بحث هذه المدونة الإلكترونية

Translate كيك520000.

السبت، 11 يونيو 2022

مجلد 5.و6. نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب المؤلف : أحمد بن محمد المقري التلمساني

 

5.    مجلد 5.و6. نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب
المؤلف : أحمد بن محمد المقري التلمساني


وقال
( بأبي خود شموع أقبلت تحمل شمعه )
( فالتقى نوراهما واختلفا ... قدرا ورفعه )
( ومسير الشمس تستهدي ... بضوء النجم بدعه )
وقال في فرس أشهب
( وأشهب كالشهاب أضحى ... يلوح في مذهب الجلال )
( قال حسودي وقد رآه ... يخب تحتي إلى القتال )
( من ألجم الصبح بالثريا ... وأسرج البرق بالهلال )
وقال
( رمتني صروف الدهر بين معاشر ... أصحهم ودا عدو مقاتل )
( وما غربة الإنسان في غير داره ... ولكنها في قرب من لا يشاكل )
وقال أصبحت صبا دنفا مغرما ... أشكو جوى الحب وأبكي دما )
( هذا وقد سلم إذ مر بي ... فكيف لو مر وما سلما )
وقال
( وقفنا للنوى فهفت قلوب ... أضر بها الجوى وهمت شؤون )
( يناجي بعضنا باللحظ بعضا ... فتعرب عن ضمائرنا العيون )
( فلا والله ما حفظت عهود ... كما ضمنوا ولا قضيت ديون )

( ولو حكم الهوى يوما بعدل ... لأنصف من يفي ممن يخون )
( أمر بداركم وأغض طرفي ... مخافة أن تظن بي الظنون )
ولما رأى عبد الرحمن بن شبلاق الحضرمي الإشبيلي في النوم أنه مر على قبر وقوم يشربون حوله وسط أزاهر فأمروه أن يرثي صاحب القبر وهو أبو نواس الحسن بن هانئ قال
( جادك يا قبر انسكاب الغمام ... وعاد بالروح عليك السلام )
( ففيك أضحى الظرف مستودعا ... واستترت عنا عيون الظلام )
وقال أبو بكر محمد بن نصر الأشبيلي
( وكأنما تلك الرياض عرائس ... ملبوسهم معصفر ومزعفر )
( أو كالقيان لبسن موشي الحلى ... فلهم في وشي اللباس تبختر )
وقال أحمد بن محمد الإشبيلي
( أما ترى النرجس الغض الذكي بدا ... كأنه عاشق شابت ذوائبه )
( أو المحب شكا لما أضر به ... فرط السقام فعادته حبائبه )
وقال
( رب نيلوفر غدا مخجل الرا ئي ... إليه نفاسة وغرابه )
( كمليك للزنج في قبة بيضاء ... يدنو الدجا فيغلق بابه )

وقال أبو الأصبغ بن سيد
( كأنما النرجس في منظر الحسن ... الذي أمثاله تبتغى )
( أنامل من فضة فوقه ... كأس من التبر به أفرغا )
وقال أبو إسحاق إبراهيم بن خيرة الصباغ مما أنشده له أبو عامر ابن مسلمة في كتاب حديقة الارتياح
( يوم كأن سحابه لبست عمامي المصامت حجبت به شمس الضحى بمثال أجنحة الفواخت
( فالغيث يبكي فقدها ... والبرق يضحك مثل شامت )
( والرعد يخطب مفصحا ... والجو كالمحزون ساكت )
( والروض يسقيه الحيا ... والنور ينظر مثل باهت )
( فاشرب ولذ بجنة ... واطرب فإن العمر فائت )
وله
( رب ليل طال لا صبح له ... ذي نجوم أقسمت أن لا تغور قد هتكنا )
( جنحه من فلق ... من خمور ووجوه كالبدور )
( إذ بدت تشبهها في كأسها ... نار إبراهيم في برد ونور )
( صرعتنا أذ علونا ظهرها ... في ميادين التصابي والسرور )
( وكأنا حين قمنا معشر ... نشروا بعد ممات من قبور )
وقال أبو بكر بن حجاج

( لما كتمت الحب لا عن قلى ... ولم أجد إلا البكا والعويل )
( ناديت والقلب به مغرم ... يا حسبي الله ونعم الوكيل )
وقال
( يقولون إن السحر في أرض بابل ... وما السحر إلا ما أرتك محاجره )
( وما الغصن إلا ما انثنى تحت برده ... وما الدعص إلا ما طوته مآزره )
( وما الدر إلا ثغره وكلامه ... وما الليل إلا صدغه وغدائره ) وهذه الأبيات من قصيدة في محمد بن القاسم بن حمود ملك الجزيرة الخضراء أعادها الله تعالى
وقال الرصافي أبو عبد الله الشاعر المشهور وهو ابن رومي الأندلس في حريري
( وبنفسي من لاأسميه إلا ... بعض إلمامة وبعض إشاره )
( هو والظبي في المجال سواء ... ما استفاد الغزال منه استعاره )
( أغيد يمسك الحرير بفيه ... مثل ما يمسك الغزال العراره )
وهو القائل يمدح أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي
( لو جئت نار الهدى من جانب الطور ... قبست ما شئت من علم ومن نور )
ولأبي جعفر أحمد بن الجزار
( وما زلت أجني منك والدهر ممحل ... ولا ثمر يجنى ولا زرع يحصد )
( ثمار أياد دانيات قطوفها ... لأوراقها ظل علي ممدد )

( يرى جاريا ماء المكارم تحتها وأطيار شكري فوقهن تغرد )
ولما نفي أبو جعفر ابن البني من ميورقة وأقلع في البحر ثلاثة أميال ونشأت ريح ردته لم يتجاسر أحد من إخوانه على إتيانه فكتب إليهم [ الوافر ] أحبتنا الألى عتبوا علينا ... وأقصونا وقد أزف الوداع )
( لقد كنتم لنا جذلا وأنسا ... فما بالعيش بعدكم انتفاع )
( أقول وقد صدرنا بعد يوم ... أشوق بالسفينة أم نزاع
( إذا طارت بنا حامت عليكم ... كأن قلوبنا فيها شراع )
وله
( غصبت الثريا في البعاد مكانها ... وأودعت في عيني صادق نوئها )
( وفي كل حال لم تزالي بخيلة ... فكيف أعرت الشمس حلة ضوئها )
وله في غلام يرمي الطيور
( قالوا تصيب طيور الجو أسهمه ... إذا رماها فقلنا عندنا الخبر ) تعلمت قوسها من قوسه حاجبه
( وأيد السهم من أجفانه الحور )
( يلوح في بردة كالنقس حالكة ... كما أضاء بجنح الليلة القمر )
( وربما راق في خضراء مونقة ... كما تفتح في أوراقه الزهر )
وقال الأديب الكاتب القاضي أبو المطرف ابن عميرة المخزومي

لما قص شعر ملك شرق الأندلس زيان بن مردنيش مزين في يوم رفع فيه أبو المطرف شعرا فخرجت صلة المزين ولم تخرج صلة أبي المطرف
( أرى من جاء بالموسى مواسى ... وراحة من أذاع المدح صفرا )
( فأنجح سعي ذا إذ قص شعرا ... وأخفق سعي ذا إذ قص شعرا )
واسم أبي المطرف أحمد وهو من جزيرة شقر من كورة بلنسية
وكان الكاتب الحسيب أبو جعفر أحمد بن طلحة يعشق علجا من علوج ابن هود ويماشيه في غزواته وفيه يقول
( ما أحضر الغزو من صلاح ... كلا ولا رغبة الجهاد )
( لكن لكيما يكون داع ... لقربنا خيرة الجياد ) وقد تقدمت حكايته فلتراجع
وكان صنوبري الأندلس أبو إسحاق بن خفاجة وهو من رجال الذخيرة والقلائد والمسهب والمطرب والمغرب وشهرته تغني عن الإطناب فيه مغرى بوصف الأنهار والأزهار وما يتعلق بها وأهل الأندلس يسمونه الجنان ومن أكثر من شيء عرف به وتوفي سنة ثلاث أو خمس وثلاثين وخمسمائة وولد سنة خمسين وأربعمائة ومن نظمه قوله
( ربما استضحك الحباب حبيب ... نفضت لونها عليه المدام )
( كلما مر قاصرا من خطاه يتهادى كما تهادى الغمام )

( سلم الغصن والكثيب علينا ... فعلى الغصن والكثيب السلام ) وبات مع بعض الرؤساء فكاد ينطفئ السراج ثم تراجع نوره فقال
( وأغر ضاحك وجهه مصباحه ... فأنار ذا قمرا وذلك فرقدا )
( ما إن خبا تلقاء نور جبينه ... حتى ذكا بذكائه فتوقدا )
وله
( كتبت وقلبي في يديك أسير ... يقيم كما شاء الهوى ويسير )
( وفي كل حين من هواك وأدمعي ... بكل مكان روضة وغدير )
وله
( كتابنا ولدينا البدر ندمان ... وعندنا أكؤس للراح شهبان )
( والقضب مائسة والطير ساجعة ... والأرض كاسية والجو عريان )
ولما سئل أبو بكر محمد بن أحمد الأنصاري المعروف بالأبيض عن لغة فعجز عنها بمحضر من خجل منه أقسم أن يقيد رجليه بقيد حديد ولا ينزعه حتى يحفظ ( الغريب المصنف ) فاتفق أن دخلت عليه أمه في تلك الحال فارتاعت فقال
( ريعت عجوزي أن رأتني لابسا ... حلق الحديد ومثل ذاك يروع )
( قالت جننت فقلت بل هي همة ... هي عنصر العلياء والينبوع )
( سن الفرزدق سنة فتبعتها ... إني لما سن الكرام تبوع )
وكان شاعرا وشاحا وطاح دمه على يد الزبير أمير قرطبة لما هجاه بمثل قوله عكف
( الزبير على الضلالة جاهدا ... ووزيره المشهور كلب النار )
( ما زال يأخذ سجدة في سجدة ... بين الكؤوس ونغمة الأوتار )

( فإذا اعتراه السهو سبح خلفه ... صوت القيان ورنة المزمار ) ولما بلغ الزبير عنه ذلك وغيره أمره بإحضاره فقرعه وقال ما دعاك إلى هذا فقال إني لم أر أحق بالهجو منك ولو علمت ما أنت عليه من المخازي لهجوت نفسك إنصافا ولم تكلها إلى أحد فلما سمع الزبير ذلك قامت قيامته وأمر بقتله
وأنشد له ابن غالب في فرحة الأنفس قوله في حلقة حائط
( وحلقة كشعاع الشمس صافية ... لو قابلت كوكبا في الجو لالتهبا )
( تأنق القين في إحكام صنعتها ... حتى أفاض على أطرافها الذهبا )
( كأنها بيضة قد قد قونسها ... وكل جنب لها بالطعن قد ثقبا )
وقال فيمن يحدث نفسه بالخلافة
( أمير المؤمنين نداء شيخ ... أفادك من أماليه اللطيفه )
( تحفظ أن يكون الجذع يوما ... سريرا من أسرتك المنيفه وأذكر منك مصلوبا فأبكي ) وتضحكني أمانيك السخيفه ) وهاجى ابن سارة فقال فيه ابن سارة عجائب أن يكون الأبيض بحماره بين السوابق يركض )
وقال إمام النحاة بالأندلس أبو علي عمر الشلوبين فيمن اسمه قاسم

( ومما شجا قلبي وفض مدامعي ... هوى قد قلبي إذ كلفت بقاسم )
( وكنت أظن الميم أصلا فلم تكن وكانت كميم ألحقت بالزراقم والزراقم الحيات مشتقة من الزرقة والميم زائدة يريد أن ميم قاسم كميمها فهو قاس وهو منسوب إلى حصن شلوبينة على ساحل غرناطة وله من الشهرة والتآليف ما يغني عن الإطناب في وصفه وله التوطئة و شرح الجزولية وغيرهما وكان مغفلا ومع ذلك فهو آية الله تعالى في العربية وكان في لسانه لكنة ولما أراد مأمون بني عبد المؤمن التوجه إلى مرسية وقد ثار بها ابن هود وأنشده الشعراء وتكلم في مجلسه الخطباء قام الشلوبين وقال دعاء منه ثلمك الله ونثرك يريد سلمك الله ونصرك لأنه بلكنته يرد السين والصاد ثاء فكان كما قال عاد المأمون وقد ثلم عسكره ونثر
ولما مرض الفقيه الزاهد أبو إسحاق إبراهيم الإلبيري دخل عليه الوزير أبو خالد هاشم بن رجاء فرأى ضيق مسكنه فقال لو اتخذت غير هذا المسكن لكان أولى بك فقال وهو آخر شعر قاله
( قالوا ألا تستجيد بيتا ... تعجب من حسنه البيوت )
( فقلت ما ذلكم صوابا ... عش كثير لمن يموت )
( لولا شتاء ولفح قيظ ... وخوف لص وحفظ قوت )
( ونسوة يبتغين سترا ... بنيت بنيان عنكبوت )

وقال أبو بكر بن عبادة القزاز الموشح في ابن بسام صاحب الذخيرة
( يا منيفا على السماكين سام ... حزت خصل السباق عن بسام )
( إن تحك مدحة فأنت زهير ... أو تشبب فعروة بن حزام )
( أو تباكر صيد المها فابن حجرأ ... أو تبك الديار فابن حذام )
( أو تذم الزمان وهو حقيق ... فأبو الطيب البعيد المرامي )
ولما انتثر سلك نظام ملك لمتونة تفرق ملك الأندلس رؤساء البلاد وكان من جملتهم الأمير أبو الحسن بن نزار لما له من الأصالة في وادي آش فحسده أهل بلده وقصدوا تأخيره عن تلك المرتبة فخطبوا في بلدهم لملك شرق الأندلس محمد بن مردنيش ووجه لهم عماله وأوصاهم أن يخرج هذا الأسد من غيله ويفرق بينه وبين تأميله ورفعوا له أشعارا كان يستريح بها على كاسه ويبثها بمحضر من يركن إليه من جلاسه ومنها قوله وقد استشعر من نفسه أنها أهل للتقديم مستحقة لطلب سلفه القديم
( الآن أعرف قدر النفع والضرر ... فكيف أصدر ما للملك من صدر )
( وكيف أطلع في أفق العلا قمرا ... ويستهل بكفي واكف الدرر )
( وكيف أملأ صدر الدهر من رعب ... وأستقل بحمل الحادث النكر )
( وأستعد لما ترمي الخطوب به ... وأستطيل على الأيام بالفكر )
( لكنني ربما بادرت منتهزا ... لفرصة مرقت كاللمح بالبصر )
( في أم رأسي ما يعيا الزمان به شرحا فسل بعدها الأيام عن خبري ) فعندما وقف ابن مردنيش لأ على هذا القول وجه إلى وادي آش من حمله إليه وقيده وقدم به إلى مرسية أسيرا بعدما كان مرتقبا أن يقدم أميرا فلما وقعت عين ابن مردنيش عليه قال له أمكن الله منك يا فاجر فقال

أنت - أعزك الله - أولى بقول الخير من قول الشر ومن أمكنه الله من القدرة على الفعل فما يليق به أن يستقدر بالقول فاستحيا منه وأمر به للسجن فمكث فيه مدة وصدرت عنه أشعار في تشوقه إلى بلاده منها قوله
( لقد بلغ الشوق فوق الذي ... حسبت فهل للتلاقي سبيل )
( فلو أنني مت من شوقكم ... غراما لما كان إلا قليل )
( تعللني بالتداني المنى ... وينشدني الدهر صبر جميل )
( فقل لبثينة إن أصبحت ... بعيدا فلم يسل عنها جميل )
( أغض جفوني عن غيرها ... وسمعي عن اللوم فيها يميل )
ولم يزل على حاله من السجن إلى أن تحيل في جارية محسنة للغناء حسنة الصوت وصنع موشحته التي أولها
( نازعك البدر اللياح ... بنت الدنان فلم يدع لك اقتراح على الزمان وفيها يقول يا هل أقول للحسود والعيس تحدى
( يا لائمي على السراح ... كانت أماني )
( أخرجها ذاك السماح ... إلى العيان ) وجعل يلقيها على الجارية حتى حفظتها وأحكمت الغناء بها وأهداها إلى ابن مردنيش بعدما أوصاها أنها متى استدعاها إلى الغناء وظفرت به في أطرب ساعة وأسرها غنته بهذه الموشحة وتلطفت في شأن رغبتها في سراح قائلها فلعل الله تعالى يجعل في ذلك سببا واتفق أن ظفرت بما أوصاها به وأحسنت غناء الموشحة فطرب ابن مردنيش لسماع مدحه وأعجبه مقاصد قائلها

فسألها لمن هي فقالت لمولاي عبدك ابن نزار فقال أعيدي علي قوله ( ( يا لائمي على السراح ) ) فأعادته فداخلته عليه الرأفة والأريحية بما أصابه فأمر في الحين بحل قيده واستدعى به إلى موضعه في ذلك الوقت فلما دخل خلع عليه وأدناه وقال له يا أبا الحسن قد أمرنا لك بالسراح على رغم الحسود فارجع إلى بلدك مباحا لك أن تطلب الملك بها وبغيرها إن قدرت فأنت أهل لأن تملك جميع الأندلس لا وادي آش فقال له والله يا سيدي بل ألتزم طاعتك والإقرار بأنك بعثتني من قبر رماني فيه الحساد والوشاة ثم شربا حتى تمكنت بينهما المطايبة فقال له يا ابن نزار الآن أريد أن أسألك عن شيء قال وما هو يا سيدي قال عما في أم رأسك حين قلت
( ي أم رأسي ما يعيا الزمان به شرحا فسل بعدها الأيام عن خبري )
فقال له يا سيدي لا تسمع إلى غرور نفس ألقته على لسان نشوان لعبت بأفكاره الأماني وغطت على عقله الآمال والله لقد بقيت في داري أروم الاجتماع بجارية مهينة قدر سنة فما قدرت على ذلك ومنعتني منها زوجتي فكيف أطلب ما دونه قطع الرؤوس ونهب النفوس فضحك ابن مردنيش وجدد له الإحسان وجهزه إلى بلده وأمر عماله أن يشاركوه في التدبير
( ويستأذنوه في الصغير والكبير فتأثل به مجده وعظم سعده
ومن شعره قوله
( انظر إلى الروض سحيرا وقد ... بث به الطل علينا العيون )
( يرقب منا يقظة للمنى ... فقل لها أهلا بداعي المجون )
( وحثها شمسا إلى أن ترى ... شمس الضحى تطرق تلك الجفون )

وقوله
( تنبه لمعشوق وكأس وقينة ... وروض ونهر ليس يبرح خفاقا ) فيها الصبح بالطل أحداقا )
( ومهما تكن في ضيقة فأدر لها ... كؤوس الطلا فالسكر يوسع ما ضاقا )
وقوله
( عطف القضيب مع النسيم تميلا ... والنهر موشي الخمائل والحلى )
( تركته أعطاف الغصون مظللا ... ولنا عن النهج القويم مضللا )
( أمسى يغازلنا بمقلة أشهل ... والطرف أسحر ما تراه أشهلا )
وقال بعضهم استدعاني أبو الحسن بن نزار لمجلس أنس بوادي آش فلما احتفل مجلسنا وطابت لذتنا قال والله ما تمام هذه المسرة إلا حضور أبي جعفر بن سعيد وهو الآن بوادي آش فوافقناه على ذلك لما نعلم من طيب حالتنا معهما وأنهما لا يأتيان إلا بما يأتي به اجتماع النسيم والروض فخلا في موضع وكتب له
( يا خير من يدعى لكاس دائر ... ووجوه أقمار وروض ناضر )
( إنا حضرنا في الندي عصابة ... معشوقة من ناظم )
( أو ناثر كل مخلى للذي يختاره ... في الأمن من ناه له أو زاجر )
( ما إن لهم شغل بفن واحد ... بل كل ما يجري بوفق الخاطر )
( شدو ورقص واقتطاف فكاهة ... وتعانق وتغامز بنواظر )
( وهم كما تدري بأفقي أنجم لكن لنا شوق لبدر زاهر )
سيدي لا زلت متقدما لكا مكرمة ! هل يجمل التخلف عن ناد قام فيه

السرور على ساق وضحك فيه الأنس بملء فيه وانسدل به ستر الصون وفاء عليه ظل النعيم وسفرت فيه وجوه الطرب وركضت خيل اللهو وثار قتام الند وهطلت سحاب ماء الورد وطيبت الكؤوس كالعرائس على كراسي العروس المثقلة بالعاج والآبنوس وكأن قطع النهار ممتزجة بقطع الظلام أو بني حام قد خالطت بني سام وعلى رؤوس الأقداح تيجان نظمها امتزاج الماء بالراح فطورا تستحيي فيبدو خجلها وطورا تمتزج فيظهر وجلها والعود ترجمان المسرة قد جعلته أمه في حجرها كولد ترضعه بدرها وساقي الشرب كالغصن الرطيب أوراقه أردية الشرب وأزهاره الكؤوس التي لا تزال تطلع وتغرب كالشموس ساق يفهم بالإشارة حلو الشمائل عذب العبارة ذو طرف سقيم وخد كأنه من خفره لطيم ولدينا من أصناف الفواكه والأزاهر ما يحار فيه الناظر وهل تكمل لذة دون إحضار خدود الورد وعيون النرجس وأصداغ الآس ونهود السفرجل وقدود قصب السكر ومباسم قلوب الجوز وسرر التفاح ورضاب ابنة العنب فقد اكتمل بهذه الأوصاف المختلسة من أوصاف الحبائب الطرب
( فطر بجناح الشوق عند وصولها ... إليك ولا تجعل سواك جوابها )
( فلا عين إلا وهي ترنو بطرفها ... إليك فيسر في المطال حسابها )
( فقد أصبحت تعلو عليها غشاوة ... لبعدك فاكشف عن سناها ) ضبابها قال أبو جعفر فجعلت وصولي جواب ما نظم ونثر وألفيت الحالة يقصر عن خبرها الخبر فانغمسنا في النعيم انغماس عرف الزهر في

النسيم ومر لنا يوم غض الدهر عنه جفنه حتى حسبناه عنوانا لما وعد الله تعالى به في الجنة وشرب يوما مع أبي جعفر بن سعيد والكتندي الشاعر في جنة بزاوية غرناطة وفيها صهريج ماء قد أحدق به شجر نارنج وليمون وغير ذلك من الأشجار وعليه أنبوب ماء تتحرك به صورة جارية راقصة بسيوف وطيفور رخام يصنع في أنبوبة الماء صورة خباء فقالوا نقتسم هذه الأوصاف الثلاثة فقال أبو جعفر يصف الراقصة
( وراقصة ليست تحرك دون أن ... يحركها سيف من الماء مصلت )
( يدور بها كرها فتنضى صوارما ... عليه فلا تعيا ولا هو يبهت )
( إذا هي دارت سرعة خلت أنها ... إلى كل وجه في الرياض تلفت ) وقال ابن نزار في خباء الماء
( رأيت خباء الماء ترسل ماءها ... فنازعها هب الرياح رداءها )
( تطاوعه طورا وتعصيه تارة ... كراقصة حلت وضمت قباءها )
( وقد قابلت خير الأنام فلم تزل ... لديه من العلياء تبدي حياءها )
( إذا أرسلت جودا أمام يمينه ... أبي العدل إلا أن يرد إباءها )
وقد قيل إن هذه الأبيات صنعها بمحضر الأمير أبي عبد الله بن مردنيش ملك شرق الأندلس وإنه لما ألجأته الضرورة أن يرتجل في مثل ذلك شيئا وكانت هذه عنده معدة فزعم أنه ارتجلها قال أبو عمرو بن سعيد وهذا هو الصحيح فإنه ما كانت عادته أن يخاطب عمي أبا جعفر بخير الأنام فإن كل واحد منهما كفؤ الآخر
وقال الكتندي
( وصهريج تخال به لجينا ... يذاب وقد يذهبه الأصيل )

( كأن الروض يعشقه فمنه ... على أرجائه ظل ظليل )
( وتمنحه أكف الشمس عشقا ... دنانيرا فمنه لها قبول )
( إذا رفع النسيم القضب عنها ... فحينئذ يكون لها سبيل )
( وللنارنج تحت الماء لما ... تبدى عكسها جمر بليل )
( ولليمون فيه دون سبك ... جلاجل زخرف بصبا تجول )
( فيا روضا به صقلت جفوني ... وأرهف متنه الزهر الكليل )
( تناثر فيك أسلاك الغوادي ... وقبل صفح جدولك القبول )
( ولا برحت تجمع فيك شملا ... من الأكياس والكاس الشمول )
( بدور تستنير بها نجوم ... مع الإصباح ليس لها أفول )
( يهيم بهم نسيم الروض إلفا ... فمن وجد له جسم عليل ) وروي أن الوزير أبا الأصبغ عبد العزيز بن الأرقم وزير المعتصم بن صمادح رأى راية خضراء فيها صنيفة بيضاء في يد علج من علوج المعتصم نشرها على رأسه فقال
( نشرت عليك من النعيم جناحا ... خضراء صيرت الصباح وشاحا )
( تحكي بخفق قلب من عاديته ... مهما يصافح صفحها الأرواحا )
( ضمنت لك النعمى برأي ظافر ... فترقب الفأل المشير نجاحا )
وكان هذا الوزير آية الله تعالى في الوفاء وأرسله المعتصم إلى المعتمد بن عباد فأعجبت المعتمد محاولته ووقع في قلبه فأراد إفساده على صاحبه وأخذ معه في أن يقيم عنده فقال له ما رأيت من صاحبي ما أكره فأوثر عند غيره ما أحب ولو رأيت ما أكره لما كان من الوفاء تركي له في حين فوض إلي أمره ووثثق بي وحملني أعباء دولته فاستحسن ذلك ابن عباد وقال له فاكتم علي فلما عاد إلى صاحبه سأله عن جميع ما جرى له فقال له في

أثناء ذلك وجرى لي معه ما إن أعلمتك به خفت أن تحسب فيه كالامتنان والاستظهار وتظن أن خاطري فسد به وإن كتمتك لم أوف النصيحة حقها وخفت أن تطلع عليه من غيري فيحطني ذلك من عينك وتحسب فيه كيدا فحمل عليه في أن يعلمه فأعلمه بعد أن تلطف هذا التلطف وهو من رجال الذخيرة والمسهب وابنه الوزير أبو عامر من رجال القلائد
ومن نظم أبي عامر
( فتى الخيل يقتادها ذبلا خفاقا ... تباري القنا الذابلا )
( ترى كل أجرد سامي التليل ... وتحسبه غصنا مائلا )
وللوزير الكاتب أبي محمد بن فرسان واسمه عبد البر وهو حسنة وادي آش يخاطب يحيى الميورقي
( أنعم بتسريح علي فعله ... سبب الزيارة للحطيم ويثرب )
( ولئن تقول كاشح أن الهوى ... درست معالمه وأنكر مذهبي )
( فمقالتي ما إن مللت وإنما ... عمري أبى حمل النجاد بمنكبي )
( وعجزت عن أن أستثير كمينها ... وأشق بالصمصام صدر الموكب )
وهذه الأبيات كتب بها إليه وقد أسن ومل من الجهد معه يرغب في سراحه إلى الحجاز رحمه الله تعالى وتقبل نيته بمنه ويمنه
وقال حاتم بن حاتم بن سعيد العنسي وكان صاحب سيف وقلم وعلم وعلم
( يا دانيا مني وما أنا زائر ... لا أنت معذور ولا أنا عاذر )

( ماذا يضرك إذ ظللت بظلمة ... أن لا يطالع منك بدر زاهر )
وتوفي المذكور بغرناطة سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة
التطيلي وقال الأعمى في أسد نحاس يقذف الماء
( أسد ولو أني أنا ... قشه الحساب لقلت صخره )
( فكأنه أسد السماء ... يمج من فيه المجره )
من بدائه ابن ظافر
قال ابن ظافر صرنا في بعض العشايا على البساتين المجاورة للنيل فرأينا فيه بئرا عليها دولابان متحاذيان قد دارت أفلاكهما بنجوم القواديس ولعبت بقلوب ناظريهما لعب الأماني بالمفاليس وهما يئنان أنين الأشواق ويفيضان ماء أغزر من دموع العشاق والروض قد جلا للأعين زبرجده والأصيل قد راقه حسنه فنثر عليه عسجده والزهر قد نظم جواهره في أجياد الغصون والسواقي قد أذابت من سلاسل فضتها كل مصون والنبت قد اخضر شاربه وعارضه وطرف النسيم قد ركضه في ميادين الزهر راكضه ورضاب الغيث قد استقر من الطين في لمى وحيات المجاري حائرة تخاف من زمرد النبات أن يدركها العمى والبحر قد صقل النسيم درعه وزعفران العشي قد ألقى في ذيل الجو ردعه فأوسعنا ذلك المكان حسنا

وقلوبنا استحواذا وملأ أبصارنا وأسماعنا مسرة والتذاذا وملنا إلى الدولابين شاكين أزمرا حين سجعت قيان الطير بألحانها وشدت على عيدانها أم ذكرا أيام أيام نعما وطابا وكانا أغصانا رطابا فنفيا عنهما لذيد الهجوع ورجعا النوح وأفاضا الدموع طلبا للرجوع وجلسنا نتذاكر ما في تركيب الدواليب من الأعاجيب ونتناشد ما وصفت به من الأشعار الغالية الأسعار فأفضى بنا الحديث الذي هو شجون إلى ذكر قول الأعمى التطيلي في أسد نحاس يقذف الماء
( أسد ولو أني ... ) إلخ فقال لي القاضي أبو الحسن علي بن المؤيد رحمه الله تعالى يتولد من هذا في الدولاب معنى يأخذ بمجامع المسامع ويطرب الرائي والسامع فتأملت ما قاله بعين بصيرتي البصيرة واستمددت مادة غريزتي الغزيرة فظهر لي معنى ملأني أطرابا وأوسعني إعجابا وأطرق كل منا ينظم ما جاش به مد بحره وأنبأه به شيطان فكره فلم يكن إلا كنقرة العصفور الخائف من الناطور حتى كمل ما أردنا من غير أن يقف واحد منا على ما صنعه الآخر فكان الذي قال
( حبذا ساعة العشية والدولاب ... يهدي إلى النفوس المسره )
( أدهم لا يزال يعدو ولكن ... ليس يعدو مكانه قدر ذره )
( ذو عيون من القواديس تبكي ... كل عين من فائض الدمع ثره )
( فلك دائر يرينا نجوما ... كل نجم يبدي لدينا المجره )

وكان الذي قلت
( ودولاب يئن أنين ثكلى ... ولا فقدا شكاه ولا مضره )
( ترى الأزهار في ضحك إذا ما ... بكى بدموع عين منه ثره )
( حكى فلكا تدور به نجوم ... تؤثر في سرائرنا المسره )
( يظل النجم يشرق بعد نجم ... ويغرب بعدما تجري المجره )
فعجبنا من اتفاقنا وقضى العجب منه سائر رفاقنا انتهى
وكان لأبي محمد عبد الله بن شعبة الوادي آشي ابن شاعر فعرض عليه شعرا نظمه فأعجبه فقال
( شعرك كالبستان في شكله ... يجمع بين الآس والورد )
( فاصنع به إن كنت لي طائعا ... ما يصنع الفارس بالبند )
الأندلس أبي عبد الله بن الحداد الوادي آشي وهو من رجال الذخيرة
( لزمت قناعتي وقعدت عنهم ... فلست أرى الوزير ولا الأميرا )
( وكنت سمير أشعاري سفاها ... فعدت بها لفلسفتي سميرا ) وله في العروض تأليف مزج فيه بين الأنحاء الموسيقية والآراء الخليلية ورد فيه على السرقسطي المنبوز بالحمار

( حجبوك إلا من توهم خاطري ... وحموك إلا من تصور بالي )
( والقارظان جميل صبري والكرى ... فمتى أرجي منك طيف خيال ) ومن بدائعه قوله
( سامح أخاك إذا أتاك بزلة ... فخلوص شيء قلما يتمكن )
( في كل شيء آفة موجودة ... إن السراج على سناه يدخن ) وأنشد أحد الأدباء هذين البيتين متمثلا فأعجبا المعتصم وسأل عن قائلهما فأخبر فتبسم وقال أتعرف إلى من أشار بهذا المعنى قال ما أعرف إلا أنه مليح فقال المعتصم كنت في الصبا وهو معي ألقب بسراج الدولة فقاتله الله ما أشعره فسلوه فلما باحثوه في ذلك أقر بحسن حدس المعتصم
واكتنفته سعايات وكان ممن يغلب لسانه على عقله ففر من المرية وحبس أخوه بها فقال
( الدهر لا ينفك من حدثانه ... والمرء منقاد لحكم زمانه )
( وعلمت أن السعد ليس بمنجح ... ما لا يكون السعد من أعوانه )
( والجد دون الجد ليس بنافع ... والرمح لا يمضي بغير سنانه )
وبلغت الأبيات المعتصم فقال شعره أعقل منه صدق فإنه لا يتهيأ له صلاح عيش إلا بأخيه وهو منه بمنزلة السنان من الرمح ثم أمر بإطلاقه ولحاقه به
ولما قال في المعتصم

( يا طالب المعروف دونك فاتركن ... دار المرية وارفض ابن صمادح )
( رجل إذا أعطاك حبة خردل ... ألقاك في قيد الأسير الطائح )
( لو قد مضى لك عمر نوح عنده ... لا فرق بينك والبعيد النازح ) اغتاظ عليه وأبعده ففر عن بلده
ومن المنسوب إليه في النساء
( خن عهدها مثل ما خانتك منتصفا ... وامنح هواها بنسيان وسلوان )
( فالغيد كالروض في خلق وفي خلق ... إن مر جان أتى من بعده جان )
وله
( حيثما كنت ظاعنا أو مقيما ... دم رفيعا وعش منيعا سليما )
( وقال ابن دحية في المطرب إن من المجيدين في الجد والهزل ورقيق النظم والجزل صاحبنا الوزير أبا بلال وقال لي إنه كان وبرد شبابه قشيب وغصن اعتداله رطيب بقميص النسك متقمص وبعلم الحديث متخصص فاجتاز يوما وبيده مجلد من صحيح مسلم بقصر بعض الملوك الأكابر ومن بعض مناظره ناظر ومجلسه بخواص ندمائه حال وصوت المثاني والمثالث عال فقال أطلعوا لنا هذا الفقيه فلعلنا نضحك منه فلما مثل بين يديه وحيا أمر الساقي بمناولته كأس الحميا فتقبض متأففا وأبدى تمعرا وتقشفا والسلطان يستغرب ضحكا بما هجم عليه ويد

الساقي ممدودة إليه واتفق أن انشقت من ذاتها الزجاجة فظهر من السلطان التطير من ذلك فأنشد الفقيه مرتجلا
( ومجلس بالسرور مشتمل ... لم يخل فيه الزجاج من أدب )
( سرى بأعطافه يرنحه ... فشق أثوابه من الطرب )
فسر السلطان وسري عنه واستحسن من الفقيه ما بدا منه وأمر له بجائزة سنية وخلعة رائقة بهية
وما أحسن قول ابن البراق
( يا سرحة الحي يا مطول ... شرح الذي بيننا يطول )
( ولي ديون عليك حلت ... لو أنه ينفع الحلول )
وقوله
( انظر إلى الوادي إذا ما غردت ... أطياره شق النسيم ثيابه )
( أتراه أطربه الهديل وزاده ... طربا وحقك أن حللت جنابه ) وله في غلام على فمه أثر المداد
( يا عجبا للمداد أضحى ... على فم ضمن الزلالا )
( كالقار أضحى على الحميا ... والليل قد لامس الهلالا )
وكتب أبو محمد عبد الله بن عذرة إلى بعض أصحابه من الأسر في طليطلة

( لو كنت حيث تجيبني ... لأذاب قلبك ما أقول )
( يكفيك مني أنني ... لا أستقل من الكبول )
( وإذا أردت رسالة ... لكم فما ألفي رسول )
( هذا وكم بتنا وفي ... أيماننا كأس الشمول )
( والعود يخفق والدخان ... العنبري به يجول )
( حال الزمان ولم يزل ... مذ كنت أعهده يحول )
ولأبي الحسن علي بن مهلهل الجلياني في أبي بكر ابن سعيد صاحب أعمال غرناطة في دولة الملثمين
( لولا النهود لما عراك تنهد ... وعلى الخدود القلب منك يخدد )
( يا نافذا قلبي بسهم جفونه ... مالي على سهم رميت به يد )
وقال أبو زكريا يحيى بن مطروح في غلام كاتب أطل عذاره
( يا حسنه كاتبا قد خط عارضه ... في خده حاكيا ما خط بالقلم )
( لام العذول عليه حين أبصره ... فقلت دعني فزين البرد بالعلم )
( وانظر إلى عجب مما تلوم به ... بدر له هالة قدت من الظلم )
( قولوا عن البحر ما شئتم ولا عجب ... من عنبر الشحر أو من در مبتسم )
وله وقد عزل عن مالقة وال غير مرضي ونزل المطر على إثره وكان الناس في جدب
( ورب وال سرنا عزله ... فبعضنا هنأه البعض )
( قد واصلتنا السحب من بعده ... ولذ في أجفاننا الغمض )

( لو لم يكن من نجس شخصه ... ما طهرت من بعده الأرض )
وكان الكاتب أبو بكر محمد بن نصر الأوسي مختصا بوزير عبد المؤمن أبي جعفر بن عطية فقال فيه
( أبا جعفر نلت الذي نال جعفر ... ولا زلت بالعليا تسر وتحبر )
( عليك لنا فضل وبر وأنعم ... ونحن علينا كل مدح يحبر ...
وحدث من حضر مجلس الوزير ابن عطية وقد أحس من عبد المؤمن التغير الذي أفضى إلى قتله وقد افتتح ابن نصر مطلع هذه القصيدة فتغير وجه أبي جعفر لأن جعفر بن يحيى كان آخر أمره الصلب فكأن هذا عمم الدعاء والعجب أنه قتل مثل جعفر بعد ذلك وهذا الشاعر هو القائل
(
( وما أنا عن ذاك الهوى متبدل ... وذا الغدر بالإخوان غير كريم )
( بغيرك أجري ذكر فضلك في الندى ... كما قد جرى بالروض هب نسيم )
( وإن كان عندي للجديد لذاذة ... فلست بناس حرمة لقديم ) ولأبي عبد الله محمد بن علي اللوشي يخاطب صاحب المسهب
( بي إليكم شوق شديد ولكن ... ليس يبقى مع الجفاء اشتياق )
( إن يغيركم الفراق فودي ... لو خبرتم يزيد فيه الفراق ) وله
( لو أن لي قلبا كقلبك ... كنت أهجر هجركا )

( يكفيك أنك قد نسيت ... ولست أنسى ذكركا )
( ومن العجائب أنني ... أفنى وأكتم سركا )
( كن كيفما تختاره ... فالحب يبسط عذركا )
وله
( هل عندكم علم بما فعلت بنا ... تلك الجفون الفاتكات بضعفها )
( نصحا لكم أن تأمنوها أنها ... سحر النهى ما تبصرون بطرفها )
ولابنه أبي محمد عبد المولى وكان ماجنا لما نعي إليه وهو على الشراب أحد أصحابه مرتجلا
( إنما دنياك أكل ... وشراب وقحاب )
( ثم من بعد صراخ ... ووداع وتراب )
وله
( يا نديم اشرب على أفق ... صقيل وحديقه )
( واسقني ثم اسقني ثم ... اسقني خمرا وريقه )
( من غزال تطلع الشمس ... بخديه أنيقه )
( لا تفوت ساعة من ... كأس خمر وعشيقه )
( واجتنب ما سخرت جهلا ... له هذي الخليقه )
( رغبوا في باطل زور ... بزهد في الحقيقه )
( ليس إلا ما تراه ... أنا أدرى بالطريقه ) قال أبو عمران موسى بن سعيد قلنا له ما هذا الاعتقاد الفاسد الذي لا ينبغي لأحد أن يصحبك به فقال هذا قول لا فعل وقد قال الله تعالى

( ألم تر أنهم في كل واد يهيمون 5 وأنهم يقولون ما لا يفعلون ) [ الشعراء 224 - 226 ] ثم قال ابن سعيد ولولا أن حاكي الكفر ليس بكافر ما ذكرتها وهذا منزع من قال من المجوس
( خذ من الدنيا بحظ ... قبل أن ترحل عنها )
( فهي دار لا ترى من ... بعدها أحسن منها )
وهذا كفر صراح وقائله قد تقمص كفرا اللهم غفرا
وطلب منه بعض الأرذال أن يكتب له شفاعة عند أحد العمال فكتب له رسالة فيها هذه الأبيات
( كتبته مولاي في طالع ... ما طار فيه طائر اليمن )
( وفكرة حائلة والحشا ... ينهب بالهم وبالحزن )
( كلفنيه ساقط أخرق ... مشتهر بالطحن والقرن )
( أكذب خلق الله أرداهم ... أخوفهم في الخوف والأمن )
( يكفر ما يسدى إليه ولا ... يعذر خلقا سيء الظن )
( فإن صنعت الخير ألفيته ... شرا وأضحى المجد ذا غبن )
( وانتقد الناس عليك الذي ... تسدي له في أي ما فن )
( فافعل به ما هو أهل له ... واسمعه تفسيرا ولا أكني )
( أهنه واصفعه ولا تترك البواب ... يكرمه لدى الإذن )
( واقطع بفيه القول واحرمه من ... رد جواب أنسه يدني )
( وكلما استنبط رأيا فسفهه ... ودعه مسخن الجفن )
( فهو إذا أكرمته فاسد ... وصالح بالهون واللعن )

( شفاعتي في مثله هذه ... فلا سقاه هاطل المزن )
ودفع إليه الكتاب مختوما فسربه وحمله إلى العامل وسافر إليه أياما فلما دفعه إليه قرأه وضحك ودفعه إلى من يشاركه في ذلك من أصحابه فوعده بخير وأخرجه إلى شغل لم يرضه فلما عاد منه قال له أخرجتني لأرذل شغل وأخسه فما فائدة الشفاعة إذن فقال له أو تريد أن أفعل معك ما تقتضيه شفاعة صاحبك قال لا أقل من ذلك فأمر من يأتيه بالأبيات فقرئت عليه فانصرف في أسوء حال فلما دخل غرناطة - وكان عبد المولى تزوج فيها امرأة اغتبط بها - تزيا هذا الرجل بزي أهل البادية وزور كتابا على لسان زوجة لعبد المولى في بلدة أخرى وقال في الكتاب وقد بلغني أنك تزوجت غيري وأردت أن أكتب إليك في أن تطلقني فوصلني كتابك تعرفني فيه أن الزوجة الجديدة لم توافق اختيارك وأنك ناظر في طلاقها فردني ذلك عما عزمت عليه فانظر في تعجيل ما وعدت به من طلاقها فإنك إن لم تفعل لم أبق معك أبدا فلما مر بدار عبد المولى رأى جارية زوجته فقال لها أنا رجل بدوي أتيت من عند فلانة زوجة أبي محمد عبد المولى فعندما سمعت ذلك أعلمت ستها وأخذت الكتاب فوقفت على ما فيه غير شاكه في صحته فلما دخل عبد المولى وجدها على خلاف ما فارقها عليه فسألها عن حالها فقالت أريد الطلاق فقال ما سبب هذا وأنا أرغب الناس فيك فألقت إليه الكتاب فلما وقف عليه حلف لها أن هذا ليس بصحيح وأن عدوا له اختلفه عليه فلم يفد ذلك عندها شيئا ولم يطب له بعد ذلك معها عيش فطلقها وعلم أن ذلك الرجل هو الذي فعل ذلك فقال له لا جزاك الله خيرا ولا أصلح لك حالا ! فقال وأنت كذلك فهذه بتلك والبادي أظلم فما كان ذنبي عندك حين كتبت في حقي ما كتبت فقال له مثلك لا يقول ( ( ما ذنبي ) ) أنت كلك ذنوب

