
نقول في فضائل الأندلس
1 - عن فرحة الأنفس
اعلم أن فضل أهل الأندلس ظاهر كما أن حسن بلادهم باهر ولذلك ذكر ابن غالب في فرحة الأنفس لما أثنى على الأندلس وأهلها أن بطليموس جعل لهم - من أجل ولاية الزهرة لبلادهم - حسن الهمة في الملبس والمطعم والنظافة والطهارة والحب للهو والغناء وتوليد اللحون ومن أجل ولاية عطارد حسن التدبير والحرص على طلب العلم وحب الحكمة والفلسفة والعدل والإنصاف
وذكر ابن غالب أيضا ما خصوا به من تدبير المشتري والمريخ
وانتقد عليه بعضهم بأن أقاليم الأندلس الرابع والخامس والسادس في ساحلها الشمالي والسابع في جزائر المجوس وللإقليم الرابع الشمس وللخامس الزهرة وللسادس عطارد وللسابع القمر والمشتري للإقليم الثاني والمريخ للثالث ولا مدخل لهما في الأندلس انتهى
ثم قال صاحب الفرحة وأهل الأندلس عرب في الأنساب والعزة

والأنفة وعلو الهمم وفصاحة الألسن وطيب النفوس وإباء الضيم وقلة احتمال الذل والسماحة بما في أيديهم والنزاهة عن الخضوع وإتيان الدنية هنديون في إفراط عنايتهم بالعلوم وحبهم فيها وضبطهم لها وروايتهم بغداديون في ظرفهم ونظافتهم ورقة أخلاقهم ونباهتهم وذكائهم وحسن نظرهم وجودة قرائحهم ولطافة أذهانهم وحدة أفكارهم ونفوذ خواطرهم يونانيون في استنباطهم للمياه ومعاناتهم لضروب الغراسات واختيارهم لأجناس الفواكه وتدبيرهم لتركيب الشجر وتحسينهم للبساتين بأنواع الخضر وصنوف الزهر فهم أحكم الناس لأسباب الفلاحة ومنهم ابن بصال صاحب كتاب الفلاحة الذي شهدت له التجربة بفضله وهم أصبر الناس على مطاولة التعب في تجويد الأعمال ومقاساة النصب في تحسين الصنائع أحذق الناس بالفروسية وأبصرهم بالطعن والضرب
وعد رحمه الله تعالى من فضائلهم اختراعهم للخطوط المخصوصة بهم قال وكان خطهم أولا مشرقيا
قال ابن سعيد أما أصول الخط المشرقي وما تجد له في القلب واللحظ من القبول فمسلم له لكن خط الأندلس الذي رأيته في مصاحف ابن غطوس الذي كان بشرق الأندلس وغيره من الخطوط المنسوبة عندهم له حسن فائق ورونق آخذ بالعقل وترتيب يشهد لصاحبه بكثرة الصبر والتجويد انتهى
ونحو صدر كلام ابن غالب السابق مذكور في رسالة لابن حزم وقال فيها إن أهل الأندلس صينيون في إتقان الصنائع العملية وإحكام المهن الصورية تركيون في معاناة الحروب ومعالجات آلاتها والنظر في مهماتها انتهى
4 - ابن غالب يذكر فضائل الأندلس والأندلسيين في كتابه فرحة الأنفس وعد ابن غالب من فضائلهم اختراعهم للموشحات التي قد استحسنها

أهل المشرق وصاروا ينزعون منزعها وأما نظمهم ونثرهم فلا يخفى على من وقف عليهما علو طبقاتهم
ثم قال ابن غالب ولما نفذ قضاء الله تعالى على أهل الأندلس بخروج أكثرهم عنها في هذه الفتنة الأخيرة المبيرة تفرقوا ببلاد المغرب الأقصى من بر العدوة مع بلاد إفريقية فأما أهل البادية فمالوا في البوادي إلى ما اعتادوه وداخلوا أهلها وشاركوهم فيها فاستنبطوا المياه وغرسوا الأشجار وأحدثوا الأرحي الطاحنة بالماء وغير ذلك وعلموهم أشياء لم يكونوا يعلمونها ولا رأوها فشرفت بلادهم وصلحت أمورهم وكثرت مستغلاتهم وعمتهم الخيرات فهم أشبه الناس باليونانيين فيما ذكرت ولأن اليونانيين سكنوا الأندلس فورثوا عنهم ذلك وأما أهل الحواضر فمالوا إلى الحواضر واستوطنوها فأما أهل الأدب فكان منهم الوزراء والكتاب والعمال وجباة الأموال والمستعملون في أمور المملكة ولا يستعمل بلدي ما وجد أندلسي وأما أهل الصنائع فإنهم فاقوا أهل البلاد وقطعوا معاشهم وأخملوا أعمالهم وصيروهم أتباعا لهم ومتصرفين بين أيديهم ومتى دخلوا في شغل عملوه في أقرب مدة وأفرغوا فيه من أنواع الحذق والتجويد ما يميلون به النفوس إليهم ويصير الذكر لهم قال ولا يدفع هذا عنهم إلا جاهل أو مبطل انتهى
2 - عن بن سعيد
وقال ابن سعيد لما ذكر جملة من محاسن الأندلسيين يعلم الله تعالى أني ما أقصد إلا إنصاف المنصفين الذين لا يميل بهم التعصب ولا يجمع بهم الهوى ولكن الحق أحق أن يتبع فلعل مطلعا يقف على ما ذكره ابن غالب فيقول تعصب هذا الرجل لأهل بلده ثم يغمس التابع له والراضي بنقل قوله في هذه الصبغة ويحمله على ذلك بعده عن الأرضين

( ولو أبصروا ليلى أقروا بحسنها ... وقالوا بأني في الثناء مقصر )
ويكفي في الإنصاف أن أقول إن حضرة مراكش هي بغداد المغرب وهي أعظم ما في بر العدوة وأكثر مصانعها ومبانيها الجليلة وبساتينها إنما ظهرت في مدة بني عبد المؤمن وكانوا يجلبون لها صناع الأندلس من جزيرتهم وذلك مشهور معلوم إلى الآن
ومدينة تونس بإفريقية قد انتقلت إليها السعادة التي كانت في مراكش بسلطان إفريقية الآن أبي زكريا يحيى بن أبي محمد بن أبي حفص فصار فيها من المباني والبساتين والكروم ما شابهت به بلاد الأندلس وعرفاء صناعه من الأندلس وتماثيله التي يبنى عليها وإن كان أعرف خلق الله باختراع محاسن هذا الشأن فإنما أكثرها من أوضاع الأندلسيين وله من خاطره تنبيهات وزيادة ظهر حسن موقعها ووجوه صنائع دولته لا تكاد تجدهم إلا من الأندلس فصح قول ابن غالب انتهى قال الحميدي أنشد بحضرة بعض ملوك الأندلس قطعة لبعض أهل المشرق وهي
( وماذا عليهم لو أجابوا فسلموا ... وقد علموا أني المشوق المتيم )
( سروا ونجوم الليل زهر طوالع ... على أنهم بالليل للناس أنجم )
( وأخفوا على تلك المطايا مسيرهم ... فنم عليها في الظلام التبسم )
فأفرط بعض الحاضرين في استحسانها وقال هذا ما لا يقدر أندلسي

على مثله وبالحضرة أبو بكر يحيى بن هذيل فقال بديها
( عرفت بعرف الريح أين تيمموا ... وأين استقل الظاعنون وخيموا )
( خليلي رداني إلى جانب الحمى ... فلست إلى غير الحمى أتيمم )
( أبيت سمير الفرقدين كأنما ... وسادي قتاد أو ضجيعي أرقم )
( وأحور وسنان الجفون كأنه ... قضيب من الريحان لدن منعم )
( نظرت إلى أجفانه وإلى الهوى ... فأيقنت أني لست منهن أسلم )
( كما أن إبراهيم أول نظرة ... رأى في الدراري أنه سوف يسقم ابن انتهى
4 - عن ابن بسام
ومن كلام ابن بسام صاحب الذخيرة في جزيرة الأندلس أشراف عرب المشرق افتتحوها وسادات أجناد الشام والعراق نزلوها فبقي النسل فيها بكل إقليم على عرق كريم فلا يكاد بلد منها يخلو من كاتب ماهر وشاعر قاهر
وذكر أن أبا علي البغدادي صاحب الأمالي الوافد على الأندلس في زمان بني مروان قال لما وصلت القيروان وأنا أعتبر من أمر به من أهل الأمصار فأجدهم درجات في العبارات وقلة الفهم بحسب تفاوتهم في مواضعهم منها بالقرب والبعد كأن منازلهم من الطريق هي منازلهم من العلم محاصة ومقايسة
قال أبو علي فقلت إن نقص أهل الأندلس عن مقادير من رأيت في أفهامهم بقدر نقصان هؤلاء عمن قبلهم فسأحتاج إلى ترجمان في هذه الأوطان قال ابن بسام فبلغني أنه كان يصل كلامه هذا بالتعجب

من أهل هذا الأفق الأندلسي في ذكائهم ويتغطى عنهم عند المباحثة والمفاتشة ويقول لهم إن علمي بعلم رواية وليس علم دراية فخذوا عني ما نقلت فلم آل لكم أن صححت هذا مع إقرار الجميع له يومئذ بسعة العلم وكثرة الروايات والأخذ عن الثقات انتهى ومن كلام الحجاري في المسهب د الأندلس عراق المغرب عزة أنساب ورقة آداب واشتغالا بفنون العلوم وافتنانا في المنثور والمنظوم لم تضق لهم في ذلك ساحة ولا قصرت عنه راحة فما مر فيها بمصر إلا وفيه نجوم وبدور وشموس وهم أشعر الناس فيما كثره الله تعالى في بلادهم وجعله نصب أعينهم من الأشجار والأنهار والطيار والكؤوس لا ينازعهم أحد في هذا الشان و ابن خفاجة سابقهم في هذا المضمار الحائز فيه قصب الرهان
وأما إذا هب نسيم ودار كأس في كف ظبي رخيم ورجع بم وزير وصفق للماء خرير أو رقت العشية وخلعت السحب أبرادها الفضية والذهيبه أو تبسم عن شعاع ثغر نهر أو ترقرق بطل جفن زهر أو خفق بارق أو وصل طيف طارق أو وعد حبيب فزار من الظلماء تحت جناح وبات مع من يهواه كالماء والراح إلى أن ودع حين أقبل رائد الصباح أو أزهرت دوحة السماء بزهر كواكبها أو قوضت عند فيض نهر الصباح بيض مضاربها فأولئك هم السابقون السابقون الذين لا يجارون ولا يلحقون وليسوا بالمقصرين في الوصف إذا تقعقعت السلاح وسالت خلجان الصوارم بين قضبان الرماح وبنت الحرب من العجاج سماء وأطلعت شبه النجوم أسنة وأجرت شبه الشفق دماء وبالجملة فإنهم في جميع الأوصاف والتخيلات أئمة ومن وقف على أشعارهم في هذا الشأن فضلهم فيه على أصناف الأمة

وقد أعانتهم على الشعر أنسابهم العربية وبقاعهم النضرة وهممهم الأبية
ولشطار الأندلس من النوادر والتنكيتات والتركيبات وأنواع المضحكات ما تملأ الدواوين كثرته وتضحك الثكلى وتسلي المسلوب قصته مما لو سمعه الجاحظ لم يعظم عنده ما حكى وما ركب ولا استغرب أحد ما أورده ولا تعجب إلا أن مؤلفي هذا الأفق طمحت هممهم عن التصنيف في هذا الشأن فكاد يمر ضياعا فقمت محتسبا للظرف فتداركته جامعا فيه ما أمسى شعاعا انتهى
6 - رسالة ابن حزم في فضائل الأندلسي قلت وقد رأيت أن أذكر رسالة أبي محمد بن حزم الحافظ التي ذكر فيها بعض فضائل علماء الأندلس لاشتمالها على ما نحن بصدده
وذلك أنه كتب أبو علي الحسن بن محمد بن أحمد بن الربيب التميمي القيرواني إلى أبي المغيرة عبد الوهاب بن أحمد بن عبد الرحمن بن حزم يذكر تقصير أهل الأندلس في تخليد أخبار علمائهم ومآثر فضائلهم وسير ملوكهم ما صورته كتبت يا سيدي وأجل عددي كتب الله تعالى لك السعادة وأدام لك العز والسيادة سائلا مسترشدا وباحثا مستخبرا وذلك أني فكرت في بلادكم إذ كانت قرارة كل فضل ومنهل كل خير ومقصد كل طرفة ومورد كل تحفة وغاية آمال الراغبين ونهاية أماني الطالبين إن بارت تجارة فإليها

تجلب وإن كسدت بضاعة ففيها تنفق مع كثرة علمائها ووفور أدبائها وجلالة ملوكها ومحبتهم في العلم وأهله يعظمون من عظمه علمه ويرفعون من رفعه أدبه وكذلك سيرتهم في رجال الحرب يقدمون من قدمته شجاعته وعظمت في الحروب نكايته فشجع الجبان وأقدم الهيبان ونبه الخامل وعلم الجاهل ونطق العيي وشعر البكي واستنسر البغاث وتثعبن الحفاث فتنافس الناس في العلوم وكثر الحذاق في جميع الفنون ثم هم مع ذلك على غاية التقصير ونهاية التفريط من أجل أن علماء الأمصار دونوا فضائل أمصارهم وخلدوا في الكتب مآثر بلدانهم وأخبار الملوك والأمراء والكتاب والوزراء والقضاة والعلماء فأبقوا لهم ذكرا في الغابرين يتجدد على مر الليالي والأيام ولسان صدق في الآخرين يتأكد مع تصرف الأعوام وعلماؤكم مع استظهارهم على العلوم كل امرىء منهم قائم في ظله لا يبرح وراتب على كعبه لا يتزحزح يخاف إن صنف أن يعنف وإن ألف أن يخالف ولا يؤالف أو تخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق لم يتعب أحد منهم نفسا في جمع فضائل أهل بلده ولم يستعمل خاطره في مفاخر ملوكه ولا بل قلما بمناقب كتابه ووزرائه ولا سود قرطاسا بمحاسن قضاته وعلمائه على أنه لو أطلق ما عقل الإغفال من لسانه وبسط ما قبض الإهمال من بيانه لوجد للقول مساغا ولم تضق عليه المسالك ولم تخرج به المذاهب ولا اشتبهت عليه المصادر والموارد ولكن هم أحدهم أن يطلب شأو من تقدمه من العلماء ليحوز قصبات السبق ويفوز بقدح ابن مقبل ويأخذ بكظم دغفل ويصير شجا في حلق أبي

العميثل فإذا أدرك بغيته واخترمته منيته دفن معه أدبه وعلمه فمات ذكره وانقطع خبره ومن قدمنا ذكره من علماء الأمصار احتالوا لبقاء ذكرهم احتيال الأكياس فألفوا دواوين بقي لهم بها ذكر مجدد طول الأبد فإن قلت إنه كان مثل ذلك من علمائنا وألفوا كتبا لكنها لم تصل إلينا فهذه دعوى لم يصحبها تحقيق لأنه ليس بيننا وبينكم غير روحة راكب أو رحلة قارب لو نفث من بلدكم مصدور لأسمع من ببلدنا في القبور فضلا عمن في الدور والقصور وتلقوا قوله بالقبول كما تلقوا ديوان أحمد بن عبد ربه الذي سماه بالعقد على أنه يلحقه فيه بعض اللوم لا سيما إذ لم يجعل فضائل بلده واسطة عقده ومناقب ملوكه يتيمة سلكه أكثر الحز وأخطأ المفصل وأطال الهز لسيف غير مقصل وقعد به ما قعد بأصحابه من ترك ما يعنيهم وإغفال ما يهمهم
فأرشد أخاك أرشدك الله واهده هداك الله إن كانت عندك في ذلك الجلية وبيدك فصل القضية والسلام عليك ورحمة الله وبركاته
فكتب الوزير الحافظ أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم عند وقوفه على هذه الرسالة ما نصه الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد عبده ورسوله وعلى أصحابه الأكرمين وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته الفاضلين الطيبين
أما بعد يا أخي يا أبا بكر سلام عليك سلام أخ مشوق طالت بينه وبينك الأميال والفراسخ وكثرت الأيام والليالي ثم لقيك في حال سفر ونقلة ووادك في خلال جولة ورحلة فلم يقض من مجاورتك أربا ولا بلغ في

محاورتك مطلبا وإني لما احتللت بك وجالت يدي في مكنون كتبك ومضمون دواوينك لمحت عيني في تضاعيفها درجا فتأملته فإذا فيه خطاب لبعض الكتاب من مصاقبينا في الدار أهل إفريقية ثم ممن ضمته حاضرة قيروانهم إلى رجل أندلسي لم يعينه باسمه ولا ذكره بنسبه يذكر له فيها أن علماء بلدنا بالأندلس - وإن كانوا على الذروة العليا من التمكن بأفانين العلوم وفي الغاية القصوى من التحكم على وجوه المعارف - فإن هممهم قد قصرت عن تخليد مآثر بلدهم ومكارم ملوكهم ومحاسن فقهائهم ومناقب قضاتهم ومفاخر كتابهم وفضائل علمائهم ثم تعدى ذلك إلى أن أخلى أرباب العلوم منا من أن يكون لهم تأليف يحيي ذكرهم ويبقي علمهم بل قطع على أن كل واحد منهم قد مات فدفن علمه معه وحقق ظنه في ذلك واستدل على صحته عند نفسه بأن شيئا من هذه التآليف لو كان منا موجودا لكان إليهم منقولا وعندهم ظاهرا لقرب المزار وكثرة السفار وترددهم إليهم وتكررهم علينا
ثم لما ضمنا المجلس الحافل بأصناف الآداب والمشهد الآهل بأنواع العلوم والقصر المعمور بأنواع الفضائل والمنزل المحفوف بكل لطيفة وسيعة من دقيق المعاني وجليل المعالي قرارة المجد ومحل السؤدد ومحط رحال الخائفين وملقى عصا التسيار عند الرئيس الأجل الشريف قديمه وحسبه الرفيع حديثه ومكتسبه الذي أجله عن كل خطة يشركه فيها من لا توازي قومته نومته ولا ينال حضره هويناه وأربأ به عن كل مرتبة يلحقه فيها من لا يسمو إلى المكارم سموه ولا يدنو من المعالي دنوه ولا يعلو في حميد

الخلال علوه بل أكتفي من مدحه باسمه المشهور وأجتزي من الإطالة في تقريظه بمنتماه المذكور فحسبي بذينك العلمين دليلا على سعيه المشكور وفضله المشهور أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن قاسم صاحب البونت أطال الله بقاءه وأدام اعتلاءه ولا عطل الحامدين من تحليهم بحلاه ولا أخلى الأيام من تزينها بعلاه فرأيته أعزه الله تعالى حريصا على أن يجاوب هذا المخاطب وراغبا في أن يبين له ما لعله قد رآه فنسي أو بعد عنه فخفي فتناولت الجواب المذكور بعد أن بلغني أن ذلك المخاطب قد مات رحمنا الله تعالى وإياه فلم يكن لقصده بالجواب معنى وقد صارت المقابر له مغنى فلسنا بمسمعين من في القبور فصرفت عنان الخطاب إليك إذ من قبلك صرت إلى الكتاب المجاوب عنه ومن لدنك وصلت إلى الرسالة المعارضة وفي وصول كتابي على هذه الهيئة حيثما وصل كفاية لمن غاب عنه من أخبار تآليف أهل بلدنا مثل ما غاب عن هذا الباحث الأول ولله الأمر من قبل ومن بعد وإن كنت في إخباري إياك بما ارسمه في كتابي هذا كمهد إلى البركان نار الحباحب وباني صوى في مهيع القصد اللاحب فإنك وإن كنت المقصود والمواجه فإنما المراد من أهل تلك الناحية من نأى عنه علم ما استجلبه السائل الماضي وما توفيقي إلا بالله سبحانه
فأما مآثر بلدنا فقد الف في ذلك أحمد بن محمد الرازي التاريخي كتبا جمة منها كتاب ضخم ذكر فيه مسالك الأندلس ومراسيها وأمهات مدنها وأجنادها الستة وخواص كل بلد منها وما فيه مما ليس في غيره وهو

كتاب مريح مليح وأنا اقول لو لم يكن لأندلسنا إلا ما رسول الله بشر به ووصف أسلافنا المجاهدين فيه بصفات الملوك على الأسرة في الحديث الذي رويناه من طريق ابي حمزة أنس بن مالك أن خالته أم حرام بنت ملحان زوج أبي الوليد عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه وعنهم أجمعين حدثته عن النبي أنه أخبرها بذلك لكفى شرفا بذلك يسر عاجله ويغبط آجله
فإن قال قائل فلعله صلوات الله تعالى عليه إنما عنى بذلك الحديث أهل صقلية وإقريطش وما الدليل على ما ادعيته من أنه عنى الأندلس حتما ومثل هذا من التأويل لا يتساهل فيه ذو ورع دون برهان واضح وبيان لائح لا يحتمل التوجيه ولا يقبل التجريح فالجواب - وبالله التوفيق - أنه قد أوتي جوامع الكلم وفصل الخطاب وأمر بالبيان لما أوحي إليه وقد أخبر في ذلك الحديث المتصل سنده بالعدول عن العدول بطائفتين من أمته يركبون ثبج هذا البحر غزاة واحدة بعد واحدة فسألته أم حرام أن يدعو ربه تعالى أن يجعلها منهم فأخبرها وخبره الحق بأنها من الأولين وهذا من أعلام نبوته وهو إخباره بالشيء قبل كونه وصح البرهان على رسالته بذلك وكانت من الغزاة إلى قبرس وخرت عن بغلتها هناك فتوفيت رحمها الله تعالى ! وهي أول غزاة ركب فيها المسلمون البحر فثبت يقينا أن الغزاة إلى قبرس هم الأولون الذين بشر بهم النبي وكانت أم حرام منهم كما أخبر صلوات الله تعالى وسلامه عليه ولا سبيل أن يظن به

وقد أوتي ما أوتي من البلاغة والبيان أنه يذكر طائفتين قد سمى إحداهما أولى إلا والتالية لها ثانية فهذا من باب الإضافة وتركيب العدد وهذا يقتضي طبيعة صناعة المنطق إذ لا تكون الأولى أولى إلا لثانية ولا ثانية إلا لأولى فلا سبيل إلى ذكر ثالث إلا بعد ثان ضرورة وهو إنما ذكر طائفتين وبشر بفئتين وسمى إحداهما الأولين فاقتضى ذلك بالقضاء الصدق آخرين والآخر من الأول هو الثاني الذي أخبر أنه خير القرون بعد قرنه وأولى القرون بكل فضل بشهادة رسول الله بأنه خير من كل قرن بعده ثم ركب البحر بعد ذلك أيام سليمان بن عبد الملك إلى القسطنطينية وكان الأمير بها في تلك السفن هبيرة الفزاري وأما صقلية فإنها فتحت صدر أيام الأغالبة سنة 212 أيام قاد إليها السفن غازيا أسد بن الفرات القاضي صاحب أبي يوسف رحمه الله تعالى وبها مات وأما إقريطش فإنها فتحت بعد الثلاث والمائتين افتتحها أبو حفص عمر بن شعيب المعروف بابن الغليظ من أهل قرية بطروج من عمل فحص البلوط المجاور لقرطبة من بلاد الأندلس وكان من فل الربضيين وتداولها بنوه بعده إلى أن كان آخرهم عبد العزيز بن شعيب الذي غنمها في أيامه أرمانوس بن قسطنطين ملك الروم سنة 350 وكان أكثر المفتتحين لها أهل الأندلس

وأما في قسم الأقاليم فإن قرطبة مسقط رؤوسنا ومعق تمائمنا مع سر من رأى في إقليم واحد فلنا من الفهم والذكاء ما اقتضاه إقليمنا وإن كانت الأنوار لا تأتينا إلا مغربة عن مطالعها على الجزء المعمور وذلك عند المحسنين للأحكام التي تدل عليها الكواكب ناقص من قوى دلائلها فلها من ذلك على كل حال حظ يفوق حظ أكثر البلاد بارتفاع أحد النيرين بها تسعين درجة وذلك من أدلة التمكن في العلوم والنفاذ فيها عند من ذكرنا وقد صدق ذلك الخبر وأبانته التجربة فكان أهلها من التمكن في علوم القراءات والروايات وحفظ كثير من الفقه والبصر بالنحو والشعر واللغة والخبر والطب والحساب والنجوم بمكان رحب الفناء واسع العطن متنائي الأقطار فسيح المجال والذي نعاه علينا الكاتب المذكور لو كان كما ذكر لكنا فيه شركاء لأكثر أمهات الحواضر وجلائل البلاد ومتسعات الأعمال فهذه القيروان بلد المخاطب لنا ما اذكر أني رأيت في أخبارها تأليفا غير المعرب عن أخبار المغرب وحاشا تواليف محمد بن يوسف الوراق فإنه ألف للمستنصر رحمه الله تعالى في مسالك إفريقية وممالكها ديوانا ضخما وفي أخبار ملوكها وحروبهم والقائمين عليهم كتبا جمة وكذلك ألف أيضا في أخبار تيهرت ووهران وتنس وسجلماسة ونكور والبصرة وغيرها تواليف حسانا ومحمد هذا اندلسي الأصل والفرع آباؤه من وادي الحجارة ومدفنه بقرطبة وهجرته إليها وإن كانت نشأته بالقيروان
ولا بد من إقامة الدليل على ما أشرت إليه ها هنا إذ مرادنا أن نأتي منه

بالمطلب فيما يستأنف إن شاء الله تعالى وذلك أن جميع المؤرخين من ائمتنا السالفين والباقين دون محاشاة أحد بل قد تيقنا إجماعهم على ذلك متفقون على أن ينسبوا الرجل إلى مكان هجرته التي استقر بها ولم يرحل عنها رحيل ترك لسكناها إلى أن مات فإن ذكروا الكوفيين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم صدروا بعلي وابن مسعود وحذيفة رضي الله تعالى عنهم وإنما سكن علي الكوفة خمسة أعوام وأشهرا وقد بقي 58 عاما وأشهرا بمكة والمدينة شرفهما الله تعالى
وكذلك أيضا أكثر أعمار من ذكرنا وإن ذكروا البصريين بدأوا بعمران بن حصين وأنس بن مالك وهشام بن عامر وأبي بكرة وهؤلاء مواليدهم وعامة زمن أكثرهم وأكثر مقامهم بالحجاز وتهامة والطائف وجمهرة أعمارهم خلت هنالك وإن ذكروا الشاميين نوهوا بعبادة بن الصامت وأبي الدرداء وأبي عبيدة بن الجراح ومعاذ ومعاوية والأمر في هؤلاء كالأمر فيمن قبلهم وكذلك في المصريين عمرو بن العاص وخارجة بن حذافة العدوي وفي المكيين عبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير والحكم في هؤلاء كالحكم فيمن قصصنا فمن هاجر إلينا من سائر البلاد فنحن أحق به وهو منا بحكم جميع أولي الأمر منا الذين إجماعهم فرض اتباعه وخلافه محرم اقترافه ومن هاجر منا إلى غيرنا فلا حظ لنا فيه والمكان الذي اختاره أسعد به فكما لا ندع إسماعيل بن القاسم فكذلك لا ننازع في محمد بن هانئ سوانا والعدل أولى ما حرص عليه والنصف أفضل ما دعي إليه بعد التفصيل الذي ليس هذا موضعه وعلى ما ذكرنا من الأنصاف تراضى الكل

وهذه بغداد حاضرة الدنيا ومعدن كل فضيلة والمحلة التي سبق أهلها إلى حمل ألوية المعارف والتدقيق في تصريف العلوم ورقة الأخلاق والنباهة والذكاء وحدة الأفكار ونفاد الخواطر وهذه البصرة وهي عين المعمور في كل ما ذكرنا وما أعلم في أخبار بغداد تأليفا غير كتاب أحمد بن أبي طاهر وأما سائر التواريخ التي ألفها أهلها فلم يخصوا بلدتهم بها دون سائر البلاد ولا أعلم في أخبار البصرة غير كتاب عمر بن شبة وكتاب لرجل من ولد الربيع ابن زياد المنسوب إلى أبي سفيان في خطط البصرة وقطائعها وكتابين لرجلين من أهلها يسمى أحدهما عبد القاهر كريزي النسب في صفاتها وذكر أسواقها ومحالها وشوارعها ولا أعلم في أخبار الكوفة غير كتاب عمر بن شبة وأما الجبال وخراسان وطبرستان وجرجان وكرمان وسجستان والري والسند وأرمينية وأذربيجان وتلك الممالك الكثيرة الضخمة فلا أعلم في شيء منها تأليفا قصد به أخبار ملوك تلك النواحي وعلمائها وشعرائها وأطبائها ولقد تاقت النفوس إلى أن يتصل بها تأليف في أخبار فقهاء بغداد وما علمناه علم على أنهم العلية الرؤساء والأكابر العظماء ولو كان في شيء من ذلك تأليف لكان الحكم في الأغلب أن يبلغنا كما بلغ سائر تأليفهم وكما بلغنا كتاب حمزة بن الحسن الأصبهاني في أخبار أصبهان وكتاب

الموصلي وغيره في أخبار مصر وكما بلغنا سائر تواليفهم في أنحاء العلوم وقد بلغنا تأليف القاضي أبي العباس محمد بن عبدون القيرواني في الشروط واعتراضه على الشافعي رحمه الله تعالى وكذلك بلغنا رد القاضي أحمد بن طالب التميمي على أبي حنيفة وتشيعه على الشافعي وكتب ابن عبدوس ومحمد بن سحنون وغير ذلك من خوامل تآليفهم دون مشهورها
وأما جهتنا فالحكم في ذلك ما جرى به المثل السائر ( ( أزهد الناس في عالم أهله ) ) وقرأت في الإنجيل أن عيسى عليه السلام قال ( ( لا يفقد النبي حرمته إلا في بلده ) ) وقد تيقنا ذلك بما لقي النبي من قريش - وهم أوفر الناس أحلاما وأصحهم عقولا وأشدهم تثبتا مع ما خصوا به من سكناهم أفضل البقاع وتغذيتهم بأكرم المياه - حتى خص الله تعالى الأوس والخزرج بالفضيلة التي أبانهم بها عن جميع الناس والله يؤتي فضله من يشاء ولا سيما أندلسنا فإنها خصت من حسد أهلها للعالم الظاهر فيهم الماهر منهم واستقلالهم

كثير ما يأتي به واستهجانهم حسناته وتتبعهم سقطاته وعثراته وأكثر ذلك مدة حياته بأضعاف ما في سائر البلاد إن أجاد قالوا سارق مغير ومنتحل مدع وإن توسط قالوا غث بارد وضعيف ساقط وإن باكر الحيازة لقصب السبق قالوا متى كان هذا ومتى تعلم وفي أي زمان قرأ ولأمه الهبل ! وبعد ذلك إن ولجت به الأقدار أحد طريقين إما شفوفا بائنا يعليه على نظرائه أو سلوكا في غير السبيل التي عهدوها فهنالك حمي الوطيس على البائس وصار غرضا للأقوال وهدفا للمطالب ونصبا للتسبب إليه ونهبا للألسنة وعرضة للتطرق إلى عرضه وربما نحل ما لم يقل وطوق ما لم يتقلد وألحق به ما لم يفه به ولا أعتقده قلبه وبالحرى وهو السابق المبرز إن لم يتعلق من السلطان بحظ أن يسلم من المتالف وينجو من المخالف فإن تعرض لتأليف غمز ولمز وتعرض وهمز واشتط عليه وعظم يسير خطبه واستشنع هين سقطه وذهبت محاسنه وسترت فضائله وهتف ونودي بما أغفل فتنكس لذلك همته وتكل نفسه وتبرد حميته وهكذا عندنا نصيب من ابتدأ يحوك شعرا أو يعمل بعمل رسالة فإنه لا يفلت من هذه الحبائل ولا يتخلص من هذه النصب إلا الناهض الفائت والمطفف المستولي على الأمد
وعلى ذلك فقد جمع ما ظنه الظان غير مجموع وألفت عندنا تآليف في غاية الحسن لنا خطر السبق في بعضها فمنها كتاب الهداية لعيسى بن دينار وهي أرفع كتب جمعت في معناها على مذهب مالك و ابن القاسم وأجمعها للمعاني الفقهية على المذهب فمنها كتاب الصلاة و كتاب البيوع وكتاب الجدار في الأقضية وكتاب النكاح والطلاق ومن الكتب المالكية التي

ألفت بالأندلس كتاب القطني مالك بن علي وهو رجل قرشي من بني فهر لقي أصحاب مالك وأصحاب أصحابه وهو كتاب فيه غرائب ومستحسنات من الرسائل المولدات ومنها كتاب أبي إسحاق يحيى بن إبراهيم بن مزين في تفسير الموطأ والكتب المستقصية لمعاني الموطأ وتوصيل مقطوعاته من تآليف ابن مزين أيضا وكتابه في رجال الموطأ وما لمالك عن كل واحد منهم من الآثار في موطإه وفي تفسير القرآن كتاب أبي عبد الرحمن بقي بن مخلد فهو الكتاب الذي أقطع قطعا لا أستثني فيه أنه لم يؤلف في الإسلام تفسير مثله ولا تفسير محمد بن جرير الطبري ولا غيره
ومنها في الحديث مصنفه الكبير الذي رتبه على أسماء الصحابة رضي الله تعالى عنهم فروى فيه عن ألف وثلاثمائة صاحب ونيف ثم رتب حديث كل صاحب على أسماء الفقه وأبواب الأحكام فهو مصنف ومسند وما أعلم هذه الرتبة لأحد قبله مع ثقته وضبطه وإتقانه واحتفاله في الحديث وجودة شيوخه فإنه روى عن مائتي رجل وأربعة وثمانين رجلا ليس فيهم عشرة ضعفاء وسائرهم أعلام مشاهير
ومنها مصنفه في فضل الصحابة والتابعين ومن دونهم

الذي اربى فيه على مصنف أبي بكر بن أبي شيبة ومصنف عبد الرزاق بن همام ومصنف سعيد بن منصور وغيرها وانتظم علما عظيما لم يقع في شيء من هذه فصارت تآليف هذا الإمام الفاضل قواعد للإسلام لا نظير لها وكان متخيرا لا يقلد أحدا وكان ذا خاصة من أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه
ومنها في أحكام القرآن كتاب ابن أمية الحجاري وكان شافعي المذهب بصيرا بالكلام على اختياره وكتاب القاضي أبي الحكم منذر بن سعيد وكان داودي المذهب قويا على الانتصار له وكلاهما في أحكام القرآن غاية ولمنذر مصنفات منها كتاب الإبانة عن حقائق أصول الديانة
ومنها في الحديث مصنف أبي محمد قاسم بن أصبغ بن يوسف بن ناصح ومصنف محمد بن عبد الملك بن أيمن وهما مصنفان رفيعان احتويا من صحيح الحديث وغريبه على ما ليس في كثير من المصنفات و لقاسم بن أصبغ هذا تآليف حسان جدا منها أحكام القرآن على أبواب كتاب إسماعيل وكلامه ومنها كتاب المجتبى على أبواب كتاب ابن الجارود المنتقى وهو خير منه وأنقى حديثا وأعلى سندا وأكثر فائدة ومنها كتاب في فضائل قريش وكنانة وكتابه في الناسخ والمنسوخ وكتاب غرائب حديث مالك بن أنس مما ليس في الموطأ
ومنها كتاب التمهيد لصاحبنا أبي عمر يوسف بن عبد البر وهو الآن بعد في الحياة لم يبلغ سن الشيخوخة وهو كتاب لا أعلم في الكلام على فقه الحديث مثله أصلا فكيف أحسن منه ومنها كتاب الاستذكار وهو اختصار التمهيد المذكور ولصاحبنا أبي عمر بن عبد البر

المذكور كتب لا مثيل لها منها كتابه المسمى بالكافي في الفقه على مذهب مالك وأصحابه خمسة عشر كتابا اقتصر فيه على ما بالمفتي الحاجة إليه وبوبه وقربه فصار مغنيا عن التصنيفات الطوال في معناه ومنها كتابه في الصحابة ليس لأحد من المتقدمين مثله على كثرة ما صنفوا في ذلك ومنها كتاب الاكتفاء في قراءة نافع وأبي عمرو ابن العلاء والحجة لكل واحد منهما ومنها كتاب بهجة المجالس وأنس المجالس مما يجري في المذاكرات من غرر الأبيات ونوادر الحكايات ومنها كتاب جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته
ومنها كتاب شيخنا القاضي أبي الوليد عبد الله بن محمد بن يوسف بن الفرضي في المختلف والمؤتلف في أسماء الرجال ولم يبلغ عبد الغني الحافظ البصري في ذلك إلا كتابين وبلغ أبو الوليد رحمه الله تعالى نحو الثلاثين لا أعلم مثله في فنه البتة ومنها تاريخ أحمد بن سعيد ما وضع في الرجال أحد مثله إلا ما بلغنا من تاريخ محمد بن موسى العقيلي البغدادي ولم أره و أحمد بن سعيد هو المتقدم إلى التأليف القائم في ذلك ومنها كتب محمد بن أحمد بن يحيى بن مفرج القاضي وهي كثيرة منها أسفار سبعة جمع فيها فقه الحسن البصري وكتب كثيرة جمع فيها فقه الزهري
ومما يتعلق بذلك شرح الحديث لقاسم بن ثابت السرقسطي فما شآه

أبو عبيد إلا بتقدم العصر فقط
ومنها في الفقه ( ( الواضحة ) ) والمالكيون لا تمانع بينهم في فضلها واستحسانهم إياها ومنها المستخرجة من الأسمعة وهي المعروفة ب العتبية ولها عند أهل إفريقية القدر العالي والطيران الحثيث والكتاب الذي جمعه أبو عمر أحمد ابن عبد الملك بن هشام الإشبيلي المعروف بابن المكوي و القرشي أبو مروان المعيطي في جمع أقاويل مالك كلها على نحو الكتاب الباهر الذي جمع فيه القاضي أبو بكر محمد بن أحمد بن الحداد البصري أقاويل الشافعي كلها ومنها كتاب المنتخب الذي ألفه القاضي محمد بن يحيى بن عمر بن لبابة وما رأيت لمالكي قط كتابا أنبل منه في جمع روايات المذهب وشرح مستغلقها وتفريع وجوهها وتأليف قاسم بن محمد المعروف بصاحب الوثائق وكلها حسن في معناه وكان شافعي المذهب نظارا جاريا في ميدان البغداديين
ومنها في اللغة الكتاب البارع الذي ألفه إسماعيل بن القاسم يحتوي على لغة العرب وكتابه في المقصور والممدود والمهموز لم يؤلف مثله في بابه وكتاب الأفعال لمحمد بن عمر بن عبد العزيز المعروف بابن القوطية بزيادات ابن طريف مولى العبديين فلم يوضع في فنه مثله كتاب جمعه أبو

غالب تمام بن غالب المعروف ابان التياني في اللغة لم يؤلف مثله اختصارا وإكثارا وثقة نقل وهو أظن في الحياة بعد
وههنا قصة لا ينبغي أن تخلو رسالتنا منها وهي أن أبا الوليد عبد الله بن محمد بن عبد الله المعروف بابن الفرضي حدثني أن أبا الجيش مجاهدا صاحب الجزائر ودانية وجه إلى أبي غالب أيام غلبته على مرسية وأبو غالب ساكن بها ألف دينار أندلسية على أن يزيد في ترجمة الكتاب المذكور ( ( مما ألفه تمام بن غالب لأبي الجيش مجاهد ) ) فرد الدنانير وأبى من ذلك ولم يفتح في هذا بابا البتة وقال والله لو بذل لي الدنيا على ذلك ما فعلت ولا استجزت الكذب لأني لم أجمعه له خاصة بل لكل طالب فأعجب لهمة هذا الرئيس وعلوها وأعجب لنفس هذا العالم ونزاهتها
ومنها كتاب أحمد بن أبان بن سيد في اللغة المعروف بكتاب العالم نحو مائة سفر على الأجناس في غاية الإيعاب بدأ بالفلك وختم بالذرة وكتاب النوادر لأبي علي إسماعيل بن القاسم وهو مبار لكتاب الكامل لأبي العباس المبرد ولعمري لئن كان كتاب أبي العباس أكثر نحوا وخبرا فإن كتاب أبي علي أكثر لغة وشعرا وكتاب الفصوص لصاعد بن الحسن الربعي وهو جار في مضمار الكتابين المذكورين
ومن الأنحاء تفسير الجرفي لكتاب الكسائي حسن في معناه وكتاب

ابن سيده في ذلك المنبوز ب العالم والمتعلم وشرح له لكتاب الأخفش
ومما ألف في الشعر كتاب عبادة بن ماء السماء في أخبار شعراء الأندلس كتاب حسن وكتاب الحدائق لأبي عمر أحمد بن فرج عارض به كتاب الزهرة لأبي محمد ابن داود رحمه الله تعالى إلا أن أبا بكر إنما أدخل مائة باب في كل باب مائة بيت و أبو عمر أورد مائتي باب في كل باب مائة بيت ليس منها باب تكرر اسمه لأبي بكر ولم يورد فيه لغير أندلسي شيئا وأحسن الاختيار ما شاء وأجاد فبلغ الغاية وأتى الكتاب فردا في معناه ومنها كتاب التشبيهات من أشعار أهل الأندلس جمعه أبو الحسن علي بن محمد بن أبي الحسن الكاتب وهو حي بعد ومما يتعلق بذلك شرح أبي القاسم إبراهيم بن محمد بن الإفليلي لشعر المتنبي وهو حسن جدا
ومن الأخبار تواريخ أحمد بن محمد بن موسى الرازي في أخبار ملوك الأندلس وخدمتهم وغزواتهم ونكباتهم وذلك كثير جدا وكتاب له في صفة قرطبة وخططها ومنازل الأعيان بها على نحو ما بدأ به ابن أبي طاهر في اخبار بغداد وذكر منازل صحابة أبي جعفر المنصور بها وتواريخ متفرقة رأيت منها أخبار عمر بن حفصون القائم برية ووقائعه وسيره وحروبه وتاريخ آخر في أخبار عبد الرحمن بن مروان الجليقي القائم بالجوف وفي أخبار بني

قسي والتجيبيين وبني الطويل بالثغر فقد رأيت من ذلك كتبا مصنفة في غاية الحسن وكتاب مجزأ في أجزاء كثيرة في أخبار رية وحصونها وحروبها وفقهائها وشعرائها تأليف إسحاق بن سلمة بن إسحاق القيني وكتاب محمد بن الحارث الخشني في ( ( أخبار القضاة بقرطبة وسائر الأندلس وكتاب في أخبار الفقهاء بها وكتاب لأحمد بن محمد بن موسى في أنساب مشاهير أهل الأندلس في خمسة أسفار ضخمة من أحسن كتاب في الأنساب وأوسعها وكتاب قاسم بن أصبغ في الأنساب في غاية الحسن والإيعاب والإيجاز وكتابه في فضائل بني أمية وكان من الثقة والجلالة بحيث اشتهر أمره وانتشر ذكره ومنها كتب مؤلفة في أصحاب المعاقل والأجناد الستة بالأندلس ومنها كتب كثيرة جمعت فيها أخبار شعراء الأندلس للمستنصر رحمه الله تعالى رأيت منها أخبار شعراء إلبيرة في نحو عشرة أجزاء ومنها كتاب الطوالع في أنساب أهل الأندلس ومنها كتاب التاريخ في أخبار أهل الأندلس تأليف أبي مروان ابن حيان نحو عشرة أسفار من أجل كتاب ألف في هذا المعنى وهو في الحياة بعد لم يتجاوز الاكتهال وكتاب المآثر العامرية لحسين بن عاصم في سير ابن أبي عامر وأخباره وكتاب الأقشتين محمد بن عاصم النحوي في

طبقات الكتاب بالأندلس وكتاب سكن بن سعيد في ذلك وكتاب أحمد ابن فرج في المنتزين والقائمين بالأندلس وأخبارهم وكتاب أخبار أطباء الأندلس لسليمان بن جلجل وأما الطب فكتب الوزير يحيى بن إسحاق وهي كتب حسان رفيعة وكتب محمد بن الحسن المذحجي أستاذنا رحمه الله تعالى وهو المعروف بابن الكتاني وهي كتب رفيعة حسان وكتب التصريف لأبي القاسم خلف بن عياش الزهراوي وقد أدركناه وشاهدناه ولئن قلنا إنه لم يؤلف في الطب أجمع منه ولا أحسن للقول والعمل في الطبائع لنصدقن وكتب ابن الهيثم في الخواص والسموم والعقاقير من أجل الكتب وأنفعها
وأما الفلسفة فإني رأيت فيها رسائل مجموعة وعيونا مؤلفة لسعيد بن فتحون السرقسطي المعروف بالحمار دالة على تمكنه من هذه الصناعة وأما رسائل أستاذنا أبي عبد الله محمد بن الحسن المذحجي في ذلك فمشهورة متداولة وتامة الحسن فائقة الجودة عظيمة المنفعة

وأما العدد والهندسة فلم يقسم لنا في هذا العلم نفاذ ولا تحققنا به فلسنا نثق بأنفسنا في تمييز المحسن من المقصر في المؤلفين فيه من أهل بلدنا إلا أني سمعت من أثق بعقله ودينه من أهل العلم ممن اتفق على رسوخه فيه يقول إنه لم يؤلف في الأزياج مثل زيج مسلمة وزيج ابن السمح وهما من أهل بلدنا وكذلك كتاب المساحة المجهولة لأحمد بن نصر فما تقدم إلى مثله في معناه
وإنما ذكرنا التآليف المستحقة للذكر والتي تدخل تحت الأقسام السبعة التي لا يؤلف عاقل عالم إلا في أحدها وهي إما شيء لم يسبق إليه يخترعه أو شيء ناقص يتمه أو شيء مستغلق يشرحه أو شيء طويل يختصره دون أن يخل بشيء من معانيه أو شيء متفرق يجمعه أو شيء مختلط يرتبه أو شيء أخطأ فيه مؤلفه يصلحه
وأما التواليف المقصرة عن مراتب غيرها فلم نلتفت إلى ذكرها وهي عندنا من تأليف أهل بلدنا أكثر من أن نحيط بعلمها
وأما علم الكلام فإن بلادنا وإن كانت لم تتجاذب فيها الخصوم ولا اختلفت فيها النحل فقل لذلك تصرفهم في هذا الباب فهي على كل حال غير عرية عنه وقد كان فيهم قوم يذهبون إلى الاعتزال نظار على أصوله ولهم فيه تواليف منهم خليل بن إسحاق ويحيى بن السمينة والحاجب موسى بن حدير وأخوه الوزير صاحب المظالم أحمد وكان داعية إلى الاعتزال

لا يستتر بذلك ولنا على مذهبنا الذي تخيرناه من مذاهب أصحاب الحديث كتاب في هذا المعنى وهو وإن كان صغير الجرم قليل عدد الورق يزيد على المائتين زيادة يسيرة فعظيم الفائدة لأنا أسقطنا فيه المشاغب كلها وأضربنا عن التطويل جملة واقتصرنا على البراهين المنتخبة من المقدمات الصحاح الراجعة إلى شهادة الحس وبديهة العقل لها بالصحة
ولنا فيما تحققنا به تآليف جمة منها ما قد تم ومنها ما شارف التمام ومنها ما قد مضى منه صدر ويعين الله تعالى على باقيه لم نقصد به قصد مباهاة فنذكرها ولا أردنا السمعة فنسميها والمراد بها ربنا جل وجهه وهو ولي العون فيها والملي بالمجازاة عليها وما كان لله تعالى فسيبدو وحسبنا الله ونعم الوكيل
وبلدنا هذا - على بعده من ينبوع العلم ونأيه من محلة العلماء - فقد ذكرنا من تآليف أهله ما إن طلب مثلها بفارس والأهواز وديار مضر وديار ربيعة واليمن والشام أعوز وجود ذلك على قرب المسافة في هذه البلاد من العراق التي هي دار هجرة الفهم وذويه ومراد المعارف وأربابها
ونحن إذا ذكرنا أبا الأجرب جعونة بن الصمة الكلابي في الشعر لم نباه به إلا جريرا والفرزدق لكونه في عصرهما ولو أنصف لاستشهد بشعره فهو جار على مذهب الأوائل لا على طريقة المحدثين وإذا سمينا بقي بن مخلد لم نسابق به إلا محمد بن إسماعيل البخاري و مسلم بن الحجاج النيسابوري و سليمان ابن الأشعث السجستاني و أحمد بن شعيب النسائي وإذا ذكرنا قاسم بن محمد لم نباه به إلا القفال و محمد بن عقيل الفرياني وهو شريكهما في صحبة المزني أبي إبراهيم والتلمذة له وإذا نعتنا عبد الله بن قاسم بن هلال و منذر بن سعيد لم نجار

بهما إلا أبا الحسن بن المفلس و الخلال و الديباجي و رويم بن أحمد
وقد شاركهم عبد الله في أبي سليمان وصحبته وإذا أشرنا إلى محمد بن عمر بن لبابة وعمه محمد بن عيسى و فضل بن سلمة لم نناطح بهم إلا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم و محمد بن سحنون و محمد بن عبدوس وإذا صرحنا بذكر محمد بن يحيى الرباحي و أبي عبد الله محمد بن عاصم لم يقصرا عن أكابر أصحاب محمد بن يزيد المبرد
ولو لم يكن لنا من فحول الشعراء إلا أحمد بن محمد بن دراج القسطلي لما تأخر عن شأو بشار بن برد و حبيب والمتنبي فكيف ولنا معه جعفر بن عثمان الحاجب و أحمد بن عبد الملك بن مروان و أغلب بن شعيب و محمد بن شخيص و احمد بن فرج و عبد الملك بن سعيد المرادي وكل هؤلاء فحل يهاب جانبه وحصان ممسوح الغرة
ولنا من البلغاء أحمد بن عبد الملك بن شهيد صديقنا وصاحبنا وهو حي بعد لم يبلغ سن الاكتهال وله من التصرف في وجوه البلاغة وشعابها مقدار يكاد ينطق فيه بلسان مركب من لساني عمرو وسهل ومحمد بن عبد الله بن مسرة في طريقه التي سلك فيها وإن كنا لا نرضى مذهبه في جماعة يكثر تعدادهم

وقد انتهى ما اقتضاه خطاب الكاتب رحمه الله تعالى من البيان ولم نتزيد فيما رغب فيه إلا ما دعت الضرورة إلى ذكره لتعلقه بجوابه والحمد لله الموفق لعلمه والهادي إلى الشريعة المزلفة منه والموصلة وصلى الله على محمد عبده ورسوله وعلى آله وصحبه وسلم وشرف وكرم
انتهت الرسالة
وكتب الحافظ ابن حجر على هامش قوله فيها ( ( وإنما سكن على الكوفة خمسة أعوام وأشهرا ) ) ما نصه صوابه أربعة أعوام انتهى
7 - تذييل ابن سعيد على رسالة ابن حزم
وقال ابن سعيد بعد ذكره هذه الرسالة ما صورته رأيت أن أذيل ما ذكره الوزير الحافظ أبو محمد بن حزم من مفاخر أهل الأندلس بما حضرني والله تعالى ولي الإعانة أما القرآن فمن أجل ما صنف في تفسيره كتاب الهداية إلى بلوغ النهاية في نحو عشرة أسفار صنفه الإمام العالم الزاهد أبو محمد مكي بن أبي طالب القرطبي وله كتاب تفسير إعراب القرآن وعد ابن غالب في كتاب فرحة الأنفس تآليف مكي المذكور فبلغ بها 77 تأليفا وكانت وفاته سنة 437 و لأبي محمد بن عطية الغرناطي في تفسير القرآن الكتاب الكبير الذي اشتهر وطار في الغرب والشرق وصاحبه من فضلاء المائة السادسة وأما القراءات فلمكي المذكور فيها كتاب التبصرة وكتاب التيسير

لأبي عمرو الداني مشهور في أيدي الناس
وأما الحديث فكان بعصرنا في المائة السابعة الإمام أبو الحسن علي بن القطان القرطبي الساكن بحضرة مراكش وله في تفسير غرائبه وفي رجاله مصنفات وإليه كانت النهاية والإشارة في عصرنا وسمعت أنه كان اشتغل بجمع أمهات كتب الحديث المشهورة وحذف المكرر وكتاب رزين بن عمار الأندلسي في جمع ما يتضمنه كتاب مسلم و البخاري و الموطأ و السنن و النسائي و الترمذي كتاب جليل مشهور في أيدي الناس بالمشرق والمغرب وكتاب الأحكام لأبي محمد عبد الحق الإشبيلي مشهور متداول القراءة وهي أحكام كبرى وأحكام صغرى قيل ووسطى وكتاب الجمع بين الصحيحين للحميدي مشهور
وأما الفقه فالكتاب المعتمد عليه الآن الذي ينطلق عليه اسم الكتاب عند المالكية حتى بالإسكندرية فكتاب التهذيب للبراذعي السرقسطي وكتاب النهاية لأبي الوليد بن رشد كتاب جليل معظم معتمد عليه عند المالكية وكذلك كتاب المنتقى للباجي
وأما أصول الدين وأصول الفقه فللإمام أبي بكر ابن العربي الإشبيلي من

ذلك ما منه كتاب العواصم والقواصم المشهور بأيدي الناس وله تآليف في غير هذا ولأبي الوليد ابن رشد في أصول الفقه ما منه مختصر المستصفى وأما التواريخ فكتاب ابن حيان الكبير المعروف بالمتين في نحو ستين مجلدة وإنما ذكر ابن حزم كتاب المقتبس وهو في عشر مجلدات والمتين يذكر فيه أخبار عصره ويمعن فيها مما شاهده ومنه ينقل صاحب الذخيرة وقد ذيل عليه أبو الحجاج البياسي أحد معاصرينا وهو الآن بإفريقية في حضرتها تونس عند سلطانها تحت إحسانه الغمر وكتاب المظفر بن الأفطس ملك بطليوس المعروف بالمظفري نحو كتاب المتين في الكبر وفيه تاريخ على السنين وفنون آداب كثيرة وتاريخ ابن صاحب الصلاة في الدولة اللمتونية وذكر ابن غالب أن ابن الصيرفي الغرناطي له كتاب في أخبار دولة لمتونة وأن أبا الحسن السالمي له كتاب في أخبار الفتنة الثانية بالأندلس بدأ من سنة 539 ورتبه على السنين وبلغ به سنة 547 وأبو القاسم خلف بن بشكوال له كتاب في تاريخ أصحاب الأندلس من فتحها إلى زمانه وأضاف إلى ذلك من أخبار قرطبة وغيرها ما جاء في خاطره وله كتاب الصلة في تاريخ العلماء وللحميدي قبله جذوة المقتبس وقد ذيل كتاب الصلة في عصرنا هذا أبو عبد الله بن الأبار البلنسي كاتب سلطان إفريقية
وذكر ابن غالب أن الفقيه أبا جعفر بن عبد الحق الخزرجي القرطبي له كتاب كبير بدأ فيه من بدء

الخليقة إلى أن انتهى في أخبار الأندلس إلى دولة عبد المؤمن قال وفارقته سنة 565 و أبو محمد ابن حزم صاحب الرسالة المتقدمة الذكر له كتب جمة في التواريخ مثل كتاب نقط العروس في تواريخ الخلفاء وقد صنف أبو الوليد بن زيدون كتاب التبيين في خلفاء بني أمية بالأندلس على منزع كتاب التعيين في خلفاء المشرق للمسعودي
وللقاضي أبي القاسم صاعد بن أحمد الطليطلي كتاب التعريف بأخبار علماء الأمم من العرب والعجم وكتاب جامع أخبار الأمم
وأبو عمر بن عبد البر له كتاب القصد والأمم في معرفة أخبار العرب والعجم وعريب
بن سعد القرطبي له كتاب اختصار تاريخ الطبري قد سعد باغتباط الناس به وأضاف إليه تاريخ إفريقية والأندلس و لأحمد بن سعيد بن محمد بن عبد الله بن أبي الفياض كتاب العبر وكتاب أبي بكر الحسين بن محمد الزبيدي في أخبار النحويين واللغويين بالمشرق والأندلس ) ) وكتاب القاضي أبي الوليد ابن الفرضي في أخبار العلماء والشعراء وما يتعلق بذلك وليحيى بن حكم الغزال تاريخ ألفه كله منظوما كما صنع أيضا بعده أبو طالب المتنبي من جزيرة شقر في التاريخ الذي أورد منه صاحب الذخيرة ما أورد وكتاب الذخيرة لابن بسام في جزيرة الأندلس ليس هذا مكان الإطناب في تفصيلها وهي كالذيل على حدائق ابن فرج وفي عصرها صنف الفتح كتاب القلائد وهو مملوء بلاغة

والمحاكمة بين الكتابين ذكرت بمكان آخر ذكرت بمكان ولصاحب القلائد كتاب المطمح وهو ثلاث نسخ كبرى ووسطى وصغرى يذكر فيها من الذين ذكرهم في القلائد ومن غيرهم الذين كانوا قبل عصرهم وكتاب سمط الجمان وسقط المرجان لأبي عمرو بن بعد الإمام بعد الكتابين المذكورين ذكر من أخلا بتوفيته حقه من الفضلاء واستدرك من أدركه بعصره في بقية المائة السادسة وذيل عليه - وإن كان ذيلا قصيرا - أبو بحر صفوان بن إدريس المرسي بكتاب زاد المسافر ذكر فيه جماعة ممن أدرك المائة السابعة وكتاب أبي محمد عبد الله بن إبراهيم الحجاري المسمى ب المسهب في فضائل المغرب صنفه بعد الذخيرة و القلائد من أول ما عمرت الأندلس إلى عصره وخرج فيه عن مقصد الكتابين إلى ذكر البلاد وخواصها مما يختص بعلم الجغرافيا وخلطه بالتاريخ وتفنن الأدب على ما هو مذكور في غير هذا المكان ولم يصنف في الأندلس مثل كتابه ولذلك فضله المصنف له عبد الملك بن سعيد وذيل عليه ثم ذيل على ذلك ابناه أحمد ومحمد ثم موسى بن محمد ثم علي بن موسى كاتب هذه النسخة ومكمل كتاب فلك الأدب المحيط بحلى لسان العرب المحتوي على كتابي المشرق في حلى المشرق و المغرب في حلى المغرب فيكفي الأندلس في هذا الشأن تصنيف هذا الكتاب بين ستة أشخاص في 115 سنة آخرها سنة 645 وقد احتوى على جميع ما يذاكر به ويحاضر بحلاه من فنون الأدب المختارة على جهد الطاقة في شرق وغرب على النوع الذي هو مذكور في غير هذا الموضع ومن أغفلت التنبيه على عصره وغير ذلك من المصنفين المتقدمي الذكر فيطلب الملتمس منهم في مكانه المنسوب إليه كابن

بسام في شنترين والفتح في إشبيلية وابن الإمام في إستجة والحجاري في وادي الحجارة وأما ما جاء منثورا من فنون الأدب فكتاب سراج الأدب لأبي عبد الله بن أبي الخصال الشقوري رئيس كتاب الأندلس صنفه على منزع كتاب النوادر لأبي علي و زهر الآداب للحصري وكتاب واجب الأدب لوالدي لوالدي موسى بن محمد بن سعيد واسمه يغني عن المراد به وكتاب اللآلئ لأبي عبيد البكري على كتاب الأمالي لأبي علي البغدادي مفيد في الأدب وكذلك كتاب الاقتضاب في شرح أدب الكتاب لأبي محمد ابن السيد البطليوسي وأما شرح سقط الزند له فهو الغاية ويكفي ذكره عند أرباب هذا الشأن وثناؤهم عليه وشروح أبي الحجاج الأعلم لشعر المتنبي والحماسة وغير ذلك مشهورة وأما النحو فلأهل الأندلس من الشروح على ( ( الجمل ) ) ما يطول ذكره فمنها شرح ابن خروف ومنها شرح الرندي ومنها شيخنا أبي الحسن ابن عصفور الإشبيلي وإليه انتهت علوم النحو وعليه الإحالة الآن من المشرق والمغرب وقد أتيت له من إفريقية بكتاب المقرب في النحو فتلقي باليمين من كل جهة وطار بجناح الاغتباط ولشيخنا أبي علي الشلوبين كتاب التوطئة على الجزولية وهو مشهور و لابن السيد و ابن الطراوة و السهيلي من التقييدات في النحو ما هو مشهور عند أصحاب هذا الشأن معتمد عليه و لأبي الحسن بن خروف شرح مشهور على كتاب سيبويه وأما علم الجغرافيا فيكفي في ذلك كتاب المسالك والممالك لأبي عبيد البكري

الأونبي وكتاب معجم ما استعجم من البقاع والأماكن وفي كتاب المسهب للحجاري في هذا الشأن وتذييلنا عليه في هذا الكتاب الجامع ما جمع زبد الأولين والآخرين في ذلك وأما الموسيقى فكتاب أبي بكر بن باجة الغرناطي في ذلك فيه كفاية وهو في المغرب بمنزلة ابي نصر الفارابي بالمشرق وإليه تنسب الألحان المطربة بالأندلس التي عليها الاعتماد و ليحيى الخدوج المرسي كتاب الأغاني الأندلسية على منزع الأغاني لأبي الفرج وهو ممن أدرك المائة السابعة وأما الطب فالمشهور بأيدي الناس الآن في المغرب وقد سار أيضا في المشرق لنبله كتاب التيسير لعبد الملك بن أبي العلاء ابن زهر وله كتاب الأغذية ايضا مشهور مغتبط به في المغرب والمشرق و لأبي العباس ابن الرومية الإشبيلي من علماء عصرنا بهذا الشأن كتاب في الأدوية المفردة وقد جمع أبو محمد المالقي الساكن الآن بقاهرة مصر كتابا في هذا الشأن حشر عليه ما سمع به فقدر عليه من تصانيف الأدوية المفردة ككتاب الغافقي وكتاب الزهراوي وكتاب الشريف الإدريسي الصقلي وغيرها وضبطه على حروف المعجم وهو النهاية في مقصده
وأما الفلسفة فإمامها في عصرنا أبو الوليد بن رشد القرطبي وله فيها تصانيف جحدها لما رأى انحراف منصور بني عبد المؤمن عن هذا العلم

وسجنه بسببها وكذلك ابن حبيب الذي قتله المأمون بن المنصور المذكور على هذا العلم بإشبيلية وهو علم ممقوت بالأندلس لا يستطيع صاحبه إظهاره فلذلك تخفى تصانيفه
وأما التنجيم فلابن زيد الأسقف القرطبي فيه تصانيف وكان مختصا بالمستنصر بن الناصر المرواني وله ألف كتاب تفصيل الأزمان ومصالح الأبدان وفيه من ذكر منازل القمر وما يتعلق بذلك ما يستحسن مقصده وتقريبه وكان مطرف الإشبيلي في عصرنا قد اشتغل بالتصنيف في هذا الشأن إلا أن أهل بلده كانوا ينسبونه للزندقة بسبب اعتكافه على هذا الشأن فكان لا يظهر شيئا مما يصنف رسالة الشقندي في الدفاع عن الأندلس ثم قال ابن سعيد أخبرني والدي قال كنت يوما في مجلس صاحب سبتة أبي يحيى بن أبي زكريا صهر ناصر بني عبد المؤمن فجرى بين أبي الوليد الشقندي وبين أبي يحيى بن المعلم الطنجي نزاع في التفضيل بين البرين فقال الشقندي لولا الأندلس لم يذكر بر العدوة ولا سارت عنه فضيلة ولولا التوقير للمجلس لقلت ما تعلم فقال الأمير أبو يحيى أتريد أن تقول كون أأهل برنا عربا وأهل بركم بربر فقال حاش لله ! فقال الأمير والله ما أردت غير هذا فظهر في وجهه أنه أراد ذلك فقال ابن المعلم أتقول هذا وما الملك والفضل إلا من بر العدوة فقال الأمير الرأي عندي أن يعمل كل واحد منكما رسالة في تفضيل بره فالكلام هنا يطول ويمر ضياعا وأرجو إذا أخليتما له فكر كما يصدر عنكما ما يحسن تخليده ففعلا ذلك

فكانت رسالة الشقندي الحمد لله الذي جعل لمن يفخر بجزيرة الأندلس أن يتكلم ملء فيه ويطنب ما شاء فلا يجد من يعترض عليه ولا من يثنيه إذ لا يقال للنهار يا مظلم ولا لوجه النعيم يا قبيح
( وقد وجدت مكان القول ذا سعة ... فإن وجدت لسانا قائلا فقل )
أحمده على أن جعلني ممن أنشأته وحباني بأن كنت ممن أظهرته فامتد في الفخر باعي وأعانني على الفضائل كرم طباعي وأصلي على سيدنا محمد نبيه الكريم وعلى آله وصحبه الأكرمين وأسلم تسليما
أما بعد فإنه حرك مني ساكنا وملأ مني فارغا فخرجت عن سجيتي في الإغضاء مكرها إلى الحمية والإباء منازع في فضل الأندلس أراد أن يخرق الإجماع ويأتي بما لم تقبله النواظر والأسماع إذ من رأى ومن سمع لا يجوز عنده ذلك ولا يضله من تاه في تلك المسالك رام أن يفضل بر العدوة على بر الأندلس فرام أن يفضل على اليمين اليسار ويقول الليل أضوأ من النهار فيا عجبا كيف قابل العوالي بالزجاج وصادم الصفاة بالزجاج فيا من نفخ في غير ضرم ورام صيد البزاة بالرخم كيف تتكثر بما جعله الله قليلا وتتعزر بما حكم الله أن يكون ذليلا ماهذه المباهتة التي لا تجوز وكيف تبدي أمام الفتاة العجوز سل العيون إلى وجه من تميل واستخبر الأسماع إلى حديث من تصغي

( لشتان ما بين اليزيدين في الندى ... يزيد سليم والأغر بن حاتم )
اقن حياءك أيها المغرد بالنحيب المتزين بالخلق المتحبب إلى الغواني بالمشيب الخضيب أين عزب عقلك وكيف نكص على عقبه فهمك ولبك أبلغت العصبية من قلبك أن تطمس على نوري بصرك ولبك أما قولك ( ( الملوك منا ) ) فقد كان الملوك منا أيضا وما نحن إلا كما قال الشاعر
( فيوم علينا ويوم لنا ... ويوم نساء ويوم نسر )
إن كان الآن كرسي جميع بلاد المغرب عندكم بخلافة بني عبد المؤمن - أدامها الله تعالى فقد كان عندنا بخلافة القرشيين الذين يقول مشرقيهم
( وإني من قوم كرام أعزة ... لأقدامهم صيغت رؤوس المنابر )
( خلائف في الإسلام في الشرك قادة ... بهم وإليهم فخر كل مفاخر )
ويقول مغربيهم
( ألسنا بني مروان كيف تبدلت ... بنا الحال أو دارت علينا الدوائر )
( إذا ولد المولود منا تهللت ... له الأرض واهتزت إليه المنابر )
وقد نشأ في مدتهم من الفضلاء والشعراء ما اشتهر في الآفاق وصار أثبت في صحائف الأيام من الأطواق في أعناق الحمام

( وسار مسير الشمس في كل بلدة ... وهب هبوب الريح في البر والبحر ) ولم تزل ملوكهم في الاتساق كما قيل
( إن الخلافة فيكم لم تزل نسقا ... كالعقد منظومة فيه فرائده ) إلى أن حكم الله بنثر سلكهم وذهاب ملكهم فذهبوا وذهبت أخبارهم ودرسوا ودرست آثارهم
( جمال ذي الأرض كانوا في الحياة وهم ... بعد الممات جمال الكتب والسير )
فكم مكرمة أنالوها وكم عثرة أقالوها
( وإنما المرء حديث بعده ... فكن حديثا حسنا لمن وعى ) وكان من حسنات ملكهم المنصور بن أبي عامر وما أدراك الذي بلغ في بلاد النصارى غازيا إلى البحر الأخضر ولم يترك أسيرا في بلادهم من المسلمين ولم يبرح في جيش الهرقل وعزمة الإسكندر ولما قضى نحبه كتب على قبره
( آثاره تنبيك عن أوصافه ... حتى كأنك بالعيان تراه )
( تالله لا يأتي الزمان بمثله ... أبدا ولا يحمي الثغور سواه )
وقد قيل فيه من الأمداح وألف له من الكتب ما سمعت وعلمت حتى قصد من بغداد وعم خيره وشره أقاصي البلاد ولما ثار بعد انتثار

هذا النظام ملوك الطوائف وتفرقوا في البلاد كان في تفرقهم اجتماع على النعم لفضلاء العباد إذ نفقوا سوق العلوم وتباروا في المثوبة على المنثور والمنظوم فما كان أعظم مباهاتهم إلا قول العالم الفلاني عند الملك الفلاني والشاعر الفلاني مختص بالملك الفلاني وليس منهم إلا من بذل وسعه في المكارم ونبهت الأمداح من مآثره ما ليس طول الدهر بنائم وقد سمعت ما كان منالفتيان العامرية مجاهد ومنذر وخيران وسمعت عن الملوك العربية بنو عباد وبنو صمادح وبنو الأفطس وبنو ذي النون وبنو هود كل منهم قد خلد فيه من الأمداح ما لو مدح به الليل لصار أضوأ من الصباح ولم تزل الشعراء تتهادى بينهم تهادي النواسم بين الرياض وتفتك في أموالهم فتكة البراض حتى إن أحد شعرائهم بلغ به ما رآه من منافستهم في أمداحه أن حلف أن لا يمدح أحدا منهم بقصيدة إلا بمائة دينار وأن المعتضد بن عباد على ما اشتهر من سطوته وإفراط هيبته كلفه أن يمدحه بقصيدة فأبى حتى يعطيه ما شرطه في قسمه ومن أعظم ما يحكى من المكارم التي لم نسمع لها أختا أن ابا غالب اللغوي ألف كتابا فبذل له مجاهد العامري ملك دانية ألف دينار ومركوبا وكسى على أن يجعل الكتاب باسمه فلم يقبل ذلك أبو غالب وقال كتاب ألفته لينتفع به الناس وأخلد فيه همتي أجعل في صدره اسم غيري وأصرف الفخر له لا أفعل ذلك فلما بلغ هذا مجاهدا استحسن أنفته وهمته وأضعف له العطاء وقال هو في حل من أن يذكرني فيه لا نصده عن غرضه
وإن كان كل ملوك الأندلس المعروفين بملوك الطوائف قد تنازعوا في ملاءة الحضر فإني أخص منهم بني عباد كما قال الله