( ألست بألأم الثقلين طرا ... وأثقلهم وأفحشهم لسانا )
( فمهما تبغ برا عند شخص ... تزد منه بما تبغي هوانا ) فانصرف عنه عالي اللسان بلعنته وكان أحد بني عبد المؤمن قد ألزمه أن ينسخ له كتابا بموضع منفرد فخطر له يوما جلد عميرة واتفق أن مر السيد يوما بذلك الموضع فنظر إليه في تلك الحال فقال له السيد ما تصنع فقال الدواة جفت ولم أجد ما أسقيها به إلا ماء ظهري فضحك السيد وأمر له بجارية فقال
( قل للعميرة طلقت ... بعد طول زواج )
( قد كان مائي ضياعا ... يمر في غير حاج )
( حتى حباني بحسناء ... قابل للنتاج )
( فكان ناقل خمر ... من حنتم لزجاج )
( كانت تمر ضياعا ... فأصبحت كالسراج )
وقال حاتم بن سعيد
( جنبوني عن المدامة إلا ... عند وقت الصباح أو في الأصيل )
( واشفعوها بكل وجه مليح ... ودعوني من كل قال وقيل )
( وإذا ما أردتم طيب عيشي ... فاحجبوني عن كل وجه ثقيل )
وقال مالك بن محمد ابن سعيد
( أتاني زائرا فبسطت خدي ... له ويقل بسط الخد عندي )

( فقلت له أيا مولاي ألفا ... فقال وأنت ألفا عبد عبدي )
( وعانقني وقبلني ونادى ... بلطف منه كيف رأيت وعدي )
وقال في استهداء مقص
( ألا قل نعم في مطلب قد حكاه لا ... يفصل إذ نبغي الوصال موصلا )
( نشق به صدر النهار وقد بدا ... ظلاما بأمثال النجوم مكللا )
وقال
( سارت كبدر وليل الخدر يسترها ... ولو بدا وجهها جاءتك بالفلق )
( ودونها من صليل اللامعات حمى ... فالبرق والرعد دون الشمس في الأفق ) بين محمد بن غالب والكتندي وأبي جعفر ابن سعيد 292 بين محمد بن غالب والكتندي وأبي جعفر بن سعيد واجتمع بغرناطة محمد بن غالب الرصافي الشاعر المشهور ومحمد بن عبد الرحمن الكتندي الشاعر وغيرهما من الفضلاء والرؤساء فأخذوا يوما في أن يخرجوا لنجد أو لحور مؤمل وهما منتزهان من أشرف وأظرف منتزهات غرناطة ليتفرجوا ويصقلوا الخواطر بالتطلع في ظاهر البلد وكان الرصافي قد أظهر الزهد وترك الخلاعة فقالوا ما لنا غنى عن أبي جعفر بن سعيد اكتبوا له فصنعوا هذا الشعر وكتبوه له وجعلوا تحته أسماءهم
( بعثنا إلى رب السماحة والمجد ... ومن ما له في ملة الظرف من ند ...
( ليسعدنا عند الصبيحة في غد ... لنسعى إلى الحور المؤمل أو نجد )
( نسرح منا أنفسا من شجونها ... ثوت في شجون هن شر من اللحد )
( ونظفر من بخل الزمان بساعة ... ألذ من العليا وأشهى من الحمد )
( على جدول ما بين ألفاف دوحة ... تهز الصبا فيها لواء من الرند )
( ومن كان ذا شرب يخلى بشأنه ... ومن كان ذا زهد تركناه للزهد )
( وما ظرفه يأبى الحديث على الطلى ... ولا أن يديل الهزل حينا من الجد )

( تهز معاني الشعر أغضان ظرفه ... ويمرح في ثوب الصبابة والوجد )
( وما نغص العيش المهنأ غير أن ... يمازجه تكليف ما ليس بالود )
( نظمنا من الخلان عقد فرائد ... ولما نجد إلاك واسطة العقد )
( فماذا تراه لا عدمناك ساعة ... فنحن ما تبديه في جنة الخلد )
( ورشدك مطلوب وأمرك نحوه ار تقاب ... وكل منك يهدي إلى الرشد )
فكان جوابه لهم
( هو القول منظوما أو الدر في العقد ... هو الزهر نفاح الصبا أم شذا الود )
( أتاني وفكري في عقال من الأسى ... فحل بنفث السحر ما حل من عقد )
( ومن قبل علمي أين مبعث وجهه ... علمت جناب الورد من نفس الورد )
( وأيقنت أن الدهر ليس براجع ... لتقديم عصر أو وقوف على حد )
( فكل أوان فيه أعلام فضله ... ترادف موج البحر ردا )
( إلى رد فكم طيها من فائت متردم ... يهز بما قد اضمرت معطف الصلد )
( فيا من بهم تزهى المعالي ومن لهم ... قياد المعالي ما سوى قصدكم قصدي )
( فسمعا وطوعا للذي قد أشرتم ... به لا أرى عنه مدى الدهر من بد )
( فقوموا على اسم الله نحو حديقة ... مقلدة الأجياد موشية البرد )
( بها قبة تدعى الكمامة فاطلعوا ... بها زهرا أذكى نسيما من الند )
( وعندي ما يحتاج كل مؤمل ... ) ( من الراح والمعشوق والكتب والنرد )
( فكل إلى ما شاءه لست ثانيا ... عنانا له إن المساعد ذو الود )
( ولست خليا من تأنس قينة ... إذا ما شدت ضل الخلي عن الرشد )
( لها ولد في حجرها لا تزيله ... أوان غناء ثم ترميه بالبعد )
( فيا ليتني قد كنت منها مكانه ... تقلبني ما بين خصر إلى نهد )
( ضمنت لمن قد قال إني زاهد ... إذا حل عندي أن يحول عن الزهد )

( فإن كان يرجو جنة الخلد آجلا ... فعندي له في عاجل جنة الخلد )
فركبوا إلى جنته فمر لهم أحسن يوم على ما اشتهوا وما زالوا بالرصافي إلى أن شرب لما غلب عليه الطرب فقال الكتندي
( غلبناك عما رمته يا ابن غالب ... براح وريحان وشدو وكاعب )
فقال أبو جعفر
( بدا زهده مثل الخضاب فلم يزل ... به ناصلا حتى بدا زور كاذب )
فلما غربت الشمس قالوا ما رأينا أقصر من هذا اليوم وما ينبغي أن يترك بغير وصف فقال أبو جعفر أنا له ثم قال بعد فكرة وهو من عجائبه التي تقدم بها المتقدمين وأعجز المتأخرين
( الله يوم مسرة ... أضوا وأقصر من ذباله )
( لما نصبنا للمنى ... فيه بأوتار حباله )
( طار النهار به كمرتاع ... فأجفلت الغزاله )
( فكأننا من بعده ... بعنا الهداية بالضلاله )
والنهار ذكر الحبارى وإليه أشار بقوله ( ( طار النهار ) ) والغزالة الشمس ولا يخفى حسن التوريتين فسلم له الجميع تسليم السامع المطيع
وعلى ذكر الغزالة في هذا الموضع فلأبي جعفر أيضا فيها وهو من بدائعه قوله
( بدا ذنب السرحان ينبئ أنه ... تقدم سبت والغزالة خلفه )

( ولم تر عيني مثله من متابع ... لمن لا يزال الدهر يطلب حتفه )
وقوله
( اسقني مثل ما أنار لعيني ... شفق ألبس الصباح جماله )
( قبل أن تبصر الغزالة تستد رج ... منه على السماء غلاله )
( وتأمل لعسجد سال نهرا ... كرعت فيه أو تقضى غزاله )
ومن نظم أبي جعفر قوله
( لو لم يكن شدو الحمائم فاضلا ... شدو القيان لما استخف الأغصنا )
( طرب ثنى حتى الجماد ترنحا ... وأفاض من دمع السحائب أعينا ) وقوله
( في الروض منك مشابه من أجلها ... يهفو له طرفي وقلبي المغرم )
( الغصن قد والأزاهر حلية ... والورد خد والأقاحي مبسم ) وقوله
( ألا حبذا نهر إذا ما لخظته ... أبى أن يرد اللحظ عن حسنه الأنس )
( ترى القمرين الدهر قد عنيا به ... يفضضه بدر وتذهبه شمس )
وقوله وقد مر بقصر من قصور أمير المؤمنين عبد المؤمن وقد رحل عنه
( قصر الخليفة لا أخليت من كرم ... وإن خلوت من الأعداد ) والعدد
( جزنا عليك فلم تنقص مهابته ... والغيل يخلو وتبقى هيبة الأسد )

وقوله من أبيات
( سرح لحاظك حيث شئت فإنه ... في كل موقع لحظة متأمل )
وقوله أيضا
( ولقد قلت للذي قال حلوا ... ههنا سر فإننا ما سئمنا )
( لا تعين لنا مكانا ولكن ... حيثما مالت اللواحظ ملنا ) وقال
( ألا هاتها إن المسرة قربها ... وما الحزن إلا في توالي جفائها )
( مدام بكى الإبريق عند فراقها ... فأضحك ثغر الكاس عند لقائها )
وقال
( عرج على الحور وخيم به ... حيث الأماني ضافيات الجناح )
( واسبق له قبل ارتحال الندى ... ولا تزره دون شاد وراح )
( وكن مقيما منه حيث الصبا ... تمتار مسكا من أريج البطاح )
( والقضب مال البعض منها على ... بعض كما يثني القدود ارتياح )
( وشق جيب الصبح قصف إذا ... شقت جيوب الطل منها الرياح )
( لم أحص كم غاديته ثابتا ... واسترقصتني الراح عند الرواح ) وقوله
( ألا حبذا روض بكرنا له ضحى ... وفي جنبات الروض للطل أدمع )
( وقد جعلت بين الغصون نسيمة ... تمزق ثوب الطل منها وترقع )
( ونحن إذا ما ظلت القضب ركعا ... نظل لها من هزة السكر نركع )

وكان ابن الصابوني في مجلس أحد الفضلاء بإشبيلية فقدم فيما قدم خيار فجعل أحد الأدباء يقشرها بسكين فخطف ابن الصابوني السكين من يده فألح عليه في استرجاعها فقال له ابن الصابوني كف عني وإلا جرحتك بها فقال له صاحب المنزل اكفف عنه لئلا يجرحك ويكون جرحك جبارا تعريضا بقول النبي " جرح العجماء جبار " فاغتاظ ابن الصابوني وخرج من الاعتدال وأخطأ بلسانه وما كف إلا بعد الرغبة والتضرع
ومن نظم ابن الصابوني
( بعثت بمرآة إليك بديعة ... فأطلع بسامي أفقها قمر السعد )
( لننظر فيها حسن وجهك منصفا ... وتعذرني فيما أكن من الوجد )
( فأرسل بذاك الخد لحظك برهة ... لتجني منه ما جناه من الورد )
( مثالك فيها منك أقرب ملمسا ... وأكثر إحسانا وأبقى على العهد )
وقوله في لابس أحمر
( أقبل في حلة موردة ... كالبدر في حلة من الشفق )
( تحسبه كلما أراق دمي ... يمسح في ثوبه ظبى الحدق )
ورحل إلى القاهرة والإسكندرية فلم يلتفت إليه ولا عول عليه وكان شديد الانحراف فانقلب على عقبه يعض يديه على ما جرى عليه فمات عند إيابه إلى الإسكندرية كمدا ولم يعرف له بالديار المصرية مقدار

وحضر يوما بين يدي المعتضد الباجي ملك إشبيلية وقد نثرت أمامه جملة من دنانير سكت باسمه فأنشد
( قد فخر الدينار والدرهم ... لما علا ذين لكم ميسم )
( كلاهما يفصح عن مجدكم ... وكل جزء منه فرد فم )
ومر فيها إلى أن قال في وصف الدنانير
( كأنها الأنجم والبعد قد ... حقق عندي أنها الأرجم )
فأشار السلطان إلى وزيره فأعطاه منها جملة وقال له بدل هذا البيت لئلا يبقى ذما
وكان يلقب بالحمار ولذا قال فيه ابن عتبة الطبيب
( يا عير حمص عيرتك الحمير ... بأكلك البر مكان الشعير )
وهو أبو بكر محمد بن الفقيه أبي العباس أحمد بن الصابوني شاعر إشبيلية الشهير الذكر والذي أظهره مأمون بني عبد المؤمن وله فيه قصائد عدة منها قوله في مطلع
( استول سباقا على غاياتها ... نجح الأمور يبين في بدآتها )
وله الموشحات المشهورة رحمه الله تعالى
بين
ومن حكايات الصبيان أن ابن أبي الخصال وهو من شقورة اجتاز بأبدة وهوصبي صغير يطلب الأدب فأضافه بها القاضي ابن مالك

ثم خرج معه إلى حديقة معروشة فقطف لهما منها عنقودا أسود فقال القاضي
( انظر إليه في العصا ... ) فقال ابن أبي الخصال كرأس زنجي عصى فعلم أنه سيكون له شأن في البيان
وحدث أبو عبد الله بن زرقون أن أبا بكر ابن المنخل وأبا بكر الملاح الشلبيين كانا متواخيين متصافيين وكان لهما ابنان صغيران قد برعا في الطلب وحازا قصب السبق في حلبة الأدب فتهاجى الابنان بأقذع الهجاء فركب ابن المنخل في سحر من الأسحار مع ابنه عبد الله فجعل يعتبه على هجاء بني الملاح ويقول له قد قطعت ما بيني وبين صديقي وصفيي أبي بكر في إقذاعك في ابنه فقال له ابنه إنه بدأني والبادي أظلم وإنما يجب أن يلحى من بالشر تقدم فعذره أبوه فبينما هما على ذلك إذ أقبلا على واد تنق فيه الضفادع فقال أبو جعفر لابنه
( تنق ضفادع الوادي ... ) فقال ابنه
( بصوت غير معتاد ... ) فقال الشيخ
( كأن نقيق مقولها ... )
فقال ابنه
( بنو الملاح في النادي ... )

فلما أحست الضفادع بهما صمتت فقال أبو بكر
( وتصمت مثل صمتهم ... )
فقال ابنه ( إذا اجتمعوا على زاد ... ) فقال الشيخ ( فلا غوث لملهوف ... ) فقال الابن
( ولا غيث لمرتاد ... )
ولا خفاء أن هذه الإجازة لو كانت من الكبار لحصلت منها الغرابة فكيف ممن هو في سن الصبا
ومن حكايات النصارى واليهود من أهل الأندلس - أعادها الله تعالى إلى الإسلام عن قريب إنه سميع مجيب - ما حكي أن ابن المرعزي النصراني الإشبيلي أهدى كلبة صيد للمعتمد بن عباد وفيها يقول
( لم أر ملهى لذي اقتناص ... ومكسبا مقنع الحريص )
( كمثل خطلاء ذات جيد ... أتلع في صفرة القميص )
( كالقوس في شكلها ولكن ... تنفذ كالسهم للقنيص )
( إن تخذت أنفها دليلا ... دل على الكامن العويص )
( لو أنها تستثير برقا ... لم يجد البرق من محيص )

ومنها في المديح
( يشفع تنويله بود ... شفع القياسات بالنصوص )
وقال
( الله أكبر أنت بدر طالع ... والنقع دجن والكماة نجوم )
( والجود أفلاك وأنت مديرها ... وعدوك الغاوي وهن رجوم )
وقال
( نزلت في آل مكحول وضيفهم ... كنازل بين سمع الأرض والبصر )
( لا تستضيء بضوء في بيوتهم ... ما لم يكن لك تطفيل على القمر )
وسببهما أنه نزل عندهم فلم يوقدوا له سراجا
شعراء اليهود
وقال نسيم الإسرائيلي
( يا ليتني كنت طيرا ... أطير حتى أراكا )
( بمن تبدلت غيري ... أو لم تحل عن هواكا )
وهو شاعر وشاح من أهل إشبيلية وذكره الحجاري في المسهب
وقال إبراهيم بن سهل الإسرائيلي في أصفر ارتجالا
( كان محياك له بهجة ... حتى إذا جاءك ماحي الجمال )

( أصبحت كالشمعة لما خبا ... منها الضياء اسود فيها الذبال )
وهو شاعر إشبيلية ووشاحها وقرأ على أبي علي الشلوبين وابن الدباج وغيرهما وقال العز في حقه وكان أظهر الإسلام ما صورته كان يتظاهر بالإسلام ولا يخلو مع ذلك من قدح واتهام انتهى
وسئل بعض المغاربة عن السبب في رقة نظم ابن سهل فقال لأنه اجتمع فيه ذلان ذل العشق وذل اليهودية ولما غرق قال فيه بعض الأكابر عاد الدر إلى وطنه
ومن نظم ابن سهل المذكور قوله
( وألمى بقلبي منه جمر مؤجج ... تراه على خديه يندى ويبرد )
( يسائلني من أي دين مداعبا ... وشمل اعتقادي في هواه مبدد )
( فؤادي حنيفي ولكن مقلتي ... مجوسية من خده النار تعبد ) ومنه قوله
(
( هذا أبو بكر يقود بوجهه ... جيش الفتور مطرز الرايات )
( أهدى ربيع عذاره لقلوبنا ... حر المصيف فشبها لفحات )
( خد جرى ماء النعيم بجمره ... فاسود مجرى الماء في الجمرات )
وذكر الحافظ أبو عبد الله محمد بن عمر بن رشيد الفهري في رحلته الكبيرة القدر والجرم المسماة ب ملء العيبة فيما جمع بطول الغيبة في الوجهة الوجيهة إلى الحرمين مكة وطيبة خلافا في إسلام ابن سهلا باطنا وكتب على هامش هذا الكلام الخطيب العلامة سيدي أبو عبد الله بن مرزوق ما نصه صحح لنا من أدركناه من أشياخنا أنه مات على دين الإسلام انتهى ورأيت في بعض كتب الأدب بالمغرب أنه اجتمع جماعة مع ابن سهل في مجلس أنس فسألوه لما أخذت منه الراح عن إسلامه هل هو في الظاهر والباطب أم لا فأجابهم بقوله للناس ما ظهر ولله ما استتر انتهى

واستدل بعضهم على صحة إسلامه بقوله
( تسليت عن موسى بحب محمد ... هديت ولولا الله ما كنت أهتدي )
( وما عن قلى قد كان ذاك وإنما ... شريعة موسى عطلت بمحمد )
وله ديوان كبير مشهور بالمغرب حاز به قصب السبق في النظم والتوشيح
وما أحسن قوله من قصيدة
( تأمل لظى شوقي وموسى يشبها ... تجد خير نار عندها خير موقد )
وأنشد بعضهم له قوله
( لقد كنت أرجو أن تكون مواصلي ... فأسقيتني بالبعد فاتحة الرعد )
( فبالله برد ما بقلبي من الجوى ... بفاتحة الأعراف من ريقك الشهد )
وقال الراعي رحمه الله تعالى سمعت شيخنا أبا الحسن علي بن سمعة الأندلسي رحمه الله تعالى يقول شيئان لا يصحان إسلام إبراهيم بن سهل وتوبة الزمخشري من الاعتزال ثم قال الراعي قلت وهما في مروياتي أما إسلام إبراهيم بن سهل فيغلب علي ظني صحته لعلمي بروايته وأما الثاني - وهو توبة الزمخشري - فقد ذكر بعضهم أنه رأى رسما بالبلاد المشرقية محكوما فيه يتضمن توبة الزمخشري من الاعتزال فقوي جانب الرواية انتهى باختصار
وقال الراعي أيضا ما نصه وقد نكت الأديب البارع إبراهيم بن سهل الإسرائيلي الأندلسي على الشيخ أبي القاسم في تغزله حيث قال
( أموسى أيا بعضي وكلي حقيقة ... وليس مجازا قولي الكل والبعضا )
( خفضت مكاني إذ جزمت وسائلي ... فكيف جمعت الجزم عندي والخفضا )

وفي هذا دليل على أن يهود الأندلس كانوا يشتغلون بعلم العربية فإن إبراهيم قال هذين البيتين قبل إسلامه والله تعالى أعلم
وقد روينا أنه مات مسلما غريقا في البحر فإن كان حقا فالله تعالى رزقه الإسلام في آخر عمره والشهادة انتهى
ومن نظم ابن سهل في التوجيه باصطلاح النحاة قوله
( رفعت عوامله وأحسب رتبتي ... بنيت على خفض فلن تتغيرا ) ومنه
( تنأى وتدنو والتفاتك واحد ... كالفعل يعمل ظاهرا ومقدرا )
وقوله
( إذا كان نصر الله وقفا عليكم ... فإن العدا التنوين يحذفه الوقف )
وقوله
( ليتني نلت منه وصلا وأجلى ... ذلك الوصل عن صباح المنون )
( وقرأنا باب المضاف عناقا ... وحذفنا الرقيب كالتنوين )
وقوله
( بنيت بناء الحرف خامر طبعه ... فصرت لتأثير العوامل جازما مانعا )
وقوله
( لك الثناء فإن يذكر سواك به ... يوما فكالرابع المعهود في البدل )

يعني الغلط وقوله
( إذ اليأس ناجى النفس منك بلن ولا ... أجابت ظنوني ربما وعساني )
وقوله
( وقلت عساه إن أقمت يرق لي ... وقد نسخت لا عنده ما اقتضت عسى )
وقوله
( ينفي لي الحال ولكنه ... يدخل لا في كل مستقبل )
وقوله
( خفضت مقامي إذ جزمت وسائلي ... فكيف جمعت الجزم عندي والخفضا )
وقوله في غلام شاعر
( كيف خلاص القلب من شاعر ... رقت معانيه عن النقد )
( يصغر نثر الدر عن نثره ... ونظمه جل عن العقد )
( وشعره الطائل في حسنه ... طال على النابغة الجعدي )
وحدث أبو حيان عن قاضي القضاة أبي بكر محمد بن أبي النصر الفتح بن علي الأنصاري الإشبيلي بغرناطة أن إبراهيم بن سهل الشاعر الإشبيلي كان يهوديا ثم أسلم ومدح رسول الله بقصيدة طويلة بارعة قال أبو حيان وقفت عليها وهي من أبدع ما نظم في معناها وكان سن ابن سهل حين غرق نحو الأربعين سنة وذلك سنة تسع وأربعين وستمائة وقيل إنه جاوز الأربعين وكان يقرأ مع المسلمين ويخالطهم وما أحسن قوله

( مضى الوصل إلا منية تبعث الأسى ... أداري بها همي إذا الليل عسعسا )
( أتاني حديث الوصل زورا على النوى ... أعد ذلك الزور اللذيذ المؤنسا )
( ويا أيها الشوق الذي جاء زائرا ... أصبت الأماني خذ قلوبا وأنفسا )
( كساني موسى من سقام جفونه ... رداء وسقاني من الحب أكؤسا )
ومن أشهر موشحاته قوله
( ليل الهوى يقظان ... والحب ترب )
( السهر والصبر لي خوان ... والنوم عن عيني بري )
وقد عارضه غير واحد فما شقوا له غبار
واما وأما إبراهيم بن الفخار اليهودي فكان قد تمكن عند الأذفونش ملك طليطلة النصراني وصيره سفيرا بينه وبين ملوك المغرب وكان عارفا بالمنطق والشعر قال ابن سعيد أنشدني لنفسه يخاطب أديبا مسلما كان يعرفه قبل أن تعلو رتبته ويسفر بين الملوك ولم يزده على ما كان يعامله به من الإذلال فضاق ذرع ابن الفخار وكتب إليه
( أيا جاعلا أمرين شبهين ما له ... من العقل إحساس به يتفقد )
( جعلت الغنى والفقر والذل والعلا ... سواء فما تنفك تشقى وتجهد )
( وهل يستوي في الأرض نجد وتلعة ... فتطلب تسهيلا وسيرك مصعد )
( وما كنت ذا ميز لمن كنت طالبا ... بما كنت في حال الفراغ تعود )
( وقد حال ما بيني وبينك شاغل ... فلا تطلبني بالذي كنت تعهد )
( فإن كنت تأبى غير إقدام جاهل ... فإنك لا تنفك تلحى وتطرد )

حذف

( ألا فأت في ابوابه كل مسلك ... ولا تك محلا حيثما قمت تقعد )
قال ابن سعيد وأنشدني لنفسه
( ولما دجا ليل العذار بخده ... تيقنت أن الليل أخفى وأستر )
( وأصبح عذالي يقولون صاحب ... فأخلو به جهرا ولا أتستر )
وقال يمدح الأذفونش لعنهما الله تعالى
( حضرة الأذفنش لا برحت ... غضة أيامها عرس )
( فاخلع النعلين تكرمة ... في ثراها إنها قدس )
قال وأدخلوني إلى بستان الخليفة المستنصر فوجدته في غاية الحسن كأنه الجنة ورأيت على بابه بوابا في غاية القبح فلما سألني الوزير عن حال فرجتي قلت رأيت الجنة إلا أني سمعت أن الجنة يكون على بابها رضوان وهذه على بابها مالك فضحك وأخبر الخليفة بما جرى فقال له قل له إنا قصدنا ذلك فلو كان رضوان عليها بوابا لخشينا أن يرده عنها ويقول له ليس هذا موضعك ولما كان هناك مالك أدخله فيها وهو لا يدري ما وراءه ويخيل أنها جهنم قال فلما أعلمني الوزير بذلك قلت له
( الله أعلم حيث يجعل رسالته )
وكان في زمان الياس بن المدور اليهودي الطبيب الرندي طبيب آخر كان يجري بينهما من المحاسدة ما يجري بين مشتركين في صنعة فأصلح الناس بينهما مرارا وظهر لإلياس من ذلك الرجل الطبيب ما ينفر الناس منه فكتب إليه

( لا تخدعن فما تكون مودة ... ما بين مشتركين أمرا واحدا )
( انظر إلى القمرين حين تشاركا ... بسناهما كان التلاقي واحدا )
يعني أنهما معا لما اشتركا في الضياء وجب التحاسد بينهما والتفرقة هذا يطلع ليلا وهذه تطلع نهارا واعتراضهما يوجب الكسوف
وكتب أيوب بن سليمان المرواني إلى بسام بن شمعون اليهودي الوشقي في يوم مطير لما كنت وصل الله تعالى إخاءك وحفظك مطمح نفسي ومنزع اختياري من ابناء جنسي على جوانبك أميل وأرتع في رياض خلقك الجميل هزتني خواطر الطرب والارتياح في هذا اليوم المطير الداعي بكاؤه إلى ابتسام الأقداح واستنطاق البم والزير فلم أر معينا على ذلك ومبلغا إلى ما هنالك إلا حسن نظرك وتجشمك من المكارم ما جرت به عادتك وهذا يوم حرم الطرف فيه الحركة وجعل في تركها الخير والبركة فهل توصل مكرمتك أخاك إلى التخلي معك في زاوية متكئا على دن مستندا إلى خابية ونحن خلال ذلك نتجاذب أهداب الحديث الذي لم يبق من اللذات إلى هو ونجيل الألحاظ فيما تعودت عندك من المحاسن والأسماع في اصناف الملاهي وأنت على ذلك قدير وكرمك بتكلفه جدير
( ولا يعين المرء يوما على ... راحته إلا كريم الطباع )
( وها أنا والسمع مني إلى الباب ... وذو الشوق حليف استماع )
( فإن أتى داع بنيل المنى ... ودع أشجاني ونعم الوداع ) وهذا المرواني من ذرية عبد العزيز أخي عبد الملك بن مروان وهو من أهل المائة السادسة

وكانت الأندلس شاعرة من اليهود يقال لها قسمونة بنت إسماعيل اليهودي وكان أبوها شاعرا واعتنى بتأديبها وربما صنع من الموشحة قسما فأتمتها هي بقسم آخر وقال لها أبوها يوما أجيزي
( لي صاحب ذو بهجة قد قابلت ... نعمى بظلم واستحلت جرمها )
ففكرت غير كثير وقالت
( كالشمس منها البدر يقبس نوره ... أبدا ويكسف بعد ذلك جرمها ) فقام كالمختبل وضمها إليه وجعل يقبل رأسها ويقول أنت والعشر كلمات أشعر مني ونظرت في المرآة فرأت جمالها وقد بلغت أوان الترزويج ولم تتزوج فقالت
( أرى روضة قد حان منها قطافها ... ولست أرى جان يمد لها يدا )
( فوا أسفا يمضي الشباب مضيعا ... ويبقى الذي ما إن أسميه مفردا )
فسمعها أبوها فنظر في تزويجها وقالت في ظبية عندها
( يا ظبية ترعى بروض دائما ... إني حكيتك في التوحش والحور )
( أمسى كلانا مفردا عن صاحب ... فلنصطبر أبدا على حكم القدر )
واستدعى أبو عبد الله محمد بن رشيق القلعي ثم الغرناطي بعض أصحابه إلى أنس بقوله
( سيدي عندي أترجج ... ونارنج وراح )

( وجنى آس وزهر ... وحمانا لا يباح )
( ليس إلا مطرب يسلي ... الندامى والملاح )
( ومكان لانهتاك ... قد نأى عنه الفلاح )
( لا يرى يطلع فيه ... دون أكواس صباح )
( فيه فتيان لهم في ... لذة العيش جماح )
( طرحوا الدنيا يسارا ... فاستراحت واستراحوا )
( لا كقوم أوجعتهم ... لهم فيها نباح ) وله
( قال العذول إلى كم ... تدعو لمن لا يجيب )
( فقلت ليس عجيبا ... أن لا يجيب حبيب )
( هون عليك فإني ... من حبه لا أتوب )
قال ابو عمران بن سعيد دخلت عليه وهو مسجون بدار الأشراف بإشبيلية وقد بقي عليه من مال السلطان اثنا عشر ألف دينار قد أفسدها في لذات نفسه فلما لمحني أقبل يضحك ويشتغل بالنادر والحكايات الطريفة فقلت له قالوا إنك أفسدت للسلطان اثني عشر ألف دينار وما احسبك إلا زدت على هذا العدد لما أراك فيه من المسرة والاستبشار فزاد ضحكا وقال يا أبا عمران أتراني إذا لزمت الهم والفكر يرجع علي ذلك العدد الذي أفسدت ثم فكر ساعة وأنشدني
( ليس عندي من الهموم حديث ... كلما ساءني الزمان سررت )
( أتراني أكون للدهر عونا ... فإذا مسني بضر ضجرت )

( غمرة ثم تنجلي فكأني ... عند إقلاع همها ما ضررت )
وقال النحوي اللغوي أبو عيسى لب بن عبد الوارث القلعي
( بدا ألف التعريف في طرس خده ... فيا هل تراه بعد ذاك ينكر )
( وقد كان كافورا فهل أنا تارك ... له عند ما حياه مسك وعنبر )
( وما خير روض لا يرف نباته ... وهل أفتن الأثواب إلا المشهر )
وقال
( أبى لي أن أقول الشعر أني ... أحاول أن يفوق السحر شعري )
( وأن يصغي إليه كل سمع ... ويعلق ذكره في كل صدر )
قال الحجاري أخبرني أنه أحب أحد أولاد الأعيان ممن كان يقرأ عليه فلما خلا به شكا إليه ما يجده فقال له الصبيان يفطنون بنا فإذا أردت أن تقول شيئا فاكتبه لي في ورقة قال فلما سمعت ذلك منه تمكن الطمع مني فيه وكتبت له
( يا من له حسن يفوق به الورى ... صل هائما قد ظل فيك محيرا )
( وامنن علي بقبلة أو غيرها ... إن كنت تطمع في الهوى أن تؤجرا ) وكتبت بعدها من الكلام ما رأيته فلما حصلت الورقة عنده كتب إلي في غيرها أنا من بيت عادة أهله أن يكونوا اسم فاعل لا اسم مفعول وإنما أردت أن يحصل عندي خطك شاهدا على ما قابلتني به لئلا أشكوك إلى أبي فيقول لي حاش لله أن يقع الفقيه في هذا وإنما أنت خبيث رأيته يطالبك بالتزام الحفظ فاختلقت عليه لأخرجك من عنده فأبقى معذبا معك ومعه وإن

أنا أوقفته على خطك صدقني واسترحت ولكن لا أفعل هذا إلا إذا لم تنته عني وإن انتهيت فلا أخبر به أحدا قال ابن عبد الوارث فلما وقفت على خطه علمت قدر ما وقعت فيه وجعلت أرغب إليه في أن يرد الرقعة إلي فأبى وقال هي عندي رهن على وفائك بأن لا ترجع تتكلم في ذلك الشأن قال فكان والله يبطل القراءة فلا أجسر أكلمه لأني رأيت صيانتي وناموسي قد حصل في يده وتبت من ذلك الحين عن هذا وأمثاله
وقال جابر بن خلف الفحصي - وكان في خدمة عبد الملك بن سعيد وقرأ مع أبي جعفر بن سعيد وتهذب معه - يخاطبه حين عاثت الذئاب في غنمه
( أيا قائدا قد سما في العلا ... وساد علينا بذات وجد )
( غدا الذئب في غنمي عائثا ... وقد جئت مستعديا بالأسد )
وكثر عليه الدين فكتب إليه أيضا
( أفي أيامك الغر ... أموت كذا من الضر )
( وأخبط في دجى همي ... ووجهك طلعة الفجر ) فضحك وأدى دينه
ولما خلع أهل المرية طاعة عبد المؤمن وقتلوا نائبه ابن مخلوف قدموا عليهم أبا يحيى بن الرميمي ثم كان عليه من النصارى ما علم ففر إلى مدينة فاس وبقي بها ضائعا خاملا يسكن في غرفة ويعيش من النسخ فقال

( أمسيت بعد الملك في غرفة ... ضيقة الساحة والمدخل )
( تستوحش الأرزاق من وجهها ... فما تزال الدهر في معزل )
( النسخ بالقوت لديها ولا ... تقرعها كف أخ مفضل ) وأنشدها لبعض الأدباء فبينما هو ليلة ينسخ بضوء السراج إذا بالباب يقرع ففتحه فإذا شخص متنكر لا يعرفه وقد مد يده إليه بصرة فيها جملة دنانير وقال خذها من كف أخ لا يعرفك ولا تعرفه وأنت المفضل بقبولها فأخذها وحسن بها حاله
وقال له بعض هذا شعرك أيام خلعك فهل قلت أيام أمرك قال نعم لما قتل أهل المرية ابن مخلوف عامل عبد المؤمن وأكرهوني أن أتولى أمرهم قلت
( أرى فتنا تكشف عن لظاها ... رماد بالنفاق له انصداع )
( وآل بها النظام إلى انتثار ... وساد بها الأسافل والرعاع )
( سأحمل كل ما جشمت منها ... بصدر فيه للهول اتساع )
وأصل بني الرميمي من بني أمية ملوك الأندلس ونسبوا إلى رميمة قرية من أعمال قرطبة
وقال أبو بحر يوسف بن عبد الصمد
( فوصلت أقطارا لغير أحبة ... ومدحت أقواما بغير صلات )
( أموال أشعاري نمت فتكاثرت ... فجعلت مدحي للبخيل زكاتي ) وهذا من غريب المعاني

وفي بني عبد الصمد يقول بعض أهل عصرهم لما رأى من كثرة عددهم والتباسهم بالسلطان
( ملأت قلبي هموما مثل ما ... ملأ الدنيا بنو عبد الصمد كاثر الشيخ أبوهم آدما ... فغدا أكثر نسلا وولد )
( كلهم ذئب إذا آمنته ... والرعايا بينهم مثل النقد )
وكان الوزير الكاتب أبو جعفر أحمد بن عباس وزير زهير الصقلبي ملك ألمرية بذ الناس في وقته بأربعة أشياء المال والبخل والعجب والكتابة قال أبن حيان وكان قبل محنته صير هجيراه أوقات لعب الشطرنج أو ما ينسخ له هذا البيت
( عيون الحوادث عني نيام ... وهضمي على الدهر شيء حرام )
وذاع هذا البيت في الناس حتى قلب له مصراعه الأخير بعض الأدباء فقال
( سيوقظها قدر لا ينام ... ) وكان حسن الكتابة جميل الخط مليح الخطاب غزير الأدب قوي المعرفة مشاركا في الفقه حاضر الجواب جماعا للدفاتر حتى بلغت أربعمائة ألف مجلد وأما الدفاتر المخرومة فلم يوقف على عددها لكثرتها وبلغ ماله خمسمائة ألف مثقال جعفرية سوى غير ذلك وكان مقتله بيد باديس بن حبوس ملك غرناطة وكفى دليلا على إعجابه قوله
( لي نفس لا ترتضي الدهر عمرا ... وجميع الأنام طرا عبيدا )
( لو ترقت فوق السماك محلا ... لم تزل تبتغي هناك صعودا )

( أنا من تعلمون شيدت مجدي ... في مكاني ما بين قومي وليدا )
وكان يتهم بداء أبي جهل فيما ينقل حتى كتب بعض الأدباء على برجه بالمرية
( خلوت بالبرج فما الذي ... تصنع فيه يا سخيف الزمان ) فلما نظر إليه أمر أن يكتب
( أصنع فيه كل ما أشتهي ... وحاسدي خارجه في هوان )
وكان الأعمى التطيلي شاعرا مشهورا وكان الصبيان يقولون له ( ( تحتاج كحلا يا أستاذ ) ) فكان ذلك سبب انتقاله من مرسية وقيل له يا أبا بكر كم تقع في الناس فقال أنا أعمى وهم لا يبرحون حفرا فما عذري في وقوعي فيهم فقال له السائل والله لا كنت قط حفرة لك وجعل يواليه بره ورفده ومن شعره
( وجوه تعز على معشر ... ولكن تهون على الشاعر )
( قرونهم مثل ليل المحب ... وليل المحب بلا آخر ) وله
( زنجيكم بالفسوق داري ... يدلي من الحرص كالحمار )
( يخلو بنجل الوزير سرا ... فيولج الليل في النهار )

ومن شعر أبي جعفر أحمد بن الخيال الإستبي كاتب ابن الأحمر فيمن اسمه ( ( فضل الله ) )
( من الناس من يؤتى بنقد ومنهم ... بكره ومنهم من يناك إذا انتشى )
( ومنهم فتى يؤتى على كل حالة ... وذلك فضل الله يؤتيه من يشا )
ولعبد الملك بن سعيد الخازن
( ما حمدناك إذ وقفنا ببابك ... للذي كان من طويل حجابك )
( قد ذممنا الزمان فيك فقلنا ... أبعد الله كل دهر أتى بك )
وقال في المسهب كنت بمجلس القاضي ابن حمدين وقد أنشده شعراء قرطبة وغيرها وفي الجملة هلال شاعر غرناطة ومحمد بن الإستجي شاعر إستجة الملقب بزحكون فقام الإستجي وأنشده قصيدة منها
( إليك ابن حمدين انتخلت قصائدا ... بها رقصت في القضب ورق الحمائم )
( أنا العبد لكن بالمودة أشترى ... إذا كان غيري يشترى بالدراهم ) فشكره ابن حمدين ونبه على مكان الإحسان فحسده هلال البياني على ذلك فلما فرغ من القصيدة قال له هلال أعد علي البيت الذي فيه ( ( رقص الحمام ) ) فأعاده فقال له لو أزلت النقطة عن الخاء كنت تصدق فقال له في الحين ولو أزلت النقطة عن العين كنت تحسن
وكانت على عين هلال نقطة فكان ذلك من الاتفاق العجيب والجواب الغريب وعمل فيه

ولما قال المقدم بن المعافى في رثاء سعيد بن جودي
( من ذا الذي يطعم أو يكسو ... وقد حوى حلف الندى رمس )
( لا اخضرت الأرض ولا أورق العود ... ولا أشرقت الشمس )
( بعد ابن جودي الذي لن ترى ... أكرم منه الجن والإنس ) فقيل له اترثيه وقد ضربك فقال والله إنه نفعني حتى بذنوبه ولقد نهاني ذلك الأدب عن مضار جمة كنت أقع فيها على رأسي أفلا أرعى له ذلك والله ما ضربني إلا وأنا ظالم له أفأبقى على ظلمي له بعد موته وقيل له لم لا تهجو مؤمن بن سعيد فقال لا أهجو من لو هجا النجوم ما اهتدى أحد بها
وقال أبو مروان عبد الملك بن نظيف
( لا أشرب الراح إلا ... مع كل خرق كريم )
( ولست أعشق إلا ... ساجي الجفون رخيم )
ومدح هلال البياني ابن حمدين بقصيدة أولها
( عرج على ذاك الجناب العالي ... واحكم على الأموال بالآمال )
( فيه ابن حمدين الذي لنواله ... من كل أرض شد كل رحال )
فقال له القاضي ما هذا الوثوب على المدح من أول وهلة ألا تدري أنهم عابوا ذلك كما عابوا الطول أيضا وأن الأولى التوسط فقال يا سيدي اعذرني بما لك في قلبي من الإجلال والمحبة فإني كلما ابتدأت في مدحك

لم يتركني غرامي في اسمك إلى أن أتركه عند أول بيت فاستحسن ذلك منه وأحسن إليه
ومن هذه القصيدة )
( قاض موال برد ونواله ... فله جميع العالمين موالي )
وكان يهوى وسيما من متأدبي قرطبة فصنع فيه شعرا أنشده منه
( وكلت عيني برعي النجم في الظلم ... وعبرتي قد غدت ممزوجة بدم )
فقال له الغلام أنت لا تبرح بكوكب من عينك ليلا ولا نهارا وعاشقا وغير عاشق فخجل هلال وكان على عينه نقطة
وحكى ابن حيان أن الأمير
( عبد الرحمن عثرت به دابته وهو سائر في بعض أسفاره وتطأطأت فكاد يكبو لفيه ولحقه جزع وتمثل أثره بقول الشاعر
( وما لا ترى مما يقي الله أكثر ... )
وطلب صدر البيت فعزب عنه وأمر بالسؤال عنه فلم يوجد من يحفظه إلا الكاتب محمد بن سعيد الزجالي وكان يلقب بالأصمعي لذكائه وحفظه فأنشد الأمير
( ترى الشيء مما يتقى فتهابه ... )
فأعجب الأمير واستحسن شكله فقال له الزم السرداق وأعقب ابنا يسمى حامدا

وحضر مع الوزير عبد الواحد بن يزيد الإسكندراني في مجلس فيه رؤساء فعرض عليهم فرس مطهم فتمثل فيه عبد الواحد بقول امرئ القيس
( بريد السرى بالليل من خيل بربرا ... )
ففهم الزجالي بأنه عرض بأنه من البربر فلم يحتمل ذلك وأراد الجواب فقال مدبجا لما أراده ومعرضا أحسن عندي من ليل يسري بي فيه على مثل هذا يوم على الحال التي قال فيها القائل
ويوم كظل الرمح قصر طوله ... دم الزق عنا واصطفاق المزاهر ) وإنما عرض للإسكندراني بأنه كان يشهد مجالس الراحات في أول أمره ومعرفة الغناء فقلق الوزير وشكاه إلى الحاجب عيسى بن شهيد فاجتمع مع الزجالي وأخذ معه في ذلك فحكى له الزجالي ما جرى من الأول إلى الآخر وأنشد
( وما الحر إلا من يدين بمثل ما ... يدان ومن يخفي القبيح وينصف )
( هم شرعوا التعريض قذفا فعندما ... تبعناهم لاموا عليه وعنفوا )
ومن نوادر ابنه حامد أنه غلط أمامه في قوله تعالى ( الزانية والزاني ) [ النورالآية2 ] بأن قال ( ( فانكحوهما ) ) فأنشده حامد
( أبدع القارئ معنى ... لم يكن في الثقلين )
( أمر الناس جميعا ... بنكاح الزانيين )
وقال لبعض أصحابه حينئذ أما سمعت ما أتى به إمامنا من تبديل الحدود وتضاحكا

وتراجم من المطمح
وكتب الوزير أبو عبد الله بن عبد العزيز إلى المنصور صاحب بلنسية ويعرف بالمنصور الصغير قطعة أولها
( يا أحسن الناس آدابا وأخلاقا ... وأكرم الناس أغصانا وأوراقا )
( ويا حيا الأرض لم نكبت عن سنني ... وسقت نحوي إرعادا وإبراقا )
( ويا سنا الشمس لم أظلمت في بصري ... وقد وسعت بلاد الله إشراقا )
( من أي باب سعت غير الزمان إلى ... رحيب صدرك حتى قيل قد ضاقا )
( قد كنت أحسبني من حسن رأيك لي ... أني أخذت على الأيام ميثاقا )
( فالآن لم يبق لي بعد انحرافك ما ... آسى عليه وأبدي منه إشفاقا )
فأجابه بهذه القطعة
( ما زلت أوليك إخلاصا وإشفاقا ... وأنثني عنك مهما غبت مشتاقا )
( وكان من أملي أن أقتنيك أخا ... فأخفق الأمل المأمول إخفاقا )
( فقلت غرس من الإخوان أكلؤه ... حتى أرى منه أثمارا وأيراقا )
( فكان لما زها أزهاره ودنت ... إثمارها حنظلا مرا لمن ذاقا )
( فلست أول إخوان سقيتهم ... صفوي وأعلقتهم بالقلب إعلاقا )
( فما جزوني بإحساني ولا عرفوا ... قدري ولا حفظوا عهدا وميثاقا )
والوزير المذكور قال في حقه في المطمح إنه وزير المنصور بن عبد العزيز ورب السبق في وده والتبريز ومنقض الأمور ومبرمها ومخمد الفتن ومضرمها اعتقل بالدهي واستقل بالأمر والنهي على انتهاض بين الأكفاء واعتراض المحو لرسومه والإعفاء فاستمر غير مراقب وأمر

ما شاء غير ممتثل للعواقب ينتضي عزائم تنتضى فإن ألمت من الأيام مظلمة أضا إلى أن أودى وغار منه الكوكب الأهدى فانتقل الأمر إلى ابنه أبي بكر فناهيك من أي عرف ونكر فقد أربى على الدهاة وما صبا إلى الظبية ولا إلى والمهاة واستقل بالهول يقتحمه والأمر يسديه ويلحمه فأي ندى ندى أفاض وأي أجنحة بمدى هاض فانقادت إليه الآمال بغير خطام ووردت من نداه ببحر طام ولم يزل بالدولة قائما وموقظا من بهجتها ما كان نائما إلى أن صار الأمر إلى المأمون بن ذي النون أسد الحروب ومسد الثغور والدروب فاعتمد عليه واتكل ووكل الأمر إلى غير وكل فما تعدى الوزارة إلى الرياسة ولا تردى بغير التدبير والسياسة فتركه مستبدا ولم يجد من ذلك بدا
وكان أبو بكر هذا ذا رفعة غير متضائلة وآراء لم تكن آفلة أدرك بها ما أحب وقطع غارب كل منافس وجب إلى أن طلحه العمر وأنضاه وأغمده الذي انتضاه فخلى الأمر إلى ابنيه فتلبدا في التدبير ولم يفرقا بين القبيل والدبير فغلب عليهما القادر بن ذي بالنون وجلب إليهما كل خطب ما خلا المنون فانجلوا بعدما القوا ما عندهم وتخلوا وكان لأبي عبد الله نظم مستبدع يوضع بين الجوانح ويودع انتهى المقصود من الترجمة
وكان للوزير أبي الفرج ابن مكبود قد أعياه علاجه وتهيأ للفساد مزاجه فدل على خمر قديمة فلم يعلم بها إلا عند حكم وكان وسيما وللحسن قسيما فكتب إليه
( أرسل بها مثل ودك ... أرق من ماء خدك )

( شقيقة النفس فانضح ... بها جوى ابني وعبدك )
وكتب رحمه الله تعالى معتذرا عما جناه منذرا
( ما تغيبت عنك إلا لعذر ... ودليلي في ذاك حرصي عليكا )
( هبك أن الفرار من عظم ذنب ... أتراه يكون إلا إليكا )
وقال في المطمح في حق أبي الفرج من ثنية رياسة وعترة نفاسة ما منهم إلا من تحلى بالإمارة وتردى بالوزارة وأضاء في آفاق الدول ونهض بين الخيل والخول وهو أحد أمجادهم ومتقلد نجادهم فاتهم أدبا ونبلا وباراهم كرما تخاله وبلا إلا أنه بقي وذهبوا ولقي من الأيام ما رهبوا فعاين تنكرها وشرب عكرها وجال في الآفاق واستدر أخلاف الأرزاق وأجال للرجاء قداحا متواليات الإخفاق فأخمل قدره وتوالى عليه جور الزمان وغدره فاندفعت آثاره وعفت أخباره وقد أثبت له بعض ما قاله وحاله قد أدبرت والخطوب إليه قد انبرت أخبرني الوزير الحكيم أبو محمد المصري وهو الذي آواه وعنده استقرت نواه وعليه كان قادما ولوكان منادما أنه رغب إليه في أحد الأيام أن يكون من جملة ندمائه وأن لا يحجب عنه وتكون منة من أعظم نعمائه فأجابه بالإسعاف واستساغ منه ما كان يعاف لعلمه بقلته وإفراط خلته فلما كان ظهر ذلك اليوم كتب إليه
( أنا قد أهبت بكم وكلكم هوى ... وأحقكم بالشكر مني السابق )
( فالشمس أنت وقد أظل طلوعها ... فاطلع وبين يديك فجر صادق )

وقال الوزير أبو عامر بن مسلمة
( حج الحجيج منى ففازوا بالمنى ... وتفرقت عن خيفه الأشهاد ) ولنا بوجهك حجة مبرورة ... في كل يوم تنقضي وتعاد )
وقال الفتح في حقه ما صورته نبتة شرف باذخ ومفخر على ذوائب الجوزاء شامخ وزروا للخلفاء فانتجعتهم الأدباء واتبعتهم العظماء وانتسبت لهم النعماء وتنفست عن نور بهجتهم الظلماء وأبو عامر هذا هو جوهرهم المنتخل وجوادهم الذي لايبخل وزعيمهم المعظم وسلك مفخرهم المنظم وكان فتى المدام ومستفتي الندام وأكثر من النعت للراح والوصف وآثر الأفراح والقصف وأرى قينات السرور مجلوة وآيات الحسن متلوة وله كتاب سماه حديقة الارتياح في وصف حقيقة الراح واختص بالمعتضد اختصاصا جرعه رداه وصرعه في مداه فقد كان في المعتضد من عدم تحفظه للأرواح وتهاونه باللوام في ذلك واللواح فاطمأن إليه أبو عامر واغتر وأنس إلى ما بسم له من مؤانسته وافتر حتى أمكنته في اغتياله فرصة لم يعلق بها حصة ولم يضيق عليه إلا أنه زلت به قدمه فسقط في البحيرة وانكفا ولم يعلم به إلا بعدما طفا فأخرج وقد قضى وأدرج منه في الكفن حسام المجد منتضى فمن محاسنه قوله يصف السوسن وهو مما أبدع فيه وأحسن
( وسوسن راق مرآه ومخبره ... وجل في أعين النظار منظره )
( كأنه أكؤس البلور قد صنعت مسندسات تعالى الله مظهره )
( وبينها ألسن قد طوقت ذهبا ... من بينها قائم بالملك يؤثره )

إلى أن قال واجتمع بجنة بخارج إشبيلية مع إخوان له علية فبينما هم يديرون الراح ويشربون من كأسها الأفراح والجو صاح إذا بالأفق قد غيم وأرسل الديم بعدما كسا الجو بمطارف اللاذ وأشعر الغصون زهر قباذ والشمس منتقبة بالسحاب والرعد يبكيها بالانتحاب فقال
( يوم كأن سحابه ... لبست عمامات الصوامت )
( حجبت به شمس الضحى ... بمثال أجنحة الفواخت )
( والغيث يبكي فقدها ... والبرق يضحك مثل شامت )
( والرعد يخطب مفصحا ... والجو كالمحزون ساكت ) وخرج إلى تلك الخميلة والربيع قد نشر رداه ونثر على معاطف الغصون أنداه فأقام بها وقال
( وخميلة رقم الزمان أديمها ... بمفضض ومقسم ومشوب )
( رشفت قبيل الصبح ريق غمامة ... رشف المحب مراشف المحبوب ) وطردت في أكنافها ملك الصبا ... وقعدت واستوزرت كل أديب )
( وأدرت فيها اللهو حق مداره ... مع كل وضاح الجبين حسيب )
( وقال الوزير الكاتب أبو حفص أحمد بن برد
( قلبي وقلبك لا محالة واحد ... شهدت بذلك بيننا الألحاظ )

( فتعال فلنغظ الحسود بوصلنا ... إن الحسود بمثل ذاك يغاظ ) وقال
( يا من حرمت لذاذتي بمسيره ... هذي النوى قد صعرت لي خدها )
( زود جفوني من جمالك نظرة ... والله يعلم إن رأيتك بعدها )
وقال في المطمح في ابن برد المذكور إنه غذي بالأدب وعلا إلى أسمى الرتب وما من أهل بيته إلا شاعر كاتب لازم لباب السلطان راتب ولم يزل في الدولة العامرية بسبق يذكر وحق لا ينكر وهو بديع الإحسان بليغ القلم واللسان مليح الكتابة فصيح الخطابة وله رسالة السيف والقلم وهو أول من قال بالفرق بينهما وشعره مثقف المباني مرهف كالحسام اليماني وقد أثبت منه ما يلهيك سماعا ويريك الإحسان لماعا فمن ذلك قوله يصف البهار
( تأمل فقد شق البهار كمائما ... وأبرز عن نواره الخضل الندي )
( مداهن تبر في أنامل فضة ... على أذرع مخروطة من زبرجد )
وله يصف معشوقا أهيف القد ممشوقا أبدى صفحة ورد وبدا في ثوب لازورد
( لما بدا في لازور ... دي الحرير وقد بهر )
( كبرت من فرط الجمال ... وقلت ما هذا بشر )
( فأجابني لا تنكرن ... ثوب السماء على القمر )

وقال الوزير الكاتب أبو جعفر بن اللمائي
( ألما فديتكما نستلم ... منازل سلمى على ذي سلم )
( منازل كنت بها نازلا ... زمان الصبا بين جيد وفم )
( أما تجدن الثرى عاطرا ... إذا ما الرياح تنفسن ثم )
وقال في المطمح فيه إمام من أئمة الكتابة ومفجر ينبوعها والظاهر على مصنوعها بمطبوعها إذا كتب نثر الدر في المهارق ونمت فيه أنفاسه كالمسك في المفارق وانطوى ذكره على انتشار إحسانه وقسصر أمره مع امتداد لسانه فلم تطل لدوحته فروع ولا اتصل لها من نهر الإحسان كروع فاندفنت محاسنه من الإهمال في قبر وانكسرت الآمال بعدم بدائعه كسرا بعد جبر وكان كاتب علي بن حمود العلوي وذكر أنه كان يرتجل بين يديه ولا يروي فيأتي على البديه بما يتقبله المروي ويبديه فمن ذلك ما كتب به متفننا من ضمن رسالة روض القلم في فنائك مونق وغصن الأدب بمائك مورق وقد قذف بحر الهند درره وبعث روض نجد زهره فأهدى ذلك على يدي فلان الجاري في حمده على مباني قصده
وقال الوزير حسان بن مالك بن أبي عبدة في المهرجان
( أرى المهرجان قد استبشرا ... غداة بكى المزن واستعبرا )
( وسربلت الأرض أمواجها ... وجللت السندس الأخضرا )
( وهز الرياح صنابيرها ... فضوعت المسك والعنبرا )
( تهادى به الناس ألطافه ... وسامى المقل به المكثرا )

وقال في حقه في المطمح من بيت جلالة وعترة أصالة كانوا مع عبد الرحمن الداخل وتوغلوا معه في متشعبات تلك المداخل وسعوا في الخلافة حتى حضر مبايعها وكثر مشايعها وجدوا في الهدنة وانعقادها وأخمدوا نار الفتنة عند اتقادها فانبرمت عراها وارتبطت أولاها وأخراها فظهرت البيعة واتضحت وأعلنت الطاعة وأفصحت وصاروا تاج مفرقها ومنهاج طرقها وهو ممن بلغ الوزارة بعد ذلك وأدركها وحل مطلعها وفلكها مع اشتهار في اللغة والآداب وانخراط في سلك الشعراء والكتاب وإبداع لما ألف وانتهاض بما تكلف ودخل على المنصور وبين يديه كتاب ابن السري وهو به كلف وعليه معتكف فخرج وعمل على مثاله كتابا سماه ربيعة وعقيل جرد له من ذهنه أي سيف صقيل وأتى به منتسخا مصورا في ذلك اليوم من الجمعة الأخرى وأبرزه والحسن يتبسم عنه ويتفرى فسر به المنصور وأعجب ولم يغب عن بصره ساعة ولا حجب وكان له بعد هذه المرة حين أدجت الفتنة ليلها وأزجت إبلها وخيلها اغتراب كاغتراب الحارث بن مضاض واضطراب بين القوافي والمواضي كالحية النضناض ثم اشتهر بعد وافتر له السعد وفي تلك المدة يقول يتشوق إلى أهله
( سقى بلدا أهلي به وأقاربي ... غواد بأثقال الحيا وروائح
( وهبت عليهم بالعشي وبالضحى ... نواسم برد والظلال فوائح )
( تذكرتهم والنأي قد حال دونهم ... ولم أنس لكن أوقد القلب لافح )
( ومما شجاني هاتف فوق أيكة ... ينوح ولم يعلم بما هو نائح )
( فقلت اتئد يكفيك أني نازح ... وأن الذي أهواه عني نازح )
( ولي صبية مثل الفراخ بقفرة ... مضى حاضناها فاطحتها الطوائح )

( إذا عصفت ريح أقامت رؤوسها ... فلم يلقها إلا طيور بوارح )
( فمن لصغار بعد فقد أبيهم ... سوى سانح في الدهر لو عن سانح )
واستوزره المستظهر عبد الرحمن بن هشام أيام الفتنة فلم يرض بالحال ولم يمض في ذلك الانتحال وتثاقل عن الحضور في كل وقت وتغافل في ترك الغرور بذلك المقت وكان المستظهر يستبد بأكثر تلك الأمور دونه وينفرد مغيبا عنه شؤونه فكتب إليه
( إذا غبت لم أحضر وإن جئت لم أسل ... فسيان مني مشهد ومغيب )
( فأصبحت تيميا وما كنت قبلها ... لتيم ولكن الشبيه نسيب )
وله رأت طالعا للشيب بين ذوائبي فباحت بأسرار الدموع السواكب )
( وقالت أشيب قلت صبح تجاربي ... أنار على أعقاب ليل نوائبي ) ولما مات رثاه الوزير أبو عامر ابن شهيد بقوله
( أفي كل عام مصرع لعظيم ... أصاب المنايا حادثي وقديمي )
( وكيف اهتدائي في الخطوب إذا دجت ... وقد فقدت عيناي ضوء نجوم )
( مضى السلف الوضاح إلا بقية ... كغرة مسود القميص بهيم )
( فإن ركبت مني الليالي هضيمة ... فقبلي ما كان اهتضام تميم )
( أبا عبدة إنا غدرناك عندما ... رجعنا وغادرناك غير ذميم )
( أنخذل من كنا نرود بأرضه ... ونكرع منه في إناء علوم )
( ويجلو العمى عنا بأنوار رأيه ... إذا أظلمت ظلماء ذات غيوم )
( كأنك لم تلقح بريح من الحجا ... عقائم أفكار بغير عقيم )
( ولم نعتمد مغناك غدوا ولم نزر ... رواحا لفصل الحكم دار حكيم )

وقال الوزير الفقيه أبو أيوب ابن أبي أمية
( أمسك دارين حياك النسيم به ... أم عنبر الشحر أم هذي البساتين )
( بشاطئ النهر حيث النور مؤتلق ... والراح تعبق أم تلك الرياحين )
وحلاه في المطمح بقوله واحد الأندلس الذي طوقها فخارا وطبقها بأوانه افتخارا ما شئت من وقار لا تحيل الحركة سكونه ومقدار يتمنى مخبر أن يكونه إذا لاح رأيت المجد مجتمعا وإذا فاه أضحى كل شيء مستمعا تكتحل منه مقل المجد وتنتحل المعالي أفعاله انتحال ذي كلف بها ووجد لو تفرقت في الخلق سجاياه لحمدت الشيم ولو استسقيت بمحياه لما استمسكت الديم ودعي للقضاء فما رضي وأعفي عنه فكأنه ما استقضي لديه تثبت الحقائق وتنبت العلائق وبين يديه يسلك عين الجدد ويدع اللدد اللدد وله أدب إذا حضر به فلا البحر إذا عصف ولا أبو عثمان إذا وصف مع حلاوة مؤانسة تستهوي الجليس وتهوي حيث شاءت بالنفوس وأما تحبيره وإنشاؤه ففيهما للسامع تحييره وانتشاؤه وقد اثبت له بدعا يثني إليها الإحسان جيدا وأخدعا فمن ذلك قوله في منزل حله متنزها
( يا منزل الحسن أهواه وآلفه ... حقا لقد جمعت في صحنك البدع )
( لله ما اصطنعت نعماك عندي في ... يوم نعمت به والشمل مجتمع )
وحل منية صهره الوزير أبي مروان بن الدب بعدوة إشبيلية المطلة على النهر المشتملة على بدائع الزهر وهو معرس ببنته فأقام بها أياما متأنسا

ولجذوة السرور مقتبسا فوالى عليه من التحف وأهدى إليه من الطرف ما غمر كثرة وبهر نفاسة وأثرة فلما ارتحل وقد اكتحل من حسن ذلك الموضع بما اكتحل كتب إليه
( قل للوزير وأين الشكر من منن ... جاءت على سنن تترى وتتصل )
( غشيت مغناك والروض الأنيق به ... يندى وصوب الحيا يهمي وينهمل )
( وجال طرفي في أرجائه مرحا ... وفق اجتيازي يستعلي ويستفل )
( ندعو بلفتته حيث ارتمى زهر ... عليه من منثني أفنانه كلل )
( محل أنس نعمنا فيه آونة ... من الزمان وواتانا به الأمل )
وحل بعد ذلك متنزها بها على عادته فاحتفل في موالاة ذلك البر وإعادته فلما رحل كتب إليه
( يا دار أمنك الزمان ... صروفه ونوائبه )
( وجرت سعودك بالذي ... يهوى نزيلك آيبه )
( فلنعم مأوى الضيف أنت ... إذا تحاموا جانبه )
( خطر شأوت به الديار وأذعنت لك قاطبه )
وصنع له ولد ابن عبد الغفور رسالة سماها ب الساجعة حذا بها حذو أبي العلاء المعري في الصاهل والشاحج وبعث بها إليه فعرضها عليه فأقامت عنده أياما ثم استدعاها منه فصرفها إليه وكتب معها بكر زففتها أعزك الله تعالى نحوك وهززت بمقدمها سناك وسروك فلم ألفظها عن شبع ولا

جهلت ارتفاعها عما يجتلي من نوعها ويستمع ولكن لما أنسته من أنسك بانتجاعها وحرصك على ارتجاعها دفعت في صدر الولوع وتركت بينها وبين مجاثمها تلك الربوع حيث الأدب غض وماء البلاغة مرفض فأسعد أعزك الله بكرتها وسلها عن أفانين معرتها بما تقطفه من ثمارك وتغرفه من بحارك وترتاح له ولإخوانه من نتائج أفكارك وإنها لشنشنة أعرفها فيكم من أخزم وموهبة حزتموها وأحرزتم السبق فيها منذ كم انتهى
وابن عبد الغفور هو الوزير أبو القاسم الذي قال فيه الفتح فتى زكا فرعا وأصلا وأحكم البلاغة معنى وفصلا وجرد من ذهنه على الأعراض نصلا قدها به وفراها وقدح زند المعالي حتى أوراها مع صون يرتديه ولا يكاد يبديه وشبيبة ألحقته بالكهول فأقفرت منه ربعها المأهول وشرف ارتداه وسلف اقتفى أثره الكريم واقتداه وله شعر بديع السرد مفوف البرد وقد أثبت له منه ما ألفيت وبالدلالة عليه أكتفيت فمن ذلك قوله
( تركت التصابي للصواب وأهله ... وبيض الطلى للبيض والسمر للسمر )
( مدامي مدادي والكؤوس محابري ... وندماي أقلامي ومنقلتي سفري ) وله
( لا تنكروا أننا في رحلة أبدا ... نحث في نفنف طورا وفي هدف
( فدهرنا سدفة ونحن أنجمها ... وليس ينكر مجرى النجم في السدف )
( لو أسفر الدهر لي أقصرت عن سفري ... وملت عن كلفي بهذه الكلف )

حذف

وله من قصيدة
( رويدك يا بدر التمام فإنني ... أرى العيس حسرى والكواكب ظلعا )
( كأن أديم الصبح قد قد أنجما ... وغودر درع الليل فيها مرقعا )
( فإني وإن كان الشباب محببا ... إلي وفي قلبي أجل وأوقعا )
( لآنف من حسن بشعري مفترى ... وآنف من حسن بشعري قنعا )
وقال الوزير أبو الوليد بن حزم
( إليك أبا حفص وما عن ملالة ... ثنيت عناني والحبيب حبيب )
( مقالا يطير الجمر عن جنباته ... ومن تحته قلب عليك يذوب )
( مضت لك في أفياء ظلي صولة ... لها بين أحناء الضلوع دبيب )
( ولكن أبى إلا إليك التفاته ... فزاد عليه من هواك رقيب )
( وكم بيننا لو كنت تحمد ما مضى ... إذ العيش غض والزمان قشيب )
( وتحت جناح الغيم أحشاء روضة ... بها لخفوق العاصفات وجيب )
( وللزهر في ظل الرياض تبسم ... وللطير منها في الغصون نحيب ) وقال في الزهد
( ثلاث وستون قد جزتها ... فماذا تؤمل أو تنتظر )
( وحل عليك نذير المشيب ... فما ترعوي أو فما تزدجر )
( تمر لياليك مرا حثيثا ... وأنت على ما أرى مستمر )
( فلو كنت تعقل ما ينقضي ... من العمر لاعتضت خيرا بشر )
( فما لك تستعد إذن ... لدار المقام ودار المقر )
( أترغب عن فجأة للمنون ... وتعلم أن ليس منها مفر )

( فإما فإما إلى جنة أزلفت ... وإما إلى سقر تستعر )
وقال ابن أبي زمنين
( الموت في كل حين ينشر الكفنا ... ونحن في غفلة عما يراد بنا )
( لا تطمئن إلى الدنيا وبهجتها ... وإن توشحت من أثوابها الحسنا )
( أين الأحبة والجيران ما فعلوا ... أين الذين هم كانوا لنا سكنا )
( سقاهم الموت كأسا غير صافية ... فصيرتهم لأطباق الثرى رهنا )
( تبكي المنازل منهم كل منسجم ... بالمكرمات وترثي البر والمننا )
( حسب الحمام لو ابقاهم وأمهلهم ... أن لا يظن على معلوة حسنا )
وقال في المطمح الفقيه أبو عبد الله محمد بن أبي زمنين فقيه متبتل وزاهد لا منحرف إلى الدنيا ولا منفتل هجرها هجر المنحرف وحل أوطانه فيها محل المعترف لعلمه بارتحاله عنها وتفويضه وإبداله منها وتعويضه فنظر بقلبه لا بعينه وانتظر يوم فراقه وبينه ولم يكن له بعد ذلك بها اشتغال ولا في شعاب تلك المسالك إيغال وله تآليف في الوعظ والزهد وأخبار الصالحين تدل على تخليته عن الدنيا واتراكه والتفلت من حبائل الاغترار وأشراكه والتنقل من حال إلى حال والتأهب للارتحال ويستدل به على ذلك الانتحال فمنها قوله
( الموت في كل حين ينشر الكفنا ... فذكر الأبيات

وقال خلف بن هارون يمدح الحافظ أبا محمد بن حزم
( يخوض إلى المجد والمكرمات ... بحار الخطوب وأهوالها )
( وإن ذكرت للعلا غاية ... ترقى إليها وأهوى لها ) وقال في المطمح فيه فقيه مستنبط ونبيه بقياسه مرتبط ما تكلم تقليدا ولا عدا اختراعا وتوليدا ما تمنت به الأندلس أن تكون كالعراق ولا حنت الأنفس معه إلى تلك الآفاق أقام بوطنه وما برح عن عطنه فلم يشرب ماء الفرات ولم يقف عيشة الثمرات ولكنه أربى على من من ذلك غذي وأزرى على من هنالك نعل وحذي تفرد بالقياس واقتبس نار المعارف أي اقتباس فناظر بها أهل فاس وصنف وحبر حتى أفنى الأنقاس ونابذ الدنيا وقد تصدت له بأفتن محيا وأهدت إليه أعبق عرف وريا وخلع الوزارة وقد كسته ملاها وألبسته حلاها وتجرد للعلم وطلبه وجد في اقتناء نخبه وله تآليف كثيرة وتصانيف أثيرة منها الإيصال إلى فهم كتاب الخصال وكتاب الإحكام لأصول الأحكام وكتاب الفصل في الأهواء والملل والنحل وكتاب مراتب العلوم وغير ذلك مما لم يظهر مثله من هنالك مع سرعة الحفظ وعفاف اللسان واللحظ وفيه يقول خلف بن هارون
( يخوض إلى المجد والمكرمات ... ) ولابن حزم في الأدب سبق لا ينكر وبديهة لا يعلم أنه روى فيها ولا

فكر وقد أثبت من شعره ما يعلم أنه أوحد وما مثله فيه أحد ثم ذكر جملة من نظمه ذكرناها في غير هذا الموضع
وكتب أبو عبد الله بن مسرة إلى أبي بكر الؤلؤي يستدعيه في يوم طين ومطر لقضاء أرب من الأنس ووطر
( أقبل فإن اليوم يوم دجن إلى مكان كالضمير مكني )
( لعلنا نحكم أشهى فن فأنت في ذا اليوم أمشى مني )
وقال في المطمح إن ابن مسرة كان على طريق من الزهد والعبادة سبق فيها وانتسق في سلك مقتفيها وكانت له إشارة غامضة وعبارة عن منازل الملحدين غير داحضة ووجدت له مقالات ردية واستنباطات مردية نسب بها إليه رهق وظهر له فيها مزحل عن الرشد ومزهق فتتبعت مصنفاته بالحرق واتسع في استباحتها الخرق وغدت مهجورة على التالين محجورة وكان له تنميق في البلاغة وتدقيق لمعانيها وتزويق لأغراضها وتشييد لمبانيها انتهى
وهو من نمط الصوفية الذين تكلم فيهم والتسليم أسلم والله تعالى بأمرهم أعلم
ومن حكايات أهل الأندلس في الانقباض عن السلطان والفرار من المناصب مع العذر اللطيف ما حكاه في المطمح في ترجمة الفقيه أبي عبد الله الخشني إذ قال كان فصيح اللسان جزيل البيان وكان أنوفا منقبضا عن السلطان لم يتشبث بدنيا ولم ينكث له مبرم عليا دعاه الأمير محمد إلى

القضاء فلم يجب ولم يظهر رجاءه المحتجب وقال أبيت عن إمامة هذه الديانة كما أبت السموات والأرض عن حمل الأمانة إباية إشفاق لا إباية عصيان ونفاق وكان الأمير قد أمر الوزراء بإجباره أو حمل السيف إن تمادى على تأبيه وإصراره فلما بلغه قوله هذا أعفاه قال وكان الغالب عليه علم النسب واللغة والأدب ورواية الحديث وكان مأمونا ثقة وكانت القلوب على حبه متفقة وله رحلة دخل فيها العراق ثم عاد إلى هذه الآفاق وعندما اطمأنت داره وبلغ أقصى مناه مداره قال
( كأن لم يكن بين ولم تك فرقة ... )
الأبيات انتهى وهذه الأبيات قدمناها في الباب الخامس في ترجمة القاضي ابن أبي عيسى
فأنت ترى كلام الفتح قد اضطرب في نسبتها فمرة نسبها إلى هذا ومرة نسبها إلى ذاك وهي قطعة عرفها ذاك
ومن دعابات أهل الأندلس وملحهم ما يحكى عن ابن أبي حلى وهو علي ابن أبي حلى المكناسي أبو الحسن قال لسان الدين كان شيخا مليح الحديث حافظا للمسائل الفقهية قائما على المدونة مضطلعا بمشكلاتها كثير الحكايات يحكي أنه شاهد غرائب وتملحا فينمقها عليه بعض الطلبة ويتعدون ذلك إلى الافتعال والمداعبة حتى جمعوا من ذلك جزءا سموه السالك والمحلى في أخبار ابن أبي حلى فمن ذلك أنه كانت له هرة فدخل البيت يوما فوجدها قد بلت إحدى يديها وجعلتها في الدقيق حتى علق بها ونصبتها

بإزاء كوة فأر ورفعت اليد الأخرى لصيده فناداها باسمها فردت رأسها وجعلت إصبعها على فمها على هيئة المشير بالصمت وأشباه ذلك وتوفي المذكور سنة 406 قاله في الإحاطة ومن أجوبة ملوك الأندلس أن نزارا العبيدي صاحب مصر كتب إلى المرواني صاحب الأندلس كتابا يسبه فيه ويهجوه فكتب إليه المرواني أما بعد فإنك عرفتنا فهجوتنا ولو عرفناك لأجبناك والسلام فاشتد ذلك على نزار وأفحمه عن الجواب وحكي أنه كتب إلى العبيدي ملك مصر مفتخرا [ الطويل ] ألسنا بني مروان كيف تبدلت بنا الحال أو دارت علينا الدوائر إذا ولد المولود منا تهللت له الأرض واهتزت إليه المنابر من شجاعة الأندلسيين 330 من شجاعة الأندلسيين ومن غريب ما يحكى من قوة أهل الأندلس وشجاعتهم أن الأمير حريز بن عكاشة من ذرية عكاشة بن محصن صاحب رسول الله لما نزل بساحة أذفونش ملك الروم فبدأهم بخراب ضياعها وقطع الشجر فكتب إليه حريز ليس من أخلاق القدير الفساد والتدمير فإن قدرت على البلاد أفسدت ملكك ولو كان الملك في عشرة أمثال عددي لم ينزل لي بساحة ولا تمكن منها براحة فلما وصلته الرسالة عف وأمر بالكف وبعث الملك يرغبه في الاجتماع به فاسترهنه في نفسه عدة من ملوك

الروم فأجاب إلى ما ارتهن ولما صاروا بالمدينة البيضاء - وهي قلعة رباح غربي طليطلة - خرج حريز لابسا لأمة حربه يرمق الروم منه شخصا أوتي بسطة في الجسم والبسالة يتعجبون من آلات حربه ويتحدثون بشجاعة قلبه ولما وصل فسطاط الملك تلقته الملوك بالرحب والسعة ولما أراد النزول عن فرسه ركز رمحه فأبصر الملك منه هيئة تشهد له بما عنه حدث وهيبة يجزع للقائها الشجاع ويكترث فدعاه إلى البراز عظيم أبطالهم فقال له الملك يا حريز أريد أن أنظر إلى مبارزتك هذا البطل فقال له حريز المبارز لا يبارز إلا أكفاءه وإن لي بينة على صدق قولي أن ليس لي فيهم كفء هذا رمحي قد ركزته فمن ركب واقتلعه بارزته كان واحدا أو عشرة فركب عظيمهم فلم يهز الرمح من مكانه حين رامه ثم فعل ذلك مرارا فقال له الملك أرني يا حريز كيف تقلعه فركب وأشار بيده واقتلعه فعجب القوم ووصله الملك وأكرمه انتهى
وكان حريز هذا شاعرا ولما اجتاز به كاتب ابن ذي النون الوزير أبو المطرف ابن المثنى كتب إليه
( يا فريدا دون ثان ... وهلالا في العيان )
( عدم الراح فصارت ... مثل دهن البلسان )
فجاوبه حريز وهو يومئذ أمير قلعته
( يا فريدا لا يجارى ... بين أبناء الزمان )
( جاء من شعرك روض ... جاده صوب البيان )
( فبعثناها سلافا ... كسجاياك الحسان )

وكان لحريز كاتب يقال له عبد الحميد بن لاطون فيه تغفل شديد فأمره أن يكتب إلى المأمون بن ذي النون في شأن حصن دخله النصارى فكتب وقد بلغني أن الحصن الفلاني دخله النصارى إن شاء الله تعالى فهذه الواقعة التي ذكرها الله تعالى في القرآن بل هي الحادثة الشاهدة بأشراط الزمان فإنا لله على هذ المصيبة التي هدت قواعد المسلمين وأبقت في قلوبهم حسرة إلى يوم الدين
فلما وصل الكتاب للمأمون ضحك حتى وقع للأرض وكتب لابن عكاشة جوابه وفيه وقد عهدناك منتقيا لأمورك نقادا لصغيرك وكبيرك فكيف جاز عليك أمر هذا الكاتب الأبله الجلف واسندت إليه الكتب عنك دون أن تطلع عليه وقد علمت أن عنوان الرجل كتابه ورائد عقله خطابه وما أدري من أي شيء يتعجب منه هل من تعليقه إن شاء الله تعالى بالماضي أم من حسن تفسيره للقرآن ووضعه مواضعه أم من تورعه عن تأويله إلا بتوقيف من سماع عن إمام أم من تهويله لما طرأ على من يخاطبه أم من علمه بشأن هذا الحصن الذي لو أنه القسطنطينية العظمى ما زاد عن عظمه وهوله شيئا ولو أن حقيرا يخفى عن علم الله تعالى لخفي عنه هذا الحصن ناهيك عن صخرة حيث لا ماء ولا مرعى منقطع عن بلاد الإسلام خارج عن سلك النظام لا يعبره إلا لص فاجر أو قاطع طريق غير متظاهر حراسه لا يتجاوزون الخمسين ولا يرون خبز البر عندهم إلا في بعض السنين باعه أحدهم بعشرين دينارا ولعمري إنه لم يغبن في بيعه ولا ربح أرباب ابتياعه وأراح من الشين بنسبته والنظر في خداعه فليت شعري ما الذي عظمه في عين هذا الجاهل حتى خطب في أمره بما لم يخطب به في حرب وائل
فلما وقف حريز على الكتاب كتب لابن ذي النون جوابا منه وإن المذكور ممن له حرمة قديمة تغنيه عن أن يمت بسواها وخدمة محمود أولاها وأخراها ولسنا ممن اتسعت مملكته وعظمت حضرته فنحتاج إلى انتقاء الكتاب والتحفظ في الخطاب وإنما نحن أحلاس ثغور وكتاب كتائب

لا سطور وإن كان الكاتب المذكور لا يحسن فيما يلقيه على القلم فإنه يحسن كيف يصنع في مواطن الكرم وله الوفاء الذي تحدث به فلان وفلان بل سارت بشأنه في أقصى البلاد الركبان وليس ذلك يقدح عندنا فيه بل زاده لكونه دالا على صحة الباطن والسذاجة في الإكرام والتنويه انتهى
ولهذا الكاتب شعر يسقط فيه سقوط الأغبياء وقد يتنبه فيه تنبه الأذكياء فمنه قوله من قصيدة يمدح حريزا المذكور مطلعها
( يذكرني بهم العنبر ... وظلم ثناياهم سكر )
إلى أن قال
( ولولا معاليك يا ذا الندى ... لما كان في الأرض من يشعر )
( فلا تنكرن زحاما على ... ذراك وفي كفك الكوثر )
ومشى في موكبه وهم في سفر وكان في فصل المطر والطين فجعل فرسه في ذنب فرس ابن عكاشة فلما أثارت يدا فرسه طينا جاء في عنق أميره ففطن لذلك الأمير فقال له يا أبا محمد تقدم فقال معاذ الله أن أسيء الأدب بالتقدم على أميري فقال فإن كان كذلك فتأخر مع الخيل فقال مثلي لا يزال على ركابك في مثل هذه المواضع فقال له فقد والله أهلكتني بما ترمي يدا
( فرسك علي من الطين فقال أعز الله الأمير ! يعذرني علمت فوالله ما علمت أن يد فرسي تصل إلى عنقك فضحك ابن عكاشة حتى كاد يسقط عن مركوبه
وكان بسرقسطة غلام اسمه يحيى بن يطفت من بني يفرن قد نشأ عند ملكها المقتدر بن هود وتخلق بالركوب والأدب وكان في غاية الجمال والحلاوة والظرف فعلق بقلب ابن هود وكتم حبه زمانا فلم ينكتم فكتب له
( يا ظبي بالله قل لي متى ترى في حبالي

يمر عمري وحالي ... من خيبتي منك خالي )
فكتب له الغلام في ظهر الرقعة
( إن كنت ظبيا فأنت الهزبز ... تبغي اغتيالي )
( وليس يخطر يوما ... حلول غيل ببالي )
ثم كتب بعدهما هذا ما اقتضاه حكم الجواب في النظم وأنا بعد قد جعلت رسني بيد سيدي فعسى أن يقودني إلى ما أحب لا ما أكره والذي أحبه أن يكون بيننا من المحبة ما يقضي بدوام الإخلاص ونأمن في مغبته من العار والقصاص فتركه مدة ثم كتب له يوما على الصورة التي ذكرها
( ماذا ترى في يوم أمن طرزت ... حلل السحاب به البروق المذهبه )
( وأنا وكاسي لا جليس غيره ... ملآن لا يخلو إلى أن تشربه )
( والأنس إن يسرته متيسر ... ومتى تصعبه فيا ما أصعبه ) فأجابه
( يا مالكا بذ الملوك بعلمه ... وخلاله وعلوه في المرتبه )
( وافى نداك فحرت عند جوابه ... إذ ما تضمن ريبة مستغربه )
( إنا إذا نخلو تقول حاسد ... وغدا بهذا الأمر ينصر مذهبه )
( هبني إلى يوم تطيش به النهى ... والبيض تنضى والقنا متأشبه )
( وهناك فانظرني بعين بصيرة ... فالشبل يعرف أصله من جربه ) ثم أعلاه إلى درجة الوزارة والقيادة إلى أن قتل في جيش كان قدمه عليه فقال فيه من قصيدة
( يا صارما أغمدته ... عن ناظري الصوارم )

( وزهرة غيبتها ... من الطيور كمائم )
( يا كوكبا خر من أنجمي ... وأنفي راغم )
( بكت علي وشقت ... جيوبهن الغمائم )
( قل للحمائم إني ... أصبحت أحكي الحمائم )
( وأنثر الدمع مهما ... رأيت للزهر باسم )
( تالله لا لذ عيش 5 لمترف لك عادم ) ولما رحل الوزير عبد البر بن فرسان من وادي آش إلى علي الميورقي صاحب فتنة إفريقية أقبل عليه ثم ولي أخوه يحيى الإمارة بعده فأسند جميع أموره إليه فقال يخاطبه
( أجبنا ورمحي ناصري وحسامي ... وعجزا وعزمي قائدي وإمامي )
( ولي منك بطاش اليدين غضنفر ... يحارب عن أشباله ويحامي )
( ألا غنياني بالصهيل فإنه ... سماعي ورقراق الدماء مدامي )
( وحطا على الرمضاء رحلي فإنها ... )
( مهادي وخفاق البنود خيامي ... )
وكان الأمير أبو عبد الله بن مردنيش ملك شرق الأندلس من أبطال عصره وكان يدفع في المواكب ويشقها يمينا وشمالا منشدا
( أكر على الكتيبة لا أبالي ... أحتفي كان فيها أم سواها )
حتى إنه دفع مرة في موكب النصارى فصرع منهم وقتل وظهر منه ما أعجبت به نفسه فقال لشخص من خواصه عالم بأمور الحرب كيف رأيت فقال لو رآك السلطان لزاد فيما لك في بيت المال وأعلى مرتبتك أمن يكون رأس جيش يقدم هذا الإقدام ويتعرض بهلاك نفسه إلى هلاك من

معه فقال له دعني فإني لا أموت مرتين وإذا مت أنا فلا عاش من بعدي
ومن حكاياتهم في الظرف أن القاضي أبا عبد الله محمد بن عيسى من بني يحيى بن يحيى خرج إلى حضور جنازة وكان لرجل من إخوانه منزل بقرب مقبرة قريش فعزم عليه في الميل إليه فنزل وأحضر له طعاما وغنت جارية
( طابت بطيب لثاتك الأقداح ... وزهت بحمرة وجهك التفاح )
( وإذا الربيع تنسمت أرواحه ... نمت بعرف نسيمك الأرواح )
( وإذا الحنادس ألبست ظلماءها ... فضياء وجهك في الدجى مصباح )
فكتبها القاضي طربا على ظهر يده قال الراوي فلقد رأيته يكبر على الجنازة والأبيات على ظهر يده
ومن حكاياتهم في البلاغة ما ذكره في المطمح أن أبا الوليد بن عيال لما انصرف من الحج اجتمع مع أبي الطيب في مسجد عمرو بن العاص بمصر ففاوضه قليلا ثم قال له أنشدني لمليح الأندلس يعني ابن عبد ربه فأنشده
( يا لؤلؤا يسبي العقول أنيقا ... ورشا بتعذيب القلوب رفيقا )
( ما إن رأيت ولا سمعت بمثله درا ... يعود من الحياء عقيقا )
( وإذا نظرت إلى محاسن وجهه ... أبصرت وجهك في سناه غريقا )
( يا من تقطع خصره من رقة ... ما بال قلبك لا يكون رقيقا )

فلما كمل إنشادها استعادها ثم صفق بيديه وقال يا ابن عبد ربه لقد تأتيك العراق حبوا انتهى
وقال مؤلف كتاب واجب الأدب مما يجب حفظه من مخترعات الأندلسيين قول ابن عبد ربه
( يا ذا الذي خط العذار بخده ... خطين هاجا لوعة وبلابلا )
( ما كنت أقطع أن لحظك صارم حتى حملت من العذار حمائلا )
وحكي أن الوزير أبا الوليد بن زيدون توفيت ابنته وبعد الفراغ من دفنها وقف للناس عند منصرفهم من الجنازة ليتشكر لهم فقيل إنه ما أعاد في ذلك الوقت عبارة قالها لأحد قال الصفدي وهذا من التوسع في العبارة والقدرة على التفنن في أساليب الكلام وهو أمر صعب إلى الغاية وأرى أنه أشق مما يحكى عن واصل بن عطاء أنه ما سمعت منه كلمة فيها راء لأنه كان يلثغ بحرف الراء لثغة قبيحة والسبب في تهوين هذا الأمر وعدم تهويله أن واصل بن عطاء كان يعدل إلى ما يرادف تلك الكلمة مما ليس فيه راء وهذا كثير في كلام العرب فإذا أراد العدول عن لفظ فرس قال جواد أو ساع أو صافن أو العدول عن رمح قال قناة أو صعدة أو يزني أو غير ذلك أو العدول عن لفظ صارم قال حسام أو لهذم أو غير ذلك وأما ابن زيدون فأقول في حقه إنه أقل ما كان في تلك الجنازة وهو وزير ألف رئيس ممن يتعين عليه أن يتشكر له ويضطر إلى ذلك فيحتاج في هذا المقام إلى ألف عبارة مضمونها الشكر وهذا كثير إلى الغاية لا سيما من محزون فقد