تعالى " ( فيهما فاكهة ونخل ورمان ) الرحمن فإن الأيام لم تزل بهم كأعياد وكان لهم من الحنو على الأدب ما لم يقم به بنو حمدان في حلب وكانوا هم وبنوهم ووزراؤهم صدورا في بلاغتي النظم والنثر مشاركين في فنون العلم وآثارهم مذكورة وأخبارهم مشهورة وقد خلدوا من المكارم التامة ما هو متردد في ألسن الخاصة والعامة وبالله إلا سميت لي بمن تفخرون قبل هذه الدعوة المهدية أبسقوت الحاجب أم بصالح البرغواطي أم بيوسف بن تاشفين الذي لولا توسط ابن عباد لشعراء الأندلس في مدحه ما أجروا له ذكرا ولا رفعوا لملكه قدرا وبعدما ذكروه بوساطة المعتمد ابن عباد فإن المعتمد قال له وقد أنشدوه أيعلم أمير المسلمين ما قالوه قال لا أعلم ولكنهم يطلبون الخبز ولما انصرف عن المعتمد إلى حضرة ملكه كتب له المعتمد رسالة فيها
( بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا ... شوقا إليكم ولا جفت مآقينا )
( حالت لفقدكم أيامنا فغدت ... سودا وكانت بكم بيضا ليالينا )
فلما قرئ عليه هذان البيتين قال للقارئ يطلب منا جواري سودا وبيضا قال لا يا مولانا ما أراد إلا أن ليله كان بقرب أمير المسلمين نهارا لأن ليالي السرور بيض فعاد نهاره ببعده ليلا لأن أيام الحزن ليال سود فقال والله جيد أكتب له في جوابه إن دموعنا

تجري عليه ورؤوسنا توجعنا من بعده فليت العباس بن الأحنف قد عاش حتى يتعلم من هذا الفاضل رقة الشوق
( ولا تنكرن مهما رأيت مقدما ... على حمر بغلا فثم تناسب ) فاسكتوا فلولا هذه الدولة لما كان لكم على الناس صولة
( وإن الورد يقطف من قتاد ... وإن النار تقبس من رماد )
وإنك إن تعرضت للمفاضلة بالعلماء فأخبرني هل لكم في الفقه مثل عبد الملك بن حبيب الذي يعمل بأقواله إلى الآن ومثل أبي الوليد الباجي ومثل أبي بكر ابن العربي ومثل أبي الوليد ابن رشد الأكبر ومثل أبي الوليد ابن رشد الأصغر وهو ابن ابن الأكبر نجوم الإسلام ومصابيح شريعة محمد عليه السلام وهل لكم في الحفظ مثل أبي محمد ابن حزم الذي زهد في الوزارة والمال ومال إلى رتبة العلم ورآها فوق كل رتبة وقال وقد احرقت كتبه
( دعوني من إحراق رق وكاغد ... وقولوا بعلم كي يرى الناس من يدري )
( فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي ... تضمنه القرطاس إذ هو في صدري )
ومثل أبي عمر بن عبد البر صاحب الاستذكار و التمهيد ومثل أبي بكر بن الجد حافظ الأندلس في هذه الدولة وهل لكم في حفاظ اللغة كابن سيده صاحب كتاب المحكم وكتاب السماء والعالم الذي إن أعمى الله بصره فما أعمى بصيرته وهل لكم في النحو مثل أبي محمد ابن السيد وتصانيفه ومثل ابن الطراوة ومثل أبي علي الشلوبين الذي بين أظهرنا الآن وقد سار في المغارب والمشارق ذكره وهل لكم في علوم اللحون والفلسفة كابن باجة

وهل لكم في علم النجوم والفلسفة والهندسة ملك كالمقتدر بن هود صاحب سرقسطة فإنه كان في ذلك آية وهل لكم في الطب مثل ابن طفيل صاحب رسالة حي بن يقظان المقدم في علم الفلسفة ومثل بني زهر أبي العلاء ثم ابنه عبد الملك ثم ابنه أبي بكر ثلاثة على نسق وهل لكم في علم التاريخ كابن حيان صاحب المتين و المقتبس وهل عندكم في رؤساء علم الأدب مثل أبي عمر بن عبد ربه صاحب العقد وهل لكم في الاعتناء بتخليد مآثر فضلاء إقليمه والاجتهاد في حشد محاسنهم مثل ابن بسام صاحب الذخيرة وهب أنه كان يكون لكم مثله فما تصنع الكيسة في البيت الفارغ وهل لكم في بلاغة النثر كالفتح بن عبيد الله الذي إن مدح رفع وإن ذم وضع وقد ظهر له من ذلك في كتاب القلائد ما هو أعدل شاهد ومثل ابن أبي الخصال في ترسيله ومثل أبي الحسن سهل بن مالك الذي بين أظهرنا الآن في خطبه وهل لكم في الشعر ملك مثل المعتمد بن عباد في قوله
( وليل بسد النهر أنسا قطعته ... بذات سوار مثل منعطف النهر )
( نضت بردها عن غصن بان منعم ... فيا حسن ما انشق الكمام عن الزهر )
وقوله في أبيه
( سميدع يهب الآلاف مبتدئا ... وبعد ذلك يلفى وهو يعتذر )
( له يد كل جبار يقبلها ... لولا نداها لقلنا إنها الحجر ) ومثل ابنه الراضي في قوله

( مروا بنا أصلا من غير ميعاد ... فأوقدوا نار قلبي أي إيقاد )
( لا غرو أن زاد في وجدي مرورهم ... فرؤية الماء تذكي غلة الصادي ) وهل لكم ملك ألف في فنون الآدب كتابا في نحو مائة مجلدة مثل المظفر بن الأفطس ملك بطليوس ولم تشغله الحروب ولا المملكة عن همة الأدب زهل لكم من الوزراء مثل ابن عمار في قصيدته التي سارت أشرد من مثل وأحب إلى الأسماع من لقاء حبيب وصل التي منها
( أثمرت رمحك من رؤوس ملوكهم ... لما رأيت الغصن يعشق مثمرا )
( وصبغت درعك من دماء كماتهم ... لما رأيت الحسن يلبس أحمرا )
ومثل ابن زيدون في قصيدته التي لم يقل مع طولها في التسيب ارق منها وهي التي يقول فيها
( كأننا لم نبت والوصل ثالثنا ... والسعد قد غض من أجفان واشينا )
( سران في خاطر الظلماء يكتمنا ... حتى يكاد لسان الصبح يفشينا )
وهل لكم من الشعراء مثل ابن وهبون في بديهته بين يدي المعتمد بن عباد وإصابته الغرض حين إستحسن المعتمد قول المتنبي
( إذا ظفرت منك المطي بنظرة ... أثاب بها معيي المطي ورازمه )
فارتجل
( لئن جاد شعر ابن الحسين فإنما تجيد العطايا واللها تفتح اللها )
( تنبأ عجبا بالقريض ولو درى ... بأنك تروي شعره لتألها )

وهل لكم مثل شاعر الأندلس ابن دراج الذي قال فيه الثعالبي ( هو بالصقع الأندلسي كالمتنبي بصقع الشام الذي إن مدح الملوك قال مثل قوله
( ألم تعلمي أن الثواء هو التوى ... وأن بيوت العاجزين قبور )
( وأن خطيرات المهالك ضمن ... لراكبها أن الجزاء خطير )
( تخوفني طول السفار وإنه ... بتقبيل كف العامري جدير )
( مجير الهدى والدين من كل ملحد ... وليس عليه للضلال مجير )
( تلاقت عليه من تميم ويعرب ... شموس تلاقت في العلا وبدور )
( هم يستقلون الحياة لراغب ... ويستصغرون الخطب وهو كبير )
( ولما توافوا للسلام ورفعت ... عن الشمس في أفق الشروق ستور )
( وقد قام من زرق الأسنة دونها ... صفوف ومن بيض السيوف سطور )
( رأوا طاعة الرحمن كيف اعتزازها ... وآيات صنع الله كيف تنير )
( وكيف استوى بالبر والبحر مجلس ... وقام بعبء الراسيات سرير )
( فجاؤوا عجالا والقلوب خوافق ... وولوا بطاء والنواظر صور )
( يقولون والإجلال يخرس ألسنا ... وحازت عيون ملأها وصدور )
( لقد حاط أعلام الهدى بك حائط ... وقدر فيك المكرمات قدير ) وأنا أقسم بما حازته هذه الأبيات من غرائب الآيات لو سمع هذا المدح سيد بني حمدان لسلا به عن مدح شاعره الذي ساد كل شاعر ورأى أن هذه الطريقة أولى بمدح الملوك من كل ما تفنن فيه كل ناظم وناثر
وإن ذكر الغربة عن الأوطان ومكابدة نوائب الزمان قال

( قالت وقد مزج الفراق مدامعا ... بمدامع وترائبا بترائب )
( أتفرق حتى بمنزل غربة ... كم نحن للأيام نهبة ناهب )
( ولئن جنيت عليك ترحة راحل ... فأنا الزعيم لها بفرحة آيب )
( هل أبصرت عيناك بدرا طالعا ... في الأفق إلا من هلال غارب )
( وإن شبه قال
( كمعاقل من سوسن قد شيدت ... أيدي الربيع بناءها فوق القضب )
( شرفاتها من فضة وحماتها ... حول الأمير لهم سيوف من ذهب )
وهل من شعرائكم من تعرض لذكر العفة فاستنبط ما يسحر به السحر ويطيب به الزهر وهو أبو عمر بن فرج في قوله
( وطائعة الوصال عففت عنها ... وما الشيطان فيها بالمطاع )
( بدت في الليل سافرة فباتت ... دياجي الليل سافرة القناع )
( وما من لحظة إلا وفيها ... إلى فتن القلوب لها دواعي )
( فملكت النهى جمحات شوقي ... لأجري في العفاف على طباعي )
( وبت بها مبيت السقب يظما ... فيمنعه الكعام من الرضاع )
( كذاك الروض ما فيه لمثلي ... سوى نظر وشم من متاع )
( ولست من السوائم مهملات ... فأتخذ الرياض من المراعي ) وهل بلغ أحد من مشبهي شعرائكم أن يقول مثل قول أبي جعفر اللمائي

( عارض أقبل في جنح الدجى ... يتهادى كتهادي ذي الوجى )
( بددت ريح الصبا لؤلؤه ... فانبرى يوقد عنها سرجا )
ومثل قول أبي حفص بن برد
( وكأن الليل حين لوى ... ذاهبا والصبح قد لاحا )
( كلة سوداء أحرقها ... عامد أسرج مصباحا )
وهل منكم من وصف ما تحدثه الحمرة على الوجنة بمثل قول الشريف الطليق
( أصبحت شمسا وفوه مغربا ... ويد الساقي المحيي مشرقا )
( وإذا ما غربت في فمه ... تركت في الخد منه شفقا ) بمثل هذا الشعر فليطلق اللسان ويفخر كل إنسان
وهل منكم من عمد إلى قول امرئ القيس
( سموت إليها بعد ما نام أهلها ... سمو حباب الماء حالا على حال )
فاختلسه اختلاس النسيم لنفحة الأزهار واستلبه بلطف استلاب ثغر الشمس لرضاب طل الأسحار فلطفه تلطيفا يمتزج بالأرواح ويغني في

الارتياح عن شرب الراح وهو ابن شهيد في قوله
( ولما تملأ من سكره ... ونام ونامت عيون الحرس )
( دنوت إليه على رقبة ... دنو رفيق درى ما التمس )
( أدب إليه دبيب الكرى ... وأسمو إليه سمو النفس )
( أقبل منه بياض الطلى ... وأرشف منه سواد اللعس )
( فبت به ليلتي ناعما ... إلى أن تبسم ثغر الغلس )
وقد تناول هذا المعنى ابن أبي ربيعة على عظم قدره وتقدمه فعارض الصهيل بالنهاق وقابل العذب بالزعاق فقال وليته سكت
( ونفضت عني العين أقبلت مشية الحباب ... وركني خيفة القوم أزور ) وأنا أقسم لو زار جمل محبوبة له لكان ألطف في الزيارة من هذا الأزور الركن المنفض للعيون لكنه إن أساء هنا فقد أحسن في قوله
( قالت لقد أعييتنا حجة ... فأت إذا ما هجع الساهر )
( واسقط علينا كسقوط الندى ... ليلة لا ناه ولا زاجر ) ولله در محمد بن سفر أحد شعرائنا المتأخرين عصرا المتقدمين قدرا حيث نقل السعي إلى محبوبته فقال وليته لم يزل يقول مثل هذا فبمثله ينبغي أن يتكلم ومثله يليق أن يدون
( وواعدتها والشمس تجنح للنوى ... بزورتها شمسا وبدر الدجى يسري )
( فجاءت كما يمشي سنا الصبح في الدجى ... وطورا كما مر النسيم على النهر )
( فعطرت الآفاق حولي فأشعرت ... بمقدمها والعرف يشعر بالزهر )
( فتابعت بالتقبيل آثار سعيها ... كما يتقصى قارئ أحرف السطر )
( فبت بها والليل قد نام والهوى ... تنبه بين الغصن والحقف والبدر )
( أعانقها طورا وألثم تارة ... إلى أن دعتنا للنوى راية الفجر )
( ففضت عقودا للتعانق بيننا ... فيا ليلة القدر اتركي ساعة النفر ) وهل منكم من قيد بالإحسان فأطلق لسانه الشكر فقال وهو ابن اللبانة
( بنفسي وأهلي جيرة ما استعنتهم ... على الدهر إلا وانثنيت معانا )
( أراشوا جناحي ثم بلوه بالندى ... فلم أستطع من أرضهم طيرانا ) ومن يقول وقد قطع عنه ممدوحه ما كان يعتاده منه من الإحسان فقابل ذلك بقطع مدحه له فبلغه أنه عتبه على ذلك وهو ابن وضاح
( هل كنت إلا طائرا بثنائكم ... في دوح مجدكم أقوم وأقعد )
( إن تسلبوني ريشكم وتقلصوا ... عني ظلالكم فكيف أغرد )
وهل منكم شاعر رأى الناس قد ضجوا من سماع تشبيه الثغر بالأقاح وتشبيه الزهر بالنجوم وتشبيه الخدود بالشقائق فتلطف لذلك في أن يأتي به في منزع يصير خلقه في الأسماع جديدا وكليله في الأفكار حديدا فأغرب أحسن إغراب وأعرب عن فهمه بحسن تخيله أنبل إعراب وهو ابن الزقاق
( وأغيد طاف بالكؤوس ضحى ... وحثها والصباح قد وضحا )
( والروض أهدى لنا شقائقه ... وآسه العنبري قد نفحا )
( قلنا وأين الأقاح قال لنا ... أودعته ثغر من سقى القدحا )
( فظل ساقي المدام يجحد ما ... قال فلما تبسم افتضحا )
وقال
( أديراها على الروض المندى ... وحكم الصبح في الظلماء ماضي )
( وكأس الراح تنظر عن حباب ... ينوب لنا عن الحدق المراض )
( وما غربت نجوم الأفق لكن ... نقلن من السماء إلى الرياض ) وقال
( ورياض من الشقائق أضحت ... يتهادى بها نسيم الرياح )
( زرتها والغمام يجلد منها ... زهرات تروق لون الراح )
( قلت ما ذنبها فقال مجيبا ... سرقت حمرة الخدود الملاح )
فانظر كيف زاحم بهذا الاختيال المخترعين وكيف سابق بهذا اللفظ المبتدعين وهل منكم من برع في أوصاف الرياض والمياه وما يتعلق بذلك فانتهى إلى راية السباق وفضح كل من طمع بعده في اللحاق وهو أبو إسحاق ابن خفاجة القائل
( وعشي أنس أضجعتنا نشوة ... فيها يمهد مضجعي ويدمث )
( خلعت علي بها الأراكة ظلها ... والغصن يصغي والحمام يحدث )
( والشمس تجنح للغروب مريضة ... والرعد يرقي والغمامة تنفث )
والقائل
( لله نهر سال في بطحاء ... أشهى ورودا من لمى الحسناء )
( متعطف مثل السوار كأنه ... والزهر يكنفه مجر سماء )
( قد رق حتى ظن قرصا مفرغا ... من فضة في بردة خضراء )
( وغدت تحف به الغصون كأنها ... هدب تحف بمقلة زرقاء )
( ولطالمها عاطيت فيه مدامة ... صفراء تخضب أيدي الندماء )
( والريح تعبث بالغصون وقد جرى ... ذهب الأصيل على لجين الماء )
والقائل
( حث المدامة والنسيم عليل ... والظل خفاق الرواق ظليل )
( والروض مهتز المعاطف نعمة ... نشوان تعطفه الصبا فيميل )
( ريان فضضه الندى ثم انجلى ... عنه فذهب صفحتيه أصيل ) والقائل
( أذن الغمام بديمة وعقار ... فامزج لجينا منهما بنضار )
( واربع على حكم الربيع بأجرع ... هزج الندامى مفصح الأطيار )
( متقسم الألحاظ بين محاسن ... من ردف رابية وخصر قرار )
( نثرت بحجر الروض فيه يد الصبا ... درر الندى ودراهم الأنوار )
( وهفت بتغريد هنالك أيكة ... خفاقة بمهب ريح عرار )
( هزت له أعطافها ولربما ... خلعت عليه ملاءة النوار )

( وواعدتها والشمس تجنح للنوى ... بزورتها شمسا وبدر الدجى يسري )
( فجاءت كما يمشي سنا الصبح في الدجى ... وطورا كما مر النسيم على النهر )
( فعطرت الآفاق حولي فأشعرت ... بمقدمها والعرف يشعر بالزهر )
( فتابعت بالتقبيل آثار سعيها ... كما يتقصى قارئ أحرف السطر )
( فبت بها والليل قد نام والهوى ... تنبه بين الغصن والحقف والبدر )
( أعانقها طورا وألثم تارة ... إلى أن دعتنا للنوى راية الفجر )
( ففضت عقودا للتعانق بيننا ... فيا ليلة القدر اتركي ساعة النفر ) وهل منكم من قيد بالإحسان فأطلق لسانه الشكر فقال وهو ابن اللبانة
( بنفسي وأهلي جيرة ما استعنتهم ... على الدهر إلا وانثنيت معانا )
( أراشوا جناحي ثم بلوه بالندى ... فلم أستطع من أرضهم طيرانا ) ومن يقول وقد قطع عنه ممدوحه ما كان يعتاده منه من الإحسان فقابل ذلك بقطع مدحه له فبلغه أنه عتبه على ذلك وهو ابن وضاح
( هل كنت إلا طائرا بثنائكم ... في دوح مجدكم أقوم وأقعد )
( إن تسلبوني ريشكم وتقلصوا ... عني ظلالكم فكيف أغرد )
وهل منكم شاعر رأى الناس قد ضجوا من سماع تشبيه الثغر بالأقاح وتشبيه الزهر بالنجوم وتشبيه الخدود بالشقائق فتلطف لذلك في أن يأتي به في منزع يصير خلقه في الأسماع جديدا وكليله في الأفكار حديدا فأغرب أحسن إغراب وأعرب عن فهمه بحسن تخيله أنبل إعراب وهو ابن الزقاق
( وأغيد طاف بالكؤوس ضحى ... وحثها والصباح قد وضحا )
( والروض أهدى لنا شقائقه ... وآسه العنبري قد نفحا )
( قلنا وأين الأقاح قال لنا ... أودعته ثغر من سقى القدحا )
( فظل ساقي المدام يجحد ما ... قال فلما تبسم افتضحا )
وقال
( أديراها على الروض المندى ... وحكم الصبح في الظلماء ماضي )
( وكأس الراح تنظر عن حباب ... ينوب لنا عن الحدق المراض )
( وما غربت نجوم الأفق لكن ... نقلن من السماء إلى الرياض ) وقال
( ورياض من الشقائق أضحت ... يتهادى بها نسيم الرياح )
( زرتها والغمام يجلد منها ... زهرات تروق لون الراح )
( قلت ما ذنبها فقال مجيبا ... سرقت حمرة الخدود الملاح )
فانظر كيف زاحم بهذا الاختيال المخترعين وكيف سابق بهذا اللفظ المبتدعين وهل منكم من برع في أوصاف الرياض والمياه وما يتعلق بذلك فانتهى إلى راية السباق وفضح كل من طمع بعده في اللحاق وهو أبو إسحاق ابن خفاجة القائل
( وعشي أنس أضجعتنا نشوة ... فيها يمهد مضجعي ويدمث )
( خلعت علي بها الأراكة ظلها ... والغصن يصغي والحمام يحدث )
( والشمس تجنح للغروب مريضة ... والرعد يرقي والغمامة تنفث )
والقائل
( لله نهر سال في بطحاء ... أشهى ورودا من لمى الحسناء )
( متعطف مثل السوار كأنه ... والزهر يكنفه مجر سماء )
( قد رق حتى ظن قرصا مفرغا ... من فضة في بردة خضراء )
( وغدت تحف به الغصون كأنها ... هدب تحف بمقلة زرقاء )
( ولطالمها عاطيت فيه مدامة ... صفراء تخضب أيدي الندماء )
( والريح تعبث بالغصون وقد جرى ... ذهب الأصيل على لجين الماء )
والقائل
( حث المدامة والنسيم عليل ... والظل خفاق الرواق ظليل )
( والروض مهتز المعاطف نعمة ... نشوان تعطفه الصبا فيميل )
( ريان فضضه الندى ثم انجلى ... عنه فذهب صفحتيه أصيل ) والقائل
( أذن الغمام بديمة وعقار ... فامزج لجينا منهما بنضار )
( واربع على حكم الربيع بأجرع ... هزج الندامى مفصح الأطيار )
( متقسم الألحاظ بين محاسن ... من ردف رابية وخصر قرار )
( نثرت بحجر الروض فيه يد الصبا ... درر الندى ودراهم الأنوار )
( وهفت بتغريد هنالك أيكة ... خفاقة بمهب ريح عرار )
( هزت له أعطافها ولربما ... خلعت عليه ملاءة النوار )

( وأغيد طاف بالكؤوس ضحى ... وحثها والصباح قد وضحا )
( والروض أهدى لنا شقائقه ... وآسه العنبري قد نفحا )
( قلنا وأين الأقاح قال لنا ... أودعته ثغر من سقى القدحا )
( فظل ساقي المدام يجحد ما ... قال فلما تبسم افتضحا )
وقال
( أديراها على الروض المندى ... وحكم الصبح في الظلماء ماضي )
( وكأس الراح تنظر عن حباب ... ينوب لنا عن الحدق المراض )
( وما غربت نجوم الأفق لكن ... نقلن من السماء إلى الرياض ) وقال
( ورياض من الشقائق أضحت ... يتهادى بها نسيم الرياح )
( زرتها والغمام يجلد منها ... زهرات تروق لون الراح )
( قلت ما ذنبها فقال مجيبا ... سرقت حمرة الخدود الملاح )
فانظر كيف زاحم بهذا الاختيال المخترعين وكيف سابق بهذا اللفظ المبتدعين وهل منكم من برع في أوصاف الرياض والمياه وما يتعلق بذلك فانتهى إلى راية السباق وفضح كل من طمع بعده في اللحاق وهو أبو إسحاق ابن خفاجة القائل
( وعشي أنس أضجعتنا نشوة ... فيها يمهد مضجعي ويدمث )
( خلعت علي بها الأراكة ظلها ... والغصن يصغي والحمام يحدث )
( والشمس تجنح للغروب مريضة ... والرعد يرقي والغمامة تنفث )
والقائل
( لله نهر سال في بطحاء ... أشهى ورودا من لمى الحسناء )
( متعطف مثل السوار كأنه ... والزهر يكنفه مجر سماء )
( قد رق حتى ظن قرصا مفرغا ... من فضة في بردة خضراء )
( وغدت تحف به الغصون كأنها ... هدب تحف بمقلة زرقاء )
( ولطالمها عاطيت فيه مدامة ... صفراء تخضب أيدي الندماء )
( والريح تعبث بالغصون وقد جرى ... ذهب الأصيل على لجين الماء )
والقائل
( حث المدامة والنسيم عليل ... والظل خفاق الرواق ظليل )
( والروض مهتز المعاطف نعمة ... نشوان تعطفه الصبا فيميل )
( ريان فضضه الندى ثم انجلى ... عنه فذهب صفحتيه أصيل ) والقائل
( أذن الغمام بديمة وعقار ... فامزج لجينا منهما بنضار )
( واربع على حكم الربيع بأجرع ... هزج الندامى مفصح الأطيار )
( متقسم الألحاظ بين محاسن ... من ردف رابية وخصر قرار )
( نثرت بحجر الروض فيه يد الصبا ... درر الندى ودراهم الأنوار )
( وهفت بتغريد هنالك أيكة ... خفاقة بمهب ريح عرار )
( هزت له أعطافها ولربما ... خلعت عليه ملاءة النوار )

( والشمس تجنح للغروب مريضة ... والرعد يرقي والغمامة تنفث )
والقائل
( لله نهر سال في بطحاء ... أشهى ورودا من لمى الحسناء )
( متعطف مثل السوار كأنه ... والزهر يكنفه مجر سماء )
( قد رق حتى ظن قرصا مفرغا ... من فضة في بردة خضراء )
( وغدت تحف به الغصون كأنها ... هدب تحف بمقلة زرقاء )
( ولطالمها عاطيت فيه مدامة ... صفراء تخضب أيدي الندماء )
( والريح تعبث بالغصون وقد جرى ... ذهب الأصيل على لجين الماء )
والقائل
( حث المدامة والنسيم عليل ... والظل خفاق الرواق ظليل )
( والروض مهتز المعاطف نعمة ... نشوان تعطفه الصبا فيميل )
( ريان فضضه الندى ثم انجلى ... عنه فذهب صفحتيه أصيل ) والقائل
( أذن الغمام بديمة وعقار ... فامزج لجينا منهما بنضار )
( واربع على حكم الربيع بأجرع ... هزج الندامى مفصح الأطيار )
( متقسم الألحاظ بين محاسن ... من ردف رابية وخصر قرار )
( نثرت بحجر الروض فيه يد الصبا ... درر الندى ودراهم الأنوار )
( وهفت بتغريد هنالك أيكة ... خفاقة بمهب ريح عرار )
( هزت له أعطافها ولربما ... خلعت عليه ملاءة النوار )

والقائل
( سقيا لها من بطاح خز ... ودوح نهر بها مطل )
( إذ لا ترى غير وجه شمس ... أطل فيه عذار ظل ) والقائل
( نهر كما سال اللمى سلسال ... وصبا بليل ذيلها مكسال )
( ومهب نفحة روضة مطلولة ... في جانبيها للنسيم مجال )
( غازلتها والأقحوانة مبسم ... والآس صدغ والبنفسج خال ) والقائل
( وساق كحيل اللحظ في شأو حسنه ... جماح وبالصبر الجميل حران )
( ترى للصبا نارا بخديه لم يثر ... لها من سوادي عارضيه دخان )
( سقاها وقد لاح الهلال عشية ... كما اعوج في درع الكمي سنان )
( عقارا نماها الكرم فهي كريمة ... ولم تزن بابن المزن فهي حصان )
( وقد جال من جون الغمامة أدهم ... له البرق سوط والشمال عنان )
( وضمخ درع الشمس نحر حديقة ... عليه من الطل السقيط جمان )
( ونمت بأسرار الرياض خميلة ... لها النور ثغر والنسيم لسان ) والقائل في وصف فرس ولم يخرج عن طريقته
( وأشقر تضرم منه الوغى ... بشعلة من شعل الباس )
( من جلنار ناضر لونه ... وأذنه من ورق الآس )
( يطلع للغرة في شقرة ... حبابة تضحك في كاس )

وهل منكم من يقول منادما لنديمه وقد باكر روضا بمحبوب وكأس فألفاه قد غطى محاسنه ضباب فخاف أن يكسل نديمه عن الوصول إذا رأى ذلك وهو أبو الحسن افبن بسام
( ألا بادر فما ثان سوى ما ... عهدت الكأس والبدر التمام )
( ولا تكسل برؤيته ضبابا ... تغص به الحديقة والمدام )
( فإن الروض ملتثم إلى أن ... توافيه فينحط اللثام )
وهل منكم من تغزل في غلام حائك بمثل قول الرصافي
( قالوا وقد أكثروا في حبه عذلي ... لو لم تهم بمذال القدر مبتذل )
( فقلت لو كان أمري في الصبابة لي ... لاخترت ذاك ولكن ليس ذلك لي )
( علقته حببي الثغر عاطره ... حلو اللمى ساحر الأجفان والمقل )
( غزيل لم تزل في الغزل جائلة ... بنانه جولان الفكر في الغزل )
( جذلان تلعب بالمحواك أنمله ... على السدى لعب الأيام بالأمل )
( ضما بكفيه أو فحصا بأخمصه ... تخبط الظبي في أشراك محتبل ) ومثل قوله في تغلب مسكة الظلام على خلوق الأصيل
( وعشي رائق منظره ... قد قطعناه على صرف الشمول )
( وكأن الشمس في أثنائه ... ألصقت بالأرض خدا للنزول )
( والصبا ترفع أذيال الربى ... ومحيا الجو كالنهر الصقيل )
( حبذا منزلنا مغتبقا ... حيث لا يطرقنا غير الهديل )

( طائر شاد وغصن منثن ... والدجى تشرب صهباء الأصيل )
وهل منكم من يقول في موشح فيما يجره هذا المعنى رداء الأصيل تطويه كف الظلام وهو أبو قاسم بن الفرس
وهل منكم من زصف غلاما جميل الصورة راقصا بمثل قول ابن خروف
( ومنزع الحركات يلعب بالنهى ... لبس المحاسن عند خلع لباسه )
( متأودا كالغصن وسط رياضه ... متلاعبا كالظبي عند كناسه )
( بالعقل يلعب مقبلا أو مدبرا ... كالدهر يلعب كيف شاء بناسه )
( ويضم للقدمين منه رأسه ... كالسيف ضم ذبابه لرئاسه
وهل منكم من وصف خالا بأحسن من قول النشار
( ألوامي على كلفي بيحيى ... متى من حبه أرجو سراحا )
( وبين الخد والشفتين خال ... كزنجي أتى روضا صباحا )
( تحير في جناه فليس يدري ... أيجني الورد أم يجني الأقاحا )
وهل منكم الذي اهتدى إلى معنى في لثم وردة الخد ورشف رضاب الثغر لم يهتد إليه أحد غيره وهو أبو الحسن سلام بن سلام المالقي في قوله

( لما ظفرت بليلة من وصله ... والصب غير الوصل لا يشفيه )
( أنضجت وردة خده بتنفسي ... وطفقت أرشف ماءها من فيه )
وهل منكم من هجا من غير النطق بإقذاع فبلغ ما لم يبلغه المقذع وهو المخزومي في قوله
( يود عيسى نزول عيسى ... عساه من دائه يريح )
( وموضع الداء منه عضو ... لا يرتضي مسه المسيح )
ولما أقذع أتى أيضا بأبدع فقال
( يا فارس الخيل ولا فارس ... إلا على متن جواد الخصى )
( زدت على موسى وآياته ... تفجر الماء وتخفي العصا )
وهل منكم من مدح بمعنى فبلغ به النهاية من المدح ثم نقله إلى الهجاء فبلغ به النهاية من الذم وهو اليكي في قوله مادحا
( قوم لهم شرف العلا في حمير ... وإذا انتموا لمتونة فهم هم )
( لما حووا أحراز كل فضيلة ... غلب الحياء عليهم فتلثموا )
وفي قوله هاجيا
( إن المرابط باخل بنواله ... لكنه بعياله يتكرم )

( الوجه منه مخلق بقبيح ما ... يأتيه فهو من اجله يتلثم )
وهل منكم من هجا أشتر العين بمثل قول أبي العباس بن حنون الإشبيلي
( يا طلعة أبدت قبائح جمة ... فالكل منها إن نظرت قبيح )
( أبعينك الشتراء عين ثرة ... منها ترقرق دمعها المسفوح )
( شترت فقلنا زورق في لجة ... مالت بإحدى دفتيه الريح )
( وكأنما إنسانها ملاحها ... قد خاف من غرق فظل يميح )
وهل منكم من حضر مع عدو له جاحد لما فعله معه من الخير وأمامهما زجاجة سوداء فيها خمر فقال له الحسود المذكور إن كنت شاعرا فقل في هذه فقال ارتجالا وهو ابن مجبر
( سأشكو إلى الندمان أمر زجاجة ... تردت بثوب حالك اللون أسحم )
( نصب بها شمس المدامة بيننا ... فتغرب في جنح من الليل مظلم )
( وتجحد أنوار الحميا بلونها ... كقلب حسود جاحد يد منعم )
وهل منكم من قال لفاضل جمع بينه وبين فاضل وهو أبو جعفر الذهبي

( أيها الفاضل الذي قد هداني ... نحو من قد حمدته باختبار )
( شكر الله ما أتيت وجازا ك ... ولا زلت نجم هدى لساري )
( أي برق أفاد أي غمام ... وصباح أدى لضوء نهار )
( وإذا ما غدا النسيم دليلي ... لم يحلني إلا على الأزهار )
وهل منكم أعمى قال في ذهاب بصره وسواد شعره وهو التطيلي
( أما اشتفت مني الأيام في وطني ... حتى تضايق فيما عن من وطري )
( ولا قضت من سواد العين حاجتها ... حتى تكر على ما طل في الشعر ) وهل منكم الذي طار في مشارق الأرض ومغاربها قوله وهو أبو القاسم محمد بن هانئ الإلبيري
( فتقت لكم ريح الجلاد بعنبر ... وأمدكم فلق الصباح المسفر )
( وجنيتم ثمر الوقائع يانعا ... بالنصر من ورق الحديد الأخضر )
وقد سمعت فائيته في النجوم ولولا طولها لأنشدتها هنا فإنها أحسن ما قيل في معناها وهل منكم من قال في الزهد مثل قول أبي وهب العباسي القرطبي
( أنا في حالتي التي قد تراني ... إن تأملت أحسن الناس حالا )
( منزلي حيث شئت من مستقر الأرض ... أسقى من المياه زلالا )
( ليس لي كسوة أخاف عليها ... من مغير ولا ترى لي مالا )
( أجعل الساعد اليمين وسادي ... ثم أثني إذا انقلبت الشمالا )

( ليس لي والد ولا مولود ... ولا لي حزت مذ عقلت عيالا )
( قد تلذذت حقبة بأمور ... فتأملتها فكانت خيالا )
ومثل قول أبي محمد عبد الله بن العسال الطليطلي
( أنظر الدنيا فإن أبصرتها شيئا يدوم فاغد منها في أمان إن يساعدك النعيم وإذا أبصرتها منك ... على كره تهيم )
( فاسل عنها واطرحها ... وارتحل حيث تقيم ) وهل نشأ عندكم من النساء مثل ولادة المروانية التي تقول مداعبة للوزير ابن زيدون وكان له غلام اسمه ( علي )
( ما لابن زيدون على فضله ... يغتابني ظلما ولا ذنب لي )
( ينظرني شزرا إذا جئته ... كأنما جئت لأخصي علي )
ومثل زينب بنت زياد المؤدب الوادي آشية التي تقول
( ولما أبى الواشون إلا فراقنا ... وما لهم عندي وعندك من ثار )
( وشنوا على أسماعنا كل غارة ... وقل حماتي عند ذاك وأنصاري )
( غزوتهم من مقلتيك وأدمعي ... ومن نفسي بالسيف والماء والنار )
وأنا أختم هذه القطع المتخيرة بقول أبي بكر ابن بقي ليكون الختام مسكا
( عاطيته والليل يسحب ذيله ... صهباء كالمسك الفتيق لناشق )
( وضممته ضم الكمي لسيفه ... وذؤابتاه حمائل في عاتقي )
( حتى إذا مالت به سنة الكرى ... زحزحته شيئا وكان معانقي
( باعدته عن أضلع تشتاقه ... كيلا ينام على وساد خافق )
ويقول القاضي أبي حفص ابن عمر القرطبي
( هم نظروا لواحظها فهاموا ... وتشرب لب شاربها المدام )
( يخاف الناس مقلتها سواها ... أيذعر قلب حامله الحسام )
( سما طرفي إليها وهو باك ... وتحت الشمس ينسكب الغمام )
( وأذكر قدها فأنوح وجدا ... على الأغصان تنتدب الحمام )
( وأعقب بينها في الصدر غما ... إذا غربت ذكاء أتى الظلام )
وبقوله أيضا
( لها ردف تعلق في لطيف ... وذاك الردف لي ولها ظلوم )
( يعذبني إذا فكرت فيه ... ويتعبها إذا رامت تقوم )
وقد أطلت عنان النظم على أني اكتفيت عن الاستدلال على النهار بالصباح فبالله إلا ما أخبرتني من شاعركم الذي تقابلون به شاعرا ممن ذكرت لا أعرف لكم أشهر ذكرا وما أضخم شعرا من أبي العباس الجراوي

( عاطيته والليل يسحب ذيله ... صهباء كالمسك الفتيق لناشق )
( وضممته ضم الكمي لسيفه ... وذؤابتاه حمائل في عاتقي )
( حتى إذا مالت به سنة الكرى ... زحزحته شيئا وكان معانقي
( باعدته عن أضلع تشتاقه ... كيلا ينام على وساد خافق )
ويقول القاضي أبي حفص ابن عمر القرطبي
( هم نظروا لواحظها فهاموا ... وتشرب لب شاربها المدام )
( يخاف الناس مقلتها سواها ... أيذعر قلب حامله الحسام )
( سما طرفي إليها وهو باك ... وتحت الشمس ينسكب الغمام )
( وأذكر قدها فأنوح وجدا ... على الأغصان تنتدب الحمام )
( وأعقب بينها في الصدر غما ... إذا غربت ذكاء أتى الظلام )
وبقوله أيضا
( لها ردف تعلق في لطيف ... وذاك الردف لي ولها ظلوم )
( يعذبني إذا فكرت فيه ... ويتعبها إذا رامت تقوم )
وقد أطلت عنان النظم على أني اكتفيت عن الاستدلال على النهار بالصباح فبالله إلا ما أخبرتني من شاعركم الذي تقابلون به شاعرا ممن ذكرت لا أعرف لكم أشهر ذكرا وما أضخم شعرا من أبي العباس الجراوي

وأولى لكم أن تجحدوا فخره وتنسوا ذكره فقد كفاكم ما جرى من الفضيحة عليكم في قوله من قصيدة يمدح بها خليفة
( إذا كان أملاك الزمان أراقما ... فإنك فيهم دائم الدهر ثعبان )
فما أقبح ما وقع ( ( ثعبان ) ) وما أضعف ما جاء ( ( دائم الدهر ) ) ولقد أنشدت أحد ظرفاء الأندلس هذا البيت فقال لا ينكر هذا على مثل الجراوي فسبحان من جعل نسبه وروحه وشعره تتناسب في الثقالة وإن أردت الافتخار بالفرسان والتفاضل بالشجعان فمن كان قبلنا منهم في مدة المنصور بن أبي عامر ومدة ملوك الطوائف أخبارهم مشهورة وآثارهم مذكورة وكفاك من أبطال عصرنا ما سمعت عن الأمير أبي عبد الله ابن مردنيش وأنه كان يدفع في المواكب ويشقها يمينا ويسارا منشدا
( أكر على الكتيبة لا أبالي ... أحتفي كان فيها أم سواها ) حتى أنه دفع يوما في موكب من النصارى فصرع وقتل وظهر منه ما أعجبت به نفسه فقال لشيخ من خواصه عالم بأمور الحرب مشهور بها كيف رأيت فقال له لو رآك السلطان زاد فيما لك في بيت المال وأعلى مرتبتك أمن يكون رأس جيش يقدم هذا الإقدام ويتعرض بهلاك نفسه إلى هلاك جيشه فقال له دعني فإني لا أموت مرتين وإذا مت أنا فلا عاش من بعدي
والقائد أبو عبد الله ابن قادس الذي اشتهر من شجاعته ومواقعه في النصارى وحسن بلائه ما صير النصارى من رعبه والإقرار بفضله في هذا الشأن أن يقول

أحدهم لفرسه إذا سقاه فلم يقبل على الماء ما لك أرأيت ابن قادس في الماء وهذه مرتبة عظيمة
( والفضل ما شهدت به الأعداء ... ) ولقد أخبرني من أثق به أنه خرج من عسكر في كتيبة مجردة برسم الغارة على بلاد النصارى فوقع في جمع كبير منهم فجهد جهده في الخلاص منهم والرجوع إلى العسكر فجعل يقاتل مع أصحابه في حالة الفرار إلى أن كبا بأحد جنده فرسه وفر عنه فناداه مستغيثا فقال اصبر ثم نظر إلى فارس من النصارى قد طرق فقال اجر إلى هذا النصراني فخذ فرسه وركض نحوه فأسقطه وقال لصاحبه اركب فركب ونجا معه سالما وأمثال هذا كثير وإنما جئت بحصاة من ثبير وأما كرم النفس وشمائل الرياسة فأنا أحكي لك حكاية تتعجب منها وهي مما جرى في عصرنا وذلك أن أبا بكر بن زهر نشأت بينه وبين الحافظ أبي بكر ابن الجد عداوة مفرطة للاشتراك في العلم والرياسة وكثرة المال والبلدية فأجرى ابن زهر يوما ذكره في جماعة من أصحابه وقال لقد آذانا هذا الرجل أشد أذية ولم يقصر في القول عند أمير المؤمنين وعند خواص الناس وعوامهم فقال له أحد عوامهم إني أذكر لك عليه عقدا فيه مخاصمة في موضع مما يعز عليه من مواضعه ومتى خاصمته في ذلك بلغت منه في النكاية أشد مبلغ فحرج ابن زهر وأظهر الغضب الشديد والإنكار لذلك وقال لوكيله أمثلي يجازي على العداوة بما يجازى به السفل والأوباش وإني أجعل ابن الجد في حل من موضع الخصام وأمر بأن يحمل له العقد ثم قال وإني

والله ما أروم بذلك أن أصالحه فإن عداوته من حسد وأنا أسأل الله تعالى أن يديمها لأنها مقترنة بدوام نعم الله علي
وإن تعرضت إلى ذكر البلاد وتفسير محاسنها وما خصها الله تعالى به مما حرمها غيرها فاسمع ما يميت الحسود كمدا أما إشبيلية فمن محاسنها اعتدال الهواء وحسن المباني وتزيين الخارج والداخل وتمكن التمصر حتى أن العامة تقول لو طلب لبن الطير في إشبيلية وجد ونهرها الأعظم الذي يصعد المد فيه اثنين وسبعين ميلا ثم يحسر وفيه يقول ابن سفر
( شق النسيم عليه جيب قميصه ... فانساب من شطيه يطلب ثاره )
( فتضاحكت ورق الحمام بدوحها ... هزءا فضم من الحياء إزاره )
وزيادته على الأنهار كون ضفتيه مطرزتين بالمنازه والبساتين والكروم والأنشام متصل ذلك اتصالا لا يوجد على غيره
وأخبرني شخص من الأكياس دخل مصر وقد سألته عن نيلها أنه لا تتصل بشطيه البساتين والمنازه اتصالها بنهر إشبيلية وكذلك أخبرني شخص آخر دخل بغداد وقد سعد هذا الوادي بكونه لا يخلو من مسرة وأن جميع ادوات الطرب وشرب الخمر فيه غير منكر لا ناه عن ذلك ولا منتقد ما لم يؤد السكر إلى شر وعربدة وقد رام من وليها من الولاة المظهرين للدين قطع ذلك فلم يستطيعوا إزالته وأهله أخف الناس أرواحا وأطبعهم نوادر وأحملهم لمزاح بأقبح ما يكون من السب قد مرنوا على ذلك فصار لهم ديدنا حتى صار عندهم من لا يبتذل فيه ولا يتلاعن ممقوتا ثقيلا
وقد سمعت عن شرف إشبيلية الذي ذكره أحد الوشاحين في موشحة مدح بها المعتضد بن عباد

( إشبيليا عروس ... وبعلها عباد )
( وتاجها الشرف ... وسلكها الواد )
أي شرف قد حاز ما شاء من الشرف إذ عم أقطار الأرض خيره وسفر ما يعصر من زيتونه من الزيت حتى بلغ الإسكندرية وتزيد قراه على غيرها من القرى بانتخاب مبانيها وتهمم سكانها فيها داخلا وخارجا إذ هي من تبييضهم لها نجوم في سماء الزيتون وقيل لأحد من رأى مصر والشام أيها رأيت أحسن هذان أم إشبيلية فقال بعد تفضيل إشبيلية وشرفها غابة بلا أسد ونهرها نيل بلا تمساح
وقد سمعت عن جبال الرحمة بخارجها وكثرة ما فيها من التين القوطي والشعري وهذان الصنفان أجمع المتجولون في أقطار الأرض أن ليس في غير إشبيلية مثل لهما وقد سمعت ما في هذا البلد من أصناف أدوات الطرب كالخيال والكريج والعود والروطة والرباب والقانون والمؤنس والكثيرة والفنار والزلامي والشقرة والنورة - وهما مزماران الواحد غليظ الصوت والآخر رقيقه - والبوق وإن كان جميع هذا موجودا في غيرها من بلاد الأندلس فإنه فيها أكثر وأوجد وليس في بر العدوة من هذا شيء إلا ما جلب إليه من الأندلس وحسبهم الدف وأقوال واليرا وأبو قرون ودبدبة السودان وحماقي البرابر وأما جواريها ومراكبها برا وبحرا ومطابخها وفواكهها الخضراء واليابسة فأصناف

أخذت من التفضيل بأوفر نصيب وأما مبانيها فقد سمعت عن إتقانها واهتمام أصحابها بها وكون أكثر ديارها لا تخلو من الماء الجاري والأشجار المتكاثفة كالنارنج والليم والليمون والزنبوع وغير ذلك وأما علماؤها في كل صنف رفيع أو وضيع جدا أو هزلا فأكثر من أن يعدوا وأشهر من أن يذكروا وأما ما فيها من الشعراء والوشاحين والزجالين فما لو قسموا على بر العدوة ضاق بهم والكل ينالون خير رؤسائها ورفدهم وما من جميع ما ذكرت في هذه البلدة الشريفة إلا وقصدي به العبارة عن فضائل جميع الأندلس فما تخلو بلادها من ذلك ولكن جعلت إشبيلية بل الله جعلها أم قراها ومركز فخرها وعلاها إذ هي أكبر مدنها وأعظم أمصارها
وأما قرطبة فكرسي المملكة في القديم ومركز العلم ومنار التقى ومحل التعظيم والتقديم بها استقرت ملوك الفتح وعظماؤه ثم الملوك المروانية وبها كان يحيى بن يحيى راوية مالك وعبد الملك بن حبيب وقد سمعت من تعظيم أهلها للشريعة ومنافستهم في السؤدد بعلمها وأن ملوكها كانوا يتواضعون لعلمائها ويرفعون أقدارهم ويصدرون عن آرائهم وأنهم كانوا لا يقدمون وزيرا ولا مشاورا ما لم يكن عالما حتى أن الحكم المستنصر لما كره له العلماء شرب الخمر هم بقطع شجرة العنب من الأندلس فقيل له فإنها تعصر من سواها فأمسك عن ذلك وأنهم كانوا لا يقدمون أحدا للفتوى ولا لقبول الشهادة حتى يطول اختباره وتعقد له مجالس المذاكرة ويكون ذا مال في غالب الحال خوفا من أن يميل به الفقر إلى الطمع فيما في أيدي الناس فيبيع به حقوق الدين ولقد أخبرت أن الحكم الربضي أراد تقديم شخص من الفقهاء يختص به للشهادة فأخذ في ذلك مع يحيى بن يحيى وعبد الملك وغيرهما من أعلام العلماء فقالوا له هو أهل ولكنه شديد الفقر ومن

يكون في هذه الحالة لا تأمنه على حقوق المسلمين لا سيما وأنت تريد انتفاعه وظهوره في الدخول في المواريث والوصايا وأشباه ذلك فسكت ولم ير منازعتهم وبقي مهموما من كونهم لم يقبلوا قوله فنظر إليه ولده عبد الرحمن الذي ولي الملك بعده وعلى وجهه أثر ذلك فقال ما بالك يا مولاي فقال ألا ترى لهؤلاء الذين نقدمهم وننوه عند الناس بمكانهم حتى إذا كلفناهم ما ليس عليهم فيه شطط بل ما لا يعيبهم ولا هو مما يرزؤهم شيئا صدونا عنه وغلقوا أبواب الشفاعة وذكر له ما كان منهم فقال يا مولاي أنت أولى الناس بالإنصاف إن هؤلاء ما قدمتهم أنت ولا نوهت بهم وإنما قدمهم ونوه بهم علمهم أو كنت تأخذ قوما جهالا فتضعهم في مواضعهم قال لا قال فأنصفهم فيما تعبوا فيه من العلم لينالوا به لذة الدنيا وراحة الآخرة قال صدقت ثم قال وأما كونهم لم يقبلوا هذا الرجل لشدة فقره فالعلة في ذلك تنحسم بما يبقي لك في الصالحات ذكرا قال وما هو قال تعطيه من مالك قدر ما يلحق به من الغنى ما يؤهله لتلك المنزلة ويزيل عنك هذا خجل ردهم لك وتكون هذه مكرمة ما سبقك إليها أحد فتهلل وجه الحكم وقال إلي إلي إنها والله شنشنة عبشمية وإن الذي قال فينا لصادق
( وأبناء أملاك خضارم سادة ... صغيرهم عند الأنام كبير )
ثم استدعى عبد الملك بن حبيب وسأله عن قدر ما يؤهله لتلك المرتبة من الغنى فذكر له عددا فأمر له به في الحين ونبه قدره بأن أعطاه من إصطبله مركوبا وكانت هذه أكرومة لا خفاء بعظمها

( يفنى الزمان وما بنته مخلد ... )
ثم إنه إذا كان له من الغنى ما يكفه عن أموال الناس ومن الدين ما يصده عن محارم الله تعالى ومن العلم ما لا يجهل به التصرف في الشريعة أباحوا له الفتوى والشهادة وجعلوا علامة لذلك بين الناس القالس والرداء
وأهل قرطبة أشد الناس محافظة على العمل بأصح الأقوال المالكية حتى أنهم كانوا لا يولون حاكما إلا بشرط أن لا يعدل في الحكم عن مذهب ابن القاسم
وقال ابن سارة لما دخل قرطبة
( الحمد لله قد وافيت قرطبة ... دار العلوم وكرسي السلاطين )
وهي كانت مجمع جيوش الإسلام ومنها نصر الله على عبدة الصليب
يقال إن المنصور بن أبي عامر - حين تم له ملك البرين وتوفرت الجيوش والأموال - عرض بظاهر قرطبة خيله ورجله وقد جمع من أقطار البلاد ما ينهض به إلى قتال العدو وتدويخ بلاده فنيف الفرسان على مائتي ألف والرجالة على ستمائة ألف
وبها حتى الآن من صناديد المسلمين وقوادهم من لا يفتر عن محاربة ولا يمل من مضاربة من أسماؤهم بأقاصي بلاد النصارى مشهورة وآثارهم فيها مأثورة وقلوبهم على البعد بخوفهم معمورة ويحكى أن العمارة في مباني قرطبة والزاهرة اتصلت إلى أن كان يمشى فيها لضوء السرج المتصلة عشرة أميال وأما جامعها الأعظم فقد سمعت أن ثرياته من نواقيس النصارى وأن الزيادة التي زاد في بنائه ابن أبي عامر من تراب نقله النصارى على رؤوسهم مما هدم من كنائس بلادهم وقد

سمعت أيضا عن قنطرتها العظمى وكثرة أرحي واديها يقال إنها تنيف على خمسة آلاف حجر وقد سمعت عن كنبانيتها وما فضل الله تعالى به تربها من بركة وما ينبت فيها من القمح وطيبه وفيها جبال الورد الذي بلغ الربع منه مرات إلى ربع درهم وصار أصحابه يرون الفضل لمن قطف بيده ما يمنحونه منه ونهرها إن صغر عندها عن عظمه عند إشبيلية فإن لتقارب بريه هنالك وتقطع غدره ومروجه معنى آخر وحلاوة أخرى وزيادة أنس وكثرة أمان من الغرق وفي جوانبه من البساتين والمروج ما زاده نضارة وبهجة
وأما جيان فإنها لبلاد الأندلس قلعة إذ هي أكثرها زرعا وأصرمها أبطالا وأعظمها منعة وكم رامتها من عساكر النصارى عند فترات الفتن فرأوها أبعد من العيوق وأعز منالا من بيض الأنوق ولا خلت من علماء ولا من شعراء ويقال لها ( ( جيان الحرير ) ) لكثرة اعتناء باديتها وحاضرتها بدود الحرير
ومما يعد في مفاخرها ما ببياسة إحدى بلاد أعمالها من الزعفران الذي يسفر برا وبحرا وما في أبدة من الكروم التي كاد العنب فيها لا يباع فيها ولا يشترى كثرة وما كان بأبدة من أصناف الملاهي والرواقص المشهورات بحسن الانطباع والصنعة فإنهن أحذق خلق الله تعالى باللعب بالسيوف والدك وإخراج القروى والمرابط والمتوجه
وأما غرناطة فإنها دمشق بلاد الأندلس ومسرح الأبصار ومطمح الأنفس لها القصبة المنيعة ذات الأسوار الشامخة والمباني الرفيعة وقد اختصت بكون النهر يتوزع على ديارها وحماماتها وأسواقها وأرحاها الداخلة والخارجة وبساتينها وزانها الله تعالى بأن جعلها مرتبة على بسيطها الممتد الذي تفرعت

فيه سبائك الأنهار بين زبرجد الأشجار ولنسيم نجدها وبهجة منظر حورها في القلوب والأبصار استلطاف يروق الطباع ويحدث فيها ماشاءه الإحسان من الاختراع والابتداع ولم تخل من أشراف أماثل وعلماء أكابر وشعراء افاضل ولو لم يكن لها إلا ما خصها الله تعالى به من كونها قد نبغ فيها من الشواعر مثل نزهون القلاعية وزينب بنت زياد وقد تقدم شعرهما وحفصة بنت الحاج وناهيك في الظرف والأدب وهل ترى أظرف منها في جوابها للوزير للحسيب الناظم الناثر أبي جعفر بن القائد الأجل أبي مروان بن سعيد وذلك أنهما باتا بحور مؤمل على ما يبيت به الروض والنسيم من طيب النفحة ونضارة النعيم فلما حان الانفصال قال أبو جعفر
( رعى الله ليلا لم يرع بمذمم ... عشية وارانا بحور مؤمل )
( وقد خفقت من نحو نجد أريجة ... إذا نفحت هبت بريا القرنفل )
( وغرد قمري على الدوح وانثنى ... قضيب من الريحان من فوق جدول )
( ترى الروض مسرورا بما قد بدا له ... عناق وضم وارتشاف مقبل ) وكتبه إليها بعد الافتراق لتجاوبه على عادتها في ذلك فكتبت له ما لا يخفى فيه قيمتها
( لعمرك ما سر الرياض بوصلنا ... ولكنه أبدى لنا الغل والحسد )
( ولا صفق النهر ارتياحا لقربنا ... ولا صدح القمري إلا بما وجد )
( فلا تحسن الظن الذي أنت أهله ... فما هو في كل المواطن بالرشد )
( فما خلت هذا الأفق أبدى نجومه ... لأمر سوى كيما تكون لنا رصد )
وأما مالقة فإنها قد جمعت بين منظر البحر والبر بالكروم المتصلة التي

لا تكاد ترى فيها فرجة لموضع غامر والبروج التي شابهت نجوم السماء كثرة عدد وبهجة ضياء وتخلل الوادي الزائر لها في فصلي الشتاء والربيع في سرر بطحائها وتوشيحه لخصور أرجائها ومما اختصت به من بين سائر البلاد التين الريي المنسوب إليها لأن اسمها في القديم رية ولقد أخبرت أنه يباع في بغداد على جهة الاستطراف وأما ما يسفر منه المسلمون والنصارى في المراكب البحرية فأكثر من أن يعبر عنه بما يحصره ولقد اجتزت بها مرة وأخذت على طريق الساحل من سهيل إلى أن بلغت إلى بليش قدر ثلاثة أيام متعجبا فيما حوته هذه المسافة من شجر التين وإن بعضها ليجتني جميعها الطفل الصغير من لزوقها بالأرض وقد حوت ما يتعب الجماعة كثرة وتين بليش هو الذي قيل فيه للبربري كيف رأيته قال لا تسألني عنه وصب في حلقي بالقفة وهو لعمر الله معذور لأنه نعمة حرمت بلاده منها وقد خصت بطيب الشراب الحلال والحرام حتى سار المثل بالشراب المالقي وقيل لأحد الخلعاء وقد أشرف على الموت اسأل ربك المغفرة فرفع يديه وقال يا رب أسألك من جميع ما في الجنة خمر مالقة وزبيبي إشبيلية وفيها تنسج الحلل الموشية التي تجاوز أثمانها الآلاف ذات الصور العجيبة المنتخبة برسم الخلفاء فمن دونهم وساحلها محط تجارة لمراكب المسلمين والنصارى
وأما المرية فإنها البلد المشهور الذكر العظيم القدر الذي خص أهله باعتدال المزاج ورونق الديباج ورقة البشرة وحسن الوجوه والأخلاق وكرم المعاشرة والصحبة وساحلها أنظف السواحل وأشرحها وأملحها منظرا

وفيها الحصى الملون العجيب الذي يجعله رؤساء مراكش في البراريد والرخام الصقيل الملوكي وواديها المعروف بوادي بجانة من أفرج الأودية ضفتاه بالرياض كالعذارين حول الثغر فحق أن ينشد فيها
( أرض وطئت الدر رضراضا بها ... والترب مسكا والرياض جنانا )
وفيها كان ابن ميمون القائد الذي قهر النصارى في البحر وقطع سفرهم فيه وضرب على بلاد الرمانية فقتل وسبى وملأ صدور أهلها رعبا حتى كان منه كما قال أشجع
( فإذا تنبه رعته وإذا غفا ... سلت عليه سيوفك الأحلام ) وبها كان محط مراكب النصارى ومجتمع ديوانهم ومنها كانت تسفر لسائر البلاد بضائعهم ومنها كانوا يوسقون جميع البضائع التي تصلح لهم وقصد بضبط ذلك بها حصر ما يجتمع في أعشارهم ولم يوجد لهذا الشأن مثلها لكونها متوسطة ومتسعة قائمة بالوارد والصادر وهي أيضا مصنع للحلل الموشية النفيسة وأما مرسية فإنها حاضرة شرق الأندلس ولأهلها من الصرامة والإباء ما هو معروف مشهور وواديها قسيم وادي إشبيلية كلاهما ينبع من شقورة وعليه من البساتين المتهدبة الأغصان والنواعير المطربة الألحان والأطيار المغردة والأزهار المتنضدة ما قد سمعت وهي من أكثر البلاد فواكه وريحانا وأهلها أكثر الناس راحات وفرجا لكون خارجها معينا على ذلك

بحسن منظره وهي بلدة تجهز منها العروس التي تنتخب شورتها لا تفتقر في شيء من ذلك إلى سواها وهي للمرية ومالقة في صنعة الوشي ثالثة وقد اختصت بالبسط التنتلية التي تسفر لبلاد المشرق وبالحصر التي تغلف بها الحيطان المبهجة للبصر إلى غير ذلك مما يطول ذكره ولم تخل من علماء وشعراء وابطال
وأما بلنسية فإنها لكثرة بساتينها تعرف بمطيب الأندلس ورصافتها من أحسن متفرجات الأرض وفيها البحيرة المشهورة الكثيرة الضوء والرونق ويقال إنه لمواجهة الشمس لتلك البحيرة يكثر ضوء بلنسية إذ هي موصوفة بذلك ومما خصت به النسيج البلنسي الذي يسفر لأقطار المغرب ولم تخل من علماء ولا شعراء ولا فرسان يكابدون معاقبة الأعداء ويتجرعون فيها النعماء ممزوجة بالضراء وأهلها أصلح الناس مذهبا وأمتنهم دينا وأحسنهم صحبة وأرفقهم بالغريب
وأما جزيرة ميورقة فمن أخصب بلاد الله تعالى أرجاء وأكثرها زرعا ورزقا وماشية وهي على انقطاعها من البلاد مستغنية عنها يصل فاضل خيرها إلى غيرها إذ فيها من الحضارة والتمكن والتمصر وعظم البادية ما يغنيها وفيها من الفوائد ما فيها ولها فضلاء وأبطال اقتصروا على حمايتها من الأعداء المحدقة بها
( من كل من جعل الحسام خليله ... لا يبتغي أبدا سواه معينا )
هذا - زان الله تعالى فضلك بالإنصاف وشرف كرمك بالاعتراف ما حضرني الآن في فضل جزيرة الأندلس ولم أذكر من بلادها إلا ما كل

بلد منها مملكة مستقلة يليها ملوك بني عبد المؤمن على انفراد وغيرها في حكم التبع
وأما علماؤها وشعراؤها فإني لم أعرض منهم إلا لمن هو في الشهرة كالصباح وفي مسير الذكر كمسير الرياح وأنا أحكي لك حكاية جرت لي في مجلس الفقيه الرئيس أبي بكر بن زهر وذلك أني كنت يوما بين يديه فدخل علينا رجل عجمي من فضلاء خراسان وكان ابن زهر يكرمه فقلت له ما تقول في علماء الأندلس وكتابهم وشعرائهم فقال كبرت فلم أفهم مقصده واستبردت ما أتى به وفهم مني أبو بكر بن زهر أني نظرته نظر المستبرد المنكر فقال لي أقرأت شعر المتنبي قلت نعم وحفظت جميعه قال فعلى نفسك إذن فلتنكر وخاطرك بقلة الفهم فلتتهم فذكرني بقول المتنبي
( كبرت حول ديارهم لما بدت ... منها الشموس وليس فيها المشرق )
فاعتذرت للخراساني وقلت له قد والله كبرت في عيني بقدر ما صغرت نفسي عندي حين لم أفهم نبل مقصدك فالحمد لله الذي أطلع من المغرب هذه الشموس وجعلها بين جميع أهله بمنزلة الرؤوس وصلى الله على سيدنا محمد نبيه المختار من صفوة العرب وعلى آله وصحبه صلاة متصلة إلى غابر الحقب
كملت رسالة الشقندي
ترجمة الشقندي
وهو أبو الوليد إسماعيل بن محمد وشقنده المنسوب إليها قرية مطلة

على نهر قرطبة مجاورة لها من جهة الجنوب قال ابن سعيد وهو ممن كان بينه وبين والدي صحبة أكيدة ومجالسات أنس عديدة ومزاورات تتصل ومحاضرات لا تكاد تنفصل وانتفعت بمجالسته وله رسالة في تفضيل الأندلس يعارض بها أبا يحيى في تفضيل بر العدوة أورد فيها من المحاسن ما يشهد له بلطافة المنزع وعذوبة المشرع وكان جامعا لفنون من العلوم الحديثة والقديمة وعني بمجلس المنصور فكانت له فيه مشاهد غير ذميمة وولي قضاء بياسة وقضاء لورقة ولم يزل محفوظ الجانب محمود المذاهب سمعته ينشد والدي قصيدة في المنصور وقد نهض للقاء العدو منها
( إذا نهضت فإن السيف منتهض ... ترمي السعود سهاما والعدا غرض )
( لك البسيطة تطويها وتنشرها ... فليس في كل ما تنويه معترض )
قال وسمعته يقول له أنشدت الوزير أبا سعيد ابن جامع قصيدة أولها
( استوقف الركب قد لاحت لك الدار ... واسأل بربع تناءت عنه أقمار )
( لا خفف الله عني بعد بينهم ... فإنني سرت والأجباب ما ساروا )
ومنها
( ألا رعى الله ظبيا في قبابهم ... منه لهم في ظلام الليل أنوار )
وله
( عللاني بذكر من همت فيه ... وعداني عنه بما أرتجيه )

( وإذا ما طربتما لارتياحي ... فاجعلا خمرتي مدامة فيه )
( ليت شعري وكم أطيل الأماني ... أي يوم في خلوة ألتقيه )
( وإذا ما ظفرت يوما بشكوى ... قال لي أين كل ما تدعيه )
( لا دموع ولا سقام فماذا ... شاهد عنك بالذي تدعيه )
( قلت دعني أمت بدائي فإني ... لو براني الغرام لا أبديه )
وقال في عودة لما مرض
( إني مرضت مرضة ... أسقط منها في يدي )
( فكان في الإخوان من ... لم أره في العود )
( فقلت في كلهم ... قول امرئ مقتصد )
( أير الذي قد عادني ... في است الذي لم يعد )
مات بإشبيلية سنة 629
استطراد في الإشادة بالأندلس
وقال ابن سعيد أنشدني والدي للحافظ أبي الطاهر السلفي قال وكفى به شاهدا وبقوله مفتخرا
( بلاد أذربيجان في الشرق عندنا ... كأندلس بالغرب في العلم والأدب )
( فما إن تكاد الدهر تلقى مميزا ... من اهليهما إلا وقد جد في الطلب )
وحكى غير واحد كابن الأبار أن عباس بن ناصح الشاعر لما توجه من قرطبة

إلى بغداد ولقي أبا نواس قال له أنشدني لأبي الأجرب قال فأنشدته ثم قال أنشدني لبكر الكناني فأنشدته وهذان شاعران من الأندلس
حكايات وأشعار أندلسية
واعلم أنا إن تتبعنا كلام الأندلسيين وحكاياتهم الدالة على سبقهم طال بنا الكتاب ولم نستوف المراد فرأينا أن نذكر بعضا من ذلك بحسب ما اقتضاه الحال وأبداه ليكون عنوانا دالا على ما عداه
( يكفي من الحلي ما قد حف بالعنق ) ولنبدأ ما نسوقه من أخبار الأندلسيين وأشعارهم وحكاياتهم في الجد والهزل والتولية والعزل بقول الفقيه الزاهد أبي عمران موسى بن عمران المارتلي وكان سكن إشبيلية
( لا تبك ثوبك إن أبليت جدته ... وابك الذي أبلت الأيام من بدنك )
( ولا تكونن مختالا بجدته ... فربما كان هذا الثوب من كفنك )
( ولا تعفه إذا أبصرته دنسا ... فإنما اكتسب الأوساخ من درنك ) وقال أبو عمرو اليحصبي اللوشي
( شرد النوم عن جفونك وانظر ... حكمة توقظ النفوس النياما )

( فحرام على امرئ لم يشاهد ... حكمة الله أن يذوق المناما )
وقال أيضا
( ليس للمرء اختيار في الذي ... يتمنى من حراك وسكون )
( إنما الأمر لرب واحد إن يشأ قال له كن فيكون وقال أبو وهب القرطبي
( تنام وقد أعد لك السهاد ... وتوقن بالرحيل وليس زاد )
( وتصبح مثل ما تمسي مضيعا ... كأنك لست تدري ما المراد )
( أتطمع أن تفوز غدا هنيئا ... ولم يك منك في الدنيا اجتهاد )
( إذا فرطت في تقديم زرع ... فكيف يكون من عدم حصاد )
وقيل إن الأبيات السابقة التي أولها أنا في حالتي التي - إلخ وجدت في تركته بخطه في شقف وبعضهم ينسبها لغيره واسم أبي وهب المذكور عبد الرحمن وذكره ابن بشكوال في الصلة وأثنى عليه بالزهد والانقطاع وكان في أول أمره قد حسب عامة الناس أنه مختل العقل فجعلوا يؤذونه ويرمونه بالحجارة ويصيحون عليه يا مجنون يا أحمق فيقول
( يا عاذلي أنت به جاهل ... دعني به لست بمغبون )
( أما تراني أبدا والها ... فيه كمسحور ومفتون )
( أحسن ما أسمع في حبه ... وصفي بمختل ومجنون )

وقال الخطيب أبو محمد ابن برطلة
( بأربعة أرجو نجاتي وإنها ل ... أكرم مذخور لدي وأعظم )
( شهادة إخلاصي وحبي محمدا ... وحسن ظنوني ثم أني مسلم )
وقال ابن حبيش
( قالوا تصبر عن الدنيا الدنية أو ... كن عبدها واصطبر للذل واحتمل ) لا بد من أحد الصبرين قلت نعم الصبر عنها بعون الله أوفق لي وقال ابن الشيخ
( أطلب لنفسك فوزها واصبر لها ... نظر الشفيق وخف عليها واتق )
( من ليس يرحم نفسه ويصدها ... عما سيهلكها فليس بمشفق )
وقال ابو محمد القرطبي
( لعمرك ما الدنياوسرعة سيرها ) بسكانها إلا طريق مجاز )
( حقيقتها أن المقام بغيرها ... ولكنهم قد أولعوا بمجاز ) وقال السمير
( لله في الدنيا وفي أهلها ... معميات قد فككناها )
( من بشر نحن فمن طبعنا ... نحب فيها المال والجاها )
( دعني من الناس ومن قولهم ... فإنما الناسك خلاها