قطعة من كبده
( ولكنه صوب العقول إذا انبرت ... سحائب منه أعقبت بسحائب ) وقد استعمل الحريري هذا في مقاماته عندما يذكر طلوع الفجر وهو من القدرة على الكلام وأرى الخطيب ابن نباتة ممن لا يلحق في هذا الباب فإنه أملى مجلدة معناها من أولها إلى آخرها ( يا أيها الناس اتقوا الله واحذروه فإنكم إليه راجعون ) وهذا أمر بارع معجز والناس يذهلون عن هذه النكتة فيه انتهى كلام الصفدي ملخصا
وقال في الوافي بعد ذكره جملة من أحوال ابن زيدون ما نصه وقال بعض الأدباء من لبس البياض وتختم بالعقيق وقرأ لأبي عمرو وتفقه للشافعي وروى شعر ابن زيدون فقد استكمل الظرف
وكان يسمى بحتري المغرب لحسن ديباجة نظمه وسهولة معانيه انتهى
رجع إلى كلام أهل الأندلس وكان الأديب المحدث أبو الربيع سليمان بن علي الشلبي الشهير بكثير يهوى من يتجنى عليه ويقول إنه أبرد من الثلج فخاطبه كثير بقوله
( يا حبيبا له كلام خلوب ... قلبت في لظى هواه القلوب ) كيف تعزو إلى محبك بردا ... ومن الحب في حشاه لهيب )
( أنت شمس وقلت إني ثلج ... فلهذا إذا طلعت أذوب )

وقال ابن مهران مما يشتمل على أربعة أمثال
( المال زين والحياة شهية ... والجود يفقر والشجاعة تقتل )
( والبخل عيب والجبان مذمم ... والقصد أحكم والتوسط أجمل )
وقال ابن السيد البطليوسي متغزلا
( نفسي الفداء لجؤذر حلو اللمى ... مستحسن بصدوده أضناني )
( في فيه سمطا جوهر يروي الظما ... لو علني ببروده أحياني )
ويخرج من هذه القطعة عدة قطع
وقال ابن صارة مضمنا
( إلى كم ينفد الدينار مني ... ويطلب كف من عنه يحيد )
( ألم أنشده في وادي هيامي ... به لو كان يعطفه النشيد )
( حبيبي أنت تعلم ما أريد ... ولكن لا ترق ولا تجود )
( وكم غنيت حين تنكبتني ... منى شيطانها أبدا مريد ) ( يريد المرء أن يؤتى مناه ... ويأبى الله إلا ما يريد )
وقال ذو الرياستين أبو مروان عبد الملك بن رزين
( بالله إن لم تزدجر ... يا مشبه البدر المنير )

( أسرحن نواظري ... في ذلك الورد النضير )
( ولآكلنك بالمنى ... ولأشربنك بالضمير )
وقال ابن عبد ربه
( اشرب على المنظر الأنيق ... وامزج بريق الحبيب ريقي )
( واحلل وشاح الكعاب رفقا ... خوفا على خصرها الرقيق )
( وقل لمن لام في التصابي ... خل قليلا عن الطريق )
وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا من بلاغة أهل الأندلس في الجد والهزل ما فيه مقنع لمن ومن حكاياتهم في عدم احتمال الضيم والذل والوصف بالأنفة أنه لما ثار أيوب بن مطروح في المائة الخامسة في الفتنة على ملك غرناطة عبد الله بن بلقين بن حبوس وخاض بحار الفتنة حتى رماه موجها فيمن رمى على الساحل وحصل فيما بث عليهم يوسف بن تاشفين من الحبائل وكانت له همة وأنفة عظيمة وخلع عن إمارته وحصل في حبالته أدخل رأسه تحته فانتظر من حضر معه أن يتكلم أو يخرج رأسه فلم يكن إلا قليل حتى وقع ميتا رحمه الله تعالى
ولما ثار الميورقي بإفريقية على بني عبد المؤمن الثورة المشهورة وخدمه جملة من أعيان أهل الأندلس وكان من جملتهم مالك بن محمد بن سعيد العنسي كتب عنه من رسالة وبعد فإنا لا نحتاج لك إلى برهان على أمير لسانه الحسام وأيده التأييد الرباني الذي لا يرام قد نصب خيامه

بالبراح ولم يتخذ سورا غير سمر القنا وبيض الصفاح له من العزم ردء ومن الرأي كمين
( إذا صدق الحسام ومنتضيه ... فكل قرارة حصن )
حصين وهو من القوم الذين لا يجورون على جار ولا يرحلون بخزية ولا يتركون من عار دينهم دين التقوى وإن كنت من ذلك في شك فأقدم علينا حتى يصح لك اختبار الذهب بالسبك وأنت بالخيار في الظعن والإقامة فإن حللت نزلت خير منزل وإن رحلت ودعت أفضل وداع وسرت في كنف السلامة إذ قد شهرنا بأنا لا نقيد إلا بالإحسان وأن ندع لاختياره كل إنسان من
كرم الأندلسيين 339 من كرم الأندلسيين
ومن حكايات أهل الأندلس في الجود والفضل ومكارم الأخلاق أن أبا العرب الصقلي حضر مجلس المعتمد بن عباد فأدخلت عليه جملة من دنانير السكة فأمر له بخريطتين منها وبين يديه تصاوير عنبر من جملتها صورة جمل مرصع بنفيس الدر فقال أبو العرب ما يحمل هذه الدنانير إلا جمل فتبسم المعتمد وأمر له به فقال
( أعطيتني جملا جونا شفعت به ... حملا من الفضة البيضاء لو حملا )
( نتاج جودك في أعطان مكرمة ... لا قد تعف من منع ولا عقلا )
( فاعجب لشأني فشأني كله عجب ... رفهتني فحملت الحمل والجملا )
ومن نظم أبي العرب المذكور
( إلام اتباعي للأماني الكواذب ... وهذا طريق المجد بادي المذاهب )

( أهم ولي عزمان عزم مشرق ... وآخر يثني همتي للمغارب )
( ولا بد لي أن أسأل العيس حاجة ... تشق على أخفافها والغوارب )
( إذا كان أصلي من تراب فكلها ... بلادي وكل العالمين أقاربي )
وذكر الحافظ الحجاري في المسهب أنه سأل عمه أبا محمد عبد الله بن إبراهيم عن أفضل من لقي من أجواد تلك الحلبة فقال يا ابن أخي لم يقدر أن يقضى لي الاصطحار بهم في شباب أمرهم وعنفوان رغبتهم في المكارم ولكن اجتمعت بهم وأمرهم قد هرم وساءت بتغير الأحوال ظنونهم وملوا الشكر وضجروا من المروءة وشغلتهم المحن والفتن فلم يبق فيهم فضل للإفضال وكانوا كما قال أبو الطيب
( أتى الزمان بنوه في شبيبته ... فسرهم وأتيناه على الهرم ) فإن يكن أتاه على الهرم فإنا أتيناه وهو في سياق الموت ثم قال ومع هذا فإن الوزير أبا بكر بن عبد العزيز - رحمه الله تعالى كان يحمل نفسه ما لا يحمله الزمان ويبسم في موضع القطوب ويظهر الرضى في حال الغضب ويجهد ألا ينصرف عنه أحد غير راض فإن لم يستطع الفعل عوض عنه القول
قلت له فالمعتمد بن عباد كيف رأيته فقال قصدته وهو مع أمير المسلمين يوسف بن تاشفين في غزوته للنصارى المشهورة فرفعت له قصيدة منها
( لا روع الله سربا في رحابهم ... وإن رموني بترويع وإبعاد )
( ولا سقاهم على ما كان من عطش ... إلا ببعض ندى كف ابن عباد )
( ذي المكرمات التي ما زلت تسمعها ... أنس المقيم وفي الأسفار كالزاد )
( يا ليت
( شعري ماذا يرتضيه لمن ناداه ... يا موئلي في جحفل النادي )

فلما انتهيت إلى هذا البيت قال أما ما أرتضيه لك فلست أقدر في هذا الوقت عليه ولكن خذ ما ارتضى لك الزمان وأمر خادما له فأعطاني ما أعيش في فائدته إلى الآن فإني انصرفت به إلى المرية وكان يعجبني سكناها والتجارة بها لكونها ميناء لمراكب التجار من مسلم وكافر فتجرت فيها فكان إبقاء ماء وجهي على يديه رحمة الله تعالى عليه
ثم أخذ البطاقة وجعل يجيل النظر والفكر في القصيدة وأنا مترقب لنقده لكونه في هذا الشأن من أئمته وكثيرا ما كان الشعراء يتحامونه لذلك إلا من عرف من نفسه التبريز ووثق بها إلى أن انتهى إلى قولي
( ولا سقاهم على ما كان من عطش ... إلا ببعض ندى كف ابن عباد )
فقال لأي شيء بخلت عليهم أن يسقوا بكفه فقلت إذن كان يلحقني من النقد ما لحق ذا الرمة في قوله
( ولا زال منهلا بجرعائك القطر ... ) وكان طوفان نوح أهون عليهم من ذلك فتألقت غرته وبدت مسرته وقال إنا لله على أن لم يعنا الزمان على مكافأة مثلك
قال وكنت ممن زاره بسجنه بأغمات وحملتني شدة الحمية له والامتعاض لما حل به أن كتبت على حائط سجنه متمثلا
( فإن تسجنوا القسري لا تسجنوا اسمه ... ولا تسجنوا معروفه في القبائل ) ثم تقفدت الكتابة بعد أيام فوجدت تحت البيت لذلك سجناه

( ومن يجعل الضرغام في الصيد بازه ... تصيده الضرغام فيما تصيدا )
فما أدري من جاوب بذلك ثم عدت له ووجدته قد محي وأعلمت بذلك ابن عباد فقال صدق المجاوب وأنا الجاني على نفسه والحافر بيده لرمسه ولما أردت وداعه أمر لي بإحسان على قدر ما استطاع فارتجلت
( آليت لا أقبل إحسانكم ... والدهر فيما قد عراكم مسي )
( ففي الذي أسلفتم غنية ... وإن يكن عندكم قد نسي )
قال وفيه أقول من قصيدة
( يا طالب الإنصاف من دهره ... طلبت أمرا غير معتاد )
( فلو يكونى العدل في طبعه ... لما عدا ملك ابن عباد ) وللحجاري المذكور كتاب في البديع سماه الحديقة وأنشد لنفسه فيه
( وشادن ينصف من نفسه ... أمنني من سطوة الدهر )
( ينام للشرب على جنبه ... ويصرف الذنب إلى الخمر )
وله في فرس
( ومستبق يحار الطرف فيه ... ويسلم في الكفاح من الجماح )
( كأن أديمه ليل بهيم ... تحجل باليسير من الصباح )
( إذا احتدم التسابق صار جرما ... تقلب بين أجنحة الرياح )
وكتب أبو العلاء إدريس بن أزرق إلى ابن رشيق ملك مرسية وقد طالت إقامته عند ابن عبد العزيز

( ألا ليت شعري هل أعود إلى الذي ... عهدت من النعمى لديكم بلا جهد )
( فوالله مذ فارقتكم ما تخلصت ... من الدهر عندي ساعة دون ما كد )
( فمنوا بإذن كي أطير إليكم ... فلا عار في شوق إلى المال والمجد )
ووقف بعض أعدائه على هذه الأبيات فوشى بها إلى ابن عبد العزيز قاصدا ضرره وكان ذلك في محفل ليكون أبلغ فقال والله لقد ذكرتني أمره ولقد أحسن الدلالة على حاله فإن الرجل كريم وعلينا موضع اللوم لا عليه ووالله لأوسعنه مالا ووجدا بقدر وسعي ثم أخذ في الإحسان إليه حتى بر يمينه رحمه الله تعالى
( هكذا هكذا تكون المعالي ... طرق الجد غير طرق المزاح )
ولنذكر جملة من بني مروان بالأندلس فنقول
قال محمد بن هشام المرواني صاحب كتاب أخبار الشعراء
( وروضة من رياض الحزن حالفها ... طل أطلت به في أفقها الحلل )
( كأنما الورد فيما بينها ملك ... موف ونوارها من حوله خول ) وكان في مدة الناصر وأدخل عليه يوما ليذاكره فاستحسنه وأمره بالتزام بنيه ليؤدبهم بحسن أدبه ويتخلقوا بخلقه فاستعفى من ذلك وقال إن الفتيان لا يتعلمون إلا بشدة الضبط والقيد والإغلاظ وأنا أكره أن أعامل بذلك أولاد الخليفة فيكرهوني وقد يحقد لي بعضهم ذلك إلى أن يقدر على النفع والضرر قالوا وكان يتعشق المستنصر بالله ولي عهد الناصر وهو غلام وله فيه

( متع بوجهك جفني ... يا كوكبا فوق غصن )
( يا من تحجب حتى ... عن كل فكر وأذن )
( وخامر الخوف فيه ... فما يجول بذهن )
( فليس للطرف والقلب ... غير دمع وحزن )
( فإنني ذو ذنوب ... وأنت جنة عدن ) وقال أخوه أحمد بن هشام
( قطعت الليالي بارتجاء وصالكم ... وما نلت منكم غير متصل الهجر )
( وما كنت أدري ما التصبر قبلكم ... فعلمتموني كيف أقوى على الصبر )
( وما كنت ممن يعلق الصبر فكره ... ولكن خشيت الصبر يذهب بالعمر )
ومن حكاياتهم في علو الهمة أنه كان سبب قراءته واجتهاده أنه حضر مجلسا فيه القائد أحمد بن أبي عبدة وهو غلام فاستخبره القائد فرآه بعيدا من الأدب والظرف ورأى له ذهنا قابلا للصلاح فقال أي سيف لو كانت عليه حلية فقامت من هذه الكلمة قيامته وثابت له همة ملوكية عطف بها على الأدب والتعلم إلى أن صار ابن أبي عبدة عنده كما كان هو عند ابن أبي عبدة أولا فحضر بعد ذلك معه وجالا في مضمار الأدب فرأى ابن أبي عبدة جوادا لا يشق غباره فقال ما هذا أين هذا مما كان فقال إن كلمتك عملت في فكري ما أوجب هذا فقال والله إن هذه حلية تليق بهذا السيف فجزاك الله عن همتك خيرا ثم قال له سر إن لي عليك حقا إذ بعثتك على التأدب والتميز فإذا حضرنا في جماعة فلا تتطاول على تقصيري وحافظ على أن لا أسقط من العيون بإرباء غيري علي فقال لك ذلك وزيادة وكان المنذر ابن الأمير عبد الرحمن الأوسط سيئ الخلق في أول

أمره كثير الإصغاء إلى أقوال الوشاة مفرط القلق مما يقال في جانبه معاقبا على ذلك لمن يقدر على معاقبته مكثر التشكي ممن لا يقدر عليه لوالده الأمير عبد الرحمن فطال ذلك على الأمير فقال لوكيل خاص به عارف بالقيام بما يكلفه به الموضع الفلاني الذي بالجبل الفلاني المنقطع عن العمران تبني فيه الآن بناء أسكن فيه ابني المنذر وأوصاه بالاجتهاد فيه ففرغ منه وعاد إليه فقال له تعلم المنذر أني أمرته بالانفراد فيه ولا تترك أحدا من أصحابه ولا أصحاب غيره يزوره ولا يتكلم معه البتة فإذا ضجر من ذلك وسألك عنه فقل له هكذا أمر أبوك فتولى الثقة ذلك على ما أمر به ولما حصل المنذر في ذلك المكان وبقي وحده وفقد خوله ومن كان يستريح إليه ونظر إلى ما سلبه من الملك ضجر فقال للثقة عسى أن يصلني غلماني وأصحابي أتأنس بهم فقال له الثقة إن الأمير أمر أن لا يصلك أحد وأن تبقى وحدك لتستريح مما يرفع لك أصحابك من الوشاية فعلم أن الأمير قصد محنته بذلك وتأديبه فاستدعى دواة وكتب إلى أبيه إني قد توحشت في هذا الموضع توحشا ما عليه من مزيد وعدمت فيه من كنت آنس إليه وأصبحت مسلوب العز فقيد الأمر والنهي فإن كان ذلك عقابا لذنب كبير ارتكبته وعلمه مولاي ولم أعلمه فإني صابر على تأديبه ضارع إليه في عفوه وصفحه
( وإن أمير المؤمنين وفعله ... لكالدهر لا عار بما فعل الدهر ) فلما وقف الأمير على رقعته وعلم أن الأدب بلغ به حقه استدعاه فقال له وصلت رقعتك تشكو ما أصابك من توحش الانفراد في ذلك الموضع وترغب أن تأنس بخولك وعبيدك وأصحابك وإن كان لك ذنب يترتب عليه

أن تطول سكناك في ذلك المكان وما فعلت ذلك عقابا لك وإنما رأيناك تكثر الضجر والتشكي من القال والقيل فأردنا راحتك بأن نحجب عنك سماع كلام من يرفع لك وينم حتى تستريح منهم فقال له سماع ما كنت أضجر منه أخف علي من التوحد والتوحش والتخلي مما أنا فيه من الرفاهية والأمر والنهي فقال له فإذ قد عرفت وتأدبت فارجع إلى ما اعتدته وعول على أن تسمع كأنك لم تسمع وترى كأنك لم تر وقد قال النبي " لو تكاشفتم ما تدافنتم " واعلم أنك أقرب الناس إلي وأحبهم في وبعد هذا فما يخلو صدرك في وقت من الأوقات عن إنكار علي وسخط لما أفعله في جانبك أو جانب غيرك مما لو أطلعني الله تعالى عليه لساءني لكن الحمد لله الذي حفظ ما بين القلوب بستر بعضها عن بعض فيما يجول فيها وإنك لذو همة ومطمح ومن يكن هكذا يصبر ويغض ويحمل ويبدل العقاب بالثواب ويصير الأعداء من قبيل الأصحاب ويصبر من الشخص على ما يسوء فقد يرى منه بعد ذلك ما يسر ولقد يخف علي اليوم من قاسيت من فعله وقوله ولو قطعتهم عضوا عضوا لما ارتكبوه مني ما شفيت فيهم غيظي ولكن رأيت الإغضاء والاحتمال لا سيما عن الاقتدار أولى ونظرت إلى جميع من حولي ممن يحسن ويسيء فوجدت القلوب متقاربة بعضها من بعض ونظرت إلى المسيء يعود محسنا والمحسن يعود مسيئا وصرت أندم على من سبق له مني عقاب ولا أندم على من سبق له مني ثواب فالزم يا بني معالي الأمور وإن جماعها في التغاضي ومن لا يتغاضى لا يسلم له صاحب ولا يقرب منه جانب ولا ينال ما تترقى إليه همته ولا يظفر بأمله ولا يجد معينا حين يحتاج إليه فقبل المنذر يده وانصرف ولم يزل يأخذ نفسه بما أوصاه

والده حتى تخلق بالخلق الجميل وبلغ ما أوصاه به أبوه ورفع قدره
ومن شعره في ابن عم له
( ومولى أبى إلا أذاي وإنني ... لأحلم عنه وهو بالجهل يقصد
( توددته فازداد بعدا وبغضة ... وهل نافع عند الحسود التودد )
وقوله
( خالف عدوك فيما ... أتاك فيه لينصح )
( فإنما يبتغي أن ... تنام عنه فيربح )
ومن كرم نفسه أن أحد التجار أهدى له جارية بارعة الحسن واسمها طرب ولها صنعة في الغناء حسنة فعندما وقع بصره على حسنها ثم أذنه على غنائها أخذت بمجامع قلبه فقال لأحد خدامه ما ترى أن ندفع لهذا التاجر عوضا عن هذه الجارية التي وقعت منا أحسن موقع فقال تقدر ما تساوي من الثمن وتدفع له بقدرها فقومت بخمسمائة دينار فقال المنذر للخديم ما عندك فيما ندفع له فقال الخمسمائة فقال إن هذا للؤم رجل أهدى لنا جارية فوقعت منا موقع استحسان نقابله بثمنها ولو أنه باعها من يهودي لوجد عنده هذا فقال له إن هؤلاء التجار لؤماء بخلاء وأقل القليل يقنعهم فقال وإنا كرماء سمحاء فلا يقنعنا القليل لمن نجود عليه فادفع له ألف دينار واشكره على كونه خصنا بها وأعلمه بأنها وقعت منا موقع رضى وفيها يقول

( ليس يفيد السرور والطرب ... إن لم تقابل لواحظي طرب )
( أبهت في الكأس لست أشربها ... والفكر بين الضلوع يلتهب )
( يعجب مني معاشر جهلوا 5 ولو رأوا حسنها لما عجبوا )
وقال له أبوه يوما بإن فيك لتيها مفرطا فقال له حق لفرع أنت أصله أن يعلو فقال له يا بني إن العيون تمج التائه والقلوب تنحرف عنه فقال يا أبي لي من العز والنسب وعلو المكان والسلطان ما يجمل من ذلك وإني لم أر العيون إلا مقبلة علي ولا الأسماع إلا مصغية إلي وإن لهذا السلطان رونقا يرنقه التبذل وعلوا يخفضه الانبساط ولا يصونه ويشرفه إلا التيه والانقباض وإن هؤلاء الأنذال لهم ميزان يسبرون به الرجل منا فإن رأوه راجحا عرفوا له قدر رجاحته وإن رأوه ناقصا عاملوه بنقصه وصيروا تواضعه صغرا وتخضعه خسة فقال له أبوه لله أنت ! فابق وما رأيت وكان له أخ اديب أيضا اسمه المطرف بن عبد الرحمن الأوسط ومن شعره
( أفنيت عمري في الشرب ... والوجوه الملاح )
( ولم أضيع أصيلا ... ولا اطلاع صباح )
( أحيي الليالي سهدا ... في نشوة ومراح )
( ولست أسمع ماذا ... يقول داعي الفلاح ) والعياذ بالله من هذا الكلام وحاكي الكفر ليس بكافر وعتبه أحد إخوانه على هذا القول فقال إني قلته وأنا لا أعقل ولا أعلم أنه يحفظ عني وأنا أستغفر الله تعالى منه والذي يغفر الفعل أكرم من

أن يعاقب على القول ومن جيد شعره له
( يا أخي فرقت صروف الليالي ... بيننا غير زورة الأحلام )
( فغدونا بعد ائتلاف وقرب ... نتناجى بألسن الأقلام )
وقال أخوهما الثالث هشام بن عبد الرحمن فيمن اسمه ريحان
( أحبك يا ريحان ما عشت دائما ... ولو لامني في حبك الإنس والجان )
( ولولاك لم أهو الظلام وسهده ... ولا حببت لي في ذرا الدار غربان )
( وما أعشق الريحان إلا لأنه ... شريكك في اسم فيه قلبي هيمان )
( على أنه لم يكمل الظرف مجلس ... إذا لم يكن فيه مع الراح ريحان )
وله فيه
( إذ أنا مازحت الحبيب فإنما ... قصدت شفاء الهم في ذلك المزح )
( فما العيش إلا أن أراه مضاحكا ... كما ضحك الليل البهيم عن الصبح ) من شعر يعقوب
وقال أخوهم الرابع يعقوب بن عبد الرحمن
( إذا أنا لم أجد يوما وقومي ... لهم في الجود آثار عظام )
( فمن يرجى لتشييد المعالي ... إذا قعدت عن الخير الكرام )
ومدحه بعض الشعراء فأمر له بمال جزيل فلما كان مثل ذلك الوقت جاءه بمدح آخر فقال أحد خدام يعقوب هذا اللئيم له دين عندنا جاء يقتضيه فقال الأمير يا هذا إن كان الله تعالى خلقك مجبولا على كره رب الصنائع

فاجر على ما جبلت عليه في نفسك ولا تكن كالأجرب يعدي غيره وإن هذا الرجل قصدنا قبل فكان منا له ما أنس به وحمله على العودة وقد ظن فينا خيرا فلا نخيب ظنه والحديث أبدا يحفظ القديم وقد جاءنا على جهة التهنئة بالعمر ونحن نسأل الله تعالى أن يطيل عمرنا حتى يكثر ترداده ويديم نعمنا حتى نجد ما ننعم به عليه ويحفظ علينا مروءتنا حتى يعيننا على التجمل معه ولا يبلينا بجليس مثلك بقبض أيدينا عن إسداء الأيادي وأمر الشاعر بما كان أمر له به قبل وأوصاه بالعود عند حلول ذلك الأوان ما دام العمر
وقال أخوهم الخامس الأمير عبد محمد بن الأمير عبد الرحمن لأخيهم السادس أبان وقد خلا معه على راحة هل لك أمل نبلغك إياه فقال لم يبق لي أمل إلا أن يديم الله تعالى عمرك ويخلد ملكك فأعجب ذلك الأمير وقال ما مالت إليك نفسي من باطل وكان كل واحد منهما يهيم بالآخر وفي ذلك يقول أبان [ البسيط ] يا من يلوم ولا يدري بمن أنا مف لو ابصرته ما كنت تلحاني من مازجت روحه روحي وشاطرني يا حسنه حين أهواه ويهواني أبناء محمد بن عبد الرحمن وشيء من شعرهم 348 أبناء محمد بن عبد الرحمن وشيء من شعرهم وكان للأمير محمد بن عبد الرحمن ثلاثة أولاد نجباء القاسم والمطرف ومسلمة ولهم أخ رابع اسمه عثمان فمن نظم القاسم في عثمان أخيه وقد زاره فاستسقاه ماء فأبطأ عليه غلامه لعله لم يقبلها القاسم
( الماء في دار عثمان له ثمن ... والخبز شيء له شأن من الشان )

فاسلح على كل عثمان مررت به غير الخليفة عثمان بن عفان وله
( شغلت بالكيمياء دهري ... فلم أفد غير كل خسر )
( إتعاب فكر خداع عقل ... فساد مال ضياع عمر ) وقال شقيقه المطرف ويعرف بابن غزلان وهي أمه وكانت مغنية بديعة محسنة عوادة أديبة
( هل أتكي مشرفا على نهر ... أرمي بطرفي إليه من قصري )
( عند أخ لو دهته حادثة ... أعطيته ما أحب من عمري ) وقال أخوهما مسلمة
( إن شيبا وصبوة لمحال ... أو لم يأن أن يكون زوال )
( فدع النفس عن مزاح ولهو ... تلك حال )
وكان يقول إني لا أفارق إلا من اختار مفارقتي ومن خادعني انخدعت له وأريته أني غير فطن بخداعه ليعجبه أمره وأدخل عليه مسرة بنفسه ورأيه من شعر محمد
( وقال محمد بن الأمير منذر ابن الأمير محمد في جاريته الأراكة
( قل للأراكة قد زاد ... بالدنو اشتياقي )

( وهاج ما بي إليها ... تمثلي للعناق )
( وإنني وبقلبي ... جمر جرى في المآقي )
( طويت ما بي ليوم ... يكون فيه التلاقي )
( فإن أعد لاجتماع ... حرمت يوم افتراق )
( لا يعرف الشوق إلا ... من ذاق طعم الفراق )
وقال عبد الله بن الناصر وقد أهدى له سعيد بن فرج ياسمينا أبيض وأصفر وكتب معه
( مولاي قد أرسلت نحوك تحفة ... بمراد ما أبغيه منك تذكر )
( من ياسمين كاللجين تبرجت ... بيضا وصفرا والسماح يعبر ) فأجابه بما نصه
( أتاك تفسيري ولما يحل ... عني على أضغاث أحلام )
( فاجعله رسما دائما زائرا ... منك وفي غرة العام )
وبعث إليه بهذين البيتين مع ملء الطبق دنانير ودراهم فقال ابن فرج
( قد سمعنا بجود كعب وحاتم ... ما سمعنا جودا مدى العمر لازم )
( فدعائي بأن تدوم دعاء ... لي ما زال طول ما عشت دائم )
( ما سمعنا كمثل هذا اختراعا ... هكذا هكذا تكون المكارم ) وتشبه هذه الحكاية حكاية اتفقت لبعض ملوك إفريقية وذلك أم رجلا

أهدى لي في قادوس وردا أحمر وأبيض فأمر أن يملأ له دراهم فقالت له جارية من جواريه إن رأى الأمير أن يلون ما أعطاه حتى يوافق ما أهداه فاستحسن ذلك الأمير وأمر أن يملأ دنانير ودراهم وكان المرواني المذكور يساير أحد الفقهاء الظرفاء فمرا بجميل فمال عبد الله بطرفه على وجهه وظهر ذلك لمسايره فتبسم ففهم عبد الله عنه فقال إن هذه الوجوه الحسان خلابة ولكنا لا نتغلغل في نظرها ولا ندعي العفة عنها بالجملة وفيها اعتبار وتذكار بالحور العين التي وعد الله تعالى فقال له الفقيه احتج لروحك بما شئت فقال أو ما هي حجة تقبل فقال الفقيه يقبلها من رق طبعه وكاد يضيق عن الصبر وسعه فقال وأراك شريكا لي فقال ولولا ذلك للمتك فأطرق عبد الله ساعة ثم أنشد
( أفدي الذي مر بي فمال له ... لحظي ولكن ثنيته غصبا )
( ما ذاك إلا مخاف منتقد ... فالله يعفو ويغفر الذنبا ) فقال له الفقيه إن كنت ثنيت لحظك خوف انتقادي فإني أدعوه إليك حتى تملأ منه ولا تنسب إلي ما نسبت فتبسم عبد الله وقال ولا هذا كله وقال له إن مثلك في الفقهاء لمعدوم فقال له ما كنت إلا أديبا ولكني لما رأيت سوق الفقه بقرطبة نافقة اشتغلت به فقال له ومن عقل المرء أن لا يفني عمره فيما لا ينفقه عصره وكان عبد الله المذكور يسمى الزاهد فبايع قوما على قتل والده الناصر وأخيه الحكم المستنصر ولي العهد فأخذ يوم عيد الأضحى سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة فذبح بين يديه رحمه الله تعالى
وقال أخوه أو الأصبغ عبد العزيز بن الناصر وقد دخل ابن له

الكتاب فكتب أول لوح فبعثه إلى أخيه الحكم المستنصر ملك الأندلس ومعه
( هاك يا مولاي خطا ... مطه في اللوح مطا ) ابن سبع في سنيه لم يطق للوح ضبطا
( دمت يا مولاي حتى ... يلد ابن ابنك سبطا ) وله
( زارني من همت فيه سحرا ... يتهادى كنسيم السحر )
( أقبس الصبح ضياء ساطعا ... فأضا والفجر لم ينفجر )
( واستعار الروض منه نفحة ... بثها بين الصبا والزهر )
( أيها الطالع بدرا نيرا ... لا حللت الدهر إلا بصري ) وكان مغرى مغرما بالخمر والغناء فقطع الخمر فبلغه أن المستنصر لما بلغه تركه للخمر قال الحمد لله الذي أغنانا عن مفاتحته ودله على ما نريد منه ثم قال لو ترك الغناء لكمل خيره فقال والله لا تركته حتى تترك الطيور تغريدها ثم قال
( أنا في صحة وجاه ونعمى ... هي تدعو لهذه الألحان )
( وكذا الطير في الحدائق تشدو للذي سر نفسه بالقيان )
وقال أخوه محمد بن الناصر لما قدم أخوهما المستنصر من غزوة
( قدمت بحمد الله أسعد مقدم ... وضدك أضحى لليدين وللفم )

( لقد حزت فيها السبق إذ كنت أهله كما حاز بسم الله فضل التقدم )
وأما أخوهما محمد بن عبد الملك بن الناصر فقال الحجاري فيه إنه لم يكن في ولد الناصر ممن لم يل الملك أشعر منه ومن ابن أخيه وكتب إلى العزيز صاحب مصر
( الدوائر إذا ولد المولود منا تهللت ... له الأرض واهتزت إليه المنابر )
وكان جواب العزيز له أما بعد فإنك علمتنا فهجوتنا ولو علمناك لهجوناك وله في الصنوبر
( إن الصنوبر حصن ... لديه حرز وباس )
( خفت من اجل إرهاب ... من عداه تراس )
( كأنما هو ضد ... لما حواه الرئاس ) وبعض سيوف الأندلس محفور صدر الرئاس على صورة قشور الصنوير إلا أن تلك ناتئة وهذه محفورة وقال
( أتاني وقد خط العذار بخده ... كما خط في ظهر الصحيفة عنوان )
( تزاحمت الألحاظ في وجناته ... فشقت عليه للشقائق أردان )
( وزدت غراما حين لاح كأنما ... تفتح بين الورد والآس سوسان )

وقال
( لئن كنت خلاع العذار بشادن ... وكأس فإني غير نزر المواهب )
( وإني لطعان إذا اشتجر القنا ... ومقحم طرفي في صدور الكتائب )
( وإني إذا لم ترض نفسي بمنزل ... وجاش بصدري الفكر جم المذاهب )
( جليد يود الصخر لو أن صبره ... كصبري على ما نابني للنوائب ) ( واسري إلى أن يحسب الليل أنني ... لطول مسيري فيه بعض الكواكب )
وأما ابن أخيه مروان بن عبد الرحمن بن عبد الملك بن الناصر فكان في بني أمية شبه عبد الله بن المعتز في بني العباس بملاحة شعره وحسن تشبيهه ومن شعره القصيدة المشهور
( غصن يهتز في دعص نقا ... يجتني منه فؤادي حرقا )
( سال لام الصدغ في صفحته ... سيلان التبر وافى الورقا )
( فتناهى الحسن فيه إنما ... يحسن الغصن إذا ما أورقا )
ومنها
( أصبحت شمسا وفوه مغربا ... ويد الساقي المحيي مشرقا )
( فإذا ما غربت في فمه ... تركت في الخد منه شفقا )

ومنها
( وكأن الورد يعلوه الندى ... وجنة المحبوب تندى عرقا )
قالوا وهذا النمط قد فاق به أهل عصره ويظن أنه لا يوجد لأحد منهم أحلى وأكثر أخذا بمجامع القلوب من قوله
( ودعت من أهوى أصيلا ليتني ... ذقت الحمام ولا أذوق نواه )
( فوجدت حتى الشمس تشكو وجده ... والورق تندب شجوها بهواه ) وعلى الأصائل رقة من بعده ... فكأنها تلقى الذي ألقاه )
( وغدا النسيم مبلغا ما بيننا ... فلذاك رق هوى وطاب شذاه )
( ما الروض قد مزجت به أنداؤه ... سحرا بأطيب من شذاه )
( والزهر مبسمه ونكهته الصبا ... والورد أخضله الندى خداه )
( فلذاك أولع بالرياض لأنها ... أبدا تذكرني بمن أهواه ) ولله قوله
( وعشي كأنه صبح عيد ... جامع بين بهجة وشحوب )
( هب فيه النسيم مثل محب ... مستعيرا شمائل المحبوب )
( ظلت فيه ما بين شمسين هذي ... في طلوع وهذه في غروب )
( وتدلت شمس الأصيل ولكن ... شمسنا لم تزل بأعلى الجيوب )
( رب هذا خلقته من بديع ... من رأى الشمس أطلعت في قضيب )
( أي وقت قد أسعف الدهر فيه ... وأجابت به المنى عن قريب )
( قد قطعناه نشوة ووصالا ... وملأناه من كبار الذنوب )
( حين وجه السعود بالبشر طلق ... ليس فيه أمارة للقطوب )
( ضيع الله من يضيع وقتا ... قد خلا من مكدر ورقيب )

وبات عند أحد رؤساء بني مروان فقدم إليه ذلك الرئيس قدحا من فضة فيه راح أصفر وقال اشرب وصف فداك ابن عمك فقام إجلالا وشرب صائحا بسروره ثم قال الدواة والقرطاس فأحضرا وكتب اشرب هنيئا لا عداك الطرب شرب كريم في العلا منتخب
( وافاك بالراح وقد ألبست ... برد أصيل معلما بالحبب )
( في قدح لم يك يسقى به ... غير أولي المجد وأهل الحسب )
( ما جار إذ سقاك من كفه ... في جامد الفضة ذوب الذهب )
( فقم على رأسك برا به واشرب على ذكراه طول الحقب )
( ويحكى أنه لما قتل أباه وقد وجده مع جارية له كان يهواها سجنه المنصور بن أبي عامر مدة إلى أن رأى في منامه النبي يأمره بإطلاقه فأطلقه فمن أجل ذلك عرف بالطليق
وقال أحمد بن سليمان بن أحمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله بن عبد الرحمن الناصر في ابن حزم لما عاداه علماء عصره
( لما تحلى بخلق ... كالمسك أو نشر عود )
( نجل الكرام ابن حزم ... وقام في العلم عودي )
( فتواه جدد ديني ... جدواه أورق عودي )
وله في أبي عامر بن المظفر بن أبي عامر من قصيدة يمدحه بها
( بأبي عامر وصلت حبالي ... فزماني به زمان سعيد )

( فمتى زدت فيه ودا وشكرا ... فنداه وقد تناهى يزيد )
( كيف لي وصفه وفي كل يوم ... منه في المكرمات معنى جديد )
وقال أبو عبد الله محمد بن محمد بن الناصر يرثي أبا مروان ابن سراج
( وكم من حديث للنبي أبانه 5 وألبسه من حسن منطقه وشيا )
( وكم مصعب للنحو قد راض صعبه ... فعاد ذلولا بعد ما كان قد أعيا )
وقال عبيد الله بن محمد المهدي وهو من حسنات بني مروان ويعرف بالأقرع
( أقول لآمالي ستبلغ إن بدا ... محيا ابن عطاف ونعم المؤمل )
( فقالت دعاني كل يوم تعلل ... فقلت لها إن لاح يفنى التعلل )
( لئن كان مني كل حين ترحل ... فإني إن أحلل به لست أرحل )
( فتى ترد الآمال في بحر جوده ... وليس على نعمى سواه المعول )
وقال هذه في الوزير ابن عطاف فضن عليه حتى برجع الجواب فكتب إليه بقصيدة منها
( أيها الممكن من قدرته ... لا يراك الله إلا محسنا )
( إنما المرء بما قدمه ... فتخير بين ذم وثنا )
( لا تكن بالدهر غرا وإذا ... كنت فانظر فعله في ملكنا )
( كل ما خولت منه ذاهب والذي إنما تصحب منه الكفنا )
( مد كفا نحو كف طالما ... أمطرت منه السحاب الهتنا )
( أو أرحني بجواب مؤيس ... فمطال البر من شر العنا )

فلم يعطه شيئا وكان له كاتب فتحيل في خمسين درهما فأعطاها له فلما سمع الوزير بذلك طرده وقال له من أنت حتى تحمل نفسك هذا وتعطيه قال فوالله ما لبث إلا قليلا حتى مات الوزير وتزوج الكاتب بزوجته وسكن في داره وتخول في نعمته فحملني ذلك على أن كتبت بالفحم في حائط داره
( أيا دار قولي أين ساكنك الذي ... أبى لؤمه أن يترك الشكر خالدا )
( تسمى وزيرا والوزارة سبة 5 لمن قد أبى أن يستفيد المحامدا )
( وولى ولكن ليس يبرح ذمه 5 فها هو قد أرضى عدوا وناقدا )
( وأضحى وكيل كان يأنف فعله ... نزيلك في الحوض الممنع واردا )
( جزاء بإحسان لذا وإساءة ... لذاك وساع ورث الحمد قاعدا ) والمثل السائر في هذا ( ( رب ساع لقاعد ) )
وقال سليمان بن المرتضى بن محمد بن عبد الملك بن الناصر وكان في غاية الجمال ويلقب بالغزال
( قدم الربيع عليك بعد مغيب ... فتلقه بسلافة وحبيب )
( فصل جديد فلتجدد حالة ... يأتي الزمان بها على المرغوب )
( الجو طلق فالقه بطلاقة ... وإذا تقطب فالقه بقطوب )
( لله أيام ظفرت بها ومن ... أهواه منقاد بغير رقيب ) وله
( لي في كفالات الرماح لو أنها ... وفت ضمان يبلغ الآمالا )
( وكلت دهري في اقتضاء ضمانها ... ضنا به أن لا يحول فحالا )
وكان مولعا بالفكاهة والنادر محبا في الظرفاء وكان يلتزم خدمته المضحك

المشهور بالزرافة ويحضر معه ولعبوا في مجلس سليمان لعبة أفضوا فيها إلى أن تقسموا اثنين اثنين كل شخص ورفيقه فقال سليمان ومن يكون رفيقي فقال له المضحك يا مولاي وهل يكون رفيق الغزال إلا الزرافة فضحك منه على عادته ودخل عليه وهو قاعد في رحبة قصره وقد أطل عذاره فقال له ما تطلب الزرافة فقال ترعى الحشيش وأشار إلى عذاره فقال له اعزب لعنك الله
ومر سليمان به يوما وهو سكران وقد أوقف ذكره وجعل يقول له ماذا رأيت في القيام في هذا الزمان أما رأيت كل ملك قام كيف خلع وقتل والله إنك سيء الرأي فقال له سليمان وبم لقبت هذا الثائر فقال يا مولاي بصفته القائم فقال ويحتاج إلى خاتم فقال نعم ويكون خاتم سليمان فقال له أخزاك الله إن الكلام معك لفضيحة
وقال سعيد بن محمد المرواني وقد هجره المنصور بن أبي عامر مدة لكلام بلغه عنه فدخل والمجلس غاص وأنشد
( مولاي مولاي أما آن أن ... تريحني بالله من هجركا )
( وكيف بالهجر وأنى به ... ولم أزل أسبح في بحركا )
فضحك ابن أبي عامر على ما كان يظهره من الوقار وقام وعانقه وعفا عنه وخلع عليه
وله
( والبدر في جو السماء قد انطوى ... طرفاه حتى عاد مثل الزورق )

( فتراه من تحت المحاق كأنما ... غرق الكثير وبعضه لم يغرق ) وهو مأخوذ من قول ابن المعتز
( وانظر إليه كزورق من فضة ... قد أثقلته حمولة من عنبر )
وقال قاسم بن محمد المرواني يستعطف المنصور بن أبي عامر وقد سجنه لقول صدر عنه
( ناشدتك الله العظيم وحقه ... في عبدك المتوسل المتحرم )
( بوسائل المدح المعاد نشيدها ... في كل مجمع موكب أو موسم )
( لا تستبح مني حمى أرعاكه ... يا من يرى في الله أحمى محتمي )
وقال الأصم المرواني يمدح أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي بجبل الفتح معارضا بائية أبي تمام
( السيف أصدق أنباء من الكتب ... )
بقصيدة طويلة منها
( ما للعدا جنة أوقى من الهرب ... أين المفر وخيل الله في الطلب )
( وأين يذهب من في رأس شاهقة ... إذا رمته سماء الله بالشهب ) ومنها
( وطود طارق قد حل الإمام به ... كالطور كان لموسى أيمن الرتب )
( لو يعرف الطود ما غشاه من كرم ... لم يبسط النور فيه الكف للسحب )

( ولو تيقن بأسا حل ذروته ... لصار كالعين من خوف ومن رهب )
( سالف الحقب ويلبس الدين غضا ثوب عزته ... كأن أيام بدر عنه لم تغب )
وقال في نارنجة
( وبنت أيك دنا من لثمها قزح ... فصار منه على أرجائها أثر )
( يبدو لعينيك منها منظر عجب ... زبرجد ونضار صاغه المطر )
( كأن موسى نبي الله أقبسه ... نارا وجر عليها كفه الخضر )
وقال
( وشادن قلت له صف لنا ... بستاننا هذا ونارنجنا )
( فقال لي بستانكم جنة ... ومن جنى النارنج نارا جنى )
وقال في زلباني
( لله سفاح بدا لي مسحرا ... فأفاد علم الكيميا بيمينه )
( ذهبت فضة خده بلواحظي ... وكذاك تفعل ناره بعجينه )
وقال وقد نزل في فندق لا يليق بمثله
( يا هذه لا تفنديني ... أن صرت في منزل هجين )
( فليس قبح المحل مما ... يقدح في منصبي وديني )
( فالشمس علوية ولكن ... تغرب في حمأة وطين )

وقال أحمد المرواني
( حلفت بمن رمى فأصاب قلبي ... وقلبه على جمر الصدود )
( لقد أودى تذكره بجمي ... ولست أشك أن النفس تودي )
( فقيد وهو موجود بقلبي ... فواعجبا بموجود فقيد )
وقال الأصبغ القرشي يرثي ابن شهيد وهو من أصحابه
( نأى من به كان السرور مواصلا ... وأسلم قلبي للصبابة والفكر ) ومنها
( لعمرك ما يجدي النعيم إذا نأت ... وجوههم عني ولا فسحة العمر )
وقال سليمان بن عبد الملك الأموي
( وذي جدل أطال القول منه ... بلا معنى وقد خفي الصواب )
( فقلت أجيبه فازداد ردا ... فقلت له قد ازدحم الجواب )
( ولم أر غير صمتي من مريح ... إذا ما لم يفد فيه الخطاب )
وقال أبو يزيد بن العاصي
( عابه الحاسد الذي لام فيه ... أن رأى فوق خده جدريا )
( إنما وجهه هلال تمام ... جعلوا برقعا عليه الثريا )
وله
( إذا شئت أن يصفو صديقك فاطرح ... نزاع الذي يبديه في الهزل والجد )
( وإن كنت من أخلاقه في جهنم ... فأنزله من مثواك في جنة الخلد )
( إلى أن يتيح الله من لطف صنعه ... فراقا جميلا فاجعل العذر في البعد )

وليكن هذا آخر ما نورده من كلام بني مروان رحمهم الله
المنصفي ولنرجع إلى أهل الأندلس جملة فنقول أمر أبو الحجاج المنصفي أن يكتب على قبره
( قالت لي النفس أتاك الردى ... وأنت في بحر الخطايا مقيم )
( هلا ادخرت الزاد قلت اقصري ... لا يحمل الزاد لدار الكريم ) وقد ذكرنا هذين البيتين في غير هذا الموضع
وقال ابن مرج الكحل اجتمعنا في حانوت بعض الأطباء بإشبيلية فأضجرناه بكثرة جلوسنا عنده وتعذرت المنفعة عليه من أجلنا فأنشدنا
( خففوا عنا قليلا ... رب ضيق في براح )
( هل شكوتم من سقام ... أو جلسنا للصحاح )
فأضفت إليهما ثالثا وأنشدته إياه على سبيل المداعبة
( إن أتيتم ففرادى ذاك حكم المستراح )
ودخل أبو محمد غانم بن وليد مجلس باديس بن حبوس فوسع له على ضيق كان فيه فقال

( صير فؤادك للمحبوب منزلة ... سم الخياط مجال للمحبين )
( ولا تسامح بغيضا في معاشرة ... فقلما تسع الدنيا بغيضين )
ودخل على أبي جعفر اللمائي بعض أصحابه عائدا في علته التي مات فيها وجعل يروح عليه بمروحة فقال أبو جعفر على البديهة
( روحني عائدي فقلت له ... لا لا تزدني على الذي أجد )
( أما ترى النار وهي خامدة ... عند هبوب الرياح تتقد )
وقال الأعلم ليكن محفوظك من النظم مثل قول ابن القبطرنة
( دعاك خليلك واليوم طل ... وعارض وجه الثرى قد بقل )
( لقدرين فاحا وشمامة ... وإبريق راح ونعم المحل )
( ولو شاء زاد ولكنه ... يلام الصديق إذا ما احتفل )
وقال أبو عامر بن ينق الشاطبي
( ما احسن العيش لو أن الفتى أبدا ... كالبدر يرجو تماما بعد نقصان )
( إذ لا سبيل إلى تخليد مأثرة ... إذ لا سبيل إلى تخليد جثمان )
وقال أبو الحسن اللورقي
( عجبا لمن طلب المحا مد ... وهو يمنع ما لديه )
( ولباسط آماله ... للغير لم يبسط يديه )
( لم لا أحب الضيف أو ... أرتاح من طرب إليه )

( والضيف يأكل رزقه ... عندي ويحمدني عليه )
وقال أبو عيسى بن لبون وهو من قواد المأمون بن ذي النون
( نفضت كفي من الدنيا وقلت لها ... إليك عني فما في الحق أغتبن )
( من كسر بيتي لي روض ومن كتبي ... جليس صدق على الأسرار مؤتمن )
( أدري به ما جرى في الدهر من خبر ... فعنده الحق مسطور ومختزن )
( وما مصابي سوى موتي ويدفنني ... قوم وما لهم علم بمن دفنوا )
وقال أبو عامر بن الحمارة
( ولي صاحب أحنو عليه وإنه ... ليوجعني حينا فلا أتوجع )
( أقيم مكاني ما جفاني وربما ... يسائلني الرجعى فلا أتمنع )
( كأني في كفيه غصن أراكة ... تميل على حكم النسيم وترجع )
وقال أبو العباس بن السعود
( تبا لقلب عن الأحباب منصرف ... يهوى أحبته ما خالس النظر )
( مثل السجنجل فيه الشخص تبصره ... حتى إذا غاب لم يترك به أثرا )
ومرض أبو الحكم بن علندة فعاده جماعة من أصحابه فيهم

فتى صغير السن فوفاه من بره ما أوجب تغيرهم ففطن لذلك وأنشد ارتجالا
( تكثر من الإخوان للدهر عدة ... فكثرة در العقد من شرف العقد )
( وعظم صغير القوم وابدأ بحقه ... فمن خنصري كفيك تبدأ بالعقد ) ثم نظر إليهم وأنشدهم ارتجالا قوله
( مغيث أيوب والكافي لذي النون ... يحلني فرجا بالكاف والنون )
( كم كربة من كروب الدهر فرجها ... عني ولم ينكشف وجهي لمن دوني )
وقال القاضي أبو موسى بن عمران
( ما للتجارب من مدى ... والمرء منها في ازدياد )
( قد كنت أحسب ذا العلا ... من حاز علما واستفاد )
( فإذا الفقيه بغير مال ... كالخيام بلا عماد )
( شرف الفتى بنضاره ... إن الفقير أخو الجماد )
( ما العلم إلا جوهر ... قد بيع في سوق الكساد )
وقال أبو بكر بن الجزار السرقسطي
( إياك من زلل اللسان فإنما ... عقل الفتى في لفظه المسموع )
( والمرء يختبر الإناء بنقره ... ليرى الصحيح به من المصدوع )
وقال أبو عامر أحمد بن عبد الملك بن شهيد تناول بعض أصحابنا نرجسة فركبها في وردة ثم دفعها إلي وإلى صاعد وقال قولا

فأبهمت دوننا أبواب القول فدخل الزهيري وكان أما لا يذكر من الكلام إلا ما علق بنفسه في الجالس وينفذ مع هذا في المطولات من الأشعار فأشعر بأمرنا فجعل يقول دون روية
( ما للأديبين قد أعيتهما ... مليحة من ملح الجنه )
( نرجسه في وردة ركبت ... كمقلة تطرف في وجنه ) وقال أبو محمد بن حزم في طوق الحمامة
( خلوت بها والراح ثالثة لنا ... وجنح ظلام الليل قد مد واعتلج )
( فتاة عدمت العيش إلا بقربها ... فهل في ابتغاء العيش ويحك من حرج )
( كأني وهي والكأس والخمر والدجى ... حيا وثرى والدر والتبر والسبج )
قال وهذه حمس تشبيهات لا يقدر أحد على أكثر منها إذ تضيق الأعارض عنه قال أبو عامر بن مسلمة ولا أذكر مثلها إلا قول بعض
( فأمطرت لؤلؤا من نرجس فسقت ... وردا وغضت على العناب بالبرد ) إلا أنه لم يعطف خمسة على خمسة كما صنع ابن حزم بل أكتفى بالعلم في التشبيهات قال ومن أغرب ما وقع لي من التشبيهات في بيت قول بن برون الكشوني الأندلسي يصف فرسا وردا أغر محجلا

فكأنه غرته وتحجيلاته ... خمس من السوسان وسط شقائق )
قال وهذا على التحقيق ستة على ستة ولم أسمع بمثله لأحد من الأندلسيين ولا من المشارقة قال ابن الجلاب وكلام أبي عامر هذا لا يخلو من النقد
وقال ابن صارة
( انظر إلى البدر وإشراقه ... على عدير موجه يزهر )
( كمشحذ من حجر أخضر ... خط عليه ذهب أحمر )
وقال أبو القاسم بن العطار الإشبيلي
( ركبنا سماء النهر والجو مشرق ... وليس لنا إلا الحباب نجوم )
( وقد ألبسته الأيك برد ظلالها ... وللشمس في تلك البرود رقوم )
وقال ابن صارة
( والنهر قد رقت غلالة صبغه ... وعليه من ذهب الأصيل طراز )
( تترقرق الأمواج فيه كأنها ... عكن الخصور تضمها الأعجاز )
وقال سهل بن مالك
( ورب يوم وردنا فيه كل منى ... وقل في مثل ذاك اليوم أن نردا )
( في روضتين بشطي سلسل شبم ... كما اجتليت من المحبوب مفتقدا )

( يبدد القطر في أثنائه حلقا ... فتنظم الريح منها فوقه زردا )
وقال ابن صارة
( انظر النهر في رداء عروس ... صبغته بزعفران العشي )
( ثم لما هب النسيم عليه ... هز عطفيه في دلاص )
الكمي ولبعضهم في شكل يرمي الماء مجوفا مثل الخباء وتمزقه الريح أحيانا
( ومطنب للماء ما أوتاده ... إلا نتائج فكر طب حاذق )
( لعبت به أيدي الصبا فكأنها ... أيدي الصبابة بالفؤاد العاشق )
وقال صفوان بن إدريس يصف تفاحة في الماء
( ولم أر فيما تشتهي العين منظرا ... كتفاحة في بركة بقرار )
( يفيض عليها ماؤها فكأنها ... بقية خد في اخضرار عذار )
وقال أبو جعفر بن وضاح في دولاب
( وباكية والروض يضحك كلما ... ألحت عليه بالدموع السواجم )
( يروقك منها إن تأملت نحوها ... زئير أسود والتفات أراقم )
( تخلص من ماء الغدير سبائكا ... فتنبتها في الروض مثل الدراهم )

وقال الوزير بن عمار
( يوم تكاثف غيمه فكأنه ... دون السماء دخان عود أخضر )
( والطل مثل برادة من فضة ... منثورة في تربة من عنبر )
( والشمس أحيانا تلوح كأنها ... أمة تعرض نفسها للمشتري )
وقال أبو الحسن بن سعد الخير
( لله دولاب يفيض بسلسل ... في روضة قد أينعت أفنانا )
( قد طارحته بها الحمائم شجوها ... فيجيبها ويرجع الألحانا )
( فكأنه دنف يدور بمعهد ... يبكي ويسأل فيه عمن بانا )
( ضاقت مجاري طرفه عن دمعه ... فتفتحت أضلاعه أجفانا )
وقال ابن أبي الخصال
( وورد جني طالعتنا خدوده ... ببشر ونشر يبعثان على السكر )
( وحف ترنجان به فكأنه ... خدوده العذارى في مقانعها الخضر )
وقال ابن صارة
( يا رب نارنجة يلهو النديم بها ... كأنها كرة من أحمر الذهب )
( أو جذوة حملتها كف قابسها ... لكنها جذوة معدومة اللهب )
وقال الخفاجي

( ومياسة تزهو وقد خلع الحيا ... عليها حلى حمرا وأردية خضرا )
( يذوب بها ريق الغمامة فضة ... ويجمد في أعطافها ذهبا نضرا ) وقال ابن صارة أيضا
( ونارنجة لم يدع حسنها ... لعيني في غيرها مذهبا )
( فطورا ارى لهبا مضرما ... وطورا أرى شفقا مذهبا )
وقال ابن وضاح في السرو
( أيا سرو لا يعطش منابتك الحيا ... ولا يدعن أعطافك الخضل النضر )
( فقد كسيت منك الجذوع بمثل ما ... تلف على الخطي راياته الخضر )
وقال أبو إسحاق الخولاني
( نيلوفر شكله كشكلي ... يعوم في أبحر الدموع )
( قد ألبست عطفه دروعا ... خوذ لريح الصبا شموع )
( يلوح إذ لونه كلوني ... من فوق فضفاضة هموع )
( مثل مسامير مذهبات ... في حلقات من الدروع )
وقال ابن الأبار
( وسوسنات أرت من حسنها بدعا ... ولم يزل عصر مولانا يري بدعه )
( شبيهة بالثريا في تألفها ... وفي تألقها تلتاح ملتمعه )

( هامت بيمناه تبغي أن تقبلها ... واستشرفت تجتلي مرآه مطلعه )
( ثم انثنى بعضها من بعضها غلبا ... على البدار فوافت وهي مجتمعه )
ورفع هذه الأبيات إلى الأمير أبي يحيى زكريا
وقال حازم
( لا نور يعدل نور اللوز في أنق ... وبهجة عند ذي عدل وإنصاف )
( نظام زهر يظل الدر منتثرا ... عليه من كل هامي القطر وكاف )
( بينا ترى وهي أصداف لدر حيا ... بيض غدت دررا في خضر أصداف )
وقال ابن سعد الخير في رمانة
( وساكنة في ظلال الغصون ... بروض يروقك أفنانه )
( تضاحك أترابها فيه إذ ... غدا الجو تدمع أجفانه )
( كما فتح الليث فاه وقد ... تضرج بالدم أسنانه )
وقال ابن نزار الوادي آشي
( ورمانة قد فض عنها ختامها ... حبيب أعار البدر بعض صفاته )
( فكسر منها نهد عذراء كاعب ... وناولني منها شبيه لداته )
وقال بعضهم في القراسيا ويقال له بالمغرب حب الملوك
( ودوح تهدل أشطانه ... رعى الدهر من حسنه ما اشتهى )

( فما احمر منه فصوص العقيق ... وما اسود منه عيون المها )
وقال بعضهم
( وأين معاهد للحسن فيها ... وللأنس التقاء البهجتين )
( وللأوتار والأطيار فيها ... لدى الأسحار أطرب ساجعين )
( فكم بدر تجلى من رباها ... ومن بطحائها في مطلعين )
( وأغيد يرتعي من تلعتيها ... ومن ثمر القلوب بمرتعين )
( إذا أهوى لسوسنة يمينا ... عجبت من التقاء السوسنين )
( وكم يوم توشح من سناه ومن زهراتها في حلتين )
( وراح أصيله ما بين نهر ... ودولاب يدور بمسمعين )
( بنهر كالسماء يجول فيه ... سحائب من ظلال الدوحتين )
( تدرع للنواسم حين هزت ... عليه كل غصن كالرديني )
( ملاعب في غرامي عند ذكري ... صباه وغصنه المتلاعبين )
وقال الوزير محمد بن عبد الرحمن بن هانئ
( يا حرقة البين كويت الحشا ... حتى أذبت القلب في أضلعه )
( أذكيت فيه النار حتى غدا ... ينساب ذاك الذوب من مدمعه )
( ياسؤل هذا القلب حتى متى ... يؤسى برشف الريق من منبعه )
( فإن في الشهد شفاء الورى ... لا سيما إن مص من مكرعه )
( والله يدني منكم عاجلا ... ويبلغ القلب إلى مطمعه )
ولو لم يكن للأندلسيين غير كتاب شذور الذهب لكفاهم دليلا على البلاغة ومؤلفه هو علي بن موسى بن علي بن محمد بن خلف أبو

الحسن الأنصاري الجياني نزيل فاس وولي خطابتها ولم ينظم أحد في الكيمياء مثل نظمه بلاغة معان وفصاحة ألفاظ وعذوبة تراكيب حتى قيل فيه إن لم يعلمك صناعة الذهب علمك الأدب
وفي عبارة بعضهم إن فاتك ذهبه لم يفتك أدبه وقيل
فيه إنه شاعر الحكماء وحكيم الشعراء وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة
عود إلى النقل عن بدائع البدائه
ولنذكر هنا نبذة من سرعة بديهة أهل الأندلس وإن مرت من ذلك جملة وستأتي أيضا زيادة على الجميع فنقول
قال في بدائع البدائه ما صورته روى عبد الجبار بن حمديس الصقلي قال صنع عبد الجليل بن وهبون المرسي الشاعر لنا نزهة بوادي إشبيلية فأقمنا فيه يومنا فلما دنت الشمس للغروب هب نسيم ضعيف غضن وجه الماء فقلت للجماعة أجيزوا
( حاكت الريح من الماء زرد ... )
فأجازه كل منهم بما تيسر لي فقال له أبو تمام غالب بن رباح الحجاج كيف قلت يا أبا محمد فأعدت القسيم له فقال
( أي درع لقتال لو جمد ... ) وقد ذكرنا في هذا الكتاب ما يخالف هذا فليراجع في محله ثم قال صاحب بدائع البدائه بعد ما سبق ما صورته وقد نقله ابن

حمديس إلى غير هذا الوصف فقال
( نثر الجو على الترب برد ... أي در لنحور لو جمد )
فتناقض المعنى بذكر البرد وقوله ( ( لو جمد ) ) إذ ليس البرد إلا ما جمده البرد اللهم إلا أن يريد بقوله ( ( لو جمد ) ) دام جموده فيصح وينعقد عن التحقيق
ومثل هذا قول المعتمد بن عباد يصف فوارة
( ولربما سلت لنا من مائها ... سيفا وكان عن النواظر مغمدا )
( طبعته لجيا فزانت صفحة ... منه ولو جمد لكان مهندا )
وقد أخذت أنا هذا المعنى فقلت أصف روضا
( فلو دام ذاك النبت كان زبرجدا ... ولو جمدت أنهاره كن بلورا )
وهذا المعنى مأخوذ من قول علي التونسي الإيادي من قصيدته الطائية المشهورة
( ألؤلؤ قطر هذا الجو أم نقط ... ما كان أحسنه لو كان يلتقط )
وهذا المعنى كثير للقدماء قال ابن الرومي من قطعة في العنب الرازقي
( لو أنه يبقى على الدهور ... قرط آذان الحسان الحور )
قال علي بن ظافر وأخبرني من أثق به قال ركب المعتمد على الله أبو القاسم ابن عباد لنزهة بظاهر إشبيلية في جماعة من ندمائه وخواص شعرائه فلما أبعد أخذ في المسابقة بالخيول فجاء فرسه بين البساتين سابقا

فرأى شجرة تين قد أينعت وزهت وبرزت منها ثمرة قد بلغت وانتهت فسدد إليها عصا كانت في يده فأصابها وثبتت على أعلاها فأطربه ما رأى من حسنها وثباتها والتفت ليخبر به من لحقه من أصحابه فرأى ابن جاخ الصباغ أول من لحق به فقال أجر
( كأنها فوق العصا ... )
( فقال هامة زنجي عصى ... ) فز
( اد طربه وسروره بحسن ارتجاله وأمر له بجائزة سنية
قال علي بن ظافر وأخبرني أيضا أن سبب اشتهار ابن جاخ هذا أن الوزير أبا بكر بن عمار كان كثير الوفادة على ملوك الأندلس لا يستقر ببلدة ولا يستفزه عن وطره وطن وكان كثير التطلب لما يصدر عن أرباب المهن من الأدب الحسن فبلغه خبر ابن جاخ هذا قبل اشتهاره فمر على حانوته وهو آخذ في صباغته والنيل قد جر على يديه ذيلا وأعاد نهارهما ليلا فأراد أن يعلم سرعة خاطره فأخرج زنده ويده بيضاء من غير سوء وأشار إلى يده وقال
( كم بين زند وزند ... ) فقال
( ما بين وصل وصد ... )
فعجب من حسن ارتجاله ومبادرة العمل واستعجاله وجذب بضبعه وبلغ من الإحسان إليه غاية وسعه

وبلغني ايضا أنه دخل سرقسطة فبلغه خبر يحيى القصاب السرقسطي فمر عليه ولحم خرفانه بين يديه فأشار ابن عمار إلى اللحم وقال
( لحم سباط الخرفان مهزول ... ) فقال
( يقول يا مشترين مه زولوا ... )
ولما صنع المتوكل على الله بن الأفطس صاحب بطليوس هذا القسيم
( الشعر خطة خسف ... ) أرتج عليه فاستدعى أبا محمد عبد المجيد بن عبدون صاحب الرائية التي أولها
( الدهر يفجع بعد العين بالأثر ... ) وقد تكرر ذكره في هذا الكتاب وهو أحد وزراء دولته وخواص حضرته فاستجازه إياه فقال
( لكل طالب عرف ... )
( للشيخ عيبة عيب ... وللفتى ظرف ظرف )
وذكر ابن بسام في الذخيرة أن قائل القسيم الأول الأستاذ أبو الوليد بن ضابط وأن عبد المجيد أجازه ارتجالا وهو ابن ثلاث عشرة سنة وقد ذكرنا ما يقرب من ذلك في هذا الكتاب

وقال ابن الغليظ المالقي قلت يوما للأديب أبي عبد الله ابن السراج المالقي ونحن على جرية ماء أجز
( شربنا على ماء كأن خريره ) فقال بديها ( بكاء محب بان عنه حبيب ... فمن كان مشغوفا كئيبا بإلفه )
( فإني مشغوف به وكئيب ... )
وذكر ابن بسام في الذخيرة أنه اجتمع ابن عبادة وابن القابلة السبتي بألمرية نظر إلى وسيم يسبح في البحر وقد تعلق بسكان بعض المراكب فقال ابن عبادة
( انظر إلى البدر الذي لاح لك ... )
فقال ابن القابلة
( في وسط اللجة تحت الحلك ... )
( قد جعل الماء سماء له ... واتخذ الفلك مكان الفلك )
وقال أبو عامر بن شهيد لما قدم زهير الصقلبي إلى حضرة قرطبة من المرية وجه وزيره أبو جعفر ابن عباس إلى لمة من أصحابنا منهم ابن برد وأبو بكر المرواني وابن الحناط والطبني فحضروا إليه فسألهم عني

وقال وجهوا إليه فوافاني رسوله مع دابة بسرج محلى ثقيل فسرت إليه ودخلت المجلس وأبو جعفر غائب فتحرك المجلس لدخولي وقاموا جميعا لي حتى طلع أبو جعفر علينا ساحبا ذيلا لم أر أحدا سحبه قبله وهو يترنم فسلمت عليه سلام من يعرف قدر الرجال فرد ردا لطيفا فعلمت أن في أنفه نعرة لا تخرج إلا بسعوط الكلام ولا ترام إلا بمستحصد النظام ورأيت أصحابي يصيخون إلى ترنمه
فقال لي ابن الحناط وكان كثير الإنحاء علي جالبا في المحافل ما يسوء إلي إن الوزير حضره قسيم وهو يسألنا إجازته فعلمت أني المراد فاستنشدته فأنشد
( مرض الجفون ولثغة في المنطق ... ) فقلت لمن حضر لا تجهدوا أنفسكم فما المراد غيري ثم أخذت الدواة فكتبت
( سببان جرا عشق من لم يعشق ... )
( من لي بألثغ لا يزال حديثه ... يذكي على الأحشاء جمرة محرق )
( ينبي فينبو في الكلام لسانه ... فكأنه من خمر عينيه سقي )
( لا ينعش الألفاظ من عثراتها ... ولو انها كتبت له في مهرق )
ثم قمت عنهم فلم ألبث أن وردوا علي وأخبروني أن أبا جعفر لم يرض بما جئت به من البديهة وسألوني أن أحمل مكاوي الهجاء على حتاره فقلت
( أبو جعفر كاتب محسن ... مليح سنا الخط حلو الخطابة )
( تملأ شحما ولحما وما 5 يليق تملؤه بالكتابه )
( له عرق ليس ماء الحياء ... ولكنه رشح ماء الجنابه )
( جرى الماء في سفله جري لين ... فأحدث في العلو منه صلابه )

وذكر الوزير أبو بكر ابن اللبانة الداني في كتابه سقيط الدرر ولقيط الزهر أن المعتمد بن عباد صنع قسيما في القبة المعروفة بسعد السعود فوق المجلس المعروف بالزاهي وهو
( سعد السعود يتيه فوق الزاهي ... )
ثم استجاز الحاضرين فعجزوا فصنع ولده عبد الله الرشيد
( وكلاهما في حسنه متناهي ... )
( ومن اغتدى سكنا لمثل محمد ... قد جل في العليا عن الأشباه )
( لا زال يبلغ فيهما ما شاءه ... ودهت عداه من الخطوب دواهي )
وخرج القاضي الفقيه أبو الحسن علي بن القاسم بن محمد بن عشرة أحد رؤساء المغرب الأوسط في جماعة من أصحابه منهم محمد بن عيسى بن سوار الأشبوني ورجل يسمى بأبي موسى خفيف الروح ثقيل الجسم فجعل يعبث بالحاضرين بأبيات من الشعر يصنعها فيهم فصنع القاضي أبو الحسن معاتبا له
( وشاعر أثقل من جسمه ... )
ثم استجاز ابن سوار فقال
( تأتي معانيه على حكمه ... )
( يهجو فلا يهجى فهل عندكم ... ظلامة تعدي على ظلمه )
( لسانه في هجوه حية فيه ... منية الحية في سمه )

( يصيب سر المرء في رميه ... كأنما العالم في علمه )
( أما أبو موسى ففي كفه ... عصا ابنه والسحر في نظمه )
وفي المقتبس في تاريخ الأندلس أن الأمير عبد الرحمن خرج في بعض أسفاره فطرقه خيار جاريته طروب أم ولده عبد الله وكانت أعظم حظاياه عنده وأرفعهن لديه لا يزال كلفا بها هائما بحبها فانتبه وهو يقول
( شاقك من قرطبة الساري ... في الليل لم يدر به الداري ) ثم أنبه عبد الله بن الشمر نديمه فاستجازه كمال البيت فقال
( زار فحيا في ظلام الدجى ... أحبب به من زائر ساري ) وصنع الأمير عبد الرحمن المذكور في بعض غزواته قسيما وهو
( نرى الشيء مما يتقى فنهابه ... )
ثم أرتج عليه وكان عبد الله بن الشمر نديمه وشاعره غائبا عن حضرته فأراد من يجيزه فأحضر بعض قواده محمد بن سعيد الزجالي وكان يكتب له فأنشده القسيم فقال
( وما لا نرى مما يقي الله أكثر ... )
فاستحسنه وأجازه وحمله استحسانه على أن استوزره

وذكر ابن بسام أن المعتمد بن عباد أمر بصياغة غزال وهلال من ذهب فصيغا فجاء وزنهما سبعمائة مثقال فأهدى الغزال إلى السيدة ابنه مجاهد والهلال إلى ابنه الرشيد فوقع له إلى أن أن قال
( بعثنا بالغزال إلى الغزال ... وللشمس المنيرة بالهلال )
ثم أصبح مصطحبا وجاء الرشيد فدخل عليه وجاء الندماء والجلساء وفيهم أبو القاسم بن مرزقان فحكى لهم المعتمد البيت وأمرهم بإجازته فبدر ابن مرزبان فقال
( فذا سكني أبوئه فؤادي ... وذا نجلي أقلده المعالي )
( شغلت بذا الطلا خلدي ونفسي ... ولكني بذاك رخي بال )
( دفعت إلى يديه زمام ملكي ... محلى بالصوارم والعوالي )
( فقام يقر عيني في مضاء ... ويسلك مسلكي في كل حال )
( فدمنا للعلاء ودام فينا ... فإنا للسماح وللنزال )
ولما أنشد أبو القاسم ابن الصيرفي قول عبد الله بن السمط
( حار طرف تأملك ... ملك أنت أم ملك ) قال بديها
( بل تعاليت رتبة ... فلك الأرض والفلك )
وذكر ابن بسام في الذخيرة أنه غني يوما بين يدي العالي بالله الإدريسي بمالقة بيت لعبد الله بن المعتز

( هل ترين البين يحتال ... أن غدت للحي أجمال )
فأمر الفقيه أبا محمد غانم بن الوليد المالقي بإجازته فقال بديها
( إنما العالي إمام هدى ... حليت في عصره الحال )
( ملك أقيال دولته ... لذوي الأفهام إقبال )
( قل لمن أكدت مطالبه ... راحتاه الجاه والمال )
وغنى أبو الحسن زرياب يوما بين يدي الأمير عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل بهذين البيتين وهما لأبي العتاهية
( قالت ظلوم سمية الظلم ... مالي رأيتك ناحل الجسم )
( يا من رمى قلبي فأقصده ... أنت الخبير بموقع السهم ) فقال عبد الرحمن هذان البيتان منقطعان فلو كان بينهما ما يصلهما لكان أبدع فصنع عبيد الله بن فرناس بديها
( فأجبتها والدمع منحدر ... مثل الجمان وهى من النظم )
فاستحسنه وأمر له بجائزة في
وذكر ابن بسام أيضا أن المعتمد بن عباد غني بين يديه بقول ابن المعتز [ المتقارب ] وخمارة من بنات المجوس ترى الزق في بيتها شائلا )
( وزنا لها ذهبا جامدا ... فكالت لنا ذهبا سائلا )

فقال بديها يجيزه
( وقلت خذي جوهرا ثابتا ... فقالت خذوا عرضا زائلا )
وركب المعتمد في بعض الأيام قاصدا الجامع والوزير أبو بكر بن عمار يسايره فسمع أذان مؤذن فقال المعتمد
( هذا المؤذن قد بدا بأذانه ... )
فقال ابن عمار
( يرجو بذاك العفو من رحمانه ... )
فقال المعتمد
( طوبى له من شاهد بحقيقة ... )
فقال ابن عمار
( إن كان عقد ضميره كلسانه ... )
وقال عبد الجبار بن حمديس الصقلي أقمت بإشبيلية لما قدمتها على المعتمد بن عباد مدة لا يلتفت إلي ولا يعبأ بي حتى قنطت لخيبتي مع فرط تعبي وهممت بالنكوص على عقبي فإني لكذلك ليلة من الليالي في منزلي إذا بغلام معه شمعة ومركوب فقال لي أجب السلطان فركبت من فوري ودخلت عليه فأجلسني على مرتبة فنك وقال لي افتح الطاق التي تليك ففتحتها فإذا بكور زجاج على بعد والنار تلوح من بابيه وواقدة تفتحهما تارة وتسدهما أخرى ثم دام سد أحدهما وفتح الآخر فحين تأملتهما قال لي أجز

في الظلام قد نجما
فقلت
( كما رنا في الدجنة الأسد ... ) فقال
( يفتح عينيه ثم يطبقها ... ) فقلت
( فعل امريء في جفونه رمد ... )
( فابتزه الدهر نور واحدة ... ) فقلت
( وهل نجا من صروفه أحد ... ) ذلك وأمر لي بجائزة سنية وألزمني خدمته
وقد ذكرنا هذه الحكاية في هذا الكتاب ولكن ما هنا مساقا فلذلك نبهت عليه
475 - وذكر صاحب فرحة الأنفس في أخبار أهل الأندلس أن أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر جلس في جماعة من خواصه ومعهم أبو القاسم لب وكان يعده للمجون والتطايب فقال له اهج عبد الملك بن جهور يعني أحد وزرائه فقال أخافه فقال لعبد الملك فاهجه أنت فقال أخاف على عرضي منه فقال أهجوه أنا وأنت ثم صنع
( لب أبو القاسم ذو لحية ... طوية أزري بها الطول )

عبد الملك
( وعرضها ميلان إن كسرت ... والعقل مأفون ومخبول ) الناصر للب اهجه فقد هجاك فقال بديهيا
( قال أمين الله في عصرنا ... لي لحية أزري بها الطول )
( وابن جهير قال قول الذي ... مأكوله القرضيل والفول )
( لولا حيائي من إمام الهدى ... نخست بالمنخس شو . . . )
ثم سكت فقال له الناصر هات تمام البيت فامتنع فقال له قولو يعني تمام البيت كلمة قالها الناصر مسترسلا غير متحفظ من زيادة الواو وإبدال الهاء واوا إذ صوابها قله على حكم المشي مع الطبع والراحة من التكلف فقال لب يا مولانا أنت هجوته ففطن الناصر والحاضرون وضحكوا وأمر له بجائزة
والقرضيل شوك له ورق عريض تأكله البقر وقوله شو اسم لذكر الرجل بالرومية وقولو اسم للاست بها فكأنه قال لولا حيائي من إمام الهدى نخست بالمنخس الذي هو الذكر استه

بسم الله الرحمن الرحيم الباب السابع
تتمة
476 - وقال ابن ظافر أخبرني من أثق به قال اجتمع الوزير أبو بكر ابن القبطرنة والأستاذ أبو العباس ابن صارة في يوم جلا ذهب برقه وأذاب ورق ودقه والأرض قد ضحكت لتعبيس السماء واهتزت وربت عند نزول الماء فترافدا فى صفتها فقال ابن صارة
( هذي البسيطة كاعب أبرادها ... حلل الربيع وحليها النوار )
فقال ابن القبطرنة
( وكأن هذا الجو فيها عاشق ... قد شفه التعذيب والإضرار )
فقال ابن صاره
( فإذا شكا فالبرق قلب خافق ... وإذا بكى فدموعه الأمطار )
فقال ابن القبطرنة
( فمن أجل عزة ذا وذلة هذه ... تبكي الغمام وتضحك الأزهار )

477 - وقال أبو بكر محمد بن الحسن الزبيدي النحوي صاحب الشرطة يخاطب الوزير أبا الحسن جعفر بن عثمان المصفحي لما كتب كتابا له فيه فاضت نفسه بالضاد مبينا له الخطأ دون تصريح
( قل للوزير السني محتده ... لي ذمة منك أنت حافظها )
( عناية بالعلوم معجزة ... قد بهظ الأولين باهظها )
( يقر لي عمرها ومعمرها ... فيها ونظامها وجاحظها )
( قد كان حقا قبول حرمتها ... لكن صرف الزمان لافظها )
( وفي خطوب الزمان لى عظة ... لو كان يثني النفوس واعظها )
( إن لم تحافظ عصابة نسبت ... إليك قدما فمن يحافظها )
( لا تدعن حاجتي بمطرحة ... فإن نفسي قد فاظ فائظها )
فأجابه المصحفي
( خفض فواقا فأنت أوحدها ... علما ونقابها وحافظها )
( كيف تضيع العلوم فى بلد ... أبناؤها كلهم يحافظها )
( ألفاظهم كلها معطلة ... مالم يعول عليك لافظها )
( من ذا يساويك إن نطقت وقد ... أقر بالعجز عنك جاحظها )
( علم ثنى العالمين عنك كما ... ثنى عن الشمس من يلاحظها )
( وقد أتتني فديت شاغلة ... للنفس أن قلت فاظ فائظها )
( فأوضحنها تفز بنادرة ... قد بهظ الأولين باهظها )
فأجابه الزبيدى وضمن شعره الشاهد على ذلك
( أاتاني كتاب من كريم مكرم ... فنفس عن نفس تكاد تفيظ )

( فسر جميع الأولياء وروده ... وسيء رجال آخرون وغيظوا )
( لقد حفظ العهد الذي قد أضاعه ... لدي سواه والكريم حفيظ )
( وباحثت عن فاظت وقبلي قالها ... رجال لديهم فى العلوم حظوظ )
( روى ذاك عن كيسان سهل وأنشدوا ... مقال أبي الغياظ وهو مغيظ )
( وسميت غياظا ولست بغائظ ... عدوا ولكن للصديق تغيظ )
( فلا رحم الرحمن روحك حية ... ولاهي فى الارواح حين تفيظ )
قلت وفي خطاب الوزير بهذا البيت وإن حكي عن قائله ما لا يخفي أن اجتنابه المطلوب على انه قد يقال فاضت نفسه بالضاد كما ذكره ابن السكيت فى خلل الألفاظ له والله أعلم
وكتب الزبيدي المذكور إلى أبي مسلم ابن فهد
( أبا مسلم إن الفتى بجنانه ... ومقوله لا بالمراكب واللبس )
( وليست ثياب المرء تغني قلامة ... إذا كان مقصورا على قصر النفس )
( وليس يفيد العلم والحلم والحجى ... أبا مسلم طول القعود على الكرسي )
وقال وقد استأذن الحكم المستنصر فى الرجوع الى أهله بإشبيلية ولم يأذن له فكتب إلى جاريته سلمى
( ويحك يا سلم لا تراعي ... لابد للبين من زماع )
( لا تحسبيني صبرت إلا ... كصبر ميت على النزاع )
( ماخلق الله من عذاب ... أشد من وقفة الوداع )
( ما بينها والحمام فرق ... لولا المناحات والنواعي )

( إن يفترق شملنا وشيكا ... من بعد ما كان ذا اجتماع )
( فكل شمل الى افتراق ... وكل شعب إلى انصداع )
( وكل قرب إلى بعاد ... وكل وصل إلى انقطاع )
478 - واجتمع جماعة من الأدباء فيهم أبو الحسن سهل بن مالك والمهر ابن الفرس وغيرهما بمدينة سبتة سنة 581 فتذاكروا محبوبا لهم يسكن الجزيرة الخضراء أمامهم فقالوا ليقل كل واحد منكم شيئا فيه فقال سهل بن مالك
( لما حططت بسبتة قتب النوى ... والقلب يرجو أن يحول حاله )
( والجو مصقول الأديم كأنما ... يبدى الخفي من الأمور صقاله )
( عاينت من بلد الجزيرة مكنسا ... والبحر يمنع أن يصاد غزاله )
( كالشكل فى المرآة تبصره وقد ... قربت مسافته وعز مناله )
فقال الجماعة والله لايقول أحد منا بعد هذا شيئا
479 - ولما قرأ أبو محمد عبدالله بن مطروح البلنسي صداق إملاك وغير فيه حال القراءة لفظة غير برفع ماكان منصوبا أو بالعكس أنشد بديها بعد الفراغ معتذرا عن لحنه
( غيرت غيرا فصرت عيرا ... وهكذا من يجد سيرا )
فأجابه الحافظ أبو الربيع ابن سالم الكلاعي وكان إلى جانبه بديهة
( ما أنت ممن يظن فيه ... بذاك جهل فظن خيرا )

480 - ووقف أبو أمية ابن حمدون بباب الأستاذ الشلوبين فكتب فى ورقة أبو أمية بالباب ودفع الورقة لخادم الأستاذ فلما نظر اليها الأستاذ نون تاء أمية ولم يزد على ذلك وأمر الخادم بدفع الورقة اليه فلما نظر فيها أبو أمية انصرف علما منه أن الأستاذ صرفه فانظر الى فطنة الشيخ والتلميذ مع أن الشيخ منسوب الى التغفل فى غير العلم
481 - ومن حكايات أهل الأندلس فى العفو أن المعتصم بن صمادح كان قد أحسن للنحلي البطليوسي ثم إن النحلي سار إلى إشبيلية فمدح المعتضد ابن عباد بشعر قال فيه
( أباد ابن عباد البربرا ... وأفنى ابن معن دجاج القرى )
ونسي ماقاله حتى حل بالمرية فأحضره ابن صمادح لمنادمته وأحضر للعشاء موائد ليس فيها غير دجاج فقال النحلي يامولاي ماعندكم فى المرية لحم غير الدجاج فقال انما أردت ان أكذبك فى قولك
( وأفنى ابن معن دجاج القرى ...
فطار سكر النحلي وجعل يعتذر فقال له خفض عليك إنما ينفق مثلك بمثل هذا وإنما العتب على من سمعه فاحتمله منك فى حق من هو فى نصابه ثم أحسن إليه وخاف النحلي ففر من المرية ثم ندم فكتب الى المعتصم
( رضى ابن صمادح فارقته ... فلم يرضني بعده العالم )
( وكانت مريته جنة ... فجئت بما جاءه آدم )
فما زال يتفقده بالإحسان على بعد دياره وخروجه عن اختياره انتهى
482 - وقال فى بلنسية أبو عبدالله الرصافي وقد خرج منها صغيرا

( بلادي التي ريشت قويدمتي بها ... فريخا وآوتني قرارتها وكرا )
( مهادي ولين العيش في ريق الصبا ... أبى الله أن انسى اعتيادى بها خيرا )
483 - وقال أبو بكر محمد بن يحيى الشلطيشي
( وفاة المر ء سر لم يكاشف ... ولم تثبت حقيقته دراية )
( سيفنى كل ذى شبح ونفس ... وتلتحق النهاية بالبدايه )
( وينصدع الجميع الى صدوع ... تعود له البرية كالبرايه )
( كأن مصائب الدنيا سهام ... لها الأيام أغراض الرمايه )
( فنل ماشئت إن الفقر حد ... وعش ماشئت إن الموت غايه )
484 - وقال أبو بكر محمد بن العطار اليابسي وهو من رجال الذخيرة
( أمطيت عزمك منه متن سابحة ... خلت الحباب على لباتها لببا )
( تبدو على الموج أحيانا ويضمرها ... كالعيس تعتسف الأهضام والكثبا )
485 - وقال محمد بن الحسن الجبلي النحوي
( وما الأنس بالناس الذين عهدتهم ... بأنس ولكن فقد رؤيتهم أنس )
( إذا سلمت نفسي وديني منهم ... فحسبي أن العرض مني لهم ترس )
486 - وقال محمد بن حرب
( طوبى لروضة جنة ... لك قد نويت ورودها )
( نظمت على لباتها ... أيدى الغمام عقودها )

( وسقت بماء الورد وال مسك ... الفتيت صعيدها )
( والطير تشدو فى الغصون ... المائدات قصيدها )
( وتعير سمع المستعير ... نظيمها ونشيدها )
487 - وكان فى دار محمد بن اليسع شاعر الدولة العامرية وردة وكان يهدى وردها كل عام الى عارض الجيش أحمد بن سعيد فغاب العارض سنة فقال
( قال لي الورد وقد لا حظته ... فى روضتيه )
( وهو قد أينع طيبا ... جمع الحسن لديه )
( أين مولاي الذي قد ... كنت تهديني اليه )
( قلت غاب العام فايأس ... أن ترى بين يديه )
( فبدا يذبل حتى ... ظهر الحزن عليه )
488 - وقال أحمد بن أفلح
( ما أستريح إلى حال فأحمدها ... بالبين قلبي وقبل البين قد ذهبا )
( إن كان لي أرب فى العيش بعدكم ... فلا قضيت إذن من حبكم أربا )
489 - وقال أحمد بن تليد الكاتب
( لم أرض بالذل وإن قلا ... والحر لا يحتمل الذلا )
( يارب خل كان لي خامل ... صار الى العزة فاحولا ) ( حرمت إلمامي على بابه ... ووصله لم أره حلا )