( لم تقبل الدنيا على ناسك
إلا وبالرحب تلقاها )
( وإنما يعرض عن وصلها ... من صرفت عنه محياها ) وقال أبو القاسم بن بقي
( ألا إنما الدنيا كراح عتيقة ... أراد مديروها بها جلب الأنس )
( فلما أداروها أثارت حقودهم ... فعاد الذي راموا من الأنس بالعكس )
وقال أبو محمد عبد الله بن العسال الطليطلي
( انظر الدنيا فإن أبصرتها ... شيئا يدوم )
( فاغد منها في أمان ... إن يساعدك النعيم )
( وإذا أبصرتها منك ... على كره تهيم فاسل عنها واطرحها وارتحل حيث تقيم ) وقال ابن هشام القرطبي
( وأبي المدامة لا أريد بشربها ... صلف الرقيع ولا انهماك اللاهي ) ( لم يبق من عهد الشباب وطيبه ... شيء كعهدي لم يحل إلا هي )
( إن كنت أشربها لغير وفائها ... فتركتها للناس لا لله ) وقال أبو محمد ابن السيد البطليوسي مما نسبه إليه في ( المغرب )
( أخو العلم حي خالد بعد موته ... وأوصاله تحت التراب رميم )
( وذو الجهل ميت وهو ماش على الثرى ... يظن من الأحياء وهو عديم د )
وقال أبو الفضل بن شرف
( لعمرك ما حصلت على خطير ... من الدنيا ولا أدركت شيا )
( وها أنا خارج منها سليبا ... أقلب نادما كلتا يديا )
( وأبكي ثم أعلم أن مبكاي ... لا يجدي فأمسح مقلتيا )
( ولم أجزع لهول الموت لكن ... بكيت لقلة الباكي عليا )
( وأن الدهر لم يعلم مكاني ... ولا عرفت بنوه ما لديا )
( زمان سوف أنشر فيه نشرا ... إذا أنا بالحمام طويت طيا )
( أسر بأنني سأعيش ميتا ... به ويسوءني أن مت حيا ) وقال الزاهد العارف بالله سيدي أبو العباس بن العريف نفعنا الله تعالى به [ البسيط ]
( سلوا عن الشوق من أهوى فإنهم ... أدنى إلى النفس من وهمي ومن نفسي )
( فمن رسولي إلى قلبي ليسألهم ... عن مشكل من سؤال الصب ملتبس )
( حلوا فؤادي فما يندى ولو وطئوا ... صخرا لجاد بماء منه منبجس )
( وفي الحشا نزلوا والوهم يجرحهم ... فكيف قروا على أذكى من القبس )
( لأنهضن إلى حشري بحبهم ... لا بارك الله فيمن خانهم ونسي )
قلت وقد زرت قبره المعظم بمراكش سنة عشر وألف وهو ممن

وقال أبو الفضل بن شرف
( لعمرك ما حصلت على خطير ... من الدنيا ولا أدركت شيا )
( وها أنا خارج منها سليبا ... أقلب نادما كلتا يديا )
( وأبكي ثم أعلم أن مبكاي ... لا يجدي فأمسح مقلتيا )
( ولم أجزع لهول الموت لكن ... بكيت لقلة الباكي عليا )
( وأن الدهر لم يعلم مكاني ... ولا عرفت بنوه ما لديا )
( زمان سوف أنشر فيه نشرا ... إذا أنا بالحمام طويت طيا )
( أسر بأنني سأعيش ميتا ... به ويسوءني أن مت حيا ) وقال الزاهد العارف بالله سيدي أبو العباس بن العريف نفعنا الله تعالى به [ البسيط ]
( سلوا عن الشوق من أهوى فإنهم ... أدنى إلى النفس من وهمي ومن نفسي )
( فمن رسولي إلى قلبي ليسألهم ... عن مشكل من سؤال الصب ملتبس )
( حلوا فؤادي فما يندى ولو وطئوا ... صخرا لجاد بماء منه منبجس )
( وفي الحشا نزلوا والوهم يجرحهم ... فكيف قروا على أذكى من القبس )
( لأنهضن إلى حشري بحبهم ... لا بارك الله فيمن خانهم ونسي )
قلت وقد زرت قبره المعظم بمراكش سنة عشر وألف وهو ممن

يتبرك به في تلك الديار ويستسقى به الغيث وهو من أهل المرية وأحضره السلطان إلى مراكش فمات بها وله كرامات شهيرة ومقامات كبيرة نفعنا الله تعالى به واعلم أن أهل الأندلس كانوا في القديم على مذهب الأوزاعي وأهل الشام منذ أول الفتح ففي دولة الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل - وهو ثالث الولاة بالأندلس من الأمويين - انتقلت الفتوى إلى رأي مالك بن أنس وأهل المدينة فانتشر علم مالك ورأيه بقرطبة والأندلس جميعا بل والمغرب وذلك برأي الحكم واختياره واختلفوا في السبب المقتضي لذلك فذهب الجمهور إلى أن سببه رحلة علماء الأندلس إلى المدينة فلما رجعوا إلى الأندلس وصفوا فضل مالك وسعة علمه وجلالة قدره فأعظموه كما قدمنا ذلك وقيل إن الإمام مالكا سأل بعض الأندلسيين عن سيرة ملك الأندلس فوصف له سيرته فأعجبت مالكا لكون سيرة بني العباس في ذلك الوقت لم تكن بمرضية وكابد لما صنع أبو جعفر المنصور بالعلوية بالمدينة من الحبس والإهانة وغيرهما على ما هو مشهور في كتب التاريخ فقال الإمام مالك رضي الله تعالى عنه لذلك المخبر نسأل الله تعالى أن يزين حرمنا بملككم أو كلاما هذا معناه فنميت المسألة إلى ملك الأندلس مع ما علم من جلالة مالك ودينه فحمل الناس على مذهبه وترك مذهب الأوزاعي والله تعالى أعلم من شعر ابن يغمور 61 من شعر وحكي أن القاضي الزاهد أبا إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن أبي يغمور لما ندبه أهل الأمر لولاية القضاء بمدينة فاس استعفى فلم يقبل منه وخرج إلى تلك الناحية وخرج الناس لوداعه فأنشد
( عليكم سلام الله إني راحل ... وعيناي من خوف التفرق تدمع )

( فإن نحن عشنا فهو يجمع بيننا ... وإن نحن متنا فالقيامة تجمع ) وأنشد أصحابه رحمه الله تعالى ولا أدري هل هي له أو لغيره
( كنا نعظم بالآمال قدركم ... حتى انقضت فتساوى عندنا الناس )
( لم تفضلونا بشيء غير واحدة ... هي الرجاء فسوى بيننا الياس )
وأنشد أيضا
( بلوتهم مذ كنت طفلا فلم أجد ... كما أشتهي منهم صديقا وصاحبا )
( فصوبت رأيي في فراري منهم ... وشمرت أذيالي وأمعنت هاربا )
وأنشد لغيره في الكتمان
( أخفى الغرام فلا جوارحه ... شعرت بذاك ولا مفاصله )
( كالسيف يصحبه الحمام ولم ... يعلم بما حملت حمائله )
وأنشد
( قد كنت أمرض في الشبيبة دائما ... والموت ليس يمر لي في البال )
( والآن شبت وصحتي موجودة ... وأرى كأن الموت في أذيالي )
ولما أنشده تاج الدين بن حمويه السرخسي الوافد على المغرب من المشرق قول بعضهم
( فلا تحقرن عدوا رماك ... وإن كان في ساعديه قصر )
( فإن السيوف تحز الرقاب ... وتعجز عما تنال الإبر ) قال حسن جيد ولكن اسمع ما قال شاعرنا القسطلي وأنشد

( أثرني لكشف الخطب والخطب مشكل ... وكلني لليث الغاب وهو هصور )
( فقد تخفض الأسماء وهي سواكن ... ويعمل في الفعل الصريح ضمير )
( وتنبو الردينيات والطول وافر ... ويبعد وقع السهم وهو قصير )
وكان الوزير الكريم أبو محمد عبد الرحمن بن مالك المعافري أحد وزراء الأندلس كثير الصنائع جزل المواهب عظيم المكارم على سنن عظماء الملوك وأخلاق السادة لم ير بعده مثله في رجال الأندلس ذاكرا للفقه والحديث بارعا في الآداب شاعرا مجيدا وكاتبا بليغا كثير الخدم والأهل ومن آثاره الحمام بجوفي الجامع الأعظم من غرناطة وزاد في سقف الجامع من صحنه وعوض أرجل قسيه أعمدة الرخام وجلب الرؤوس والموائد من قرطبة وفرش صحنه بكذان الصخر
ووجهه أميره علي بن يوسف بن تاشفين إلى طرطوشة برسم بنائها فلما حلها سأل قاضيها فكتب له جملة من أهلها ممن ضعفت حاله وقل تصرفه من ذوي البيوتات فاستعملهم أمناء ووسع أرزاقهم حتى كمل له ما أراد من عمله ومن عجز أن يستعمله وصله من ماله فصدر عنها وقد أنعش خلقا رضي الله تعالى عنه ورحمه
ومن شعره في مجلس أطربه سماعه وبسط احتشاد الأنس فيه واجتماعه فقال
( لا تلمني إذا طربت لشجو ... يبعث الأنس فالكريم طروب )
( ليس شق الجيوب حقا علينا ... إنما الحق أن تشق القلوب )
وقطف غلام من غلمانه نوارة ومد بها يده إلى أبي نصر الفتح بن عبيد الله فقال أبو نصر

( وبدر بدا والطرف مطلع حسنه ... وفي كفه من رائق النور كوكب ) فقال أبو محمد ابن مالك
( يروح لتعذيب النفوس ويغتدي ... ويطلع في أفق الجمال ويغرب )
( ويحسد منه الغصن أي مهفهف ... يجيء على مثل الكثيب ويذهب )
وقد سبق هذا
وكتب إلى الفتح من غير ترو يا سيدي جرت الأيام بفراقك وكان الله جارك في انطلاقك فغيرك روع بالظعن وأوقد للوداع جاحم الشجن فإنك من أبناء هذا الزمن خليفة الخضر لا يستقر على وطن كأنك - والله يختار لك ما تأتيه وما تدعه - موكل بفضاء الأرض تذرعه فحسب من نوى بعشرتك الاستمتاع أن يعدك من العواري السريعة الارتجاع فلا يأسف على قلة الثوا وينشد
( وفارقت حتى ما أبالي من النوى ... )
ومات رحمه الله تعالى بغرناطة سنة 518 وحضر جنازته الخاصة والعامة وهو من محاسن الأندلس رحمه الله تعالى
ومن نوادر الاتفاق أن جارية مشت بين يدي المعتمد وعليها قميص لا تكاد تفرق بينه وبين جسمها وذوائبها تخفي آثار مشيها فسكب

عليها ماء ورد كان بين يديه وقال
( علقت جائلة الوشاح غريرة ... تختال بين أسنة وبواتر )
وقال لبعض الخدم سر إلى أبي الوليد البطليوسي المشهور بالنحلي وخذه بإجازة هذا البيت ولا تفارقه حتى يفرغ منه فأجاب النحلي لأول وقوع الرقعة بين يديه
( راقت محاسنها ورق أديمها ... فتكاد تبصر باطنا من ظاهر )
( وتمايلت كالغصن في دعص النقا ... تلتف في ورق الشباب الناضر )
( يندى بماء الورد مسبل شعرها ... كالطل يسقط من جناح الطائر )
( تزهى برونقها وعز جمالها ... زهو المؤيد بالثناء العاطر )
( ملك تضاءلت الملوك لقدره ... وعنا له صرف الزمان الجائر )
( وإذا لمحت جبينه ويمينه ... أبصرت بدرا فوق بحر زاخر )
فلما قرأها المعتمد استحضره وقال له أحسنت أو معنا كنت فقال له يا قاتل المحل أما تلوت ( وأوحى ربك إلى النحل ) [ النحل68 ]
وأصبح المعتمد يوما ثملا فدخل الحمام وأمر أن يدخل النحلي معه فجاء وقعد في مسيح الحمام حتى يستأذن عليه فجعل المعتمد يحبق في الحمام وهو خال وقد بقيت في رأسه بقية من السكر وجعل كلما سمع دوي ذلك الصوت يقول الجوز اللوز القسطل ومر على هذا ساعة إلى أن تذكر النحلي فصادفه فلما دخل قال له من أي وقت أنت هنا قال من أول ما رتب مولانا الفواكه في النصبة فغشي عليه من الضحك وأمر له بإحسان
والنصبة مائدة يصبون فيها هذه الأصناف

ولما استحسن المعتمد قول المتنبي
( إذا ظفرت منك المطي بنظرة ... أثاب بها معيي المطي ورازمه )
قال ابن وهبون بديهة وقد تقدم ذكرهما فأمر له بمائتي دينار
ولما قال ابن وهبون المذكور
( غاض الوفاء فما تلقاه في رجل ... ولا يمر لمخلوق على بال )
( قد صار عندهم عنقاء مغربة ... أو مثل ما حدثوا عن ألف مثقال ) قال له المعتمد عنقاء مغربة وألف مثقال يا عبد الجليل عندك سواء فقال نعم قال قد أمرنا لك بألف دينار وبألف دينار أخرى تنفقها
وذكر القرطبي صاحب ( ( التذكرة ) ) في كتابه قمع الحرص بالزهد والقناعة ما صورته روينا أن الإمام أبا عمر ابن عبد البر رضي الله تعالى عنه بلغه وهو بشاطبة أن أقواما عابوه بأكل طعام السلطان وقبول جوائزه فقال
( قل لمن ينكر أكلي ... لطعام الأمراء )
( أنت من جهلك هذا ... في محل السفهاء )
لأن الاقتداء بالصالحين من الصحابة والتابعين وأئمة الفتوى من المسلمين من السلف الماضين هو ملاك الدين فقد كان زيد بن ثابت - وكان من الراسخين في العلم - يقبل جوائز معاوية وابنه يزيد وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما - مع ورعه وفضله - يقبل هدايا صهره المختار بن أبي عبيد ويأكل

طعامه ويقبل جوائزه وقال عبد الله بن مسعود وكان قد ملئ علما - لرجل سأله فقال إن لي جارا يعمل بالربا ولا يجتنب في مكسبه الحرام يدعوني إلى طعامه أفأجيبه قال نعم لك المهنأ وعليه المأثم ما لم تعلم الشيء بعينه حراما وقال عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه - حين سئل عن جوائز السلاطين - لحم ظبي ذكي وكان الشعبي - وهو من كبار التابعين وعلمائهم - يؤدب بني عبد الملك بن مروان ويقبل جوائزه ويأكل طعامه وكان إبراهيم النخعي وسائر علماء الكوفة و الحسن البصري - مع زهده وورعه - وسائر علماء البصرة وأبو سلمة بن عبد الرحمن وأبان بن عثمان والفقهاء السبعة بالمدينة - حاشا سعيد بن المسيب - يقبلون جوائز السلطان وكان ابن شهاب يقبلها ويتقلب في جوائزهم وكانت أكثر كسبه وكذلك أبو الزناد وكان مالك وأبو يوسف والشافعي وغيرهم من فقهاء الحجاز والعراق يقبلون جوائز السلاطين والأمراء وكان سفيان الثوري - مع ورعه وفضله - يقول جوائز السلطان أحب إلي من صلة الإخوان لأن الإخوان يمنون والسلطان لا يمن ومثل هذا عن العلماء والفضلاء كثير وقد جمع الناس فيه أبوابا ولأحمد بن خالد فقيه الأندلس وعالمها في ذلك كتاب حمله على وضعه وجمعه طعن أهل بلده عليه في قبوله جوائز عبد الرحمن الناصر إذ نقله إلى المدينة بقرطبة وأسكنه دارا من دور الجامع قربه وأجرى عليه الرزق من الطعام والإدام والناض وله ولمثله في بيت المال حظ والمسئول عن التخليط فيه هو السلطان كما قال عبد الله بن مسعود هذا قد أجمع العلماء عليه فمن علم الشيء بعينه حراما مأخوذا من غير حله كالجريمة وغيرها وشبهها من الطعام أو الدابة وما كان مثل ذلك كله من الأشياء المتعينة غصبا أو سرقة أو مأخوذة بظلم بين لا شبهة فيه فهذا الذي لم يختلف أحد في تحريمه وسقوط عدالة آكله وأخذه وتملكه وما أعلم من علماء التابعين أحدا تورع عن جوائز السلطان إلا سعيد بن المسيب بالمدينة و محمد بن

سيرين بالبصرة وهما قد ذهبا مثلا في التورع وسلك سبيلهما في ذلك أحمد بن حنبل وأهل الزهد والورع والتقشف رحمة الله تعالى عليهم أجمعين
والزهد في الدنيا من أفضل الفضائل ولا يحل لمن وفقه الله تعالى وزهد فيها أن يحرم ما أباح الله تعالى منها والعجب من أهل زماننا يعيبون الشبهات وهم يستحلون المحرمات ومثالهم عندي كالذين سألوا عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما عن المحرم يقتل القراد والحلمة فقال للسائلين له من أنتم فقالوا من أهل الكوفة فقال تسألونني عن هذا وأنتم قتلتم الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما وروي ابن عمر عن النبي أنه قال " ما أتاك من غير مسألة فكله وتموله وروي هذا الحديث أيضا عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما ( ( ما أتاك من غير مسألة فكله وتموله ) ) وروى أبو سعيد الخدري وجابر بن عبد الله عن النبي معناه وفي حديث أحدهما ( ( إنما هو رزق رزقكه الله تعالى ) ) وفي لفظ بعض الرواة " ولا ترد على الله رزقه " وهذا كله مركب مبني على ما أجمعوا عليه وهو الحق فمن عرف الشيء المحرم يعينه فإنه لا يحل له فهذه المسألة من كلام ابن عبد البر انتهى
وحضر ابن مجبر مع عدو له جاحد لمعروفه وأمامهما زجاجة سوداء فيها خمر فقال له الحسود إن كنت شاعرا فقل في هذه فقال ارتجالا ( ( سأشكو إلى الندمان ) ) إلى آخر الحكاية وقد تقدمت في رسالة الشقندي رحمه الله تعالى
ترجمة ابن مجبر وشعره
وابن مجبر هو أبو بكر يحيى بن عبد الجليل بن عبد الرحمن بن مجبر الفهري

كان في وقته شاعر المغرب ويشهد له بقوة عارضته وسلامة طبعه قصائده التي صارت مثالا وبعدت على قربها منالا وشعره كثير يشتمل على أكثر من تسعة آلاف وأربعمائة بيت واتصل بالأمير أبي عبد الله بن سعد بن مردنيش وله فيه أمداح وأنشد يوسف بن عبد المؤمن يهنيه بفتح
( إن خير الفتوح ما جاء عفوا ... مثل ما يخطب الخطيب ارتجالا )
وكان أبو العباس الجراوي حاضرا فقطع عليه لحسادة وجدها وقال يا سيدنا اهتدم بيت وضاح
( خير شراب ما كان عفوا ... كأنه خطبة ارتجالا )
فبدر المنصور وهو حينئذ وزير أبيه وسنه قريب العشرين وقال إن كان اهتدمه فقد استحقه لنقله إياه من معنى خسيس إلى معنى شريف فسر أبوه بجوابه وعجب الحاضرون
ومر المنصور أيام إمرته بأونبة من أرض شلب فوقف على قبر الحافظ أبي محمد بن حزم وقال عجبا لهذا الموضع يخرج منه مثل هذا العالم ثم قال كل العلماء عيال على ابن حزم ثم رفع رأسه وقال كما أن الشعراء عيال عليك يا أبا بكر يخاطب ابن مجبر
ومن شعر ابن مجبر يصف خيل المنصور من قصيدة في مدحه
( له حلبة الخيل العتاق كأنها ... نشاوى تهاوت تطلب العزف والقصفا )
( عرائس أغنتها الحجول عن الحلى ... فلم تبغ خلخالا ولا التمست وقفا )
( فمن يقق كالطرس تحسب أنه ... وإن جردوه في ملاءته التفا )

( وأبلق أعطى الليل نصف إهابه ... وغار عليه الصبح فاحتبس النصفا )
( وورد تغشى جلده شفق الدجى ... فإذ حازه دلى له الذيل والعرفا )
( وأشقر مج الراح صرفا أديمه ... وأصفر لم يمسح بها جلده صرفا )
( وأشهب فضي الأديم مدنر ... عليه خطوط غير مفهمة حرفا )
( كما خطط الزاهي بمهرق كاتب ... فجر عليه ذيله وهو ما جفا )
( تهب على الأعداء منها عواصف ... ستنسف أرض المشركين بها نسفا )
( ترى كل طرف كالغزال فتمتري ... أظبيا ترى تحت العجاجة أم طرفا )
( وقد كان في البيداء يألف سربه ... فربته مهرا وهي تحسبه خشفا )
( تناوله لفظ الجواد لأنه ... على ما أردت الجري أعطاكه ضعفا )
ولما اتخذ المنصور مقصورة الجامع بمراكش بدار ملكها وكانت مدبرة على انتصابها إذا استقر المنصور ووزراؤه بمصلاه واختفائها إذا انفصلوا عنها أنشد في ذلك الشعراء فقال ابن مجبر من قصيدة أولها
( أعلمتني ألقي عصا التسيار ... في بلدة ليست بدار قرار ) إلى أن قال
( طورا تكون بمن حوته محيطة ... فكأنها سور من الأسوار )
( وتكون حينا عنهم مخبوءة ... فكأنها سر من الأسرار )
( وكأنها علمت مقادير الورى ... فتصرفت لهم على مقدار )
( فإذا أحست بالإمام يزورها ... في قومه قامت إلى الزوار )
( يبدو فتبدو ثم تخفى بعده ... كتكون الهالات للأقمار )

وممن روى عنه أبو علي الشلوبين وطبقته وتوفي بمراكش سنة 588 وعمره 53 سنة رحمه الله تعالى
وقد حكى الشريف الغرناطي شارح المقصورة هذه الحكاية بأتم مما ذكرناه فقال عن الكاتب ابن عياش كاتب يعقوب المنصور الموحدي قال كانت لأبي بكر ابن مجبر وفادة على المنصور في كل سنة فصادف في إحدى وفاداته فراغه من إحداث المقصورة التي كان أحدثها بجامعه المتصل بقصره في حضرة مراكش وكانت قد وضعت على حركات هندسية ترفع بها لخروجه وتخفض لدخوله وكان جميع من بباب المنصور يومئذ من الشعراء والأدباء قد نظموا أشعارا أنشدوه إياها في ذلك فلم يزيدوا على شكره وتجزيته الخير فيما جدد من معالم الدين وآثاره ولم يكن فيهم من تصدى لوصف الحال حتى قام أبو بكر ابن مجبر فأنشد قصيدته التي أولها ( ( أعلمتني ألقي عصا التسيار ) ) واستمر فيها حتى ألم بذكر المقصورة فقال يصفها ( ( طورا تكون - إلخ ) ) فطرب المنصور لسماعها وارتاح لاختراعها انتهى
وقد بطلت حركات هذه المقصورة الآن وبقيت آثارها حسبما شاهدته سنة عشر وألف والله تعالى وارث الأرض
ومن عليها ومن نظم ابن مجبر أيضا ما كتب به إلى السلطان ملك المغرب رحمه الله تعالى وقد ولد له ابن أعني لأبن مجبر
( ولد العبد الذي إنعامكم ... طينة أنشئ منها جسده )
( وهو دون اسم لعلمي أنه ... لا يسمي العبد إلا سيده )
وقوله
( ملك ترويك منه شيمة ... أنست الظمآن زرق النطف )

( جمعت من كل مجد فحكت ... لفظة قد جمعت من أحرف )
( يعجب السامع من وصفي لها ... ووراء العجز ما لم أصف )
( لو أعار السهم ما في رأيه ... من سداد وهدى لم يصف )
( حلمه الراجح ميزان الهدى يزن الأشياء وزن المنصف )
وقال ابن خفاجة
( صح الهوى منك ولكنني ... أعجب من بين لنا يقدر )
( كأننا في فلك دائر فأنت تخفى وأنا أظهر )
وهما الغاية في معناهما كما قاله ابن ظافر - رحمه الله تعالى
وقال الأعمى التطيلي
( أما اشتفت مني الأيام في وطني ... حتى تضايق فيما عز من وطري )
( فلا قضت من سواد العين حاجتها ... حتى تكر على ما طل في الشعر )
وقال القاضي أبو حفص ابن عمر القرطبي
( هم نظروا لواحظها فهاموا ... وتشرب لب شاربها المدام )
( يخاف الناس مقلتها سواها ... أيذعر قلب حامله الحسام )
( سما طرفي إليها وهو باك ... وتحت الشمس ينسكب الغمام )
( وأذكر قدها فأنوح وجدا ... على الأغصان تنتدب الحمام )
( فأعقب بينها في الصدر غما ... إذا غربت ذكاء أتى الظلام )
وقال الحاجب عبد الكريم بن مغيث

( طارت بنا الخيل ومن فوقها ... شهب بزاة لحمام الحمام )
( كأنما الأيدي قسي لها ... والطير أهداف وهن السهام ) وقال أخوه أحمد
( اشرب على البستان من كف من ... يسقيك من فيه وأحداقه )
( وانظر إلى الأيكة في برده ... ولاحظ البدر بأطواقه )
( وقد بدا السرو على نهره ... كخائض شمر عن ساقه )
وقال أبو العباس أحمد بن أبي عبد الله بن أمية البلنسي
( إذا كان ودي وهو أنفس قربة ... يجازى ببغض فالقطيعة أحزم )
( ومن أضيع الأشياء ود صرفته ... إلى غير من تحظى لديه وتكرم )
حكايات في البديهة والارتجال
27 - ومن حكايات أهل الأندلس في خلع العذار والطرب والظرف وغير ذلك كسرعة الارتجال ما حكاه صاحب بدائع البدائه قال أخبرني من أثق به بما هذا معناه قال خرج الوزير أبو بكر بن عمار والوزير أبو الوليد بن زيدون ومعهما الوزير ابن خلدون من إشبيلية إلى منظرة لبني عباد بموضع يقال له الفنت تحف بها مروج مشرقة الأنوار متنسمة الأنجاد والإغوار متبسمة عن ثغور النوار في زمان ربيع سقت الأرض السحب فيه

بوسميها ووليها وجلتها في زاهر ملبسها وباهر حليها وأرداف الربى قد تأزرت بالأزر الخضر من نباتها وأجياد الجداول قد نظم النوار قلائده حول لباتها ومجامر الزهر تعطر أردية النسائم عند هباتها وهناك من البهار ما يزري على مداهن النضار ومن النرجس الريان ما يهزأ بنواعس الأجفان وقد نووا الانفراد للهو والطرب والتنزه في روضي النبات والأدب وبعثوا صاحبا لهم يسمى خليفة هو قوام لذتهم ونظام مسرتهم ليأتيهم بنبيذ يذهبون الهم بذهبه في لجين زجاجه ويرمونه منه بما يقضي بتحريكه للهرب عن القلوب وإزعاجه وجلسوا لانتظاره وترقب عوده على آثاره فلما بصروا به مقبلا من أول الفج بادروا إلى لقائه وسارعوا إلى نحوه وتلقائه واتفق أن فارسا من الجند ركض فرسه فصدمه ووطئ عليه فهشم أعظمه وأجرى دمه وكسر قمعل النبيذ الذي كان معه وفرق من شملهم ما كان الدهر قد جمعه ومضى على غلوائه راكضا حتى خفي عن العين خائفا من متعلق به يحين بتعلقه الحين وحين وصل الوزراء إليه تأسفوا عليه وأفاضوا في ذكر الزمان وعدوانه والخطب وألوانه ودخوله بطوام المضرات على تمام المسرات وتكديره الأوقات المنعمات بالآفات المؤلمات فقال ابن زيدون
( أتلهو والحتوف بنا مطيفه ... ونأمن والمنون لنا مخيفه )
فقال ابن خلدون
( وفي يوم وما أدراك يوم ... مضى قمعالنا ومضى خليفه )

فقال ابن عمار
( هما فخارتا راح وروح ... تكسرتا فأشقاف وجيفه )
وذكر ابن بسام ما معناه أن أبا عامر ابن شهيد حضر ليلة عند الحاجب أبي عامر المظفر بن المنصور بن ابي عامر بقرطبة فقامت تسقيهم وصيفة عجيبة صغيرة الخلق ولم تزل تسهر في خدمتهم إلى أن هم جند الليل بالانهزام وأخذ في تقويض خيام الظلام وكانت تسمى أسيماء فعجب الحاضرون من مكابدتها السهر طول ليلتها على صغر سنها فسأله المظفر وصفها فصنع ارتجالا
( أفدي أسيماء من نديم ... ملازم للكؤوس راتب )
( قد عجبوا في السهاد منها ... وهي لعمري من العجائب )
( قالوا تجافى الرقاد عنها ... فقلت لا ترقد الكواكب )
وحكى ابن بسام ما معناه أن ابن شهيد المذكور كان يوما مع جماعة من الأدباء عند القاضي ابن ذكوان فجيء بباكورة باقلا فقال ابن ذكوان لا ينفرد بها إلا من وصفها فقال ابن شهيد أنا لها وارتجل
( إن لآليك أحدثت صلفا ... فاتخذت من زمرد صدفا )
( تسكن ضراتها البحور وذي ... تسكن للحسن روضة أنفا )
( هامت بلحف الجبال فاتخذت ... من سندس في جنانها لحفا )

( شبهتها بالثغور من لطف ... حسبك هذا من رمز من لطفا )
( جاز ابن ذكوان في مكارمه ... حدود كعب زما به وصفا )
( قدم در الرياض منتخبا ... منه لأفراس مدحه علفا )
( أكل ظريف وطعم ذي أدب ... والفول يهواه كل من ظرفا )
( رخص فيه شيخ له قدر ... فكان حسبي من المنى وكفى ) وقال ابن بسام إن جماعة من أصحاب ابن شهيد المذكور قالوا له يا أبا عامر إنك لآت بالعجائب وجاذب بذوائب الغرائب ولكنك شديد الإعجاب بما يأتي منك هاز لعطفك عند النادر يتاح لك ونحن نريد منك أن تصف لنا مجلسنا هذا وكان الذي طلبوه منه زبدة التعنيت لأن المعنى إذا كان جلفا ثقيلا على النفس قبيح الصورة عند الحس كلت الفكرة عنه وإن كانت ماضية وأساءت القريحة في وصفه وإن كانت محسنة وكان في المجلس باب مخلوع معترض على الأرض ولبد أحمر مبسوط قد صففت خفافهم عند حاشيته فقال مسرعا
( وفتية كالنجوم حسنا ... كلهم شاعر نبيل )
( متقد الجانبين ماض ... كأنه الصارم الصقيل )
( راموا انصرافي عن المعالي ... والغرب من دونها فليل )
( فاشتد في أثرها فسيح ... كل كثير له قليل )
( في مجلس زانه التصابي ... وطاردت وصفه العقول )

( كأنما بابه أسير ... قد عرضت دونه نصول )
( يراد منه المقال قسرا ... وهو على ذاك لا يقول )
( ننظر من لبده لدينا ... بحر دم تحتنا يسيل )
( كأن أخفافنا عليه ... مراكب ما لها دليل )
( ضلت فلم تدر أين تجري ... فهل على شطه تقيل )
فعجب القوم من أمره ثم خرج من عندهم فمر على بعض معارفه من الطرائفيين وبين يديه زنبيل ملآن حرشفا فجعل يده في لجام بغلته وقال لا أتركك أو تصف الحرشف فقد وصفه صاعد فلم يقل شيئا فقال له ابن شهيد ويحك ! أعلى مثل هذه الحال قال نعم فارتجل
( هل أبصرت عيناك يا خليلي ... قنافذا تباع في زنبيل )
( من حرشف معتمد جليل ... ذي إبر تنفذ جلد الفيل )
( كأنها أنياب بنت الغول ... لو نخست في است امرئ ثقيل )
( لقفزته نحو أرض النيل ... ليس يرى طي حشا منديل )
( نقل السخيف المائن الجهول ... وأكل قوم نازحي العقول )
( أقسمت لا أطعمها أكيلي ... ولا طعمتها على شمول )
وقال في بدائع البدائه دخل الوزير أبو العلاء زهر ابن الوزير أبي مروان عبد الملك بن زهر على الأمير عبد الملك بن رزين في مجلس أنس وبين يديه ساق يسقي خمرين من كأسه ولحظه ويبدي درين من حبابه

ولفظه وقد بدا خط عذاره في صحيفة خده وكمل حسنه باجتماع الضد منه مع ضده فكأنه بسحر لحظه أبدى ليلا في شمس وجعل يومه في الحسن أحسن من أمس فسأله ابن رزين أن يصنع فيه فقال بديها
( تضاعف وجدي إذ تبدى عذاره ... ونم فخان القلب مني اصطباره )
( وقد كان ظني أن سيمحق ليله ... بدائع حسن هام فيها نهاره )
( فأظهر ضد ضده فيه إذ وشت ... بعنبره في صفحة الخد ناره )
واستزاده فقال بديها
( محيت آية النهار فأضحى ... بدر تم وكان شمس نهار )
( كان يعشي العيون نورا إلى أن ... شغل الله خده بالعذار )
وصنع أيضا
( عذار ألم فأبدى لنا ... بدائع كنا لها في عمى )
( ولو لم يجن النهار الظلا م ... لم يستبن كوكب في السما )
وصنع أيضا
( تمت محاسن وجهه وتكاملت ... لما استدار به عذار مونق )
( وكذلك البدر المنير جماله ... في أن يكنفه سماء أزرق )
انتهى وحكى الحميدي وغيره أن عبد الله بن عاصم صاحب الشرطة بقرطبة كان أديبا شاعرا سريع البديهة كثير النوادر وهو من جلساء الأمير محمد بن عبد الرحمن الأموي ملك الأندلس وحكوا أنه دخل عليه في يوم ذي غيم

وبين يديه غلام حسن المحاسن جميل الزي لين الأخلاق فقال الأمير يا ابن عاصم ما يصلح في يومنا هذا فقال عقار تنفر الذبان وتؤنس الغزلان وحديث كقطع الروض قد سقطت فيه مؤونة التحفظ وأرخي له عنان التبسط يديرها هذا الأغيد المليح فاستضحك الأمير ثم أمر بمراتب الغناء وآلات الصهباء فلما دارت الكأس واستمطر الأمير نوادره أشار إلى الغلام أن يلح في سقيه ويؤكد عليه فلما أكثر رفع رأسه إليه وقال على البديهة
( يا حسن الوجه لا تكن صلفا ... ما لحسان الوجوه والصلف )
( تحسن أن تحسن القبيح ولا ... ترثي لصب متيم دنف ) فاستبدع الأمير بديهته وأمر له ببدرة ويقال إنه خيره بينها وبين الوصيف فاختارها نفيا للظنة عنه انتهى
استطراد حول ابن ظافر قلت أذكرتني هذه الحكاية ما حكاه علي بن ظافر عن نفسه إذ قال كنت عند المولى الملك الأشرف بن العادل بن أيوب سنة 603 بالرها وقد وردت إليه في رسالة فجعلني بين سمعه وبصره وأنزلني في بعض دوره بالقلعة بحيث يقرب عليه حضوري في وقت طلبتي أو إرادة الحديث معي فلم أشعر في بعض الليالي وأنا نائم في فراشي إلا به وهو قائم على رأسي والسكر قد غلب عليه والشمع تزهر حواليه وقد حف مماليكه به وكأنهم الأقمار الزواهر في

ملابس كالرياض ذات الأزاهر فقمت مروعا فأمسكني وبادر بالجلوس إلى جانبي بحيث منعني عن القيام عن الوساد وأبدى من الجميل ما أبدلني بالنفاق بعد الكساد ثم قال غلبني الشوق إليك ولم أرد إزعاجك والتثقيل عليك ثم استدعى من كان في مجلسه من خواص القوالين فحضروا وأخذوا من الغناء فيما يملأ المسامع التذاذا ويجعل القلوب من الوجد جذاذا وكان له في ذلك الوقت مملوكان هما نيرا سماء ملكه وواسطتا در سلكه وقطبا فلك طربه ووجده وركنا بيت سروره ولهوه وكانا يتناوبان في خدمته فحضر أحدهما في تلك الليلة وغاب الآخر وكان كثيرا ما يداعبني في أمرهما ويستجلب مني القول فيهما والكلام في التفضيل بينهما فقلت للوقت
( يا مالكا لم يحك سيرته ... ماض ولا آت من البشر )
( اجمع لنا تفديك أنفسنا ... في الليل بين الشمس والقمر ) فطرب وأمر في الحال بإستدعاء الغائب منهما فحضر والنوم قد زاد أجفانه تفتيرا ومعاطفه تكسيرا فقلت بين يديه بديها في صفة المجلس
( سقى الرحمن عصرا قد مضى لي ... بأكنافالرها صوب الغمام )
( وليلا باتت الأنوار فيه ... تعاون في مدافعة الظلام )
( فنور من شموع أو ندامى ... ونور من سقاة أو مدام )
( يطوف بأنجم الكاسات فيه ... سقاة مثل أقمار التمام )
( تريك به الكؤوس جمود ماء ... فتحسب راحها ذوب الضرام )
( يميل به غصونا من قدود ... غناء مثل أصوات الحمام )
( فكم من موصلي فيه يشدو ... فينسي النفس عادية الحمام )

( وكم من زلزل للضرب فيه ... وكم للزمر فيه من زنام )
( لدى موسى بن أيوب المرجى ... إذا ما ضن غيث بانسجام )
( ومن كمظفر الدين المليك الأجل ... الأشرف الندب الهمام )
فما شمس تقاس إلى نجوم ... تحاكي قدره بين الكرام )
( فدام مخلدا في الملك يبقى ... إذا ما ضن دهر بالدوام )
فلما أنشدتها قام فوضع فرجية من خاص ملابسه كانت عليه على كتفي ووضع شربوشه بيده على رأس مملوك صغير كان لي انتهى
ولابن ظافر هذا بدائع منها ما حكاه عن نفسه إذ قال ومن أعجب ما دهيت به ورميت إلا أن الله بفضله نصر وأعطى الظفر وأعان خاطري الكليل حتى مضى مضاء السيف الصقيل أنني كنت في خدمة مولانا السلطان الملك العادل بالإسكندرية سنة إحدى وستمائة مع من ضمته حاشية العسكر المنصور من الكتاب والحواشي والخدام ودخلت سنة اثنتين وستمائة ونحن بالثغر مقيمون في الخدمة مرتضعون لأفاويق النعمة فحضرت في جملة من حضر الهناء من الفقهاء بالثغر والعلماء والمشايخ والكبراء وجماعة الديوان والأمراء واتفق أن كان اليوم من أيام الجلوس لإمضاء الأحكام والعرض لطوائف الأجناد فلم يبق أحد من أهل البلد ولا من أهل العسكر إلا حضر مهنيا ومثل شاكرا وداعيا فحين غص المجلس بأهله وشرق بجمع السلطان وحفله وخرج مولانا السلطان إلى مجلسه واستقر في دسته أخرج من بركة قبائه كتابا ناوله للصاحب الأجل صفي الدين أبي محمد عبد الله بن علي وزير دولته وكبير جملته وهو مفضوض الختام مفكوك الفدام ففتحه فإذا فيه قطعة وردت من المولى الملك المعظم كتبها إليه يتشوقه ويستعطفه لزيارته ويرققه ويستحثه على عود ركابه إلى بلاد الشام للمثاغرة

بها وقمع عدوها ويعرض بذكر مصر وشدة حرها ووقد جمرها وذلك بعد أن كان وصل إلى خدمته بالثغر ثم رجع إليها والأبيات
( أروي رماحك من نحور عداكا ... وانهب بخيلك من أطاع سواكا )
( واركب خيولا كالسعالي شزبا ... واضرب بسيفك من يشق عصاكا )
( واجلب من الأبطال كل سميدع ... يفري بعزمك كل من يشناكا )
( واسترعف السمر الطوال وروها ... واسق المنية سبفك السفاكا )
( وسر الغداة إلى العداة مبادرا ... بالضرب في هام العدو دراكا )
( وانكح رماحك للثغور فإنها ... مشتاقة أن تبتني بعلاكا )
( فالعز في نصب الخيام على العدا ... تردي الطغاة وتدفع الملاكا )
( والنصر مقرون بهمتك التي ... قد أصبحت فوق السماك سماكا )
( فإذا عزمت وجدت من هو طائع ... وإذا نهضت وجدت من يخشاكا )
( والنصر في الأعداء يوم كريهة ... أحلى من الكأس الذي رواكا )
( والعجز أن تضحي بمصر راهنا ... وتحل في تلك العراص عراكا )
( فأرح حشاشتك الكريمة من لظى ... مصر لكي نحظى الغداة بذاكا )
( فلقد غدا قلبي عليك بحرقة ... شغفا ولا حر البلاد هناكا )
( وانهض إلى راجي لقاك مسارعا ... فمناه من كل الأمور لقاكا )
( وابرد فؤاد المستهام بنظرة ... وأعد عليه العيش من رؤياكا )
( واشف الغداة غليل صب هائم ... أضحى مناه من الحياة مناكا )
( فسعادتي بالعادل الملك الذي ملك الملوك وقارن الأفلاكا )
( فبقيت لي يا مالكي في غبطة ... وجعلت من كل الأمور فداكا )
فلما تلا الصاحب على الحاضرين محكم آياتها وجلا منها العروس التي حازت من المحاسن أبعد غاياتها أخذ الناس في الاستحسان لغريب نظامها

وتناسق التئامها والثناء على الخاطر الذي نظم بديع أبياتها وأطلع من مشرق فكره آياتها فقال السلطان نريد من يجيبه عنا بأبيات على قافيتها فالتفت مسرعا إلي وأنا عن يمينه وقال يا مولانا مملوكك فلان هو فارس هذا الميدان والمعتاد للتخلص من مضايق هذا الشان ثم قطع وصلا من درج كان بين يديه وألقاه إلي وعمد إلى دواته فأدارها بين يدي فقال له السلطان أهكذا على مثل هذا الحال وفي مثل هذا الوقت فقال نعم أنا قد جربته فوجدته متقد الخاطر حاضر الذهن سريع إجابة الفكر فقال السلطان وعلى كل حال قم إلى هنا لتنكف عنك أبصار الناظرين وتنقطع عنك ضوضاء الحاضرين وأشار إلى مكان عن يمين البيت الخشب الذي هو بالجلوس فيه منفرد فقمت وقد فقدت رجلي انخذالا وذهني اختلالا لهيبة المجلس في صدري وكثرة من حضره من المترقبين لي المنتظرين حلول فاقرة الشماتة بي فما هو إلا أن جلست حتى ثاب إلي خاطري وانثال الكلام على سرائري فكنت أتوهم أن فكري كالبازي الصيود لا يرى كلمة إلا أنشب فيها منسره ولا معنى إلا شك فيه ظفره فقلت في أسرع وقت
( وصلت من الملك المعظم تحفة ... ملأت بفاخر درها الأسلاكا )
( أبيات شعر كالنجوم جلالة ... فلذا حكت أوراقها الأفلاكا )
( عجبا وقد جاءت كمثل الروض إذ ... لم تذوها بالحر نار ذكاكا ) جلت الهموم عن الفؤاد كمثل ما ... تجلو بغرة وجهك الأحلاكا )
( كقميص يوسف إذ شفت يعقوب ريياه ... شفتني مثله رياكا )
( قد أعجزت شعراء هذا العصر كلهم ... فلم لا تعجز الأملاكا )
( ما كان هذا الفضل يمكن مثله ... أن يحتويه من الأنام سواكا )
( لم لا أغيب عن الشآم وهل له ... من حاجة عندي وأنت هناكا )
( أم كيف أخشى والبلاد جميعها ... محمية في جاه طعن قناكا )
( يكفي الأعادي حر بأسك فيهم ... أضعاف ما يكفي الولي نداكا )
( ما زرت مصر لغير ضبط ثغورها ... فلذا صبرت فديت عن رؤياكا )
( أم البلاد علا عليها قدرها ... لا سيما مذ شرفت بخطاكا )
( طابت وحق لها ولم لا وهي قد ... حوت المعلى في القداح أخاكا )
( أنا كالسحاب أزور أرضا ساقيا ... حينا وأمنح غيرها سقياكا )
( مكثي جهاد للعدو لأنني ... أغزوه بالرأي السديد دراكا )
( لولا الرباط وغيره لقصدت بالسير ... الحثيث إليك نيل رضاكا )
( ولئن أتيت إلى الشآم فإنما ... يحتثني شوق إلى لقياكا )
( إني لأمنحك المحبة جاهدا ... وهواي فيما تشتهيه هواكا )
( فافخر فقد أصبحت بي وببأسك الحامي ... وكل مملك يخشاكا )
( لا زلت تقهر من يعادي ملكنا ... أبدا ومن عاداك كان فداكا )
( وأعيش أبصر ابنك الباقي أبا ... وتعيش تخدم في السعود أباكا )
ثم عدت إلى مكاني وقد بيضتها وحليت بزهرها ساحة القرطاس وروضتها فلما رآني السلطان قد عدت قال لي هل عملت شيئا ظنا منه أن العمل في تلك اللمحة القريبة معجز متعذر وبلوغ الغرض فيها غير متصور فقلت قد أجبت فقال أنشدنا فصمت الناس وحدقت الأبصار واصاخت الأسماع وظن الناس بي الظنون وترقبوا مني ما يكون فما هو إلا أن توالى الإنشاد لأبياتها حتى صفقت الأيدي إعجابا وتغامزت الأعين استغرابا وحين انتهيت إلى ذكر مولانا الملك الكامل بأنه المعلى في البنين إذا ضربت قداحهم وسردت أمداحهم اغرورقت عيناه دمعا لذكره وأبان صمته

( لم لا أغيب عن الشآم وهل له ... من حاجة عندي وأنت هناكا )
( أم كيف أخشى والبلاد جميعها ... محمية في جاه طعن قناكا )
( يكفي الأعادي حر بأسك فيهم ... أضعاف ما يكفي الولي نداكا )
( ما زرت مصر لغير ضبط ثغورها ... فلذا صبرت فديت عن رؤياكا )
( أم البلاد علا عليها قدرها ... لا سيما مذ شرفت بخطاكا )
( طابت وحق لها ولم لا وهي قد ... حوت المعلى في القداح أخاكا )
( أنا كالسحاب أزور أرضا ساقيا ... حينا وأمنح غيرها سقياكا )
( مكثي جهاد للعدو لأنني ... أغزوه بالرأي السديد دراكا )
( لولا الرباط وغيره لقصدت بالسير ... الحثيث إليك نيل رضاكا )
( ولئن أتيت إلى الشآم فإنما ... يحتثني شوق إلى لقياكا )
( إني لأمنحك المحبة جاهدا ... وهواي فيما تشتهيه هواكا )
( فافخر فقد أصبحت بي وببأسك الحامي ... وكل مملك يخشاكا )
( لا زلت تقهر من يعادي ملكنا ... أبدا ومن عاداك كان فداكا )
( وأعيش أبصر ابنك الباقي أبا ... وتعيش تخدم في السعود أباكا )
ثم عدت إلى مكاني وقد بيضتها وحليت بزهرها ساحة القرطاس وروضتها فلما رآني السلطان قد عدت قال لي هل عملت شيئا ظنا منه أن العمل في تلك اللمحة القريبة معجز متعذر وبلوغ الغرض فيها غير متصور فقلت قد أجبت فقال أنشدنا فصمت الناس وحدقت الأبصار واصاخت الأسماع وظن الناس بي الظنون وترقبوا مني ما يكون فما هو إلا أن توالى الإنشاد لأبياتها حتى صفقت الأيدي إعجابا وتغامزت الأعين استغرابا وحين انتهيت إلى ذكر مولانا الملك الكامل بأنه المعلى في البنين إذا ضربت قداحهم وسردت أمداحهم اغرورقت عيناه دمعا لذكره وأبان صمته

مخفي المحبة حتى أعلن بسره وحين انتهيت إلى آخرها فاض دمعه ولم يمكنه دفعه فمد يده مستدعيا للورقة فناولتها إلى يد الصاحب فناولها له وعند حصولها في يده قام من غير إشعار لأحد بما دار من إرادة القيام في خلده سترا لما ظهر عليه من الرقة على الموالي الأولاد وكتما لما عليه من الوجد بهم والمحبة لهم وانفض المجلس
وإنما حمل الصاحب على هذا الفعل الذي غرر بي فيه وخاطر بي بالتعريض له أشياء كان يقترحها علي فأنفذ فيها من بين يديه ويخف الأمر منها علي لدالتي عليه منها أنني كنت في خدمته سنة 599 بدمشق فورد عليه كتاب من الملك المنصور محمد ابن الملك المظفر تقي الدين صاحب حماة وقد بعث صحبته نسخة من ديوان شعره فتشاغل بتسويد جواب كتابه فلما كتب بعضه التفت إلي وقال اصنع أبياتا أكتبها إليه في صدر الجواب واذكر فيها شعره فقلت له على مثل هذه الحال فقال نعم فقلت بقدر ما أنجز بقية النسخة
( أيا ملكا قد أوسع الناس نائلا ... وأغرقهم بذلا وعمهم عدلا )
( فديناك هب للناس فضلا يزينهم ... فقد حزت دون الناس كلهم الفضلا )
( ودونك فامنحهم من العلم والحجى ... كما منحتهم كفك الجود والبذلا )
( إذا حزت أوفى الفضل عفوا فما الذي ... تركت لمن كان القريض له شغلا )
( وماذا عسى من ظل بالشعر قاصدا ... لبابك أن يأتي به جل أو قلا )
( فلا زلت في عز يدوم ورفعة ... تحوز ثناء يملأ الوعر والسهلا )
ووقع لابن ظافر أيضا من هذا النمط أنه دخل في أصحاب له يعودون صاحبا لهم وبين يديه بركة قد راق ماؤها وصحت سماؤها وقد رص تحت دساتيرها نارنج فتن قلوب الحضار وملأ بالمحاسن عيون النظار فكأنما

رفعت صوالج فضة على كرات من النضار فأشار الحاضرون إلى وصفها فقال بديها
( أبدعت يا بن هلال في فسقية ... جاءت محاسنها بما لم يعهد )
( عجبا لأمواه الدساتير التي ... فاضت على نارنجها المتوقد )
( فكأنهن صوالج من فضة ... رفعت لضرب كرات خالص عسجد )
قدرة ابن قلاقس في الارتجال
ومن بديع الارتجال ما حكاه المذكور عن ابن قلاقس الإسكندري رحمه الله تعالى إذ قال دخل الأعز أبو الفتوح بن قلاقس على بلال بن مدافع بن بلال الفزاري فعرض عليه سيفا قد نظم الفرند في صفحته جوهره وأذكى الدهر ناره وجمد نهره وألبسه من سلخ الأفاعي رداء وجسمه ردى أو داء لا يمنع من برقه بدر مجن ولا ثريا مغفر ولا يسلم من حده من ثبت ولا ينجو لطوله من فر فهو يبكي للنفاق ويضحك ويرعد للغيظ ويفتك وأمره بصفة شانه فقال على لسانه
( أروق كما أروع فإن تصفني ... فإني رائق الصفحات رائع )
( تدافع بي خطوب الدهر حتى ... نقلت إلى بلال عن مدافع )
وقال أيضا فيه
( رب يوم له من النقع سحب ... ما لها غير سائل الدم ودق )
( قد جلته يمنى بلال بحدي ... فكأني في راحة الشمس برق )
وقال أيضا فيه
( أنا في الكريهة كالشهاب الساطع ... من صفحة تبدو وحد قاطع )
( فكأنما استمليت تلك وهذه ... من وصف كف بلال ابن مدافع )
وقال أيضا فيه
( انظر لمطرد المياه بصفحتي ... ولنار حدي كم بها من صالي )
( قد عاد شدي في المضايق شيمتي ... كبلال ابن مدافع بن بلال ) وسأله صاحب له وصف مشط عاج قد اشبه الثريا شكلا ولونا وشق ليلا من الشعر جونا فقال
( ومتيم بالآبنوس وجسمه ... عاج ومن أدهانه شرفاته )
( كتمت دياجي الشعر منه بدرها ... فوشت به للعين عيوقاته )
وقال فيه
( وابيض ليل الآبنوس إذا سرى ... تمزق عن صبح من العاج باهر )
( وإن غاص في بحر الشعور رأيته ... تبشرنا أطرافه بالجواهر )
وقال فيه
( ومشرق يشبه ضوء الضحى ... حسنا ويسري في الدجى الفاحم )
( وكلما قلب في لمة ... أضحكها عن ثغره باسم )
وجلس بمصر في دار الأنماط يوما مع جماعة فمرت بهم امرأة تعرف بابنة أمين الملك وهي شمس تحت سحاب النقاب وغصن في أوراق الشباب

وقال أيضا فيه
( أنا في الكريهة كالشهاب الساطع ... من صفحة تبدو وحد قاطع )
( فكأنما استمليت تلك وهذه ... من وصف كف بلال ابن مدافع )
وقال أيضا فيه
( انظر لمطرد المياه بصفحتي ... ولنار حدي كم بها من صالي )
( قد عاد شدي في المضايق شيمتي ... كبلال ابن مدافع بن بلال ) وسأله صاحب له وصف مشط عاج قد اشبه الثريا شكلا ولونا وشق ليلا من الشعر جونا فقال
( ومتيم بالآبنوس وجسمه ... عاج ومن أدهانه شرفاته )
( كتمت دياجي الشعر منه بدرها ... فوشت به للعين عيوقاته )
وقال فيه
( وابيض ليل الآبنوس إذا سرى ... تمزق عن صبح من العاج باهر )
( وإن غاص في بحر الشعور رأيته ... تبشرنا أطرافه بالجواهر )
وقال فيه
( ومشرق يشبه ضوء الضحى ... حسنا ويسري في الدجى الفاحم )
( وكلما قلب في لمة ... أضحكها عن ثغره باسم )
وجلس بمصر في دار الأنماط يوما مع جماعة فمرت بهم امرأة تعرف بابنة أمين الملك وهي شمس تحت سحاب النقاب وغصن في أوراق الشباب

فحدقوا إليها تحديق الرقيب إلى الحبيب والمريض إلى الطبيب فجعلت تتلفت تلفت الظبي المذعور أفرقه القانص فهرب وتتثنى تثني الغصن الممطور عانقه النسيم فاضطرب فسألوه العمل في وصفها فقال هذا يصلح أن يعكس فيه قول العطار الأزدي القيرواني
( أعرضن لما أن عرضن فإن يكن ... حذرا فأين تلفت الغزلان )
ثم صنع
( لها ناظر في ذرا ناضر ... كما ركب السن فوق القناة )
( لوت حين ولت لنا جيدها ... فأي حياة بدت من وفاة )
( كما ذعر الظبي من قانص ... فمر وكرر في الالتفات )
ثم صنع أيضا
( ولطيفة الألفاظ لكن قلبها ... لم أشك منه لوعة إلا عتا )
( كملت محاسنها فود البدر أن ... يحظى ببعض صفاتها أو ينعتا )
( قد قلت لما أعرضت وتعرضت ... يا مؤيسا يا مطمعا قل لي متى )
( قالت أنا الظبي الغرير وإنما ... ولى وأوجس نبأة فتلفتا )
قال علي بن ظافر وحضر يوما عند بني خليف بظاهر الإسكندرية في قصر رسا بناؤه وسما وكاد يمزق بمزاحمته أثواب السما قد ارتدى جلابيب السحائب ولاث عمائم الغمائم وابتسمت ثنايا شرفاته واتسمت بالحسن حنايا غرفاته وأشرف على سائر نواحي الدنيا وأقطارها وحبته الرياض بما ائتمنتها عليه السحب من ودائع أمطارها والرمل بفنائه قد نثر تبره في زبرجد

كرومه والجو قد بعث بذخائر الطيب لطيمة نسيمه والنخل قد أظهرت جواهرها ونشرت غدائرها والطل ينثر لؤلؤه في مسارب النسيم ومساحبه والبحر يرعد غيظا من عبث الرياح به فسأله بعض الحضور أن يصف ذلك الموضع الذي تمت محاسنه وغبط به ساكنه فجاشت لذلك لجج بحره وألقت إليه جواهره لترصيع لبة ذلك القصر ونحره فقال
( قصر بمدرجة النسيم تحدثت ... فيه الرياض بسرها المستور )
( خفض الخورنق والسدير سموه ... وثنى قصور الروم ذات قصور )
( لاث الغمام عمامة مسكية ... وأقام في أرض من الكافور )
( غنى الربيع به محاسن وصفه ... فافتر عن نور يروق ونور )
( فالدوح يسحب حلة من سندس ... تزهى بلؤلؤ طلها المنثور )
( والنخل كالغيد الحسان تقرطت ... بسبائك المنظوم المنثور )
( والرمل في حبك النسيم كأنما ... أبدى غصون سوالف المذعور )
( والبحر يرعد متنه فكأنه ... درع تشن بمعطفي مقرور )
( وكأننا والقصر يجمع شملنا ... في الأفق بين كواكب وبدور )
( وكذاك دهر بني خليف لم يزل ... يثني المعاطف في حبير حبور ) ثم قال ابن ظافر وأخبرني الفقيه أبو الحسن علي ابن الطوسي المعروف بابن السيوري الإسكندري النحوي بما هذا معناه قال كنت مع الأعز بن قلاقس في جماعة فمر بنا أبو الفضائل بن فتوح المعروف بالمصري وهو راجع من المكتب ومعه دواته وهو في تلك الأيام قرة العين ظرفا وجمالا وراحة القلب قربا ووصالا كل عين إلى وجهه محدقة ولمشهد خديه بخلوق الخجل مخلقة فاقترحنا عليه أن يتغزل فيه فصنع بديها
( علقته متعلقا ... بالخط معتكفا عليه )
( حمل الدواة ولا دواء ... لعاشق يرجى لديه )
( فدماء حبات القلوب ... تلوح صبغا في يديه )
( لم أدر ما أشكو إليه ... أهجره أم مقلتيه )
( والحب يخرسني على ... أني ألكع سيبويه )
( ما لي إذا أبصرته ... شغل سوى نظري إليه )
وقد آن وقت الرجعة إلى كلام الأندلسيين الذي حلا وأبعدنا عنه بما مر النجعة فنقول ذكر الفتح في قلائد العقيان كما قال ابن ظافر ما معناه أخبرني الوزير أبو عامر بن بشتغير أنه حضر مجلس القائد أبي عيسى بن لبون في يوم سفرت فيه أوجه المسرات ونامت عنه أعين المضرات وأظهرت سقاته غصونا تحمل بدورا وتطوف من المدام بنار مازجت من الماء نورا وشموس الكاسات تطلع في أكفها كالورد في السوسان وتغرب بين أقاحي نجوم الثغور فتذبل نرجس الأجفان وعنده الوزير أبو الحسن ابن الحاج اللورقي وهو يومئذ قد بذل الجهد في التحلي بالزهد فأمر القائد بعض السقاة أن يعرض عليه ذهب كاسه ويحييه بزبرجد آسه ويغازله بطرفه ويميل عليه بعطفه ففعل ذلك عجلا فأنشد أبو الحسن مرتجلا
( ومهفهف مزج الفتور بشدة ... وأقام بين تبذل وتمنع )
( يثنيه من فعل المدامة والصبا ... سكران سكر طبيعة وتطبع )
( أو ما إلي بكأسه فكففتها ... ورنا فشفعها بلحظ مطمع )
( والله لولا أن يقال هوى الهوى ... منه بفضل عزيمة وتورع )
( لأخذت في تلك السبيل بمأخذي ... فيما مضى ونزعت فيها منزعي )
وحكى الحميدي أن عبد الملك بن إدريس الجزيري كان ليلة بين يدي الحاجب ابن أبي عامر والقمر يبدو تارة ويخفيه السحاب تارة فقال بديها
( أرى بدر السماء يلوح حينا ... فيبدو ثم يلتحف السحابا )
( وذاك لأنه لما تبدى ... وأبصر وجهك استحيا فغابا )
( مقال لو نمى عني إليه ... لراجعني بتصديقي جوابا )
وكان صاعد اللغوي صاحب كتاب القصوص - وقد تكرر ذكره في هذا الكتاب - كثيرا ما يمدح بلاد العراق بمجلس المنصور بن أبي عامر ويصفها ويقرظها فكتب الوزير أبو مروان عبد الملك بن شهيد والد الوزير أبي عامر أحمد بن شهيد صاحب الغرائب وقد تقدم بعض كلامه قريبا إلى المنصور في يوم برد - وكان أخص وزرائه به - بهذه الأبيات
( أما ترى برد يومنا هذا ... صيرنا للكمون أفذاذا )
( قد فطرت صحة الكبود به ... حتى لكادت تعود أفلاذا )
( فادع بنا للشمول مصطلبا ... نغذ سيرا إليك إغذاذا )
( وادع المسمى بها وصاحبه ... تدع نبيلا وتدع أستاذا ) ولا تبال أبا العلاء زها ... بخمر قطربل وكلواذا )
( ما دام من أرملاط مشربنا ... دع دير عمي وطيز ناباذا ) وكان المنصور قد عزم ذلك اليوم على الانفراد بالحرم فأمر بإحضار من جرى رسمه من الوزراء والندماء وأحضر ابن شهيد في محفة لنقرس كان يعتاده وأخذوا في شأنهم فمر لهم يوم لم يشهدوا مثله ووقت لم يعهدوا نظيره وطما الطرب وسما بهم حتى تهايج القوم ورقصوا وجعلوا يرقصون بالنوبة حتى انتهى الدور إلى ابن شهيد فأقامه الوزير أبو عبد الله ابن عباس فجعل يرقص وهو متوكئ عليه ويرتجل ويومئ إلى المنصور وقد غلب عليه السكر
( هاك شيخا قاده عذر لكا ... قام في رقصته مستهلكا )
( لم يطق يرقصها مستثبتا ... فانثنى يرقصها مستمسكا )
( عاقه عن هزها منفردا ... نقرس أخنى عليه فاتكا )
( من وزير فيهم رقاصة ... قام للسكر يناغي ملكا )
( أنا لو كنت كما تعرفني ... قمت إجلالا على رأسي لكا )
( قهقه الإبريق مني ضاحكا ... ورأى رعشة رجلي فبكى )
قال ابن ظافر وهذه قطعة مطبوعة وطرفها الأخير واسطتها وكان حاضرهم ذلك اليوم رجل بغدادي يعرف بالفكيك حسن النادرة سريعها وكان ابن شهيد استحضره إلى المنصور فاستطبعه فلما رأى ابن شهيد يرقص قائما مع ألم المرض الذي كان يمنعه من الحركة قال لله درك يا وزير ! ترقص بالقائمة وتصلي بالقاعدة فضحك المنصور وأمر لابن شهيد بمال جزيل ولسائر الجماعة وللبغدادي
وقال ابن بسام حدث أبو بكر محمد بن أحمد بن جعفر بن

( علقته متعلقا ... بالخط معتكفا عليه )
( حمل الدواة ولا دواء ... لعاشق يرجى لديه )
( فدماء حبات القلوب ... تلوح صبغا في يديه )
( لم أدر ما أشكو إليه ... أهجره أم مقلتيه )
( والحب يخرسني على ... أني ألكع سيبويه )
( ما لي إذا أبصرته ... شغل سوى نظري إليه )
وقد آن وقت الرجعة إلى كلام الأندلسيين الذي حلا وأبعدنا عنه بما مر النجعة فنقول ذكر الفتح في قلائد العقيان كما قال ابن ظافر ما معناه أخبرني الوزير أبو عامر بن بشتغير أنه حضر مجلس القائد أبي عيسى بن لبون في يوم سفرت فيه أوجه المسرات ونامت عنه أعين المضرات وأظهرت سقاته غصونا تحمل بدورا وتطوف من المدام بنار مازجت من الماء نورا وشموس الكاسات تطلع في أكفها كالورد في السوسان وتغرب بين أقاحي نجوم الثغور فتذبل نرجس الأجفان وعنده الوزير أبو الحسن ابن الحاج اللورقي وهو يومئذ قد بذل الجهد في التحلي بالزهد فأمر القائد بعض السقاة أن يعرض عليه ذهب كاسه ويحييه بزبرجد آسه ويغازله بطرفه ويميل عليه بعطفه ففعل ذلك عجلا فأنشد أبو الحسن مرتجلا
( ومهفهف مزج الفتور بشدة ... وأقام بين تبذل وتمنع )
( يثنيه من فعل المدامة والصبا ... سكران سكر طبيعة وتطبع )
( أو ما إلي بكأسه فكففتها ... ورنا فشفعها بلحظ مطمع )

( والله لولا أن يقال هوى الهوى ... منه بفضل عزيمة وتورع )
( لأخذت في تلك السبيل بمأخذي ... فيما مضى ونزعت فيها منزعي )
وحكى الحميدي أن عبد الملك بن إدريس الجزيري كان ليلة بين يدي الحاجب ابن أبي عامر والقمر يبدو تارة ويخفيه السحاب تارة فقال بديها
( أرى بدر السماء يلوح حينا ... فيبدو ثم يلتحف السحابا )
( وذاك لأنه لما تبدى ... وأبصر وجهك استحيا فغابا )
( مقال لو نمى عني إليه ... لراجعني بتصديقي جوابا )
وكان صاعد اللغوي صاحب كتاب القصوص - وقد تكرر ذكره في هذا الكتاب - كثيرا ما يمدح بلاد العراق بمجلس المنصور بن أبي عامر ويصفها ويقرظها فكتب الوزير أبو مروان عبد الملك بن شهيد والد الوزير أبي عامر أحمد بن شهيد صاحب الغرائب وقد تقدم بعض كلامه قريبا إلى المنصور في يوم برد - وكان أخص وزرائه به - بهذه الأبيات
( أما ترى برد يومنا هذا ... صيرنا للكمون أفذاذا )
( قد فطرت صحة الكبود به ... حتى لكادت تعود أفلاذا )
( فادع بنا للشمول مصطلبا ... نغذ سيرا إليك إغذاذا )
( وادع المسمى بها وصاحبه ... تدع نبيلا وتدع أستاذا ) ولا تبال أبا العلاء زها ... بخمر قطربل وكلواذا )
( ما دام من أرملاط مشربنا ... دع دير عمي وطيز ناباذا )

وكان المنصور قد عزم ذلك اليوم على الانفراد بالحرم فأمر بإحضار من جرى رسمه من الوزراء والندماء وأحضر ابن شهيد في محفة لنقرس كان يعتاده وأخذوا في شأنهم فمر لهم يوم لم يشهدوا مثله ووقت لم يعهدوا نظيره وطما الطرب وسما بهم حتى تهايج القوم ورقصوا وجعلوا يرقصون بالنوبة حتى انتهى الدور إلى ابن شهيد فأقامه الوزير أبو عبد الله ابن عباس فجعل يرقص وهو متوكئ عليه ويرتجل ويومئ إلى المنصور وقد غلب عليه السكر
( هاك شيخا قاده عذر لكا ... قام في رقصته مستهلكا )
( لم يطق يرقصها مستثبتا ... فانثنى يرقصها مستمسكا )
( عاقه عن هزها منفردا ... نقرس أخنى عليه فاتكا )
( من وزير فيهم رقاصة ... قام للسكر يناغي ملكا )
( أنا لو كنت كما تعرفني ... قمت إجلالا على رأسي لكا )
( قهقه الإبريق مني ضاحكا ... ورأى رعشة رجلي فبكى )
قال ابن ظافر وهذه قطعة مطبوعة وطرفها الأخير واسطتها وكان حاضرهم ذلك اليوم رجل بغدادي يعرف بالفكيك حسن النادرة سريعها وكان ابن شهيد استحضره إلى المنصور فاستطبعه فلما رأى ابن شهيد يرقص قائما مع ألم المرض الذي كان يمنعه من الحركة قال لله درك يا وزير ! ترقص بالقائمة وتصلي بالقاعدة فضحك المنصور وأمر لابن شهيد بمال جزيل ولسائر الجماعة وللبغدادي
وقال ابن بسام حدث أبو بكر محمد بن أحمد بن جعفر بن

عثمان المصحفي قال دخلت يوما على أبي عامر ابن شهيد وقد ابتدأت علته التي مات بها فأنس بي وجرى الحديث إلى أن شكوت له تجني بعض أصحابي علي ونفاره عني فقال لي سأسعى في إصلاح ذات البين فخرجت عنه واتفق لقائي لذلك المتجني علي مع بعض أصحابي وأعزهم علي فلما رآني ذلك الصديق موليا عنه أنكر عليه وسأله عن السبب الموجب فأخبره وزادا في مشيهما حتى لحقا بي وعزم علي في مكالمة صاحبي وتعاتبنا عتابا أرق من الهواء وأشهى من الماء على الظماء حتى جئنا دار أبي عامر فلما رآنا جميعا ضحك وقال من كان الذي تولى إصلاح ما كنا سررنا بفساده قلنا قد كان ما كان فأطرق قليلا ثم أنشد
( من لا أسمي ولا أبوح به ... أصلح بيني وبين من أهوى )
( أرسلت من كابد الهوى فدرى ... كيف يداوي مواقع البلوى )
ولي حقوق في الحب ثابتة لكن إلفي يعدها دعوى وقد ذكرنا في هذا الكتاب من غرائب أبي عامر بن شهيد في مواضع متفرقة الغرائب وقدمنا في الباب الرابع حكايته مع المرأة الداخلة في رمضان لجامع قرطبة وحكيناها هناك بلفظ ( المطمح ) فلتراجع
وعبر ابن ظافر عن معناها بقوله إن أبا عامر كان مع جماعة من أصحابه بجامع قرطبة في ليلة السابع والعشرين من رمضان فمرت امرأة به من بنات أجلاء قرطبة قد كملت حسنا وظرفا ومعها طفل يتبعها كالظبية تستتبع خشفا وقد حفت بها الجواري كالبدر حف بالدراري فحين رأت تلك الجماعة المعروفة بالخلاعة وقد رمقوا ذلك الظبي بعيون أسود رأت فريسة

حذف 262
( تقول التي من بيتها كف مركبي ... أقربك دان أم مداك بعيد )
( فقلت لها أمري إلى من سمت به ... إلى المجد آباء له وجدود )
ثم قال ولزمته آخر عمره علة دامت به سنين ولم تفارقه حتى تركته يد جنين وأحسب أن الله أراد بها تمحيصه وإطلاقه من ذنب كان قنيصه فطهره تطهيرا وجعل ذلك على العفو له ظهيرا فإنها أقعدته حتى حمل في المحفة وعاودته حتى غدت لرونقه مشتفة وعلى ذلك فلم يعطل لسانه ولم يبطل إحسانه ولم يزل يستريح إلى القول ويزيح ما كان يجده من الغول وآخر شعر قاله قوله
( ولما رأيت العيش لوى برأسه ... وأيقنت أن الموت لا شك لاحقي )
( تمنيت أني ساكن في عباءة ... بأعلى مهب الريح في رأس شاهق )
( أرد سقيط الطل في فضل عيشتي ... وحيدا وأحسو الماء ثني المعالق )
( خليلي من ذاق المنية مرة ... فقد ذقتها خمسين قولة صادق )
( كأني وقد حان ارتحالي لم أفز ... قديما من الدنيا بلمحة بارق )
( فمن مبلغ عني ابن حزم وكان لي ... يدا في ملماتي وعند مضايقي )
( عليك سلام الله إني مفارق ... وحسبك زادا من حبيب مفارق )
( فلا تنس تأبيني إذا ما ذكرتني ... وتذكار أيامي وفضل خلائقي )
( وحرك له بالله من أهل فننا ... إذا غيبوني كل شهم غرانق )

ارتاعت وتخوفت أن تخطف منها تلك الدرة النفيسة فاستدنت إليها خشفها وألزمته عطفها فارتجل ابن شهيد قائلا
( وناظرة تحت طي القناع إلخ ... ) ومرت في الباب الرابع هذه الأبيات وقال الرئيس أبو الحسن عبد الرحمن بن راشد الراشدي لما نعيت أبا عامر بن شهيد إلى أبي عبد الله بن الحناط الشاعر وقد عرف ما كان بينهما من المنافسة بكى وأنشدني لنفسه بديهة
( لما نعى الناعي أبا عامر ... أيقنت أني لست بالصابر )
( أودى فتى الظرف وترب الندى ... وسيد الأول والآخر ) وقال ابن بسام اصطبح المعتصم بن صمادح يوما مع ندمائه فأبرز لهم وصيفة مهدوية متصرفة في أنواع اللعب المطرب من الدك وحضر أيضا هناك لاعب مصري ساحر فكان لعبه حسنا فارتجل أبو عبد الله بن الحداد
( كذا فلتلح قمرا زاهرا ... وتجني الهوى ناظرا ناضرا ) وسيبك سيب ندى مغدق ... أقام لنا هاميا هامرا )
( وإن ليومك ذا رونقا ... منيرا كنور الضحى باهرا )
( صباح اصطباح بإسفاره ... لحظنا محيا العلا سافرا )
( وأطلعت فيه نجوم الكؤوس ... فما زال كوكبها زاهرا )
( وأسمعتنا لاحنا فاتنا ... وأحضرتنا لاعبا ساحرا )

( يرفرف فوق رؤوس القيان ... فننظر ما يذهل الناظرا )
( ويحفظها ذيل سرباله ... فننظر طالعها غائرا )
( فظاهرها ينثني باطنا ... وباطنها ينثني ظاهرا )
( وثناه ثان لألعابه ... دقائق تثني الحجى حائرا )
( وفي سورة الراح من سحره ... خواطر دلهت الخاطرا )
( إذا ورد اللحظ أثناءها ... فما الوهم عن وردها صادرا )
( ومن حسن دهرك إبداعه ... فما انفك عارضها ماطرا )
( وسعدك يجتلب المغربات ... فيجعل غائبها حاضرا )
قال وحضر الأديب أحمد بن الشقاق عند القائد بن دري بجيان هو وأبو زيد بن مقانا الأشبوني فأحضر لهما عنبا أسود مغطى بورق أخضر فارتجل ابن الشقاق
( عنب تطلع من حشا ورق لنا ... صبغت غلائل جلده بالإثمد )
( فكأنه من بينهن كواكب ... كسفت فلاحت في سماء زبرجد )
قال وحضر ابن مرزقان ليلة عند ذي النون بن خلدون وبحضرته وصيفة تحمل شمعة فاستحسنها ابن مرزقان فقال بديها
( يا شمعة تحملها أخرى ... كأنها شمس علت بدرا )
( امتحنت إحداكما مهجتي ... بمثل ما تمتحن الأخرى )
قال ودخل الأديب غانم يوما على باديس صاحب غرناطة فوسع له على ضيق كان في المجلس فقال بديها
( صير فؤادك للمحبوب منزلة ... سم الخياط مجال للمحبين )
( ولا تسامح بغيضا في معاشرة ... فقلما تسع الدنيا بغيضين )
وأخذه من قول الخليل ( ( ما تضايق سم الخياط بمتحابين ولا اتسعت الدنيا لمتباغضين )
وكان الخليل على نمرقة صغيرة والمجلس متضايق فدخل عليه بعض أصحابه فرحب به وأجلسه معه على النمرقة فقال له الرجل إنها لا تسعنا فقال ما ذكر
وقال ابن بسام أيضا أمر الحاجب المنذر بن يحيى التجيبي صاحب سرقسطة بعرض بعض الجند في بعض اليام ورئيسهم مملوك له رومي يقال له خيار في نهاية الجمال فجعل ينفخ في القرن ليجتمع أصحابه على عادة لهم في ذلك فقال ابن هندو الداني فيه ارتجالا
( أعن بابل أجفان عينيك تنفث ... ومن قوم موسى أنت للعهد تنكث )
( أفي الحق أن تحكي سرافيل نافخا ... وأمكث في رمس الصدود وألبث )
( عساك نبي الحسن تأتي بآية ... فتنفخ في ميت الصدود فيبعث ) قال وكان بقرطبة غلام وسيم فمر عليه ابن فرج الجياني ومعه صاحب له فقال صاحبه إنه لصبيح لولا صفرة فيه فقال ابن فرج ارتجالا

قال ودخل الأديب غانم يوما على باديس صاحب غرناطة فوسع له على ضيق كان في المجلس فقال بديها
( صير فؤادك للمحبوب منزلة ... سم الخياط مجال للمحبين )
( ولا تسامح بغيضا في معاشرة ... فقلما تسع الدنيا بغيضين )
وأخذه من قول الخليل ( ( ما تضايق سم الخياط بمتحابين ولا اتسعت الدنيا لمتباغضين )
وكان الخليل على نمرقة صغيرة والمجلس متضايق فدخل عليه بعض أصحابه فرحب به وأجلسه معه على النمرقة فقال له الرجل إنها لا تسعنا فقال ما ذكر
وقال ابن بسام أيضا أمر الحاجب المنذر بن يحيى التجيبي صاحب سرقسطة بعرض بعض الجند في بعض اليام ورئيسهم مملوك له رومي يقال له خيار في نهاية الجمال فجعل ينفخ في القرن ليجتمع أصحابه على عادة لهم في ذلك فقال ابن هندو الداني فيه ارتجالا
( أعن بابل أجفان عينيك تنفث ... ومن قوم موسى أنت للعهد تنكث )
( أفي الحق أن تحكي سرافيل نافخا ... وأمكث في رمس الصدود وألبث )
( عساك نبي الحسن تأتي بآية ... فتنفخ في ميت الصدود فيبعث ) قال وكان بقرطبة غلام وسيم فمر عليه ابن فرج الجياني ومعه صاحب له فقال صاحبه إنه لصبيح لولا صفرة فيه فقال ابن فرج ارتجالا

( قالوا به صفرة عابت محاسنه ... فقلت ما ذاك من عيب به نزلا )
( عيناه تطلب في أوتار من قتلت ... فلست تلقاه إلا خائفا وجلا ) قال وكان يوما مع لمة من أهل الأدب في مجلس أنس فاحتاج رب المنزل إلى دينار فوجه إلى السوق فدخل به عليهم غلام من الصيارف في نهاية الجمال فرمى بالدينار إليهم من فيه تماجنا فقال ابن فرج
( أبصرت دينارا بكف مهفهف ... يزهى به من كثرة الإعجاب )
( أو ما به من فيه ثم رمى به ... فكأنه بدر رمى بشهاب ) قال وخرج الأديب أبو الحسن ابن حصن الإشبيلي إلى وادي قرطبة في نزهة فتذكر إشبيلية فقال بديها
( ذكرتك يا حمص ذكرى هوى ... أمات الحسود وتعنيته )
( كأنك والشمس عند الغروب ... عروس من الحسن منحوته )
( غدا النهر عقدك والطود تاجك ... والشمس أعلاه ياقوته )
انتهى وعبر بعضهم وهو صاحب بدائع البدائه عن بعض حكايات صاحب القلائد بما يقاربها في المعنى فقال إن المستعين بن هود ملك سرقسطة والثغور ركب نهر سرقسطة يوما لتفقد بعض معاقله المنتظمة بجيد ساحله وهو نهر رق ماؤه وراق وأزرى على نيل مصر ودجلة العراق قد اكتنفته البساتين من جانبيه وألقت ظلالها عليه فما تكاد عين الشمس أن

تنظر إليه هذا على اتساع عرضه وبعد سطح مائه من أرضه وقد توسط زورقه زوارق حاشيته توسط البدر للهالة وأحاطت به إحاطة الطفاوة بالغزالة وقد أعدوا من مكايد الصيد ما استخرج ذخائر الماء وأخاف حتى حوت السماء وأهلة الهالات طالعة من الموج في سحاب وقانصة من بنات الماء كل طائرة كالشهاب فلا ترى إلا صيودا كقصد الصوارم وقدود اللهاذم ومعاصم الأبكار النواعم فقال الوزير أبو الفضل ابن حسداي والطرب قد استهواه وبديع ذلك المرأى قد استرق هواه
( لله يوم أنيق واضح الغرر ... مفضض مذهب الآصال والبكر )
( كأنما الدهر لما ساء أعتبنا ... فيه بعتبى فأبدى صفح معتذر )
( نسير في زورق حف السرور به ... من جانبيه بمنظوم ومنتثر )
( مد الشراع به قدا على ملك ... بذ الأوائل في أيامه الأخر )
( هو الإمام الهمام المستعين حوى ... علياء مؤتمن في هدي مقتدر )
( تحوي السفينة منه آية عجبا ... بحر تجمع حتى صار في نهر )
( تثار من قعره النينان مصعدة ... صيدا كما ظفر الغواص بالدرر )
( وللندامى به عب ومرتشف ... كالريق يعذب في ورد وفي صدر )
( والشرب في ود مولى خلقه زهر ... يذكو وبهجته أبهى من القمر ) ثم قال ما معناه وقوله ( ( نينان ) ) غير معروف فإن نونا لم يجئ جمعها على نينان وقد كان سيبويه لحن بشار بن برد في قوله في صفة السفينة
( تلاعب نينان البحور وربما ... رأيت نفوس القوم من جريها تجري )
فغيره بشار ب ( ( تيار البحور ) ) وقد قال أبو الطيب يصف خيلا

( فهن مع السيدان في البر عسل ... وهن مع النينان في البحر عوم )
انتهى
والمستعين بن هود هو أحمد بن المؤتمن على أمر الله يوسف بن المقتدر بالله أحمد بن المستضيء بالله سليمان بن هود الجذامي رحم الله تعالى الجميع
وعبر المذكور عن قضية ابن وهبون في هلال شوال بما نصه خرج ابن وهبون يوما لنظر هلال شوال وأبو بكر ابن القبطرنة الوزير يسايره وهو يومئذ غلام يخجل البدر ويذوي الغصن النضر وصفحته لم يسطرها العذار بأنقاسه ووردة خده لم يسترها الشعر بآسه فارتجل عبد الجليل
( يا هلال استتر بوجهك عني إن مولاك قابض بشمالي )
( هبك تحكي سناه خدا بخد ... قم فجئني لقده بمثال ) وقد ذكرنا هذه الحكاية في حذف غير هذا الموضع بلفظ الفتح في القلائد ولكنا أعدناها هنا لتعبير صاحب البدائع عنها محاكيا لطريقته
وذكر ابن بسام أن الوزير أبا عبد الله ابن أبي الخصال وقف بباب بعض القضاة واستأذن عليه فحجب عنه فكتب إليه بديها
( جئناك للحاجة الممطول صاحبها ... وأنت تنعم والإخوان في بوس )
( وقد وقفنا طويلا عند بابكم ... ثم انصرفنا على رأي ابن عبدوس )
أشار به إلى قول الوزير أبي عامر بن عبدوس
( لنا قاض له خلق ... أقل ذميمه النزق )
( إذا جئناه يحجبنا ... فنلعنه ونفترق )
وهو تمليح مليح سامح الله تعالى الجميع
وقال أبو جعفر الكاتب القرطبي الربضي
( وأبي المدامة ما أريد بشربها ... صلف الرقيع ولا انهماك اللاهي )
( لم يبق من عصر الشباب وطيبه ... شيء كعهدي لم يحل إلا هي )
( إن كنت أشربها لغير وفائها ... فتركتها للناس لا لله )
وبعضهم ينسبها لأبي القاسم عامر بن هشام والصواب - كما قال ابن الأبار - الأول
وقال أبو جعفر المذكور في فوارة رخام كلفه وصفها والي قرطبة
( ما شغل الطرف مثل فائرة ... تمج صرف الحياة من فيها )
( إشرب بها والحباب في جذل ... يظهره حسنها ويخفيها )
( تكاد من رقة تضمنها ... تخطبها العين إذ توافيها )
( كأنها من درة منعمة ... زهراء قد ذاب نصفها فيها )
ومن شعره أيضا

( لنا قاض له خلق ... أقل ذميمه النزق )
( إذا جئناه يحجبنا ... فنلعنه ونفترق )
وهو تمليح مليح سامح الله تعالى الجميع
وقال أبو جعفر الكاتب القرطبي الربضي
( وأبي المدامة ما أريد بشربها ... صلف الرقيع ولا انهماك اللاهي )
( لم يبق من عصر الشباب وطيبه ... شيء كعهدي لم يحل إلا هي )
( إن كنت أشربها لغير وفائها ... فتركتها للناس لا لله )
وبعضهم ينسبها لأبي القاسم عامر بن هشام والصواب - كما قال ابن الأبار - الأول
وقال أبو جعفر المذكور في فوارة رخام كلفه وصفها والي قرطبة
( ما شغل الطرف مثل فائرة ... تمج صرف الحياة من فيها )
( إشرب بها والحباب في جذل ... يظهره حسنها ويخفيها )
( تكاد من رقة تضمنها ... تخطبها العين إذ توافيها )
( كأنها من درة منعمة ... زهراء قد ذاب نصفها فيها )
ومن شعره أيضا

( ضحك المشيب برأسه ... فبكى بأعين كاسه )
( رجل تخونه الزمان ... ببؤسه وبباسه )
( فجرى على غلوائه ... طلق الجموح بناسه )
( أخذا بأوفر حظه ... لرجائه من ياسه )
وقال أحد بني القبطرنة الوزراء
( ذكرت سليمى ونار الوغى ... بقلبي كساعة فارقتها )
( وأبصرت قد القنا شبهها ... وقد ملن نحوي فعانقتها )
وهذا معنى بديع ما أراه سبق به وقال أبو الحسن بن الغليظ المالقي قلت يوما للأديب أبي عبد الله بن السراج المالقي ونحن على خرير ماء أجز
( شربنا على ماء كأن خريره ... ) فقال مبادرا
( بكاء محب بان عنه حبيب ... )
( فمن كان مشغوفا كئيبا بإلفه ... فإني مشغوف به وكئيب ) وكتب أبو بكر البلنسي إلى الأديب أبي بحر صفوان بن إدريس هذين البيتين يستجيزه القسيم الأخير منهما
( خليلي أبا بحر وما قرقف اللمى ... بأعذب من قولي خليلي أبا بحر )
( أجز غير مأمور قسيما نظمته ... تأمل على نحر المياه حلى الزهر ) فأجازه
( تأمل على نحر المياه حلى الزهر ... كعهدك بالخضراء والأنجم الزهر )
( وقد ضحكت للياسمين مباسم ... سرورا بآداب الوزير أبي بكر )
( وأصغت من الآس النضير مسامع ... لتسمع ما يتلوه من سور الشعر ) وقال ابن خفاجة
( وما الأنس إلا في مجاج زجاجة ... ولا العيش إلا في صرير سرير )
( وإني وإن جئت المشيب لمولع ... بطرة ظل فوق وجه غدير ) وقال ابن خفاجة أيضا
( وأسود يسبح في لجة ... لا تكتم الحصباء غدرانها )
( كأنها في شكلها مقلة ... وذلك الأسود إنسانها )
قصائد لابن زيدون
وكتب الوزير الشهير أبو الوليد بن زيدون إلى الوزير أبي عبد الله بن عبد العزيز أثر صدوره عن بلنسيه
( راحت فصح بها السقيم ... ريح معطرة النسيم )
( مقبولة هبت قبو ... لا فهي تعبق في الشميم )

( خليلي أبا بحر وما قرقف اللمى ... بأعذب من قولي خليلي أبا بحر )
( أجز غير مأمور قسيما نظمته ... تأمل على نحر المياه حلى الزهر ) فأجازه
( تأمل على نحر المياه حلى الزهر ... كعهدك بالخضراء والأنجم الزهر )
( وقد ضحكت للياسمين مباسم ... سرورا بآداب الوزير أبي بكر )
( وأصغت من الآس النضير مسامع ... لتسمع ما يتلوه من سور الشعر ) وقال ابن خفاجة
( وما الأنس إلا في مجاج زجاجة ... ولا العيش إلا في صرير سرير )
( وإني وإن جئت المشيب لمولع ... بطرة ظل فوق وجه غدير ) وقال ابن خفاجة أيضا
( وأسود يسبح في لجة ... لا تكتم الحصباء غدرانها )
( كأنها في شكلها مقلة ... وذلك الأسود إنسانها )
قصائد لابن زيدون
وكتب الوزير الشهير أبو الوليد بن زيدون إلى الوزير أبي عبد الله بن عبد العزيز أثر صدوره عن بلنسيه
( راحت فصح بها السقيم ... ريح معطرة النسيم )
( مقبولة هبت قبو ... لا فهي تعبق في الشميم )

( أفضيض مسك أم بلنسية ... لرياها نميم )
( بلد حبيب أفقه ... لفتى يحل به كريم )
( إيه أبا عبد الإله ... نداء مغلوب العزيم )
( إن عيل صبري من فرا ... قك فالعذاب به أليم )
( أو أتبعتك حنينها ... نفسي فأنت لها قسيم )
( ذكري لعهدك كالعرار ... سرى فبرح بالسليم )
( مهما ذممت فما زماني ... في ذمامك بالذميم )
( زمن كمألوف الرضاع ... يشوق ذكراه الفطيم )
( أيام أعقد ناظري ... في ذلك المرأى الوسيم )
( وأرى الفتوة غضة ... في ثوب أواه حليم )
( الله يعلم أن حبك ... من فؤادي في الصميم )
( ولئن تحمل عنك لي ... جسم فعن قلب مقيم )
( قل لي باي خلال سرك ... فيك أفتن أو أهيم )
( ألمجدك العمم الذي ... نسق الحديث مع القديم )
( أم ظرفك الغض الجنى ... أم عرضك الصافي الأديم )
( أم برك العذب الجمام ... وبشرك الغض الجميم )
( إن أشمست تلك الطلا ... قة فالندى منها مغيم )
( أم بالبدائع كاللآلي ... من نثير أو نظيم )
( لبلاغة إن عد أهلوها ... فأنت بها زعيم )
( فقر تسوغ بها المدام ... إذا يكررها النديم )
( إن الذي قسم الحظوظ ...
( حباك بالخلق العظيم )
( لا أستزيد الله نعمى ... فيك لا بل أستديم )
( فلقد أقر العين أنك ... غرة الزمن البهيم )
( حسبي الثناء بحسن برك ... ما بدا برق وشيم )

( ثم الدعاء بأن تهنأ ... طول عيشك في نعيم )
( ثم السلام تبلغنه ... فغيب مهديه سليم ) ولما ورد إشبيلية نزل بدار الوزير الكاتب ذي الوزارتين أبي عامر بن مسلمة وهو يبني مجلسا فصنع أبياتا كتبت
فيه
( عمر من يعمر ذا المجلسا ... أطول عمر يبهج الأنفسا )
( وبعد ذا عوض من داره ... عدنا ومن ديباجه السندسا )
( ولقي النور بها والرضى ... ووقي الأسواء والأبؤسا )
( ودام عباد لعضد الهدى ... يحرس حتى يفني الأحرسا )
( معتضد بالله إحسانه ... جم إذا ما الدهر يوما أسا )
( الملك الغمر الندى المقتني ... من كل حمد علقه الأنفسا )
( إن رام يوما وصف عليائه ... مفوه مقتدر أخرسا )
( لا زال بدرا طالعا نيرا ... يكشف عن آمالنا الحندسا ) وقال فيه أيضا
( أدرها فقد حسن المجلس ... وقد آن أن تترع الأكؤس )
( ولا تنس أن أوان الربيع ... إذا لم تجد فقده الأنفس )
( فإن خلال أبي عامر ... بها يحقر الورد والنرجس )
وكتب إلى الوزير أبي المعالي المهلب بن عامر يستدعيه

( طابت لنا ليلتنا الخاليه ... فلنتبعنها هذه الثانيه )
( أبا المعالي نحن في راحة ... فانقل إلينا القدم العاليه )
( لأنها عاطلة إن تغب ... عنا فزرنا كي ترى حاليه )
( أنت الذي لو تشترى ساعة ... منه بدهر لم تكن غاليه ) وكتب إليه ذو الوزارتين أبو عامر المذكور معاتبا
( تباعدنا على قرب الجوار ... كأنا صدنا شط المزار )
( تطلع لي هلال الهجر بدرا ... وصار هلال وصلك في سرار )
( وشاع شنيع قطعك لي بوصلي ... فهلا كان ذلك في استتار )
( أيجمل أن ترى عني صبورا ... فأصبح مولعا دون اصطبار )
( وكنت أزيد سمعك من عتابي ... ولكن عاقني فرط الخمار )
( فراع مودتي واحفظ جواري ... فإن الله أوصى بالجوار )
( وزرني منعما من غير أمر ... وآنس موحشا من عقر داري )
فكتب إليه ابن زيدون
( هواي وإن تناءت عنك داري ... كمثل هواي في حال الجوار )
( مقيم لا تغيره عواد ... تباعد بين أحيان المزار )
( رأيتك قلت إن الهجر بدر ... متى خلت البدور من السرار )
( ورابك أنني جلد صبور ... وكم صبر يكون عن اصطبار )
( ولم أهجر لعتب غير أني ... أضرت بي معاقرة العقار )
( وإن الخمر ليس لها خمار ... يبرح بي فكيف مع الخمار )
( وهل أنسى لديك نعيم عيش ... كوشي الخد طرز بالعذار ... وساعات يجول اللهو فيها ... مجال الطل في حدق النهار )
( وإن يك فر عنك اليوم جسمي ... فديت فما لقلبي من فرار )
( وكنت على البعاد أجل شيء ... لدي فكيف إذ أصبحت جاري )
وكان أبو العطاف إذ ورد إشبيلية رسولا قد سأله أن يريه شيئا من شعره فمطله به حتى كتب إليه شعرا يستبطئه فأجابه ابن زيدون في العروض والقافية
( أفدتني من نفائس الدرر ... ما أبرزته غوائص الفكر )
( من لفظة قارنت نظائرها ... قران سقم الجفون للحور )
وهي أكثر مما ذكر
وكتب رحمه الله تعالى - أعني ذا الوزارتين ابن زيدون - إلى ولادة
( أضحى التنائي بديلا من تدانينا ... وناب عن طيب دنيانا تجافينا )
( ألا وقد حان صبح الليل صبحنا ... حين فقام بنا للحين ناعينا )
( من مبلغ الملبسينا بانتزاحهم ... حزنا مع الدهر لا يبلى ويبلينا )
( أن الزمان الذي ما زال يضحكنا ... أنسا بقربهم قد عاد يبكينا )
( غيظ العدا من تساقينا الهوى فدعوا ... بأن نغص فقال الدهر آمينا

( ولم أهجر لعتب غير أني ... أضرت بي معاقرة العقار )
( وإن الخمر ليس لها خمار ... يبرح بي فكيف مع الخمار )
( وهل أنسى لديك نعيم عيش ... كوشي الخد طرز بالعذار ... وساعات يجول اللهو فيها ... مجال الطل في حدق النهار )
( وإن يك فر عنك اليوم جسمي ... فديت فما لقلبي من فرار )
( وكنت على البعاد أجل شيء ... لدي فكيف إذ أصبحت جاري )
وكان أبو العطاف إذ ورد إشبيلية رسولا قد سأله أن يريه شيئا من شعره فمطله به حتى كتب إليه شعرا يستبطئه فأجابه ابن زيدون في العروض والقافية
( أفدتني من نفائس الدرر ... ما أبرزته غوائص الفكر )
( من لفظة قارنت نظائرها ... قران سقم الجفون للحور )
وهي أكثر مما ذكر
وكتب رحمه الله تعالى - أعني ذا الوزارتين ابن زيدون - إلى ولادة
( أضحى التنائي بديلا من تدانينا ... وناب عن طيب دنيانا تجافينا )
( ألا وقد حان صبح الليل صبحنا ... حين فقام بنا للحين ناعينا )
( من مبلغ الملبسينا بانتزاحهم ... حزنا مع الدهر لا يبلى ويبلينا )
( أن الزمان الذي ما زال يضحكنا ... أنسا بقربهم قد عاد يبكينا )
( غيظ العدا من تساقينا الهوى فدعوا ... بأن نغص فقال الدهر آمينا

( فانحل ما كان معقودا بأنفسنا ... وانبت ما كان موصولا بأيدينا )
( بالأمس كنا وما يخشى تفرقنا ... واليوم نحن وما يرجى تلاقينا )
( يا ليت شعري ولم نعتب أعاديكم ... هل نال حظا من العتبى أعادينا ) لم نعتقد بعدكم إلا الوفاء لكم ... رأيا ولم نتقلد غيره دينا )
( كنا نرى اليأس تسلينا عوارضه ... وقد يئسنا فما لليأس يغرينا )
( بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا ... شوقا إليكم ولا جفت مآقينا )
( نكاد حين تناجيكم ضمائرنا ... يقضي علينا الأسى لولا تأسينا )
( حالت لفقدكم أيامنا فغدت ... سودا وكانت بكم بيضا ليالينا )
( إذ جانب العيش طلق من تألفنا ... ومورد اللهو صاف من تصافينا )
( وإذ هصرنا فنون الوصل دانية ... قطوفها فجنينا منه ما شينا )
( ليسق عهدكم عهد السرور فما ... كنتم لأرواحنا إلا رياحنا )
( لا تحسبوا نأيكم عنا يغيرنا ... إن طال ما غير النأي المحبينا )
( والله ما طلبت أهواؤنا بدلا ... منكم ولا انصرفت عنكم أمانينا )
( يا ساري البرق غاد القصر فاسق به ... من كان صرف الهوى والود يسقينا )
( واسأل هنالك هل عنى تذكرنا ... إلفا تذكره أمسى يعنينا )
( ويا نسيم الصبا بلغ تحيتنا ... من لو على البعد حيا كان يحيينا )
( من لا يرى الدهر يقضينا مساعفة ... فيه وإن لم يكن عنا يقاضينا )
( من بيت ملك كأن الله أنشأه ... مسكا وقد أنشأ الله الورى طينا )
( أو صاغه ورقا محضا وتوجه ... من ناصع التبر إبداعا وتحسينا )
( إذا تأود آدته رفاهية ... توم العقود وأدمته البرى لينا )

( كانت له الشمس ظئرا في تكلله ... بل ما تجلى لها إلا أحايينا )
( كأنما أثبتت في صحن وجنته ... زهر الكواكب تعويذا وتزيينا )
( ما ضر أن لم نكن أكفاءه شرفا ... وفي المودة كاف من تكافينا )
( يا روضة طالما أجنت لواحظنا ... وردا جلاه الصبا غضا ونسرينا )
( ويا حياة تملينا بزهرتها ... منى ضروبا ولذات أفانينا )
( ويا نعيما خطرنا من غضارته ... في وشي نعمى سحبنا ذيله حينا )
( لسنا نسميك إجلالا وتكرمة ... وقدرك المعتلي عن ذاك يغنينا )
( إذا انفردت وما شوركت في صفة ... فحسبنا الوصف إيضاحا وتبيينا )
( يا جنة الخلد أبدلنا بسلسلها ... والكوثر العذب زقوما وغسلينا )
( كأننا لم نبت والوصل ثالثنا ... والسعد قد غض من أجفان واشينا )
( سران في خاطر الظلماء تكتمنا ... حتى يكاد لسان الصبح يفشينا )
( لا غرو في أن ذكرنا الحزن حين نهت ... عنه النهى وتركنا الصبر ناسينا )
( إنا قرأنا الأسى يوم النوى سورا ... مكتوبة وأخذنا الصبر تلقينا )
( أما هواك فلم نعدل بمشربه ... شربا وإن كان يروينا فيظمينا )
( لم نجف أفق جمال أنت كوكبه ... سالين عنه ولم نهجره قالينا )
( ولا اختيارا تجنبناك عن كثب ... لكن عدتنا على كره عوادينا )
( نأسى عليك إذا حثت مششعة ... فينا الشمول وغنانا مغنينا )
( لا أكؤس الراح تبدي من شمائلنا ... سيما ارتياح ولا الأوتار تلهينا )
( دومي على العهد ما دمنا محافظة ... فالحر من دان إنصافا كما دينا )
( فما استعضنا خليلا عنك يحبسنا ... ولا استفدنا حبيبا عنك يغنينا )
( ولو صبا نحونا من أفق مطلعه ... بدر الدجى لم يكن حاشاك يصبينا )
( أبلي وفاء وإن لم تبذلي صلة ... فالطيف يقنعنا والذكر يكفينا )
( وفي الجواب متاع لو شفعت به ... بيض الأيادي التي ما زلت تولينا )
( عليك مني سلام الله ما بقيت ... صبابة بك نخفيها وتخفينا )

وإنما ذكرت هذه القصيدة - مع طولها - لبراعتها ولأن كثيرا من الناس لا يذكر جملتها ويظن أن ما في القلائد وغيرها منها هو جميعها وليس كذلك فهي وإن اشتهرت بالمشرق والمغرب لم يذكر جملتها إلا القليل وقد كنت وقفت بالمغرب على تسديس لها لبعض علماء المغرب ولم يحضرني منه الآن إلا قوله في المطلع
( ما للعيون بسهم الغنج تصمينا ... وعن قطاف جنى الأعطاف تحمينا )
( تألف كان يحيينا ويضنينا ... تفرق عاث في شمل المحبينا )
( أضحى التنائي بديلا من تدانينا ... وناب عن طيب دنيانا تجافينا )
وما أحسن قوله في هذا التسديس
( ما للأحبة دانوا بالنوى ورأوا ... تعريض عهد اللقا بالبعد حين نأوا )
( رعاهم الله كانوا للعهود رعوا ... فغيرتهم وشاة بالفساد سعوا )
( غيظ العدا من تساقينا الهوى فدعوا ... بأن نغص فقال الدهر آمينا )
وقد ذكرنا في الباب الرابع موشحة ابن الوكيل التي وطأ فيها لنونية ابن زيدون هذه فلتراجع
رجع وقال ذو الوزارتين ابن زيدون يتغزل
( وضح الصبح المبين ... وجلا الشك اليقين )
( ورأى الأعداء ما غرتهم ... منك الظنون )
( أملوا ما ليس يمنى ... ورجوا ما لا يكون )
( وتمنوا أن يخون العبد ... مولى لا يخون )

( فإذا الغيب سليم ... وإذا العهد مصون ) قل لمن دان بهجري ... وهواني إذ يدين )
( أرخص الحب فؤادي ... لك والعلق ثمين )
( يا هلالا تتراءاه ... نفوس لا عيون )
( عجبا للقلب يقسو ... منك والعطف يلين )
( ما الذي ضرك لو سر ... بمرآك الحزين )
( وتلطفت بصب ... حينه فيك يحين )
( فوجوه اللطف شتى ... والمعاذير فنون )
وقال أيضا
( إليك من الأنام غدا ارتياحي ... وأنت من الزمان مدى اقتراحي )
( وما اعترضت هموم النفس إلا ... ومن ذكراك ريحاني وراحي )
( فديتك إن صبري عنك صبري ... لدى عطشي عن الماء القراح )
( ولي أمل لو الواشون كفوا ... لأطلع غرسه ثمر النجاح )
( وأعجب كيف يغلبني عدو ... رضاك عليه من أمضى سلاح )
( ولما أن جلتك لي اختلاسا ... أكف الدهر للحين المتاح )
( رأيت الشمس تطلع في نقاب ... وغصن البان يرفل في وشاح )
( فلو أسطيع طرت إليك شوقا ... وكيف يطير مقصوص الجناح )
( على حالي وصال واجتناب ... وفي يومي دنو وانتزاح )
( وحسبي أن تطالعك الأماني ... بأفقك في مساء أو صباح )
( فؤادي من أسى بك غير خال ... وقلبي من هوى لك غير صاح )

( وأن تهدي السلام إلي شوقا ... ولو في بعض أنفاس الرياح )
وقال
( كم ذا أريد ولا أراد ... لله ما لقي الفؤاد )
( أصفي الوداد إلى الذي ... لم يصف لي منه الوداد )
( كيف السلو عن الذي ... مثواه من قلبي السواد )
( يقضي علي دلاله ... في كل حين أو يكاد )
( ملك القلوب بحسنه ... فلها إذا أمر انقياد )
( يا هاجري كم أستفيد ... الصبر عنك فلا أفاد )
( أفلا رثيت لمن يبيت ... وحشو مقلتيه السهاد )
( إن أجن ذنبا في الهوى ... خطأ فقد يكبو الجواد )
( كان الرضى وأعيذه ... أن يعقب الكون الفساد )
وقال
( متى أنبيك ما بي ... يا راحتي وعذابي )
( متى ينوب لساني ... في شرحه عن كتابي )
( الله يعلم أني ... أصبحت فيك لما بي )
( فما يلذ منامي ... ولا يسوغ شرابي )
( يا فتنة المتعزي ... وحجة المتصابي )
( الشمس أنت توارت ... عن ناظري بالحجاب )
( ما النور شف سناه ... على رقيق السحاب )
( إلا كوجهك لما ... أضاء تحت النقاب )
وقال
( هل لداعيك مجيب ... أم لشاكيك طبيب )
( يا قريبا حين ينأى ... حاضرا حين يغيب )
( كيف يسلوك محب ... زانه منك حبيب )
( إنما نسيم ... تتلقاه القلوب )
( قد علمنا علم ظن ... هو لا شك مصيب )
( إن سر الحسن مما ... أضمرت تلك القلوب )
وقال
( أنى تضيع عهدك ... أم كيف تخلف وعدك )
( وقد رأتك الأماني رضى فلم تتعدك )
( يا ليت شعري وعندي ... ما ليس في الحب عندك )
( هل طال ليلك بعدي ... كطول ليلي بعدك )
( سلني حياتي أهبها ... فلست أملك ردك )
( الدهر عبدي لما ... أصبحت في الحب عبدك )
وقال رحمه الله تعالى وقد أمره السلطان أن يعارض قطعا كان يغنى بها واستحسن ألحانها

( ما النور شف سناه ... على رقيق السحاب )
( إلا كوجهك لما ... أضاء تحت النقاب )
وقال
( هل لداعيك مجيب ... أم لشاكيك طبيب )
( يا قريبا حين ينأى ... حاضرا حين يغيب )
( كيف يسلوك محب ... زانه منك حبيب )
( إنما نسيم ... تتلقاه القلوب )
( قد علمنا علم ظن ... هو لا شك مصيب )
( إن سر الحسن مما ... أضمرت تلك القلوب )
وقال
( أنى تضيع عهدك ... أم كيف تخلف وعدك )
( وقد رأتك الأماني رضى فلم تتعدك )
( يا ليت شعري وعندي ... ما ليس في الحب عندك )
( هل طال ليلك بعدي ... كطول ليلي بعدك )
( سلني حياتي أهبها ... فلست أملك ردك )
( الدهر عبدي لما ... أصبحت في الحب عبدك )
وقال رحمه الله تعالى وقد أمره السلطان أن يعارض قطعا كان يغنى بها واستحسن ألحانها

( يقصر قربك ليلي الطويلا ... ويشفي وصالك قلبي العليلا )
( وإن عصفت منك ريح الصدود ... فقدت نسيم الجياة البليلا )
( كما أنني إن أطلت العثار ... ولم يبد عذري وجها جميلا )
( وجدت أبا القاسم الظافر المؤيد ... بالله مولى مقيلا )
( لأقلامه فعل أسيافه ... يظل الصرير يباري الصليلا )
وقال يهنيه بالقدوم من السفر
( أيها الظافر أبشر بالظفر ... واجتل التأييد في أبهى الصور )
( وتفيأ ظل سعد يجتنى ... فيه من غرس المنى أحلى الثمر )
( ورد النجح فكم مستوحش ... شائق منك إلى أنس الصدر )
( كان من قربك في عيش ند ... عاطر الآصال وضاح البكر )
( فثوى دونك مثوى قلق ... يشتكي من ليله مطل السحر )
( قل لساقينا يجد أكؤسه ... ولشادينا يطل قطع الوتر )
ومنها
( لي فيه المثل السائر في ... جالب التمر إلى أرض هجر )
( ثم قد وفق عبد عظمت ... نعمة المولى عليه فشكر )
( لا عدا حظك إقبال يرى ... قاضيا أثناءه كل وطر )
( واصطبح كأس الرضى من ملك ... سرت في إرضائه أزكى السير )
( حين صممت إلى أعدائه ... فانتحتهم منك صماء الغير )

( فاض غمر للندى من فوقهم ... كان يروي شربهم منه الغمر )
( سبق الناس فصلى سابق ... إذ رأى آثاره مثل الزهر )
وهي طويلة
وقال رحمه الله تعالى
( لم يكن هجر حبيبي عن قلى ... لا ولا ذاك التجني مللا )
( سره دعوى ادعائي ثم لم ... يدر ما غاية صبري فابتلى )
( أنا راض بالذي يرضى به ... لي من لو قال مت ما قلت لا )
( مثل في كل حسن مثل ما ... صار حالي في هواه مثلا )
( يا فتيت المسك يا شمس الضحى ... يا قضيب البان يا ظبي الفلا )
( إن يكن لي أمل غير الرضى ... منك لا بلغت ذاك الأملا )
وقال رحمه الله تعالى
( أذكرتني سالف العيش الذي طابا ... يا ليت غائب ذاك الوقت قد آبا )
( إذ نحن في روضة للوصل أنعمها ... من السرور غمام فوقها صابا )
( إني لأعجب من شوق يطالبني ... فكلما قيل فيه قد قضى ثابا )
( كم نظرة لك عندي قد علمت بها ... يوم الزيارة أن القلب قد ذابا )
( قلب يطيل معاصاتي لطاعتكم ... فإن أكلفه يوما سلوة يابى )
وقال رحمه الله تعالى
( عاودت ذكر الهوى من بعد نسياني ... واستحدث القلب بعد العشق سلواني )
( من حب جارية يبدو بها صنم ... من اللجين عليها تاج عقيان )
( غريرة لم تفارقها تمائمها ... تسبي القلوب بساجي الطرف وسنان )
( لأستجدن في عشقي لها زمنا ... يحيي سوالف أيامي وأزماني )
( حتى يكون لمن أحببت خاتمة ... نسخت في حبها كفرا بإيمان )
وقال رحمه الله تعالى
( أنت معنى الهوى وسر الدموع ... وسبيل الهوى وقصد الولوع )
( أنت والشمس ضرتان ولكن ... لك عند الغروب فضل الطلوع )
( ليس يا مؤنسي نكلفك العتب ... دلالا من الرضى الممنوع )
( إنما أنت والحسود معنى ... كوكب يستقيم بعد الرجوع )
وقال رحمه الله تعالى
( يا ليل طل لا أشتهي ... إلا كعهدي قصرك )
( لو بات عندي قمري ... ما بت أرعى قمرك )
( يا ليل خبر أنني ... ألتذ عنه خبرك )
( بالله قل لي هل وفى ... فقال لا بل غدرك )
وقال رحمه الله تعالى
( لئن فاتني منك حظ النظر ... لأكتفين بسماع الخبر )

( عاودت ذكر الهوى من بعد نسياني ... واستحدث القلب بعد العشق سلواني )
( من حب جارية يبدو بها صنم ... من اللجين عليها تاج عقيان )
( غريرة لم تفارقها تمائمها ... تسبي القلوب بساجي الطرف وسنان )
( لأستجدن في عشقي لها زمنا ... يحيي سوالف أيامي وأزماني )
( حتى يكون لمن أحببت خاتمة ... نسخت في حبها كفرا بإيمان )
وقال رحمه الله تعالى
( أنت معنى الهوى وسر الدموع ... وسبيل الهوى وقصد الولوع )
( أنت والشمس ضرتان ولكن ... لك عند الغروب فضل الطلوع )
( ليس يا مؤنسي نكلفك العتب ... دلالا من الرضى الممنوع )
( إنما أنت والحسود معنى ... كوكب يستقيم بعد الرجوع )
وقال رحمه الله تعالى
( يا ليل طل لا أشتهي ... إلا كعهدي قصرك )
( لو بات عندي قمري ... ما بت أرعى قمرك )
( يا ليل خبر أنني ... ألتذ عنه خبرك )
( بالله قل لي هل وفى ... فقال لا بل غدرك )
وقال رحمه الله تعالى
( لئن فاتني منك حظ النظر ... لأكتفين بسماع الخبر )

( وإن عرضت غفلة للرقيب ... فحسبي بتسليمة تختصر )
( أحاذر أن يتجنى الوشاة ... وقد يستدام الهوى بالحذر )
( فأصبر مستقينا أنه ... سيحظى بليل المنى من صبر )
وقال أيضا رحمه الله تعالى
( أيها البدر الذي يملأ ... عيني من تأمل )
( حمل القلب تباريح ... التجني فتحمل )
( ثم لا تيأس فكم قد ... نيل أمر لم يؤمل )
وقال أيضا رحمه الله تعالى
( أجد ومن أهواه في الحب عابث ... وأوفي له بالعهد إذ هو ناكث )
( حبيب نأى عني مع القرب والأسى ... مقيم له في مضمر القلب ماكث )
( جفاني بألطاف العدا وأزاله ... عن الوصل رأي في القطيعة حادث )
( تغيرت عن عهدي وما زلت واثقا ... بعهدك لكن غيرتك الحوادث )
( وما كنت إذ ملكتك القلب عالما ... بأني عن حتفي بكفي باحث )
( ستبلى الليالي والوداد بحاله ... مقيم وغض وهو للأرض وارث )
( فلو أنني أقسمت أنك قاتلي ... وأني مقتول لما قيل حانث )
وقال رحمه الله تعالى

( يا غزالا أصارني ... موثقا في يد المحن )
( إنني مذ هجرتني ... لم أذق لذة الوسن )
( ليت حظي إشارة ... منك أو لحظة تعن )
( شافعي يا معذبي ... في الهوى وجهك الحسن ) كنت خلوا من الهوى وأنا اليوم مرتهن
( كان سري مكتما ... وهو الآن قد علن )
( ليس لي عنك مذهب ... فكما شئت لي فكن )
وقال رحمه الله تعالى
( أيوحش لي الزمان وأنت أنسي ... ويظلم لي النهار وأنت شمسي )
( وأغرس في محبتك الأماني ... وأجني الموت من ثمرات غرسي )
( لقد جازيت غدرا عن وفائي ... وبعت مودتي ظلما ببخس )
( ولو أن الزمان أطاع حكمي ... فديتك من مكارهه بنفسي )
ومحاسن ابن زيدون كثيرة وقد ذكرنا منها في غير هذا المحل جملة
وسألت جارية من جواري الأندلس ذا الوزارتين أبا الوليد ابن زيدون أن يزيد على بيت أنشدته إياه وهو
( يا معطشي من وصال كنت وارده ... هل منك لي غلة إن صحت واعطشي )
قال وكانت الجارية المذكورة تتعشق فتى قرشيا والوزير يعلم ذلك وهي لا تعلم أنه يعلم فقال
( كسوتني من ثياب السقم أسبغها ... ظلما وصيرت من لحف الضنى فرشي )
( أنى بصرف الهوى عن مقلة كحلت ... بالسحر منك وخد بالجمال وشي )
( لما بدا الصدغ مسودا بأحمره ... أرى التشاكل بين الروم والحبش )
( أوفى إلى الخد ثم انصاع منعطفا ... كالعقربان انثنى من خوف محترش )
( لو شئت زرت وسلك الليل منتظم ... والأفق يختال في ثوب من الغبش )
( جفا إذا التذت الأجفان طيب كرى ... جفني المنام وصاح الليل يا قرشي )
( هذا وإن تلفت نفسي فلا عجب ... قد كان قتلي في تلك الجفون حشي )
وكان لابن الحاج صاحب قرطبة ثلاثة أولاد من أجمل الناس صورة رحمون وعزون وحسون فأولع بهم الحافظ الشهير أبو محمد ابن السيد البطليوسي صاحب شرح أدب الكاتب وغيره وقال فيهم
( أخفيت سقمي حتى كاد يحفيني ... وهمت في حب عزون فعزوني )
( ثم ارحموني برحمون وإن ظمئت ... نفسي إلى ريق حسون فحسوني )
قال ثم خاف على نفسه فخرج عن قرطبة وهو القائل
( نفسي الفداء لجؤذر حلو اللمى مستحسن بصدوده أفناني )
( في فيه سمطا جوهر يروي الظما ... لو علني ببروده أحياني )
وهذان البيتان تخرج منهما عدة مقطعات كما لا يخفى
وقال أبو بكر محمد بن أحمد الأنصاري الإشبيلي المعروف بالأبيض

( كسوتني من ثياب السقم أسبغها ... ظلما وصيرت من لحف الضنى فرشي )
( أنى بصرف الهوى عن مقلة كحلت ... بالسحر منك وخد بالجمال وشي )
( لما بدا الصدغ مسودا بأحمره ... أرى التشاكل بين الروم والحبش )
( أوفى إلى الخد ثم انصاع منعطفا ... كالعقربان انثنى من خوف محترش )
( لو شئت زرت وسلك الليل منتظم ... والأفق يختال في ثوب من الغبش )
( جفا إذا التذت الأجفان طيب كرى ... جفني المنام وصاح الليل يا قرشي )
( هذا وإن تلفت نفسي فلا عجب ... قد كان قتلي في تلك الجفون حشي )
وكان لابن الحاج صاحب قرطبة ثلاثة أولاد من أجمل الناس صورة رحمون وعزون وحسون فأولع بهم الحافظ الشهير أبو محمد ابن السيد البطليوسي صاحب شرح أدب الكاتب وغيره وقال فيهم
( أخفيت سقمي حتى كاد يحفيني ... وهمت في حب عزون فعزوني )
( ثم ارحموني برحمون وإن ظمئت ... نفسي إلى ريق حسون فحسوني )
قال ثم خاف على نفسه فخرج عن قرطبة وهو القائل
( نفسي الفداء لجؤذر حلو اللمى مستحسن بصدوده أفناني )
( في فيه سمطا جوهر يروي الظما ... لو علني ببروده أحياني )
وهذان البيتان تخرج منهما عدة مقطعات كما لا يخفى
وقال أبو بكر محمد بن أحمد الأنصاري الإشبيلي المعروف بالأبيض

في تهنئة بمولود قال ابن دحية وهذا أبدع ما قيل في هذا المعنى
( أصاخت الخيل آذانا لصرخته ... واهتز كل هزبر عندما عطسا )
( تعشق الدرع مذ شدت لفائفه ... وأبغض المهد لما أبصر الفرسا )
( تعلم الركض أيام المخاض به ... فما امتطى الخيل إلا وهو قد فرسا )
وقال الوزير الكاتب أبو عامر السالمي في غلام يرش الماء على خديه فتزداد حمرتهما
( لقد نعمت بحمام تطلع في ... أرجائه قمر والحسن يكمله )
( أبصرته كلما راقت محاسنه ... ونعمة الجسم والأرداف تخجله )
( يرش بالماء خديه فقلت له ... صف لي لما أحمر الياقوت تصقله )
( فقال طرفي سفاك بصارمه ... دماء قوم على خدي فأغسله )
وقال أيضا
( أوقد النار بقلبي ... ثم هبت ريح صده )
( فشرار النار طارت ... فانطفت في ماء خده )
وهو تخييل عجيب
وقال ابن الحناط المكفوف الأندلسي في المعنى المشهور
( لم يخل من نوب الزمان أديب ... كلا فشأن النائبات عجيب )
( وغضارة الأيام تأبى أن يرى ... فيها لأبناء الذكاء نصيب )

( وكذاك من صحب الليالي طالبا ... جدا وفهما فاته المطلوب )
أشعار لابن الزقازق
وكان ابن الزقاق الأندلسي الشاعر المشهور - وقد تكرر ذكره في هذا التآليف مرات كثيرة - يسسهر في الليل ويشتغل بالأدب وكان أبوه فقيرا جدا فلامه وقال له نحن فقراء ولا طاقة لنا بالزيت الذي تسهر عليه فاتفق أن برع في الأدب والعلم ونظم الشعر فقال في أبي بكر بن عبد العزيز صاحب بلنسية قصيدة أولها
( يا شمس خدر ما لها مغرب ... أرامة خدرك أم يثرب )
( ذهبت فاستعبر طرفي دما ... مفضض الدمع به مذهب )
ومنها
( ناشدتك الله نسيم الصبا ... أنى استقرت بعدنا زينب )
( لم نسر إلا بشذا عرفها ... أو لا فماذا النفس الطيب )
( إيه وإن عذبني حبها ... فمن عذاب النفس ما يعذب )
فأطلق له ثلاثمائة دينار فجاء بها إلى أبيه وهو جالس في حانوته مكب على صنعته فوضعها في حجره وقال خذها فاشتر بها زيتا
وقال رحمه الله تعالى في غلام رمي حجرا فشدخ وجهه
( وأحوى رمى عن قسي الحور ... سهاما يفوقهن النظر )
( يقولون وجنته قسمت ... ورسم محاسنه قد دثر )

( وما شق وجنته عابثا ... ولكنها آية للبشر )
( جلاها لنا الله كيما نرى ... بها كيف كان انشقاق القمر )
وقال أيضا
( بأبي وغير أبي أغن مهفهف ... مهضوم ما خلف الوشاح خميصه )
( لبس السواد ومزقته جفونه ... فأتى كيوسف حين قد قميصه )
وقال أيضا
( سقتني بيمناها وفيها فلم أزل ... يجاذبني من ذا ومن هذه سكر )
( ترشفت فاها إذ ترشفت كأسها ... فلا والهوى لم أدر أيهما الخمر ) وقال
( رق النسيم وراق الروض بالزهر ... فنبه الكأس والإبريق بالوتر )
( ما العيش إلا اصطباح الراح أو شنب ... يغني عن الراح من سلسال ذي أشر )
( قل للكواعب غضي للكرى مقلا ... فأعين الزهر أولى منك بالسهر )
( وللصباح ألا فانشر رداء سنا ... هذا الدجى قد طوته راحة السحر )
( وقام بالقهوة الصهباء ذو هيف ... يكاد معطفه ينقد بالنظر )
( يطفو عليها إذا ما شجها درر ... تخالها اختلست من ثغره الخصر )
( والكأس من كفه بالراح محدقة ... كهالة أحدقت في الأفق بالقمر ) وقال
( تضوعن أنفاسا وأشرقن أوجها ... فهن منيرات الصباح بواسم )
( لئن كن زهرا فالجوانح أبرج ... وإن كن زهرا فالقلوب كمائم ) وهو من بديع التقسيم
وقال السميسر
( تحفظ من ثيابك ثم صنها ... وإلا سوف تلبسها حدادا )
( وميز في زمانك كل حبر ... وناظر أهله تسد العبادا )
( وظن بسائر الأجناس خيرا ... وأما جنس آدم فالبعادا )
( أرادوني بجمعهم فردوا ... على الأعقاب قد نكصوا فرادى )
( وعادوا بعد ذا إخوان صدق ... كبعض عقارب رجعت جرادا ) وقال ابن رزين وهو من رجال الذخيرة
( لأسرحن نواظري ... في ذلك الروض النضير )
( ولآكلنك بالمنى ... ولأشربنك بالضمير )
وقال سلطان بلنسية عبد الملك بن مروان بن عبد الله بن عبد العزيز
( ولا غرو بعدي أن يسود معشر ... فيضحي لهم يوم وليس لهم أمس )
( كذاك نجوم الجو تبدو زواهرا ... إذا ما توارت في مغاربها الشمس )

وقال
( تضوعن أنفاسا وأشرقن أوجها ... فهن منيرات الصباح بواسم )
( لئن كن زهرا فالجوانح أبرج ... وإن كن زهرا فالقلوب كمائم ) وهو من بديع التقسيم
وقال السميسر
( تحفظ من ثيابك ثم صنها ... وإلا سوف تلبسها حدادا )
( وميز في زمانك كل حبر ... وناظر أهله تسد العبادا )
( وظن بسائر الأجناس خيرا ... وأما جنس آدم فالبعادا )
( أرادوني بجمعهم فردوا ... على الأعقاب قد نكصوا فرادى )
( وعادوا بعد ذا إخوان صدق ... كبعض عقارب رجعت جرادا ) وقال ابن رزين وهو من رجال الذخيرة
( لأسرحن نواظري ... في ذلك الروض النضير )
( ولآكلنك بالمنى ... ولأشربنك بالضمير )
وقال سلطان بلنسية عبد الملك بن مروان بن عبد الله بن عبد العزيز
( ولا غرو بعدي أن يسود معشر ... فيضحي لهم يوم وليس لهم أمس )
( كذاك نجوم الجو تبدو زواهرا ... إذا ما توارت في مغاربها الشمس )

وتحاكم إلى أبي أيوب سليمان بن محمد بن بطال البطليوسي المعروف بالمتلمس غلامان جميلان لأحدهما وفرة شقراء وللآخر سوداء أيهما أحسن والمتلمس المذكور هو صاحب كتاب الأحكام فيما لا يستغني عنه الحكام فقال
( وشادنين ألما بي على مقة ... تنازعا الحسن في غايات مستبق )
( كأن لمة ذا من نرجس خلقت ... على بهار وذا مسك على ورق )
( وحكما الصب في التفضيل بينهما ... ولم يخافا عليه رشوة الحدق )
( فقام يدلي إليه الريم حجته ... مبينا بلسان منه منطلق )
( فقال وجهي بدر يستضاء ... به ولون شعري مصبوغ من الغسق )
( وكحل عيني سحر للنهى وكذا ... والسحر أحسن ما يعزى إلى الحدق )
( فقال صاحبه أحسنت وصفك لكن ... فاستمع لمقال في متفق )
( أنا على أفقي شمس النهار ولم ... تغرب وشقرة شعري حمرة الشفق )
( وفضل ما عيب في عيني من زرق ... أن الأسنة قد تعزى إلى الزرق )
( قضيت للمة الشقراء حيث حكت ... نورا كذا حبها يقضي على رمقي )
( فقام ذو اللمة السوداء يرشقني ... سهام أجفانه من شدة الحنق )
( وقال جرت فقلت الجور منك على ... قلبي ولي شاهد من دمعي الغدق )
( فقلت عفوك إذ أصبحت متهما ... فقال دونك هذا الحبل فاختنق )
وقال محمد لابن عبد الله بن غالب
( ومهفهف خنث الجفون كأنما ... من أرجل النمل استفاد عذارا )
( فتخاله ليلا إذا استقبلته ... وتخال ما يجري عليه نهارا )

وقال أبو القاسم خلف بن فرج السميسر المتقدم
( الناس مثل حباب ... والدهر لجة ماء )
( فعالم في طفو ... وعالم في انطفاء )
وقال أحمد بن برد الأندلسي في النرجس وهو البهار عند الأندلسيين ويسمى العبهر
( تنبه فقد شق البهار مغلسا ... كمائمه عن نوره الخضل الندي )
( مداهن تبر في أنامل فضة ... على أذرع مخروطة من زبرجد )
عبدون وقال الوزير عبد المجيد بن عبدون في دار أنزله بها المتوكل بن الأفطس وسقفها قديم فهطل عليه المطر منه
( أيا ساميا من جانبيه إلى العلا ... سمو حباب الماء حالا إلى حال )
( لعبدك دار حل فيها كأنها ... ديار لسلمى عافيات بذي الخال )
( يقول لها لما رأى من دثورها ... ألا عم صباحا أيها الطلل البالي )
( فقالت وما عيت جوابا ... بردها وهل يعمن من كان في العصر الخالي )
( فمر صاحب الإنزال فيها بفاصل ... فإن الفتى يهذي وليس بفعال )
قيل وهو أبو عذرة تضمين لامية امرىء القيس وقد أولع الناس بعده بتضمينها
وقال أبو الفضل ابش حسداي وكان يهوديا فأسلم ويقال إنه

من ولد موسى على نبينا وعليه وعلى سائر الأنبياء الصلاة والسلام
( توريد خدك للأحداق لذات ... عليه من عنبر الأصداغ لامات )
( نيران هجرك للعشاق نار لظى ... لكن وصالك إن واصلت جنات )
( كأنما الراح والراحات تحملها ... بدور تم وأيدي الشرب هالات )
( حشاشة ما تركنا الماء يقتلها ... إلا لتحيا بها منا حشاشات )
( قد كان من قبلها في كأسها ثقل ... فخف إذ ملئت منها الزجاجات )
وقد تبارى المشارقة والمغاربة من المتقدمين والمتأخرين في هذا الوزن والقافية ولولا خوف السآمة لذكرت من ذلك الجملة الشافية الكافية
ومن سرعة جواب أهل الأندلس أن ابن عبد ربه كان صديقا لأبي محمد يحيى القلفاط الشاعر ففسد ما بينهما بسبب أن ابن عبد ربه صاحب العقد مر به يوما وكان في مشيه اضطراب فقال أبا عمر ما علمت أنك آدر إلا اليوم لما رأيت مشيك فقال له ابن عبد ربه كذبتك عرسك أبا محمد فعز على القلفاط كلامه وقال له أتتعرض للحرم والله لأرينك كيف الهجاء ثم صنع فيه قصيدة أولها
( يا عرس أحمد أني مزمع سفرا ... فودعيني سرا من أبي عمرا )
ثم تهاجيا بعد ذلك وكان القلفاط يلقبه بطلاس لأنه كان أطلس اللحية ويسمي كتاب العقد حبل الثوم فاتفق اجتماعهما يوما عند بعض الوزراء فقال الوزير للقلفاط كيف حالك اليوم مع أبي عمر فقال مرتجلا

( حال طلاس لي عن رائه ... وكنت في قعداد أبنائه ) فبدر ابن عبد ربه وقال
( إن كنت في قعدد أبنائه ... فقد سقى أمك من مائه )
فانقطع القلفاط خجلا وعاش ابن عبد ربه 82 سنة رحمه الله تعالى
ومن الحكايات في مروءة أهل الأندلس ما ذكره صاحب الملتمس في ترجمة الكاتب الأديب الشهير أبي الحسين ابن جبير صاحب الرحلة وقد قدمنا ترجمته في الباب الخامس من هذا الكتاب وذكرنا هنالك أنه كان من أهل المروءات عاشقا في قضاء الحوائج والسعي في حقوق الإخوان وأنشدنا هنالك قوله
( يحسب الناس بأني متعب ... الخ
وقد ذكر ذلك كله صاحب الملتمس ثم قال - أعني صاحب الملتمس - ومن أغرب ما يحكى أني كنت أحرص الناس على أن أصاهر قاضي غرناطة أبا محمد عبد المنعم بن الفرس فجعلته - يعني ابن جبير - الواسطة حتى تيسر ذلك فلم يوفق الله ما بيني وبين الزوجة فجئته وشكوت له ذلك فقال أنا ما كان القصد لي في اجتماعكما ولكن سعيت جهدي في غرضك وها أنا أسعى أيضا في افتراقكما إذ هو من غرضك وخرج في الحين ففصل القضية ولم أر في وجهه أولا ولا آخرا عنوانا لامتنان ولا تصعيب ثم إنه طرق بابي ففتحت له ودخل وفي يده محفظة فيها مائة دينار مؤمنية ثم قال يا ابن

أخي اعلم أني كنت السبب في هذه القضية ولم أشك أنك خسرت فيها ما يقارب هذا القدر الذي وجدته الآن عند عمك فبالله إلا ما سررتني بقبوله فقلت له أنا ما أستحيي منك في هذا الأمر والله إن أخذت هذا المال لأتلفنه فيما أتلفت فيه مال والدي من أمور الشباب ولا يحل لك أن تمكنني منه بعد أن شرحت لك أمري فتبسم وقال لقد احتلت في الخروج عن المنة بحيلة وانصرف بماله انتهى
ثم قال صاحب الملتمس وتذاكرنا يوما معه حالة الزاهد أبي عمران المارتلي فقال صحبته مدة فما رأيت مثله وأنشدني شعرين ما نسيتهما ولا أنساهما ما استطعت فالأول قوله
( إلى كم أقول فلا أفعل ... وكم ذا أحوم ولا أنزل )
( وأزجر عيني فلا ترعوي ... وأنصح نفسي فلا تقبل )
( وكم ذا تعلل لي ويحها ... بعل وسوف وكم تمطل )
( وكم ذا أؤمل طول البقا ... وأغفل والموت لا يغفل )
( وفي كل يوم ينادي بنا ... منادي الرحيل إلا فارحلوا )
( أمن بعد سبعين أرجو البقا ... وسبع أتت بعدها تعجل )
( كأن بي وشيكا إلى مصرعي ... يساق بنعشي ولا أمهل )
( فيا ليت شعري بعد السؤال ... وطول المقام لما أنقل )
والثاني قوله
( اسمع أخي نصيحتي ... والنصح من محض الديانه )

( لا تقربن إلى الشهادة ... والوساطة والأمانة )
( تسلم من ان تعزى لزور ... أو فضول أو خيانه )
قال فقلت له أراك لم تعمل بوصيته في الوساطة فقال ما ساعدتني رقة وجهي على ذلك انتهى
رجع إلى نظم الأندلسيين وقال أبو الصلت أمية بن عبد العزيز
( أفضل ما استصحب النبيل فلا ... تعدل به في المقام والسفر )
( جرم إذا ما التمست قيمته ... جل عن التبر وهو من صفر )
( مختصر وهو إذ تفتشه ... عن ملح العلم غير مختصر )
( ذو مقلة تستبين ما رمقت ... عن صائب اللحظ صادق الخبر )
( تحمله وهو حامل فلكا ... لو لم يدر بالبنان لم يدر )
( مسكنه الأرض وهو ينبئنا ... عن كل ما في السماء من خبر )
( أبدعه رب فكرة بعدت ... في اللطف عن أن تقاس بالفكر )
( فاستوجب الشكر والثناء به ... من كل ذي فطنة من البشر )
( فهو لذي اللب شاهد عجب ... على اختلاف العقول والصور )
قلت وهي من أحسن ما سمعت في الاصطرلاب وأمر رحمه الله تعالى أن يكتب على قبره
( سكنتك يا دار الفناء مصدقا ... بأني إلى دار البقاء أصير )
( وأعظم ما في الأمر أني صائر ... إلى عادل في الحكم ليس يجور )

( فيا ليت شعري كيف ألقاه عندها ... وزادي قليل والذنوب كثير )
( فإن أك مجزيا بذنبي فإنني ... بشر عقاب المذنبين جدير )
( وإن يك عفو من غني ومفضل ... فثم نعيم دائم وسرور )
وقال ابن خفاجة وهو مما أورده له صاحب الذخيرة
( لقد زار من أهوى على غير موعد ... فعاينت بدر التم ذاك التلاقيا )
( وعاتبته والعتب يحلو حديثه ... وقد بلغت روحي لديه التراقيا )
( فلما اجتمعنا قلت من فرحي به ... من الشعر بيتا والدموع سواقيا )
( وقد يجمع الله الشتيتين بعدما ... يظنان كل الظن أن لا تلاقيا )
ومن مجون الأندلسيين هذه القصيدة المنسوبة لسيدي أبي عبد الله بن الأزرق وهي
( عم باتصال الزمن ... ولا تبالي بمن )
( وهو يواسي بالرضى ... من سمج أو حسن )
( أو من عجوز تحتظي ... والظهر منها منحني )
( أو من مليح مسعد ... موافق في الزمن )
( مهما تبدي خده ... يبدو لك الورد الجني ) والفصن في أثوابه ... إذا تمشي ينثني )
( لا أم لي لا أم لي ... إن لم أبرد شجني )
( وأخلعن في المجو ... ن والتصابي رسني )
( واجعل الصبر على ... هجر الملاح ديدني )

( يا عاذلي في مذهبي ... أرداك شرب اللبن )
( أعطيت في البطن سنانا ... إن تخالف سنني )
( أي فتى خالفني ... يوما ولما يلقني )
( فإنني لناصح ... وإنني وإنني )
( فلا تكن لي لاحيا ... وفي الأمور استفتني )
( فلم أزل أعرب عن ... نصحي لمن لم يلحني )
( وإن تسفه نظري ... ومذهبي وتنهني )
( فالصفع تستوجبه ... نعم ونتف الذقن )
( والزبل في وجهك يعلو ... باتصال الزمن )
( وبعد هذا أشتفي ... منك ويبرا شجني )
( وأضرب الكف أمام ... ذلك الوجه الدني )
( طقطق طق طقطق طق ... أصخ بسمع الأذن )
( قحقح قح قحقح قح ... الضحك يغلبلبني )
( قد كان أولى بك عن ... هذي المخازي تنثني )
( النفي تستوجبه ... لواسط أو عدن )
( عرضت بالنفس كذا ... إلى ارتكاب المحن )
( أفدي صديقا كان لي ... بنفسه يسعدني )
( فتارة أنصحه ... وتارة ينصحني )
( وتارة ألعنه ... وتارة يلعنني )
( وربما أصفعه ... وربما يصفعني )
( أستغفر الله فهذا ... القول لا يعجبني )
( يا ليت هذا كله ... فيما مضى لم يكن )

( أضحكت والله بذا الحديث ... من يسمعني )
( دهر تولى وانقضى ... عني كطيف الوسن )
( يا ليتني لم أره ... وليته لم يرني )
( دنست فيه جانبي ... وملبسي بالدرن )
( وبعت فيه عيشتي ... لكن ببخس الثمن )
( كأنني ولست أدري ... الآن ما كأنني )
( والله ما التشبيه عند ... شاعر بهين )
( لكنه أنطقني ) بالقول ضيق العطن )
( وا حسرتي وا أسفي ... زلت وضاعت فطني )
( لو أنصف الدهر لما ... أخرجني من وطني )
( وليس لي من جنة ... وليس لي من مسكن )
( أسرح الطرف وما ... لي دمنة في الدمن )
( وليس لي من فرس ... وليس لي من سكن )
( يا ليت شعري وعسى ... يا ليت أن تنفعني )
( هل أمتطي يوما إلى الشرق ... ظهور السفن )
( وأجتلي ما شئته ... في المنزل المؤتمن )
( حينئذ أخلع في ... هذي القوافي رسني )
( وتحسن الفكرة بالعدوس ... والسمنسني )
( واللحم مع شحم ومع ... طوابق الكبش الثني )
( والبيض في المقلاة بالزيت ... اللذيذ الدهن )

( وجلدة الفروج مشويا ... كثير السمن )
( من منقذي أفديه من ... ذا الجوع والتمسكن )
( وعلة قد استوى ... فيها الفقير والغني )
( هل للثريد عودة ... إلي قد شوقني )
( تغوص فيه أنملي ... غوص الأكول المحسن )
( ولي إلى الأسفنج شو ... ق دائم يطربني )
( وللأرز الفضل إذ ... تطبخه باللبن )
( وللشواء والرقاق ... من هيام أنثني )
( واسكت عن الجبن فإن ... بنته يذهلني )
( ظاهرها كالورد أو ... باطنها كالسوسن )
( أي امرئ أبصرها ... يوما ولم يفتتن )
( تهيم فيها فكر الأستاذ ... والمؤذن )
( لو كان عندي معدن ... لبعت فيها معدني )
( لكنني عزمت أن ... أبيع كم البدن )
( والكم قد أكسبه ... بعد ولا يكسبني )
( لا تنسبوا لي سفها ... فالجوع قد أرشدني )
( وهات ذكر الكسكسو ... فهو شريف وسني )
( لا سيما إن كان مصنوعا ... بفتل حسن )
( أرفع منه كورا ... بهن تدوي أذني )
( وإن ذكرت غير ذا ... أطعمة في الوطن )
( فابدأ من المثومات ... بالجبن الممكن )

( من فوقها الفروج قد ... أنهي في التسمن )
( وثن بالعصيدة التي ... بها تطربني )
( لا سيما إن صنعت ... على يدي ممركن )
( كذلك البلياط بالزيت ... الذي يقنعني )
( تطبخه حتى يرى ... يحمر في التلون )
( والزبزبن في الصحاف ... حسب أهل البطن )
( فاسمع قضاء ناصح ... يأتي بنصح بين )
( من اقتنى التفين فهو ... الآن نعم المقتني )
( وإن في شاشية الفقير ... أنسا للغني )
( تبعدني عن وصلها ... عن وصلها تبعدني )
( تؤنسني عن اللقا ... عن اللقا تؤنسني )
( فأضلعي إن ذكرت ... تهفو كمثل الغصن )
( كم رمت تقريبا لها ... لكنه لم يهن )
( وصدني عن ذاك قلة ... الوفا بالثمن )
( إيه خليلي هذه ... مطاعم لكنني )
( أعجب من ريقك إذ ... يسيل فوق الذقن )
( هل نلت منها شبعا ... فذكرها أشبعني )
( وإن تكن جوعان ياصاح ... فكل بالأذن )
( فليس عند شاعر ... غير كلام الألسن )
( يصور الأشياء وهي ... أبدا لم تكن )