( تأبى على النفس من أن أرى ... يوما على مستثقل كلا )
490 - وقال إسحاق بن المنادى وقد أهدى له من يهواه تفاحة
( مجال العين فى ورد الخدود ... يذكر طيب جنات الخلود )
( وآرجة من التفاح تزهو ... بطيب النشر والحسن الفريد )
( أقول لها فضحت المسك طيبا ... فقالت لي بطيب أبي الوليد )
491 - وقال غالب بن عبدالله الثغري
( ياراحلا عن سوادالمقلتين الى ... سواد قلب عن الأضلاع قد رحلا )
( غدا كجسم وأنت الروح فيه فما ... ينفك مرتحلا ما دمت مرتحلا )
( وللفراق جوى لو مر أبرده ... من بعد فرقتكم بالماء لاشتعلا )
492 - وقال الوزير أبو الحسن ابن الامام الغرناطي يهجو مراكش المحروسة
( ياحضرة الملك ما أشهاك لي وطنا ... لولا ضروب بلاء فيك مصبوب )
( ماء زعاق وجو كله كدر ... وأكلة من بذنجان ابن معيوب )
وابن معيوب هذا كان من خدام أبي العلاء ابن زهر يزعم الناس أنه سم

ابن باجة لعداوته لابن زهر فى باذنجان
493 - ولما بنى الفقيه أبو العباس ابن القاسم قصره بسلا وشيده وصفته الشعراء وهنته به ودعت له وكان بالحضرة حينئذ الوزير أبو عامر ابن الحمارة ولم يكن أعد شيئا فأفكر قليلا ثم قال
( يا واحد الناس قد شيدت واحدة ... فحل فيها محل الشمس فى الحمل )
( فما كدارك فى الدنيا لذى أمل ... ولا كدارك فى الأخرى لذى عمل )
وفيهم يقول ابن بقي فى موشحته الشهيرة التى آخرها
( إن جئت أرض سلا ... تلقاك بالمكارم فتيان )
( هم سطور العلا ... ويوسف بن القاسم عنوان )
494 - وكان محمد بن عبادة بالمرية ومعه ابن القابلة السبتي فنظر الى غلام وسيم يسبح وقد تعلق بمركب فقال ابن عبادة
( انظر الى البدر الذى لاح لك ... ) فقال ابن القابلة
فى وسط اللجة تحت الحلك )
( قد جعل الماء مكان السما ... واتخذ الفلك مكان الفلك )

- وقال ابن خروف ويروى لغيره
( أيتها النفس إليه اذهبي ... فحبه المشهور من مذهبي )
( مفضض الثغر له شامة ... مسكية فى خده المذهب )
( أيأسني التوبة من حبه ... طلوعه شمسا من المغرب )
496 - واجتمع فى بستان واحد ثلاثة شعراء من الأندلس وهم ابن خفاجة وابن عائشة وابن الزقاق فقال ابن خفاجة يصف الحال هنالك
( لله نورية المحيا ... تحمل نارية الحميا )
( درنا بها تحت ظل دوح ... قد راق مرأى وطاب ريا )
( تجسم النور فيه نورا ... فكل غصن به ثريا )
وقال ابن عائشة
( ودوحة قد علت سماء ... تطلع أزهارها نجوما )
( هفا نسيم الصبا علينا ... فخلتها أرسلت رجوما )
( كأنما الأفق غار لما ... بدت فأغرى بها النسيما )
وقال ابن الزقاق
( ورياض من الشقائق أضحت ... يتهادى بها نسيم الرياح )
( زرتها والغمام يجلد منها ... زهرات تفوق لون الراح )

( قلت ما ذنبها فقال مجيبا ... سرقت حمرة الخدود الملاح )
497 - وقال الأديب أبو الحسن ابن زنون وقع بيدى وأنا أسير بقيجاطة أعادها الله تعالى دار إسلام كتاب ترجمته كتاب التحف والطرف لابن عفيون فوجدت فيه قال الحسين بن الضحاك
( ماكان أحوجني يوما الى رجل ... فى وسطه ألف دينار على فرس )
( فى كفه حربة يفرى الدروع بها ... وصارم مرهف الحدين كالقبس )
( فلو رجعت ولم أظفر بمهجته ... وقد خضبت ذباب الصارم الشكس )
( فلا اغتبطت بعيش وابتليت بما ... يحول بيني وبين الشادن الأنس )
ووقف على هذه القطعة أبو نواس فقال
( ماكان أحوجني يوما الى خنث ... حلو الشمائل فى باق من الغلس )
( في كفه قهوة يسبي النفوس بها ... محكم الطرف للألباب مختلس )
( فلو رجعت ولم أظفر بتكته ... وقد رويت من الصهباء كالقبس )
( فلا هنيت بعيش وابتليت بما ... يكون منه صدود الشادن الأنس )
( هذا ألذ وأشهى من منى رجل ... فى وسطه ألف دينار على فرس )
ووقف على ذلك الوزير أبو عامر ابن ينق فقال
( ماكان أحوجني يوما الى رجل ... يردد الذكر فى باق من الغلس )
( فى حلقه غنة يشفي النفوس بها ... وفى الحشا زفرة مشبوبة القبس )
( فلو رجعت ولم أوثر تلاوته ... على سماع غناء الشادن الأنس )

( فلا حمدت إذن نفسي ولا اعتمدت ... بي النجائب قصد البيت والقدس )
( ولا أسلت بقبر المصطفى مقلا ... تبكي عليه بهامي الدمع منبجس )
فوقفت على ذلك يقول ابن زنون فقلت وكل ينفق مما عنده ومن عجائب الله أنه عند فراغي من كتب هذه القطعة وصل الفكاك الي وحل قيودي وأخرجني الى بلاد المسلمين وهي
( ما كان أحوجني يوما الى رجل ... يأتي فينبهني فى فحمة الغلس )
( يفك قيدي وغلي غير مرتقب ... ولا مبال من الحجاب والحرس )
( وقوله لي تأنيسا وتسلية ... هذا سلاحي فالبسه وذا فرسي )
( فلو جبنت ولم أقبل مقالته ... وأمتطي الطرف وثبا فعل مفترس )
( إذن خلعت لباس المجد من عنقي ... وصار حظي منه حظ مختلس )
( وأخلفتني أماني التى طمحت ... نفسي اليها وإحساني لكل مسي )
498 - وقال أبو بكر ابن حبيش وقد زاره بعض أودائه فى يوم عيد الفطر
( أكل ذا الاجمال فى ذا الجمال ... الله أستحفظ ذاك الكمال )
( يامالكا بالبر رقي أما ... يكفيك أن تملكني بالوصال )
( سرت الى ربعي زورا كما ... سرى الى المهجور طيف الخيال )
( العيد لي وحدي بين الورى ... حقا لأني قد رأيت الهلال )
( صومي مقبول وبرهانه ... أني أدخلت جنان الوصال )
499 - وقال أبو بكر ابن يوسف اللخمي وقد عاده في شكاية فتى وسيم من الأعيان كان والده خطيب البلد

( يا عائدي وهو أصل ما بي ... أفديك من ممرض طبيب )
( أصميت لما رميت قلبي ... بسهم ألحاظك المصيب )
( وجئتني منكرا لسقمي ... وتلك من عادة الحبيب )
( ياساعة قد غفرت فيها ... وما كان للدهر من ذنوب )
( ماكان فى فضلها مقال ... لو لم تكن جلسة الخطيب )
500 - وخاطب أبوزيد ابن أبي العافية أبا عبدالله ابن العطار القرطبي بقصيدة منها هذا البيت
( وكيف يفيق ذو صبر قصير ... حليف وساوس حول طوال )
يعرض له بطوله وحوله ولصاحبه أبي محمد ابن بلال بقصره فراجعه أبو عبدالله المذكور بهذه الأبيات يعرض له فيها بجربه وكان أبوزيد أصابه جرب كثير
( اجل يانافث السحر الحلال ... أتاني منك نظم كاللآلي )
( يروقك أولا لفظا ومعنى ... ويلدغ آخرا لدغ الصلال )
( تعرض فيه انك ذو مطال ... حليف وساوس حول طوال )
( كأنك لم تجرب قط خلقا ... ولم تعرف بتجربة الليالي )
( أأنسيت التجارب إذ تجاري ... بهن الجربياء مع الشمال )
( فلا تغفل عن التجريب يوما ... ولو أعطيت فيه جراب مال )
( وجرب جار بيتك واختبره ... وجر برجله إن كان قالي )
( وجار بنيك لا تستحي منه ... ومن نجار بابك لا تبال )
( وأجر ببالك الجرباء تبصر ... نجوم الأفق تجرى بانتقال )
( وجرب أهل جربة تلف قوما ... أبوا لبس الجوارب والنعال )
( تجارا باعة تجروا بزيت ... تسموا بالتجار بغير مال )

( اذا سمعوا بتمر في جريب ... جروا ببطاء ذى التمر البوالي )
( إذا جربت هذا الخلق أبدى ... لك التجريب أجربة خوالي )
( جرى بالنجح دهرا جر بؤسا ... عليك وجار بالنوب الثقال )
501 - وخرج ثلاثة أدباء لنزهة خارج مرسية وصلوا خلف إمام بمسجد قرية فأخطأ فى قراءته وسها فى صلاته فلما خرج أحدهم كتب على حائط المسجد
( ياخجلتي لصلاة ... صليتها خلف خلف )
فلما خرج الثاني كتب تحته
( أغض عنها حياء ... من المهيمن طرفي )
فلما خرج الثالث كتب تحته
( فليس تقبل منا ... لو أنها ألف ألف )
502 - وقال ابو اسحاق ابن خفيف الأندلسي فى أحدب أخذ مع صبي فى خلوة فضربا وطيف بهما والأحدب على عنق الصبي
( رأيت اليوم محمولا ... وأعجب منه من حمله )
( جمال الناس تحملهم ... وهذا حامل جمله )
503 - وقال أبو الصلت الأندلسي

( وقائلة مابال مثلك خاملا ... أأنت ضعيف الرأي ام أنت عاجز )
( فقلت لها ذنبي الى القوم أنني ... لما لم يحوزوه من المجد حائز )
504 - وكتب بعض المغاربة لأبي العباس ابن مضاء يذكره بحاله
( ياغارسا لي ثمار مجد ... سقيتها العذب من زلالك )
( أخاف من زهرها سقوطا ... إن لم يكن سقيها ببالك )
505 - وكتب الكاتب أبوعبدالله القرطبي مستنجزا وعدا
( أبا عبد الاله وعدت وعدا ... فأنجز تربح الشكر الجزيلا )
( ولا تمطل فإن المطل يمحو ... من الإحسان رونقه الصقيلا )
( إذا كان الجميل يحب طبعا ... فإني أكره الصبر الجميلا )
506 - وكتب ابن هذيل الفزاري للغني بالله سلطان لسان الدين بن الخطيب
( ليس يامولاي لي من جابر ... إذ غدا قلبي من البلوى جذاذا )
( غير صك احمر تكتب لي ... فيه يمناك اعتناء صح هذا )
507 - وقال أبو الحسن ابن الزقاق فى غلام يهودي كان يجلس معه وينادمه يوم سبت
( وحبب يوم السبت عندي أنني ... ينادمني فيه الذى أنا أحببت )
( ومن أعجب الأشياء أني مسلم ... حنيف ولكن خير أيامي السبت )
508 - وقال أبو حيان
( ويعجبني رشف تلك الشفاه ... وعض الخدود وهصر القوام )

( محاسن فاتت قضيب الأراك ... وورد الرياض وكأس المدام )
509 - وكتب أحد الأدباء بمرسية الى فتى وسيم من أعيانها كان يلازم حانوت بعض القضاة بها للتفقه عليه بأبيات فى غرض فراجعه عنه أبو العباس ابن سعيد بقوله
( ما للمحب لدي غير صبابة ... تقضي عليه ولوعة وغرام )
( فدع الطماعة واسترح باليأس من ... وصل عليك إلى الممات حرام )
510 - وقال السميسر
( قرابة السوء شر داء ... فاحمل أذاهم تعش حميدا )
( ومن تكن قرحة بفيه ... يصبر على مصه الصديدا )
511 - وقال ابن خفاجة
( إن للجنة بالأندلس ... مجتلى عين وريا نفس )
( فسنا صبحتها من شنب ... ودجى ليلتها من لعس )
( فإذا ما هبت الريح صبا ... صحت واشوقي إلى الاندلس )
512 - وقال بعض الأندلسيين ممن لم يحضرني اسمه الان
( إذا صال ذو ود بود صديقه ... فيا أيها الخل المصاحب لي صل بي )
( فإني مثل الماء لينا لصاحبي ... وناهيك للأعداء من رجل صلب )
513 - وقال أبو يحيى ابن هشام القرطبي
( وخائط رائع جمالا ... وصاله غاية اقتراحي )

( تنعم منه الخيوط فتلا ... بين أقاح وبين راح )
( تراه فى السلم ذا طعان ... بنافذات بلا جراح )
( حلقته أشبهت فؤادي ... لكثرة الوخز فى النواحي )
( تقطع الثوب راحتاه ... كصنع ألحاظه الملاح )
( فقبله ما رأيت بدرا ... ممزقا بردة الصباح )
514 - وقال أبو جعفر أحمد بن عبدالولي البلنسي
( غصبت الثريا فى البعاد مكانها ... وأودعت فى عيني صادق نوئها )
( وفى كل حال لم تزالي بخيلة ... فكيف أعرت الشمس حلة ضوئها )
قال ابن الأبار أنشد مؤلف قلائد العقيان هذين البيتين لأبي جعفر البني اليعمري وأحدهما غالط من قبل اشتباه نسبهما والتفرقة بينهما مستوفاة في تأليفي المسمى ب هداية المعتسف فى المؤتلف والمختلف انتهى
وأبو جعفر ابن عبدالولي المذكور أحرقه القنبيطور لعنه الله تعالى حين تغلبه بالروم على بلنسية قال ابن الأبار وذلك في سنة ثمان وثمانين وأربعمائة وقيل إن احراقه كان سنة تسعين وأربعمائة انتهى515 - وقال أبو العباس القيجاطي فيما أنشده له ابن الطيلسان
( ليس الخمول بعار ... على امرىء ذى جلال )
( فليلة القدر تخفى ... وتلك خير الليالي )

516 - وقال أبو محمد ابن جحاف المعافرى البلنسي
( أقول وقد خوفوني القران ... وماهو من شره كائن )
( ذنوبي أخاف و أما القران ... فإني من شره آمن )
وأبوه أبو أحمد هو المحرق ببلنسية كما ذكرناه فى غير هذا الموضع
517 - وقال أبو العباس المالقي
( وبين ضلوعي للصبابة لوعة ... بحكم الهوى تقضي علي ولا أقضي )
( جني ناظري منها على القلب ماجنى ... فيا من رأى بعضا يعين على بعض )
518 - ودخل أبو القاسم ابن عبد المنعم وكان أزرق وسيما ومعه أبو عبدالله الشاطبي وأبو عثمان سعيد بن قوشترة على صاحب كتاب مشاحذ الأفكار فى مآخذ النظار فقال ابن قوشترة
( عابوه بالزرق الذى بجفونه ... والماء أزرق والسنان كذلكا )
فقال الشاطبي
( والماء يهدي للنفوس حياتها ... والرمح يشرع للمنون مسالكا )
فقال أبوبكر ابن طاهر صاحب كتاب المشاحذ
( وكذاك فى أجفانه سبب الردى ... لكن أرى طيب الحياة هنالكا )
وهذا من بارع الإجازة وكم لأهل الأندلس من مثل هذا الديباج الخسرواني رحمهم الله تعالى وسامحهم

519 - وكتب الشيخ الإمام العالم العلامة أبو عبدالله محمد بن الصائغ الأندلسي النحوي عند قول الحريري امنا أن يعززا بثالث مانصه قد جيء لهما بثالث ورابع في قافيتهما وهو قول بعض الفضلاء
( ما الأمة اللكعاء بين الورى ... كمسلم حر أتى ملأمة )
( فمه إذا استجديت من قول لا ... فالحر لا يملأ منها فمه )
ثم قال وبخامس وسادس
( انقد مهوى أزره فانثنى ... مه ياعذولي فى الذي انقد مه )
( مندمة قتل المعنى فلا ... ترسل سهام اللحظ تأمن دمه )
قلت رأيت فى المغرب فى هذا المعنى ما ينيف على سبعين بيتا كلها مساجلة لبيتي الحريري رحمه الله تعالى
520 - وقال أبو بكر عبادة الشاعر في أبي بكر والد الوزير أبي الوليد ابن زيدون
( أي ركن من الرياسة هيضا ... وجموم من المكارم غيضا )
( حملوه من بلدة نحو أخرى ... كي يوافوا به ثراه الأريضا )
( مثل حمل السحاب ماء طبيبا ... لتداوي به مكانا مريضا )
وكان المذكور توفي في ضيعة له ونقل تابوته الى قرطبة فدفن فى الربض سنة 405 وولد سنة 304
521 - وقال أبو بكر ابن قزمان صاحب الموشحات

( وعهدي بالشباب وحسن قدي ... حكى الف ابن مقلة فى الكتاب )
( فصرت اليوم منحنيا كأني ... أفتش فى التراب على شبابي )
وقال
( يارب يوم زارني فيه من ... أطلع من غرته كوكبا )
( ذو شفة لمياء معسولة ... ينشع من خديه ماء الصبا )
( قلت له هب لي بها قبلة ... فقال لي مبتسما مرحبا )
( فذقت شيئا لم أذق مثله ... لله ما أحلى وما أعذبا )
( أسعدني الله بإسعاده ... ياشقوتي يا شقوتي لو أبى )
قال لسان الدين كان ابن قزمان نسيج وحده أدبا وظرفا ولوذعية وشهرة قال ابن عبدالملك كان أديبا بارعا حلو الكلام مليح التندير مبرزا فى نظم الزجل قال لسان الدين وهذه الطريقة الزجلية بديعة تتحكم فيها ألقاب البديع وتنفسح لكثير مما يضيق على الشاعر سلوكه وبلغ فيها أبوبكر رحمه الله تعالى مبلغا حجره الله عمن سواه فهو آيتها المعجزة وحجتها البالغة وفارسها المعلم والمبتدىء فيها والمتمم
وقال الفتح فى حقه مبرز فى البيان ومحرز للسبق عند تسابق الأعيان اشتمل عليه المتوكل على الله فرقاه إلى مجالس وكساه ملابس فامتطى أسمى الرتب وتبوأها ونال أسنى الخطط وما تملأها وقد أثبت

له مايعلم به رفيع قدره ويعرف كيف أساء له الزمان بغدره كقوله
( ركبوا السيول من الخيول وركبوا ... فوق العوالي السمر زرق نطاف )
( وتجللوا الغدران من ماذيهم ... مرتجة إلا على الأكتاف )
والمأذي العسل والنطاف جمع النطفة وهى الماء الصافي قل أو كثر
522 - نقول من المطمح
1 - وقال الفقيه أبو بكر ابن القوطيه صاحب الأفعال فى اللغة والغريب في زمن الربيع
( ضحك الثرى وبدا لك استبشاره ... فاخضر شاربه وطر عذاره )
( ورنت حدائقه وزرر نبته ... وتعطرت أنواره وثماره )
( واهتز ذابل كل ماء قرارة ... لما أتى متطلعا آذاره )
( وتعممت صلع الربى بنباته ... وترنمت من عجمة أطياره )
وقال في المطمح فى حق ابن القوطية المذكور إنه ممن له سلف وثنية كلها شرف وهو أحد المجتهدين فى الطلب والمشتهرين بالعلم والأدب والمنتدبين للعلم والتصنيف والمرتبين له بحسن الترتيب والتأليف وكان له شعر نبيه وأكثره أوصاف وتشبيه انتهى
2 - وقال القاضي الأجل يونس بن عبدالله بن مغيث

( أتوا حسبة إذ قيل جد نحوله ... فلم يبق من لحم عليه ولا عظم )
( فعادوا قميصا في فراش فلم يروا ... ولا لمسوا شيئا يدل على جسم )
( طواه الهوى فى ثوب سقم من الضنى ... وليس بمحسوس بعين ولا وهم )
وقال فى المطمح فيه إنه قاضي الجماعة بقرطبة فاضل ورع مبرز في النساك والزهاد دائم الأرق فى التخشع والسهاد مع التحقق بالعلم والتمييز بحمله والتحيز إلى فئة الورع وأهله وله تآليف فى التصوف والزهد منها كتاب المنقطعين الى الله وكتاب المجتهدين وأشعار فى هذا المعنى منها قوله
( فررت إليك من ظلمي لنفسي ... وأوحشني العباد وأنت أنسي )
( قصدت إليك منقطعا غريبا ... لتؤنس وحدتي فى قعر رمسي )
( وللعظمى من الحاجات عندي ... قصدت وأنت تعلم سر نفسي )
ولما أراد المستنصر بالله غزو الروم تقدم الى أبي محمد والده بالكون في صحبته ومسايرته في غزوته فاعتذر بعذر يجده فقال له الحكم إن ضمن لي أن يؤلف في أشعار خلفائنا بالمشرق والأندلس مثل كتاب الصولي في أشعار خلفاء بني العباس أعفيته من الغزاة وجازيته أفضل المجازاة فأجابه إليه على أن يؤلفه بالقصر فزعم أنه رجل مزور وأن ذلك الوضع ممتنع على من يلم به ويزور فألفه بدار الملك المطلة على النهر وأكمله فيما دون شهر وتوفي والمستنصر بعد فى غزاته
3 - وقال ابن سيده صاحب المحكم يخاطب إقبال الدولة
( ألا هل الى تقبيل راحتك اليمنى ... سبيبل فإن الأمن في ذاك واليمنا )
قال في المطمح الفقيه أبو الحسن على بن أحمد المعروف بابن سيده إمام فى اللغة العربية وهمام فى الفئة الأدبية وله فى ذلك أوضاع لأفهام أخلافها استدرار واسترضاع حررها تحريرا وأعاد طرف الذكاء بها قريرا وكان منقطعا الى الموفق صاحب دانية وبها أدراك أمانيه ووجد تجرده للعلم وفراغه وتفرد بتلك الاراغة ولا سيما كتابة المسمى بالمحكم فإنه أبدع كتاب وأحكم ولما مات الموفق رائش جناحه ومثبت غرره وأوضاحه خاف من ابنه إقبال الدولة وأطاف به مكروها بعض من كان حوله إذ أهل الطلب كحيات مساورة ففر الى بعض الأعمال المجاورة وكتب إليه منها مستعطفا
( ألا هل الى تقبيل راحتك اليمنى ... سبيل فإن الأمن فى ذاك واليمنا )
( فتنضى هموم طلحته خطوبها ... ولا غاربا يبقين منه ولا متنا )
( غريب نأى أهلوه عنه وشفه ... هواهم فأمسى لايقر ولا يهنا )
( فيا ملك الأملاك إنى محلا ... عن الورد لا عنه أذاذ ولا أدنى )
( تحققت مكروها فأقبلت شاكيا ... لعمري أمأذون لعبدك أن يعنى )
( وإن تتأكد في دمي لك نية ... فإني سيف لا أحب له جفنا )
( إذا ماغدا من حر سيفك باردا ... فقدما غدا من برد نعماكم سخنا )
( وهل هي إلا ساعة ثم بعدها ... ستقرع ماعمرت من ندم سنا )

وقال ابن سيده صاحب المحكم يخاطب إقبال الدولة
( ألا هل الى تقبيل راحتك اليمنى ... سبيل فإن الأمن في ذاك واليمنا )
قال في المطمح الفقيه أبو الحسن على بن أحمد المعروف بابن سيده إمام فى اللغة العربية وهمام فى الفئة الأدبية وله فى ذلك أوضاع لأفهام أخلافها استدرار واسترضاع حررها تحريرا وأعاد طرف الذكاء بها قريرا وكان منقطعا الى الموفق صاحب دانية وبها أدرك أمانيه ووجد تجرده للعلم وفراغه وتفرد بتلك الاراغة ولا سيما كتابة المسمى بالمحكم فإنه أبدع كتاب وأحكم ولما مات الموفق رائش جناحه ومثبت غرره وأوضاحه خاف من ابنه إقبال الدولة وأطاف به مكروها بعض من كان حوله إذ أهل الطلب كحيات مساورة ففر الى بعض الأعمال المجاورة وكتب إليه منها مستعطفا
( ألا هل الى تقبيل راحتك اليمنى ... سبيل فإن الأمن فى ذاك واليمنا )
( فتنضى هموم طلحته خطوبها ... ولا غاربا يبقين منه ولا متنا )
( غريب نأى أهلوه عنه وشفه ... هواهم فأمسى لايقر ولا يهنا )
( فيا ملك الأملاك إنى محلأ ... عن الورد لا عنه أذاد ولا أدنى )
( تحققت مكروها فأقبلت شاكيا ... لعمري أمأذون لعبدك أن يعنى )
( وإن تتأكد في دمي لك نية ... فإني سيف لا أحب له جفنا )
( إذا ماغدا من حر سيفك باردا ... فقدما غدا من برد نعماكم سخنا )
( وهل هي إلا ساعة ثم بعدها ... ستقرع ماعمرت من ندم سنا )

( ومالي من دهري حياة ألذها ... فتجعلها نعمى علي وتمتنا )
( إذا ميتة أرضتك عنا فهاتها ... حبيب إلينا مارضيت به عنا )
4 - وقال الفقيه أبومحمد غانم بن الوليد الأندلسي المخزومي المالقي
( صير فؤادك للمحبوب منزلة ... سم الخياط مجال للمحبين )
( ولا تسامح بغيضا في معاشرة ... فقلما تسع الدنيا بغيضين )
وله
( الصبر أولى بوقار الفتى ... من قلق يهتك سترالوقار )
( من لزم الصبر على حالة ... كان على أيامه بالخيار )
وقال في المطمح فيه إنه عالم متفرس وفقيه مدرس وأستاذ متجرد وإمام لأهل الأندلس مجرد وأما الأدب فكان جل شرعته ورأس بغيته مع فضل وحسن طريقة وجد في جميع الأمور وحقيقة انتهى
5 - وقال المحدث الحافظ أبو عمر ابن عبدالبر يوصي ابنه بمقصورة
( تجاف عن الدنيا وهون لقدرها ... ووف سبيل الدين بالعروة الوثقى )

( وسارع بتقوى الله سرا وجهرة ... فلا ذمة أقوى هديت من التقوى )
( ولا تنس شكر الله فى كل نعمة ... يمن بها فالشكر مستجلب النعمى )
( فدع عنك ما لا حظ فيه لعاقل ... فإن طريق الحق أبلج لا يخفى )
( وشح بأيام بقين قلائل ... وعمر قصير لا يدوم ولا يبقى )
( ألم تر ان العمر يمضي موليا ... فجدته تبلى ومدته تفنى )
( نخوض ونلهو غفلة وجهالة ... وننشر أعمالا وأعمارنا تطوى )
( تواصلنا فيه الحوادث بالردى ... وتنتابنا فيه النوائب بالبلوى )
( عجبت لنفس تبصر الحق بينا ... لديها وتأبى أن تفارق ما تهوى )
( وتسعى لما فيه عليها مضرة ... وقد علمت أن سوف تجزى بما تسعى )
( ذنوبي أخشاها ولست بآيس ... وربي اهل أن يخاف وأن يرجى )
( وإن كان ربي غافرا ذنب من يشا ... فإني لا أدري أأكرم أم أخزى )
وقال فى المطمح الفقيه الإمام العالم الحافظ أبو عمر يوسف بن عبدالله بن عبدالبر إمام الأندلس وعالمها الذي التاحت به معالمها صحح المتن والسند وميز المرسل من المسند وفرق بين الموصول والقاطع وكسا الملة منه نور ساطع حصر الرواة وأحصى الضعفاء منهم والثقات وجد في تصحيح السقيم وجدد منه ماكان كالكهف والرقيم مع معلنات العلل وإرهاف ذلك العلل والتنبيه والتوقيف والإتقان والتثقيف وشرح المقفل واستدراك المغفل وله فنون هي للشريعة رتاج وفي مفرق الملة تاج أشهرت للحديث ظبى وفرعت لمعرفته ربى وهبت لتفهمه شمال وصبا وشفت منه وصبا وكان ثقة والأنفس على تفضيله متفقة وأما أدبه فلا تعبر

لجته ولاتدحض حجته وله شعر لم نجد منه إلا مانفث به أنفه وأقصى فيه عن معرفة فمن ذلك قوله وقد دخل اشبيلية فلم يلق فيها مبرة ولم يلق من أهلها تهلل أسرة فأقام بها حتى أخلقه مقامه وأطبقه اغتمامه فارتحل وقال
( تنكر من كنا نسر بقربه ... وعاد زعافا بعدما كان سلسلا )
( وحق لجار لم يوافقه جاره ... ولا لاءمته الدار أن يتحولا )
( بليت بحمص والمقام ببلدة ... طويلا لعمري مخلق يورث البلى )
( إذا هان حر عند قوم أتاهم ... ولم ينأ عنهم كان أعمى وأجهلا )
( ولم تضرب الأمثال إلا لعالم ... وما عوتب الإنسان إلا ليعقلا )
6 - وقال الفقيه أبوبكر ابن ابي الدوس
( إليك أبا يحيى مددت يد المنى ... وقدما غدت عن جود غيرك تقبض )
( وكانت كنوز العين يلمع بالدجى ... فلما دعاه الصبح لباه ينهض )
وقال في المطمح إنه من أبدع الناس خطا وأصحهم نقلا وضبطا اشتهر بالإقراء واقتصر بذلك على الأمراء ولم ينحط لسواهم ومطل الناس بذلك ولواهم وكان كثير التحول عظيم التجول لا يستقر في بلد ولا يستظهر على حرمانه بجلد فقذفته النوى وطردته عن كل ثوا ثم استقر آخر عمره بأغمات وبها مات وكان له شعر بديع يصونه أبدا ولا يمد به يدا أخبرني من دخل عليه بالمرية فرآه في غاية الإملاق وهو في ثياب أخلاق وقد توارى فى منزله توارى المذنب وقعد عن الناس قعود

مجتنب فلما علم ماهو فيه وترفعه عمن يجتديه عاتبه فى ذلك الاعتزال وآخذه حتى استنزله بفيض الاستنزال وقال له هلا كتبت الى المعتصم فما في ذلك ما يصم فكتب إليه إليك أبا يحيى مددت يد المنى البيتين انتهى
7 - وقال الفقيه القاضي الفاضل أبو الفضل ابن الأعلم حين أقلع وأناب وودع ذلك الجناب وتزهد وتنسك وتمسك من طاعة الله بما تمسك وتذكر يوما يتجرد من أمله وينفرد فيه بعمله
( الموت يشغل ذكره ... عن كل معلوم سواه )
( فاعمر له ربع ادكا رك ... فى العشية والغداه )
( واكحل به طرف اعتبا رك ... طول أيام الحياه )
( قبل ارتكاض النفس ما ... بين الترائب واللهاه )
( فيقال هذا جعفر ... رهن بما كسبت يداه )
( عصفت به ريح المنون ... فصيرته كما تراه )
( فضعوه فى أكفانه ... ودعوه يجني ماجناه )
( وتمتعوا بمتاعه ... المخزون واحووا ماحواه )
( يا منظرا مستبشعا ... بلغ الكتاب به مداه )
( لقيت فيه بشارة ... تشفي فؤادي من جواه )
( ولقيت بعدك خير من ... نباه ربي واجتباه )
( في دار خفض ما اشتهت ... نفس المقيم بها اتاه )
وقال في المطمح إنه كهل الطريقة وفتى الحقيقة تدرع الصيانة

وبرع فى الروع والديانة وتماسك عن الدنيا عفافا وما تماسك التماسا بأهلها والتفافا فاعتقل النهى وتنقل فى مراتبها حتى استقر فيها في السها وعطل أيام الشباب ومطل فيها سعاد وزينب والرباب إلا ساعات وقفها على المدام وعطفها الى الندام حتى تخلى عن ذلك واترك وأدرك من المعلومات ما أدرك وتعرى من الشبهات وسرى الى الرشد مستيقظا من تلك السنات وله تصرف في شتى الفنون وتقدم فى معرفة المفروض والمسنون وأما الأدب فلم يجاره في ميدانه أحد ولا استولى على إحسانه فيه حصر ولا حد وجده أبو الحجاج الأعلم هو خلد منه ما خلد ومنه تقلد ما تقلد وقد أثبت لأبي الفضل هذا ما يسقيك ماء الإحسان زلالا ويريك سحر البيان حلالا فمن ذلك ماكتب به الي وقد مررت على شنت مرية بعدما رحل عنها وانتقل واعتقل من نوانا وبيننا ما عتقل وشنت مرية هذه داره وبها كمل هلاله وإبداره وفيها استقضي وشيم مضاؤه وانتضي فالتقينا بها على ظهر وتعاطينا ذكر ذلك الدهر فجددت من شوقه ماكان قد شب عن طوقه فرامني على الإقامة وسامني على ذلك بكل كرامة فأبيت إلا النوى وانثنيت عن الثوا فودعني ودفع الي تلك القطعة حين شيعني
( بشراي أطلعت السعود على ... آفاق أنسي بدرها كملا )
( وكسا أديم الأرض منه سنا ... فكست بسائطها به حللا )
( إيه أبا نصر وكم زمن ... قصر ادكارك عندي الأملا )
( هل تذكرن والعهد يخجلني ... هل تذكرن أيامنا الأولا )
( أيام نعثر فى أعنتنا ... ونجر من أبرادنا خيلا )
( ونحل روض الأنس مؤتنفا ... وتحل شمس مرادنا الحملا )

( ونرى ليالينا مساعفة ... تدعو إلينا رفقنا الجفلى )
( زمن نقول على تذكره ... ماتم حتى قيل قد رحلا )
( عرضت لزورتكم وماعرضت ... إلا لتمحق كل ما فعلا )
ووافيته عشية من العشايا أيام ائتلافنا وعودنا إلى مجلس الطلب واختلافنا فرأيته مستشرقا متطلعا يرتاد موضعا يقيم به لثغور الأنس مرتشفا ولثديه مرتضعا فحين مقلني تقلدني إليه واعتقلني وملنا إلى روضة قد سندس الربيع في بساطها ودبج الزهر درانك أوساطها وأشعرت النفوس فيها بسرورها وانبساطها فأقمنا بها نتعاطى كؤوس أخبار ونتهادى أحاديث جهابذة وأحبار إلى أن نثر زعفران العشي وأذهب الأنس خوف العالم الوحشي فقمت وقام وعوج الرعب من ألسنتنا ماكان استقام وقال
( وعشية كالسيف إلا وحده ... بسط الربيع بها لنعلي خده )
( عاطيت كأس الأنس فيها واحدا ... ماضره أن كان جمعا وحده )
وتنزه يوما بحديقة من حدائق الحضرة قد اطرد نهرها وتوقد زهرها والريح يسقطه فينظم بلبة الماء ويتبسم به فتخاله كصفحة خضرة السماء فقال
( انظر إلى الأزهار كيف تطلعت ... بسماوة الروض المجود نجوما )
( وتساقطت فكأن مسترقا دنا ... للسمع فانقضت عليه رجوما )
( وإلى مسيل الماء قد رقمت به ... صنع الرياح من الحباب رقوما )
( ترمي الرياح لها نثيرا زهره ... فتمده في شاطئيه رقيما )
وله يصف قلم يراعة وبرع في صفته أعظم براعة

( ومهفهف ذلق صليب المكسر ... سبب لنيل المطلب المتعذر )
( متألق تنبيك صفرة لونه ... بقديم صحبته لآل الأصفر )
( ماضره أن كان كعب براعة ... بوحكمة اطردت كعوب السمهري )
وله عندما شارف الكهولة واستأنف قطع صرة كانت موصولة
( أما أنا فقد ارعويت عن الصبا ... وعضضت من ندم عليه بناني )
( فأطعت نصاحي ورب نصيحة ... جاءوا بها فلججت في العصيان )
( أيام أسحب من ذيول شبيبتي ... مرحا وأعثر في فضول عناني )
( وأجل كأسي أن ترى موضوعة ... فعلى يدي أو في يدي ندماني )
( أيام أحيا بالغواني والغنا ... وأموت بين الراح والريحان )
( في فتية فرضوا اتصال هواهم ... فمناهم دن من الأدنان )
( هزت علاهم أريحيات الصبا ... فهي النسيم وهم غصون البان )
( من كل مخلوع الأعنة لم يبل ... في غيه بمصارف الأزمان )
إلى أن قال ومن نثره يصف فرسا انظر إليه سليم الأديم كريم القديم كأنما نشأ بين الغبراء واليحموم نجم إذا بدا ووهم إذا عدا يستقبل بغزال ويستدبر برال ويتحلى بشيات تقسيمات الجمال
وله يصف سرجا بزة جياد ومركب أجواد جميل الظاهر رحيب مابين القادمة ولآخر كأنما قد من الخدود أديمة واختص بإتقان الحبك تقويمه
وله في وصف لجام متناسب الأشلاء صر يح الانتماء الى ثريا السماء فكله نكال وسائره جمال
وله في وصف رمح مطرد الكعوب صحيح اتصال الغالب والمغلوب أخ ينوب كلما استنيب ويصيب
وله في وصف قميص كافوري الأديم بابلي الرسوم تباشر منه الجسوم ما يباشر الروض من النسيم
وله في وصف بغل مقرف النسب مستخبر الشرف آمن الكبب إن ركب امتنع اعتماله أو ركب استقل به أخواله
وله في وصف حمار وثيق المفاصل عتيق النهضة إذا ونت المراسل انتهى ببعض اختصار
8 - وقال الأديب الشاعر أبو عمر يوسف بن هرون الكندي المعروف بالرمادي
( اومى لتقبيل البساط خنوعا ... فوضعت خدي في التراب خضوعا )
( ماكان مذهبه الخنوع لعبده ... إلا زيادة قلبه تقطيعا )
( قولوا لمن أخذ الفؤاد مسلما ... يمين علي برده مصدوعا )
( العبد قد يعصي وأحلف أنني ... ماكنت إلا سامعا ومطيعا )
( مولاي يحيى في حياة كاسمه ... وأنا أموت صبابة وولوعا )
( لا تنكروا غيث الدموع فكل ما ... ينحل من جسمي يكون دموعا )
والرمادي المذكور عرف به غير واحد منهم الحافظ أبو عبدالله الحميدى فى كتابه جذوة المقتبس وقال أظن أن احدا آبائه كان من أهل الرمادة وهي موضع بالمغرب وهو قرطبي كثير الشعر سريع القول مشهور عند

وله في وصف رمح مطرد الكعوب صحيح اتصال الغالب والمغلوب أخ ينوب كلما استنيب ويصيب
وله في وصف قميص كافوري الأديم بابلي الرسوم تباشر منه الجسوم ما يباشر الروض من النسيم
وله في وصف بغل مقرف النسب مستخبر الشرف آمن الكبب إن ركب امتنع اعتماله أو ركب استقل به أخواله
وله في وصف حمار وثيق المفاصل عتيق النهضة إذا ونت المراسل انتهى ببعض اختصار
8 - وقال الأديب الشاعر أبو عمر يوسف بن هرون الكندي المعروف بالرمادي
( اومى لتقبيل البساط خنوعا ... فوضعت خدي في التراب خضوعا )
( ماكان مذهبه الخنوع لعبده ... إلا زيادة قلبه تقطيعا )
( قولوا لمن أخذ الفؤاد مسلما ... يمنن علي برده مصدوعا )
( العبد قد يعصي وأحلف أنني ... ماكنت إلا سامعا ومطيعا )
( مولاي يحيى في حياة كاسمه ... وأنا أموت صبابة وولوعا )
( لا تنكروا غيث الدموع فكل ما ... ينحل من جسمي يكون دموعا )
والرمادي المذكور عرف به غير واحد منهم الحافظ أبو عبدالله الحميدى فى كتابه جذوة المقتبس وقال أظن أن احد آبائه كان من أهل الرمادة وهي موضع بالمغرب وهو قرطبي كثير الشعر سريع القول مشهور عند

الخاصة والعامة هنالك لسلوكه في فنون من المنظوم والمنثور مسالك حتى كان كثير من شيوخ الأدب في وقته يقولون فتح الشعر بكندة وختم بكندة يعنون امرأ القيس والمتنبي ويوسف بن هرون على أن في كون المتنبي من كندة القبيلة كلاما مشهورا
وأخذ أبو عمر ابن عبدالبر عن الرمادي هذا قطعة من شعره وضمنها بعض تأليفه
قال ابن حيان توفي الرمادي سنة 403 وذكر ابن سعيد في المغرب أن الرمادي اكتسب صناعة الأدب من شيخة أبي بكر يحيى بن هذيل الكفيف عالم أدباء الأندلس وهو القائل رحمه الله تعالى
( لا تلمني على الوقوف بدار ... أهلها صيروا السقام ضجيعي )
( جعلوا لي الى هواهم سبيلا ... ثم سدوا علي باب الرجوع )
وروى الرمادي عن أبي علي كتاب النوادر ومدح أبا علي بقصيدة كما أشرنا إليه في غير هذا الموضع
وقال في المطمح إنه شاعر مفلق انفرج له من الصناعة المغلق وومض له برقها المؤتلق وسال بها طبعه كالماء المندفق فاجمع على تفضيله المختلف والمتفق فتارة يحزن وأخرى يسهل وفى كلتيهما بالبديع يعل وينهل فاشتهر عند الخاصة والعامة بانطباعه فى الفريقين وإبداعه في الطريقين وكان هو وأبو الطيب متعاصرين وعلى الصناعة متغايرين وكلاهما من كندة وما منهما إلا من اقتدح في الإحسان زنده وتمادى بأبي عمر طلق العمر حتى أفرده صاحبه ونديمه وهريق شبابه واستشن أديمه

ففارق تلك الأيام وبهجتها وأدرك الفتنة فخاض لجتها وأقام فرقا من هيجانها شرقا بأشجانها ولحقته فيها فاقة نهكته وبعدت عنه الإفاقة حتى أهلكته وقد أثبت من محاسنه ما يعجبك سرده ولا يمكنك نقده فمن ذلك قوله
( شطت نواهم بشمس في هوادجهم ... لولا تلألؤها في ليلهن عشوا )
( شكت محاسنها عيني وقد غدرت ... لأنها بضمير القلب تنجمش )
( شعر ووجه تبارى في اختلافهما ... بحسن هذا وذاك الروم والحبش )
( شككت في سقمي منها أفي فرشي ... منها نكست وإلا الطيف والفرش )
الى أن قال وكان كلفا بفتى نصراني استسهل لباس زناره والخلود معه في ناره وخلع بروده لمسوحه وتسوغ الأخذ عن مسيحه وراح في بيعته وغدا من شيعته ولم يشرب نصيبه حتى حط عليه صليبه فقال
( أدرها مثل ريقك ثم صلب ... كعادتهم على وهمي وكاسي )
( فيقضى ما أمرت به اجتلابا ... لمسروري وزاد خضوع راسي )
وله في مثله
( ورأيت فوق النحر درعا ... فاقعا من زعفران )
( فزجرته لونا سقامي بالنوى والزجر شاني )
( يامن نأى عني ... كما تنأى العيون الفرقدان )
( فأرى بعيني الفرقدي ... ن ولا أراه ولا يراني )

( لا قدرت لك أوبة ... حتى يؤوب القارظان )
( هل ثم إلا الموت فردا ... لا تكون منيتان )
وله أيضا
( اشرب الكاس يانصير وهات ... إن هذا النهار من حسناتي )
( بأبي غرة ترى الشخص فيها ... في صفاء أصفى من المرآة )
( تنزع الناس نحوها بازدحام ... كازدحام الحجيج في عرفات )
( هاتها يا نصير إنا اجتمعنا ... بقلوب فى الدين مختلفات )
( إنما نحن في مجالس لهو ... نشرب الراح ثم أنت مواتي )
( فإذا ما انقضت دنانة ذا اللهو ... اعتمدنا مواضع الصلوات )
( لو مضى الدهر دون راح وقصف ... لعددنا هذا من السيئات )
وشاعت عنه أشعار فى دولة الخلافة وأهلها سدد اليهم صائبات نبلها وسقاهم كؤوس نهلها أوغرت عليه الصدور ونفرت عليه المنايا ولكن لم يساعدها المقدور فسجنه الخليفة دهرا وأسكنه من النكبة وعرا فاستعطفه أثناء ذلك واستلطفه وأجناه كل زهر من الإحسان وأقطفه فما أصغى اليه ولا ألغى موجدته عليه وله في السجن أشعار صرح فيها ببثه وأفصح فيها عن جل الخطب لفقد صبره ونكثه فمن ذلك قوله
( لك الأمن من شجو يزيد تشوقي )

ومنها
( فوافوا بنا الزهراء في حال خالع الأئمة ... لاستيفائهم في التوثق )
( وحولي من أهل التأدب مأتم ... ولا جؤذر إلا بثوب مشقق )
( فلو أن في عيني الحمام كروضها ... وإن كان في ألوانه غير مشفق )
( ونادى حمامي مهجتي لتقلقلت ... فهلا أجابت وهو عندي لمحنق )
( أعيني إن كانت لدمعي فضلة ... تثبت صبري ساعة فتدفقي )
( فلو ساعدت قالت أمن عدة الأسى ... تنقت دمومي أم من البحر تستقي )
ومنها
( وقالت تظن الدهر يجمع بيننا ... فقلت لها من لي بظن محقق )
( ولكنني فيما زجرت بمقلتي ... زجرت اجتماع الشمل بعد التفرق )
( فقد كانت الأشفار في مثل بعدنا ... فلما التقت بالطيف قالت سنلتقي )
( أباكية يوما ولم يأت وقته ... سينفد قبل اليوم دمعك فارفقي )
إلي أن قال وله أيضا
( على كبري تهمي السحاب وتذرف ... ومن جزعي تبكي الحمام وتهتف )
( كأن السحاب الواكفات غواسلي ... وتلك على فقدي نوائح هتف )
( ألا ظعنت ليلى وبان قطينها ... ولكنني باق فلوموا وعنفوا )
( وآنست فى وجه الصباح لبينها ... نحولا كأن الصبح مثلي مدنف )
( وأقرب عهد رشفة بلت الحشا ... فعاد شتاء باردا وهو صيف )
( وكانت على خوف فولت كأنها ... من الردف في قيد الخلاخل ترسف )

وله
( قبلته قدام قسيسه ... شربت كاسات بتقديسه )
( يقرع قلبي عند ذكري له ... من فرط شوقي قرع ناقوسه )
وسجن معه غلام من أولاد العبيد فيه مجال وفي نفس متأملة من لوعته أوجال فكتب يخاطب الموكل بالسجن بقطعة منها
( جليسك ممن أتلف الحب قلبه ... ويلذع قلبي حرقة دونها الجمر )
( هلال وفي غير السماء طلوعه ... وريم ولكن ليس مسكنه القفر )
( تأملت عينيه فخامرني السكر ... ولا شك في أن العيون هي الخمر )
( أناطقه كيما يقول وإنما ... أناطقه عمدا لينتثر الدر )
( أنا عبده وهو المليك كما اسمه ... فلي منه شطر كامل وله شطر )
انتهى باختصار
9 - وقال محمد بن هانىء
( قد مررنا على مغانيك تلك ... فرأينا بها مشابه منك )
( عارضتنا المها الخواذل سربا ... عند أجراعها فلم نسل عنك )
( لا يرع للمها بذكرك سرب ... أشبهتك فى الوصف إن لم تكنك )
( كن عذيرى لقد رأيت معاجي ... يوم تبكي بالجزع ولهى وأبكي )
( بحنين مرجع وتشك ... وأنين موجع كتشكي )
وقال صاحب المطمح في حقه الأديب أبو القاسم محمد بن هانىء ذخر

خطير وروض أدب مطير غاص في طلب الغريب حتى أخرج دره المكنون وبهرج بافتنانه فيه كل الفنون وله نظم تتمنى الثريا أن تتوج به وتتقلد ويود البدر أن يكتب ما اخترع فيه وولد زهت به الأندلس وتاهت وحاسنت ببدائعه الأشمس وباهت فحسد المغرب فيه المشرق وغص به من بالعراق وشرق غير أنه نبت به أكنافها وشمخت عليه آنافها وبرئت منه وزويت الخيرات فيها عنه لأنه سلك مسلك المعري وتجرد من التدين وعري وأبدى الغلو وتعدى الحق المجلو فمجته الأنفس وأزعجته الأندلس فخرج على غير اختيار وما عرج على هذه الديار إلى أن وصل الزاب واتصل بجعفر ابن الأندلسية مأوى تلك الجنسية فناهيك من سعد ورد عليه فكرع ومن باب ولج فيه وماقرع فاسترجع عنده شبابه وانتجع وبله وربابه وتلقاه بتأهيل ورحب وسقاه صوب تلك السحب فأفرط فى مدحه فيه في الغلو وزاد وفرغ عنده تلك المزاد ولم يتورع ولا ثناه ذو ورع وله بدائع يتحير فيها ويحار ويخال لرقتها أنها أسحار فإنه اعتمد التهذيب والتحرير واتبع في اغراضه الفرزدق مع جرير وأما تشبيهاته فخرق فيها المعتاد وما شاء منها اقتاد وقد أثبت له ما تحن له الأسماع ولا تتمكن منه الأطماع فمن ذلك قوله
( أليلتنا إذ أرسلت واردا وحفا ... وبتنا نرى الجوزاء فى أذنها شنفا )
( وبات لنا ساق يقوم على الدجى ... بشمعة صبح لا تقط ولا تطفا )
( أغن غضيض خفف اللين قده ... وثقلت الصهباء أجفانه الوطفا )
( ولم يبق إرعاش المدام له يدا ... ولم يبق إعنات التثني له عطفا )
( نزيف نضاه السكر إلا ارتجاجة ... إذا كل عنها الخصر حملها الردفا )
( يقولون حقف فوقه خيزرانة ... أما يعرفون الخيزرانة والحقفا )
( جعلنا حشايانا ثياب مدامنا ... وقدت لنا الأزهار من جلدها لحفا )

( فمن كبد توحي الى كبد هوى ... ومن شفة تومي الى شفة رشفا )
ومنها
( كأن السماكين اللذين تراهما ... على لبدتيه ضامنان له حتفا )
( فذا رامح يهوي إليه سنانه ... وذا أعزل قد عض أنمله لهفا )
( كأن سهيلا فى مطالع أفقه ... مفارق إلف لم يجد بعده إلفا )
( كأن بني نعش ونعشا مطافل ... بوجرة قد أضللن في مهمة خشفا )
( كأن سهاها عاشق بين عود ... فآونة يبدو وآونة يخفى )
( كأن قدامى النسر والنسر واقع ... قصصن فلم تسم الخوافي له ضعفا )
( كأن أخاه حين حوم طائر ... أتى دون نصف البدر فاختطف النصفا )
( كأن ظلام الليل إذ مال ميلة ... صريع مدام بات يشربها صرفا )
( كأن عمود الصبح خاقان معشر ... من الترك نادى بالنجاشي فاستخفى )
( كأن لواء الشمس غرة جعفر ... رأى القرن فازدادت طلاقته ضعفا )
وله أيضا
( فتقت لكم ريح الجلاد بعنبر ... وأمدكم فلق الصباح المسفر )
( وجنيتم ثمر الوقائع يانعا ... بالنصر من علق الحديد الأحمر )
( أبني العوالي السمهرية وزالسيوف ... المشرفية والعديد الأكثر )
( من منكم الملك المطاع كأنه ... تحت السوابغ تبع في حمير )
( جيش تعد له الليوث وفوقها ... كالغيل من قصب الوشيج الأخضر )
( وكأنما سلب القشاعم ريشها ... مما يشق من العجاج الأكدر )
( لحق القبول مع الدبور وسار في ... جمع الهرقل وعزمة الإسكندر )

( في فتية صدأ الحديد لباسهم ... في عبقري البيض جنة عبقر )
( وكفاه من حب السماحة أنه ... منها بموضع مقلة من محجر )
ومنها
( نعماؤه من رحمة ولباسه ... من جنة وعطاؤه من كوثر )
وله أيضا من قصيدة في جعفر بن علي
( ألا أيها الوادي المقدس بالندى ... وأهل الندى قلبي اليك مشوق )
( ويا أيها القصر المنيف قبابه ... على الزاب لا يسدد إليك طريق )
( ويا ملك الزاب الرفيع عماده ... بقيت لجمع المجد وهو فريق )
( فما أنس لا أنس الأمير إذا غدا ... تروع بحورا فلكه وتروق )
( ولا الجود يجري من صفيحة وجهه ... إذا كان من ذاك الجبين شروق )
( وهزته للمجد حتى كأنما ... جرت في سجاياه العذاب رحيق )
( أما وأبي تلك الشمائل إنها ... دليل على أن النجار عتيق )
( فكيف بصبر النفس عنه ودونه ... من الأرض مغبر الفجاج عميق )
( فكن كيف شاء الناس أو شئت دائما ... فليس لهذا الملك غيرك فوق )
( ولا تشكر الدنيا على نيل رتبة ... فما نلتها إلا وأنت حقيق )
وله من أخرى
( خليلي أين الزاب مني وجعفر ... وجنات عدن بنت عنها وكوثر )
( فقبلي نأى عن جنة الخلد آدم ... فما راقه من جانب الأرض منظر )
( لقد سرني أني أمر بباله ... فيخبرني عنه بذلك مخبر )

( وقد ساءني أني أراه ببلدة ... بها منسك منه عظيم ومشعر )
( وقد كان لي منه شفيع مشفع ... به يمحص الله الذنوب ويغفر )
( أتى الناس افواجا إليك كأنما ... من الزاب بيت أو من الزاب محشر )
( فأنت لمن قد مزق الله شمله ... ومعشره والأهل أهل ومعشر )
وله أيضا
( ألا طرقتنا والنجوم ركود ... وفي الحي أيقاظ وهن هجود )
( وقد أعجل الفجر الملمع خطوها ... وفي أخريات الليل منه عمود )
( سرت عاطلا غضبى على الدر وحده ... ولم يدر نحر ما دهاه وجيد )
( فما برحت إلا ومن سلك أدمعي ... قلائد في لباتها وعقود )
( ويا حسنها في يوم نضت سوالفا ... تريع إلى أترابها وتحيد )
( ألم يأتها أنا كبرنا عن الصبا ... وأنا بلينا والزمان جديد )
( ولا كالليابي مالهن مواثق ... ولا كالغواني ما لهن عهود )
( ولا كالمعز ابن النبي خليفة ... له الله بالفخر المبين شهيد )
وله من قصيدة يمدح بها يحيى بن علي بن رمان
( قفا بي فلا مسرى سرينا ولا نسري ... وإلا نرى مشي القطا الوارد الكدر )
( قفا نتبين أين ذا البرق منهم ... ومن أين تأتي الريح طيبة النشر )
( لعل ثرى الوادي الذي كنت مرة ... أزورهم فيه تضوع للسفر )
( وإلا فما واد يسيل بعنبر وإلا فما تدري الركاب ولا ندري )
( أكل كناس بالصريم تظنه ... كناس الظباء الدعج والشدن العفر )
( وهل عجبوا أني أسائل عنهم ... وهم بين أحناء الجوانح والصدر )
( وهل علموا اني أيمم أرضهم ... ومالي بها غير التعسف من خبر )
( ولي سكن تأتي الحوادث دونه ... فيبعد عن عيني ويقرب من فكري )

( إذا ذكرته النفس جاشت بذكره ... كما عثر الساقي بجام من الخمر )
( فلا تسألالي عن زماني الذى خلا ... فوالعصر إني قبل يحيى لفي خسر )
( وآليت لا أعطي الزمان مقادتي ... على مثل يحيى ثم أغضي على الوتر )
( حنيني اليه ظاعنا ومخيما ... وليس حنين الطير إلا إلى الوكر )
وله من قصيدة
( فتكات طرفك ام سيوف أبيك ... وكؤوس خمرك أم مراشف فيك )
( أجلاد مرهفة وفتك محاجر ... لا أنت راحمة ولا اهلوك )
( يا بنت ذي السيف الطويل نجاده ... أكذا يجوز الحكم في ناديك )
( عيناك أم مغناك موعدنا على ... وادي الكرى ألقاك ام واديك )
وله أيضا
( أحبب بهاتيك القباب قبابا ... لا بالحداة ولا الركاب ركابا )
( فيها قلوب العاشقين تخالها ... عنما بأيدي البيض أو عنابا )
( والله لولا أن يعنفني الهوى ... ويقول بعض العاذلين تصابى )
( لكسرت دملجها بضيق عناقها ... ورشفت من فيها البرود رضابا )
( بنتم فلولا أن أغير لمتي ... عبثا وألقاكم علي غضابا )
( لخضبت شيبا في مفارق لمتي ... ومحوت محو النقس عنه شبابا )
( وخضبت مبيض الحداد عليكم )
( لوأنني أجد البياض خضابا )
( وإذا أردت على المشيب وفادة ... فاحثث مطيك دونه الأحقابا )
( فلتأخذن من الزمان حمامة ... ولتبعثن الى الزمان غرابا )
ومنها
( قد طيب الأقطار طيب ثنائه ... من أجل ذا نجد الثغور عذابا )
( لم تدنني أرض إليك وإنما ... جئت السماء ففتحت أبوابا )

( ورأيت حولي وفد كل قبيلة ... حتى توهمت العراق الزابا )
( أرض وطئت الدر من رضراضها ... والمسك تربا والرياض جنابا )
( ورأيت أجبل أرضها منقادة ... فحسبتها مدت إليك رقابا )
( سد الإمام بها الثغور وقبلها ... هزم النبي بقومك الأحزابا )
وقال ابن هانىء يصف الأسطول
( معطفة الأعناق نحومتونها ... كما نبهت أيدي الحواة الأفاعيا )
( إذا ما وردن الماء شوقا لبرده ... صدرن ولم يشربن غرفا صواديا )
( إذا أعملوا فيها المجاذيف سرعة ... ترى عقربا منها على الماء ماشيا )
10 - وقال الأديب أبو عمر احمد بن فرج الجياني رحمه الله تعالى
( وطائعة الوصال عدوت عنها ... وما الشيطان فيها بالمطاع )
( بدت فى الليل ساترة ظلام الدياجي ... منه سافرة القناع )
( وما من لحظة إلا وفيها ... إلى فتن القلوب لها دواعي )
( فملكت النهى جمحات شوقي ... لأجري بالعفاف على طباعي )
( وبت بها مبيت الطفل يظما ... فيمنعه الفطام عن الرضاع )
( كذاك الروض ليس به لمثلي ... سوى نظر وشم من متاع )
( ولست من السوائم مهملات ... فأتخذ الرياض من المراعي )
وقال
( للروض حسن فقف عليه ... واصرف عنان الهوى إليه )

( أما ترى نرجسا نضيرا ... يرنو إليه بمقلتيه )
( نشر حبيبي على رباه ... وصفرتي فوق وجنتيه )
وقال
( بمهلكة يستهلك الحمد عفوها ... ويترك شمل العزم وهو مبدد )
( ترى عاصف الأرواح فيها كأنها ... من الأين تمشي ظالع أو مقيد )
وقال فيه في المطمح محرز الخصل مبرز فى كل معنى وفصل متميز بالإحسان منتم الى فئة البيان ذكي الخلد مع قوة العارضة والمنة الناهضة حضر مجلس بعض القضاة وكان مشتهر الضبط منتهرا لمن انبسط فيه بعض البسط حتى إن اهله لا يتكلمون فيه الا رمزا ولا يخاطبون إلا ايماء فلا تسمع لهم ركزا فكلم فيه خصما له كلاما استطال به عليه لفضل بيانه وطلاقة لسانه ففارق عادة المجلس في رفض الأنفة وخفض الحجة المؤتنفة وهز عطفه وحسر عن ساعده وأشار بيده مادا بها لوجه خصمه خارجا عن حد المجلس ورسمه فهم الأعوان بتقويمه وتثقيفه ووزعهم رهبة منه وخشية حتى تناوله القاضي بنفسه قوال له مهلا عافاك الله اخفض صوتك واقبض يدك ولا تفارق مركزك ولا تعد حقك وأقصر عن ادلالك فقال له مهلا يا قاضي أمن المخدرات انا فاخفض صوتي وأستر يدي وأغطي معاصمي لديك ام من الأنبياء انت فلا يجهر بالقول عندك وذلك لم يجعله الله تعالى إلا لرسوله لقول الله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي

الى قوله ( لا تشعرون ) الحجرات 2 ولست به ولا كرامة وقد ذكر الله تعالى ان النفوس تجادل في القيامة في موقف الهول الذي لا يعد له مقام ولا يشبه انتقامه انتقام فقال تعالى ( يوم تاتي كل نفس تجادل عن نفسها ) الى قوله تعالى ( وهم لا يظلمون ) النحل 111 لقد تعديت طورك وعلوت فى منزلك وانما البيان بعبارة اللسان وبالنطق يستبين الحق من الباطل ولابد في الخصام من إفصاح الكلام وقام وانصرف فبهت القاضي ولم يحر جوابا وكان في الدولة صدرا من اعيانها وناسق درر تبيانها ونفق فى سوقها وصنف وقرط محاسنها وشنف وله الكتاب الرائق المسمى بالحدائق وأدركه فى الدولة سعي ورفض له فيها الرعي واعتقله الخليفة وأوثقه في مكان أخيه فلم يومض له عفو ولم يشب كدر حاله صفو حتى قضى معتقلا ونعي للنائبات نعيا مثكلا وله فى السجن أشعار كثيرة وأقوال مبدعات منيرة فمن ذلك ما انشده ابن حزم يصف خيالا طرقة بعدما أسهره الوجد وأرقه
( بأيهما انا في الشكر بادي ... بشكر الطيف ام شكر الرقاد )
( سرى وازداد في أملي ولكن ... عففت فلم أجد منه مرادي )
( وأما في النوم من حرج ولكن ... جريت من العفاف على اعتيادي
11 - وقال الشاعر المشهور أبو عبدالله محمد بن الحداد
( ياغائبا خطرات القلب محضرة ... الصبر بعدك شيء لست أقدره )
( تركت قلبي وأشواقي تفطره ... ودمع عيني وأحداقي تحدره )
( لو كنت تبصر في تدمير حالتنا ... إذن لأشفقت مما كنت تبصره )

( فالعين دونك لا تحلى بلذتها ... والدهر بعدك لا يصفو تكدره )
( أخفي اشتياقي وما أطويه من أسف ... عن البرية والأنفاس تظهره )
قال في المطمح هو شاعر مادح وعلى أيك الندى صادح لم ينطقه إلا معن أو صمادح فلم يرم مثواهما ولم ينتجع سواهما واقتصر على المرية واختصر قطع المهامه وخوض البرية فعكف فيها ينثر درره في ذلك المنتدى ويرشف أبدا ثغور ذلك الندى مع تميزه بالعلم وتحيزه الى فئة الوقار والحلم وانتمائه الى آية سلف ومذهبه مذاهب أهل الشرف وكان له لسن ورواء يشهدان له بالنباهة ويقلدان كاهله ماشاء من الوجاهة وقد أثبت له بعض ما قذفه من درره وفاه به من محاسن غرره فمن ذلك قوله
( إلى الموت رجعى بعد حين فإن أمت ... فقد خلدت خلد الزمان مناقبي )
( وذكري فى الآفاق طار كانه ... بكل لسان طيب عذراء كاعب )
( ففي أي علم لم تبرز سوابقي ... وفي أي فن لم تبرز كتائبي )
وحضر مجلس المعتصم بحضور ابن اللبانة فأنشد فيه قصيدا أبرز به من عرى الإحسان مالم ينفصم واستمر فيها يستكمل بدائعها وقوافيها فإذا هو قد أغار على قصيد ابن الحداد الذي أوله
( عج بالحمى حيث الظباء العين )
فقال ابن الحداد مرتجلا
( حاشا لعدلك يا ابن معن أن يرى ... في سلك غيري دري المكنون )

( وإليكها تشكو استلاب مطيها ... عج بالحمى حيث الظباء العين )
( فاحكم لها واقطع لسانا لا يدا ... فلسان من سرق القريض يمين )
وله
( إن المدامع والزفير ... قد أعلنا مافي الضمير )
( فعلام أخفي ظاهرا ... سقمي علي به ظهير )
( هب لي الرضى من ساخط ... قلبي بساحته الأسير )
وله أيضا
( أيها الواصل هجري ... أنا في هجران صبري )
( ليت شعري أي نفع ... لك في ادمان ضري )
وله أيضا
( يا مشبه الملك الجعدي تسمية ... ومخجل القمر البدري أنوارا )
وله
( تطالبني نفسي بما فيه صونها ... فأعصي ويسطو شوقها فأطيعها )
( ووالله مايخفي علي ضلالها ... ولكنها تهوي فلا أستطيعها )
وقال
( بخافقه القرطين قلبك خافق ... وعن خرس القلبين دمعك ناطق )
( وفي مشرق الصدغين للبدر مغرب ... وللفكر حالات وللعين شارق )
( وبين حصى الياقوت ماء وسامة ... محلأة عنه الظباء السوابق )

( وحشو قباب الرقم أحوى مقرطق ... كما آس روض عطفه والقراطق )
انتهى باختصار
12 - وقال الأسعد بن بليطة
( برامة ريم زارني بعدما شطا ... تقنصته بالحلم في الشط فاشتطا )
( رعى من أفانين الهوى ثمر الحشا ... جنيا ولم يرع العهود ولا الشرطا )
( خيال لمرقوم غرير برامة ... تأوبني بالرقمتين لدى الأرطى )
( فأكسبني من خدها روضة الجنى ... وألدغني من صدغها حية رقطا )
( وباتت ذراعاها نجادا لعاتقي ... إذا ما التقاها الحلي غنى لها لغطا )
( وسل اهتصاري غصنها من مخصر ... طواه الضنى طي الطوامير فامتطا )
( وقد غاب كحل الليل في دمع فجره ... إلى أن تبدى الصبح في اللمة الشمطا )
ومنها في وصف الديك
( وقام لها ينعى الدجى ذو شقيقة ... يدير لنا من عين أجفانه سقطا )
( إذا صاح أصغى سمعه لأذانه ... وبادر ضربا من قوادمه الإبطا )
( كأن أنوشروان أعلاه تاجه ... وناطت عليه كف مارية القرطا )
( سبى حلة الطاووس حسن لباسها ... ولم يكفه حتى سبى المشية البطا )
ومن غزلها
( غلامية جاءت وقد جعل الدجى ... لخاتم فيها فص غالية خطا )
( فقلت أحاجيها بما في جفونها ... وما في الشفاه اللعس من حسنها المعطى )
( محيرة العينين من غير سكرة ... متى شربت ألحاظ عينيك إسفنطا )

( أرى نكهة المسواك في حمرة اللمى ... وشاربك المخضر بالمسك قد خطا )
( عسى قزح قبلته فإخاله ... على الشفة اللمياء قد جاء مختطا )
وقال في المطمح في تحلية الأسعد إنه سرد البدائع أحسن السرد وافترس المعاني كالأسد الورد وأبرز درر المحاسن من صدفها وحاز من بحر الإجادة وشرفها ومدح ملوكا طوقهم من مدائحه قلائد وزف إليهم منها خرائد وجلاها عليهم كواعب بالألباب لواعب فأسالت العوارف وماتقلص له من الحظوة ظل وارف وقد أثبت له مايعترف بحقه ويعرف به مقدار سبقه فمن ذلك قوله
( لو كنت شاهدنا عشية أمسنا ... والمزن يبكينا بعيني مذنب )
( والشمس قد مدت أديم شعاعها ... في الارض تجنح غير ان لم تغرب )
وقوله
وتلذ تعذبني كأنك خلتني ... عودا فليس يطيب مالم يحرق )
وهو مأخوذ من قول ابن زيدون
( تظنونني كالعود حقا وإنما ... تطيب لكم أنفاسه حين يحرق )
انتهى ببعض اختصار
13 - وقال الأديب أبو بكر عبادة بن ماء السماء وهو كما في المطمح من فحول الشعراء وأئمتهم الكبراء وكان منتجعا بشعره مسترجعا من صروف دهره وكانت له همة أطالت همه وأكثرت كمده وغمه

( يؤرقني الليل الذي أنا نائمه ... فتجهل ما ألقى وطرفك عالمه )
( وفي الهودج المرقوم وجه طوى الحشا ... على الحزن فيه الحسن قد حار راقمه )
( إذا شاء وقفا أرسل الحسن فرعه ... يضلهم عن منهج القصد فاحمه )
( أظلما رأوا تقليده الدر أم زروا ... بتلك اللآلي أنهن تمائمه )
14 - وقال الأديب أبوعبدالله ابن عائشة في فتى طرزت غلالة خده وركب من عارضه سنان على صعدة قده
( إذا كنت تهوى خده وهو روضة ... به الورد غض والأقاح مفلج )
( فزد كلفا فيه وفرط صبابة ... فقد زيد فيه من عذار بنفسج )
وحلاه في المطمح بأن قال اشتهر صونا وعفافا ولم يخطب بعقيلة حضرة زفافا فآثر انقباضا وسكونا واعتمد إليها ركونا إلى أن أنهضه أمير المسلمين إلى بساطه فهب من مرقد خموله وشب لبلوغ مأموله فبدا منه في الحال انزواء في تسنم تلك الرسوم والتواء وقعود عن مراتب الأعلام وجمود لا يحمد فيه ولا يلام إلا أن أمير المسلمين ألقى عليه منه محبه جلبت إليه مسرى الظهور ومهبه وكان له أدب واسع المدى يانع كالزهر بلله الندى ونظم مشرق الصفحة عبق النفحة إلا أنه قليلا ماكان يحل ربعه ويذيل له طبعه وقد أثبت له منه مايدع الألباب حائرة والقلوب إليه طائرة فمن ذلك قوله في ليلة سمحت له بفتى كان يهواه ونفحت له هبة وصل بردت جواه
( لله ليل بات عندي به ... طوع يدي من مهجتي في يديه )
( وبت أسقيه كؤوس الطلا ... ولم أزل أسهر شوقا إليه )
( عاطيته حمراء ممزوجة ... كأنها تعصر من وجنتيه )

وخرج من بلنسية يوما الى منية الوزير الأجل أبي بكر ابن عبدالعزيز وهي من أبدع منازل الدنيا وقد مدت عليها أدواحها الأفيا وأهدت إليها أزهارها العرف والريا والنهر قد غص بمائه والروض قد خص بمثل أنجم سمائه وكانت لبني عبدالعزيز فيها أطراب تهيأ لهم فيها من الأيام آراب فلبسوا فيها الأشر حتى أبلوه ونشروا فيها الأنس وطووه أيام كانوا بذلك الأفق طلوعا لم تضم عليهم النوب ضلوعا فقعد أبوعبدالله مع لمة من الأدباء تحت دوحة من أدواحها فهبت ريح أنس من أرواحها سطت بإعصارها وأسقطت لؤلؤها على باسم أزهارها فقال
( ودوحة قد علت سماء ... تطلع أزهارها نجوما )
( هفا نسيم الصبا عليها ... فأرسلت فوقنا رجوما )
( كأنما الجو غار لما ... بدت فأغرى بها النسيما )
وكان في زمان عطلته ووقت اصفراره وعلته ومقاساته من العيش أنكده ومن التخوف أجهده كثيرا ما ينشرح بجزيرة شقر ويستريح ويستطيب تلك الريح ويجول في أجارع واديها وينتقل من نواديها إلي بواديها فإنها صحيحة الهواء قليلة الأدواء خضلة العشب والأزاهر قد أحاط بها نهرها كما تحيط بالمعاصم الأساور والأيك قد نشرت ذوائبها على صفيحة والروض قد عطر جوانبه بريحه وأبو إسحاق ابن خفاجة هو كان منزع نفسه ومصرع أنسه نفح له بالمنى عبق وشذا ومسح عن عيون مسراته القذى وغدا على ما كان وراح وجرى متهافتا في ميدان ذلك المراح قريب عهد بالفطام ودهره ينقاد في خطام فلما اشتعل رأسه شيبا وزرت عليه الكهولة جيبا أقصر عن تلك الهنات واستيقظ من تلك السنات وشب

عن ذلك الطوق وأقصر عن الهوى والشوق وقنع بأدنى تحية وما يستشعره في وصف تلك العهاد من أريحية فقال
( ألا خلياني والأسى والقوافيا ... أرددها شجوي وأجهش باكيا )
( أآمن شخصا للمسرة باديا ... وأندب رسما للشبيبة باليا )
( تولى الصبا إلا توالي فكرة ... قدحت بها زندا وما زلت واريا )
( وقد بان حلو العيش إلا تعلة ... تحدثني عنها الأماني خاليا )
( ويابرد هذا الماء هل منك قطرة ... تهل فيستسقى غمامك صاديا )
( وهيهات حالت دون حزوى وأهلها ... ليال وأيام تخال اللياليا )
( فقل في كبير عاده صائد الظبا ... إليهن مهتاجا وقد كان ساليا )
( فيا راكبا يستعمل الخطو قاصدا ... ألا عج بشقر رائحا أو مغاديا )
( وقف حيث سال النهر ينساب أرقما ... وهب نسيم الأيك ينفث راقيا )
( وقل لأثيلات هناك وأجرع ... سقيت أثيلات وحييت واديا )
انتهى ببعض اختصار
وابن عائشة أشهر من أن يطال في أمره وليس الخبر كالعيان
523 - وقال أبو عمرو يزيد بن عبدالله بن أبي خالد اللخمي الإشبيلي الكاتب في فتح المهدية سنة 602
( كم غادر الشعراء من متردم ... ذخرت عظائمه لخير معظم )
( تبعا لمذخور الفتوح فإنه ... جاءت له بخوارق لم تعلم )
( من كل سامية المنال إذا انتمت ... رفعت إلى اليرموك صوت المنتمي )

( وتوسطت في النهروان بنسبة ... كرمت ففازت بالمحل الأكرم )
قال ابن الأبار في تحفة القادم هو صدر في نبهائها وأدبائها يعني إشبيلية وممن له قدر في منجبيها ونجبائها والى سلفه ينسب المعقل المعروف بحجر أبي خالد وتوفي بها سنة 612 وأورد له قوله
( ويا للجواري المنشآت وحسنها ... طوائر بين الماء والجو عوما )
( إذا نشرت في الجو أجنحة لها ... رأيت به روضا ونورا مكمما )
( وإن لم تهجه الريح جاء مصافحا ... فمدت له كفا خضيبا ومعصما )
( مجاذف كالحيات مدت رؤوسها ... على وجل في الماء كي تروي الظما )
( كما أسرعت عدا أنامل حاسب ... بقبض وبسط يسبق العين والفما )
( هي الهدب في أجفان أكحل أوطف ... فهل صنعت من عندم أو بكت دما )
قال ابن الأبار أجاد ما أراد في هذا الوصف وإن نظر الى قول أبي عبدالله ابن الحداد يصف أسطول المعتصم بن صمادح
( هام صرف الردى بهام الأعادي ... أن سمت نحوهم لها أجياد )
( وتراءت بشرعها كعيون ... دأبها مثل خائفيها سهاد )
( ذات هدب من المجاذيف حاك ... هدب باك لدمعه إسعاد )
( حمم فوقها من البيض نار ... كل من أرسلت عليه رماد )
( ومن الخط في يدي كل در ... ألف خطها على البحر صاد )
قالل وما أحسن قول شيخنا أبي الحسن ابن حريق في هذا المعنى من قصيدة أنشدنيها

( وكأنما سكن الأراقم جوفها ... من عهد نوح خشية الطوفان )
( فإذا رأين الماء يطفح نضنضت ... من كل خرق حية بلسان )
قال ولم يسبقهم الى الإحسان وإنما سبقهم بالزمان علي بن محمد الإيادي التونسي في قوله
( شرعوا جوانبها مجاذف أتعبت ... شادي الرياح لها ولما تتعب )
( تنصاع من كثب كما نفر القطا ... طورا وتجتمع اجتماع الربرب )
( والبحر يجمع بينها فكأنه ... ليل يقرب عقربا من عقرب )
( وعلى جوانبها أسود خلافة ... تختال في عدد السلاح المذهب )
( وكأنما البحر استعار بزيهم ... ثوب الجمال من الربيع المعجب )
ومن هذه القصيدة الفريدة في ذكر الشراع
( ولها جناح يستعار يطيرها ... طوع الرياح وراحة المتطرب )
( يعلو بها حدب العباب مطاره ... في كل لج زاخر معلولب )
( يسمو بآخر في الهواء منصب ... عريان منسرح الذؤابة شوذب )
( يتنزل الملاح منه ذؤابة ... لو رام يركبها القطا لم يركب )
( وكأنما رام استراقة مقعد ... للسمع إلا أنه لم يشهب )
( وكأنما جن ابن داود هم ... ركبوا جوانبها بأعنف مركب )
( سجروا جواهم بينهم فتقاذفوا ... منها بألسن مارج متلهب )
( من كل مسجون الحريق إذا انبرى ... من سجنه انصلت انصلات الكوكب )
( عريان يقدمه الدخان كأنه ... صبح يكر على ظلام غيهب )
ومن اولها

( أعجب بأسطول الإمام محمد ... وبحسنه وزمانه المستغرب )
( لبست به الأمواج أحسن منظر ... يبدو لعين الناظر المتعجب )
( من كل مشرفة على ما قابلت ... إشراف صدر الأجدل المتنصب )
ومنها
( جوفاء تحمل موكبا في جوفها ... يوم الرهان وتستقل بموكب )
وهي طويلة من غرر القصائد وقد سرد جملة منها صاحب المناهج وغيره
وقال أبو عمر القسطلي
( وحال الموج بين بني سبيل ... يطير بهم الى الغول ابن ماء )
( أغر له جناح من صباح ... يرفرف فوق جنح من سماء )
وأخذه أبو إسحاق ابن خفاجة فقال
( وجارية ركبت بها ظلاما ... يطير من الصباح بها جناح )
( إذا الماء اطمأن ورق خصرا ... علا من موجه ردف رداح )
( وقد فغر الحمام هناك فاه ... وأتلع جيده الأجل المتاح )
ولا يخفاك حسن هذه العبارة الصقيلة المرآة فالله تعالى يرحم قائلها وقال ابن الأبار وقد قلت أنا في ذلك
( ياحبذا من بنات الماء سابحة ... تطفو لما شب اهل النار تطفئه )
( تطيرها الريح غربانا بأجنحة الحمائم ... البيض للأشراك ترزؤه )

( من كل أدهم لا يلفى به جرب ... فما لراكبه بالقار يهنؤه )
( يدعي غرابا وللفتخاء سرعته ... وهو ابن ماء وللشاهين جؤجؤه )
واجتمع ابن أبي خالد وأبو الحسن ابن الفضل الأديب عند أبي الحجاج ابن مرطير الطبيب بحضرة مراكش وجرى ذكر قاضيها حينئذ أبي عمران موسى ابن عمران بينهم وماكان عليه من القصور والبعد عما أتيح له وأوثر به فقال أبو الحجاج
ليس فيه من أبي موسى شبه
فقال أبو الحسن
( فأبوه فضة وهو شبه ... )
فقال ابن أبي خالد
( كم دعاه إذ رآه عرة ... وأباه إذ دعاه يا أبه )
524 - وقال أبو العباس الأعمى
( بهيمة لو جرى في الخيل أكبرها ... لفاتت الريح فى الأحجال والغرر )
( تجرى فللماء ساقا عائم درب ... وللرياح جناحا طائر جذر )
( قد قسمتها يد التقدير بينهما ... على السواء فلم تسبح ولم تطر )
525 - وقال عبد الجليل بن وهبون يصف الأسطول

( يا حسنها يوما شهدت زفافها ... بنت الفضاء الى الخليج الأزرق )
( ورقاء كانت أيكة فتصورت ... لك كيف شئت من الحمام الأورق )
( حيث الغراب يجر شملة عجبه ... وكأنه من عزة لم ينعق )
( من كل لابسة الشباب ملاءة ... حسب اقتدار الصانع المتأنق )
( شهدت لها الأعيان أن شواهنا ... أسماؤها فتصحفت في المنطق )
( من كل ناشرة قوادم أجنح ... وعلى معاطفها وهادة سوذق )
( زأرت زئير الأسد وهي صوامت ... وزحفن زحف مواكب في مأزق )
( ومجاذف تحكي أراقم ربوة ... نزلت لتكرع من غدير متأق )
526 - وقال ابن خفاجة
( سقيا لها من بطاح خز ... ودوح نهر بها مطل )
( فما ترى غير وجه شمس ... أطل فيه عذار ظل )
وهو من بديع الشعر وكم لابن خفاجة من مثله
527 - قطعة منقولة عن المغرب
1 - وقال عبيدالله بن جعفر الإشبيلي وقد زار صاحبا له مرات ولم يزره هو فكتب على بابه
( يامن يزار على بعد المحل ولا ... يزورنا مرة من بين مرات )
( زرمن يزورك واحذر قول عاذلة ... تقول عنك فتى يؤتى ولا يأتي )

ومن مجونياته سامحه الله تعالى
( وأغيد ليس تعدوه الأماني ... ولو حكمت عليه باشتطاط )
( سقيت الراح حتى مال سكرا ... ونام على النمارق والبساط )
( وأسلم لي على طول التجني ... وأمكنني على فرط التعاطي )
( فأولجت المقادر جيد بكر ... ولا كفران في سم الخياط )
( وغناني بصوت من حشاه ... فأطربني وبالغ في نشاطي )
( فما نقر المثالث والمثاني ... بأطرب من تلاحين الضراط )
( ولولا الريق لم أظفر بشيء ... على عدم اهتبالي واحتياطي )
( فلا تسخر بريق بعد هذا ... فإن الريق مفتاح اللواط )
2 - وقال أبو الحسن علي بن جحدر الزجال
( كيف أصبحت أيهذا الحبيب ... نحن مرضى الهوى وأنت الطبيب )
( كل قلب إليك يهفو غراما ... ويحها يا علي منك القلوب )
( إن تلح حومت عليك هياما ... أو تغيب حنها عليك الوجيب )
( غير أني من بينهم مستريب ... حين تبدو وليس لي ما يريب )
( كل ما قد ألقاه منك ومني ... دون هذا له تشق الجيوب )
3 - وقال أحمد المعروف بالكساد في موسى الذي كان يتغزل فيه شعراء إشبيلية
( ما لموسى قد خر لله لما ... فاض نورا غشاه ضوء سناه )
( وأنا قد صعقت من نور موسى ... لا أطيق الوقوف حين أراه )

ولله دره في رثاء موسى المذكور إذ قال
( فر الى الجنة حوريها ... وارتفع الحسن من الأرض )
( وأصبح العشاق في مأتم ... بعضهم يبكي الى بعض )
وقوله فيه
( هتف الناعي يشجو الأبد ... إذ نعى موسى بن عبدالصمد )
( وماعليهم ويحهم لو دفنوا ... في فؤادي قطعة من كبدي )
ولقب بالكساد لقوله
( وبيع الشعر في سوق الكساد )
4 - وقال أبو القاسم ابن أبي طالب الحضرمي المنيشي
( صاغت يمين الرياح محكمة ... في نهر واضح الأسارير )
( فكلما ضاعفت به حلقا ... قام لها القطر بالمسامير )
5 - وقال أبوزيد عبدالرحمن العثماني وهو من بيت إمارة
( لا تسلني عن حالتي فهي هذي ... مثل حالي لا كنت يامن يراني )
( ملني الأهل والأخلاء لما ... أن جفاني بعد الوصال زماني )
( فاعتبر بي ولا يغرك دهر ... ليس منه ذو غبطة في أمان )
6 - وقال أبو زكريا يحيى بن محمد الأركشي

( لا حبذا المال والإفضال يتلفه ... والبخل يحميه والأقدار تعطيه )
وقال
( لا تبكين لإخوان تفارقهم ... فإنني قبلك استخبرت إخواني )
( فما حمدتهم في حال قربهم ... فكيف في حال إبعاد وهجران )
7 - وقال أبو عمران موسى الطرياني لما دخل يوم نيروز إلى بعض الأكابر وعادتهم أن يصنعوا في مثل هذا اليوم مدائن من العجين لها صور مستحسنة فنظر الى صورة مدينة فأعجبته فقال له صاحب المجلس صفها وخذها
( مدينة مسوره ... تحار فيها السحره )
( لم تبنها إلا يدا ... عذراء أو مخدره )
( بدت عروسا تجتلى ... من درمك مزعفره )
( وما لها مفاتح ... إلا البنان العشره )
8 - وقال أبو عمرو ابن حكم
( حاشا لمن أملكم أن يخيب ... وينثني نحو العدا مستريب )
( هذا وكم أقرأني بشركم ... ( نصر من الله وفتح قريب )
9 - وقال أبو الحسن علي بن الجعد القرموني
( إياك من زلل اللسان فإنه ... قدر الفتى في لفظه المسموع )

( فالمرء يختبر الإناء بنقره ... ليرى الصحيح به من المصدوع )
10 - وقال الفقيه أبوالحسن علي بن لبال في محبرة عناب محلاة بفضة
( منعلة بالهلال ملجمة ... بالنسر مجدولة من الشفق )
( كأنما حبرها تميع في ... فرضتها سائلا من الغسق )
( فأنت مهما ترد تشبهها ... في كل حال فانظر إلى الأفق )
وقال في محبرة آبنوس
( وخديمة للعلم في أحشائها ... كلف بجمع حرامه وحلاله )
( لبست رداء الليل ثم توشحت ... بنجومه وتتوجت بهلاله )
11 - وقال أبوجعفر أحمد الشريشي
( على حسن نور الباقلاء أدرهما ... على صب كأسي خمرة وجفون )
( يذكرني بلق الحمام وتارة ... يؤكد للأشجان شهل عيون )
12 - وقال أبو العباس أحمد بن شكيل الشريشي
( تفاحة بت بها ليلتي ... أبثها سري والشكوى )
( أضمها معتنقا لاثما ... إذا ذكرت خد من أهوى )
وقال
( تفاحة حامضة عضها ... في ثمل من قطب الوجها )