( فقوله يريك ما ... ليس يرى بالممكن )
( فاسمح وسامح واقتنع ... واطو حشاك واسكن )
( ولننصرف فقصدنا إطراف هذا الموطن )
وقال ابن خفاجة رحمه الله تعالى
( درسوا العلوم ليملكوا بجدالهم ... فيها صدور مراتب ومجالس )
( وتزهدوا حتى أصابوا فرصة ... في أخذ مال مساجد وكنائس )
وهذا المعنى استعمله الشعراء كثيرا
وقال - فيما أظن - الفقيه الكاتب المحدث الأديب الشهير أبو عبد الله محمد بن الأبار القضاعي وقد تكرر ذكره في هذا الكتاب في مواضع
( لقد غضبت حتى على السمط نخوة ... فلم تتقلد غير مبسمها سمطا )
( وأنكرت الشيب الملم بلمتي ... ومن عرف الأيام لم ينكر الوخطا )
نقول من القدح المعلى
وقال ابن سعيد في القدح المعلى في حقه كاتب مشهور وشاعر مذكور كتب عن ولاة بلنسية وورد رسولا حين أخذ النصارى بمخنق تلك الجهات وأنشد قصيدته السينية
( أدرك بخيلك خيل الله أندلسا ... إن السبيل إلى منجاتها درسا )
وعارضه جمع من الشعراء ما بين مخطئ ومحروم وأغري الناس بحفظها

إغراء بني تغلب بقصيدة عمرو بن كلثوم إلا أن أخلاقه لم تعنه على الوفاء بأسباب الخدمة فقلصت عنه تلك النعمة وأخر عن تلك العناية وارتحل إلى بجاية وهو الآن بها عاطل من الرتب خال من حلى الأدب مشتغل بالتصنيف في فنونه متنفل منه بواجبه ومسنونه ولي معه مجالسات آنق من الشباب وأبهج من الروض عب نزول السحاب ومما أنشدنيه من شعره
( يا حبذا بحديقة دولاب ... سكنت إلى حركاته الألباب )
( غنى ولم يطرب وسقى وهو لم ... يشرب ومنه العود والأكواب )
( لو يدعي لطف الهواء أو الهوى ... ما كنت في تصديقه أرتاب )
( وكأنه مما شدا مستهزئ ... وكأنه مما بكى نداب )
( وكأنه بنثاره ومداره ... فلك كواكبه لها أذناب ) وقال أبو المعالي القيجاطي
( فقلت يا ربعهم أين من ... أحببته فيك وأين النديم )
( فقال عهد قد غدا شمله ... كمثل ما ينثر در نظيم )
وقال أبو عمرو بن الحكم القبطلي وقبطلة من أعمال وادي إشبيلية
( كم أقطع الدهر بالمطال ساءت وحق الإله حالي )

( رحلت أبغي بكم نجاحا ... فلم تفيدوا سوى ارتحالي )
( وعدتم ألف ألف وعد ... لكنني عدت بالمحال )
وقال أبو عمران القلعي
( طلعت علي والأحوال سود ... كما طلع الصباح على الظلام )
( فقل لي كيف لا أوليك شعري ... وإخلاص التحية والسلام ) وقال أبو إسحاق إبراهيم بن أيوب المرسي
( أنا سكران ولكن ... من هوى ذاك الفلاني )
( كلما رمت سلوا ... لم يزل بين عياني ) وقال
( حبيبي ما لصبك من مراد ... سوى أن لا تدوم على البعاد )
( وإن كان ابتعادك بعد هذا ... مقيما فالسلام على فؤادي )
قال ابن سعيد وكان المذكور إذا غنى هذه الأشعار اللطيفة على الأوتار لم يبق لسامعه عند الهموم من ثار مع أخلاق كريمة وآداب كانسكاب الديمة انتهى
وقال ابن سعيد في أبي بكر محمد بن عمار البرجي كاتب ابن هود القائل

قل لمن يشهد حربا تحت رايات ابن هود ) إلخ
( يا ابن عمار لقد أحييت ... لي ذاك السميا )
( في حلى نظم ونثر ... علقا في مسمعيا )
( ولقد حزت مكانا ... من ذرى الملك عليا )
( مثل ما قد حاز لكن ... عش بنعماك هنيا )
وقال أبو بكر عبد الله بن عبد العزيز الإشبيلي المعروف بابن صاحب الرد
( يا أبدع الخلق بلا مرية ... وجهك فيه فتنة الناظرين )
( لا سيما إذ نلتقي خطرة ... فيغلب الورد على الياسمين )
( طوبى لمن قد زرته خاليا ... فمتع النفس ولو بعد حين )
( من ذلك الثغر الذي ورده ... ما زال فيه لذة الشاربين )
( وما حوى ذاك الإزار الذي ... لم يعد عنه أمل الزائرين )
وهذه الأبيات يقولها في غلام كان أدباء إشبيلية قد فتنوا به وكان مروره على داره
وحكي عنه أنه أعطاه في زيارة خمسين دينارا ومرت أيام ثم صادفه عند داره فقال له أتريد أن أزورك ثانية فقال له لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين وهذا الجواب - على ما فيه من قلة الأدب وهتك حجاب الشريعة - من أشد الأجوبة إصابة للغرض والله تعالى يسمح له فقد قال ابن سعيد في حقه إن بيته بإشبيلية من أجل البيوت ولم يزل له مع تقلب الزمان ظهور

وخفوت وكان أديبا شاعرا ذواقا لأطراف العلوم انتهى
ومن المشهورين بالمجون والخلاعة بالأندلس - مع البلاغة والبراعة - أبو جعفر أحمد بن طلحة الوزير الكاتب وهو من بيت مشهور من جزيرة شقر من عمل بلنسية وكتب عن ولاة من بني عبد المؤمن ثم استكتبه السلطان ابن هود حين تغلب على الأندلس وربما استوزره في بعض الأحيان
قال ابن سعيد وهو ممن كان والدي يكثر مجالسته ولم أستفد منه إلا ما كنت أحفظه في مجالسته وكان شديد التهور كثير الطيش ذاهبا بنفسه كل مذهب سمعته مرة وهو في محفل يقول تقيمون القيامة لحبيب والبحتري والمتنبي وفي عصركم من يهتدي إلى ما لم يهتدوا إليه فأهوى له شخص له قحة وإقدام فقال يا أبا جعفر فأرنا برهان ذلك ما أظنك تعني إلا نفسك فقال نعم ولم لا وأنا الذي أقول ما لم يتنبه إليه متقدم ولا يهتدي لمثله متأخر
( يا هل ترى أظرف من يومنا ... قلد جيد الأفق طوق العقيق )
( وأنطق الورق بعيدانها ... مرقصة كل قضيب وريق )
( والشمس لا تشرب خمر الندى ... في الروض إلا بكؤوس الشقيق )
فلم ينصفوه في الاستحسان وردوه في الغيظ إلى أضيق مكان فقلت له يا سيدي هذا هو السحر الحلال فبالله إلا ما زدتني من هذا النمط فقال
( أدرها فالسماء بدت عروسا ... مضمخة الملابس بالغوالي )

( وخد الروض حمره أصيل ... وجفن النهر كحل بالظلال )
( وجيد الغصن يشرق في لآل ... تضيء بهن أكناف الليالي )
فقلت زد وعد فعاد والارتياح قد ملك عطفه والتيه قد رفع أنفه فقال
( لله نهر عندما زرته ... عاين طرفي منه سحرا حلال )
( إذ أصبح الطل به ليلة ... وجال فيه الغصن شبه الخيال )
فقلت زد فأنشد
( ولما ماج بحر الليل بيني ... وبينكم وقد جددت ذكرا )
( أراد لقاءكم إنسان عيني ... فمد له المنام عليه جسرا )
فقلت إيه فقال
( ولما أن رأى إنسان عيني ... بصحن الخد منه غريق ماء )
( أقام له العذار عليه جسرا ... كما مد الظلام على الضياء )
فقلت أعد فأعاد وقال حسبك لئلا تكثر عليك المعاني فلا تقوم بحق قيمتها وأنشد
( هات المدام إذا رأيت شبيهها ... في الأفق يا فردا بغير شبيه )
( فالصبح قد ذبح الظلام بنصله ... فغدت تخاصمه الحمائم فيه )
ثم قال وكان قد تهتك في غلام لابن هود ولكثرة انهزام ابن هود ربما انهزم مع العلج وفيه يقول

( ألفت الحرب حتى علمتني ... مقارعة الحوادث والخطوب )
( ولم أك عالما وأبيك حربا ... بغير لواحظ الرشأ الربيب )
( فها أنا بين تلك وبين هذي ... مصاب من عدو أو حبيب )
ولما هرب بالعلج إلى سبتة أحسن إليه القائم بها أبو العباس الينشتي فلم يقنع بذلك الإحسان وكان يأتي بما يوغر صدره فقال يوما في مجلسه رميت مرة بقوس فبلغ السهم إلى كذا فقال ابن طلحة لشخص بجانبه لو كان قوس قزح ما بلغ إلى كذا فشعر بقوله فأسرها في نفسه ثم بلغه أنه هجاه بقوله
( سمعنا بالموفق فارتحلنا ... وشافعنا له حسب وعلم )
( ورمت يدا أقبلها وأخرى ... أعيش بفضلها أبدا وأسمو )
( فأنشدنا لسان الحال فيه ... يد شلا وأمر لا يتم )
فزاد في حنقه وبقي مترصدا له الغوائل فحفظت عنه أبيات قالها وهو في حالة استهتار في شهر رمضان وهي
( يقول أخو الفضول وقد رآنا ... على الإيمان يغلبنا المجون )
( أتنتهكون شهر الصوم هلا ... حماه منكم عقل ودين )
( فقلت اصحب سوانا نحن قوم ... زنادقة مذاهبنا فنون )
( ندين بكل دين غير دين الرعاع ... فما به أبدا ندين )
( بحي على الصبوح الدهر ندعو ... وإبليس يقول لنا أمين )

( فيا شهر الصيام إليك عنا ... إليك ففيك أكفر ما نكون )
فأرسل إليه من هجم عليه وهو على هذه الحال وأظهر أنه يرضي العامة بقتله فقتله وذلك سنة 631 انتهى
وحاكي الكفر ليس بكافر والله سبحانه وتعالى للزلات غير الكفر غافر
وقال محمد بن أحمد الإشبيلي ابن البناء
( كأنك من جنس الكواكب كنت لم ... يفتك طلوعا حالها وتواريا )
( تجليت من شرق تروق تلألؤا ... فلما انتحيت الغرب أصبحت هاويا )
ولما أمر المستنصر الموحدي بضرب ابن غالب الداني ألف سوط وصلبه وضرب بإشبيلية خمسمائة فمات وضرب بقية الألف حتى تناثر لحمه ثم صلب قال ابنه أبو الربيع يرثيه [ البسيط ] جهلا لمثلك أن يبكي لما قدرا ... وأن يقول أسى يا ليته قبرا )
( فاضت دموعك أن قاموا بأعظمه ... وقد تطاير عنه اللحم وانتثرا ) ومنها
( ضاقت به الأرض مما كان حملها ... من الأيادي فملت شلوه ضجرا )
( وعز جسمك أن يحظى به كفن ... فما تسربل إلا الشمس والقمرا )
وقال أبو العلاء عبد الحق المرسي رحمه الله تعالى

( يا ابا عمران دعني والذي ... لم يمل بي خاطري إلا إليه )
( ما نديمي غير من يخدمني ... لا الذي يجلسني بين يديه )
( يرفع الكلفة عني ويرى ... أنها واجبة مني عليه )
وقال ابن غالب الكاتب بمالقة
( لا تخش قولا قد عقدت الألسنا ... وابعث خيالك قد سحرت الأعينا )
( واعطف علي فإن روحي زاهق ... وانظر إلي بنظرة إن أمكنا )
( لا يخدعنك أن تراني لابسا ... ثوبي فقد أصبحت فيه مكفنا )
( ما زال سحرك يستميل خواطري ... بأرق من ماء الصفاء وألينا )
( حتى غدوت ببحر حب زاخر ... فرمت بي الأمواج في شط الضنى )
وقال
( ما للنسيم لدى الأصيل عليلا ... أتراه يشكو زفرة وغليلا )
( جر الذيول على ديار أحبتي ... فأتى يجر من السقام ذيولا )
وقال أبو عبد الله بن عسكر الغساني قاضي مالقة
( أهواك يا بدر وأهوى الذي ... يعذلني فيك وأهوى الرقيب )
( والجار والدار ومن حلها ... وكل من مر بها من قريب )
( ما إن تنصرت ولكنني ... أقول بالتثليث قولا غريب )
( تطابق الألحان والكاس إذ ... تبسم عجبا والغزال الربيب )
وكان أبو أمية بن عفير قاضي إشبيلية - مع براعته وتقدمه في

العلوم الشرعية - أقوى الناس بالعلوم الأدبية المرعية وقد اشتهر بسرعة الخاطر في الارتجال وعدم المناظر له في ذلك المجال قال ابن سعيد رأيته كثيرا ما يصنع القصائد والمقطعات وهو يتحدث أو يفصل بين الغرماء في أكثر الأوقات ومن شعره
( ديارهم صاح نصب عيني ... وليس لي وصلة إليها )
( إلا سلامي لدى ابتعاد ... من بعد سكانها عليها )
وقوله رحمه الله تعالى
( ووجه تغرق الأبصار فيه ... ولكن يترك الأرواح هيما )
( أتاني ثم حياني حبيب ... به وأباحني الخد الرقيما )
( فمر لنا مجون في فنون ... سلكت به الصراط المستقيما )
قلت أما مجرد الارتجال فأمر عن الكثير صادر وأما كونه مع التحدث أو فصل الخصومات فهو نادر وقد حكينا منها في هذا الكتاب من القسم الأول موارد ومصادر 128 عن ابن ظافر
ويعجبني من الواقع لأهل المشرق من ذلك قضية علي بن ظافر إذ قال بت ليلة والشهاب يعقوب ابن أخت نجم الدين في منزل اعترفت له مشيدات القصور بالانخفاض والقصور وشهدت له ساميات البروج بالاعتلاء والعروج قد ابيضت حيطانه وطاب استيطانه وابتهج به سكانه وقطانه والبدر قد محا خضاب الظلماء وجلا محياه في زرقة قناع السماء وكسا الجدران

ثيابا من فضة ونثر كافوره على مسك الثرى بعد أن سحقه ورضه والروض قد ابتسم محياه ووشت بأسرار محاسنه رياه والنسيم قد عانق قامات الأغصان فميلها وغصبها مباسم نورها فقبلها وعندنا مغن قد وقع على تفضيله الإجماع وتغايرت على محاسنه الأبصار والأسماع إن بدا فالشمس طالعة وإن شدا فالورق ساجعة تغازله مقلة سراج قد قصر على وجهه تحديقه وقابله فقلنا البدر قابل عيوقه وهو يغار عليه من النسيم كلما خفق وهب ويستجيش عليه بتلويح بارقه الموشى بالذهب ويديم حرقته وسهده ويبذل في إلطافه طاقته وجهده فتارة يضمنحه بخلوقه وتارة يحليه بعقيقه وآونة يكسوه أثواب شقيقه فلم نزل كذلك حتى نعس طرف المصباح واستيقظ نائم الصباح فصنعت بديها في المجلس وكتبت بها إلى الأعز بن المؤيد رحمه الله تعالى أصف تلك الليلة التي ارتقعت على أيام الأعياد كارتفاع الرؤوس على الأجياد بل فضلت ليلات الدهر كفضل البدر على النجوم الزهر
( غبت عني يا ابن المؤيد في وقت ... شهي يلهي المحب المشوقا )
( ليلة ظل بدرها يلبس الجدران ... ثوبا مفضضا مرموقا )
( وغدا الطل فيه ينثر كافورا ... فيعلو مسك التراب السحيقا )
( وتبدى النسيم يعتنق الأغصان ... لما سرى عناقا رفيقا )
( بت فيها منادما لصديق ... ظل بين الأنام خلا صدوقا )
( هو مثل الهلال وجها صبيحا ... ومثال النسيم ذهنا رقيقا )
( وغزال كالبدر وجها وغصن البان ... قدا والخمرة الصرف ريقا )
( مظهر للعيون ردفا مهيلا ... وحشا ناحلا وقدا رشيقا )
( إن تغنى سمعت داود أو لاح ... تأملت يوسف الصديقا ) وإذا قابل السراج رأينا ... منه بدرا يقابل العيوقا )
( وأظن الصباح هام بمرآه ... أبدى قلبا حريقا خفوقا )

( هو نجم ما لاح في الجدر كافور ... بياض إلا كساه خلوقا )
( ما بدا نرجس الكواكب إلا ... قام من نومه يرينا الشقيقا )
( وإذا ما بدت جواهرها في الجو ... أبدى في الأرض منهم عقيقا )
( فغدونا تحت الدجى نتعاطى ... من رقيق الآداب خمرا رحيقا )
( وجعلنا ريحاننا طيب ذكراك ... فخلناه عنبرا مفتوقا )
( ذاك وقت لولا مغيبك عنه ... كان بالمدح والثناء خليقا )
قال فأجاب عنها من الوزن دون الروي
( قد أتتني من الجمال قصيد ... يا لها من قصيدة غراء )
( جمعت رقة الهواء وطيب المسك ... في سبكها وصفو الماء )
( فأرتنا طباعه وشذاه ... والذي حاز ذهنه من ذكاء )
( سيدي هل جمعت فيها اللآلي ... يا اخا المجد أم نجوم السماء )
( أفحمتني حسنا وحق أياديك ... التي لا تعد بالإحصاء )
( فتركت الجواب والله عجزا ... فابسط العذر فيه يا مولائي )
( هل يسامي الثرى الثريا وأنى ... يدعي النجم فرط نور ذكاء )
رجع إلى أهل الأندلس وقال ابن السماك إياك أن تكثر الإخوان مغتنما ... في كل يوم إلى أن يكثر العدد )
( في واحد منهم تصفي الوداد له ... من التكاليف ما يفنى به الجلد ) وله

( تحن ركابي نحو أرض وما لها ... وما لي من ذاك الحنين سوى الهم )
( وكم راغب في موضع لا يناله ... وأمسيت منه مثل يونس في اليم )
( بهذا قضى الرحمن في كل ساخط ... يموت على كره ويحيا على رغم )
ولما قام الباجي بإشبيلية وخلع طاعة ابن هود وأبدل شعاره الأسود العباسي في البنود قال أبو محمد عبد الحق الزهري القرطبي في ذلك
( كأنما الراية السوداء قد نعبت ... لهم غرابا ببين الأهل والولد )
( مات الهوى تحتها من فرط روعته ... فأظهر الدهر منها لبسة الكمد )
وأنشدهما القائم الباجي في جملة قصيدة وقال الوزير أبو الوليد إسماعيل بن حجاج الأعلم الإشبيلي
( أمسى الفراش يطوف حول كؤوسنا ... إذ خالها تحت الدجى )
( قنديلا ما زال يخفق حولها بجناحه ... حتى رمته على الفراش قتيلا ) وله
( لامو على حب الصبا والكاس ... لما بدا وضح المشيب براسي ... والغصن أحوج ما يكون لسقيه )
أيام يبدو بالأزاهر كاسي وله وقد رأى على نهر قرطبة ثلاثين نفسا مصلوبين من قطاع الطريق

( ثلاثون قد صففوا كلهم ... وقد فتحوا أذرعا للوداع )
( وما ودعوا غير أرواحهم ... فكان وداعا لغير اجتماع )
وله في فتى وسيم عض كلب وجنته
( وأغيد وضاح المحاسن باسم ... إذا قامر الأرواح ناظره قمر )
( تعمد كلب عض وجنته التي ... هي الورد إيناعا وأبقى بها أثر )
( فقلت لشهب الأفق كيف صماتكم ... وقد أثر العواء في صفحة القمر )
وقال الفقيه أبو الحجاج يوسف بن محمد البياسي المؤرخ الأديب المصنف الشهير وكان حافظا لنكت الأندلسيين حديثا وقديما ذاكرا لفكاهاتهم التي صيرته للملوك خليلا ونديما في صبي من أعيان الجزيرة الخضراء تهافت في حبه جماعة من الأدباء والشعراء
( قد سلونا عن الذي تدريه ... وجفوناه إذ جفا بالتيه )
( وتركناه صاغرا لأناس ... خدعوه بالزور والتمويه )
( لمضل يسوقه لمضل ... وسفيه يقوده لسفيه )
وكان من القوم الذين هاموا بالمذكور وقاموا فيه المقام المشهور أديب يقال له الفار فتسلط على البياسي حتى سافر من الجزيرة وكان يلقب بالقط فقال أحد الشعراء
( عذرت أبا الحجاج من رب شيبة ... غدا لابسا في الحب ثوبا من القار )
( وألجأه الفار المشارك للنوى ... ولم أر قطا قبله فر من فار )

وله وقد كتب إلى بعض أصحابه يذكره بالأيام السوالف
( أبا حسن لعمرك إن ذكري ... لأيام النعيم من الصواب )
( أمثلي ليس يذكر عهد حمص ... وقد جمحت بنا خيل التصابي )
( ونحن نجر أثواب الأماني ... مطرزة هنالك بالشباب )
( وعهد بالجزيرة ليس ينسى ... وإن أغفلته عند الخطاب )
( هو الأحلى لدي وإن حماني ... عن العسل اجتماع للذباب )
أشار إلى المحبوب وكان كثير الاجتماع به في جنة لوالده على وادي العسل وقال
( جنة وادي العسل ... كم لي بها من أمل )
( لو لم يكن ذبابها ... يمنع ذوق العسل )
قال ابن سعيد ولما التقينا بتونس بعد إيابي من المشرق وقد ولج ظلام الشعر على صباح وجهه المشرق قلت لأبي الحجاج مشيرا إلى محبوبه وقد غطى هواه عنده على عيوبه
( خل أبا الحجاج هذا الذي ... قد كنت فيه دائم الوجد )
( وانظر إلى لحيته واعتبر ... مما جنى الشعر على الخد ) والله سبحانه يسمح للجميع في هذا الهزل الشنيع ويصفح عنا في ذكره إنه مجيب سميع

عودة إلى النقل عن بدائع
وقال صاحب البدائع ركب الأستاذ أبو محمد بن صارة مع أصحاب له في نهر إشبيلية في عشية سال أصيلها على لجين الماء عقيانا وطارت زواريقها في سماء النهر عقبانا وأبدى نسيمها من الأمواج والدارات سررا وأعكانا في زورق يجول جولان الطرف ويسود اسوداد الطرف فقال بديها
( تأمل حالنا والجو طلق ... محياه وقد طفل المساء )
( وقد جالت بنا عذراء حبلى ... تجاذب مرطها ريح رخاء )
( بنهر كالسنجنجل كوثري ... تعبس وجهها فيه السماء )
واتفق أن وقف أبو إسحاق بن خفاجة على القطعة واستظرفها واستلطفها فقال يعارضها على وزنها ورويها وطريقتها
( ألا يا حبذا ضحك الحميا ... بحانتها وقد عبس المساء )
( وأدهم من جياد الماء مهر ... تنازع جله ريح رخاء )
( إذا بدت الكواكب فيه غرقى ... رأيت الأرض تحسدها السماء )
133 - بين ابن خفاجة وابن وهبون وقال الأديب ابن خفاجة في ديوانه صاحبت في صدري من المغرب سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة أبا محمد عبد الجليل بن وهبون شاعر المعتمد وكان أبو جعفر ابن رشيق يومئذ قد تمنع ببعض حصون مرسية وشرع في النفاق فقطع السبيل وأخاف الطريق ولما حاذينا قلعته وقد احتدمت جمرة الهجير

ومل الركب رسيمه وذميله وأخذ كل منا يرتاد مقيله اتفقنا على أن لا نطعم طعاما ولا نذوق مناما حتى نقول في صورة تلك الحال وذلك الترحال ما حضر وشاء الله أن أجبل ابن وهبون واعتذر وأخذت عفو خاطري فقلت أتربص به وأعرض بعظم لحيته
( ألا قل للمريض القلب مهلا ... فإن السيف قد ضمن الشقاء )
( ولم أر كالنفاق شكاه حر ... ولا كدم الوريد له دواء )
( وقد دحي النجيع هناك أرضا ... وقد سمك العجاج به سماء )
( وديس به انحطاطا بطن واد ... مذ اعشب شعر لحيته ضراء )
وقال ابن خفاجة أيضا حضرت يوما مع أصحاب لي ومعهم صبي متهم في نفسه واتفق أنهم تحاوروا في تفضيل الرمان على العنب فانبرى ذلك الصبي فأفرط في تفضيل العنب فقلت بديها أعبث به
( صلني لك الخير برمانة ... لم تنتقل عن كرم العهد )
( لا عنبا أمتص عنقوده ... ثديا كأني بعد في المهد )
( وهل يرى بينهما نسبة ... من عدل الخصبة بالنهد ) فخجل خجلا شديدا وانصرف
قال وخرجت يوما بشاطبة إلى باب السمارين ابتغاء الفرجة على خرير ذلك الماء بتلك الساقية وذلك سنة 480 وإذا بالفقيه أبي عمران بن أبي تليد رحمه الله تعالى قد سبقني إلى ذلك فألفيته جالسا على دكان كانت هناك مبنية لهذا الشأن فسلمت عليه وجلست إليه مستأنسا به فجرى أثناء ما تناشدناه ذكر قول ابن رشيق
( يا من يمر ولا تمر ... به القلوب من الفرق )
( بعمامة من خده ... أو خده منها استرق )
( فكأنه وكأنها ... قمر تعمم بالشفق )
( فإذا بدا وإذا انثنى ... وإذا شدا وإذا نطق )
( شغل الخواطر والجوا نح ... والمسامع والحدق )
فقلت وقد أعجب بها جدا وأثنى عليها كثيرا أحسن ما في القطعة سياقة الأعداد وإلا فأنت تراه قد استرسل فلم يقابل بين ألفاظ البيت الأخير والبيت الذي قبله فينزل بإزاء كل واحدة منها ما يلائمها وهل ينزل بإزاء قوله ( ( وإذا نطق ) ) قوله ( ( شغل الحدق ) ) وكأنه نازعني القول في هذا غاية الجهد فقلت بديها
( ومهفهف طاوي الحشا ... خنث المعاطف والنظر )
( ملأ العيون بصورة ... تليت محاسنها سور )
( فإذا رنا وإذا مشى ... وإذا شدا وإذا سفر )
( فضح الغزالة والغمامة ... والحمامة والقمر )
فجن بها استحسانا انتهى قال ابن ظافر والقطعة القافية ليست لابن رشيق بل هي لأبي الحسين علي بن بشر الكاتب أحد شعراء اليتيمة وكان بين السميسر الشاعر وبين بعض رؤساء المرية واقع لمدح

وقال ابن الزقاق
( دعاك خليل والأصيل كأنه ... عليل يقضي مدة الرمق الباقي )
( إلى شط منساب كأنك ماؤه ... صفاء ضمير أو عذوبة أخلاق )
( ومهوى جناح للصبا يمسح الربى ... خفي الخوافي والقوادم خفاق )
( على حين راح البرق في الجو مغمدا ... ظباه ودمع المزن من جفنه راق )
( وقد حان مني للرياض التفاتة ... حبست بها كأسي قليلا عن الساقي )
( على سطح خيري ذكرتك فانثنى ... يميل بأعناق ويرنو بأحداق )
( فصل زهرات منه هذا كأنها ... وقد خضلت قطرا محاجر عشاق )
ولما مدح الحسيب أبو محمد القاسم بن مسعدة الأوسي أمير المؤمنين عبد المؤمن بقوله
( حنانيك مدعوا ولبيك داعيا ... فكل بما ترضاه أصبح راضيا )
( طلعت على أرجائنا بعد فترة ... وقد بلغت منا النفوس التراقيا )
( وقد كثرت منا سيوف لدى العلا ... ومن سيفك المنصور نبغي التقاضيا )
( وغيرك نادينا زمانا فلم يجب ... وعزمك لم يحتج علاه مناديا )
كتب اسمه وزير عبد المؤمن في جملة الشعراء فلما وقف على ذلك عبد المؤمن ضرب على اسمه وقال إنما يكتب اسم هذا في جملة الحساء لا تدنسوه بهذه النسبة فلسنا ممن يتغاضى على غمط حسبه ثم أجزل صلته وأمر له بضيعة يحرث له بها يعني بذلك أنه من ذرية ملوك لأن جده كان ملك وادي الحجارة

( يا من يمر ولا تمر ... به القلوب من الفرق )
( بعمامة من خده ... أو خده منها استرق )
( فكأنه وكأنها ... قمر تعمم بالشفق )
( فإذا بدا وإذا انثنى ... وإذا شدا وإذا نطق )
( شغل الخواطر والجوا نح ... والمسامع والحدق )
فقلت وقد أعجب بها جدا وأثنى عليها كثيرا أحسن ما في القطعة سياقة الأعداد وإلا فأنت تراه قد استرسل فلم يقابل بين ألفاظ البيت الأخير والبيت الذي قبله فينزل بإزاء كل واحدة منها ما يلائمها وهل ينزل بإزاء قوله ( ( وإذا نطق ) ) قوله ( ( شغل الحدق ) ) وكأنه نازعني القول في هذا غاية الجهد فقلت بديها
( ومهفهف طاوي الحشا ... خنث المعاطف والنظر )
( ملأ العيون بصورة ... تليت محاسنها سور )
( فإذا رنا وإذا مشى ... وإذا شدا وإذا سفر )
( فضح الغزالة والغمامة ... والحمامة والقمر )
فجن بها استحسانا انتهى قال ابن ظافر والقطعة القافية ليست لابن رشيق بل هي لأبي الحسين علي بن بشر الكاتب أحد شعراء اليتيمة وكان بين السميسر الشاعر وبين بعض رؤساء المرية واقع لمدح

مدحه فلم يجزه عليه فصنع ذلك الرجل دعوة للمعتصم بن صمادح صاحب المرية واحتفل فيها بما يحتفل مثله في دعوة سلطان مثل المعتصم فصبر السميسر إلى أن ركب السلطان متوجها إلى الدعوة فوقف له في الطريق فلما حاذاه رفع صوته بقوله
( يا أيها الملك الميمون طائره ... ومن لذي مأتم في وجهه عرس )
( لا تفرسن طعاما عند غيركم ... إن الأسود على المأكول تفترس )
فقال المعتصم صدق والله ورجع من الطريق وفسد على الرجل ما كان عمله
حكاية مشرقية
ونظير هذه الحكاية أن عباد بن الحريش كان قد مدح رجلا من كبار أصبهان أرباب الضيع والأملاك والتبع الكثير فمطله بالجائزة ثم أجازه بما لم يرضه فرده عليه وبعد ذلك بحين عمل الرجل دعوة غرم عليها ألوف دنانير كثيرة لأبي دلف القاسم بن عيسى العجلي على أن يجيء إليه من الكرج ووصل أبو دلف فلما وقعت عين عباد عليه وهو يساير بعض خواصه أومأ إلى ذلك السائر وأنشد بأعلى صوته
( قل له يا فديته ... قول عباد ذا سمج )
( جئت في ألف فارس ... لغداء من الكرج )
( ما على النفس بعد ذا ... في الدناءات من حرج )
فقال أبو دلف وكان أخوف الناس من شاعر صدق والله أجيء

( من الكرج إلى أصبهان حتى أتغدى بها والله ما بعد هذا في دناءة النفس من شيء
ثم رجع من طريقه وفسد على الرجل كل ما غرمه وعرف من أين أتي
وتخوف أن يعود عباد عليه بشر منها فسير إليه جائزة سنية مع جماعة من أصحابه فاجتمعوا به وسألوه فيه وفي قبول الجائزة فلم يقبل الجائزة ثم أنشد بديها
( وهبت يا قوم لكم عرضه ... )
فقالوا جزاك الله تعالى خيرا فقال
( كرامة للشعر لا للفتى ... )
( لأنه أبخل من ذرة ... على الذي تجمعه في الشتا ) انتهى وذكر أبو الصلت أمية بن عبد العزيز الأندلسي ما معناه أنه عزم بمصر هو ورفقة له على الاصطباح فقصدوا بركة الحبش في وقت ولاية الغبش وحلوا منها روضا بسم زهره ونسم عطره فأداروا كؤوسا تطلع من المدام شموسا وعاينوها نجوما تكون لشياطين الهموم رجوما فطرب حتى أظهر الطرب نشاطه وأبرز ابتهاجه وانبساطه فقال
( لله يومي ببركة الحبش ... والجو بين الضياء والغبش )
( النيل تحت الرياح مضطرب ... كصارم في يمين مرتعش )
( ونحن في روضة مفوفة ... دبج بالنور عطفها ووشي )
( قد نسجتها يد الغمام لنا ... فنحن من نورها على فرش )

( فعاطني الراح إن تاركها ... من سورة الهم غير منتعش )
( وأسقني بالكبار مترعة ... فهن أروى لشدة العطش )
( فأثقل الناس كلهم رجل ... دعاه داعي الصبا فلم يطش )
وهذا أبو الصلت أمية من كبراء أدباء الأندلس العلماء الحكماء وقد ترجمناه في الباب الخامس في المرتحلين من الأندلس إلى المشرق وقال رحمه الله تعالى كنت مع الحسن بن علي بن تميم بن المعز بن باديس بالمهدية في الميدان وقد وقف يرمي بالنشاب فصنعت فيه بديها
( يا ملكا مذ خلقت كفه ... لم تدر إلا الجود والباسا )
( إن النجوم الزهر مع بعدها ... قد حسدت في قربك الناسا )
( وودت الأفلاك لو أنها ... تحولت تحتك أفراسا )
( كما تمنى البدر لو أنه ... عاد لنشابك برجاسا )
وصنع الوزير أبو جعفر أحمد الوقشي وزير الرئيس أبي إسحاق بن همشك صهر الأمير أبي عبد الله محمد بن مردنيش في غلام أسود في يده قضيب نور بديها
( وزنجي أتى بقضيب نور ... وقد زفت لنا بنت الكروم )
( فقال فتى من الفتيان صفها ... فقلت الليل أقبل بالنجوم )

ولما أفرط ابو بكر يحيى اليكي في هجاء أهل فاس تعسفوا عليه وساعدهم واليهم مظفر الخصي من قبل أمير المسلمين علي بن يوسف والقائد عبد الله بن خيار الجياني وكان يتولى أمورا سلطانية بها فقدموا رجلا ادعى عليه بدين وشهد عليه به رجل فقيه يعرف بالزناتي ورجل آخر يكنى بأبي الحسين من مشايخ البلد فأثبت الحق عليه وأمر به إلى السجن فرفع إليه وسيق سوقا عنيفا فلما وصل إلى بابه طلب ورقة من كاتبه وكتب فيها وأنفذها إلى مظفر مع العون الذي أوصله إلى السجن فكان ما كتب
( ارشوا الزناتي الفقيه ببيضة ... يشهد بأن مظفرا ذو بيضتين )
( واهدوا إليه دجاجة يحلف ... لكم ما ناك عبد الله عرس أبي الحسين ) وقال أبو الحسن علي بن عتيق بن مؤمن القرطبي الأنصاري عمل والدي محملا للكتب من قضبان تشبه سلما فدخل عليه أبو محمد عبد الله بن مفيد فرآه فقال ارتجالا
( أيها السيد الذكي الجنان ... لا تقسني بسلم البنيان )
( فضل شكلي على السلالم أني ... محمل للعلوم والقرآن )
( حزت من حلية المحبين ضعفي ... واصفراري ورقة الأبدان )
( فادع للصانع المجيد بفوز ... ثم وال الدعاء للإخوان ) ثم عمل أيضا
( أيها السيد الكريم المساعي ... التفت صنعتي وحسن ابتداعي )

أنا للنسخ محمل خف حملي ... أنا في الشكل سلم الاطلاع )
وقال أحمد بن رضى المالقي
( ليس المدامة مما أستريح له ... ولا مجاوبة الأوتار والنغم )
( وإنما لذتي كتب أطالعها ... وخادمي أبدا في نصرتي قلمي )
وقال أبو القاسم البلوي الإشبيلي
( لمن أشكو مصابي في البرايا ... ولا ألقى سوى رجل مصاب )
( أمور لو تدبرها حكيم ... لعاش مدى الزمان أخا اكتئاب )
( أما في الدهر من أفشي إليه ... بأسراري فيؤنس بالجواب )
( يئست من الأنام فما جليس ... يعز على نهاي سوى كتابي )
وقال أبو زكريا يحيى بن صفوان بن إدريس صاحب كتاب العجالة و زاد المسافر وغيرهما
( ليت شعري كيف أنتم ... وأنا الصب المعنى )
( كل شيء لم تكونوا ... فيه لفظ دون معنى ) وله في نصراني وسيم لقيه يوم عيد
( توحد في الحسن من لم يزل ... يثلث والقلب في صده )
( يشف لك الماء من كفه ... ويقتدح النار من خده ) وهذان البيتان نسبهما له بعض معاشريه وأبوه صفوان سابق الميدان وقال ابن بسام ساير ابن عمار في بعض أسفاره غلامان من

بني جهور أحدهما أشقر العذار والآخر أخضره فجعل يميل بحديثه لمخضر العذار ثم قال ارتجالا
( تعلقته جهوري النجار ... حلي اللمى جوهري الثنايا )
( من النفر البيض أسد الزمان ... رقاق الحواشي كرام السجايا )
( ولا غرو أن تغرب الشارقات ... وتبقى محاسنها بالعشايا )
( ولا وصل إلا جمان الحديث ... نساقطه من ظهور المطايا )
( شنئت المثلث للزعفران ... وملت إلى خضرة في التفايا )
ومعناه أن ابن عمار أبغض المثلث لدخول الزعفران فيه لشبهه بعذار الأشقر منهما وأحب خضرة التفايا وهو لون طعام يعمل بالكزبرة لشبهها بعذار الأخضر منهما ابن عمار وابن معيشة الكناني 139
وقال أبو العرب بن معيشة الكناني السبتي أخبرني شيخ من أهل إشبيلية كان قد أدرك دولة آل عباد وكان عليه من أثر كبر السن ودلائل التعمير ما يشهد له بالصدق وينطق بأن قوله الحق قال كنت في صباي حسن الصورة بديع الخلقة لا تلمحني عين أحد إلا ملكت قلبه وخلبت خلبه وسلبت لبه وأطلت كربه فبينا أنا واقف على باب دارنا إذا بالوزير أبي بكر بن عمار قد أقبل في موكب زجل على فرس كالصخرة الصماء قدت من قنة الجبل فحين حاذاني ورآني اشرأب إلي ينظرني وبهت يتأملني ثم دفع بمخصرة كانت بيده في صدري وأنشد

( كف هذا النهد عني ... فبقلبي منه جرح )
( هو في صدرك نهد ... وهو في صدري رمح ) هود وعبر في ( ( البدائع ) ) على طريقة القلائد بما صورته ذكر الفتح بن خاقان ما هذا معناه أخبرني ذو الوزارتين أبو المطرف بن عبد العزيز أنه حضر عند المؤتمن بن هود في يوم أجرى الجو فيه أشقر برقه ورمى بنبل ودقه وحملت الرياح فيه أوقار السحاب على أعناقها وتمايلت قامات الأغصان في الحلل الخضر من أوراقها والأزهار قد تفتحت عيونها والكمائم قد ظهر مكنونها والأشجار قد انصقلت بالقطر ونشرت ما يفوق ألوان البز وبثت ما يعلو العطر والراح قد أشرقت نجومها في بروج الراح وحاكت شمسها شمس الأفق فتلفعت بغيوم الأقداح ومديرها قد ذاب ظرفا فكاد يسيل من إهابه وأخجل خدها حسنا فتكلل بعرق حبابه إذا بفتى رومي من أصبح فتيان المؤتمن قد أقبل متدرعا كالبدر اجتاب سحابا والخمر اكتست حبابا والطاووس انقلب حبابا فهو ملك حسنا إلا أنه جسد وغزال لينا إلا أنه في هيئة الأسد وقد جاء يريد استشارة المؤتمن في الخروج إلى موضع كان عول فيه عليه وأمره أن يتوجه إليه فحين وصل إلى حضرته لمحه ابن عمار والسكر قد استحوذ على لبه وانبثت سراياه في ضواحي قلبه فأشار إليه وقربه واستبدع ذلك اللباس واستغربه وجد في أن يستخرج تلك الدرة من ماء ذلك الدلاص وأن يجلي عنه سمكه كما يجلى الخبث عن الخلاص وأن يوفر على ذلك الوفر نعمة جسمه ويكون هو الساقي على عادته القديمة ورسمه فأمره المؤتمن بقبول أمره وامتثاله واحتذاء أمثاله فحين ظهرت تلك الشمس من حجبها ورمت شياطين النفوس من كمت المدام بشهبها ارتجل ابن عمار

( وهويته يسقي المدام كأنه ... قمر يدور بكوكب في مجلس )
( متناوح الحركات يندى عطفه ... كالغصن هزته الصبا بتنفس )
( يسقي بكأس في أنامل سوسن ... ويدير أخرى من محاجر نرجس )
( يا حامل السيف الطويل نجاده ... ومصرف الفرس القصير المحبس )
( إياك بادرة الوغى من فارس ... خشن القناع على عذار أملس )
( جهم وإن حسر القناع فإنما ... كشف الظلام عن النهار المشمس )
( يطغى ويلعب في دلال عذاره ... كالمهر يلعب في اللجام المجرس )
( سلم فقد قصف القنا غصن النقا ... وسطا بليث الغاب ظبي المكنس )
( عنا بكأسك قد كفتنا مقلة ... حوراء قائمة بسكر المجلس )
وصنع فيه أيضا
( وأحور من ظباء الروم عاط ... بسالفتيه من دمعي فريد )
( قسا قلبا وشن عليه درعأ ... فباطنه وظاهره حديد بكيت )
( وقد دنا ونأى رضاه ... وقد يبكي من الطرب الجليد )
( وإن فتى تملكه برق ... وأحرز حسنه لفتى سعيد ) وذكر في البدائع مؤلفه ما نصه خرج المعتصم بن صمادح صاحب المرية يوما إلى بعض متنزهاته فحل بروضة قد سفرت عن وجهها البهيج وتنفست عن مسكها الأريج وماست معاطف أغصانها وتكللت بلؤلؤ الطل أجياد قضبانها فتشوق إلى الوزير أبي طالب بن غانم أحد كبراء دولته وسيوف صولته فكتب إليه بديها بورقة كرنب بعود من شجرة
( أقبل أبا طالب إلينا ... واسقط سقوط الندى علينا )
وجلس المعتصم بن صمادح المذكور يوما وبين يديه ساقية قد أخمدت ببردهما حر الأوار والتوى ماؤها فيها التواء فضة السوار فقال ارتجالا
( انظر إلى الماء كيف انحط من صببه ... كأنه أرقم قد جد في هربه )
وقال السمسير
( بعوض شربن دمي قهوة ... وغنينني بضروب الأغاني )
( كأن عروقي أوتارهن ... وجسمي الرباب وهن القيان
وأحسن منه قول ابن شرف القيرواني
( لك مجلس كملت بشارة لهونا ... فيه ولكن تحت ذاك حديث )
( غنى الذباب فظل يزمر حوله ... فيه البعوض ويرقص البرغوث )
والسابق إلى هذا المعنى أبو الحسن أحمد بن أيوب من شعراء اليتيمة إذ قال
( لا أعذل الليل في تطاوله ... لو كان يدري ما نحن فيه نقص )
( لي والبراغيث والبعوض إذا أجننا حندس الظلام قصص ) إذا تغنى بعوضه طربا ... أطرب برغوثه الغنا فرقص )
ونحو هذا قول الحصري فيما نسبه إليه ابن دحية
( ضاقت بلنسية بي ... وذاد عني غموضي )
( رقص البراغيث فيها ... على غناء البعوض )
رجع إلى أهل الأندلس فنقول
كان ابن سعد الخير البلنسي الشاعر كثير الذهول مفرط النسيان ظاهر التغفل على جودة نظمه ورطوبة طبعه وكان كثيرا ما يسلك سكة الإسكافيين الذين يعملون الخفاف على بغلة له فاتخذت البغلة النفور من أطراف الأدم وفضلات الجلود الملقاة في السكة عادة لها واتفق أن عبر في السكة راجلا ومعه جماعة من أصحابه فلما رأى الجلود الملقاة قفز ووثب راجعا على عقبيه فقال له أصحابه ما هذا أيها الأستاذ فقال البغلة نفرت فعجبوا من مخلفه وتغفله كيف ظن مع ما يقاسيه من ألم المشي ونصب التعب أنه راكب وأن حركته الاختيارية منه حركة الدابة الضرورية له فكان تغفله ربما أوقعه في تهمة عند من لم يعرفه فاقترح عليه بعض الأمراء أن يصنع بيتين أول أحدهما كتاب وآخره ذئب وأول الآخر جوارح وآخره أنابيب فصنع بديها
( كتاب نجيع لاح في حومة الوغى ... وقارنه نسر هنالك أو ذيب )
( جوارح أهليه حروف وربما ... تولته من نقط الطعان أنابيب )
وقال الحميدي ذكر لي أبو بكر المرواني أنه شاهد محبوبا الشاعر النحوي قال بديهة في صفة ناعورة

( أقبل أبا طالب إلينا ... واسقط سقوط الندى علينا )
وجلس المعتصم بن صمادح المذكور يوما وبين يديه ساقية قد أخمدت ببردهما حر الأوار والتوى ماؤها فيها التواء فضة السوار فقال ارتجالا
( انظر إلى الماء كيف انحط من صببه ... كأنه أرقم قد جد في هربه )
وقال السمسير
( بعوض شربن دمي قهوة ... وغنينني بضروب الأغاني )
( كأن عروقي أوتارهن ... وجسمي الرباب وهن القيان
وأحسن منه قول ابن شرف القيرواني
( لك مجلس كملت بشارة لهونا ... فيه ولكن تحت ذاك حديث )
( غنى الذباب فظل يزمر حوله ... فيه البعوض ويرقص البرغوث )
والسابق إلى هذا المعنى أبو الحسن أحمد بن أيوب من شعراء اليتيمة إذ قال
( لا أعذل الليل في تطاوله ... لو كان يدري ما نحن فيه نقص )
( لي والبراغيث والبعوض إذا أجننا حندس الظلام قصص ) إذا تغنى بعوضه طربا ... أطرب برغوثه الغنا فرقص )

ونحو هذا قول الحصري فيما نسبه إليه ابن دحية
( ضاقت بلنسية بي ... وذاد عني غموضي )
( رقص البراغيث فيها ... على غناء البعوض )
رجع إلى أهل الأندلس فنقول
كان ابن سعد الخير البلنسي الشاعر كثير الذهول مفرط النسيان ظاهر التغفل على جودة نظمه ورطوبة طبعه وكان كثيرا ما يسلك سكة الإسكافيين الذين يعملون الخفاف على بغلة له فاتخذت البغلة النفور من أطراف الأدم وفضلات الجلود الملقاة في السكة عادة لها واتفق أن عبر في السكة راجلا ومعه جماعة من أصحابه فلما رأى الجلود الملقاة قفز ووثب راجعا على عقبيه فقال له أصحابه ما هذا أيها الأستاذ فقال البغلة نفرت فعجبوا من مخلفه وتغفله كيف ظن مع ما يقاسيه من ألم المشي ونصب التعب أنه راكب وأن حركته الاختيارية منه حركة الدابة الضرورية له فكان تغفله ربما أوقعه في تهمة عند من لم يعرفه فاقترح عليه بعض الأمراء أن يصنع بيتين أول أحدهما كتاب وآخره ذئب وأول الآخر جوارح وآخره أنابيب فصنع بديها
( كتاب نجيع لاح في حومة الوغى ... وقارنه نسر هنالك أو ذيب )
( جوارح أهليه حروف وربما ... تولته من نقط الطعان أنابيب )
وقال الحميدي ذكر لي أبو بكر المرواني أنه شاهد محبوبا الشاعر النحوي قال بديهة في صفة ناعورة

( وذات حنين ما تغيض جفونها ... من اللجج الخضر الصوافي على شط )
( وتبكي فتحيي من دموع جفونها ... رياضا تبدت بالأزاهر في بسط )
( فمن أحمر قان وأصفر فاقع ... وأزهر مبيض وأدكن مشمط )
( كأن ظروف الماء من فوق متنها ... لآلي جمان قد نظمن على قرط )
وقال أبو الخطاب ابن دحية دخلت على الوزير الفقيه الأجل أبي بكر عبد الرحمن بن محمد بن مغاور السلمي فوقع الكلام في علوم لم تكن من جنس فنونه فقال بديها
( أيها العالم أدركني سماحا ... فلمثلي يحق منك السماح )
( إن تخلني إذا نطقت عييا ... فبناني إذا كتبت وقاح )
( أحرز الشأو في نظام ونثر ... ثم أثني وفي العنان جماح )
( فبهزل كما تأود غصن ... وبجد كما تهز الصفاح
وقال دخلت عليه منزله بشاطبة في اليوم الذي توفي فيه وهو يجود بنفسه فأنشد بديها
( أيها الواقف اعتبارا بقبري ... استمع فيه قول عظمي الرميم )
( أودعوني بطن الضريح وخافوا ... من ذنوب كلومها بأديمي )
( ودعوني بما اكتسبت رهينا ... غلق الرهن عند مولى كريم )
وقال ابن طوفان دعا أبي أبا الوليد النحلي فلما قضوا وطرهم من الطعام سقيتهم وجعلت أترع الكاسات فلما مشت في النحلي

سورة الحميا ارتجل
( لابن طوفان أياد ... قل فيها مشبهوه )
( ملأ الكاسات حتى ... قيل في البيت أبوه )
ونظيره قول المنفتل من شعراء الذخيرة في الشاعر ابن الفراء
( فإذا ما قال شعرا ... نفقت سوق أبيه )
وذكر في بدائع البدائه أن جماعة من الشعراء في أيام الأفضل خرجوا متنزهين إلى الأهرام ليروا عجائب مبانيها ويتأملوا ما سطره الدهر من العبر فيها فاقترح بعض من كان معهم العمل فيها فصنع أبو الصلت أمية بن عبد العزيز الأندلسي
( بعيشك هل أبصرت أعجب منظرا ... على ما رأت عيناك من هرمي مصر )
( أنافا بأعنان السماء فأشرفا ... على الجو إشراف السماك أو النسر )
( وقد وافيا نشزا من الأرض عاليا ... كأنهما نهدان قاما على صدر )
وصنع أبو منصور ظافر الحداد
( تأمل هيئة الهرمين وانظر ... وبينهما ابو الهول العجيب )
( كعماريتين على رحيل ... بمحبوبين يبنهما رقيب )
( وفيض البحر عندهما دموع ... وصوت الريح بينهما نحيب )
( وظاهر سجن يوسف مثل صب ... تخلف فهو محزون كئيب )

ابن بسام كان للمتوكل بن الأفطس فرس أدهم أغر محجل على كفله ست نقط بيض فندب المتوكل الشعراء لصفته فصنع النحلي أبو الوليد فيه بديها
( ركب البدر جوادا سابحا ... تقف الريح لأدنى مهله )
( لبس الليل قميصا سابغا ... والثريا نقط في كفله )
( وغدير الصبح قد خيض به ... فبدا تحجيله من بلله )
( كل مطلوب وإن طالت به ... رجله من أجله في أجله )
ثم انتدب الشعراء بعد ذلك للعمل فيه فصنع ابن اللبانة
( لله طرف جال يا ابن محمد ... فحبت به حوباؤه التأميلا )
( لما رأى أن الظلام أديمه ... أهدى لأربعه الهدى تحجيلا )
( وكأنما في الردف منه مباسم ... تبغي هناك لرجله تقبيلا )
وقال فيه أبو عبد الله ابن عبد البر الشنريني من قطعة
( وكأنما عمر على صهواته ... قمر تسير به الرياح الأربع ) ويعني بعمر المتوكل المذكور لأن اسمه عمر وقال أحمد بن عبد الرحمن بن الصقر الخزرجي قاضي إشبيلية
( لله إخوان تناءت دارهم ... حفظوا الوداد على النوى أو خانوا )
( يهدي لنا طيب الثناء ودادهم ... كالند يهدي الطيب وهو دخان )

أخبار عن المروانيين
وحكي أن أيوب بن سليمان السهيلي المرواني حضر يوما عند ابن باجة والشاعر أبو الحسن ابن جودي هناك فتكلم المرواني بكلام ظهر فيه نبل وأدب فتشوف أبو الحسن بن جودي لمعرفته وكان إذ ذاك فتي السن فقال له من أنت أكرمك الله تعالى فقال هلا سألت غيري عني فيكون ذلك أحسن لك أدبا ولي توقيرا فقال ابن جودي قد سألت من المعرف عنك فلم يعرفك فقال يا هذا لطالما مر علينا زمان يعرفنا من يجهل ولا يحتاج من يرانا فيه إلى أن يسأل وأطرق ساعة ثم رفع رأسه وأنشد
( أنا ابن الألى قد عوض الدهر عزهم ... بذل وقلوا واستحبوا التنكرا )
( ملوك على مر الزمان بمشرق ... وغرب دهاهم دهرهم وتغيرا )
( فلا تذكرنهم بالسؤال مصابهم ... فإن حياة الرزء أن يتذكرا )
ففطن ابن جودي أنه من بني مروان فقام وقبل رأسه واعتذر إليه ثم انصرف المرواني فقال ابن باجة لابن جودي أساء أدبك بعدما عهدت منك كيف تعمد إلى رجل في مجلسي تراني قد قربته وأكرمته وخصصته بالإصغاء إلى كلامه فتقدم عليه بالسؤال عن نفسه فاحذر أن تكون لك عادة فإنها من أسوأ الأدب فقال ابن جودي لم أزل من الشيخ على ما قاله أبو تمام
( نأخذ من ماله ومن أدبه ... )
وحكي أن بكارا المرواني لما ترك وطنه وخرج في الجهاد وقتل قال صاحب السقط إنه اجتمع به في أشبونة فقال قصدت منزله بها ونقرت

الباب فنادى من هذا فقلت رجل ممن يتوسل لرؤيتك بقرابة فقال لا قرابة إلا بالتقى فإن كنت من أهله فادخل وإلا فتنح عني فقلت أرجو في الاجتماع بك والاقتباس منك أن أكون من أهل التقى فقال ادخل فدخلت عليه فإذا به في مصلاه وسبحة أمامه وهو يعد حبوبها ويسبح فيها فقال لي ارفق علي حتى أتمم وظيفتي من هذا التسبيح وأقضي حقك فقعدت إلى أن فرغ فلما قضى شغله عطف علي وقال ما القرابة التي بيني وبينك فانتسبت له فعرف أبي وترحم عليه وقال لي لقد كان نعم الرجل وكان لديه أدب ومعرفة فهل لديك أنت مما كان لديه شيء فقلت له إنه كان يأخذني بالقراءة وتعلم الأدب وقد تعلقت من ذلك بما أتميز به فقال لي هل تنظم شيئا قلت نعم وقد ألجأني الدهر إلى أن أرتزق به فقال يا ولدي إنه بئسما يرتزق به ونعم ما يتحلى به إذا كان على غير هذا الوجه وقد قال رسول الله " إن من الشعر لحكمة " ولكن تحل الميتة عند الضرورة فأنشدني أصلحك الله تعالى مما على ذكرك من شعرك قال فطلبت بخاطري شيئا أقابله به مما يوافق حاله فما وقع لي إلا فيما لا يوافقه من مجون ووصف خمر وما أشبه ذلك فأطرقت قليلا فقال لعلك تنظم فقلت لا ولكن أفكر فيما أقابلك به فقولي أكثره فيما حملني عليه الصبا والسخف وهو لائق تفير مجلسك فقال يا بني ولا هذا كله إنا لا نبلغ من تقوى الله إلى حد نخرج به عن السلف الصالح وإذا صح عندنا أن عبد الله بن عباس ابن عم رسول الله ومفسر كتاب الله تعالى ينشد مثل قول القائل
( إن يصدق الطير ننك لميسا ... )

فمن نحن حتى نأبى أن نسمع مثل هذا والله لا نشذ عن السلف الصالح أنشدني ما وقع لك غير متكلف فلم يمدني خاطري إلى غير قولي من شعر أمجن فيه
( أبطأت عني وإني ... لفي اشتياق شديد )
( وفي يدي لك شيء ... قد قام مثل العمود )
( لو ذقته مرة لم ... تعد لهذا الصدود )
فتبسم الشيخ وقال أما كان في نظمك أطهر من هذا فقلت له ما وفقت لغيره فقال لا بأس عليك فأنشدني غيره ففكرت إلى أن أنشدته قولي
( ولما وقفت على ربعهم ... تجرعت وجدي بالأجزع )
( وأرسل دمعي شرار الدموع ... لنار تأجج في الأضلع )
فقال عذولي لما رأى بكائي رفقا على الأدمع فقلت له هذه سنة لمن حفظ العهد في الأربع قال فرأيت الشيخ قد اختلط وجعل يجيء ويذهب ثم أفاق وقال أعد بحق آبائك الكرام فأعدت فأعاد ما كان فيه وجعل يردده فقلت له لو علمت أن هذا يحركك ما أنشدتك إياه فقال وهل حرك مني إلا خيرا وعظة يا بني إن هذه القلوب المخلاة لله كالورق التي جفت وهي مستعدة لهبوب الرياح فإن هب عليها أقل ريح لعب بها كيف شاء وصادف منها طوعه فأعجبني منزعه وتأنست به ولم أر عنده ما يعتاد من هؤلاء المتدينين من الانجماع والانكماش بل ما زال يبسطني ويحدثني بأخبار فيها هزل ويذكر لي من تاريخ بني أمية وملوكها ما أرتاح له ولا اعلم أكثره فلما كثر تأنسي

به أهويت إلى يده كي أقبلها فضمها بسرعة وقال ما شأنك فقلت راغبا لك في أن تنشدني شيئا من نظمك فقال أما نظمي في زمان الصبا فكان له وقت ذهب ويجب للنظم أن يذهب معه وأما نظمي في هذا الوقت فهو فيما أنا بسبيله وهو يثقل عليك فقلت له إن أنصف سيدي الشيخ نفعنا الله تعالى به أنشدني من نظم صباه ومن نظم شيخوخته فيأخذ كلانا بحظه فضحك وقال ما أعصيك وأنت ضيف وقريب ولك حرمة أدب ووسيلة قصد ثم أنشدني وقد بدا عليه الخشوع وخنقته العبرة
( ثق بالذي سواك من ... عدم فإنك من عدم )
( وانظر لنفسك قبل قرع ... السن من فرط الندم )
( واحذر وقيت من الورى ... واصحبهم أعمى أصم )
( قد كنت في تيه إلى ... أن لاح لي أهدى علم )
( فاقتدت نحو ضيائه ... حتى خرجت من الظلم )
( لكن قناديل الهوى ... في نور رشدي كالحمم )
قال فوالله لقد أدركني فوق ما أدركه وغلب على خاطري بما سمعت من هذه الأبيات وفعلت بي من الموعظة غاية لم أجد منها التخلص إلا بعد حين فقال لي الشيخ إن هذه يقظة يرجى معها خيرك والله مرشدك ومنقذك ثم قال لي يا بني هذا ما نحن بسبيله الآن فاسمع فيما مضى والله ولي المغفرة وإنا لنرجو منه غفران الفعل فكيف القول وأنشد
( أطل عذار على خده ... فظنوا سلوي عن مذهبي )
( وقالوا غراب لوشك النوى ... فقلت اكتسى البدر بالغيهب )
( وناديت قلبي أين المسير ... وبدر الدجى حل بالعقرب )

( فقال ولو رمت عن حبه ... رحيلا عصيت ولم أذهب )
قال فسمعت ما يقصر عنه صدور الشعراء وشهدت له بالتقدم وقلت له لم أر أحسن من نظمك في جد ولا هزل ثم قلت له أأرويه عنك فقال نعم ما أرى به بأسا بعد اطلاع من يعلم السرائر على ما في الضمائر فما قدر هذه الفكاهة في إغضاء من يغفر الكبائر ويغضي عن العظائم قال فقلت له فإن أسبغت علي النعمة بزيادة شيء من هذا الفن فعلت ما تملك به قلبي آخر الدهر فقال يا بني لا ملك قلبك غير حب الله تعالى ! ثم قال ولا أجمع عليك رد قول ومنعا وأنشد
( أيها الشادن الذي ... حسنه في الورى غريب )
( لحظ ذاك الجمال يطفئ ... ما بي من اللهيب )
( وعليه أحوم دهري ... ولكنني أخيب )
( كلما رمت زورة ... قيض الله لي رقيب )
قال فمازج قلبي من الرقة واللطافة لهذا الشعر ما أعجز عن التعبير عنه فقلت له زدني زادك الله تعالى خيرا فأنشدني
( ما كان قلبي يدري قدر حبكم ... حتى بعدتم فلم يقدر على الجلد )
( وكنت أحسب أني لا أضيق به ... ذرعا فما حان حتى فت في عضدي )
( ثم استمرت على كره مريرته ... فكاد يفرق بين الروح والجسد )
( عساكم أن تلاقوا باللقا رمقي ... فليس لي مهجة تقوى على الكمد )
ثم قال حسبك وإن كلفتني زيادة فالله حسبك فقلت له قد وكلتني إلى كريم غفور رحيم فبالله إلا ما زدتني وأكببت لأقبل رجليه فضمهما وأنشد

( لله من قال لما ... شكوت فيه نحولي )
( أما السبيل لوصل ... فما له من وصول )
( فقلت حسبي التماح ... بحسن وجه جميل )
( وجه تلوح عليه ... علامة للقبول )
( فقال دعني فهذا ... تعرض للفضول )
( فقلت عاتب وخاطب ... بالأمن أهل العقول )
فملأ سمعي عجائب وبسط أنسي وكتبت كل ما أنشدني ثم قلت له لولا خوفي من التثقيلى عليك لم أزل أستدعي منك الإنشاد حتى لا تجد ما تنشد فقال إن عدت إن شاء الله تعالى إلى هنا تذكرت وأنشدتك فما عندي مما أضيفك غير ما سمعت وما تراه ثم قام وجاء من بيت آخر في داره بصفحة فيها حسا من دقيق وكسور باردة فجعل يفت فيها ثم أشار إلي أن أشرب فشربت ثم شرب إلى أن أتينا على آخرها ثم قال لي هذا غذاء عمك نهاره وإنه لنعمة من الله تعالى أستديم بشكرها اتصالها قال فقلت له يا عم ومن أين عيشك فقال يا بني عيشتي بتلك الشبكة اصطاد بها في سواحل البحر ما أقتات به ولي زوجة وبنت يعود من غزلهما مع ذلك ما نجد به معونة وهذا مع العافية والاستغناء عن الناس خير كثير جعلنا الله تعالى ممن يلقاه على حالة يرضاها وختم لنا بخاتمة لا يخاف معها فضيحة ! قال فتركته وقمت وفي نيتي أن أعود إلى زيارته ونويت أن يكون ذلك بعد أيام خوف التثقيل فعدت إليه بعد ثلاثة أيام فنقرت الباب فكلمتني المرأة بلسان عليه أثر الحزن وقالت إن الشيخ خرج إلى الغزو وذلك بعد انفصالك عنه بيوم ناله كالجنون فقلت له ما شأنك فقال أريد أن أموت شهيدا في الغزو وهؤلاء جيران لي

قد عزموا على الغزو وأنا إن شاء الله تعالى ماض معهم ثم احتال في سيف ورمح وتوجه معهم وقال نفسي هي التي قتلتني بهواها أفلا أقتص منها فأقتلها قال فقلت لها من خلف للنظر في شأنكم فقالت ليس ذلك لك فالذي خلفنا له لا نحتاج معه إلى غيره فأدركني من جوابها روعة وعلمت أنها مثله زهدا وصلاحا فقلت إني قريبه ويجب علي أن أنظر في حالكم بعده فقالت ياهذا إنك لست بذي محرم ولنا من العجائز من ينظر منا ويبيع غزلنا ويتفقد أحوالنا فجزاك الله تعالى عنا خيرا انصرف عنا مشكورا فقلت لها هذه دراهم خذوها تستعينوا بها فقالت ما اعتدنا أن نأخذ شيئا من غير الله تعالى وما كان لنا أن نخل بالعادة فانصرفت نادما على ما فاتني من الاستكثار من شعر الشيخ والتبرك بزيادة دعائه ثم عدت بعد ذلك لداره سائلا عنه فقالت لي المرأة إنه قد قبله الله تعالى فعلمت أنه قد قتل فقلت لها أقتل فقرأت ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله ) الآية آل عمران 169 ] - فانصرفت معتبرا من حاله رحمه الله تعالى ورضي عنه ونفعنا به
وكانت للمروانيين بالأندلس يد عليا في الدين والدنيا انتهى
وقال محمد بن أيوب المرواني لما كلف قوما حاجة له سلطانية فما نهضوا بها فكلفها رأس بني مروان القائد سعيد بن المنذر فنهض بها
( نهضت بما سألتك غير وان ... وقد صعبت لسالكها الطريق )
( وليس يبين فضل المرء إلا ... إذا كلفته ما لا يطيق )
وعتبه يوما سعيد بن المنذر في كونه يتعرض لمدح خدام بني مروان فقال له أعز الله تعالى القائد الوزير ! إنكم جعلتموني ذنبا وجعلوني رأسا والنفس تتوق إلى من يكرمها وإن كان دونها أكثر منها إلى من يهينها وإن كان فوقها

وإني من هذا وهذا في أمر لا يعلمه إلا الذي أبلاني به ويا ويح الشجي من الخلي وأنا الذي أقول فيما يتخلل هذا المنزع
( نسبت لقوم ليتني نجل غيرهم ... فلي نسب يعلو وحظي يسفل )
( أقطع عمري بالتعلل والمنى ... وكم يخدع المرء اللبيب التعلل )
( فما لي مكان أرتضيه لهمة ... ولا مال منه أستعف وأفضل )
( ولكنني أقضي الحياة تجملا ... وهل يهلك الإنسان إلا التجمل )
فقال له سعيد قصدنا لومك فعطفت اللائمة علينا ونحن أحق بها وسننظر إن شاء الله تعالى فيما يرفع اللوم عن الجانبين ثم تكلم مع الناصر في شأنه فأجرى له رزقا أغناه عن التكفف فكانت هذه من حسنات سعيد وأياديه
وقال المطرف بن عمر المرواني يمدح المظفر بن المنصور بن أبي عامر
( إن المظفر لا يزال مظفرا ... حكما من الرحمن غير مبدل ) وهو الأحق بكل ما قد حازه ... من رفعة ورياسة وتفضل )
( تلقاه صدرا كلما قلبته ... مثل السنان بمحفل وبجحفل )
وحضر يوما مع شاعر الأندلس في زمانه ابن دراج القسطلي فقال له القسطلي أنشدني أبياتك التي تقول فيها
( على قدر ما يصفو الخليل يكدر ... ) فأنشده
( تخيرت من بين الأنام مهذبا ... ولم أدر أني خائب حين أخبر )
( فمازجني كالراح للماء واغتدى ... على كل ما جشمته يتصبر

إلى أن دهاني إذ أمنت غروره ... سفاها وأداني لما ليس يذكر )
( وكدر عيشي بعد صفو وإنما ... على قدر ما يصفو الخليل يكدر )
فاهتز القسطلي وقال والله إنك في هذه الأبيات لشاعر وأنا أنشدك فيما يقابلها لبلال بن جرير
( لو كنت أعلم أن آخر عهدهم يوم الفراق فعلت ما لم أفعل )
ولكن جعل نفسه فاعلا وعرضت نفسك لأن يقال إنك مفعول فقال ومن أين يلوح ذلك فقال القسطلي من قولك ( ( وأداني لما ليس يذكر ) ) فما يظن في ذلك إلا أنه أداك إلى موضع فعل بك فيه فاغتاظ الأموي وقال يا أبا عمر ومن أين جرت العادة بأن تمزح معي في هذا الشأن فقال له حلم بني مروان يحملنا على أن نخرق العادة في الحمل على مكارمهم فسكن غيظه
وكتب المرواني المذكور إلى صاحب له يستعير منه دابة يخرج عليها للفرجة والخلاعة أنهض الله تعالى سيدي بأعباء المكارم إن هذا اليوم قد تبسم أفقه بعدما بكى ودقه وصقلت أصداء أوراقه وفتحت أحداق حدائقه وقام نوره خطيبا على ساقه وفضضت غدرانه وتوجت أغصانه وبرزت شمسه من حجابها بعد ما تلفعت بسحابها وتنبه في أرجاء الروض أرج النسيم وعرف في وجهه نضرة النعيم وقد دعا كل هذا ناظر أخيك إن أن يجيله في هذه المحاسن ويجدد نظره في المنظر الذي هو غير مبتذل والماء الذي هو غير آسن والفحص اليوم أحسن ما ملح وأبدع ما حرن فيه وجمح فجد لي بإعارة ما أنهض عليه لمشاهدته ويرفع عني خجل الابتذال بمناكفه الأنذال لا زلت نهاضا بالآمال مسعفا بمراد كل خليل غير مقصر ولا آل
وكتب الأمير هشام بن عبد الرحمن إلى أخيه عبد الله المعروف بالبلنسي حين فر كتابا يقول في بعض فصوله والعجب من فرارك دون أن

ترى شيئا فخاطبه بجواب يقول فيه ولا تتعجب من فراري دون أن أرى شيئا لأنني خفت أن أرى ما لا أقدر على الفرار بعده ولكن تعجب مني أن حصلت في يدك بعدما أفلت منك وقال له وزيره أحمد بن شعيب البلنسي أليس من العار أن يبلغ بك الخور من هذا الصبي أن تجعل بينك وبينه البحر وتترك بلاد ملكك وملك أبيك فقال ما أعرف ما تقول وكل ما وقي به إتلاف النفس ليس بعار بل هو محض العقل وأول ما ينظر الأديب في حفظ رأسه فإذا نظر في ذلك نظر فيما بعده
وقال عبد الله بن عبد العزيز الأموي ويعرف بالحجر
( اجعل لنا منك حظا أيها القمر ... فإنما حظنا من وجهك النظر )
( رآك ناس فقالوا إن ذا قمر ... فقلت كفوا فعندي منهما الخبر )
( البدر ليس بغير النصف بهجته ... حتى الصباح وهذا كله قمر
وقال أبو عبد الله محمد بن محمد بن الناصر يرثي أبا مروان بن سراج
( وكم من حديث للنبي أبانه ... وألبسه من حسن منطقه وشيا )
( وكم مصعب للنحو قد راض صعبه ... فعاد ذلولا بعدما كان قد أعيا )
وحكي أنه دخل بعض شعراء الأندلس على الفقيه سعيد بن أضحى وكان من أعيان غرناطة فمدحه بقصيدة ثم بموشحة ثم بزجل فلم

يعطه شيئا بل شكا إليه فقرا حتى إنه بكى فأخذ الدواة والقرطاس وكتب ووضع بين يديه
( شكا مثال الذي أشكوه من عدم ... وساءه مثل ما قد ساءني فبكى )
( إن المقل الذي أعطاك دمعته ... نعم الجواد فتى أعطاك ما ملكا )
وقال ابن خفاجة
( نهر كما سال اللمى سلسال ... وصبا بليل ذيلها مكسال )
( ومهب نفحة روضة مطلولة ... فيها لأفراس النسيم مجال )
( غازلته والأقحوانة مبسم ... والآس صدغ والبنفسج خال ) وقال
( وساق كحيل الطرف في شأو حسنه ... جماح وبالصبر الجميل حران )
( ترى للصبا نارا بخديه لم يثر ... لها من سوادي عارضيه دخان )
( سقانا وقد لاح الهلال عشية ... كما اعوج في درع الكمي سنان )
( عقارا نماها الكرم فهي كريمة ... ولم تزن بابن المزن فهي حصان )
( وقد جال من جون الغمامة أدهم ... له البرق سوط والعنان عنان )
( وضمخ ردع الشمس نحر حديقة ... عليه ومن الطل السقيط جمان )
( ونمت بأسرار الرياض خميلة ... لها النور ثغر والنسيم لسان )

وقال في وصف فرس أصفر ولم يخرج عن طريقته
( وأشقر تضرم منه الوغى ... بشعلة من شعل الباس )
( من جلنار ناضر لونه ... وأذنه من ورق الآس )
( يطلع للغرة في شقرة ... حبابة تضحك في الكاس )
وقال أبو بكر يحيى بن سهل اليكي يهجو
( أعد الوضوء إذا نطقت به ... مستعجلا من قبل أن تنسى )
( واحفظ ثيابك إن مررت به ... فالظل منه ينجس الشمسا لابن لبانة
وقال ابن اللبانة
( أبصرته قصر في المشيه ... لما بدت في خده لحيه )
( قد كتب الشعر على خده ... أو كالذي مر على قرية )
وقال الوزير الكاتب أبو محمد عبد الغفور الإشبيلي في الأمير أبي بكر سير من أمراء المرابطين وكتب بها إليه في غزاة غزاها
( سر حيث سرت يحله النوار ... وأراك فيه مرادك المقدار )
( وإذا ارتحلت فشيعتك سلامة ... وغمامة لا ديمة مدرار )
( تنفي الهجير بظلها وتنيم بالرش ... القتام وكيف شئت تدار )
( وقضى الإله بأن تعود مظفرا ... وقضت بسيفك نحبها الكفار )

هذا غير ما تمناه الجعفي حيث قال حيث ارتحلت وديمة وما تكاد معها عزيمة وإذا سفحت على ذي سفر فما أحراها بأن تعوق عن الظفر ونعتها بمدرار فكان ذلك أبلغ في الإضرار وما أحسن قول القائل
( فسر ذا راية خفقت بنصر ... وعد في جحفل بهج الجمال )
( إلى حمص فأنت بها حلي ... تغاير فيه ربات الحجال )
وقال الحجاري في المسهب كتبت إلى القاضي أبي عبد الله محمد اللوشي أستدعي منه شعره لأكتبه في كتابي فتوقف عن ذلك وانقبض عني فكتبت إليه
( يا مانعا شعره عن سمع ذي أدب ... نائي المحل بعيد الشخص مغترب )
( يسير عنك به في كل متجه ... كما يمر نسيم الريح بالعذب )
( إني وحقك أهل أن أفوز به ... واسأل فديتك عن ذاتي وعن أدبي )
فكان جوابه
( يا طالبا شعر من لم يسم في الأدب ... ماذا تريد بنظم غير منتخب )
( إني وحقك لم أبخل به صلفا ... ومن يضن على جيد بمخشلب )
( لكنني صنت قدري عن روايته ... فمثله قل عن سام إلى الرتب )
( خذه إليك كما أكرهت مضطربا ... محللا ذم مولاه مدى الحقب )
قال ثم كتب لي مما أتحفني به من نظمه محاسن أبهى من الأقمار وأرق من نسيم الأسحار

وقال صالح بن شريف في البحر وهو أحسن ما قيل فيه
( البحر أعظم مما أنت تحسبه ... من لم ير البحر يوما ما رأى العجبا )
( طام له حبب طاف على زرق ... مثل السماء إذا ما ملئت شهبا )
وقال أيضا
( ما أحسن العقل وآثاره ... لو لازم الإنسان إيثاره )
( يصون بالعقل الفتى نفسه ... كما يصون الحر أسراره )
( لا سيما إن كان في غربة ... يحتاج أن يعرف مقداره )
وقال ابن برطلة
( خطوب زماني ناسبتني غرابة ... لذلك يرميني بهن مصيب )
( غريب أصابته خطوب غريبة ... وكل غريب للغريب نسيب )
وهذا من أحسن التضمين الذي يزري بالدر الثمين
ودخل ابن بقي الحمام وفيه الأعمى التطيلي فقال له أجز
( حمامنا كزمان القيظ محتدم ... وفيه للبرد صر غير ذي ضرر ) فقال الأعمى
( ضدان ينعم جسم المرء بينهما ... كالغصن ينعم بين الشمس والمطر ) ولا يخفى حسن ما قال الأعمى

وقد ذكر في بدائع البدائه البيتين معا منسوبين إلى ابن بقي ولنذكر كلامه برمته لما اشتمل عليه من الفوائد ونصه ذكر ابن بسام قال دخل الأديبان أبو جعفر بن هريرة التطيلي المعروف بالأعمى وأبو بقي بكر ابن الحمام فتعاطيا العمل فيه فقال الأعمى
( يا حسن حمامنا وبهجته ... مرأى من السحر كله حسن )
( ماء ونار حواهما كنف ... كالقلب فيه السرور والحزن )
ثم أعجبه المعنى فقال
( ليس على لهونا مزيد ... ولا لحمامنا ضريب )
( ماء وفيه لهيب نار ... كالشمس في ديمة تصوب )
( وابيض من تحته رخام ... كالثلج حين ابتدا يذوب )
وقال ابن بقي
( حمامنا فيه فصل القيظ ... ) البيتين فقال الأعمى وقد ظر فيه إلى فتى صبيح
( هل استمالك جسم ابن الأمير وقد ... سالت عليه من الحمام أنداء )
( كالغصن باشر حر النار من كثب ... فظل يقطر من أعطافه الماء )
وصف حمام مشرقي
قلت تذكرت هنا عند ذكر الحمام ما حكاه بدر الدين الحسن بن زفير الإربلي المتطبب إذ قال رأيت ببغداد في دار الملك شرف الدين هرون ابن

الوزير الصاحب شمس الدين محمد الجويني حماما متقن الصنعة حسن البناء كثير الأضواء قد احتفت به الأزهار والأشجار فأدخلني إليه سائسه وذلك بشفاعة الصاحب بهاء الدين بن الفخر عيسى المنشئ الإربلي وكان سائس هذا الحمام خادما حبشيا كبير السن والقدر فطاف بي عليه وأبصرت مياهه وشبابيكه وأنابيبه المتخذ بعضها من فضة مطلية بالذهب وغير مطلية وبعضها على هيئة طائر إذا خرج منها الماء صوت بأصوات طيبة ومنها أحواض رخام بديعة الصنعة والمياه تخرج من سائر الأنابيب إلى الأحواض ومن الأحواض إلى بركة حسنة الإتقان ثم منها إلى البستان ثم أراني نحو عشر خلوات كل خلوة صنعتها أحسن من صنعة أختها ثم انتهى بي إلى خلوة عليها باب مقفل بقفل حديد ففتحه ودخل بي إلى دهليز طويل كله مرخم بالرخام الأبيض الساذج وفي صدر الدهليز خلوة مربعة تسع بالتقريب نحو أربعة أنفس إذا كانوا قعودا وتسع اثنين إذا كانوا نياما ورأيت من العجائب في هذه الخلوة أن حيطانها الأربعة مصقولة صقالا لا فرق بينه وبين صقال المرآة يرى الإنسان سائر بشرته في أي حائط شاء منها ورأيت أرضها مصورة بفصوص حمر وصفر وخضر ومذهبة وكلها متخذة من بلور مصبوغ بعضه أصفر وبعضه أحمر فأما الأخضر فيقال إنه حجارة تأتي من الروم وأما المذهب فزجاج ملبس بالذهب وتلك الصورة في غاية الحسن والجمال على هيئات مختلفة في اللون وغيره وهي ما بين فاعل ومفعول به إذا نظر المرء إليها تحركت شهوته وقال لي الخادم السائس هذا صنع على هذه الصفة لمخدومي حتى أنه إذا نظر إلى ما يفعل هؤلاء بعضهم مع بعض من المجامعة والتقبيل ووضع أيدي بعضهم على أعجاز بعض تتحرك شهوته سريعا فيبادر إلى مجامعة من يحبه
قال الحاكي وهذه الخلوة دون سائر الخلوات التي دخلت إليها هي مخصوصة بهذا الفعل إذا أراد الملك شرف الدين هرون الاجتماع في الحمام بمن يهواه من الجواري الحسان والصور الجميلة والنساء الفائقات الحسن لم يجتمع به إلا في هذه

الخلوة من أجل أنه يرى كل محاسن الصور الجميلة مصورة في الحائط ومجسمة بين يديه ويرى كل منهما صاحبه على هذه الصفة ورأيت في صدر الخلوة حوض رخام مضلع وعليه أنبوب مركب في صدره وأنبوب آخر برسم الماء البارد والأنبوب الأول برسم الماء الفاتر وعن يمين الحوض ويساره عمدان صغار منحوتة من البلور يوضع عليها مباخر الند والعود وأبصرت منها خلوة شديدة الضياء مفرحة بديعة قد أنفق عليها أموال كثيرة وسألت الخادم عن تلك الحيطان المشرقة المضيئة من أي شيء صنعت فقال لي ما أعلم
قال الحاكي فما رأيت في عمري ولا سمعت بمثل تلك الخلوة ولا بأحسن من ذلك الحمام مع أني ما أحسن أن أصفهما كما رأيتهما فإنه لم تتكرر رؤيتي لهما ولا اتفق لي الظفر بصناعتهما ومباشرتهما وفي الذي ذكرت كفاية انتهى دار جمال الملك البغدادي
ولما اتصل أبو القاسم علي بن أفلح البغدادي الكاتب بأمير المؤمنين المسترشد بالله العباسي ولقبه جمال الملك وأعطاه أربع ديار في درب الشاكرية اشترى دورا أخرى إلى جانبها وهدم الكل وأنشأ داره الكبيرة وأعانه الخليفة في بنائها وأطلق له أموالا وآلات البناء وكان في جملة ما أطلق له مائتا ألف آجرة وأجريت الدار بالذهب وصنع فيها الحمام العجيب الذي فيه بيت مستراح فيه أنبوب إن فركه الإنسان يمينا خرج ماء حار وإن فركه شمالا خرج ماء بارد وكان على إيوان الدار مكتوبا
( إن عجب الراءون من ظاهري ... فباطني لو علموا أعجب )

( شيدني من كفه مزنة ... يهمل منها العارض الصيب
( ودبجت روضة أخلاقه ... في رياضا نورها مذهب )
( صدر كسا صدري من نوره ... شمسا على الأيام لا تغرب )
وكتب على الطرز
( ومن المروءة للفتى ... ما عاش دار فاخره )
( فاقنع من الدنيا بها ... واعمل لدار الآخره )
( هاتيك وافية بما ... وعدت وهذي ساخره ) وكتب على النادي
( وناد كأن جنان الخلود ... أعارته من حسنها رونقا )
( وأعطته من حادثات الزمان ... أن لا تلم به موثقا )
( فأضحى يتيه على كل ما ... بنى مغربا كان أو مشرقا )
( تظل الوفود به عكفا ... وتمسي الضيوف به طرقا )
( بقيت له يا جمال الملوك ... والفضل مهما أردت البقا )
( وسالمه فيك ريب الزمان ... ووقيت فيه الذي يتقى )
أشعار للمشارقة في الحمام
وعلى ذكر الحمام فما أحكم قول ابن الوردي فيما أظن
( وما أشبه الحمام بالموت لامرئ ... تذكر لكن أين من يتذكر )
( يجرد عن أهل ومال وملبس ... ويصحبه من كل ذلك مئزر )

وقال الشهاب بن فضل الله
( وحمامكم كعبة للوفود ... تحج إليه حفاة عراه )
( يكرر صوت أنابيبه ... كتاب الطهارة باب المياه )
وقد تمثل بهذين البيتين البرهان القيراطي في جواب كتاب استدعاه فيه بعض أهل عصره إلى الحمام وافتتح الجواب بقوله
( قد أجبنا وأنت أيضا فصبحت ... بصبحي سوالف وسلاف )
( وبساق يسبي العقول بساق وقوام وفق العناق خلافي )
ووصله بنثر تمثل فيه بالبيتين كما مر
ولبعضهم
( إن حمامنا الذي نحن فيه ... أي ماء به وأية نار )
( قد نزلنا به على ابن معين ... وروينا عنه صحيح البخاري )
وألغز بعضهم في الحمام بقوله
( ومنزل أقوام إذا ما تقابلوا ... تشابه فيه وغده ورئيسه )
( ينفس كربي إذ ينفس كربه ... ويعظم أنسي إذ يقل أنيسه )
( إذا ما أعرت الجو طرفا تكاثرت ... على من به أقماره وشموسه )
رجع إلى ما كنا فيه من كلام أهل الأندلس فنقول

وكان محمد بن خلف بن موسى البيري متكلما متحققا برأي الأشعرية وذاكرا لكتب الأصول في الاعتقاد مشاركا في الأدب مقدما في الطب ومن نظمه يمدح إمام الحرمين رحمه الله تعالى
( حب حبر يكنى أبا للمعالي ... هو ديني ففيه لا تعذلوني )
( أنا والله مغرم بهواه ... عللوني بذكره عللوني )
وكتب أبو الوليد ابن الجنان الشاطبي يستدعي بعض إخوانه إلى مجلس أنس بما صورته نحن في مجلس أغصانه الندامى وغمامه الصهباء فبالله إلا ما كنت لروض مجلسنا نسيما ولزهر حديثنا شميما وللجسم روحا وللطيب ريحا وبيننا عذراء زجاجتها خدرها وحبابها ثغرها بل شقيقة حوتها كمامة أو شمس حجبتها غمامة إذا طاف بها معصم الساقي فوردة على غصنها أو شربها مقهقة فحمامة على فننها طافت علينا طوفان القمر على منازل الحلول فأنت وحياتك إكليلنا وقد آن حلولها في الإكليل انتهى وقال أبو الوليد المذكور
( فوق خد الورد دمع ... من عيون السحب يذرف )
( برداء الشمس أضحى ... بعدما سال يجفف )
حكاية مشرقية عن الورد والياسمين
وتذكرت هنا بذكر الورد ما حكاه الشيخ أبو البركات هبة الله بن محمد النصيبي المعروف بالوكيل وكان شيخا ظريفا فيه آداب كثيرة إذ قال

كنت في زمن الربيع والورد في داري بنصيبين وقد احضر من بستاني من الورد والياسمين شيء كثير وعملت على سبيل الولع دائرة من الورد تقابلها دائرة من الياسمسن فاتفق أن دخل علي شاعران كانا بنصيبين أحدهما يعرف بالمهذب والآخر يعرف بالحسن بن البرقعيدي فقلت لهما اعملا في هاتين الدائرتين ففكرا ساعة ثم قال المهذب
( يا حسنها دائرة ... من ياسمين مشرق )
( والورد قد قابلها ... في حلة من شفق )
( كعاشق وحبه ... تغامزا بالحدق )
( فاحمر ذا من خجل ... واصفر ذا من فرق )
قال فقلت للحسن هات فقال سبقني المهذب إلى ما لمحته في هذا المعنى وهو قولي
( يا حسنها دائرة ... من ياسمين كالحلي )
( والورد قد قابلها ... في حلة من خجل )
( كعاشق وحبه ... تغامزا بالمقل )
( فاحمر ذا من خجل ... واصفر ذا من وجل )
قال فعجبت من اتفاقهما في سرعة الاتحاد والمبادرة إلى حكاية الحال انتهى
وما الطف قول بعضهم
( أرى الورد عند الصبح قد مد لي فما ... يشير إلى التقبيل في حالة اللمس )
( وبعد زوال الشمس ألقاه وجنة ... وقد أثرت في وسطها قبلة الشمس )

وقال ابن ظافر في بدائع البدائه اجتمع الوزير أبو بكر بن القبطرنة والأديب أبو العباس ابن صارة الأندلسيان في يوم جلا ذهب برقه وأذاب ورق ودقه والأرض قد ضحكت لتعبيس السماء واهتزت وربت عند نزول الماء فقال ابن القبطرنة
( هذي البسيطة كاعب أبرادها ... حلل الربيع وحليها النوار )
فقال ابن صارة
( وكأن هذا الجو فيها عاشق ... قد شفه التعذيب والإضرار )
ثم قال ابن صارة أيضا
( وإذا شكا فالبرق قلب خافق ... وإذا بكى فدموعه الأمطار ) فقال ابن القبطرنة
( من أجل ذلة ذا وعزة هذه ... يبكي الغمام وتضحك الأزهار )
بديهة ابن ظافر
وتذكرت هنا ما حكاه ابن ظافر في الكتاب المذكور أنه اجتمع مع القاضي الأعز يوما فقال له ابن ظافر أجز
( طار نسيم الروض من وكر الزهر ... )
فقال الأعز
( وجاء مبلول الجناح بالمطر

انتهى ويعجبني قول ابن قرناص
( أظن نسيم الروض والزهر قد روى ... حديثا ففاحت من شذاه المسالك )
( وقال دنا فصل الربيع فكله ... ثغور لما قال النسيم ضواحك )
رجع إلى الأندلسيين
وما أرق قول ابن الزقاق
( ورياض من الشقائق أضحت ... يتهادى بها نسيم الرياح )
( زرتها والغمام يجلد منها ... زهرات تفوق لون الراح )
( قلت ما ذنبها فقال مجيبا ... سرقت حمرة الخدود الملاح )
وقال أبو إسحاق ابن خفاجة
( تعلقته نشوان من خمر ريقه ... له رشفها دوني ولي دونه السكر )
( ترقرق ماء مقلتاي ووجهه ... ويذكي على قلبي ووجنته الجمر )
( أرق نسيبي فيه رقة حسنه ... فلم أدر أي قبلها منهما السحر )
( وطبنا معا شعرا وثغرا كأنما ... له منطقي ثغر ولي ثغره شعر )
وقال أبو الصلت أمية بن عبد العزيز
( وقائلة ما بال مثلك خاملا ... أأنت ضعيف الرأي أم أنت عاجز )
( فقلت لها ذنبي إلى القوم أنني ... لما لم يحوزوه من المجد حائز )

( وما فاتني شيء سوى الحظ وحده ... وأما المعالي فهي عندي غرائز )
وقال
( جد بقلبي وعبث ... ثم مضى وما اكترث )
( واحربا من شادن ... في عقد الصبر نفث )
( يقتل من شاء بعينيه ... ومن شاء بعث )
وقال البليغ الفاضل يحيى بن هذيل أحد أعيان شعراء الأندلس
( نام طفل النبت في حجر النعامى ... لاهتزاز الطل في مهد الخزامى )
( وسقى الوسمي أغصان النقا ... فهوت تلثم أفواه الندامى )
( كحل الفجر لهم جفن الدجى ... وغدا في وجنة الصبح لثاما )
( تحسب البدر محيا ثمل ... قد سقته راحة الصبح مداما )
( حوله الزهر كؤوس قد غدت ... مسكة الليل عليهن ختاما )
وتذكرت هنا قول الآخر وأظنه مشرقيا
( بكر العارض تحدوه النعامى ... فسقاك الري يا دار أماما )
( وتمشت فيك أرواح الصبا ... يتأرجن بأنفاس الخزامى )
( قد قضى حفظ الهوى أن تصبحي ... للمحبين مناخا ومقاما )
( وبجرعاء الحمى قلبي فعج ... بالحمى واقرأ على قلبي السلاما )
( وترحل فتحدث عجبا ... أن قلبا سار عن جسم أقاما )
( قل لجيران الغضا آها على ... طيب عيش بالغضا لو كان داما )

( حملوا ريح الصبا من نشركم ... قبل أن تحمل شيحا وثماما )
( وابعثوا أشباحكم لي في الكرى ... إن أذنتم لجفوني أن تناما )
وخرج بعض علماء الأندلس من قرطبة إلى طليطلة فاجتار بحريز بن عكاشة الشجاع المشهور الذي ذكرنا في هذا الباب ما يدل على شجاعته وقوته وأيده بقلعة رباح فنزل بخارجها في بعض جنباتها وكتب إليه
( يا فريدا دون ثان ... وهلالا في العيان )
( عدم الراح فصارت ... مثل دهن اليلسان )
فبعث إليه بها وكتب معها
( جاء من شعرك روض ... جاده صوب اللسان )
( فبعثناها سلافا ... كسجاياك الحسان )
أشعار لابن شهيد
وقال الوزير أبو عامر بن شهيد يتغزل
( أصباح شيم أم برق بدا ... أم سنا المحبوب أورى زندا )
( هب من مرقده منكسرا ... مسبلا للكم مرخ للردا )
( يمسح النعسة من عيني رشا ... صائد في كل يوم أسدا )

( أوردته لطفا آياته ... صفوة العيش وأرعته ددا )
( فهو من دل عراه زبدة ... من مريج لم تخالط زبدا )
( قلت هب لي يا حبيبي قبلة ... تشف من عمك تبريح الصدى )
( فانثنى يهتز من منكبه ... مائلا لطفا وأعطاني اليدا ) كلما كلمني قبلته ... فهو إما قال قولا رددا )
( كاد أن يرجع من لثمي له ... وارتشاف الثغر منه أدردا )
( وإذا استنجزت يوما وعده ... أمطل الوعد وقال اصبر غدا )
( شربت أعطافه ماء الصبا ... وسقاه الحسن حتى عربدا )
( فإذا بت به في روضة ... أغيد يقرو نباتا أغيدا )
( قام في الليل بجيد أتلع ... ينفض اللمة من دمع الندى )
( ومكان عازب عن جيرة ... أصدقاء وهم عين العدا )
( ذي نبات طيب أعراقه ... كعذار الشعر في خد بدا )
( تحسب الهضبة منه جبلا ... وحدور الماء منه أبردا )
وقال يرثي القاضي ابن ذكوان نجيب ذلك الأوان وقد افتن في الآداب وسن فيها سنة ابن داب وما فارق ربع الشباب شرخه ولا استمجد في الكهولة غفاره ولا مزحه وكان لأبي عامر هذا قسيم نفسه ونسيم أنسه
( ظننا الذي نادى محقا بموته ... لعظم الذي أنحى من الرزء كاذبا )
( وخلنا الصباح الطلق ليلا وأننا ... هبطنا خداريا من الحزن كاربا )
( ثكلنا الدنى لما استقل وإنما فقدناك يا خير البرية ناعبا )
( وما ذهبت إذ حل في القبر نفسه ... ولكنما الإسلام أدبر ذاهبا )

( ولما أبى إلا التحمل رائحا ... منحناه أعناق الكرام ركائبا )
( يسير به النعش الأعز وحوله ... أباعد كانوا للمصاب أقاربا )
( عليه حفيف للملائك أقبلت ... تصافح شيخا ذاكر الله تائبا )
( تخال لفيف الناس حول ضريحه ... خليط تخطى قطا وافي الشريعة هاربا )
( إذا ما امتروا سحب الدموع تفرعت ... فروع البكا عن بارق الحزن لاهبا )
( فمن ذا لفصل القول يسطع نوره ... إذا نحن ناوينا الألد المناوبا )
( ومن ذا ربيع المسلمين يقوتهم ... إذا الناس شاموها بروقا كواذبا )
( فيا لهف قلبي آه ذابت حشاشتي ... مضى شيخنا الدفاع عنا النوائبا )
( ومات الذي غاب السرور لموته ... فليس وإن طال السرى منه آيبا )
( وكان عظيما يطرق الجمع عنده ... ويعنو له رب الكتيبة هائبا )
( وذا مقول عضب الغرارين صارم ... يروح به عن حومة الدين ضاربا )
( أبا حاتم صبر الأديب فإنني ... رأيت جميل الصبر أحلى عواقبا )
( وما زلت فينا ترهب الدهر سطوة ... وصعبا به نعيي الخطوب المصاعبا )
( سأستعتب الأيام فيك لعلها ... لصحة ذاك الجسم تطلب طالبا )
( لئن أفلت شمس المكارم عنكم ... لقد أسأرت بدرا لها وكواكبا )
قال في المطمح ودبت إلى أبي عامر بن شهيد أيام العلويين عقارب برئت بها منه أباعد وأقارب واجهه بها صرف قطوب وانبرت إليه منها خطوب نبا لها جنبه عن المضجع وبقي بها ليالي يأرق ولا يهجع إلى أن أعلقت في الاعتقال آماله وعقلته في عقال أذهب ماله فأقام مرتهنا ولقي وهنا وقال

( تقول التي من بيتها كف مركبي ... أقربك دان أم مداك بعيد )
( فقلت لها أمري إلى من سمت به ... إلى المجد آباء له وجدود )
ثم قال ولزمته آخر عمره علة دامت به سنين ولم تفارقه حتى تركته يد جنين وأحسب أن الله أراد بها تمحيصه وإطلاقه من ذنب كان قنيصه فطهره تطهيرا وجعل ذلك على العفو له ظهيرا فإنها أقعدته حتى حمل في المحفة وعاودته حتى غدت لرونقه مشتفة وعلى ذلك فلم يعطل لسانه ولم يبطل إحسانه ولم يزل يستريح إلى القول ويزيح ما كان يجده من الغول وآخر شعر قاله قوله
( ولما رأيت العيش لوى برأسه ... وأيقنت أن الموت لا شك لاحقي )
( تمنيت أني ساكن في عباءة ... بأعلى مهب الريح في رأس شاهق )
( أرد سقيط الطل في فضل عيشتي ... وحيدا وأحسو الماء ثني المعالق )
( خليلي من ذاق المنية مرة ... فقد ذقتها خمسين قولة صادق )
( كأني وقد حان ارتحالي لم أفز ... قديما من الدنيا بلمحة بارق )
( فمن مبلغ عني ابن حزم وكان لي ... يدا في ملماتي وعند مضايقي )
( عليك سلام الله إني مفارق ... وحسبك زادا من حبيب مفارق )
( فلا تنس تأبيني إذا ما ذكرتني ... وتذكار أيامي وفضل خلائقي )
( وحرك له بالله من أهل فننا ... إذا غيبوني كل شهم غرانق )

( قريب بمحتل الهوان مجيد ... يجود ويشكو حزنه فيجيد )
( نعى صبره عند الإمام فيا له ... عدو لأبناء الكرام حسود )
( وما ضره إلا مزاح ورقة ... ثنته سفيه الذكر وهو رشيد )
( جنى ما جنى في قبة الملك غيره ... وطوق منه بالعظيمة جيد )
( وما في إلا الشعر أثبته الهوى ... فسار به في العالمين فريد )
( أفوه بما لم آته متعرضا ... لحسن المعاني تارة فأزيد )
( فإن طال ذكري بالمجون فإنها ... عظائم لم يصبر لهن جليد )
( وهل كنت في العشاق أول عاقل ... هوت بحجاه أعين وخدود )
( فراق وشجو واشتياق وذلة ... وجبار حفاظ علي عتيد )
( فمن يبلغ الفتيان أني بعدهم ... مقيم بدار الظالمين وحيد )
( مقيم بدار ساكنوها من الأذى ... قيام على جمر الحمام قعود )
( ويسمع للجنان في جنباتها ... بسيط كترجيع الصدى ونشيد )
( ولست بذي قيد يرن وإنما ... على اللخط من سخط الإمام قيود )
( وقلت لصداح الحمام وقد بكى ... على القصر إلفا والدموع تجود )
( ألا أيها الباكي على من تحبه ... كلانا معنى بالخلاء فريد )
( وهل أنت دان من محب نأى به ... عن الإلف سلطان عليه شديد )
( فصفق من ريش الجناحين واقعا ... على القرب حتى ما عليه مزيد )
( وما زال يبكيني وأبكيه جاهدا ... وللشوق من دون الضلوع وقود )
( إلى أن بكى الجدران من طول شجونا ... وأجهش باب جانباه حديد )
( أطاعت أمير المؤمنين كتائب ... تصرف في الأموال كيف تريد )
( فللشمس عنها بالنهار تأخر ... وللبدر شحنا بالظلام صدود )
( ألا إنها الأيام تلعب بالفتى ... نحوس تهادى تارة وسعود )
( وما كنت ذا أيد فأذعن ذا قوى ... من الدهر مبد صرفه ومعيد )
( وراضت صعابي سطوة علوية ... لها بارق نحو الندى ورعود )

( عسى هامتي في القبر تسمع بعضه ... بترجيع شاد أو بتطريب طارق )
( فلي في ادكاري بعد موتي راحة ... فلا تمنعوها لي علالة زاهق )
( وإني لأرجو الله فيما تقدمت ... ذنوبي به مما درى من حقائق )
وكان أبو مروان عبد الملك بن غصن مستوليا على وزارة ابن عبيدة ولسانه ينشد
( وشيدت مجدي بين أهلي ولم أقل ... ألا ليت قومي يعلمون صنيعي ) وهجا ابن ذي النون بقوله
( تلقبت بالمأمون ظلما وإنني ... لآمن كلبا حيث لست مؤمنه )
( حرام عليه أن يجود ببشره ... وأما الندى فاندب هنالك مدفنه )
( سطور المخازي دون أبواب قصره ... بحجابه للقاصدين معنونه )
فلما تمكن منه المأمون سجنه فكتب إلى ابن هود من أبيات
( أيا راكب الوجناء بلغ تحية ... أمير جذام من أسير مقيد )
( ولما دهتني الحادثات ولم أجد ... لها وزرا أقبلت نحوك أعتدي )
( ومثلك من يعدي على كل حادث ... رمى بسهام للردى لم ترصد )
( فعلك أن تخلو بفكرك ساعة ... لتنقذني من طول هم مجدد )
( وها أنا في بطن الثرى وهو حامل ... فيسر على رقبي الشفاعة مولدي )
( حنانيك ألفا بعد ألف فإنني ... جعلتك بعد الله أعظم مقصدي )
( وأنت الذي يدري إذا رام حاجة ... تضل بها الآراء من حيث يهتدي )

فرق له ابن هود وتحيل حتى خلصه بشفاعته فلما قدم عليه أنشده
( حياتي موهوبة من علاكا ... وكيف أرى عادلا عن ذراكا )
( ولو لم يكن لك من نعمة ... علي وأصبحت أبغي سواكا )
( لناديت في الأرض هل مسعف ... مجيب فلم يصغ إلا نداكا )
فطرب ابن هود وخلع عليه ثوب وزارته وجعله من أعلام سلطنته وإمارته
وقال المنصور بن أبي عامر للشاعر المشهور أبي عمر يوسف الرمادي كيف ترى حالك معي فقال فوق قدري ودون قدرك ! فأطرق المنصور كالغضبان فانسل الرمادي وخرج وقد ندم على ما بدر منه وجعل يقول أخطأت لا والله ما يفلح مع الملوك من يعاملهم بالحق ما كان ضرني لو قلت له إني بلغت السماء وتمنطقت بالجوزاء وأنشدته
( متى يأت هذا الموت لا يلف حاجة ... لنفسي إلا قد قضيت قضاءها )
لا حول ولا قوة إلا بالله ولما خرج كان في المجلس من يحسده على مكانه من المنصور فوجد فرصة فقال وصل الله لمولانا الظفر والسعد ! إن هذا الصنف صنف زور وهذيان لا يشكرون نعمة ولا يرعون إلا ولا ذمة كلاب من غلب وأصحاب من أخصب وأعداء من أجدب وحسبك منهم أن الله جل جلاله يقول فيهم ( والشعراء يتبعهم الغاوون ) إلى ما لا يفعلون والابتعاد منهم أولى من الاقتراب وقد قيل فيهم ما ظنك بقوم الصدق يستحسن إلا منهم فرفع المنصور رأسه وكان محبا في أهل الأدب والشعر وقد اسود وجهه وظهر فيه الغضب المفرط ثم قال ما بال أقوام يشيرون في شيء لم يستشاروا فيه ويسيئون الأدب بالحكم فيما

لا يدرون أيرضي أم يسخط وأنت أيها المنبعث للشر دون أن يبعث قد علمنا غرضك في أهل الأدب والشعر عامة وحسدك لهم لأن الناس كما قال القائل
( من رأى الناس له فضلا ... عليهم حسدوه )
وعرفنا غرضك في هذا الرجل خاصة ولسنا إن شاء الله تعالى نبلغ أحدا غرضه في أحد ولو بلغناكم في جانبكم وإنك ضربت في حديد بارد وأخطأت وجه الصواب فزدت بذلك احتقارا وصغارا وإني ما أطرقت من خطاب الرمادي إنكارا عليه بل رأيت كلاما يجل عن الأقدار الجليلة وتعجبت من تهديه له بسرعة واستنباطه له على قلته من الإحسان الغامر ما لا يستنبطه غيره بالكثير والله لو حكمته في بيوت الأموال لرأيت أنها لا ترجح ما تكلم به قلبه ذرة وإياكم أن يعود أحد منكم إلى الكلام في شخص قبل أن يؤخذ معه فيه ولا تحكموا علينا في أوليائنا ولو أبصرتم منا التغير عليهم فإننا لا نتغير عليهم بغضا لهم وانحرافا عنهم بل تأديبا وإنكارا فإنا من نريد إبعاده لم نظهر له التغير بل ننبذه مرة واحدة فإن التغير إنما يكون لمن يراد استبقاؤه ولو كنت مائل السمع لكل أحد منكم في صاحبه لتفرقتم أيدي سبا وجونبت أنا مجانبة الأجرب وإني قد أطلعتكم على ما في ضميري فلا تعدلوا عن مرضاتي فتجنبوا سخطي بما جنيتموه على أنفسكم ثم أمر أن يرد الرمادي وقال له أعد علي كلامك فارتاع فقال الأمر على خلاف ما قدرت الثواب أولى بكلامك من العقاب فسكن لتأنيسه وأعاد ما تكلم به فقال المنصور بلغنا أن النعمان بن المنذر حشا فم النابغة بالدر لكلام استحسنه منه وقد أمرنا لك بما لا يقصر عن ذلك ما هو أنوه وأحسن عائدة وكتب له بمال وخلع وموضع يتعيش منه ثم رد رأسه إلى المتكلى في شأن الرمادي

وقد كاد يغوص في الأرض لو وجد لشدة ما حل به مما رأى وسمع وقال والعجب من قوم يقولون الابتعاد من الشعراء أولى من الاقتراب نعم ذلك لمن ليس له مفاخر يريد تخليدها ولا أياد يرغب في نشرها فأين الذين قيل فيهم
( على مكريهم رزق من يعريهم ... وعند المقلين السماحة والبذل وأبن الذي قيل فيه )
( إنما الدنيا أبو دلف ... بين مبداه ومحتضره )
( فإذا ولى أبو دلف ... ولت الدنيا على أثره )
أما كان في الجاهلية والإسلام أكرم ممن قيل فيه هذا القول بلى ولكن صحبة الشعراء والإحسان إليهم أحيت غابر ذكرهم وخصتهم بمفاخر عصرهم وغيرهم لم تخلد الأمداح مآثرهم فدثر ذكرهم ودرس فخرهم انتهى بنو صمادح
ومن حكاياتهم في العدل أنه لما بنى المعتصم بن صمادح ملك ألمرية قصوره المعروفة بالصمادحية غصبوا أحد الصالحين في جنة وألحقوها بالصمادحية وزعم ذلك الصالح أنها لأيتام من أقاربه فبينا المعتصم يوما يشرب على الساقية الداخلة إلى الصمادحية إذ وقعت عينه على أنبوب قصبة مشمع فأمر من يأتيه به فلما أزال عنه الشمع وجد فيه ورقة فيها ( ( إذا وقفت أيها الغاصب على هذه الورقة فاذكر قول الله تعالى ( إن هذا أخي له تسع

وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب ) ص : 23 ] لا إله إلا الله أنت ملك قد وسع الله تعالى عليك ومكن لك في الأرض ويحملك الحرص على ما يفنى أن تضم إلى جنتك الواسعة العظيمة قطعة أرض لأيتام حرمت بها حلالها وخبثت طيبها ولئن تحجبت عني بسلطانك واقتدرت علي بعظم شأنك فنجتمع غدا بين يدي من لا يحجب عن حق ولا تضيع عنده شكوى
فلما استوعب قراءتها دمعت عيناه وأخذته خشية خيف عليه منها وكانت عادته رحمه الله تعالى وقال علي بالمشتغلين ببناء الصمادحية فأحضروا فاستفسرهم عما زعم الرجل فلم يسعهم إلا صدقه واعتذروا بأن نقصها من الصمادحية يعيبها في عين الناظر فاستشاط غضبا وقال والله إن عيبها في عين الخالق أقبح من عيبها في عين المخلوق ثم أمر بأن تصرف عليه واحتمل تعويرها لصمادحيته
ولقد مر بعض أعيان ألمرية وأخيارها مع جماعة على هذا المكان الذي أخرجت منه جنة الأيتام فقال أحدهم والله لقد عورت هذه القطعة هذا المنظر العجيب فقال له اسكت فوالله إن هذه القطعة طراز هذا المنظر وفخره وكان المعتصم إذا نظر إليها قال أشعرتم أن هذا المكان المعوج في عيني أحسن من سائر ما استقام من الصمادحية ثم إن وزيره ابن أرقم لم يزل يلاطف الشيخ والأيتام حتى باعوها عن رضى بما اشتهوا من الثمن وذلك بعد مدة طويلة فاستقام بها بناء الصمادحية وحصل للمعتصم حسن السمعة في الناس والجزاء عند الله تعالى
ولما مات المعتصم بن صمادح ركب البحر ابنه ولي عهده الواثق عز الدولة أبو محمد عبد الله وفارق الملك كما أوصاه المعتصم والده وفي ذلك يقول

( لك الحمد بعد الملك أصبحت خاملا ... بأرض اغتراب لا أمر ولا أحلي )
( وقد أصدأت فيها الجذاذة أنملي ... كما نسيت ركض الجياد بها رجلي )
( فلا مسمعي يصغي لنغمة شاعر ... وكفي لا تمتد يوما إلى بذل )
قال ابن اللبانة الشاعر علمت حقيقة جور الدهر حتى اجتمعت ببجاية مع عز الدولة بن المعتصم بن صمادح فإني رأيت منه خير من يجتمع به كأنه لم يخلقه الله تعالى إلا للملك والرياسة وإحياء الفضائل ونظرت إلى همته تنم من تحت حموله كما ينم فرند السيف وكرمه من تحت الصدأ مع حفظه لفنون الأدب والتواريخ وحسن استماعه وإسماعه ورقة طباعه ولطافة ذهنه ولقد ذكرته لأحد من صحبته من الأدباء في ذلك المكان ووصفته بهذه الصفات فتشوق إلى الاجتماع به ورغب إلي في أن أستأذنه في ذلك فلما أعلمت عز الدولة قال يا أبا بكر لتعلم أنا اليوم في خمول وضيق لا يتسع لنا معهما ولا يجمل بنا الاجتماع مع أحد لا سيما مع ذي أدب ونباهة يلقانا بعين الرحمة ويزورنا بمنة التفضل في زيارتنا ونكابد من ألفاظ توجعه وألحاظ تفجعه ما يجدد لنا هما قد بلي ويحيي كمدا قد فني وما لنا قدرة على أن نجود عليه بما يرضى به عن همتنا فدعنا كأننا في قبر نتدرع لسهام الدهر بدرع الصبر وأما أنت فقد اختلطت بنا اختلاط اللحم بالدم وامتزجت امتزاج الماء بالخمر فكأنا لم نكشف حالنا لسوانا ولا أظهرنا ما بنا لغيرنا فلا تحمل غيرك محملك قال ابن اللبانة فملأ والله سمعي بلاغة لا تصدر إلا عن سداد ونفس أبية متمكنة من أعنة البيان وانصرفت متمثلا
( لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... ولم يبق إلا صورة اللحم والدم )
( وكائن ترى من صامت لك معجب ... زيادته أو نقصه في التكلم )

وكتب إليه ابن اللبانة
( يا ذا الذي هز أمداحي بحليته ... وعزه أن يهز المجد والكرما )
( واديك لا زرع فيه اليوم تبذله ... فخذ عليه لأيام المنى سلما ) فتحيل في قليل بر ووجهه إليه وكتب معه
( المجد يخجل من يفديك من زمن ... ثناك عن واجب البر الذي علما )
( فدونك النزر من مصف مودته ... حتى يوفيك أيام المنى السلما )
ومن شعر عز الدولة المذكور
( أفدي أبا عمرو وإن كان عاتبا ... فلا خير في ود يكون بلا عتب )
( وما كان ذاك الود إلاكبارق أضاء لعيني ثم أظلم في قلبي )
وقال الشقندي في الطرف إن عز الدولة أشعر من أبيه
151 - وأما أخوه رفيع الدولة الحاجب أبو زكريا يحيى بن المعتصم فله أيضا نظم رائق ومنه ما كتب به إلى يحيى بن مطروح يستدعيه لأنس
( يا أخي بل سيدي بل سندي ... في مهمات الزمان الأنكد )
( لح بأفق غاب عنه بدره ... في اختفاء من عيون الحسد )
( وتعجل فحبيبي حاضر ... وفمي يشتاق كأسي في يدي )
فأجابه ابن مطروح وهو من أهل باغه بقوله

( أنا عبد من أقل الأعبد ... قبلتي وجه بأفق الأسعد )
( كلما أظمأني ورد فما ... منهلي إلا بذاك المورد )
( ها أنا بالباب أبغي إذنكم ... والظمأ قد مد للكأس يدي )
وكان قد سلط عليه إنسان مختل إذا رآه يقول هذا ألف لا شيء عليه يعني أن ملكه ذهب عنه وبقي فارغا منه فشكا رفيع الدولة ذلك إلى بعض أصحابه فقال أنا أكفيك مؤونته واجتمع مع الأحمق واشترى له حلواء وقال له إذا رأيت رفيع الدولة بن المعتصم فسلم عليه وقبل يده ولا تقل هذا ألف لا شيء عليه فقال نعم واشترط الوفاء بذلك لى أن لقيه فجرى نحوه وقبل يده وقال هذا هو باء بنقطة من أسفل فقامت قيامة رفيع الدولة وكان ذلك أشد عليه وكان به علة الحصى فظن أن الأحمق علم ذلك وقصده وصار كلما أحس به في موضع تجنبه
واستأذن يوما على أحد وجوه دولة المرابطين فقال أحد جلسائه ( تلك أمة قد خلت ) استحقارا له واستثقالا للإذن له فبلغ ذلك رفيع الدولة فكتب إليه
( خلت أمتي لكن ذاتي لم تخل ... وفي الفرع ما يغني إذا ذهل الأصل )
( وما ضركم لو قلتم قول ماجد ... يكون له فيما يجيء به الفضل )
( وكل إناء بالذي فيه راشح ... وهل يمنح الزنبور ما مجه النحل )
( سأصرف وجهي عن جناب تحله ... ولو لم تكن إلا إلى وجهك السبل )
( فما موضع تحتله بمرفع ... ولا يرتضى فيه مقال ولا فعل )
( وقد كنت ذا عذل لعلك ترعوي ولكن بأرباب العلا يجمل العذل )
وأما أخوهما أبو جعفر بن المعتصم فله ترجمة في المسهب

والمطرب والمغرب ومن شعره
( كتبت وقلبي ذو اشتياق ووحشة ... ولو أنه يسطيع مر يسلم )
( جعلت سواد العين فيه سواده ... وأبيضه طرسا وأقبلت ألثم )
( فخيل لي أني أقبل موضعا ... يصافحه ذاك البنان المسلم )
وأما أختهم أم الكرم فذكرناها مع النساء فلتراجع وقال أبو العلاء ابن زهر
( تمت محاسن وجهه وتكاملت ... لما بدا وعليه صدغ مونق )
( وكذلك البدر المنير جماله ... في أن تكنفه سماء أزرق )
وقال أبو الفضل ابن شرف لابن
( يا من حكى البيدق في شكله ... أصبح يحكيك وتحكيه )
( أسفله أوسع أجزائه ... ورأسه أصغر ما فيه )
وقال ابن خفاجة
( يا أيها الصب المعنى به ... ها هو لا خل ولا خمر )
( سود ما ورد من خده ... فصار فحما ذلك الجمر )
وقال أبو عبد الله البياسي
( صغر الرأس وطول العنق ... شاهدا عدل بفرط الحمق )
ولما سمعه أبو الحسن بن حريق قال

( صغر الرأس وطول العنق ... خلقة منكرة في الخلق )
( فإذا أبصرتها من رجل ... فاقض في الحين له بالحمق )
وقال أبو الحسن بن الفضل يذكر مقاما قامه سهل بن مالك وابن عياش
( لعمري لقد سر الخلافة قائما ... بخطبته الغراء سهل بن مالك )
( وأما ابن عياش ومن كان مثله ... فضلوا جميعا بين تلك المسالك )
( ومات وماتوا حسرة وحسادة وغيظا فقلنا هالك في الهوالك ) وسهل بن مالك له ترجمة مطولة رحمه الله تعالى
ومن حكاياتهم في الوفاء وحين الاعتذار والقيام بحق الإخاء أن الوزير الوليد بن عبد الرحمن بن غانم كان صديقا للوزير هاشم بن عبد العزيز ثابتا على مودته ولما قضى الله تعالى على هاشم بالأسر أجرى السلطان محمد بن عبد الرحمن الأموي ذكره في جماعة من خدامه والوليد حاضر فاستقصره ونسبه للطيش والعجلة والاستبداد برأيه فلم يكن فيهم من اعتذر عنه غير الوليد فقال أصلح الله تعالى الأمير ! إنه لم يكن على هاشم التخير في الأمور ولا الخروج عن المقدور بل قد استعمل جهده واستفرغ نصحه وقضى حق الإقدم ولم يكن ملاك النصر بيده فخذله من وثق به ونكل عنه من كان معه فلم يزحزح قدمه عن موطن حفاظه حتى ملك مقبلا غير مدبر مبليا غير فشل فجوزي خيرا عن نفسه وسلطانه فإنه لا طريق للملام عليه وليس عليه ما جنته الحرب الغشوم وأيضا فإنه ما قصد

أن يجود بنفسه إلا رضى للأمير واجتنابا لسخطه فإذا كان ما اعتمد فيه الرضى جالب التقصير فذلك معدود في سوء الحظ فأعجب الأمير كلامه وشكر له وفاءه وأقصر فيما بعد عن تفنيد هاشم وسعى في تخليصه واتصل الخبر بهاشم فكتب إليه الصديق من صدقك في الشدة لا في الرخاء والأخ من ذب عنك في الغيب لا في المشهد والوفي من وفى لك إذا خانك زمان وقد أتاني من كلامك بين يدي سيدنا - جعل الله تعالى نعمته سرمدا - ما زادني بمودتك اغتباطا وبصداقتك ارتباطا ولذلك ما كنت أشد يدي على وصلك وأخصك بإخائي وأنا الآن بموضع لا أقدر فيه على جزاء غير الثناء وأنت أقدر مني على أن تزيد ما بدأت به بأن تتم ما شرعت فيه حتى تتكمل لك المنة ويستوثق عقد الصداقة إن شاء الله تعالى وكتب إليه بشعر منه
( أيا ذاكري بالغيب في محفل به ... تصامت جمع عن جواب به نصري )
( أتتني والبيداء بيني وبينها ... رقى كلمات خلصتني من الأسر )
( لئن قرب الله اللقاء فإنني ... سأجزيك ما لا ينقضي غابر الدهر )
فأجابه الوليد خلصك الله أيها البدر من سرارك ! وعجل بطلوعك في أكمل تمامك وإبدارك ! وصلني شكرك على أن قلت ما علمت ولم أخرج عن النصح للسلطان بما زكنته من ذلك والله تعالى شاهد على أن ذلك في مجالس غير المجلس المنقول لسيدي إن خفيت عن المخلوق فما تخفى عن الخالق ما أردت بها إلا أداء بعض ما أعتقده لك وكم سهرت وأنا نائم وقمت في حقي وأنا قاعد والله لا يضيع أجر من أحسن عملا ثم ذكر أبياتا لم تحضرني الآن
ومن حكاياتهم في علو الهمة في العلم والدنيا أنه دخل أبو بكر بن الصائغ المعروف ب بابن باجة جامع غرناطة وبه نحوي حوله شباب يقرؤون فنظروا إليه وقالوا له مستهزئين به ما يحمل الفقيه وما يحسن من العلوم وما يقول فقال لهم أحمل اثني عشر ألف دينار وها هي تحت إبطي

وأخرج لهم اثنتي عشرة ياقوتة كل واحدة منها بألف دينار وأما الذي أحسنه فاثنا عشر علما أدونها علم العربية الذي تبحثون فيه وأما الذي أقول فأنتم كذا وجعل يسبهم هكذا نقلت هذه الحكاية من خط الشيخ أبي حيان النحوي رحمه الله تعالى
ومن حكاياتهم في الذكاء واستخراج العلوم واستنباطها أن أبا القاسم عباس بن فرناس حكيم الأندلس أول من استنبط بالأندلس صناعة الزجاج من الحجارة وأول من فك بها كتاب العروض للخليل وأول من فك الموسيقى وصنع الآلة المعروفة بالمنقانة ليعرف الأوقات على غير رسم ومثال واحتال في تطيير جثمانه وكسا نفسه الريش ومد له جناحين وطار في الجو مسافة بعيدة ولكنه لم يحسن الاحتيال في وقوعه فتأذى في مؤخره ولم يدر أن الطائر إنما يقع على زمكه ولم يعمل له ذنبا وفيه قال مؤمن بن سعيد الشاعر من أبيات
( يطم على العنقاء في طيرانها ... إذا ما كسا جثمانه ريش قشعم )
وصنع في بيته هيئة السماء وخيل للناظر فيها النجوم والغيوم والبروق والرعود وفيه يقول مؤمن بن سعيد أيضا
( سماء عباس الأديب أبي القاسم ... ناهيك حسن رائقها )
( أما ضراط استه فراعدها ... فليت شعري ما لمع بارقها )
( لقد تمنيت حين دومها فكري بالبصق في است خالقها )
( وأنشد ابن فرناس الأمير محمدا من أبيات
( رأيت أمير المؤمنين محمدا ... وفي وجهه بذر المحبة يثمر )
فقال له مؤمن بن سعيد قبحا لما ارتكبته ! جعلت وجه الخليفة محرثا يثمر فيه البذر فخجل وسبه
المشهورون بعلوم الأوائل
وأول من اشتهر في الأندلس بعلم الأوائل والحساب والنجوم أبو عبيدة مسلم بن أحمد المعروف بصاحب القبلة لأنه كان يشرق في صلاته وكان عالما بحركات الكواكب وأحكامها وكان صاحب فقه وحديث دخل المشرق وسمع بمكة من علي بن عبد العزيز وبمصر من المزني وغيره
ومنهم يحيى بن يحيى المعروف بابن السمينة من أهل قرطبة وكان بصيرا بالحساب والنجوم والنحو واللغة والعروض ومعاني الشعر والفقه والحديث والأخبار والجدل ودخل إلى المشرق وقيل إنه كان معتزلي المذهب
وأبو القاسم أصبغ بن السمح وكان بارعا في علم النجوم والهندسة والطب وله تآليف منها كتاب المدخل إلى الهندسة في تفسير إقليدس وكتاب كبير في الهندسة وكتابان في الأسطرلاب وزيج على مذاهب الهند المعروف بالسند هند
وأبو القاسم بن الصفار وكان عالما بالهندسة والعدد والنجوم وله زيج مختصر على مذاهب السند هند وله كتاب في عمل الأسطرلاب
ومنهم أبو الحسن الزهراوي وكان عالما بالعدد والطب والهندسة وله

وأنشد ابن فرناس الأمير محمدا من أبيات
( رأيت أمير المؤمنين محمدا ... وفي وجهه بذر المحبة يثمر )
فقال له مؤمن بن سعيد قبحا لما ارتكبته ! جعلت وجه الخليفة محرثا يثمر فيه البذر فخجل وسبه
المشهورون بعلوم الأوائل
وأول من اشتهر في الأندلس بعلم الأوائل والحساب والنجوم أبو عبيدة مسلم بن أحمد المعروف بصاحب القبلة لأنه كان يشرق في صلاته وكان عالما بحركات الكواكب وأحكامها وكان صاحب فقه وحديث دخل المشرق وسمع بمكة من علي بن عبد العزيز وبمصر من المزني وغيره
ومنهم يحيى بن يحيى المعروف بابن السمينة من أهل قرطبة وكان بصيرا بالحساب والنجوم والنحو واللغة والعروض ومعاني الشعر والفقه والحديث والأخبار والجدل ودخل إلى المشرق وقيل إنه كان معتزلي المذهب
وأبو القاسم أصبغ بن السمح وكان بارعا في علم النجوم والهندسة والطب وله تآليف منها كتاب المدخل إلى الهندسة في تفسير إقليدس وكتاب كبير في الهندسة وكتابان في الأسطرلاب وزيج على مذاهب الهند المعروف بالسند هند
وأبو القاسم بن الصفار وكان عالما بالهندسة والعدد والنجوم وله زيج مختصر على مذاهب السند هند وله كتاب في عمل الأسطرلاب
ومنهم أبو الحسن الزهراوي وكان عالما بالعدد والطب والهندسة وله

كتاب شريف في المعل ملات على طريق البرهان ومنهم أبو الحكم عمر الكرماني من أهل قرطبة من الراسخين في علم العدد والهندسة ودخل المشرق واشتغل بحران وهو أول من دخل برسائل إخوان الصفا إلى الأندلس
ومنهم أبو مسلم ابن خلدون من أشراف إشبيلية وكان متصرفا في علوم الفلسفة والهندسة والنجوم والطب وتلميذه ابن برغوث وكان عالما بالعلوم الرياضية وتلميذه أبو الحسن مختار الرعيني وكان بصيرا بالهندسة والنجوم وعبد الله بن أحمد السرقسطي كان نافذا في علم الهندسة والعدد والنجوم ومحمد بن الليث كان بارعا في العدد والهندسة وحركات الكواكب وابن حي قرطبي بصير بالهندسة والنجوم وخرج عن الأندلس سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة ولحق بمصر ودخل اليمن واتصل بأميرها الصليحي القائم بدعوة المستنصر العبيدي فحظي عنده وبعثه رسولا إلى بغداد إلى القائم بأمر الله وتوفي باليمن بعد انصرافه من بغداد وابن الوقشي الطليطلي عارف بالهندسة والمنطق والزيوج وغيرهم ممن يطول تعدادهم
وكان الحافظ أبو الوليد هشام الوقشي من أعلم الناس بالهندسة وآراء الحكماء والنحو واللغة ومعاني الأشعار والعروض وصناعة الكتابة والفقه والشروط والفرائض وغيرها وهو كما قال الشاعر
( وكان من العلوم بحيث يقضى ... له في كل فن بالجميع )
ومن شعره قوله
( قد بينت فيه الطبيعة أنها ... بدقيق أعمال المهندس ماهره )
( عنيت بمبسمه فخطت فوقه ... بالمسك خطا من محيط الدائره )

وعزم على ركوب البحر إلى الحجاز فهاله ذلك فقال
( لا أركب البحر ولو أنني ... ضربت فيه بالعصا فانفلق )
( ما إن رأت عيني أمواجه ... في فرق إلا تناهى الفرق )
وكان الوزير أبو المطرف عبد الرحمن بن مهند مصنف الأدوية المفردة آية الله تعالى في الطب وغيره حتى أنه عانى جميع ما في كتابه من الأدوية المفردة وعرف ترتيب قواها ودرجاتها وكان لايرى التداوي بالأدوية ما أمكن بالأغذية أو ما يقرب منها وإذا اضطر إلى الأدوية فلا يرى التداوي بالمركبة ما وجد سبيلا إلى المفردة وإذا اضطر إلى المركب لم يكثر التركيب بل يقتصر على أقل ما يمكنه وله غرائب مشهورة في الإبراء من الأمراض الصعبة والعلل المخوفة بأيسر علاج وأقربه ومنهم ابن البيطار وهو عبد الله بن أحمد المالقي الملقب بضياء الدين وله عدة مصنفات في الحشائش لم يسبق إليها وتوفي بدمشق سنة ست وأربعين وستمائة أكل عقارا قاتلا فمات من ساعته رحمه الله تعالى
ومن حكاياتهم في الحفظ أن الأديب الأوحد حافظ إشبيلية بل الأندلس في عصره أبا المتوكل الهيثم بن أحمد بن أبي غالب كان أعجوبة دهره في الرواية للأشعار والأخبار قال ابن سعيد أخبرني من أثق به أنه حضر معه ليلة عند أحد رؤساء إشبيلية فجرى ذكر حفظه وكان ذلك في أول الليل فقال لهم إن شئتم تختبروني أجبتكم فقالوا له بسم الله إنا نريد أن نحدث عن تحقيق فقال اختاروا أي قافية شئتم لا أخرج عنها حتى

تعجبوا فاختاروا القاف فابتدأ من أول الليل إلى أن طلع الفجر وهو ينشد وزن
( أرق على أرق ومثلي ... ) يأرق وسماره قد نام بعض وضج بعض وهو ما فارق قافية القاف
وقال أبو عمران ابن سعيد دخلت عليه يوما بدار الأشراف بإشبيلية وحوله أدباء ينظرون في كتب منها ديوان ذي الرمة فمد الهيثم يده إلى الديوان المذكور فمنعه منه أحد الأدباء فقال يا أبا عمران أواجب أن يمنعه مني وما يحفظ منه بيتأ وأنا أحفظه فأكذبته الجماعة فقال اسمعوني وأمسكوه فابتدأ من أوله حتى قارب نصفه فأقسمنا عليه أن يكف وشهدنا له بالحفظ
وكان آية في سرعة البديهة مشهورا بذلك قال أبو الحسن بن سعيد عهدي به في إشبيلية يملي على أحد الطلبة شعرا وعلى ثان موشحة وعلى ثالث زجلا كل ذلك ارتجالا
ولما أخذ الحصار بمخنق إشبيلية في مدة الباجي خرج خروج القارظين ولا يدري حيث ولا أين
ومن شعره وقد نزل بداره عبيد السلطان وكتب به إلى صاحب الأنزال
( كم من يد لك لا أقوم بشكرها ... وبها أشير إليك إن خرست فمي )
( وقد استشرتك في الحديث فهل ترى ... أن يدخل الغربان وكر الهيثم )

وله
( يجفى الفقير ويغشى الناس قاطبة ... باب الغني كذا حكم المقادير )
( وإنما الناس أمثال الفراش فهم ... بحيث تبدو مصابيح الدنانير )
وله
( عندي لفقدك أوجال أبيت بها ... كأنني واضع كفي على قبس )
( ولا ملامة إن لم أهد نيره ... حتى تمد إليها كف مقتبس )
( قد كنت أودع سر الشوق في طرس ... لكنني خفت أن يعدو على الطرس )
وأنشد له أبو سهل شيخ دار الحديث بالقاهرة في إملائه
( قف بالكثيب لغيرك التأنيب ... إن الكثيب هوى لنا محبوب )
( يا راحلين لنا عليكم وقفة ... ولكم علينا دمعنا المسكوب )
( تخلى الديار من المحبة والهوى ... أبدا وتعمر أضلع وقلوب )
وقال ارتجالا في وصفة فرس أصفر
( أطرف فات طرفي أم شهاب ... هفا كالبرق ضرمه التهاب )
( أعار الصبح صفحته نقابا ... ففر به وصح له النقاب )
( فمهما حث خال الصبح وافى ... ليطلب ما استعار فما يصاب )
( إذا ما انقض كل النجم عنه ... وضلت عن مسالكه السحاب )
( فيا عجبا له فضل الدراري ... فكيف أذال أربعه التراب )
( سل الأرواح عن أقصى مداه ... فعند الريح قد يلفى الجواب )
وقال أبو عمر الطلمنكي دخلت مرسية فتشبث بي أهلها

يسمعوا علي الغريب المصنف فقلت انظروا من يقرأ لكم وأمسكت أنا كتابي فأتوني برجل أعمى يعرف بابن سيده فقرأه علي من أوله إلى آخره فعجبت من حفظه وكان أعمى ابن أعمى وابن سيده المذكور هو أبو الحسن علي بن أحمد بن سيده وهو صاحب كتاب المحكم
ومن نظمه مما كتب به إلى ابن الموفق
( ألا هل إلى تقبيل راحتك اليمنى ... سبيل فإن الأمن في ذاك واليمنا ) ومنها ضحيت فهل في برد ظلك نومة ... لذي كبد حرى وذي مقلة وسنى )
وتوفي ابن سيده المذكور سنة ثمان وخمسين وأربعمائة وعمره نحو الستين رحمه الله تعالى
ومن حكاياتهم في حب العلم أن المظفر بن الأفطس صاحب بطليوس كان كما قال ابن الأبار كثير الأدب جم المعرفة محبا لأهل العلم جماعة للكتب ذا خزانة عظيمة لم يكن في ملوك الأندلس من يفوقه في أدب ومعرفة قاله ابن حيان
وقال ابن بسام كان المظفر أديب ملوك عصره غير مدافع ولا منازع وله التصنيف الرائق والتأليف الفائق المترجم بالتذكرة والمشتهر أيضا اسمه بالكتاب المظفري في خمسين مجلدا يشتمل على فنون وعلوم من مغاز وسير ومثل وخبر وجميع ما يختص به علم الأدب أبقاه للناس خالدا وتوفي المظفر سنة ستين وأربعمائة
وكان يحضر العلماء للمذاكرة فيفيد

ويستفبد رحمه الله تعالى
ومن التآليف الكبار لأهل الأندلس كتاب السماء والعالم الذي ألفه أحمد بن أبان صاحب شرطة قرطبة وهو مائة مجلد رأيت بعضه بفاس وتوفي ابن أبان سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة رحمه الله تعالى
روح الفكاهة عند الأندلسيين
ولأهل الأندلس دعابة وحلاوة في محاوراتهم وأجوبة بديهية مسكتة والظرف فيهم والأدب كالغريزة حتى في صبيانهم ويهودهم فضلا عن علمائهم وأكابرهم
ولنذكر جملة من ذكر الجلة فنقول
166 - حكي عن عالم ألمرية القاضي أبي الحسن مختار الرعيني وكان فيه حلاوة ولوذعية ووقار وسكون أنه استدعاه يوما زهير ملك المرية من مجلس حكمه فجاءه يمشي مشية قاض قليلا قليلا فاستعجله رسول زهير فلم يعجل فلما دخل عليه قال له يا فقيه ما هذا البطء فتأخر إلى باب المجلس وطلب عصا وشمر ثيابه فقال له زهير ما هذا قال هذا يليق باستعجال الحاجب لي فوقع في خاطري أنه عزلني عن القضاء وولاني الشرطة فضحك زهير واستحلاه ولم يعد إلى استعجاله
وهذا القاضي هو القائل - وقد دخل حماما فجلس بإزائه عامي أساء الأدب عليه -
( ألا لعن الحمام دارا فإنه ... سواء به ذو العلم والجهل في القدر )
( تضيع به الآداب حتى كأنها ... مصابيح لم تنفق على طلعة الفجر

وروي أن المقرئ أبا عبد الله محمد بن الفراء إمام النحو واللغة في زمانه - وكانت فيه فطنة ولوذعية - أبطأ خروجه يوما إلى تلامذته فطال بهم الكلام في المذاكرة فقال أحدهم نصف بيت وكان فيهم وسيم من أبناء الأعيان وكان ابن الفراء كثير الميل إليه فلما خرج قال له يا أستاذ عملت نصف بيت وأريد أن تتمه فقال ماهو فقال
( ألا بأبي شادن أوطف )
فقال الأستاذ ابن الفراء بديها
( إذا كان وردك لا يقطف ... وثغر ثناياك لا يرشف )
( فأي اضطرار بنا أن نقول ... ألا بأبي شادن أوطف ) وهذا ابن الفراء هو القائل
( قيل لي قد تبدلا ... فاسل عنه كما سلا )
( لك سمع وناظر ... وفؤاد فقلت لا )
( قيل غال وصاله ... قلت لما غلا حلا )
( أيها العاذل الذي ... بعذابي توكلا )
( عد صحيحا مسلما ... لا تعير فتبتلى )
وتذكرت بهذا ما أنشده لسان الدين في كتابه روضة التعريف بالحب الشريف
( قلت للساخر الذي ... رفع الأنف واعتلى )
( أنت لم تأمن الهوى

لا تعير فتبتلى )
ومن بديع نظم ابن الفراء المذكور قوله
( شكوت إليه بفرط الدنف ... فأنكر من قصتي ما عرف )
( وقال الشهود على المدعي ... وأما أنا فعلي الحلف )
( فجئنا إلى الحاكم الألمعي ... قاضي المجون وشيخ الطرف )
( وكان بصيرا بشرع الهوى ... ويعلم من أين أكل الكتف )
( فقلت له إقض ما بيننا ... فقال الشهود على ما تصف )
( فقلت له شهدت أدمعي ... فقال إذا شهدت تنتصف )
( ففاضت دموعي من حينها ... كفيض السحاب إذا ما يكف )
( فحرك رأسا إلينا وقال ... دعوا يا مهاتيك هذا الصلف )
( كذا تقتلون مشاهيرنا ... إذا مات هذا فأين الخلف )
( وأوما إلى الورد أن يجتنى ... وأوما إلى الريق أن يرتشف )
( فلما رآه حبيبي معي ... ولم يختلف بيننا مختلف )
( أزال العناد فعانقته ... كأني لام وحبي ألف )
( فظلت أعاتبه في الجفا ... فقال عفا الله عما سلف ) 184
وحكي عن الزهري خطيب إشبيلية - وكان أعرج - أنه خرج مع ولده إلى وادي إشبيلية فصادف جماعة في مركب وكان ذلك بقرب الأضحى فقال بعضهم له بكم هذا الخروف وأشار إلى ولده فقال له الزهري ما هو للبيع فقال بكم هذا التيس وأشار إلى الشيخ الزهري فرفع رجله العرجاء وقال هو معيب لايجزئ في الضحية فضحك كل

من حضر وعجبوا من لطف خلقه
وركب مرة هذا النهر مع الباجي يوم خميس فلما أصبحا وصعد الزهري يخطب يوم الجمعة و الباجي حاضر قدامه فنظر إليه الباجي وأومأ إلى محل الحدث وأخرج لسانه فجعل الزهري يلمس عصا الخطبة يشير بالعصا إلى جوابه على ما قصد رحمه الله تعالى
ومر العالم أبو القاسم ابن ورد صاحب التآليف في علم القرآن والحديث بجنة لأحد الأعيان فيها ورد فوقف بالباب وكتب إليه
( شاعر قد عراك يبغي أباه ... عندما اشتاق حسنه وشذاه )
( وهو بالباب مصغيا لجواب ... يرتضيه الندى فماذا تراه )
فعندما وقف على البيتين علم أنه ابن ورد فبادر من جنته إليه وأقسم في النزول عليه ونثر من الورد ما استطاع بين يديه
وحكي أن أبا الحسين سليمان بن الطراوة نحوي المرية حضر مع ندماء وإلى جانبه من أخذ بمجامع قلبه فلما بلغت النوبة إليه استعفى من الشرب وأبدى القطوب فأخذ ابن الطراوة الجام من يده وشربها عنه ويا بردها على كبده ثم قال بديها
( يشربها الشيخ وأمثاله ... وكل من تحمد أفعاله )
( والبكر إن لم يستطع صولة ... تلقى على البازل أثقاله )
ودخل عليه وهو مع ندمائه غلام بكأس في يده فقال
( ألا بأبي وغير أبي غزال ... أتى وبراحه للشرب راح )
( فقال منادمي في الحسن صفه ... فقلت الشمس جاء بها الصباح )

( وقال فيمن جاء بالراح
( ولما رأيت الصبح لاح بخده ... دعوتهم رفقا تلح لكم الشمس )
( وأطلعها مثل الغزالة وهو كالغزال ... فتم الطيب واكتمل الأنس )
وقال وقد شرب ليلة القمر
( شربنا بمصباح السماء مدامة ... بشاطي غدير والأزاهر تنفح )
( وظل جهول يرقب الصبح ضلة ومن أكؤسي لم يبرح الليل يصبح ) وكان أبو عبد الله بن الحاج المعروف بمدغليس صاحب الموشحات يشرب مع ندماء ظراف في جنة بهجة فجاءتهم ورقة من من ثقيل يرغب في الإذن وكان له ابن مليح فكتب إليه مدغليس
( سيدي هذا مكان ... لا يرى فيه بلحيه )
( غير تيس مصفعاني ... له بالصفع كديه )
( أوله ابن شافع فيه ... فيلقى بالتحيه )
( أيها القابل بادر ... سائقا تلك المطيه )
وكان مدغليس هذا مشهورا بالانطباع والصنعة في الأزجال خليفة ابن قزمان في زمانه وكان أهل الأندلس يقولون ابن قزمان في الزجالين بمنزلة المتنبي في الشعراء ومدغليس بمنزلة أبي تمام بالنظر إلى الانطباع والصناعة فابن قزمان ملتفت إلى المعنى ومدغليس ملتفت للفظ وكان أديبا معربا لكلامه مثل ابن قزمان ولكنه لما رأى نفسه في الزجل أنجب اقتصر عليه ومن شعره قوله
( ما ضركم لو كتبتم ... حرفا ولو باليسار )
( إذ أنتم نور عيني ... ومطلبي واختياري )

وقال الخطيب الأديب النحوي أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن الفراء - المذكور قبل هذا بقريب - الضرير في صبي كان يقرأ عليه النحو اسمه حسن وهو في غاية الجمال - بعد أن سأله كيف تقول إذا تعجبت من حسنك فقال أقول ما أحسني -
( يا حسنا ما لك لم تحسن ... إلى نفوس بالهوى متعبه )
( رقمت بالورد وبالسوسن ... صفحة خد بالسنا مذهبه )
( وقد أبى صدغك أن أجتني ... منه وقد ألدغني عقربه )
( يا حسنه إذ قال ما أحسني ... ويا لذاك اللفظ ما أعذبه )
( ففوق السهم ولم يخطني ... وإذ رآني ميتا أعجبه )
( وقال كم عاش وكم حبني ... وحبه إياي قد عذبه )
( ي
C على أنني ... قتلي له لم أدر ما أوجبه ) هذا ابن الفراء من فضلاء المائة السادسة ذكره ابن غالب في فرحة الأنفس في فضلاء العصر من الأندلس وكان شاعرا مجيدا يعلم بالمرية القرآن والنحو واللغة وكانت فيه فطنة ولوذعية وذكاء وألمعية خرق بها العوائد وحكي أن قاضي المرية قبل شهادته في سطل ميزه في حمام باللمس واختبره في ذلك بحكاية طويلة وذكره صفوان في زاد المسافر ووصفه بالخطيب
رسالة أبي عبد الله ابن الفراء إلى ابن تاشفين
وجده القاضي أبو عبد الله ابن الفراء مشهور بالصلاح والفضل والزهد ومن العجائب أنه ليس له ترجمة في ( ( المغرب ) ) ولما كتب أمير المسلمين يوسف بن تاشفين إلى أهل ألمرية يطلب منهم المعونة جاوبه بكتابه المشهور الذي يقول فيه فما ذكره أمير المسلمين من اقتصاء المعونة وتأخري عن ذلك وأن

الباجي وجميع القضاة والفقهاء بالعدوة والأندلس أفتوا بأن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه اقتضاها وكان صاحب رسول الله وضجيعه في قبره ولا يشك في عدله فليس أمير المسلمين بصاحب رسول الله ولا بضجيعه في قبره ولا من لا يشك في عدله فإن كان الفقهاء والقضاة أنزلوك بمنزلته في العدل فالله تعالى سائلهم عن تقلدهم فيك وما اقتضاها عمر رضي الله تعالى عنه حتى دخل مسجد رسول الله وحلف أن ليس عنده درهم واحد في بيت مال المسلمين ينفقه عليهم فتدخل المسجد الجامع هنالك بحضرة من أهل العلم وتحلف أن ليس عندك درهم واحد ولا في بيت مال المسلمين وحينئذ تستوجب ذلك والسلام انتهى
وأما ابن الفراء الأخفش بن ميمون الذي ذكره الحجاري في المسهب فليس هو من هؤلاء بل هو من حصن القبذاق من أعمال قلعة بني سعيد وتأدب في قرطبة ثم عاد إلى حضرة غرناطة واعتكف بها على مدح وزيرها اليهودي وهو القائل
( صابح محياه تلق النجح في الأمل ... وانظر بناديه حسن الشمس في الحمل )
( ما إن يلاقي خليل فيه من خلل ... وكلما حال صرف الدهر لم يحل ) وكان يهاجي المنفتل شاعر إلبيرة ومن هجاء المنفتل له قوله
( لابن ميمون قريض ... زمهرير البرد فيه )
( فإذا ما قال شعرا ... نفقت سوق أبيه )
ولما وفد على المرية مدح رفيع الدولة بن المعتصم بن صمادح بشعر فقال له

بعض من أراد ضره يا سيدي لا تقرب هذا اللعين فإنه قال في اليهودي
( ولكن عندي للوفاء شريعة ... تركت بها الإسلام يبكي على الكفر )
فقال رفيع الدولة هذا والله هو الحر الذي ينبغي أن يصطنع فلولا وفاؤه ما بكى كافرا بعد موته وقد وجدنا في أصحابنا من لا يرعى مسلما في حياته
وقال فيه بن المنفتل
( إن كنت أخفش عين ... فإن قلبك أعمى )
( فكيف تنثر نثرا ... وكيف تنظم نظما )
ومن شعر الأخفش المذكور قوله
( إذا زرتكم غبا فلم ألق بالبر ... وإن غبت لم أطلب ولم أجر في الذكر )
( فإني إذن أولى الورى بفراقكم ... ولا سيما بعد التجلد والصبر )
ولما وفد على المنصور بن أبي عامر الشاعر المشهور أبو عبد الله محمد بن مسعود الغساني البجاني اتهم برهق في دينه فسجنه في المطبق مع الطليق القرشي والطليق غلام وسيم وكان ابن مسعود كلفا به يومئذ وفيه يقول
( غدوت في السجن خدنا لابن يعقوب ... وكنت أحسب هذا في التكاذيب )
( رامت عداتي تعذيبي وما شعرت ... أن الذي فعلوه ضد تعذيبي )
( راموا بعادي عن الدنيا وزخرفها ... فكان ذلك إدنائي وتقريبي )
( لم يعلموا أن سجني لا أبا لهم ... قد كان غاية مأمولي ومرغوبي

وانطلق ابن مسعود والطليق قبله ووقع بينه وبين الطليق وعاد المدح هجاء فقال فيه
( ولي جليس قربه مني ... بعد الأماني كذبا عني )
( قد قذيت من لحظه مقلتي وقرحت من لفظه أذني
( هون لي في السجن من قربه ... أشد في السجن من السجن )
( لو أن خلقا كان ضدا له ... زاد على يوسف في الحسن )
( إذا ارتمى فكري في وجهه ... سلط إبطيه على ذهني )
( كأنما يجلس من ذا وذا ... بين كنيفين من النتن )
وقال يخاطب المنصور من السجن
( دعوت لما عيل صبري فهل ... يسمع دعواي المليك الحليم )
( مولاي مولاي ألا عطفة ... تذهب عني بالعذاب الأليم )
( إن كنت أضمرت الذي زخرفوا ... عني فدعني للقدير الرحيم )
( فعنده نزاعة للشوى ... وعنده الفردوس ذات النعيم )
وركب بعض أهل المرية في وادي إشبيلية فمر على طاقة من طاقات شنتبوس وهو يغني
( خلين من واد ومن قوارب ... ومن نزاها في شنتبوس )
( غرس الحبق الذي في داري ... أحب عندي من العروس )
فأخرجت رأسها جارية وقالت له من أي البلاد أنت يا من غنى فقال

من ألمرية فقالت وما أعجبك في بلدك حتى تفضله على وادي إشبيلية وهو بوجه مالح وقفا أحرش وهذا من أحسن تعييب وذلك أنها أتته بالنقيض من إشبيلية فإن وجهها النهر العذب وقفاها بجبال الرحمة أشجار التين والعنب لا تقع العين إلا على خضرة في أيام الفرج وأين إشبيلية من المرية وفي ألمرية يقول السميسر شاعرها
( بئس دار المرية اليوم دارا ... ليس فيها لساكن ما يحب )
( بلدة لا تمار إلا بريح ... ربما قد تهب أو لا تهب )
يشير إلى أن مرافقها مجلوبة وأن الميرة تأتيها في البحر من بر العدوة وفيها يقول أيضا
( قالوا المرية فيها ... نظافة قلت إيه )
( كأنها طست تبر ... ويبصق الدم فيه )
وحكى مؤرخ الأندلس أبو الحجاج البياسي أنه دخل عليه في مجلس أنس شيخ ضخم الجثة مستثقل فقال البياسي
( اسقني الكأس صاحيه ... ودع الشيخ - ناحيه )
فقال الكاتب أبو جعفر أحمد بن رضي
( إن تكن ساقيا ... له ليس ترويه ساقيه )
وحكي أن العالي إدريس الحمودي لما عاد إلى ملكه بمقالة وبخ قاضيها الفقيه أبا علي بن حسون وقال له كيف بايعت عدوي من بعدي وصحبته فقال وكيف تركت أنت ملكك لعدوك فقال ضرورة القدرة حملتني على ذلك فقال وأنا أيضا حصلت في يد من لا يسعني إلا طاعته

ومن نظم القاضي المذكور
( رفعت من دهري إلى جائر ... ويبتغي العدل بأحكامي )
( أضحت به أملاكه مثل أشكال ... خيال طوع أيام )
( هذا لما أبرم ذا ناقض ... كأنهم في حكم أحلام )
وكان الفقيه العالم أبو محمد عبد الله الوحيدي قاضي مالقة جرى - كما قال الحجاري - في صباه طلق الجموح ولم يزل يعاقب بين غبوق وصبوح إلى أن دعاه النذير فاهتدى منه بسراج منير وأحلته تلك الرجعة فيما شاء من الرفعة
وقال بعض معاشريه كنت أماشيه زمن الشباب فكلما مررنا على إمرأة يدعو حسنها وشكلها إلى أن تحير الألباب أمال إليها طرفه ولم ينح عنها صرفه ثم سايرته بعد لما رجع عن ذلك واقتصر فرأيته يغض البصر ويخلي الطريق معرضا إلى ناحية متى زاحمته امرأة ولو حكت الشمس ضاحية فقلت له في ذلك فقال
( ذاك وقت قضيت فيه غرامي ... من شبابي في سترة الإظلام )
( ثم لما بدا الصباح لعيني ... من مشيبي ودعته بسلام )
ومن شعره فيصباه
( لا ترتجوا رجعتي باللوم عن غرضي ... ولتتركوني وصيدي فرصة الخلس )
( طلبتم رد قلبي عن صبابته ... ومن يرد عنان الجامح الشرس )
ولما أقصر باطله وعريت أفراس الصبا ورواحله قال

( ولما بدا شيبي عطفت على الهدى ... كما يهتدي حلف السرى بنجوم )
( وفارقت أشياع الصبابة والطلا ... وملت إلى أهلي علا وعلوم )
ولما تألب بنو حسون على القاضي الوحيدي المذكور صادر عنه العالم الأصولي أبو عبد الله بن الفخار وطلع في حقه إلى حضرة الإمامة مراكش وقام في مجلس أمير المسلمين ابن تاشفين وهو قد غص بأربابه وقال إنه لمقام كريم نبدأ فيه بحمد الله على الدنو منه ونصلي على خيرة أنبيائه محمد الهادي إلى الصراط المستقيم وعلى آله وصحابته نجوم الليل البهيم أما بعد فأنا نحمد الله الذي اصطفاك للمسلمين أميرا وجعلك للدين الحنيفي نصيرا وظهيرا ونفزع إليك مما دهمنا في حماك ونبث إليك ما لحقنا من الضيم ونحن تحت ظل علاك ويأبى الله أن يدهم من احتمى بأمير المسلمين ويصاب بضيم من ادرع بحصنه الخصين شكوى قمت بها بين يديك في حق أمرك الذي عضده مؤيده لتسمع منها ما تختبره برأيك وتنقده وإن قاضيك ابن الوحيدي الذي قدمته في مالقة للأحكام ورضيت بعدله فيمن بها من الخاصة والعوام لم يزل يدل على حسن اختيارك بحسن سيرته ويرضي الله تعالى ويرضي الناس بظاهره وسريرته ما علمنا عليه من سوء ولا درينا له موقف خزي ولم يزل جاريا على ما يرضي الله تعالى ويرضيك ويرضينا إلى أن تعرضت بنو حسون إلى الطعن في أحكامه والهد من أعلامه ولم يعلموا أن اهتضام المقدم راجع على المقدم بل جمحوا في لجاجهم فعموا وصموا وفعلوا وأمضوا ما به هموا
( وإلى السحب يرفع الكف من قد ... جف عنه مسيل عين ونهر )
فملأ سمعه بلاغة أعقبت نصره ونصر صاحبه من
ومن شعر ابن الفخار المذكور ويعرف بابن نصف الربض قوله
( أمستنكر شيب المفارق في الصبا ... وهل ينكر النور المفتح في الغصن )
( أظن طلاب المجد شيب مفرقي ... وإن كنت في إحدى وعشرين من سني )

وقوله
( أقل عتابك إن الكريم ... يجازي على حبه بالقلى )
( وخل اجتنابك إن الزمان ... يمر بتكديره ما حلا )
( وواصل أخاك بعلاته ... فقد يلبس الثوب بعد البلى )
( وقل كالذي قاله شاعر ... نبيل وحقك أن تنبلا )
( إذا ما خليل أسا مرة ... وقد كان فيما مضى مجملا )
( ذكرت المقدم من فعله ... فلم يفسد الآخر الأولا )
ولما وفد أبو الفضل ابن شرف من برجة في زي تظهر عليه البداوة بالنسبة إلى أهل حضرة المملكة العظمى أنشده قصيدته القائقة
( مطل الليل بوعد الفلق ... وتشكى النجم طول الأرق )
( ضربت ريح الصبا مسك الدجى ... فاستفاد الروض طيب العبق )
( وألاح الفجر خدا خجلا ... جال من رشح الندى في عرق )
( جاوز الليل إلى أنجمه ... فتساقطن سقوط الورق )
( واستفاض الصبح فيه فيضة ... أيقن النجم لها بالغرق )
( فانجلى ذاك السنا عن حلك ... وانمحى ذاك الدجى عن شفق )
( بأبي بعد الكرى طيف سرى ... طارقا عن سكن لم يطرق )
( زارني والليل ناع سدفه ... وهو مطلوب بباقي الرمق )
( ودموع الطل تمريها الصبا ... وجفون الروض غرقى الحدق )
( فتأنى في إزار ثابت ... وتثنى في وشاح قلق )
( وتجلى وجهه عن شعره ... فتجلى فلق عن غسق )
( نهب الصبح دجى ليلته ... فحبا الخد ببعض الشفق )

( سلبت عيناه حدي سيفه ... وتحلى خده بالرونق )
( وامتطى من طرفه ذا خبب ... يلثم الغبراء إن لم يعنق )
( أشوس الطرف علته نخوة ... يتهادى كالغزال الخرق )
( لو تمطى بين أسراب المها ... نازعته في الحشا والعنق )
( حسرت دهمته عن غرة ... كشفت ظلماؤها عن يقق )
( لبست أعطافه ثوب الدجى ... وتحلى خده باليقق )
( وانبرى تحسبه أجفل عن ... لسعة أو جنة أو أولق )
( مدركا بالمهل ما لا ينتهي ... لاحقا بالرفق ما لم يلحق )
( ذو رضى مستتر في غضب ... ذو وقار منطو في خرق )
( وعلى خد كعضب أبيض ... أذن مثل سنان أزرق )
( كلما نصبها مستمعا ... بدت الشهب إلى مسترق )
( حاذرت منه شبا خطية ... لا يجيد الخط ما لم يمشق )
( كلما شامت عذاري خده ... خفقت خفق فؤاد الفرق )
( في ذرا ظمآن فيه هيف ... لم يدعه للقضيب المورق )
( يتلقاني بكف مصقع ... يقتفي شأو عذار مفلق )
( إن يدر دورة طرف يلتمح ... أو يجل جول لسان ينطق )
( عصفت ريح على أنبوبه ... وجرت أكعبه في زئبق )
( كلما قلبه باعد عن ... متن ملساء كمثل البرق )
( جمع السرد قوى أزرارها ... فتآخذن بعهد موثق )
( أوجبت في الحرب من وخز القنا ... فتوارت حلقا في حلق )
( كلما دارت بها أبصارها ... صورت منها مثال الحدق )
( زل عنه متن مصقول القوى ... يرتمي في مائها بالحرق )

( لو نضا وهو عليه ثوبه ... لتعرى عن شواظ محرق )
( أكهب من هبوات أخضر ... من فرند أحمر من علق )
( وارتوت صفحاه حتى خلته ... بحيا من لكفيك سقي )
( يا بني معن لقد ظلت بكم ... شجر لولاكم لم تورق )
( لو سقي حسان إحسانكم ... ما بكى ندمانه في جلق )
( أو دنا الطائي من حيكم ... ما حدا البرق لربع الأبرق )
( أبدعوا في الفضل حتى كلفوا ... كاهل الأيام ما لم يطق )
فلما سمعها المعتصم لعبت بارتياحه وحسده بعض من حضر وكان من جملة من حسده ابن أخت غانم فقال له من أي البوادي أنت قال أنا من الشرف في الدرجة العالية وإن كانت البادية علي بادية ولا أنكر حالي ولا أعرف بخالي فمات ابن أخت غانم خجلا وشمت به كل من حضر
وابن شرف المذكور هو الحكيم الفيلسوف أبو الفضل جعفر ابن أديب إفريقية أبي عبد الله محمد بن شرف الجذامي ولد ببرجة وقيل إنه دخل الأندلس مع أبيه وهو ابن سبع سنين ومن نظمه قوله
( رأى الحسن ما في خده من بدائع ... فأعجبه ما ضم منه وحرفا )
( وقال لقد ألفيت فيه نوادرا ... فقلت له لا بل غريبا مصنفا )
وقوله
( قد وقف الشكر بي لديكم ... فلست أقوى على الوفاده )
( ونلت أقصى المراد منكم ... فصرت أخشى من الزياده )

وقوله
( إذا ما عدوك يوما سما ... إلى رتبة لم تطق نقضها )
( فقبل ولا تأنفن كفه ... إذا أنت لم تستطع عضها )
وقوله وقد تقدم به على كل شاعر
( لم يبق للجور في أيامهم أثر إلا غير الذي في عيون الغيد من حور )
وأول هذه القصيدة قوله
( قامت تجر ذيول العصب والحبر ... ضعيفة الخصر والميثاق والنظر ) وكان قد قصر أمداحه على المعتصم وكان يفد عليه في الأعياد وأوقات الفرج والفتوحات فوفد عليه مرة يشكو عاملا ناقشه في قرية يحرث فيها وأنشده الرائية التي مر مطلعها إلى أن بلغ قوله
( لم يبق للجور البيت ... )
فقال له كم في القرية التي تحرث فيها فقال فيها نحو خمسين بيتا فقال له أنا أسوغك جميعها لهذا البيت الواحد ثم وقع له بها وعزل عنها نظر كل وال
وله ابن فيلسوف شاعر مثله وهو أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المذكور وهو القائل
( وكريم أجارني من زمان ... لم يكن من خطوبه لي بد )
( منشد كلما أقول تناهى ... ما لمن يبتغي المكارم حد )

وابن أخت غانم هو العالم اللغوي أبو عبد الله محمد بن معمر من أعيان مآلقة متفنن في علوم شتى إلا أن الغالب عليه علم اللغة وكان قد رحل من مآلقة إلى المرية فحل عند ملكها المعتصم بن صمادح بالمكانة العلية وهو القائل في ابن شرف المذكور
( قولوا لشاعر برجة هل جاء من ... أرض العراق فحاز طبع البحتري )
( وافى باشعار تضج بكفه ... وتقول هل أعزى لمن لم يشعر )
( يا جعفرا رد القريض لأهله ... واترك مباراة لتلك الأبحر )
( لا تزعمن ما لم تكن أهلا له ... هذا الرضاب لغير فيك الأبخر )
وذكره ابن اليسع في معربه وقال إنه حدثه بداره في مالقة وهو ابن مائة سنة وأخذ عنه عام أربعة وعشرين وخمسمائة وله تآليف منها شرح كتاب النبات لأبي حنيفة الدينوري في ستين مجلدا وغير ذلك وغانم خاله الذي يعرف به هو الإمام العالم غانم المخزومي نسب إليه لشهرة ذكره وعلو قدره
ولما قرأ العالم الشهير أبو محمد بن عبدون في أول شبابه على أبي الوليد ابن ضابط النحوي المالقي جرى بين يديه ذكر الشعر وكان قد ضجر منه فقال
( الشعر خطة خسف ... )
فقال ابن عبدون معرضا به حين كان مستجديا بالنظم وكان إذ ذاك شيخا
( لكل طالب عرف ... )

( للشيخ عيبة عيب ... وللفتى ظرف ظرف )
وابن ضابط هو القائل في المظفر بن الأفطس
( نظمنا لك الشعر البديع لأننا ... علمنا بأن الشعر عندك ينفق )
( فإن كنت مني بامتداح مظفرا ... فإني في قصدي إليك موفق )
المخزومي ودخل غانم المخزومي السابق ذكره وهو من رجال الذخيرة على الملك بن حبوس صاحب غرناطة فوسع له على ضيق كان في المجلس فقال
( صير فؤادك للمحبوب منزلة ... سم الخياط مجال للمحبين )
( ولا تسامح بغيضا في معاشرة ... فقلما تسع الدنيا بغيضين )
وهو القائل
( وقد كنت أغدو نحو قطرك فارحا ... فها أنا أغدو نحو قبرك ثاكلا )
( وقد كنت في مدحيك سحبان وائل ... فها أنا من فرط التأسف باقلا )
وله أيضا
( الصبر أولى بوقار الفتى ... من ملك يهتك ستر الوقار )
( من لزم الصبر على حالة ... كان على أيامه بالخيار )
وكتب أبو علي الحسن بن الغليظ إلى صاحبه أبي عبد الله بن السراج وقد قدم من سفر

( يا من أقلب طرفي في محاسنه ... فلا أرى مثله في الناس إنسانا )
( لو كنت تعلم ما لقيت بعدك ما ... شربت كأسا ولا استحسنت ريحانا )
فورد عليه من حينه وقال أردت مجاوبتك فخفت أن أبطىء وصنعت الجواب في الطريق
( يا من إذا ما سقتني الراح راحته ... أهدت إلي بها روحا وريحانا )
( من لم يكن في صباح السبت يأخذها ... فليس عندي بحكم الظرف إنسانا )
( فكن على حسن هذا اليوم مصطبحا مذكرا حسنا فيه وإحسانا )
( وفي البساتين إن ضاق المحل بنا ... مندوحة لا عدمنا الدهر بستانا )
ووفد أبو علي الحسن بن كسرين المالقي الشاعر المشهور على ملك إشبيلية السيد أبي إسحاق إبراهيم ابن أمير المؤمنين يوسف ابن امير المؤمنين عبد المؤمن بن علي فأنشده قصيدة طار مطلعها في الاقطار كل مطار وهو
( قسما بحمص إنه لعظيم ... فهي المقام وأنت إبراهيم )
ووصف الشاعر عطاء المالقي غادة جعلت على رأسها تاجا فقال
( وذات تاج رصعوا دوره ... فزاد في لألائها بالآل )
( كأنها شمس وقد توجت ... بأنجم الجوزاء فوق الهلال )
( قد اشتكى الخلخال منها إلى ... سوارها فاشتبها في المقال )
( وأجريا ذكر الوشاح الذي لما يزل من خصرها في مجال )
( فقال لم أرض بما نلته ... وليتني مثلكما لا أزال )
( لأغص بالخصر وأعيا به ... كغص ظمآن بماء زلال )
( وإنما الدهر بغير الرضى ... يقضي فكل غير راض بحال )

وهو القائل
( سل بحمامنا الذي ... كل عن شكره فمي )
( كم أراني بقربه ... جنة في جهنم )
وكان يحضر حلقة الإمام السهيلي وضيء الوجه من تلامذته فانقطع لعارض فخرج السهيلي مارا في الطريق الذي جرت عادته بالمشي فيه فوجد قناة تصلح فمنعته من المرور فرجع وسلك طريقا آخر فمر على دار تلميذه الوضيء فقال له بعض أصحابه ممازحا بعبوره على منزله فقال نعم وأنشد ارتجالا
( جعلت طريقي على بابه ... ومالي على بابه من طريق )
( وعاديت من أجله جيرتي ... وآخيت من لم يكن لي صديق )
( فإن كان قتلي حلالا لكم ... فسيروا بروحي سيرا رفيق )
وأبو القاسم السهيلي مشهور عرف به ابن خلكان وغيره
ويكنى أيضا بأبي زيد وهو صاحب كتاب الروض الأنف وغيره
واجتاز على سهيل وقد خربه العدو لما أغار عليه وقتلوا أهله وأقاربه وكان غائبا عنهم فاستأجر من أركبه دابة وأتى به إليه فوقف بإزائه
( يا دار أين البيض والآرام أم أين جيران علي كرام )
( راب المحب من المنازل أنه ... حيا فلم يرجع إليه سلام )
( لما أجابني الصدى عنهم ولم يلج المسامع للحبيب كلام طارحت ورق حمامها مترنما بمقال صب والدموع سجام ( يا دار ما فعلت بك الأيام ضامتك والأيام ليس تضام )

وجرى بين السهيلي والرصافي الشاعر المشهور ما اقتضى قول الرصافي
( عفا الله عني فإني امرؤ ... أتيت السلامة من بابها )
( على أن عندي لمن هاجني ... كنائن غصت بنشابها )
( ولو كنت أرمي بها مسلما ... لكان السهيلي أولى بها )
وتوفي السهيلي بمراكش سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة وزرت قبره بها مرارا سنة عشر وألف وسكن رحمه الله تعالى إشبيلية مدة ولازم القاضي أبا بكر بن العربي وابن الطراوة وعنه أخذ لسان العرب وكان ضريرا ومن شعره أيضا لما قال ( ( كيف أمسيت ) ) موضع ( ( كيف أصبحت ) )
( لئن قلت صبحا كيف أمسيت مخطئا ... فما أنا في ذاك الخطا بملوم )
( طلعت وأفقي مظلم لفراقكم ... فخلتك بدرا والمساء همومي )
وحكي أن الوزير الكاتب أبا الفضل بن حسداي الإسلامي السرقسطي وهو من رجال الذخيرة عشق جارية ذهبت بلبه وغلبت على قلبه فجن بها جنونه وخلع عليها دينه وعلم بذلك صاحبه فزفها إليه وجعل زمامها في يديه فتحافى عن موضعه من وصلها أنفة من أن يظن الناس أن إسلامه كان من أجلها فحسن ذكره وخفي على كثير من الناس أمره ومن شعره قوله
( وأطربنا غيم يمازج شمسه ... فيستر طورا بالسحاب ويكشف )
( ترى قزحا في الجو يفتح قوسه ... مكبا على قطن من الثلج يندف )
وكان في مجلس المقتدر بن هود ينظر في مجلد فدخل الوزير الكاتب أبو

الفضل بن الدباغ وأراد أن يندر به فقال له وكان ذلك بعد إسلامه يا أبا الفضل ما الذي تنظر فيه من الكتب لعله التوراة فقال نعم وتجليدها من جلد دبغه من تعلم فمات خجلا وضحك المقتدر
وأراد الشاعر أبو الربيع سليمان السرقسطي حضور نديم له فكتب إليه
( بالراح والريحان والياسمين ... وبكرة الندمان قبل الأذين )
( وبهجة الروض بأندائه مقلدا منه بعقد ثمين ألا أجب سبقا ندائي إلى الكأس ... تبدت لذة الشاربين )
( هامت بها الأعين من قبل أن ... يخبرها الذوق بحق اليقين )
( لاحت لدينا شفقا معلنا ... فكن لها بالله صبحا مبين )
وكتب علي بن خير التطيلي إلى ابن عبد الصمد السرقسطي يستدعيه إلى مجلس أنس أنا - أطال الله تعالى بقاء الكاتب سراج العلم وشهاب الفهم ! - في مجلس قد عبقت تفاحه وضحكت راحه وخفقت حولنا للطرب ألوية وسالت بيننا للهو أودية وحضرتنا مقلة تسأل منك إنسانها وصحيفة فكن عنوانها فإن رأيت أن تجعل إلينا القصد لنحصل بك في جنة الخلد صقلت نفوسا أصدأها بعدك وأبرزت شموسا أدجاها فقدك

فأجابه ابن عبد الصمد فضضت - أيها الكاتب العليم والمصقع الحبر الصميم - طابع كتابك فمنحني منه جوهر منتخب لا يشوبه مخشلب هو السحر إلا أنه حلال دل على ود حنيت ضلوعك عليه ووثيق عهد انتدب كريم سجيتك إليه فسألت فالق الحب وعامر القلب بالحب أن يصون لي حظي منك ويدرأ لي النوائب عنك ولم يمنعني أن أصرف وجه الإجابة إلى مرغوبك وأمتطي جواد الانحدار إلى محبوبك إلا عارض ألم ألم بي فقيد يقيده نشاطي وروى براحته بساطي وتركني أتململ على فراشي كالسليم وأستمطر الإصباح منم الليل البهيم وأنا منتظر لإدباره
ومن لطف أهل الأندلس ورقة طباعهم ما حكاه أبو عمرو بن سالم المالقي قال كنت جالسا بمنزلي بمالقة فهاجت نفسي أن أخرج إلى الجبانة وكان يوما شديد الحر فراودتها على القعود فلم تمكني من القعود فمشيت حتى انتهيت إلى مسجد يعرف برابطة الغبار وعنده الخطيب أبو محمد عبد الوهاب بن علي المالقي فقال لي إني كنت أدعو الله تعالى أن يأتيني بك وقد فعل فالحمد لله فأخبرته بما كان مني ثم جلست عنده فقال أنشدني فأنشدته لبعض الأندلسيين
( غصبوا الصباح فقسموه خدودا ... واستوعبوا قضب الأراك قدودا )
( ورأوا حصى الياقوت دون نحورهم ... فتقلدوا شهب النجوم عقودا )
( لم يكفهم حد الأسنة والظبى حتى استعاروا أعينا وخدودا )
فصاح الشيخ وأغمي عليه وتصبب عرقا ثم أفاق بعد ساعة وقال يا بني اعذرني فشيئان يقهراني ولا أملك نفسي عندهما النظر إلى الوجه الحسن وسماع الشعر المطبوع انتهى
وستأتي هذه الأبيات في هذا الباب

بأتم من هذا وعلى كل حال فهي لأهل الأندلس لا لابن دريد كما ذكره بعضهم وسيأتي تسمية صاحبها الأندلسي كما في كتاب المغرب لابن سعيد العنسي المشهور رحمه الله تعالى
وقال بعض الأدباء ليحيى الجزار وهو يبيع لحم ضأن
( لحم إناث الكباش مهزول ... )
فقال يحيى
( يقول للمشترين مه زولوا ... )
وقال التطيلي الأعمى في وصف أسد رخام يرمي بالماء على بحيرة
( أسد ولو أني أنا ... قشه الحساب لقلت صخره )
( وكأنه أسد السماء ... يمج من فيه المجره ) وحضر جماعة من أعيان الأدباء مثل الأبيض وابن بقي وغيرهما من الوشاحين واتفقوا على أن يصنع كل واحد منهم موشحة فلما أنشد الأعمى موشحته التي مطلعها
( ضاحك عن جمان ... سافر عن بدر )
( ضاق عنه الزمان ... وحواه صدري )
خرق كل منهم موشحته
وتحاكمت امرأة إلى القاضي أبي محمد عبد الله اللاردي الأصبحي

وكانت ذات جمال ونادرة فحكم لزوجها عليها فقالت له من يضيع قلبه كل طرف فاتر جدير أن يحكم بهذا تشير إلى قوله
( أين قلبي أضاعه كل طرف ... فاتر يصرع الحليم لديه )
( كلما ازداد ضعفه ازداد ... فتكا أي صبر ترى يكون عليه )
وحضر أبو إسحاق بن خفاجة مجلسا بمرسية مع أبي محمد جعفر بن عنق الفضة الفقيه السالمي وتذاكرا فاستطال ابن عنق الفضة ولعب بأطراف الكلام ولم يكن ابن خفاجة يعرفه فقال له يا هذا لم تترك لأحد حظا في هذا المجلس ! فليت شعري من تكون فقال أنا القائل
( الهوى علمني سهد الليال ... ونظام الشعر في هذي اللآل )
( كلما هبت شمال منهم ... لعبت بي عن يمين وشمال )
( وأرقت فكرتي أرواحها ... فأتت منهن بالسحر الحلال )
( كان كالملح أجاجا خاطري ... وسحاب الحب أبدته زلال )
فاهتز ابن خفاجة وقال من يكون هذا قوله لا ينبغي أن يجهل ولك المعذرة في جهلك فإنك لم تعرفنا بنفسك فبالله من تكون فقال أنا فلان فعرفه وقضى حقه
وحكى ابن غالب في فرحة الأنفس أن الوزير أبا عثمان ابن شنتفير وأبا عامر ابن عند شلب وفدا رسولين على المعتمد بن عباد عن إقبال الدولة بن مجاهد والمعتصم بن صمادح والمقتدر بن هود لإصلاح ما كان بين المعتمد وبين ابن ذي النون فسر المعتمد بهم وأكرمهم ودعاهم إلى طعام صنعه لهم وكان لا يظهر شرب الراح منذ ولي الملك فلما رأوا انقباضه عن ذلك تحاموا الشراب فلما أمر بكتب أجوبتهم كتب إليه أبو عامر

( بقيت حاجة لعبد رغيب ... لم يدع غيرها له من نصيب )
أنا خيرية المساء حديثا ... وأنا في الصباح أخشى رقيبي )
( فإذا أمس كان عندي نهارا ... لم تخفني عليه بعد الغروب )
( وإذا الليل جن حدثت جلاسي ... بما كان من حديث غجيب )
( قيل إن الدجى لديك نهار ... وكذاك الدجى نهار الأريب )
( فتمنيت ليلة ليس فيها ... لذكا ذلك السنا من مغيب )
( حيث أعطيك في الخلاء وتعطيني ... مداما كمثل ريق الحبيب )
( ثم أغدو كأنني كنت في النوم ... وأخفي المنام خوف هزيب )
والهزيب الرقيب العتيد في كلام أهل الأندلس فسر المعتمد وانبسط بانبساطه وضحك من مجونه وكتب إليه
( يا مجابا دعا إلى مستجيب ... فسمعنا دعاءه من قريب )
( إن فعلت الذي دعوت إليه ... كنت فيما رغبت عين رغيب )
واستحضره فنادمه خاليا وكساه ووصله وانقلب مسرورا وظن المعتمد أن ذلك يخفى من فعله عن ابن شنتفير فأعلم بالأمر القائد ابن مرتين فكاد يتفطر حسدا وكتب إلى المعتمد
( أنا عبد أوليته كل بر ... لم تدع من فنون برك فنا )
( غير رفع الحجاب في شربك الرا ح ... فماذا جناه أن يتجنى )
( وتمنى شراب سؤرك في الكأس ... فبالله أعطه ما تمنى ) فسرته أبياته وأجابه

( يا كريم المحل في كل معنى ... والكريم المحل ليس يعنى )
( هذه الخمر تبتغيك فخذها ... أو فدعها أو كيفما شئت كنا )
وكان يقرأ في مجلس ملك السهلة أبي مروان بن رزين ذي الرياستين ديوان شعر محمد بن هانئ وكان القارئ فيه بله فلما وصل إلى قوله
( حرام حرام زمان الفقير ... ) اتفق أن عرض للملك ما اشتغل به فقال للقارئ أين وقفت فقال في حرام فقام الملك وقال هذا موضع لا أقف معك فيه ادخل أنت وحدك ثم دخل إلى قصره وانقلب المجلس ضحكا وكان للملك المذكور وزير من أعاجيب الدهر وهو الكاتب أبو بكر ابن سدراي وذكره الحجاري في المسهب وقال إن له شعرا أرق من نسيم السحر وأندى من الطل على الزهر ومنه قوله
( ما ضركم لو بعثتم ... ولو بأدنى تحيه )
( تهزني من شذاها ... إليكم الأريحيه )
( خذوا سلامي إليكم ... مع الرياح النديه )
( في كل سحرة يوم ... تترى وكل عشيه )
( يا رب طال اصطباري ... ما الوجد إلا بليه )
( غيلان بالشرق أضحى ... وحلت الغرب ميه )
وقوله
( سأبغي المجد في شرق وغرب ... فما ساد الفتى دون اغتراب )

( فإن بلغت مأمولا فإني ... جهدت ولم أقصر في الطلاب )
( وإن أنا لم أفز بمراد سعيي ... فكم من حسرة تحت التراب )
وقال ملك بلنسية مروان بن عبد العزيز لما ولي مكانه من لا يساويه
( ولا غرو بعدي أن يسود معشر ... فيضحي لهم يوم وليس لهم أمس )
( كذاك نجوم الجو تبدو زواهرا ... إذا ما توارت في مغاربها الشمس )
وقال ابن دحية دخلت عليه وهو يتوضأ فنظر إلى لحيته وقد اشتعلت بالشيب اشتعالا فأنشدني لنفسه ارتجالا
( ولما رأيت الشيب أيقنت أنه ... نذير لجسمي بانهدام بنائه )
( إذا ابيض مخضر النبات فإنه ... دليل على استحصاده وفنائه ) واعتل ابن ذي الوزارتين أبي عامر بن الفرج وزير المأمون بن ذي النون وهو من رجال الذخيرة والقلائد فوصف له أن يتداوى بالخمر العتيق وبلغه أن عند بعض الغلمان منها شيئا فكتب إليه يستهديه
( ابعث بها مثل ودك ... أرق من ماء خدك )
( شقيقة النفس فانضح ... بها جوى ابني وعبدك )
وهو القائل معتذرا عن تخلفه عمن جاءه منذرا

( ما تخلفت عنك إلا لعذر ... ودليلي في ذاك خوفي عليكا )
( هبك أن الفرار من غير عذر ... أتراه يكون إلا إليكا ) وله من رسالة هناء
( أهنئ بالعيد من وجهه ... هو العيد لو لاح لي طالعا )
( وأدعو إلي الله سبحانه ... بشمل يكون لنا جامعا )
وكتب إلى الوزير المصري يستدعيه أن يكون من ندمائه فكتب إليه الوزير المصري يستعلمه اليوم فلما أراده كتب إليه
( ها قد أهبت بكم وكلكم هوى ... وأحقكم بالشكر مني السابق )
( كالشمس أنت وقد أظل طلوعها ... فاطلع وبين يديك فجر صادق )
وله في رئيس مرسية أبي عبد الرحمن بن طاهر وكان ممتع المجالسة كثير النادرة
( قد رأينا منك الذي قد سمعنا ... فغدا الخبر عاضد الأخبار )
( قد وردنا لديك بحرا نميرا ... وارتقينا حيث النجوم الدراري )
( ولكم مجلس لديك انصرفنا ... عنه مثل الصبا عن الأزهار
وشرب الأديب الفاضل أبو الحسن علي بن حريق عشية مع من يهواه ورام الانفصال عند لداره فمنعه سيل حال بينه وبين داره فبات عنده على غير اختياره فقال ابن حريق

( يا ليلة جادت الليالي ... بها على رغم أنف دهري )
( للسيل فيها علي نعمى ... يقصر عنها لسان شكري )
( أبات في منزلي حبيبي ... وقام في أهله بعذر )
( فبت لا حالة كحالي ... ضجيع بدر صريع سكر )
( يا ليلة القدر في الليالي ... لأنت خير من ألف شهر )
ومن حسنات ابن حريق المذكور قوله
( يا ويح من بالمغرب الأقصى ثوى ... حلف النوى وحبيبه بالمشرق )
( لولا الحذار على الورى لملأت ما ... بيني وبينك من زفير محرق )
( وسكبت دمعي ثم قلت لسكبه ... من لم يذب من زفرة فليغرق )
( لكن خشيت عقاب ربي إن أنا ... أحرقت أو أغرقت من لم أخلق )
وله
( لم يبق عندي للصبا لذة ... إلا الأحاديث على الخمر )
وله
( فقبلت إثرك فوق الثرى ... وعانقت ذكرك في مضجعي ) وله
( إن ماء كان في وجنتها ... وردته السن حتى نشفا )
( وذوى العناب من أنملها ... فأعادته الليالي حشفا
وأورد له أبو بحر في زاد المسافر قوله

( كلمته فاحمر من خجل ... حتى اكتسى بالعسجد الورق )
( وسألته تقبيل راحته ... فأبى وقال أخاف أحترق )
( حتى زفيري عاق عن أملي ... إن الشقي بريقه شرق ) وقوله في السواقي
( وكأنما سكن الأراقم جوفها ... من عهد نوح مدة الطوفان )
( فإذا رأينا الماء يطفح نضنضت ... من كل خرق حية بلسان )
وقال الفيلسوف أبو جعفر ابن الذهبي فيمن جمع بينه وبين أحد الفضلاء
( أيها الفاضل الذي قد هداني ... نحو من قد حمدته باختبار )
( شكر الله ما أتيت وجازاك ... ولا زلت نجم هدي لساري )
( أي برق أفاد أي غمام ... وصباح أدى لضوء نهار )
( وإذا ما النسيم كان دليلي ... لم يحلني إلا على الأزهار )
وأنشد أبو عبد الله محمد بن عبادة الوشاح المعتصم بن صمادح شعرا يقول فيه
( ولو لم أكن عبدا لآل صمادح ... وفي أرضهم أصلي وعيشي ومولدي
( لما كان لي إلا إليهم ترحل ... وفي ظلهم أمسي اضحي وأغتدي )
فارتاح وقال يا ابن عبادة ما أنصفناك بل أنت الحر لا العبد فاشرح لنا في أملك فقال أنا عبدكم كما قال ابن نباتة
( لم يبق جودك لي شيئا أؤمله ... تركتني أصحب الدنيا بلا أمل )

فالتفت إلى ابنه الواثق يحيى ولي عهده وقال إذا اصطنعت الرجال فمثل هذا فاصطنع ضمه إليك وافعل معه ما تقتضيه وصيتي به ونبهني إليه كل وقت فأقام نديما لولي العهد المذكور
وله فيهما الموشحات المشهورة كقوله
( كم في قدود البان ... تحت اللمم من أقمر عواطي )
( بأنمل وبنان مثل العنم ... لم تنبري للعاطي )
ولما بلغ المعتصم أن خلف بن فرج السميسر هجاه احتال في طلبه حتى حصل في قبضته ثم قال له أنشدني ما قلت في فقال له وحق من حصلني في يدك ما قلت شرا فيك وإنما قلت
( رأيت آدم في نومي فقلت له ... أبا البرية إن الناس قد حكموا )
( أن البرابر نسل منك قال إذن ... حواء طالقة إن كان ما زعموا )
فنذر ابن بلقين صاحب غرناطة دمي فخرجت إلى بلادك هاربا فوضع علي من أشاع ما بلغك عني لتقتلني أنت فيدرك ثأره بك ويكون الإثم عليك فقال وما قلت فيه خاصة مضافا إلى ما قلته في عامة قومه فقال لما رأيته مشغوفا بتشييد قلعته التي يتحصن فيها بغرناطة قلت
( يبني على نفسه سفاها ... كأنه دودة الحرير )
فقال له المعتصم لقد أحسنت في الإساءة إليه فاختر هل أحسن إليك وأخلي سبيلك أم أجيرك منه فارتجل
( خيرني المعتصم وهو بقصدي أعلم

( وهو إذا يجمع لي ... أمنا ومنا أكرم )
فقال خاطرك خاطر شيطان ولك المن والأمان فأقام في إحسانه بأوطانه حتى خلع عن ملكه وسلطانه
ولما أنشده عمر بن الشهيد قصيدته التي يقول فيها
( سبط البنان كأن كل غمامة ... قد ركبت في راحتيه أناملا )
( لا عيش إلا حيث كنت وإنما ... تمضي ليالي العمر بعدك باطلا ) التفت إلى من حضر من الشعراء وقال هل فيكم من يحسن أن يجلب القلوب بمثل هذا فقال أبو جعفر بن الخراز البطرني نعم ولكن للسعادة هبات وقد أنشدت مولانا قبل هذا أبياتا أقول فيها
( وما زلت أجني منك والدهر ممحل ... ولا ثمر يجنى ولا الزرع يحصد )
( ثمار أياد دانيات قطوفها ... لأغصانها ظل علي ممدد )
( يرى جاريا ماء المكارم تحتها ... وأطيار شكري فوقهن تغرد )
فارتاح المعتصم وقال أأنت أنشدتني هذا قال نعم قال والله كأنها ما مرت بسمعي إلى الآن صدقت للسعد هبات ونحن نجيزك عليها بجائزتين الأولى لها والثانية لمطل راجيها وغمط إحسانها انتهى

وقال بعض ذرية ملوك إشبيلية
( نثر الورد بالخليج وقد درجه ... بالهبوب مرالرياح )
( مثل درع الكمي مزقها الطعن ... فسالت بها دماء الجراح )
وقال ابن صارة في النارنج
( كرات عقيق في غصون زبرجد ... بكف نسيم الريح منها صوالج )
نقلبها طورا وطورا نشمها ... فهن خدود بيننا ونوافج )
أشعارابن الزقاق
وقال أبو الحسن بن الزقاق ابن أخت ابن خفاجة
( وما شق وجنته عابثا ... ولكنها آية للبشر )
( جلاها لنا الله كيما نرى ... بها كيف كان انشقاق القمر ) وقال
( ضربوا ببطن الواديين قبابهم ... بين الصوارم والقنا المياد )
( والورق تهتف حولهم طربا بهم ... فبكل محنية ترنم شادي )
( يا بانة الوادي كفى حزنا بنا ... أن لا نطارح غير بانة وادي )
وقال
( نحن في مجلس به كمل الأنس ... ولو زرتنا لزاد كمالا

طلعت فيه من كؤوس الحميا ... ومن الزهر أنجم تتلالا )
( غير أن النجوم دون هلال ... فلتكن منعما لهن الهلالا )
وقال
( هويتها سمراء غنت وانثنت ... فنظرت من ورقاء في أملودها )
( تشدو ووسواس الحلي يجيبها ... مهما انثنت في وشيها وعقودها )
( أو ليس من بدع الزمان حمامة ... غنت فغنى طوقها في جيدها ) وقال
( لئن بكيت دما والعزم من شيمي ... على الخليط فقد يبكي الحسام دما )
أشعار للحجام
وقال أبو تمام غالب بن رباح الحجام في دولاب طار منه لوح فوقف
( وذات شدو وما لها حلم ... كل فتى بالضمير حياها )
( وطار لوح بها فأوقفها ... كلمحة العين ثم أجراها )
وكان المذكور ربي في قلعة رباح غربي طليطلة ولا يعلم له أب وتعلم الحجامة فأتقنها ثم تعلق بالأدب حتى صار آية وهو القائل في ثريا الجامع
( تحكي الثريا في تألقها ... وقد عراها نسيم فهي تتقد )

( كأنها لذوي الإيمان أفئدة ... من التخشع جوف الليل ترتعد ) وقال
( زرت الحبيب ولا شيء أحاذره ... في ليلة قد لوت بالغمض أشفارا )
( في ليلة خلت من حسن كواكبها ... دراهما وحسبت البدر دينارا )
وقال في الثريا أيضا
( انظر إلى سرج في الليل مشرقة ... من الزجاج تراها وهي تلتهب )
( كأنها ألسن الحيات قد برزت عند الهجير فما تنفك تضطرب وقال
( ترى النسر والقتلى على عدد الحصى ... وقد مزقت لترائبا )
( مضرجة مما أكلن كأنها ... عجائز بالحنا خضبن ذوائبا )
وقال وقد ابدع غاية الإبداع وأتى بما يحير الألباب وإن كان أبو نواس فاتح هذا الباب
( وكأس ترى كسرى بها في قرارة ... غريقا ولكن في خليج من الخمر )
( وما صورته فارس عبثا به ... ولكنهم جاؤوا بأخفى من السحر )
( أشاروا بما كانوا له في حياته ... فنومي إليه بالسجود وما ندري ) وما أحلى قوله
( الأقحوان رمى عليك ظلامة ... لما عنفت عليه بالمسواك )

( لا يحمل النور الأنيق تمسه ... كف بعود بشامة وأراك )
( وجلاؤه المخلوق فيه قد كفى ... من أن يراع عراره بسواك ) وقوله
( صغار الناس أكثرهم فسادا ... وليس لهم لصالحة نهوض )
( ألم تر في سباع الطير سرا ... تسالمنا ويأكلنا البعوض )
وقد بلغ غاية الإحسان في قوله
( فما للملك ليس يرى مكاني ... وقد كحلت لواحظه بنوري )
( كذا المسواك مطرحا مهانا ... وقد أبقى جلاء في الثغور )
ومن حسناته قوله
( لي صاحب لا كان من صاحب ... فإنه في كبدي جرحه )
( يحكي إذا أبصر لي زلة ... ذبابة تضرب في قرحه )
ولقيه أبو حاتم الحجاري على فرس في غاية الضعف والرذالة قد أهلكها الوجى وكانا في جماعتين فقال له يا أبا تمام أنشدني قولك
( وتحتي ريح تسبق الريح إن جرت ... وما خلت أن الريح ذات قوائم )
( لها في المدى سبق إلى كل غاية ... كأن لها سبقا يفوق عزائمي )
( وهمة نفسي نزهتها عن الوجى ... فيا عجبا حتى العلا في البهائم )
فلما انشده إياها رد رأسه أبو حاتم إلى الجماعتين وقال ناشدتكم الله

أيجوز لحجام على فرس مثل هذه الرمكة الهزيلة العرجاء أن يقول مثل هذا فضحك جميع من حضر وأقبل أبو تمام في غيظه يسبه
ومن شعر الحجام المذكور قوله
( لا يفخر السيف والأقلام في يده ... قد صار قطع سيوف الهند للقصب )
( فإن يكن أصلها لم يقو قوتها ... فإن في الخمر معنى ليس في العنب ) وقال
( ثقلت على الأعداء إلا أنها ... خفت على السباب والإبهام )
( أخذت من الليل البهيم سواده ... وبدت تنمق أوجه الأيام ) وقال
( نظر الحسود فازدرى لي هيئة ... والفضل مني لا يزال مبينا )
( قبحت صفاتي من تغير وده ... صدأ المراة يقبح التحسينا ) وقال
( تصبر وإن أبدى العدو مذمة ... فمهما رمى ترجع إليه سهامه )
( كما يفعل النحل الملم بلسعه ... يريد به ضرا وفيه حمامه ) وقال
( وبارد الشعر لم يؤلم به ولقد ... أضر منه جميع الناس واعتزلا )
( كأنه الصل لا تؤذيه ريقته ... حتى إذا مجها في غيره قتلا )

وقال أبو بكر محمد بن أزرق
( هل علم الطائر في أيكه ... بأن قلبي للحمى طائر )
( ذكرني عهد الصبا شجوه ... وكل صب للصبا ذاكر )
( سقى عهود لهم بالحمى ... دمع له ذكرهم ناثر )
وقال أبو جعفر بن أزرق
( أراك ملكت الخافقين مهابة ... بها ما تلح الشهب بالخفقان )
( وتغضي العيون عن سناك كأنها ... تقابل منك الشمس في اللمعان )
( وتصفر ألوان العداة كأنما ... رموا منك طول الدهر باليرقان )
وقال أبو القاسم ابن أزرق
( ذاك الزمان الذي تقضى ... يا ليته عاد منه حين )
( بكل عمري الذي تبقى ... وما أنا في الشراغبين )
راشد بن عريف الكاتب
( جمع في مجلس ندامى ... تحسدني فيهم النجوم )
( فقال لي منهم نديم ما لك إذ قمت لا تقوم )
( فقلت إن قمت كل حين ... فإن حظي بكم عظيم )
( وليس عندي إذن ندامى ... بل عندي المقعد المقيم )

وقال الحسيب أبو جعفر بن عائش
( ولي أخ أورده سلسلا ... لكنه يوردني مالحا )
ألقاه كي أبسطه ضاحكا ويلتقيني أبدا كالحا )
( وليس ينفك عنائي به ... ما رمت من فاسده صالحا )
قال الحجاري وكتب إلى جدي إبراهيم في يوم صحو بعد مطر
( إذا رأيت الجو يصحو فلا ... تصح سقاك الله من سكر )
( تعال فانظر لدموع الندى ... ما فعلت في مبسم الزهر )
( ولا تقل إنك في شاغل ... فليس هذا آخر الدهر )
( يخلف ما فات سوى ساعة ... تقنص فيها لذة الخمر ) فأجابه
( لبيك لبيك ولو أنني ... أسعى على الرأس إلى مصر )
( فكيف والدار جواري وما ... عندي من شغل ولا عذر )
( ولو غدا لي ألف شغل بلا ... عذر تركت الكل للحشر )
( وكلما أبصرني ناظر ... ببابكم عظم من قدري )
( أنا الذي يشربها دائما ... ماحضرت في الصحو والقطر )
( وليس نقلي أبدا بعدها ... إلا الذي تعهد من شكري
قال الحجاري ولم يقصر جدي في جوابه ولكن ابن عائش أشعر منه في ابتدائه ولو لم يكن له إلا قوله ( ( تعال فانظر - إلخ ) ) لكفاه ] قال وفيه يقول جدي إبراهيم يمدحه

( ولو كان ثان في الندى لابن عائش ... لما كان في شرق وغرب أخو فقر )
( يهش إلى الأمداح كالغصن للصبا ... وبشر محياه ينوب عن الزهر )
( فيا رب زد في عمره إن عمره ... حياة أناس قد كفوا كلفة الدهر )
وقتله ابن مسعدة ملك وادي الحجارة الثائر بها ولما قدمه ليقتله قال ارفق علي حتى أخاصم عن نفسي فقال على لسانك قتلناك فقال له لا رفق الله عليك يوم تحتاج إلى رفقه ! فقال بجبروته ما رهبنا السيوف الحداد نرهب دعاء الحساد
وقال أبو علي الحسن علي بن شعيب
( انزعي الوشي فهو يستر حسنا ... لم تحزه برقمهن الثياب )
( ودعيني عسى أقبل ثغرا ... لذ فيه اللمى وطاب الرضاب )
( وعجيب أن تهجريني ظلما ... وشفيعي إلى صباك الشباب )
وقال أخوه أبو حامد الحسين حين كبا به فرسه فحصل في اسر العدو
( وكنت أعد طرفي للرزايا ... يخلصني إذا جعلت تحوم )
( فأصبح للعدا عونا لأني ... أطلت عناءه فأنا الظلوم )
( وكم دامت مسراتي عليه ... وهل شيء على الدنيا يدوم )
وقال أبو الحسن علي بن رجاء صاحب دار السكة والأحباس بقرطبة

( يا سائلي عن حالتي إنني ... لا أشتكي حالي لمن يضعف )
( مع أنني أحذر من نقده ... لا سيما إن كان لا ينصف )
وأنشد له الحميدي في ( ( الجذوة ) )
( قل لمن نال عرض من لم ينله ... حسبنا ذو الجلال والإكرام )
( لم يزدني شيئا سوى حسنات ... لا ولا نفسه سوى آثام )
( كان ذا منعة فثقل ميزاني ... بهذا فصار من خدامي )
وقال أبو محمد القاسم بن الفتح
( أيام عمرك تذهب ... وجميع سعيك يكتب )
( ثم الشهيد عليك منك ... فأين أين المهرب )
وقال أبو مروان عبد الملك بن غصن
( فديتك لا تخف مني سلوا ... إذا ما غير الشعر الصغارا )
( أهيم بدن خمر صار خلا ... وأهوى لحية كانت عذارا )
وقال
( قد ألحف الغيم بانسكابه ... والتحف الجو في سحابه )
( وقام داعي السرور يدعو ... حي على الدن وانتهابه )
( وتاه فيه النديم مما ... يزدحم الناس عند بابه )
( وكان أحد الأعلام في الآداب والتاريخ والتأليف

ونقم عليه المأمون بن ذي النون بسبب صحبته لرئيس بلده ابن عبيدة وبلغه أنه يقع فيه فنكبه أشر نكبة وحبسه فكتب إليه من السجن
( فديتك هل لي منك رحمى لعلني ... أفارق قبرا في الحياة فأنشر )
( وليس عقاب المذنبين بمنكر ... ولكن دوام السخط والعتب ينكر )
( ومن عجب ... قول العداة مثقل )
( ومثلي في إلحاحه الدهر يعذر ... )
وألف للمأمون رسالة ( ( السجن والمسجون والحزن والمحزون ) ) ورسالة أخرى سماها ب ( ( العشر كلمات ) ) وقال
( يا فتية خيرة فدتهم ... من حادثات الزمان نفسي )
( شربهم الخمر في بكور ... ونطقهم عندها بهمس )
( أما ترون الشتاء يلقي ... في الأرض بسطا من الدمقس )
( مقطب عابس ينادي ... يوم سرور ويوم أنس ) وقال عنه الحميدي في الجذوة أنه شاعر أديب دخل المشرق وتأدب وحج ورجع وشعره كثير وله أبيات كتبها في طريق الحج إلى أحد القضاة
( يا قاضيا عدلا كأن أمامه ... ملك يريه واضح المنهاج )
( طافت بعبدك في بلادك علة ... قعدت به عن مقصد الحجاج )
( واعتل في البحر الأجاج فكن له ... بحرا من المعروف غير أجاج ) وقال الزاهد الورع المحدث أبو محمد إسماعيل ابن الديواني

( ألا أيها العائب المعتدي ... ومن لم يزل مؤذيا ازدد )
( مساعيك يكتبها الكاتبون ... فبيض كتابك أو سود )
وقال ابنه أبو بكر محمد
( خاصم عدوك باللسان ... وإن قدرت فبالسنان )
( إن العداوة ليس يصلحها ... الخضوع مدى الزمان )
وقال إبراهيم الحجاري جد صاحب المسهب
( لئن كرهوا يوم الوداع فإنني ... أهيم به وجدا من اجل عناقه )
( أصافح من أهواه غير مساتر ... وسر التلاقي مودع في فراقه )
وقال
( كن كما شئت إنني لا أحول ... غير مصغ لما يقول العذول )
( لك والله في الفؤاد محل ... ما إليه مدى الزمان وصول )
( ومرادي بأن تزور خفيا ... ليت شعري متى يكون السبيل )
وقال
( قد توالت في حالتينا الظنون ... فلنصدق ما كذبته العيون )
( ومرادي بأن تلوح بأفقي ... بدر تم وذاك ما لا يكون )
( أنا قد قلت ما دعاني إليه ... كثرة اليأس والحديث شجون )
( وإذا شئت أن تسفه رأيي ... فمحلي من الرقيب مصون وبه ما تشاء من كل معنى ... كل من لم يجب له مجنون )

( وإلى كم تضل ليل الأماني ... ومن اليأس لاح صبح مبين ) وقال
( سألته عن أبيه ... فقال خالي فلان )
( فانظر عجائب ما قد ... أتت به الأزمان )
( دهر عجيب لديه ... عن المعالي حران )
( فما له غير ذم ... كما تدين تدان )
وقال الكاتب العالم أبو محمد ابن خيرة الإشبيلي صاحب كتاب الريحان والريعان يمدح السيد أبا حفص ملك إشبيلية ابن أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي من قصيدة
( كأنما الأفق صرح والنجوم به ... كواعب وظلام الليل حاجبه )
( وللهلال اعتراض في مطالعه ... كأنه أسود قد شاب حاجبه )
( وأقبل الصبح فاستحيت مشارقه ... وأدبر الليل فاستخفت كواكبه )
( كالسيد الماجد الأعلى الهمام أبي ... حفص لرحلته ضمت مضاربه )
وأنشد له ابن الإمام في سمط الجمان
( رعيا لمنزله الخصيب وظله ... وسقى الثرى النجدي سح ربابه )
( واها على ساداته لا أدعي ... كلفا بزينبه ولا بربابه )
ويعرف رحمه الله تعالى بابن المواعيني

وقال ابنه أبو جعفر أحمد
( يا أخي هاتها وحجب سناها ... عن مثير بها جنونا وسخفا )
( هذه الشمس إن بدت لضعيف العين ... زادت في ذلك الضعف ضعفا )
( إنما يشرب المدامة من إن ... خشنت كفه جفاها وكفا )
وكتب الوزير أبو الوليد إسماعيل بن حبيب الملقب بحبيب إلى أبيه لما خلق الربيع من أخلاقك الغر وسرق زهره من شيمك الزهر حسن في كل عين منظره وطاب في كل سمع خبره وتاقت النفوس إلى الراحة فيه ومالت إلى الإشراف على بعض ما يحتويه من النور الذي بسط على الأرض حللا لا ترى في أثنائها خللا سلوك نثرت على الثرى وقد ملئت مسكا وعنبرا إن تنسمتها فأرجة أو توسمتها فبهجة
( فالأرض في بزة من يانع الزهر ... تزري إذا قستها بالوشي والحبر )
( قد أحكمتها أكف المزن واكفة ... وطرزتها بما تهمي من الدرر )
( تبرجت فسبت منا العيون هوى ... وفتنة بعد طول الستر والخفر )
فأوجد لي سبيلا إلى أعمال بصري فيها لأجلو بصيرتي بمحاسن نواحيها والفصل على أن يكمل أوانه ويتصرم وقته وزمانه فلا تخلني من بعض التشفي منه لأصدر نفسي متيقظة عنه فالنفوس تصدأ كما يصدأ الحديد ومن سعى في جلائها فهو الرشيد السديد

ومن شعره يصف وردا بعث به إلى أبيه
( يا من تأزر بالمكارم وارتدى ... بالمجد والفضل الرفيع الفائق )
( انظر إلى خد الربيع مركبا ... في وجه هذا المهرجان )
( الرائق ورد تقدم إذ تأخر واغتدى ... في الحسن والإحسان أول سابق )
( وأفاك مشتملا بثوب حيائه ... خجلا لأن حياك آخر لاحق ) وله
( أتى الباقلاء الباقل اللون لابسا ... برود سماء من سحائبها غذي )
( ترى نوره يلتاح في ورقاته ... كبلق جياد في جلال زمرد ) وقال
( إذا ما أدرت كؤوس الهوى ... ففي شربها لست بالمؤتلي )
( مدام تعتق بالناظرين ... وتلك تعتق بالأرجل )
وكان وهو ابن سبع عشرة سنة ينظم النظم الفائق وينثر النثر الرائق وأبو جعفر بن الأبار هو الذي صقل مرآته وأقام قناته وأطلعه شهابا ثاقبا وسلك به إلى فنون الآداب طريقا لاحبا وله كتاب سماه ب البديع في فصل الربيع جمع فيه أشعار أهل الأندلس خاصة أعرب فيه عن أدب غزير وحظ من الحفظ موفور وتوفي وهو ابن اثنتين وعشرين سنة واستوزره داهية الفتنة ورحى المحنة قاضي إشبيلية عباد جد المعتمد ولم يزل يصغي إلى مقاله ويرضى بفعاله وهو ما جاوز العشرين إذ ذاك

وأكثر نظمه ونثره في الأزاهر وذلك يدل على رقة نفسه رحمه الله تعالى
وقال الوزير الكاتب أبو الحسن علي بن حصن وزير المعتضد بن عباد
( علي أن أتذلل ... له وأن يتدلل )
( خد كأن الثريا ... عليه قرط مسلسل )
وقال
( طل على خده العذار ... فافتضح الآس والبهار )
( وابيض هذا واسود هذا ... فاجتمع الليل والنهار )
وقال الوزير أبو الوليد بن طريف في المعتمد بعد خلعه
( يا آل عباد ألا عطفة ... فالدهر من بعدكم مظلم )
( من الذي يرجى لنيل العلا ... ومن إليه يفد المعدم )
( ما أنكر الدهر سوى أنه ... بجودكم في فعله يرغم
وله
( من حلقت لحية جار له ... فليسكب الماء على لحيته )
وقد أجرينا في هذا الكتاب ذكر جملة من أخبار المعتمد بن عباد ونظمه في أماكن متعددة فلتراجع ومن نظمه
( ثلاثة منعتها عن زيارتنا ... خوف الرقيب وخوف الحاسد الحنق )

( ضوء الجبين ووسواس الحلي وما ... تحوي معاطفها من عنبر عبق )
( هب الجبين بفضل الكم تستره ... والحلي تنزعه ما حيلة العرق )
وقال
( يوم يقول الرسول قد أذنت ... فأت على غير رقبة ولج )
( أقبلت أهوي إلى رحالهم ... أهدى إليها بريحها الأرج ) وقالوا ويستدل على الملوكية بالطيب في المواطن التي يكون الناس فيها غير معروفين كالحمام ومعارك الحرب ومواسم الحج
رجع إلى ما كنا فيه وقال أبو العباس أحمد الخزرجي القرطبي
( وفي الوجنات ما في الروض لكن ... لرونق زهرها معنى عجيب )
( وأعجب ما التعجب منه أني ... أرى البستان يحمله قضيب )
وقال الوزير أبو أيوب سليمان بن أبي أمية يخاطب رئيسا قد بلغه عن بعض أصحابه كلام فيه غض منه
( هون عليك كلامه ... واسمح له فيمن سمح )
( ماذا يسوءك إن هجا ... ماذا يسرك إن مدح )
( أو ما علمت بلى جهلت ... بأنه غل طفح )
( وخفي حقد كامن ... دابوا له حتى اتضح )

هذا بمستن الوقار ... فكيف لو دار القدح )
( فاشكر عوارف ذي الجلا ل بما وقى وبما منح )
وقال أبو علي عمر بن أبي خالد يخاطب أبا الحسن علي بن الفضل
( أبا حسن وما قدمت عهود ... لنا بيبن المنارة والجزيره )
( أتذكر أنسنا والليل داج ... بخمر في زجاجتها منيره )
( إذا الملاح ضل رنا إليها ... فأبصر في مناحيه مسيره )
وقال الكاتب عبد الله المهيريس وكان حلو النادرة لما شرب عند الوزير أبي العلاء ابن جامع وقد نظر إلى فاختة فأعجبه حسنها ولحنها
( ألا خذها إليك أبا العلاء ... حلى الأمداح ترفل في الثناء )
( وهبها قينة تجلى عروسا ... خضيب الكف قانية الرداء )
( لأجعلها محل جليس أنسي ... وأغنى بالهديل عن الغناء )
وحكي أنه ناوله ليمونة وأمره بالقول فيها فقال
( أهدى إلي بروضة ليمونة ... وأشار بالتشبيه فعل السيد )
( فصمت حينا ثم قلت كجلجل ... من فضة تعلوه صفرة عسجد )
وقال الكاتب أبو بكر بن البناء يرثي أحد بني عبد المؤمن وقد عزل من بلنسية وولي إشبيلية فمات بها
( كأنك من جنس الكواكب كنت لم ... تفارق طلوعا حالها وتواريا )

( تجليت من شرق تروق تلألؤا ... فلما انتحيت الغرب أصبحت هاويا ) وكان محمد بن مروان بن زهر - كما في المغرب والمسهب والمطرب وقد قدمنا بعض أخباره - منشأ الدولة العبادية وأول من تثنى عليه الخناصر وتستحسنه البواصر فضاقت الدولة العبادية عن مكانه وأخرج عن بلده فاستصفيت أمواله فلحق بشرق الأندلس وأقام فيه بقية عمره ونشأ ابنه الوزير أبو مروان عبد الملك بن محمد فما بلغ أشده حتى سد مسده ومال إلى التفنن في أنواع التعاليم من الطب وغيره ورحل إلى المشرق لأداء الفرض فملأ البلاد جلالة ونشأ ابنه أبو العلاء زهر بن عبد الملك فاخترع فضلا لم يكن في الحساب وشرع نبلا قصرت عنه نتائج أولي الألباب ونشأ بشرق الأندلس والآفاق تتهادى عجائبه والشام والعراق تتدارس بدائعه وغرائبه ومال إلى علم الأبدان فلولا جلالة قدره لقلنا جاذب هاروت طرفا من سحره ولولا أن الغلو آفة المديح لتجاوزت طلق الجموح ولكنني اكتفيت بالكناية عن التصريح ولم يزل مقيما بشرق الأندلس إلى أن كان من غزاة أمير المسلمين يوسف بن تاشفين ومن انضم إليه من ملوك الطوائف ما علم وشخص أبو العلاء معهم فلقيه المعتمد بن عباد واستماله واستهواه وكاد يغلب على هواه وصرف عليه أملاكه فحن إلى وطنه حنين النيب إلى عطنه والكريم إلى سكنه ونزع إلى مقر سلفه نزوع الكوكب إلى بيت شرفه إلا أنه لم يستقر بإشبيلية إلا بعد خلع المعتمد وحل عند يوسف بن تاشفين محلا لم يحله الماء من العطشان ولا الروح من جسد الجبان ولما كتب إليه حسام الدولة ابن رزين ملك السهلة بقوله
( عاد اللئيم فأنت من أعدائه ... ودع الحسود بغله وبذائه )

( لا كان إلا من غدت أعداؤه ... مشغولة أفواههم بجفائه )
( أأبا العلاء لئن حسدت لطالما ... حسد الكريم بجوده ووفائه )
( فخر العلاء فكنت من آبائه ... وزها السناء فكنت من أبنائه )
( كن كيف شئت مشاهدا أو غائبا ... لا كان قلب لست في سودائه ) أجابه بقوله
( يا صارما حسم العدا بمضائه ... وتعبد الأحرار حسن وفائه )
( ما أثر العضب الحسام بذاته ... إلا بأن سميت من أسمائه )
وكلفه الحسام المذكور القول في غلام قائم على رأسه وقد عذر فقال
( محيت آية النهار فأضحى ... بدر تم وكان شمس نهار )
( كان يعشي العيون نارا إلى أن ... أشغل الله خده بالعذار ) وقال
( عذار ألم فأبدى لنا ... بدائع كنا لها في عمى )
( ولو لم يجن النهار الظلام ... لم يستبن كوكب في السما )
وقال
( يا راشقي بسهام ما لها غرض ... إلا الفؤاد وما منه له عوض )
( وممرضي بجفون لحظها غنج ... صحت وفي طبعها التمريض والمرض )
( امنن ولو بخيال منك يؤنسني ... فقد يسد مسد الجوهر العرض )
وهذا معنى في غاية الحسن
وكان بينه وبين الإمام أبي بكر بن باجة - بسبب المشاركة - ما يكون

بين النار والماء والأرض والسماء ولما قال فيه ابن باجة
( يا ملك الموت وابن زهر ... جاوزتما الحد والنهايه )
( ترفقا بالورى قليلا ... في واحد منكما الكفايه ) قال أبو العلاء
( لا بد للزنديق أن يصلبا ... شاء الذي يعضده أو أبى )
( قد مهد الجذع له نفسه ... وسدد الرمح إليه الشبا )
والذي يعضده مالك بن وهيب جليس أمير المسلمين وعالمه
وأما حفيده أبو بكر محمد بن عبد الملك بن زهر فهو وزير إشبيلية وعظيمها وطبيبها وكريمها ومن شعره
( رمت كبدي أخت السماء فأقصدت ... ألا بأبي رام يصيب ولا يخطي )
( قريبة ما بين الخلاخيل إن مشت ... بعيدة ما بين القلادة والقرط )
( نعمت بها حتى أتيحت لنا النوى ... كذا شيم الأيام تأخذ ما تعطي )
وتوفي سنة خمس وتسعين وخمسمائة وأمر أن يكتب على قبره
( تأمل بفضلك يا واقفا ... ولاحظ مكانا دفعنا إليه )
( تراب الضريح على صفحتي ... كأني لم أمش يوما عليه )
( أداوي الأنام حذار المنون ... فها أنا قد صرت رهنا لديه )
رحمه الله تعالى وعفا عنه
وفي هذه الأبيات إشارة إلى طبه ومعالجته للناس رحمه الله تعالى ! وقد ذكرنا بعض أخباره في غير هذا الموضع

وقال أبو الوليد ابن حزم
( مرآك مرآك لا شمس ولا قمر ... وورد خديك لا ورد ولا زهر )
( في ذمة الله قلب أنت ساكنه ... إن بنت بان فلا عين ولا أثر )
وقال
( لله أيام على وادي القرى ... سلفت لنا والدهر ذو ألوان )
( إذ نجتني في ظله ثمر المنى ... والطير ساجعة على الأغصان )
( والشمس تنظر من محاجر أرمد ... والطل يركض في النسيم الواني )
( فلثمت فاه والتزمت عناقه ... ويد الوصال على قفا الهجران )
وقال ابن عبد ربه
( يا قابض الكف لا زالت مقبضة ... فما أناملها للناس أرزاق )
( وغب إذا شئت حتى لا ترى أبدا ... فما لفقدك في الأحشاء إقلاق )
وقال في المدح
( وما خلقت كفاك إلا لأربع ... عقائل لم تخلق لهن يدان )
( لتقبيل أفواه وإعطاء نائل ... وتقليب هندي وحبس عنان )
وقال الكاتب أبو عبد الله بن مصادق الرندي الأصل
( صارمته إذ رأت عارضه ... عاد من بعد الشباب أشيبا )

( قلت ما ضرك شيب فلقد ... بقيت فيه فكاهات الصبا )
( هو كالعنبر غال نفحه ... وشذاه أخضرا أو أشهبا ) وقال
( ووردة وردت في غير موقتها ... والسحب قد هملت أجفانها هطلا )
( وإنما الروض لما لم يفد ثمرا ... يقريكه انفتحت في خده خجلا )
وله
( لم أحتفل لقدوم العيد من زمن ... قد كان يبهجني إذ كنت في وطني )
( لم ألق أهلي ولا إلفي ولا ولدي ... فليت شعري سروري واقع بمن )
وقال
( يقول لي العاذل تب عن هوى ... من ليس يدنيك إلى مطلب )
( وكيف لي والدين دين الهوى ... فلا أرى أرجح من مذهبي )
( أليس باب التوب قد سده ... طلوعه شمسا من المغرب )
وله
( امنع كرائمك الخروج ولا ... تظهر لذلك وجه منبسط )
( لا تعتبر منهن مسخطة ... نيل الرضى في ذلك السخط )
( أو لسن مثل الدر في شبه ... والدر من صدف إلى سفط ) الشمس ما يتوقع )

وقال المعتمد بن عباد
( تم له الحسن بالعذار ... واختلط الليل بالنهار )
( أخضر في أبيض تبدى ... فذاك آسي وذا بهاري )
( فقد حوى مجلسي تماما ... إن يك من ريقه عقاري )
وقال ابن فرج الجياني رحمه الله تعالى
( وطائعة الوصال صدرت عنها ... وما الشيطان فيها بالمطاع )
( بدت في الليل سافرة فباتت ... دياجي الليل سافرة القناع )
( وما من لحظة إلا وفيها ... إلى فتن القلوب لها دواعي )
( فملكت الهوى جمحات أمري ... لأجري في العفاف على طباعي )
( كذاك الروض ما فيه لمثلي ... سوى نظر وشم من متاع )
( ولست من السوائم مهملات ... فأتخذ الرياض من المراعي ) وقال
( بأيهما أنا في الشكر بادي ... بشكر الطيف أم شكر الرقاد )
( سرى فازداد لي أملي ولكن ... عففت فلم أنل منه مرادي )
( وما في النوم من حرج ولكن ... جريت مع العفاف على اعتيادي )
وقال الرصافي
( وعشي أنس للسرور وقد بدا ... من دون قرص

( سقطت فلم يملك نديمك ردها ... فوددت يا موسى لو أنك يوشع ) وقال ابن عبد ربه
( يراعة غرني منها وميض سنا ... حتى مددت إليها الكف مقتبسا )
( فصادفت حجرا لو كنت تضربه ... من لؤمه بعصا موسى لما انبجسا )
( كأنما صيغ من لؤم ومن كذب ... فكان ذاك له روحا وذا نفسا )
وقال ابن صارة في فروة
( أودت بذات يدي فرية أرنب ... كفؤاد عروة في الضنى والرقة )
( يتجشم الفراء من ترقيعها ... بعد المشقة في قريب الشقة )
( لو أن ما أنفقت في ترقيعها ... يحصى لزاد على رمال الرقة )
( إن قلت بسم الله عند لباسها ... قرأت علي إذا السماء انشقت )
وقال الغزال
( والمرء يعجب من صغيرة غيره ... أي امرئ إلا وفيه مقال )
( لسنا نرى من ليس فيه غميزة ... أي الرجال القائل الفعال )
وقال أبو حيان
( لا ترجون دوام الخير من أحد ... فالشر طبع وفيه الخير بالعرض )
( ولا تظن امرءا أسدى إليك ندى ... من أجل ذاتك بل أسداه للغرض )

وقال ابن شهيد
( ولما فشا بالدمع ما بين وجدنا ... إلى كاشحينا ما القلوب كواتم )
( أمرنا بإمساك الدموع جفوننا ... ليشجى بما نطوي عذول ولائم )
( أبى دمعنا يجري مخافة شامت ... فنظمه بين المحاجر ناظم )
( وراق الهوى منا عيونا كريمة ... تبسمن حتى ما تروق المباسم )
وقال في الانتحال
( وبلغت أقواما تجيش صدورهم ... علي وإني فيهم فارغ الصدر )
( أصاخوا إلى قولي فأسمعت معجزا ... وغاصوا على سري فأعجزهم أمري )
( فقال فريق ليس ذا الشعر شعره ... وقال فريق أيمن الله ما ندري )
( فمن شاء فليخبر فإني حاضر ... ولا شيء أجلى للشكوك من الخبر ) وينظر إلى مثل هذا قصة أبي بكر بن بقي حين استهدى من بعض إخوانه أقلاما فبعث إليه بثلاث من القصب وكتب معها
( خذها إليك أبا بكر العلا قصبا ... كأنما صاغها الصواغ من ورقه )
( يزهى بها الطرس حسنا ما نثرت بها ... مسك المداد على الكافور من ورقه ) فأجابه أبو بكر
( أرسلت نحوي ثلاثا من قنا سلب ... ميادة تطعن القرطاس في درقه )
( فالخط ينكرها والحظ يعرفها ... والرق يخدمها بالرق في عنقه )

فحسده عليه بعض من سمعه ونسبه إلى الانتحال فقال أبو بكر يخاطب صاحبه الأول
( وجاهل نسب الدعوى إلى كلمي ... لما رماه بمثل النبل في حدقه )
( فقلت من حنق لما تعرض لي ... من ذا الذي أخرج اليربوع من نفقه )
( ما ذم شعري وأيم الله لي قسم ... إلا امرؤ ليست الأشعار من طرقه )
( والشعر يشهد أني من كواكبه ... بل الصباح الذي يستن من أفقه )
وقال ابن شهيد أيضا في ضيف
( وما انفك معشوق الثناء يمده ... ببشر وترحيب وبسط بنان )
( إلى أن تشهى البين من ذات نفسه ... وحن إلى الأهلين حنة حاني )
( فأتبعته ما سد خلة حاله ... وأتبعني ذكرا بكل مكان )
وقال
( وبتنا نراعي الليل لم يطو برده ... ولم يجل شيب الصبح في فوده وخطا )
( تراه كملك الزنج من فرط كبره ... إذا رام مشيا في تبختره أبطا )
( مطلا على الآفاق والبدر تاجه ... وقد جعل الجوزاء في أذنه قرطا ) وقال ابن حذف
وقال بعضهم في لباس أهل الأندلس البياض في الحزن مع أن أهل المشرق يلبسون فيه السواد
( ألا يا أهل أندلس فطنتم ... بلطفكم إلى أمر عجيب )

( لبستم في مآتمكم بياضا ... فجئتم منه في زي غريب )
( صدقتم فالبياض لباس حزن ... ولا حزن أشد من المشيب )
وقال أبو جعفر بن خاتمة
( هل جسوم يوم النوى ودعوها ... باقيات لسوء ما أودعوها )
( يا حداة القلوب ما العدل هذا ... أتبعوها أجسامها أو دعوها )
وقال القسطلي يصف هول البحر
( إليك ركبنا الفلك تهوي كأنها ... وقد ذعرت عن مغرب الشمس غربان )
( على لجج خضر إذا هبت الصبا ... ترامى بها فينا ثبير وثهلان )
( مواثل ترعى في ذراها مواثلا ... كما عبدت في الجاهلية أوثان )
( يقلن وموج البحر والهم والدجى ... يموج بها فيها عيون وآذان )
( ألا هل إلى الدنيا معاد وهل لنا ... سوى البحر قبر أو سوى الماء أكفان )
وقال الرمادي يهنئ ابن العطار الفقيه بمولود
( يهنيك ما زادت الأيام في عددك ... من فلذة برزت للسعد من كبدك )
( كأنما الدهر دهر كان مكتئبا ... من انفرادك حتى زاد في عددك )
( لا خلفتك الليالي تحت ظل ردى ... حتى ترى ولدا قد شب من ولدك )
وقال ابن صارة في النار
( هات التي للأيك أصل ولادها ... ولها جبين الشمس في الأشماس )
( يتقشع الياقوت في لباتها ... بوساوس تشفي من الوسواس )

( أنس الوحيد وصبح عين المجتلي ... ولباس من أمسى بغير لباس )
( حمراء ترفل في السواد كأنما ... ضربت بعرق في بني العباس )
وقال فيها أيضا
( لابنة الزند في الكوانين جمر ... كالدراري في الليلة الظلماء )
( خبروني عنها ولا تكذبوني ... ألديها صناعة الكيمياء )
( سبكت فحمها سبائك تبر ... رصعته بالفضة البيضاء )
( كلما ولول النسيم عليها ... رقصت في غلالة حمراء )
( سفرت عن جبينها فأرتنا ... حاجب الليل طالعا بالعشاء )
( لو ترانا من حولها قلت قوم ... يتعاطون أكؤس الصهباء )
وقال فيها الفقيه الأديب ابن لبال
( فحم ذكا في حشاه جمر ... فقلت مسك وجلنار )
( أو خد من قد هويت لما أطل ... من فوقه العذار )
وكان أبو المطرف الزهري جالسا في باب داره مع زائر له فخرجت عليهما من زقاق ثان جارية سافرة الوجه كالشمس الطالعة فحين نظرتهما على غفلة منها نفرت خجلة فرأى الزائر ما أبهته فكلفه وصفها فقال مرتجلا

( يا ظبية نفرت والقلب مسكنها ... خوفا لختلي بل عمدا لتعذيبي )
( لا تختشي فابن عبد الحق أنحلنا ... عدلا يؤلف بين الظبي والذيب )
وقال ابن شهيد
( أصباح لاح أم بدر بدا ... أم سنا المحبوب أورى زندا )
( هب من نعسته منكسرا ... مسبل للكم مرخ للردا )
( يمسح النعسة من عيني رشا ... صائد في كل يوم أسدا )
( قلت هب لي يا حبيبي قبلة ... تشف من همك تبريح الصدى )
( فانثنى يهتز من منكبه ... قائلا لا ثم أعطاني اليدا )
( كلما كلمني قبلته ... فهو ما قال كلاما رددا )
( قال لي يلعب صد لي طائرا ... فتراني الدهر أجري بالكدى )
( وإذا استنجزت يوما وعده ... قال لي يمطل ذكرني غدا )
( شربت أعضانه خمر الصبا ... وسقاه الحسن حتى عربدا )
( رشأ بل غادة ممكورة ... عممت صبحا بليل أسودا )
( أخجلت من عضة في نهدها ... ثم عضت حر وجهي عمدا )
( فأنا المجروح من عضتها ... لا شفاني الله منها أبدا )
وقال محمد بن هانئ في الشيب
( بنتم فلولا أن أغبر لمتي ... عبثا وألقاكم علي غضابا )

( لخضبت شيبا في مفارق لمتي ... ومحوت محو النقس عنه شبابا )
( وخضبت مبيض الحداد عليكم ... لو أنني أجد البياض خضابا )
( وإذا أردت على المشيب وفادة ... فاجعل مطيك دونه الأحقابا )
( فلتأخذن من الزمان حمامة ... ولتدفعن إلى الزمان غرابا )
وكتب ابن عمار إلى ابن رزين وقد عتب عليه أن اجتاز ببلده ولم يلقه
( لم تثن عنك عناني سلوة خطرت ... ولا فؤادي ولا سمعي ولا بصري )
( لكن عدتني عنكم خجلة خطرت ... كفاني العذر منها بيت معتذر )
( و اختصرتم من الإحسان زرتكم ... والعذب يهجر للأفراط في الخصر )
وقال ابن الجد
( وإني لصب للتلاقي وإنما ... يصد ركابي عن معاهدك العسر )
( أذوب حياء من زيارة صاحب ... إذا لم يساعدني على بره الوفر )
وقال ابن عبد ربه
( يا من عليه حجاب من جلالته ... وإن بدا لك يوما غير محجوب )
( ما أنت وحدك مكسوا ثياب ضنى ... بل كلنا بك من مضنى ومشحوب )
( ألقى عليك يدا للضر كاشفة ... كشاف ضر نبي الله أيوب )

وقال النحلي في مغنية
( ولاعبة الوشاح كغصن بان ... لها أثر بتقطيع القلوب )
( إذا سوت طريق العود نقرا ... وغنت في محب أو حبيب )
( فيمناها تقد بها فؤادي ... ويسراها تعد بها ذنوبي ) وقال ابن شهيد
( كلفت بالحب حتى لو دنا أجلي ... لما وجدت لطعم الموت من ألم )
( وعاقني كرمي عمن ولهت به ... ويلي من الحب أو ويلي من الكرم )
وكان بشريش صوفي حافظ للشعر فلا يعرض في مجلسه معنى إلا وهو ينشد عليه فاتفق أن عطس رجل بمجلسه فشمته الحاضرون فدعا لهم فرأى الصوفي أنه إن شمته قطع إنشاده بما لا يشاكله من النظم وإن لم يشمته كان تقصيرا في البر فرغب حين أصبح من الطلبة نظم هذا المعنى فقال الوزير الحسيب أبو عمرو بن أبي محمد
( يا عاطسا يرحمك الله إذ ... أعلنت بالحمد على عطستك )
( ادع لنا ... ربك يغفر لنا وأخلص النية في دعوتك )
( وقل له يا سيدي رغبتي ... حضور هذا الجمع في حضرتك )
( وأنت يا رب الندى والنوى ... بارك رب الناس في ليلتك )
( فإن يكن منكم لنا عودة ... فأنت محمود على عودتك )

وهذا الوزير المذكور كان يصرف شعره في أوصاف الغزلان ومخاطبات الإخوان وكتب إلى الشريشي شارح المقامات يستدعي منه كتاب العقد
( أيا من غدا سلكا لجيد معارفه ... ومن لفظه زهر أنيق لقاطفه )
( محبك أضحى عاطل الجيد فلتجد ... بعقد على لباته وسوالفه )
ووعك في بعض الأعياد فعاده من أعيان الطلبة جملة فلما هموا بالانصراف أنشدهم ارتجالا
( لله در أفاضل أمجاد ... شرف الندي بقصدهم والنادي )
( لما أشاروا بالسلام وأزمعوا ... أنشدتهم وصدقت في الإنشاد )
( في العيد عدتم وهو يوم عروبة ... يا فرحتي بثلاثة الأعياد )
قال الشريشي في شرح المقامات ولقد زرته في مرضه الذي توفي فيه رحمه الله تعالى أنا وثلاثة فتيان من الطلبة فسألني عنهم وعن آبائهم فلما أرادوا الانصراف ناول أحدهم محبرة وقال له اكتب وأملى عليه ارتجالا
( ثلاثة فتيان يؤلف بينهم ... ندي كريم لا أرى الله بينهم )
( تشابه خلق منهم وخليقة ... فإن قلت أين الحسن فانظره أين هم )
( وزينهم أستاذهم إذ غدا لهم ... معلم آيات فتمم زينهم )
( فإن خفت من عين ففي الكل فلتقل ... وقى الله رب الناس للكل عينهم )
وقال الشريشي حدثنا شيخنا أبو الحسين بن زرقون عن أبيه أبي عبد الله أنه قعد مع صهره أبي الحسن عبد الملك بن عياش

الكاتب على بحر المجاز وهو مضطرب الأمواج فقال له أبو الحسن أجز
( وملتطم الغوارب موجته ... بوارح في مناكبها غيوم )
فقال أبو عبد الله
( تمنع لا يعوم به سفين ... ولو جذبت به الزهر النجوم )
وكان لابن عبد ربه فتى يهواه فأعلمه أنه يسافر غدا فلما أصبح عاقه المطر عن السفر فانجلى عن ابن عبد ربه همه وكتب إليه
( هلا ابتكرت لبين أنت مبتكر ... هيهات يأبى عليك الله والقدر )
( ما زلت أبكي حذار البين ملتهبا ... حتى رثى لي فيك الريح والمطر )
( يا برده من حيا مزن على كبد ... نيرانها بغليل الشوق تستعر )
( آليت أن لا أرى شمسا ولا قمرا ... حتى أراك فأنت الشمس والقمر )
وقال ابن عبد ربه
( صل من هويت وإن أبدى معاتبة ... فأطيب العيش وصل بين إلفين )
( واقطع حبائل خدن لا تلائمه ... فقلما تسع الدنيا بغيضين )
وقال أبو محمد غانم بن الوليد المالقي
( صير فؤادك للمحبوب منزلة ... سم الخياط مجال للمحبين )
( ولا تسامح بغيضا في معاشرة ... فقلما تسع الدنيا بغيضين )
وكان المتوكل صاحب بطليوس ينتظر وفود أخيه عليه من

شنترين يوم الجمعة فأتاه يوم السبت فلما لقيه عانقه وأنشده
( تخيرت اليهود السبت عيدا ... وقلنا في العروبة يوم عيد )
( فلما أن طلعت السبت فينا ... اطلت لسان محتج اليهود )
وقال أبو بكر بن بقي
( أقمت فيكم على الإقتار والعدم ) لو كنت حرا أبي النفس لم أقم )
( فلا حديقتكم يجنى لها ثمر ... ولا سماؤكم تنهل بالديم )
( أنا امرؤ إن نبت بي أرض أندلس ... جئت العراق فقامت لي على قدم )
( ما العيش بالعلم إلا حيلة ضعفت ... وحرفة وكلت بالقعدد البرم )
وقال الأبيض في الفقهاء المرائين
( أهل الرياء لبستم ناموسكم ... كالذئب يدلج في الظلام العاتم )
( فملكتم الدنيا بمذهب مالك ... وقسمتم الأموال بابن القاسم )
( وركبتم شهب البغال بأشهب ... وبأصبغ صبغت لكم في العالم ) وقال
( قل للإمام سنا الأئمة مالك ... نور العيون ونزهة الأسماع )
( لله درك من همام ماجد ... قد كنت راعينا فنعم الراعي )
( فمضيت محمود النقيبة طاهرا ... وتركتنا قنصا لشر سباع

( أكلوا بك الدنيا وأنت بمعزل ... طاوي الحشا متكفت الأضلاع )
( تشكوك دنيا لم تزل بك برة ... ماذا رفعت بها من الأوضاع )
وقال ابن صارة
( يا من يعذبني لما تملكني ... ماذا تريد بتعذيبي وإضراري )
( تروق حسنا وفيك الموت أجمعه ) كالصقل في السيف أو كالنور في النار ) وقال عبدون البلنسي
( يا من محياه جنات مفتحة ... وهجره لي ذنب غير مغفور )
( لقد تناقضت في خلق وفي خلق ... تناقض النار بالتدخين والنور )
وقال الوزير ابن الحكيم
( رسخت أصول علاكم تحت الثرى ... ولكم على خط المجرة دار )
( إن المكارم صورة معلومة ... أنتم لها الأسماع والأبصار )
( تبدو شموس الدجن من أطواقكم ... وتفيض من بين البنان بحار )
( ذلت لكم نسم الخلائق مثل ما ذلت لشعري فيكم الأشعار )
( فمتى مدحت ولا مدحت سواكم ... فمديحكم في مدحه إضمار )
وقال القاضي أبو جعفر بن برطال

( استودع الرحمن من لوداعهم قلبي وروحي آذنا بوداع بانوا وطرفي والفؤاد ومقولي باك ومسلوب العزاء وداع )
( فتول يا مولاي حفظهم ولا ... تجعل تفرقنا فراق وداع )
وقال ابن خفاجة
( وما هاجني إلا تألق بارق ... لبست به برد الدجنة معلما ) وهي طويلة
وقال من أخرى
( جمعت ذوائبه ونور جبينه ... بين الدجنة والصباح المشرق )
وقال ذو الوزارتين أبو الوليد ابن الحضرمي البطليوسي في غلام للمتوكل ابن الأفطس يرثيه
( غالته أيدي المنايا ... وكن في مقلتيه )
( وكان يسقي الندامى ... بطرفه ويديه )
( غصن ذوى وهلال ... جار الكسوف عليه )
وقال الفقيه العالم أبو أيوب سليمان بن محمد بن بطال البطليوسي عالمها في المذهب المالكي وقد تحاكم إليه وسيمان أشقر وأكحل فيمن يفضل بينهما
( وشادنين ألما بي على مقة ... تنازعا الحسن في غايات مستبق )

( كأن لمة ذا من نرجس خلقت ... على بهار وذا مسك على ورق )
( وحكما الصب في التفضيل بينهما ... ولم يخافا عليه رشوة الحدق )
( فقام يبدي هلال الدجن حجته ... مبينا بلسان منه منطلق )
( فقال وجهي بدر يستضاء به ... ولون شعري مقطوع من الغسق )
( وكحل عيني سحر للنهى وكذاك ... الحسن أحسن ما يعزى إلى الحدق )
( وقال صاحبه أحسنت وصفك لكن ... فاستمع لمقال في متفق )
( أنا على أفقي شمس النهار ولم ... تغرب وشقرة الشفق )
( وفضل ما عيب في العينين من زرق ... أن الأسنة قد تعزى إلى الزرق )
( قضيت للمة الشقراء حيث حكت ... نورا كذا يقضي على رمقي )
( فقام ذو اللمة السوداء يرشقني ... سهام أجفانه من شدة الحنق )
( وقال جرت فقلت الجور منك على ... قلبي ولي شاهد من دمعي الغدق )
( وقلت عفوك إذ أصبحت متهمنا ... فقال دونك هذا الحبل فاختنق ) وكان فيه ظرف وأدب وعنوان طبقته هذه الأبيات
وقال
( وغاب من الأكواس فيها ضراغم ... من الراح ألباب الرجال فريسها )
( قرعت بها سن الحلوم فأقطعت ... وقد كاد يسطو بالفؤاد رسيسها ) وله رحمه الله تعالى شرح البخاري وأكثر ابن حجر من النقل عنه في فتح الباري وله كتاب الأحكام وغير ذلك وترجمته شهيرة
وقال الأديب النحوي المؤرخ أبو إسحاق إبراهيم بن قاسم الأعلم البطليوسي صاحب التواليف التي بلغت نحو خمسين

( يا حمص لا زلت دارا ... لكل بؤس وساحه )
( ما فيك موضع راحه ... إلا وما فيه راحه ) وهو شيخ أبي الحسن بن سعيد صاحب المغرب وأنشده هذين البيتين لما ضجر من الإقامة بإشبيلية أيام فتنة الباجي
وقال الأديب الطبيب أبو الأصبغ عبد العزيز البطليوسي الملقب بالقلندر ( جرت مني الخمر مجرى دمي ... فجل حياتي من سكرها )
( ومهما دجت ظلم للهموم ... فتمزيقها بسنا بدرها )
وخرج يوما وهو سكران فلقي قاضيا في نهاية من قبح الصورة فقال سكران خذوه فلما أخذه الشرط قال للقاضي بفضل من ولاك على المسلمين بهذا الوجه القبيح عليك إلا ما أفضلت علي وتركتني فقال القاضي والله لقد ذكرتني بفضل عظيم ودرأ عنه الحد
وقال ابن جاخ الصباغ البطليوسي وهو من أعاجيب الدنيا لا يقرأ ولا يكتب
( ولما وقفنا غداة النوى وقد أسقط البين ما في يدي
( رأيت الهوادج فيها البدور ... عليها البراقع من عسجد )
( وتحت البراقع مقلوبها ... تدب على ورد خد ندي )
( تسالم من وطئت خده ... وتلدغ قلب الشجي المكمد )

وقال في المتوكل وقد سقط عن فرس
( لا عتب للطرف إن زلت قوائمه ... ولا يدنسه من عائب دنس )
( حملت جودا وبأسا فوقه ونهى ... وكيف حمل هذا كله الفرس )
وقال الشاعر المشهور بالكميت البطليوسي
( لا تلوموني فإني عالم ... بالذي تأتيه نفسي وتدع )
( بالحميا والمحيا صبوتي ... وسوى حبهما عندي بدع )
( فضل الجمعة يوما وأنا ... كل أيامي بأفراحي جمع ) وقال أبو عبد الله محمد بن البين البطليوسي وهو ممن يميل إلى طريقة ابن هانئ
( غصبوا الصباح فقسموه خدودا ... واستنهبوا قضب الأراك قدودا )
( ورأوا حصى الياقوت دون محلهم ... فاستبدلوا منه النجوم عقودا )
( واستودعوا حدق المها أجفانهم فسبوا بهن ضراغما وأسودا )
( لم يكفهم حمل الأسنة والظبى ... حتى استعاروا أعينا وقدودا )
( وتضافروا بضفائر أبدوا لنا ... ضوء النهار بليلها معقودا )
( صاغوا الثغور من الأقاحي بينها ... ماء الحياة لو اغتدى مورودا )
وكان عند المتوكل مضحك يقال له الخطارة فشرب ليلة مع المتوكل وكان في السقاة وسيم فوضع عينه عليه فلما كان وقت السحر دب إليه وكان بالقرب من المتوكل فأحس به فقال له ما هذا يا خطارة

فقال له يا مولاي هذا وقت تفرغ الخطارة الماء في الرياض فقال له لا تعد لئلا يكون ماء أحمر فرجع إلى نومه ولم يعد في ذلك كلمة بقية عمره معه ولا أنكر منه شيئا ولم يحدث بها الخطارة حتى قتل المتوكل رحمه الله
والخطارة صنف من الدواليب الخفاف يستقي به أهل الأندلس من الأودية وهو كثير على وادي إشبيلية وأكثر ما يباكرون العمل في السحر
وقال الوزير أبو زيد عبد الرحمن بن مولود
( أرني يوما من الدهر ... على وفق الأماني )
( ثم دعني بعد هذا ... كيفما شئت تراني
وقال أديب الأندلس وحافظها أبو محمد عبد المجيد بن عبدون الفهري اليابري وهو من رجال الذخيرة والقلائد وشهرته مغنية عن الزيادة يخاطب المتوكل وقد أنزله في دار وكفت عليه
( أيا ساميا من جانبيه كليهما ... سمو حباب الماء حالا على حال )
( لعبدك دار حل فيها كأنها ... ( ديار لسلمى عافيات بذي خال )
( يقول لها لما رأى من دثورها ... ألا عم صباحا أيها الطلل البالي )
( فقالت وما عيت جوابا بردها ... وهل يعمن من كان في العصر الخالي )
( فمر صاحب الإنزال فيها بعاجل ... فإن الفتى يهذي وليس بفعال )
وقال في جمع حروف الزيادة حسبما ذكره عنه في المغرب [ الطويل ] سألت الحروف الزائدات عن اسمها فقالت ولم تكذب أمان وتسهيل

ظوابط حروف الزيادة
قلت وعلى ذكر حروف الزيادة فقد أكثر الناس في انتفاء الكلمات الضابطة لها وقد كنت جمعت فيها نحو مائة ضابط ولنذكر الآن بعضها فنقول منها ( ( أهوى تلمسانا ) ) ونظمتها فقلت
( قالت حروف زيادات لسائلها ... هل هويت بلدة أهوى تلمسانا )
وجمعها ابن مالك في بيت واحد بأربعة أمثلة من غير حشو وهو
( هناء وتسليم تلا يوم أنسه ... نهاية مسؤل أمان وتسهيل )
ومنها ( ( هويت السمان ) )
وحكي أن أبا عثمان المازني سئل عنه فأنشد
( هويت السمان فشيبنني ... وقد كنت قدما هويت السمانا )
فقيل له أجبنا فقال أجبتكم مرتين ويروى أنه قال سألتمونيها فأعطيتكم ثلاثة أجوبة هكذا حكاه بعض المحققين وهو أرق مما حكاه غير واحد على غير هذا الوجه ومنها ( ( سألتمونيها ) ) ومنها اليوم تنساه الموت ينساه أسلمني وتاه هم يتساءلون التناهي سمو تنمي وسائله أسلمي تهاون تهاوني أسلم التمس هواني ما سألت يهون مؤنس التياه لم يأتنا سهو يا أويس هل نمت نويت سؤالهم نويت مسائله سألتم هواني تأملها يونس أتاني وسهيل هوني مسألتها سألت ما يهون وسليمان أتاه تسأل من يهوى استملاني هو أسلمت وهناي هو استمالني سايل وأنت هم يا هول استنم أتاه وسليمان
قلت وليس هذا تكرارا مع السابق الذي هو ( ( وسليمان أتاه ) ) لأن التقديم والتأخير يصيرهما شيئين
ومنها الوسمي هتان أوليتم سناه واليتم أنسه أمسيت وناله أنله

توسيما أملتني سهوا أتوسل يمنها سألتهن يوما سألت يومنها سألت ما يوهن نهوي ما سألت يهون ما سألت وقد سبق ( ( سألت ما يهون ) ) وعدهما شيئين من أجل التقديم والتأخير كما مر نظيره ألا تنس يومه ليتأس ماؤه سله موتي أنا أنسته اليوم سألتم هوينا آوي من تسأله وهين ما سألت وهني ما سألت مسألتي نواه
ومنها مسألتي هاون سهوان يتألم أيلتم سهوان أو يلتم ناسه مسألتي أهون أو ميت تنساه سموتن إليها أمليت سهوان وسألتم هينا يهون ما تسأل أتلومن سهيا أسلم وانتهى يتأمل سهوان يتأمل ناسوه يتأملن سواه ايتأمل ونسوه الهوى أتنسم وليت ماه آسن تولين أسهما أتلوا سهمين أول ساهمتني أسماؤه تنيل يتأملنه سوا أو لم يتسناه آمن ويتساهل أمسيتن لهوا توسيمه لناء هو ما تسألين لأيها نتوسم أيهما نتوسل أتاني لسموه سميتهن أولا أولاهن سميت سلمتني أهوا أسلمتني هوا أو نستميلها أيستمهلونا هنأت الموسى سليم انتهوا وأنت سائلهم ساءلته ينمو تهنأ لا يسمو اسألي مؤنته سألتي موهنا التمسي هونا استملي أهون التناه موسى الهواء يتسنم نهوى ما تسأل ماؤه ليتأسن تنسمي الهواء تلومي إن سها ألمتني سهوا ستولينا أمه يتمهلون أسا أمهلتني سوا التناسي وهم أهويت سلمان هويت المأنس المأنس تهوي هويت أم ناسل أو ليس تم هنا استوهن أملي استهون ألمي استلمنا وهيأ أتسلمونيها أيتسلمونها ألا يتسمونه أليس توهمنا ألا يتسنموه فهذه مائة وأربعة وثلاثون تركيبا منها ما هو متين ومنها ما هو غير متين وقد جمع ابن خروف فيها اثنين وعشرين تركيبا محكيا وغير محكي وأحسنها بيت ابن عبدون السابق ويليه بيت ابن مالك وقال الطغمي جامعا لها أربع مرات

( آلمتني سهوا تلومي إن سها ... أو ليس تم هنا الهوا يتسنم )
هكذا بخطه يتسنم ولو قال يتنسم لكان أنسب وقال أيضا
( وليت ما سناه والتمسي هنا ... ما تسألين هو الهنا يتوسم )
قلت وقد جمعت في المغرب زيادة على ما تقدم وكنت قدرت رسالة فيها أسميها ( ( إتحاف أهل السيادة بضوابط حروف الزيادة
وقال أبو محمد عبد الله بن الليث يستدعي الوزير أبا الحسن اليابري في يوم غيم
( رقم الربيع بروضنا أزهاره ... فجرى على صفحاته أنهاره )
( فعسى تشرفنا ببهجة سيد ... ألقى على ليل الخطوب نهاره )
( تتمتع الآداب من نفحاته ... فيشم منها ورده وبهاره )
( يا سيدا بهر البرية سؤددا ... أبدى إلينا سره وجهاره )
( يوم أظل الغيم وجه ضيائه ... فعليك يا شمس العلا إظهاره )
وقال أبو القاسم بن الأبرش
( أدر كاس المدام فقد تغنى ... بفرع الأيك طائره الصدوح )
( وهب على الرياض نسيم صبح ... يمر كما دنا سار طليح )
( ومال النهر يشكو من حصاه ... جراحات كما أن الجريح )
وقال
( حلفت ويشهد دمعي بما ... أقاسيه من هجرك الزائد )

( فإن كنت تجحد ما أدعي ... وحاشاك تعرف بالجاحد )
( فإن النبي عليه السلام ... قضى باليمين مع الشاهد )
وقال أبو الحسن علي بن بسام الشنتريني صاحب الذخيرة وشهرته تغني عن ذكره ونظمه دون نثره يخاطب أبا بكر ابن عبد العزيز
( أبا بكر المجتبى للأدب ... رفيع العماد قريع الحسب )
( أيلحن فيك الزمان الخؤون ... ويعرب عنك لسان العرب )
( وإن لم يكن أفقنا واحدا ... فينظمنا شمل هذا الأدب )
وقد ذكرنا له في غير هذا المحل قوله
( ألا بادر فلا ثان سوى ما ... عهدت الكأس والبدر التمام ) الأبيات وتأخرت وفاته إلى سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة وهو منسوب إلى ( ( شنترين ) ) من الكور الغربية البحرية من أعمال بطليوس
وقال أبو عمر يوسف بن كوثر
( مررت به يوما يغازل مثله ... وهذا على ذا بالملاحة يمتن )
( فقلت اجمعا في الوصل رأيكما فما ... لمثلكما كان التغزل والمجن )
( عسى الصب يقضي الله بينكما له ... بخير فقالا لي اشتهى العسل السمن )
وقال أبو محمد بن سارة
( أعندك أن البدر بات ضجيعي ... فقضيت أوطاري بغير شفيع

( جعلت ابنة العنقود بيني وبينه ... فكانت لنا أما وكان رضيعي ) وقال
( أيا من حارت الأوهام فيه ... فلم تعلم له الأقدار كنها )
( بجيد النبل منا عقد أنس ... أقام بغير واسطة فكنها )
وقال أبو الحسن بن منذر الأشبوني
( فديتك إني عن جنابك راحل ... فهل لي يوما من لقائك زاد )
( وحسبك والأيام خون غوادر ... فراق كما شاء العدا وبعاد )
( من شعر خلف القطيني 246 من شعر خلف القطيني وقال خلف بن هارون القطيني
( من أنبت الورد في خديك يا قمر ... ومن حمى قطفه إذ ليس مصطبر )
( الزهر في الروض مقرون بأزمنة ... وروض خدك موصول به الزهر )
وكان لابن الحاج صاحب قرطبة ثلاثة أولاد من أجمل الناس حسون وعزون ورحمون فأولع بهن الإمام أبو محمد بن السيد النحوي وقال فيهم
( أخفيت سقمي حتى كاد يخفيني ... وهمت في حب عزون فعزوني )
( ثم ارحمزني برحمون فإن ظمئت ... نفسي إلى ريق حسون فحسوني )
ثم خاف على نفسه فخرج من قرطبة هكذا رأيته بخط بعض المؤرخين والله أعلم

وقال ابن خفاجة يداعب من بقل عذاره
( التائه مهلا ... ساءني أن تهت جهلا )
( هل ترى ... فيما ترى ... إلا شبابا قد تولى )
( وغراما قد تسرى ... وفؤادا قد تسلى )
( أين دمع فيك يجري ... أين جنب يتقلى )
( أين نفس بك تهذي ... وضلوع فيك تصلى )
( أي باك كان لولا ... عارض وافى فولى )
( وتخلى عنك إلا ... أسفا لا يتخلى )
( وانطوى الحسن فهلا ... أجمل الحسن وهلا ) أما بعد أيها النبيل النبيه فإنه لا يجتمع العذار والتيه قد كان ذلك وغصن تلك الشبيبة رطب ومنهل ذلك المقبل عذب وأما والعذار قد بقل والزمان قد انتقل والصب قد صحا فعقل فقد ركدت رياح الأشواق ورقدت عيون العشاق فدع عنك من نظرة التجني ومشية التثني وغض من عنانك وخذ في تراضي إخوانك وهش عند اللقاء هشة أريحية واقنع بالإيماء رجع تحية فكأني بفنائك مهجورا وبزائرك مأجورا والسلام وقال الرصافي لما بعث إليه من يهواه سكينا
( تفاءلت بالسكين لما بعثته ... لقد صدقت مني العيافة والزجر ) فكان من السكين سكناك في الحشا وكان من القطع القطيعة والهجر )

وحضر الفقيه أبو بكر بن حبيش ليلة مع بعض الجلة وطفئ السراج فقال ارتجالا
( أذك السراج يرينا غرة سفرت ... فباتت الشمس تستحيي وتستتر )
( أو خله فكفانا وجه سيدنا ... لا يطلب النجم من في بيته قمر ) وقصد أحد الأدباء بمرسية أحد السادات من بني عبد المؤمن فأمر له بصلة خرجت على يد ابن له صغير فقال المذكور ارتجالا
( تبرك بنجل جاء باليمن والسعد ... يبشر بالتأييد طائفة المهدي )
( تكلم روح الله في المهد قبله ... وهذا براء بدل اللام في المهد )
وخرج الأستاذ أبو الحسن ابن جابر الدباج يوما مع طلبته للنزهة بخارج إشبيلية وأحضرت مجبنات ما خبا نارها ولا هدأ أوارها فما حاد عنها ولا كف ولا صرف حرها عن اختضابها البنان ولا الكف فقال
( أحلى مواقعها إذا قربتها ... وبخارها فوق الموائد سام )
( إن أحرقت لمسا فإن أوارها في داخل الأحشاء برد سلام
وقال أبو بكر أحمد بن محمد الأبيض الإشبيلي يتهكم برجل زعم أنه ينال الخلافة
( أمير المؤمنين نداء شيخ ... أفادك من نصائحه اللطيفه )

( تحفظ أن يكون الجذع يوما ... سريرا من أسرتك المنيفه )
( أفكر فيك مطويا فأبكي ... وتضحكني أمانيك السخيفه )
وقال صفوان
( ونهار أنس لو سألنا دهرنا ... في أن يعود بمثله لم يقدر )
( خرق الزمان لنا به عاداته ... فلو اقترحنا النجم لم يتعذر )
( في فتية علمت ذكاء بحسنهم ... فتلفعت من غيمها في مئزر )
( والسرحة الغناء قد قبضت بها ... كف النسيم على لواء أخضر )
( وكأن شكل الغيم منخل فضة ... يلقي على الآفاق رطب الجوهر )
واجتاز بعض الغلمان على أبي بكر بن يوسف فسلم عليه بإصبعه فقال أبو بكر في ذلك وأشار في البيت الثالث إلى أن والد الغلام كان خطيب البلد
( مر الغزال بنا مروعا نافرا ... كشبيهه في القفر ريع بصائده )
( لثم السلامى في السلام تسترا ... ثم انثنى حذر الرقيب لراصده )
( هلا تكلف وقفة لمحبه ... ولو أنها قصرا كجلسة والده )
وقال أبو
( القبتوري واحسرتا لأمور ليس يبلغها ... مالي وهن منى نفسي وآمالي )
( أصبحت كالآل لا جدوى لدي وما ... آليت جدا ولكن جدي الآلي )
وقال أبو الحسن بن الحاج

( كفى حزنا أن المشارع جمة ... وعندي إليها غلة وأوام )
( ومن نكد الأيام أن يعدم الغنى ... كريم وأن المكثرين لئام )
وقال أحمد بن أمية البلنسي
( قال رئيسي حين فاوضته ... وما درى أن مقامي عسير )
( أقم فقلت الحال لا تقتضي ... فقال سر قلت جناحي كسير )
وقال ابن برطلة
( لله ما ألقاه من همة ... لا ترتضي إلا السها منزلا )
( ومن خمول كلما رمت ... أن أسمو به بين الورى قال لا ) من شعر ابن خروف 249 من شعر ابن وكتب ابن خروف لبعض الرؤساء
( يا من حوى كل مجد ... بجده وبجده )
( أتاك نجل خروف ... فامنن عليه بجده )
وكتب أيضا لبعضهم يستدعي فروة
( بهاء الدين والدنيا ... ونور المجد والحسب )
( طلبت مخافة الأنواء ... من جدواك جلد أبي )
( وفضلك عالم أني ... خروف بارع الأدب )
( حلبت الدهر أشطره ... وفي حلب صفا حلبي )
وبعد كتبي لما ذكر خشيت أن يكون لابن خروف المشرقي لا الأندلسي والله تعالى أعلم

وركب محبوب أبي بكر ابن مالك كاتب ابن سعد بغلة رديف رجل يعرف بالدب فقال أبو بكر في ذلك
( وبغلة ما لها مثال ... يركبها الدب والغزال )
( كأن هذا وذا عليها ... سحابة خلفها هلال )
وخرج محبوب لأبي الحسن بن حريق يوما لنزهة وعرض سيل عاقه عن دخول البلد فبات ليلة عند أبي الحسن فقال في ذلك
( يا ليلة جادت الأماني ... بها على رغم أنف دهري )
( تسيل فيها علي نعمى ... يقصر عنها لسان شكري )
( ابات في منزلي حبيبي ... وقام في أهله بعذر )
( وبت لا حالة كحالي ... صريع سكر ضجيع بدر )
( يا ليلة القدر في الليالي ... لأنت خير من الف شهر )
وقال أبو الحسن بن الزقاق
( عذيري من هضيم الكشح أحوى ... رخيم الدل قد لبس الشبابا )
( أعد الهجر هاجرة لقلبي ... وصير وعده فيها سرابا )
وقال ابو بكر بن الجزار السرقسطي
( ثناء الفتى يبقى ويفنى ثراؤه ... فلا تكتسب بالمال شيئا سوى الذكر )
( فقد أبلت الأيام كعبا وحاتما ... وذكرهما غض جديد إلى الحشر )

وقال الأديب أبو عبد الله الجذامي كان لشخص من أصحابنا قينة فبينما هو ذات يوم قد رام تقبيلها على أثر سواك أبصره بمبسمها إذ مر فوال ينادي على فول يبيعه قال فكلفني أن أقول في ذلك شيئا فقلت
( ولم أنس يوم الأنس حين سمحت لي ... وأهديت لي من فيك فول سواك )
( ومر بنا الفوال للفول مادحا ... وماقصده في المدح فول سواك )
وشرب يوما أبو عبد الله المذكور عند بعض الأجلة وذرعة القيء فارتجل في العذر
( لا تؤاخذ من أخل به ... قهوة في الكاس كالقبس )
( كيف يلحى في المدام فتى ... أخذته أخذ مفترس )
( دخلت في الحلق مكرهة ... ضاق عنها موضع النفس )
( خرجت من موضع دخلت ... أنفت من مخرج النجس )
وجلس سلمة بن أحمد إلى جنب وسيم يكتب من محبرة فانصب الحبر منها على ثوب سلمة فخجل الغلام فقال سلمة
( صب المداد وما تعمد صبه ... فتورد الخد المليح الأزهر )
( يا من يؤثر حبره في ثوبنا ... تأثير لحظك في فؤادي أكبر )
وكان لأبي الحسن بن حزمون بمرسية محبوب يدعى أبا عامر وسافر أبو الحسن فبينما هو بخارج ألمرية إذ لقي فتى يشبه محبوبه وسأله عن اسمه فأخبره بأنه يدعى أبا عامر فقال أبو الحسن في ذلك
( إلى كم أفر أمام الهوى ... وليس لذا الحب من آخر

وكيف أفر أمام الهوى ... وفي كل واد أبو عامر )
وحضر أبو بكر ابن مالك كاتب ابن سعد مع محبوبه لارتقاب هلال شوال فأغمي على الناس ورآه محبوبه فقال أبو بكر في ذلك
( توارى هلال الأفق عن أعين الورى ... ولاح لمن أهواه منه وحياه )
( فقلت لهم لم تفهموا كنه سره ... ولكن خذوا عني حقيقة معناه )
( بدا الأفق كالمرآة راق صفاؤه ... فأبصر دون الناس فيه محياه )
وكتب أبو بكر بن حبيش لمن يهواه بقوله
( متى ما ترم شرحا لحالي وتبيينا ... فصحف على قلبي علومك تحيينا ) أراد ( ( إني بحبك مولع ) )
وكتب القاضي ابن السليم إ لى الحكم المستنصر بالله
( لو أن أعضاء جسمي ألسن نطقت ... بشكر نعماك عندي قل شكري لك )
( أو كان ملكني الرحمن من أجلي ... شيئا وصلت به يا سيدي أجلك )
( ومن تكن في الورى آماله كثرت ... فإنما أملي في أن ارى أملك )
وقال الوزير ابن أبي الخصال
( وكيف أؤدي شكر من إن شكرته ... على بر يوم زادني مثله غدا )
( فإن رمت أقضي اليوم بعض الذي مضى ... رأيت له فضلا علي مجددا )

وقال الرصافي
( قلدت جيد الفكر من تلك الحلى ... ما شاءه المنثور والمنظوم )
( وأشرت قدامي كأني لاثم ... وكأن كفي ذلك الملثوم ) وقال
( ويا لك نعمة رمنا مداها ... فما وصل اللسان ولا الضمير )
( عجزنا أن نقوم لها بشكر ... على أن الشكور لها كثير )
وقال ابن باجة
( قوم إذا انتقبوا رأيت أهلة ... وإذا هم سفروا رأيت بدورا )
( لا يسألون عن النوال عفاتهم ... شكرا ولا يحمون منه نقيرا )
( لو أنهم مسحوا على جدب الربى ... بأكفهم نبت الأقاح نضيرا )
وقال ابن الأبار يمدح أبا زكريا سلطان إفريقية
( تحلت بعلياك الليالي العواطل ... ودانت لسقياك السحاب الهواطل )
( وما زينة الأيام إلا مناقب ... يفرعها اصلان بأس ونائل )
( إذ الطول والصول استقلا براحة ... ترقت لها نحو النجوم أنامل )
وقال أيضا في سعيد بن حكم رئيس منرقة
( سيد أيد رئيس بئيس ... في أساريره صفات الصباح )
( قمر في أفق المعالي تجلى ... وتحلى بالسؤدد الوضاح )
( سلم البحر في السماحة منه ... لجواد سموه بحر السماح

وقال ابو العباس احمد الاشبيلي
( يا أفضل الناس إجماعا ومعرفتي ... تغني وما الحسن في ريب ولا ريب )
( ورثت عن سلف ما شئت من شرف ... فقد بهرت بموروث ومكتسب )
وقال ابن زهر الحفيد
( يا من يذكرني بعهد أحبتي ... طاب الحديث بذكرهم ويطيب )
( أعد الحديث علي من جنباته ... إن الحديث عن الحبيب حبيب )
( ملأ الضلوع وفاض عن أحنائها ... قلب إذا ذكر الحبيب يذوب )
( ما زال يضرب خافقا بجناحه ... يا ليت شعري هل تطير قلوب ) وقال في زهر الكتاب
( أهلا بزهر اللازورد ومرحبا ... في روضة الكتان تعطفه الصبا )
( لو كنت ذا جهل لخلتك لجة ... وكشفت عن ساق كما فعلت سبا ) ولما قال الموشحة المشهورة التي أولها
( صادني ولم يدر ما صادا ... )
قال أبو بكر بن الجد لو سئل عما صاد لقال تيس بلحية حمراء
ولما قال الموشحة التي أولها
( هات ابنة العنب واشرب ... ) إلى قوله
( وفده بأبي ثم بي ... )
سمعها أبوه فقال يفديه بالعجوز السوء أمه وأما أنا فلا

وهنالك أبو بكر بن زهر الأصغر وهو ابن عم هذا الأكبر ومن نظم الأصغر
( والله ما أدري بما أتوسل ... إذ ليس لي ذات بها أتوصل )
( لكن جعلت مودتي مع خدمتي لعلاك أحظى شافع يتقبل )
( إن كنت من أدوات زهر عاطلا ... فالزهر منهن السماك الأعزل )
وهذه الأبيات خاطب بها المأمون بن المنصور صاحب المغرب
وقال الأديب أبو جعفر عمر ابن صاحب الصلاة
( وما زالت الدنيا طريقا لهالك ... تباين في أحوالها وتخالف )
( ففي جانب منها تقوم مآتم ... وفي جانب منها تقوم معازف )
( فمن كان فيها قاطنا فهو ظاعن ... ومن كان فيها آمنا فهو خائف )
وقال أبو بكر محمد ابن صاحب الصلاة يخاطب أخيل لما انتقل إلى العدوة
( لا تنكرن زمانا رماك منه بسهم ... وأنت غاية مجد ) في كل علم وفهم )
( هذي دموعي حتى ... يراك طرفي تهمي )
( يا ليت ما كنت أخشى ... عليك عدوان هم )
( وإنما الدهر يبدي ... ما لا يجوز بوهم )
( ما زال شيهم مس لكل يقظان شهم )
ولما وفد أهل الأندلس على عبد المؤمن قام خطيبا ناثرا وناظما فأتى

بالعجب وباهى به أهل الأندلس في ذلك الوقت
وله في عبد المؤمن
( هم الألى وهبوا للحرب أنفسهم ... وأنهبوا ما حوت أيديهم الصفدا )
( ما إن يغبون كحل الشمس من رهج ... كأنما عينها تشكو لهم رمدا )
وقال ابن السيد البطليوسي في أبي الحكم عمرو بن مذحج بن حزم وقد غلب على لبه وأخذ بمجامع قلبه
( رأى صاحبي عمرا فكلف وصفه ... وحملني من ذاك ما ليس في الطوق )
( فقلت له عمرو كعمرو فقال لي ... صدقت ولكن ذاك شب عن الطوق )
وفيه يقول ابن عبدون
( يا عمرو رد على الصدور قلوبها ... من غير تقطيع ولا تحريق )
( وأدر علينا من خلالك أكؤسا ... لم تأل تسكرنا بغير رحيق ) وفيه يقول أحدهما
( قل لعمرو بن مذحج ... جاء ما كنت أرتجي )
( شارب من زبرجد ... ولمى من بنفسج )
وكتب إليه ابن عبدون
( سلام كما هبت من المزن نفحة ... تنفس عند الفجر في وجهها الزهر )

ومنها
( أبا حسن أبلغ سلام فمي يدي ... أبي حسن وارفق فكلتاهما بحر )
( ولا تنس يمناك التي هي والندى ... رضيعا لبان لا اللجين ولا التبر )
فأجابه من أبيات
( تحير ذهني في مجاري صفاته ... فلم أدر شعر ما به فهت أم سحر )
( أرى الدهر أعطاك التقدم في العلى ... وإن كان قد وافى أخيرا بك الدهر ... لئن حازت الدنيا بك الفضل آخرا ... ففي أخريات الليل ينبلج الفجر )
ولعمرو في أبي العلاء بن زهر
( قدمت علينا والزمان جديد ... وما زلت تبدي في الندى وتعيد )
( وحق العلا لولا مراتبك العلا ... لما اخضر في أفق المكارم عود )
( فلوحوا بني زهر فإن وجوهكم ... نجوم بأفلاك العلاء سعود )
وقوله لأبي الوليد ابن عمه
( إني لأعجب أن يدنو بنا وطن ... ولا يقضى من اللقيا لنا وطر )
( لا غرو إن بعدت دار مصاقبة ... بنا وجد بنا للحضرة السفر )
( فمحجر العين لا يلقاه ناظرها ... وقد توسع في الدنيا به النظر )
وقال ابن عمه أبو بكر محمد بن مذحج يخاطب ابن عمه أبا الوليد

( ولما رأى حمص استخفت بقدره ... على أنها كانت به ليلة القدر )
( تحمل عنها والبلاد عريضة ... كما سل من غمد الدجى صارم الفجر )
وقال أبو الوليد المذكور
( أتجزع من دمعي وأنت أسلته ... ومن نار أحشائي وأنت لهيبها )
( وتزعم أن النفس غيرك علقت ... وأنت ولا من عليك حبيبها )
( إذا طلعت شمس علي بسلوة ... أثار الهوى بين الضلوع غروبها )
وله أيضا
( لما استمالك معشر لم أرضهم ... والقول فيك كما علمت كثير )
( داريت دونك مهجتي فتماسكت ... من بعد ما كادت إليك تطير )
( فاذهب فغير جوانحي لك منزل ... واسمع فغير وفائك المشكور ) وقال
( يقول وقد لمته في هوى ... فلان وعرضت شيئأ قليلا )
( أتحسدني قلت لا والذي ... أحلك في الحب مرعى وبيلا )
( وكيف وقد حل ذاك الجناب ... وقد سلك الناس ذاك السبيلا ) وله مما يكتب على قوس
( إنا إذا رفعت سماء عجاجة ... والحرب تقعد بالردى وتقوم )
( وتمرد الأبطال في جنباتها ... والموت من فوق النفوس يحوم )

( مرقت لهم منا الحتوف كأنما ... نحن الأهلة والسهام نجوم )
وقال أبو الحسين بن فندلة في كلب صيد
( فجعت بمن لو رمت تعبير وصفه ... لقل ولوأني غرفت من البحر )
( بأخطل وثاب طموح مؤدب ... )
( ثبوت يصيد النسرلو حل في النسر )
( كلون الشباب الغض في وجهه سنا ... كأن ظلاما ليس فيه سوى البدر )
( إذا سار والبازي أقول تعجبا ... ألا ليت شعري يسبق الطير من يجري )
ولا يلتفت إلى قول أبي العباس بن سيد فيه
( الموت لا يبقي على مهجة ... لا أسدا يبقي ولا نعثله )
( ولا شريفا لبني هاشم ... ولا وضيعا لبني فندله )
وكان ابن سيد مسلطا على هذا البيت قال ابن سعيد وإنما ينبح الكلب القمر
قال أبو العباس النجار كان أبو الحسين يلقب بالوزعة فوصلت إلى بابه يوما فتحجب عني فكتبت على الباب
( تحجب الفندلي عني ... فساء من فعله ضميري )
( ينفر من رؤيتي كأني ... مضمخ الجيب بالعبير )
قال ومن عادة الوزعة أن تكره رائحة الزعفران وتهرب منه

وقال أبو القاسم بن حسان
( ألا ليتني ما كنت يوما معظما ... ولا عرفوا شخصي ولا علموا قصري )
( أكلف في حال المشيب بمثل ما ... تحملته والغصن في ورق نضر )
( فما عاش في الأيام في حر عيشة ... سوى رجل ناء عن النهي والأمر )
وقال أبو بكر بن مرتين
( صحبت منك العلا والفضل والكرما ... وشيمة في الندى لا ترتضي السأما )
( مودة في ثرى الإنصاف راسخة ... وسمكها فوق أعناق السماء سما )
وقال
( أنصفتني فمحضك الود الذي ... يجزى بصفوته الخليل المنصف )
( لاتشكرن سوى خلالك إنها ... جلبت إليك من الثنا ما يعرف )
وقال
( يا هلالا يتجلى ... وقضيبا يتثنى )
( كل أنس لم تكنه ... فهو لفظ دون معنى )
وقال القاضي أبو عبدالله محمد بن زرقون
( ذكر العهد والديار غريب ... فجرى دمعه ولج النحيب )
( ذكر العهد والنوى من حبيب ... حبذا العهد والنوى والحبيب )
( إذ صفاء الوداد غيرمشوب ... بتجن وودنا مشبوب )

( وإذا الدهر دهرنا وإذا الدار ... قريب وإذ يقول الرقيب )
ومنها
( أسأل الله عفوه فلئن ساء ... مقالي لقد تعف القلوب )
( قد ينال الفتى الصغائر ظرفا ... لاسواها وللذنوب ذنوب )
( وأخو الشعر جناخ عليه ... وسواء صدوقه والكذوب )
334 - وقال الخطيب أبو عبد الله محمد بن عمر الإشبيلي
( وكل إلى طبعه عائد ... وإن صده المنع عن قصده )
( كذا الماء من بعد إسخانه ... يعود سريعا إلى برده )
وقال
( يا معدن الفضل وطود الحجى ... لا زلت من بحر العلا تغترف )
( عبدك بالباب فقل منعما ... يدخل أو ينصرف )
وقال إمام اللغة أبو بكر محمد بن الحسن الزبيدي الإشبيلي
( ما طلبت العلوم إلا لأني ... لم أزل من فنونها في رياض )
( ما سواها له بقلبي حظ ... غير ما كان للعيون المراض )
وقال
( أشعرن قلبك ياسا ... ليس هذا الناس ناسا )
( ذهب الإبريز منهم ... فبقوا بعد نحاسا )

( سامريين يقولون ... جميعا لا مساسا )
وكان كتاب العين للخليل مختل القواعد فامتعض له هذا الإمام وصقل صدأه كما يصقل الحسام وأبرزه في أجمل منزع حتى قيل هذا مما أبدع واخترع وله كتاب في النحو يسمى الواضح وصيره الحكم المستنصر مؤدبا لولده هشام المؤيد وبالجملة فهو في المغرب بمنزلة ابن دريد في المشرق
وقال النحوي أبو بكر محمد بن طلحة الإشبيلي وشعره رقيق خارج عن شعر النحاة ومنه
( إلى أي يوم بعده يرفع الخمر ... وللورق تغريد وقد خفق النهر )
( وقد صقلت كف الغزالة أفقها ... وفوق متون الروض أردية خضر )
( وكم قد بكت عين السماء بدمعها ... عليها ولولا ذاك ما بسم الزهر )
وقال
( بدا الهلال فلما ... بدا نقصت وتما )
( كأن جسمي فعل ... وسحر عينيه لما ) وكان لا يملك نفسه في النظر إلى الصور الحسان وأتاه يوما أحد أصحابه بولد له فتان الصورة فعندما دخل مجلسه قصر عليه طرفه ولم يلتفت إلى والده وجعل والده يوصيه عليه وهو لا يعلم ما يقوله وقد افتضح في طاعة هواه فقال له الرجل يا أبا بكر حقق النظر فيه لعله مملوك ضاع لك وقد

جبره الله تعالى عليك ولكن على من يتركه عندك لعنة الله هذا ما عملت بمحضري والله إن غاب معك عن بصري لمحة لتفعلن به ما اشتهر عنك وأخذ ولده وانصرف به فانقلب المجلس ضحكا
وقال أبو جعفر أحمد بن الأبار الإشبيلي وهو من رجال ( ( الذخيرة ) )
( زارني خيفة الرقيب مريبا ... يتشكى منه القضيب الكثيبا )
( رشأ راش لي سهام المنايا ... من جفون يسبي بهن القلوبا )
( قال لي ما ترى الرقيب مطلا ... قلت دعه أتى الجناب الرحيبا )
( عاطه أكؤس المدام دراكا ... وأدرها عليه كوبا فكوبا )
( واسقنيها من خمر عينيك صرفا ... واجعل الكأس منك ثغرا شنيبا )
( ثم لما ان نام من نتقيه ... وتلقى الكرى سميعا مجيبا )
( قال لا بد أن تدب عليه ... قلت أبغي رشا وآخذ ذيبا )
( قال فابدأ بنا وثن عليه ... قلت عمري لقد أتيت قريبا )
( فوثبنا على الغزال ركوبا ... وسعينا على الرقيب دبيبا )
( فهل أبصرت أو سمعت بصب ... ناك محبوبه وناك الرقيبا )
وأنشد له ابن حزم
( أو ما رأيت الدهر أقبل معتبا ... متنصلا بالعذر مما أذنبا )
( بالأمس أذبل في رياضك أيكة ... واليوم أطلع في سمائك كوكبا )

وقيل إنه خاطب بهما ابن عباد ملك إشبيلية وقد ماتت له بنت وولد له ابن وبعضهم ينسبهما لغيره ودخل الأديب أبو القاسم بن العطار الإشبيلي حماما بإشبيلية فجلس إلى جانبه وسيم خمري العينين فافتتن بالنظر إليه والمحادثة إلى أن قام وقعد في مكانه أسود فقال
( مضت جنة المأوى وجاءت جهنم ... فها أنا أشقى بعد ما كنت أنعم )
( وما كان إلا الشمس حان غروبها ... فأعقبها جنح من الليل مظلم )
وقال الأديب المصنف أبو عمرو عثمان بن علي بن عثمان بن الإمام الإشبيلي صاحب سمط الجمان
( عذيري من الأيام لا در درها ... لقد حملتني فوق ما كنت أرهب )
( وقد كنت جلدا ما ينهنهني النوى ... ولا يستبيني الحادث المتغلب )
( يقاسي صروف الدهر مني مع الصبا ... جذيل حكاك أو عذيق مرجب )
( وكنت إذا ما الخطب مد جناحه ... علي تراني تحته أتقلب )
( فقد صرت خفاق الجناح يروعني ... غراب إذا أبصرته وهو ينعب )
( وأحسب من ألقى حبيبا مودعا ... وأن بلاد الله طرا محصب )
وقد امتعض للآداب في صدر دولة بني عبد المؤمن فجمع شمل الفضلاء الذين اشتملت عليهم المائة السابعة إلى مبلغ سنة منها في ذلك الأوان واستولى بذلك على خصل الرهان وانفرد بهذه الفضيلة التي لم ينفرد بها إلا فلان وفلان وكان الأديب العالم الصالح أبو الحسن علي بن جابر الدباج الإشبيلي إماما في فنون العربية ولكن شهر بإقراء كتب الآداب كالكامل للمبرد و نوادر

القالي وما أشبه ذلك وكان - مع زهده - فيه لوذعية ومن ظرفه أن أحد تلامذته قال لغلام جميل الصورة بالله أعطني قبلة تمسك رمقي فشكاه إلى الشيخ وقال له يا سيدي قال لي هذا كذا فقال له الشيخ وأعطيته ما طلب فقال له لا فقال له ما هذه الثقالة ما كفاك أن حرمته حتى تشتكي به أيضا وحسبك من جلالة قدره أن أهل إشبيلية رضوا به إماما في جامع العدبي وله
( لما تبدت وشمس الأفق بادية ... أبصرت شمسين من قرب ومن بعد )
( من عادة الشمس تعشي عين ناظرها ... وهذه نورها يشفي من الرمد )
وقال مالك بن وهيب
( أراميتي بالسحر من لحظاتها ... نعيذك كيف الرمي من دون أسهم )
( ألا فاعلمي أن قد أصبت فواصلي ... سهامك أو كفي فلست بمسلم )
( فإنسان عين الدهر أصميت فاحذري ... مطالبة بالقلب واليد والفم )
( أما هو في غيل غذا غابه القنا تحف به آساد كل ملثم )
( ولو أن لي ركنا شديدا بنجدة ... أويت له من بأس لحظك فارحمي )
وهو إشبيلي كان من أهل الفلسفة كما في المسهب قال وهو فيلسوف المغرب ظاهر الزهد والورع استدعاه من إشبيلية أمير المسلمين علي بن يوسف ابن تاشفين إلى حضرة مراكش وصيره جليسه وأنيسه وفيه يقول بعض أعدائه
( دولة لابن تاشفين علي ... طهرت بالكمال من كل عيب )
( غير أن الشيطان دس إليها ... من خباياه مالك بن وهيب )

وأمره علي بمناظرة محمد بن تومرت الملقب بالمهدي الذي أنشأ دولة بني عبد المؤمن
شعار لأبي الصلت
من شعر
وقال أبو الصلت أمية بن عبد العزيز المذكور في غير هذا الموضع من هذا الكتاب يستدعي بعض إخوانه
( بمعاليك وجدك ... جد بلقياك لعبدك )
( حضر الكل ولكن ... لم يطب شيء لفقدك )
وقال
( وراغب في العلوم مجتهد ... لكنه في القبول جلمود )
( فهو كذي عنة به شبق ... ومشتهي الأكل وهو ممعود )
وقال
( لئن عرضت نوى وعدت عواد ... أدالت من دنوك بالبعاد )
( فما بعدت عن اللقيا جسوم ... تدانت بالمحبة والوداد )
( ولكن قرب دارك كان أندى ... على كبدي وأحلى في فؤادي )
وله في مجمرة
( ومحرورة الأحشاء لم تدر ما الهوى ... ولم تدر ما يلقى المحب من الوجد )
( إذا ما بدا برق المدام رأيتها ... تثير غماما في الندي من الند )
( ولم أر نارا كلما شب جمرها ... رأيت الندامى منه في جنة الخلد ) وق

وله من قصيدة
( وإن هم نكصوا يوما فلا عجب ... قد يكهم السيف وهو الصارم الذكر )
( العود أحمد والأيام ضامنة ) عقبى النجاح ووعد الله منتظر ) وقال [ السريع ]
( تقريب ذي الأمر لأهل النهى أفضل ما ساس به أمره )
( هذا به أولى وما ضره ... تقريب أهل اللهو في الندره )
( عطارد في جل أوقاته ... أدنى إلى الشمس من الزهره )
وقوله
( تفكر في نقصان مالك دائما ... وتغفل عن نقصان جسمك والعمر )
( ويثنيك خوف الفقر عن كل بغية ... وخوفك حال الفقر )
شر من الفقر وقوله
( يا ليلة لم تبن من القصر ... كأنها قبلة على حذر )
( لم تك إلا كلا ولا ومضت ... تدفع في صدرها يد السحر ) وقال فيمن نظر إليه نظر إليه فأعرض عنه
( قالوا ثنى عنك بعد البشر صفحته ... فهل أصاخ إلى الواشي فغيره )
( فقلت لا بل درى وجدي بعارضه ... فرد صفحته عمدا لأبصره ) وقال
( حكت الزمان تلونا ... لمحبها العاني الأسير )
( فوصالها برد الأصيل ... وهجرها حر الهجير

وقال يستدعي
( هو يوم كما تراه مطير ... كلب القر فيه والزمهرير )
( وأرانا الغمام والبرد ثوبين ... علينا كلاهما مجرور )
( ولدينا شمسان شمس من الرا ح ... وشمس تسعى بها وتدور )
( فمن الرأي أن تشب الكوانين ... بأجذالها وترخى الستور )
( فاترك الإعتذار فيه فترك الشرب ... في مثل يومنا تغرير )
وقال
( هو البحر غص فيه إذا كان ساكنا ... على الدر واحذره إذا كان مزبدا )
وقال
( غبت عنا فغاب كل جمال ... ونأى إذ نأيت كل سرور )
( ثم لما قدمت عادونا الأنس ... وقرت قلوبنا في الصدور )
( فلو أنا نجزي البشير بنعمى ... لوهبنا حياتنا للبشير )
وقال
( كم ضيعت منك المنى حاصلا ... كان من الأحزم أن يحفظا )
( فالفظ بها عنك فمن حق ما ... يخفي صواب الرأي أن يلفظا )
( فإن تعللت بأطماعها ... فإنما تحلم مستيقظا ) وقال
( يقولون لي صبرا وإني لصابر ... على نائبات الدهر وهي فواجع )
( سأصبر حتى يقضي الله ما قضى ... وإن أنا لم أصبر فما أنا صانع ) ==

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مجلد11.و12. من كتاب بغية الطلب في تاريخ حلب المؤلف : ابن العديم

  11. مجلد11. من كتاب بغية الطلب في تاريخ حلب المؤلف : ابن العديم ابن عبد العزى بن رباح بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب القرشي العدوي،...