( ولم أخل من قبلها محسنا ... يجزى عليه العض والنجها )
13 - وقال أبو عمرو ابن غياث
( وقالوا مشيب قلت واعجبا لكم ... أينكر صبح قد تخلل غيهبا )
( وليس مشيبا ماترون وإنما ... كميت الصبا لما جرى عاد أشهبا )
14 - وقال الوزير أبوبكر محمد بن ذي الوزارتين أبي مروان عبدالملك ابن عبدالعزيز يخاطب ابن عبدون
( في ذمة الفضل والعلياء مرتحل ... فارقت صبري إذ فارقت موضعه )
( ضاءت به برهة أرجاء قرطبة ... ثم استقل فسد البين مطلعه )
( عذرا الى المجد عني حين فارقني ... ذاك الجلال فأعيا أن أشيعه )
( قد كنت أصحبته قلبي وأقعدني ... ما كان أودعني عن أن أودعه )
وفيهم يقول ابن عبدون
( بحور بلاغة ونجوم عز ... وأطواد رواس من جلال )
15 - وقال الوزير الكاتب ابو القاسم ابن أبي بكر ابن عبدالعزيز
( نديمي لا عدمتك من نديم ... أدرها في دجي الليل البهيم )
( فخير الأنس أنس تحت ستر ... يصان عن السفيه او الحليم )
16 - وقال الثائر ابوعبدالله الجزيري
( في أم رأسي سر ... يبدو لكم بعد حين )

( لأبلغن مرادي ... إن كان سعدي معيني )
( أو لا فأكتب ممن ... سعى لإظهار دين )
وسبب قوله هذا أن بني عبدالمؤمن لما غيروا رسم مهديهم وصيروا الخلافة ملكا وتوسعوا في الرفاهية واهملوا حق الرعية جعل يتستر وقال هذه الأبيات وشاع سره في مدة ناصر بني عبدالمؤمن فطلبه ففر ولم يزل يتنقل مستخفيا مع أصحابه إلى أن حصل في حصن قولية من عمل مدينة بسطة فبينما هو ذات يوم في جامعها مع أصحابه وهم يأكلون بطيخا ويرمون قشره في صحن الجامع إذ أنكر ذلك رجل من العامة وقال لهم ما تتقون الله تعالى تتهاونون ببيت من بيوته فضحكوا منه واستهزأوا به واهل تلك الجهة لا تحتمل شيئا من ذلك فصاح بفتية من العامة فاجتمع جمع وحملوا الى الوالي فكان عند الوالي من عرفه فقتلوا جميعا وأمر الناصر ان يرفع عن جميع أرض قولية جميع تكاليف السلطان
17 - ولما عتب المنصور بن أبي عامر على الكاتب عبدالملك الجزيري وسجنه فى الزاهرة ثم صفح عنه قال وكتب به إليه
( عجبت من عفو أبي عامر ... لابد أن تتبعه منه )
( كذلك الله إذا ما عفا ... عن عبده أدخله الجنة )
فاستحسن ذلك وأعاده الى حاله
وقال على لسان بهار العامرية وهو النرجس
( حدق الحسان تقر لي وتغار ... وتضل في وصفي النهى وتحار )

( طلعت على قضبي عيون تمائمي ... مثل العيون تحفها الأشفار )
( وأخص شيء بي إذا شبهته ... در تمنطق سلكه دينار )
( أنا نرجس حقا بهرت عقولهم ... ببديع تركيبي فقيل بهار )
وقال في بنفسجها
( شهدت لنوار البنفسج ألسن ... من لونه الأحوى ومن إيناعه )
( بمشابه الشعر الأحم أعاره القمر ... المنير الطلق نور شعاعه )
( ولربما جمد النجيع من الطلى ... في صارم المنصور يوم قراعه )
( فحكاه غير مخالف في لونه ... لا في روائحه وطيب طباعه )
وقال في القمر حين جعل يختفي بالسحاب ويبدو أمام المنصور
( أرى بدر السماء يلوح حينا ... فيظهر ثم يلتحف السحابا )
( وذلك انه لما تبدى ... وأبصر وجهك استحيا وغابا )
18 - وقال الحجاري في المسهب سألت أبا الحسن علي بن حفص الجزيري أن ينشدني شيئا من شعره فقال يا أبا محمد إذا لم ينظم الإنسان مثل قول ابن شرف
( لم يبق للجور في أيامكم أثر ... إلا الذي في عيون الغيد من حور )
فالأولى له ان يترك نظم الشعر إلى ان خرجت معه يوما إلى سيف الجزيرة الخضراء فلقي غلاما قد كدر رونق حسنه السفر وأثر في وجهه كآثار الكلف في القمر فصافحه ثم قال
( بأبي الذي صافحته فتوردت ... وجناته وأناء نحوي قده )

( قمر بدا كلف السرى في خده ... لما توالى في الترحل جهده )
( لكن معالم حسنه تمت كما ... قد تم عن صدا الحسام فرنده )
فحفظتها من سمعه ثم قلت له قد أخذت عنك من نظمك بغير شكرك فضحك وقال فاحفظ هذا وأنشد ( لاتقولن فلان ... صاحب قبل اختبار )
( وانتظر ويحك نقد الليل ... فيه والنهار )
( أنا جربت فلم ألف ... صديقا باختياري )
وأنشد
كم قد بكرت الى الرياض وقضبها ... قد ذكرتني موقف العشاق )
( يا حسنها والريح يلحف بعضها ... بعضا كأعناق الى أعناق )
( والورد خد والأقاحي مبسم ... وغدا البهار ينوب عن أحداق )
( لم أنفصل عنها بكأس مدامة ... حتى حملت محاسن الأخلاق )
19 - ولما كتب أبوالحسن ابن سعيد إلى الأديب القائد أبي العباس احمد ابن بلال يستدعيه ليوم أنس بقوله
( أبا العباس لو أبصرت حولي ... ندامى بادروا العيش الهنيا )
( يبيحون المدام ولا انتقاد ... وقارهم ويزدادون غيا )
( وهم مع مابدا لك من عفاف ... يحبون الصبية والصبيا )
( ويهوون المثالث والمثاني ... وشرب الراح صبحا او عشيا )
( على الروض الذي يهدي لطرف ... وأنف منظرا بهجا وريا )
( فلا تلم السري على ارتياح ... حكى طربا بجانبه سريا )

( وبادر نحو ناد ماخلا من ... نداك فقد عهدتك لوذعيا )
اجابه بقوله
( أبيت سوى المعالي ياعليا ... فما تنفك دهرك أريحيا )
( تميل إذا النسيم سرى كغصن ... وتسرى للمكارم مشرفيا )
( وترتاح ارتياحا للمثاني ... وتقتنص الصبية والصبيا )
( وتهوى الروض قلده نداه ... وألبسه مع الحلل الحليا )
( وإن غنى الحمام فلا اصطبار ... وإن خفق الخليج فنيت حيا )
( تذكرني الشباب فلست أدري ... أصبحا حين تذكر أم عشيا )
( فلو أدركتني والغصن غض ... لأدركت الذي تهوى لديا )
( ولم أترك وحقك قدر لحظ ... وقد ناديتني ذاك النديا )
528 - وقال بعض اهل الأندلس
( وفرع كان يوعدني بأسر ... وكان القلب ليس له قرار )
( فنادى وجهه لا خوف فاسكن ... كلام الليل يمحوه النهار )
ولست على يقين أن قائلهما اندلسي غير أني رأيت في كلام بعض الأفاضل نسبتهما لأهل الأندلس والله تعالى أعلم
20 - وقال أبو الوليد القسطلي
( وفوق الدوحة الغنا غدير ... تلألأ صفحة وسجا قرارا )
( إذا ما انصب أزرق مستقيما ... تدور في البحيرة فاستدارا )
( يجرده فم الأنبوب صلتا ... حساما ثم يفلته سوارا )

21 - ولأبي كثير الطريفي يمدح الناصر بن المنصور
( فتوح لها يهتز شرق ومغرب ... كما اطردت في السمهرية أكعب )
( تجلت على الدنيا شموس منيرة ... فلم يبق في ليل الكآبة غيهب )
( أقام بها الإسلام شدو مغرد ... وظلت بأرض الشرك بالخطب تخطب )
( فلا سمع إلا وهو قد مال نحوها ... ولا قلب إلا في مناها يقلب )
22 - وقال أبو عامر ابن الجد
( لله ليلة مشتاق ظفرت بها ... قطعتها بوصال اللثم والقبل )
( نعمت فيها باوتار تعللني ... أحلى من المن أو أمنية الغزل )
( أحبب إلي بها إذ كلها سحر ... أراحت الصب من عذر ومن عذل )
23 - وقال الكاتب ابوعبدالله محمد الشلبي كاتب ملك افريقية عبدالواحد بن أبي حفص
( مد الي الكاس من لحظه ... لا يحوج الشرب إلى الكاس )
( ومنذ حياني بآس فلم ... أيأس ولكن كان لي آسي )
( وقال لولا الناس قبلته ... ما أشأم الناس على الناس )
24 - وقال أبو بكر محمد بن الملح وهو من رجال الذخيرة على لسان حال سوار مذهب
( أنا من الفضة البيضاء خالصة ... لكن دهتني خطوب غيرت جسدي )

( علقت غصنا على أحوى فأحسدني ... جري الوشاح وهذي صفرة الجسد )
وما احسن قوله من قصيدة في المعتضد والد المعتمد
( غرته الشمس والحيا يده ... بينهما للنجيع قوس قزح )
25 - واما ابنه ابو القاسم فهو من رجال المسهب وكان اشتغل أول أمره بالزهد وكتب التصوف فقال له أبوه يابني هذا الأمر ينبغي ان يكون آخر العمر واما الآن فينبغي أن تعاشر الأدباء والظرفاء وتأخذ نفسك بقول الشعر ومطالعة كتب الأدب فلما عاشرهم زينوا له الراح فتهتك في الخلاعة وفر الى اشبيلية وتزوج بامرأة لا تليق بحاله وصار يضرب معها بالدف فكتب إليه أبوه
( ياسخنة العين يا بنيا ... ليتك ما كنت لي بنيا )
( أبكيت عيني أطلت حزني ... امت ذكري وكان حيا )
( حططت قدري وكان أعلى ... في كل حال من الثريا )
( أما كفاك الزنا ارتكابا ... وشرب مشمولة الحميا )
( حتى ضربت الدفوف جهرا ... وقلت للشر جىء إليا )
( فاليوم أبكيك ملء عيني ... إن كان يغني البكاء شيا )
فأجاب أباه بقوله
( يا لائم الصب في التصابي ... ماعنك يغني البكاء شيا )
( أوجفت خيل العتاب نحوي ... وقبل أوثبتها إليا )
( وقلت هذا قصير عمر ... فاربح من الدهر ما تهيا )
( قد كنت أرجو المتاب مما ... فتنت جهلا به وغيا )

( لولا ثلاث شيوخ سوء ... أنت وإبليس والحميا )
26 - وقال ابو بكر محمد بن عبدالقادر الشلبي يستدعي
( فديتك باكر نحو قبة روضة ... تسيح بها الأمواه والطير تهتف )
( وقد طلعت شمس الدنان بأفقها ... ونحن لديها في انتظارك وقف )
( فلا تتخلف ساعة عن محلة ... صدودك عمن حل فيها تخلف )
27 - وقال اخو إمام نحاة الأندلس أبي محمد عبدالله بن السيد البطليوسي وهو أبو الحسن علي بن السيد
( يارب ليل قد هتكت حجابه ... بزجاجة وقادة كالكوكب )
( يسعى بها ساق أغن كأنها ... من خده ورضاب فيه الأشنب )
( بدران بدر قد امنت غروبه ... يسعي ببدر جانح للمغرب )
( فاذا نعمت برشف بدر طالع ... فانعم ببدر آخر لم يغرب )
( حتى ترى زهر النجوم كانها ... حول المجرة ربرب في مشرب )
( والليل منحفز يطير غرابه ... والصبح يطرده بباز أشهب )
28 - ولما مدح أبو بكر محمد بن الروح الشلبي الأمير إبراهيم الذي خطب به الفتح في القلائد وهو ابن أمير المسلمين يوسف بن تاشفين وكان يدل عليه وينادمه بقصيدته التي أولها
( أنا شاعر الدنيا وانت أميرها ... فمالي لايسري الي سرورها )
أشار الأمير إلي مضحك له كان حاضرا أن يحبق له لقوله أنا شاعر الدنيا

فقال له ابن الروح على من حبقت يعني أنه يحتمل ان يكون ذلك الفعل لقوله انا شاعر الدنيا أو لقوله وأنت أميرها ففطن الأمير لما قصده وضحك وتغافل
29 - وقال أبو بكر ابن المنخل الشلبي
( كم ليلة دارت علي كواكب ... للخمر تطلع ثم تغرب في فمي )
( قبلتها في كف من يسعى بها ... وخلطت قبلتها بقبلة معصم )
( وكأن حسن بنانه مع كأسه ... غيم يشير لنا ببعض الأنجم )
30 - وقال ذو الوزارتين أبو بكر ابن عمار
( قرأت كتابك مستشفعا ... بوجه أبي الحسن من رده )
( ومن قبل فض ختام الكتاب ... قرأت الشفاعة في خده )
وقال
( غزا القلوب غزال ... حجت إليه العيون )
( قد خط في الخد نونا ... وآخر الحسن نون )
قال الحجاري وإكثار ابن عمار في المعذرين وإحسانه فيهم يدلك على أنه كما قيل عنه كان مشغوفا بالكاس والاستلقاء من غير نعاس
31 - وكان أبو الفضل ابن الأعلم أجمل الناس وأذكرهم في علم الأدب والنحو وأقرأ علم النحو قبل أن يلتحي فقال ابن صارة فيه

( أكرم بجعفر اللبيب فإنه ... مازال يوضح مشكل الإيضاح )
( ماء الجمال بخده مترقرق ... فالعين منه تجول في ضحضاح )
( ماخده جرحته عيني إنما ... صبغت غلالته دماء جراحي )
( لله زاي زبرجد في عسجد ... في جوهر في كوثر في راح )
( ذي طرة سبجية ذي غرة ... عاجية كالليل والإصباح )
( رشأ له خد البرىء ولحظه ... أبدا شريك الموت في الأرواح )
32 - وقال الرمادي
( نوء وغيث مسبل ... وقهوة تسلسل )
( تدور بين فتية ... بخلقهم تمثل )
( والأفق من سحابة ... طل ضعيف ينزل )
( كأنه من فضة ... برادة تغربل )
وقال
( بدر بدا يحمل شمسا بدت ... وحدها في الحسن من حده )
( تغرب في فيه ولكنها ... من بعد ذا تطلع في خده )
33 - ومن نظم أبي الفضل ابن الأعلم السابق الذكر
( وعشية كالسيف إلا حده ... بسط الربيع بها لنعلي خده )
( عاطيت كأس الأنس فيها واحدا ... ماضره أن كان جمعا وحده )
وهو جعفر ابن الوزير أبي بكر محمد ابن الأستاذ الأعلم من رجال القلائد

و المسهب وسمط الجمان وكان قاضي شنتمرية والأستاذ الأعلم هو إمام نحاة زمانه أبو الحجاج يوسف بن عيسى من رجال الصلة والمسهب والسمط وهو شارح الأشعار الست ومن نظمه يخاطب المعتمد بن عباد
( يامن تملكني بالقول والعمل ... ومبلغي في الذي أملته أملي )
( كيف الثناء وقد أعجزتني نعما ... مالي بشكري عليها الدهر من قبل )
( رفعت للجود أعلاما مشهرة ... فبابك الدهر منها عامر السبل )
34 - وقال أبو علي ادريس بن اليماني العبدري
( قبلة كانت على دهش ... أذهبت ما بي من العطش )
( ولها في القلب منزلة ... لو عدتها النفس لم تعش )
( طرقتني والدجي لبست ... خلعا من جلدة الحبش )
( وكأن النجم حين بدا ... درهم في كف مرتعش )
وسأله المعتضد أن يمدحه بقصيدة يعارض بها قصيدته السينية التى مدح بها ابن حمود فقال له أشعاري مشهورة وبنات صدري كريمة فمن أراد أن ينكح بكرها فقد عرف مهرها وكانت جائزته مائة دينار
ومن مشهور شعره بالمغرب والمشرق قوله
( ثقلت زجاجات أتتنا فرغا ... حتى إذا ملئت بصرف الراح )
( خفت فكادت أن تطير بما حوت ... وكذا الجسوم تخف بالأرواح )
35 - وكانت بين الأديب الحسيب أبي عمرو ابن طيفور والحافظ الهيثم

مهاجاة فقال فيه الحافظ
( لابن طيفور قريض ... فيه شوك وغموض )
( عدمت فيه القوافي ... والمعاني والعروض )
وقال فيه ابن طيفور
( إنما الهيثم سفر ... من كلام الناس ضخم )
( لا تطالبه بفهم ... ليس للديوان فهم )
36 - وقال أبو عمران ابن سعيد أخبرني والدي أنه زار ابن حمدين بقرطبة في مدة بحيى بن غانية قال فوجدته في هالة من العلماء والأدباء فقام وتلقاني ثم قال يا ابا عبدالله ماهذا الجفاء فاعتذرت بأني أخشى التثقيل وأعلم أن سيدي مشغول بما هو مكب عليه فأطرق قليلا ثم قال
( لو كنت تهوانا طلبت لقاءنا ... ليس المحب عن الحبيب بصابر )
( فدع المعاذر إنما هي جنة ... لمخادع فيها ولست بعاذر )
فقلت تصديق سيدي عندي احب الي وإن ترتيب علي فيه الملامة من منازعته منتصرا لحقي فاستحسن جوابي وقال لي كرره فإنه والله ماح لكل ذنب ثم سألته كتب البيتين عنه فقال لي وما تكتب فيهما فقلت أليس في الإنعام ذلك لأجد ما أخبر به والدي إذا أبت إليه فاملاهما علي فقلت من قائلهما قال قائلهما فعلمت أنهما له وقنعت بذلك
529 - وقال الحجاري صاحب المسهب في أخبار المغرب
( كم بت من أسر السهاد بليلة ... ناديت فيها هل لجنحك آخر )

( إذ قام هذا الصبح يظهر ملة ... حكمت بان ذبح الظلام الكافر )
وعلى ذكر المسهب فقد كتب كثيرا ما أستشكل هذه التسمية لم قال غير واحد إن المسهب إنما هو بفتح الهاء كقولهم سيل مفعم بفتح العين والفقرة الثانية وهي المغرب تقتضي ان يكون بكسر الهاء ولم يزل ذلك يتردد في خاطري إلى ان وقفت على سؤال في ذلك رفعه المعتمد بن عباد سلطان الأندلس إلى الفقيه الأستاذ أبي الحجاج يوسف بن سليمان بن عيسى النحوي الشنتمري المشهور بالأعلم ونص السؤال
سألك أبقاك الله الوزير الكاتب أبو عمرو ابن غطمش سلمه الله عن المسهب وزعم أنك تقول بالفتح والكسر والذي ذكر ابن قتيبة في أدب الكاتب والزبيدي في مختصر العين أسهب الرجل فهو مسهب إذا أكثر الكلام بالفتح خاصة فبين لي أبقاك الله تعالى ما تعتقد فيه وإلى أي كتاب تسند القولين لأقف على صحة من ذلك
فاجابه وصل إلي أدام الله تعالى توفيك هذا السؤال العزيز ووقفت على ما تضمنه والذى ذكرته من قول ابن قتيبة والزبيدي في الكتابين موضوع كما ذكرته والذي أحفظه واعتقده ان المسهب بالفتح المكثر في غير صواب وأن المسهب بالكسر البليغ المكثر من الصواب إلا أني لا أسند ذلك إلي كتاب بعينه ولكني أذكره عن أبي علي البغدادي من كتاب البارع او غيره معلقا في عدة نسخ من كتاب البيان والتبيين على بيت في صدره لمكي بن سوادة وهو
( حصر مسهب جريء جبان ... خير عي الرجال عي السكوت )
والمعلقة تقول العرب أسهب الرجل فهو مسهب وأحصن فهو محصن وألفج فهو ملفج إذا افتقر قال الخليل يقال رجل مسهب ومسهب قال ابو علي أسهب الرجل فهو مسهب بالفتح إذا أكثر في

غير صواب واسهب فهو مسهب بالكسر إذا أكثر وأصاب قال ابو عبيدة أسهب الرجل فهو مسهب إذا اكثر من خرف وتلف ذهن وقال أبو عبيدة عن الأصمعي أسهب الرجل فهو مسهب بالفتح إذا خرف واهتر فإن اكثر من الخطأ قيل أفند فهو مفند انتهت المعلقة فرأي مملوك أيدك الله تعالى واعتقاده أن المسهب بالفتح لا يوصف به البليغ المحسن ولا المكثر المصيب ألا ترى إلى قول الشاعر حصر مسهب انه قرن فيه المسهب بالحصر وذمه بالصفتين وجعل المسهب أحق بالعي من الساكت والحصر فقال
( خير عي الرجال عي السكوت )
والدليل على أن المسهب بالكسر يقال للبليغ المكثر من الصواب انهم يقولون للجواد من الخيل مسهب بالكسر خاصة لأنها بمعنى الإجادة والإحسان وليس قول ابن قتيبة والزبيدي في المسهب بالفتح هو المكثر من الكلام بموجب أن المكثر هو البليغ المصيب لأن الإكثار من الكلام داخل فى معنى الذم لأنه من الثرثرة والهذر ألا تراهم قالوا رجل مكثار كما قالوا ثرثار ومهذار وقال الشاعر
( فلا تمارون إن ماروا بإكثار )
فهذا ما عندي والله تعالى الموفق للصواب
قال الأعلم ثم نظمت السؤال العزيز والجواب المذكور فقلت
( سلام الإله وريحانه ... على الملك المجتبى المنتخل )
( سلام امرىء ظل من سيبه ... خصيب الجناب رحيب المحل )
( أتاني سؤالك أعزز به ... سؤال مبر على من سأل )
( يسائل عن حالتي مسهب ... ومسهب المبتلى بالعلل )

( لم اختلفا في بناءيهما ... وحكمهما واحد في فعل )
( أتى ذا على مفعل لم يعل ... وذاك على مفعل قد أعل )
( فقلت مقالا على صدقه ... شهيد من العقل لا يستزل )
( بناء البليغ أتى سالما ... سلامته من فضول الخطل )
( وأسهب ذاك مسيئا فزل ... زليلا ثنى متنه فانخذل )
( وأحسن ذا فجرى وصفه ... على سنن المحسن المستقل )
( فهذا مقالي مستبصرا ... ولست كمن قال حدسا فضل )
( تقلدت في رأيه مذهبا ... يخصك بين الظبى والأسل )
( سموك في الروع مستشرقا ... الى مهجة المستميت البطل )
( كأنك فيها هلال السما ... يزيد بهاء اذا ما أهل )
( بل أنت مطل كبدر السماء ... يمضي الظلام إذا ما أطل )
قلت رأيت في بعض الحواشي الأندلسية أن ابن السكيت ذكر في بعض كتبه في بعض ما جعله بعض العرب فاعلا وبعضهم مفعولا رجل مسهب ومسهب لكثير الكلام وهذا يدل على أنهما بمعنى واحد انتهى
530 - وسأل بعض الأدباء الأستاذ الأعلم المذكور عن المسألة الزنبورية المقترنة بالشهادة الزورية الجارية بين سيبويه والكسائي او الفراء والقضاء بينهم فيها وهي ظننت ان العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا هو هي أو إياها وعن نسب سيبويه هل هو صريح او مولى وعن سبب لزومه الخليل بعد أن كان يطلب الحديث والتفسير وعن علة تعرضه لمناظرة الكسائي والفراء وعن كتابه الجارى بين الناس هل هو أول كتاب أو انشأه بعد كتاب اول ضاع كما زعم بعض الناس
فاجاب اما المسألة الزنبورية المأثورة بين سيبويه والكسائي او بينه وبين

الفراء على حسب الاختلاف في ذلك بحضرة الرشيد أو بحضرة يحيى بن خالد البرمكي فيما يروى فقد اختلفت الرواة فيها فمنهم من زعم ان الكسائي أو الفراء قال لسيبويه كيف تقول ظننت ان العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا هو هي او إياها فأجاب سيبويه بعد أن أطرق شيئا فإذا هو إياها في بعض الأقاويل وزعم آخرون انه قال فإذا هو هي ففيها من الاختلاف عنهم ماترى فإن كان اجاب بإذا هو هي فقد أصاب لفظا ومعنى ولم تدخل عليه في جوابه شبهة ولا علقة لمعترض لأن إذا في المسألة من حروف الابتداء المتضمنة للتعليق بالخبر فإذا اعتبرت المضمرين بعدها بالاسمين المظهرين لزمك أن تقول فإذا الزنبور العقرب او اللسعةاللسعة أي مثلها سواء فلو قلت فإذا هو إياها بنصب الضمير الأخير للزمك ان تقول فإذا الزنبور العقرب بالنصب وهذا لا وجه له فإذا لم يجز نصب الخبر المظهر فكيف يجوز نصب الخبر المضمر الواقع موقعه ويروى في المسألة ان الكسائي او الفراء قال لسيبويه بعد ان أجاب برفع الضميرين على ما يوجبه القياس كيف تقول يابصرى خرجت فإذا زيد قائم او قائما فقال سيبويه أقول قائم ولا يجوز النصب فقال الكسائي أقول قائم وقائما والقائم والقائم بالرفع والنصب في الخبر مع النكرة والمعرفة فتأول الكسائي والفراء في اختيارهما فإذا هو إياها حمل الخبر المضمر في النصب على الخبر المظهر المعرفة مع الإعراب بوجه النصب فكأنه قال فإذا الزنبور العقرب كما تقول فإذا زيد القائم فيجري المعرفة في النصب مجرى النكرة وقولهما في هذا خطأ من جهتين إحداهما أن نصب الخبر بعد إذا لا يكون إلا بعد تمام الكلام الأول في الاسم مع حرف المفاجأة ومع كون الخبر نكرة كقولك خرجت فإذا زيد قائما لأنك لو قلت خرجت فإذا زيد تم الكلام لتعلق المفاجأة بزيد على معنى حضوره ثم تبين حاله في المفاجأة المتعلقة به فتقول قائما أي خرجت ففاجأني زيد في هذا الحال

وقوله في المسألة إياها لا يتم الكلام في الاسم الأول دونها ألا ترى انك لو قلت ظننت أن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا هو وسكت لم يتم الكلام أولا ولا أفدت بذكر المفاجأة وتعليقها بالزنبور فائدة وإنما المفاجأة للضمير الآخر فلا بد من ذكره والاعتماد عليه وهذا يوجب الرفع في الخبر لأن الظرف له لا للمخبر عنه فهذا بين واضح والجهة الأخرى في غلطهما أن إياها معرفة والحال لا تكون إلا نكرة فقد اجتمع في قولهما أن أتيا بحال لم يتم الكلام دونها معرفة والحال لا تكون إلا بعد تمام الكلام ومع التنكير فقد تبين خطؤهما وإصابة سيبويه في لزوم الرفع في الخبر فقط
وأما من زعم عن سيبويه أنه قال خرجت فإذا زيد قائم بالرفع لا غير فباطل وكيف ينسب إليه وهو علمنا أن الظرف إذا كان مستقرا للاسم المخبر عنه نصب الخبر وإذا كان مستقرا للخبر رفع الخبر ونحن نقول خرجت فإذا زيد فيتم الكلام ونظرت فإذا الهلال طالع فيتبعه الخبر رفعا كما تقول في الدار زيد قائم وقائما و اليوم سيرك سريع وسريعا ولكن الخبر إذا كان الظرف له ولم يتعلق إلا به لم يكن إلا رفعا كقولك اليوم زيد منطلق وغدا عمرو خارج لأن الظرف لا يكون مستقرا للاسم المخبر عنه إذا كان زمانا والمخبر عنه جثة وكذلك المفاجأة إذا كانت للخبر لم يكن إلا مرفوعا معرفة كان أو نكرة فإذا كانت للمخبر عنه والخبر نكرة انتصب على الحال فجرى قولك ظننت أن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا هو هي وظننت زيدا عالما فإذا هو جاهل في لزوم الرفع في الخبر مجرى اليوم زيد منطلق وغدا عمرو خارج كما جرى خرجت فإذا زيد قائم وقائما في جواز الرفع والنصب مجرى في الدار زيد جالس وجالسا فتأمل الفرق بينهما وحصله فإن النحويين المتقدمين والمتأخرين قد أغفلوا الفرق بين المفاجأتين
وأما نصب الخبر المعرفة بعد إذا تم الكلام او لم يتم فباطل لا تقوله

العرب ولا يجيزه إلا الكوفيون
وإن كان سيبويه رحمه الله تعالى أجاب بقوله فإذا هو إياها كما روى بعضهم فظاهر جوابه مدخول لما قدمت والخطأ فيه بين من جهة القياس كما ذكرنا فإن كان قاله والتزمه دون الرفع فقد أخطأ خطأ لا مخرج له منه وإن كان قد قاله وهو يرى ان الرفع أولى وأحق إلا أنه آثر النصب للإعراب حملا على المعنى الخفي دون ما يوجبه القياس واللفظ الجلي فلجوابه عندي وجهان حسنان
أحدهما أن يكون الضمير المنصوب وهو إياها كتابة عن اللسعة لا عن العقرب والضمير المرفوع كنايه عن الزنبور فكأنه قال ظننت ان العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا الزنبور لسعة العقرب أي فإذا الزنبور يلسع لسعة العقرب فاختزل الفعل لما تقدم من الدليل عليه بعد أن أضمر اللسعة متصله بالفعل فكأنه قال فإذا الزنبور يلسعها فاتصل الضمير بالفعل لوجوده فلما اختزل الفعل انفصل الضمير لعدم الفعل
ونظير هذا من كلام العرب قولهم إنما أنت شرب الإبل أي إنما أنت تشرب شرب الإبل فاختزل الفعل وبقي عمله في المصدر ولم يرفع لأنه غير الاسم الأول فلو أضمرت شرب الإبل بعدما جرى ذكره فقلت مايشرب زيد شرب الإبل إنما أنت تشربه لاتصل الضمير بالفعل فلو حذفته لانفصل الضمير فقلت إنما أنت إياه فتدبره تجده منقادا صحيحا
والوجه الاخر أن يكون قوله فإذا هو إياها محمولا على المعنى الذي اشتمل عليه أصل الكلام من ذكر الظن أولا وآخرا لأن الأصل في تأليف المسألة ظننت ان العقرب أشد لسعة من الزنبور فلما لسعني الزنبور ظننته هو إياها فاختصر الكلام لعلم المخاطب وحذف الظن آخرا لما جرى من ذكره أولا ودلت إذا لما فيها من المفاجأة على الفعل الواقع بعد لما الدالة على وقوع الشيء لوقوع غيره فإذا جاز حذف الكلام إيثارا للاختصار مع وجود الدليل على

المحذوف كان قولنا فإذا هو إياها بمنزلة قولنا فلما لسعني الزنبور ظننته هو إياها فحذف الظن مع مفعوله الأول وبقي الضمير الذي هو العماد والفصل مؤكدا للضمير المحذوف مع الفعل ودالا على ما ياتي بعده من الخبر المحتاج اليه فيكون في حذف المخبر عنه لما تقدم من الدليل عليه مع الإتيان بالعماد والفصل المؤكد له المثبت لما بعده من الخبر المحتاج إليه مثل قوله ( ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم ) آل عمران 180 فحذف البخل الذي هو المفعول الأول لقوله ( يحسبن ) وبقي الضمير مؤكدا له مثبتا لما بعده من الخبر وجاز حذفه لدلالة ( يبخلون ) عليه والمعنى لا يحسبن الذين يبخلون البخل هو خيرا لهم فهو في المسألة عماد مؤكد لضمير الزنبور المحمول على الظن المضمر ومثبت لما يجىء بعده من الخبر الذي هو إياها فتفهمه فإنه متمكن من جهة المعنى وجار من الاختصار لعلم المخاطب على قياس وأصل وشاهده القرآن في الحذف واستعمال العرب النظائر وهي أكثر من أن تحصى فمنها قولهم ما أغفله عنك شيئا أي تثبت شيئا ودع الشك وقولهم لمن انكر عليه ذكر إنسان ذكره من أنت زيدا أي من أنت تذكر زيدا وربما قالوا من أنت زيد بالرفع على تقدير من أنت ذكرك زيد فحذفوا الفعل مرة وأبقوا عمله وحذفوا المبتدأ أخرى وأبقوا خبره وكل ذلك اختصار لعلم المخاطب بالمعنى وكذلك قولهم هذا ولا زعماتك أي هذا القول والزعم الحق ولا أتوهم زعماتك فحذف هذا لعلم السامع مع تحصل المعنى وقيامه عند المخاطب والحمل في كلامهم على المعنى أكثر من أن يحصى
فإن كان الضمير الأول في المسألة للزنبور والضمير الآخر للعقرب لم يجز البتة إلا رفع الضميرين بالابتداء والخبر على حد قولك ظننت زيدا عاقلا فإذا هو أحمق وحسبت عبدالله قاعدا فإذا هو قائم ولو تقدم ذكرالخبر والمخبر عنه لقلت فإذا هو هو ولم يجز فإذا هو إياه البتة ويجوز في المسألة

إذا قلت فإذا هو لأبى أن يكون الضمير للزنبور والعقرب على حد قولك الزنبور العقرب ويجوز أن تقول فإذا هي هو على التقديم والتأخير على حد قولك فإذا العقرب الزنبور أي سواء فى شدة اللسعة كما تقول خرجت فإذا قائم زيد على تقدير فإذا زيد قائم ويجوز ان يكون هو كناية عن اللسع بدلالة اللسعة عليه وتكون هي كناية عن اللسعة على تقدير فإذا لسع الزنبور لسعة العقرب ويجوز فإذا هي هو على اضمار اللسعة واللسع والتقدير فإذا لسعة الزنبور لسع العقرب وهذا كله لا يجوز فيه إلا الرفع عند البصريين لأن الآخر هو الأول والخبرمعرفة متعلق بالمفاجأة فلا يجوز فيه الحال والكوفيون يجيزون النصب كما تقدم وهو غلط بين وخطأ فاحش لا تقوله العرب ولا تعلق له بقياس فاعلمه
ويجوز في المسألة فإذا هوهو على تقدير فإذا اللسع اللسع ويجوز فإذا هي هي على تقدير فإذا اللسعة اللسعة وفي هذا كفاية إن شاء الله تعالى
وأما نسب سيبويه ففارسي مولى لبني الحارث بن كعب بن علة بن خلدة ابن مالك وهو مذحج واسمه عمرو بن عثمان بن قنبر وكنيته أبوبشر ولقبه الذي شهر به سيبويه ومعناها بالفارسية رائحة التفاح وكان من أطيب الناس رائحة وأجملهم وجها وقيل معنى سي ثلاثون ومعنى بويه رائحة فكأن معناها الذي ضوعف طيب رائحته ثلاثين مرة
واما سبب تعويله على الخليل في طلب النحو مع ماكان عليه من الميل الى التفسير والحديث فإنه سأل يوما حماد بن سلمة فقال له أحدثك هشام بن عروة عن أبيه في رجل رعف في الصلاة بضم العين فقال له حماد أخطأت إنما هو رعف بفتح العين فانصرف الى الخليل فشكا إليه ما لقيه من حماد فقال له الخليل صدق حماد ومثل حماد يقول هذا ورعف بضم العين لغة ضعيفة وقيل إنه قدم البصرة من البيداء من قرى شيراز من عمل فارس وكان مولده ومنشؤه بها ليكتب الحديث ويرويه فلزم حلقة حماد

ابن سلمة فبينما هو يستملي على حماد قول النبي ( ليس من أصحابي إلا من لو شئت لأقدت عليه ليس أبا الدرداء ) فقال سيبويه ( ليس أبو الدرداء ) بالرفع وخمنه اسم ليس فقال له حماد لحنت يا سيبويه ليس هذا حيث ذهبت إنما ليس ههنا استثناء فقال سيبويه سأطلب علما لا تلحنني فيه فلزم الخليل وبرع في العلم
وأما سبب وفوده على الرشيد ببغداد وتعرضه لمناظرة الكسائي والفراء فلما كانا عليه من تمكن الحال والقرب من السلطان وعلو همته وطلبه للظهور مع ثقته بعلمه لأنه كان أعلم أهل زمانه وكان بينه وبين البرامكة أقوى سبب فوفد على يحيى بن خالد بن برمك وابنيه جعفر والفضل فعرض عليهم ما ذهب إليه من مناظرة الكسائي وأصحابه فسعوا له في ذلك وأوصلوه الى الرشيد فجرى بينه وبين الكسائي والفراء ما ذكر واشتهر وكان آخر أمره أن الكسائي وأصحابه لما ظهروا عليه بشهادة الأعراب على حسب ما لقنوا أن قال يحيى بن خالد او الكسائي للرشيد يا أمير المؤمنين إن رأيت ان لا يرجع خائبا فعلت فأمر له بعشرة آلاف درهم وانصرف الى الأهواز ولم يعرج على البصرة وأقام هنالك مدة إلى أن مات كمدا ويروى أنه ذربت معدته فمات فيرون أنه مات غما ويروى أن الكسائي لما بلغه موته قال للرشيد ده يا أمير المؤمنين فإني أخاف أن أكون شاركت في دمه ولما احتضر وضع رأسه في حجر أخيه فقطرت دمعة من دموعه على خده فرفع عينيه وقال
( أخيين كنا فرق الدهر بيننا ... إلى الأمد الأقصى ومن يأمن الدهرا )
ومات على السنة والجماعة رحمه الله تعالى
وأما كتابه الجاري بين الناس فلم يصح أنه أنشأه بعد كتاب آخر قبله على أن ذلك قد ذكر
فهذا ماحضر فيما سألت عنه فمن قرأه وأشرف فيه على تقصير فليبسط

العذر فإنه لساعتين من نهار إملاء يوم الثلاثاء عشي النهار لثمان خلون لصفر سنة 476 انتهى
531 - وقال الإلبيري رحمه الله تعالى
( لا شيء أخسر صفقة من عالم ... لعبت به الدنيا مع الجهال )
( فغدا يفرق دينه أيدي سبا ... ويذيله حرصا بجمع المال )
( لاخير في كسب الحرام وقلما ... يرجى الخلاص لكاسب لحلال )
( فخذ الكفاف ولا تكن ذا فضلة ... فالفضل تسأل عنه أي سؤال )
532 - وكان أبو الفضل ابن الأعلم من أحسن الناس وجها وأذكرهم في علم النحو والأدب وأمرأ النحو في صباه وفيه يقول ابن صارة الأندلسي رحمه الله تعالى
( أكرم بجعفر اللبيب فإنه ... مازال يوضح مشكل الإيضاح )
( ماء الجمال بوجهه مترقرق ... فالعين منه تجول في ضحضاح )
( ماخده جرحته عيني انما ... صبغت غلالته دماء جراحي )
( لله زاي زبرجد في عسجد ... في جوهر في كوثر في راح )
( ذي طرة سبجية ذي غرة ... عاجية كالليل والإصباح )
( رشأ له خد البريء ولحظه ... أبدا شريك الموث في الأرواح )
533 - وقال محمد بن هانىء الأندلسي من قصيدة
( السافرات كأنهن كواكب ... والناعمات كأنهن غصون )

( ماذا على حلل الشقيق لو أنها ... عن لابسيها في الخدود تبين )
( لأعطشن الروض بعدهم ولا ... يرويه لي دمع عليه هتون )
( أعير لحظ العين بهجة منظر ... وأخونهم إني إذن لخؤون )
( لا الجو جو مشرق وإن اكتسى ... زهوا ولا الماء المعين معين )
( لا يبعدن إذ العبير له ثرى ... والبان روح والشموس قطين )
( الظل لا متنقل والحوض لا ... متكدر والأمن لا ممنون )
534 - وقال القسطلي في أسطول أنشأه المنصور بن أبي عامر من قصيدة
( تحمل منه البحر بحرا من القنا ... يروع بها امواجه ويهول
( بكل ممالات الشراع كأنها ... وقد حملت أسد الحقائق غيل )
( إذا سابقت شأو الرياح تخيلت ... خيولا مدى فرسانهن خيول )
( سحائب تزجيها الرياح فإن وفت ... أطافت بأجياد النعام فيول )
( ظباء سمام مالهن مفاحص ... وزرق حمام مالهن هديل )
( سواكن في أوطانهن كأن سما ... بها الموج حيث الراسيات نزول )
( كما رفع الآل الهوادج بالضحى ... غداة استقلت بالخليط حمول )
( أراقم تحوي ناقع السم ما لها ... بما حملت دون العداة مقيل )
وقد أطنب الناس في وصف السفن وأطابوا وقرطسوا القريض وأصابوا وقد ذكرنا نبذة من ذلك في هذا الكتاب
535 - وقال أبو بحر صفوان بن إدريس التجيبي حدثني بعض الطلبة بمراكش أن أبا العباس الجراوي كان في حانوت وراق بتونس وهناك فتى يميل إليه فتناول الفتى سوسنة صفراء وأومأ بها الى خديه مشيرا وقال أين الشعراء تحريكا للجراوي فقال ارتجالا

( وعلوي الجمال إذا تبدى ... أراك جبينه بدرا أنارا )
( أشار بسوسن يحكيه عرفا ... ويحكي لون عاشقه اصفرارا )
قال أبو بحر ثم سألني ان أقول في هذا المعنى فقلت بديها
( أومى الى خده بسونسة ... صفراء صيغت من وجنتي عبده )
( لم تر عيني من قبله غصنا ... سوسنه نابت إزا ورده )
( أعملت زجري فقلت ربتما ... قرب خد المشوق من خده )
فحدثني المذكور انه اجتمع مع أبي بكر ابن يحيى بن مجبر رحمه الله تعالى قبل اجتماعه بي في ذلك الموضع الذي اجتمع فيه بي بعينه فحدثه بالحكاية كما حدثني وسأله أن يقول في تلك الحال فقال بديها
( بي رشأ وسنان مهما انثنى ... حار قضيب البان في قده )
( مذ ولي الحسن وسلطانه ... صارت قلوب الناس من جنده )
( أودع في وجنته زهرة ... كأنها تجزع من صده )
( وقد تفاءلت على فعله ... أني أرى خدي على خده )
فتعجبت من توارد خاطرينا على معنى هذا البيت الأخير
قال أبو بحر ثم قلت في تلك الحال
( أبرز من وجنته وردة ... أودعها سوسنة صفرا )
( وإنما صورته آية ... ضمنها من سوسن عشرا )
536 - وقال بعضهم في الباذنجان
( ومستحسن عند الطعام مدحرج ... غذاه نمير الماء في كل بستان )

( تطلع في أقماعه فكأنه ... قلوب نعاج في مخاليب عقبان )
537 - وقال ابن خروف ويقال أنها في وصف دمشق
( إذا رحلت عروبة عن حماها ... تأوه كل أواه حليم )
( إلى سبت حكى فرعون موسى ... يجمع كل سحار عليم )
( فتبصر كل املود قويم ... يميس بكل ثعبان عظيم )
( إذا انسابت أراقمها عليها ... تذكرنا بها ليل السليم )
( وشاهدنا بها في كل حين ... حبالا ألقيت نحو الكليم )
538 - وقال أبو القاسم ابن هشام ارتجالا في وسيم عض وردة ثم رمى بها وسئل ذلك منه امتحانا
( ومعجز الأوصاف والوصاف في ... بردي جمال طرزا بالتيه )
( سوسان أنمله تناول وردة ... فغدا يمزقها أقاحي فيه )
( فكأنني شبهت وجنته بها ... فرمى بها غضبا على التشبيه )
وقال أيضا فيمن عض كلب وجنته
( وأغيد وضاح المحاسن باسم ... إذا قامر الأسياف ناظره قمر )
( تعمد كلب عض وجنته التي ... هي الورد إيناعا وأبقى بها أثر )
( فقلت لشهب الأفق كيف صماتكم ... وقد أثر العواء في صفحة القمر )
539 - وقال آخر يصف شجه في خد وسيم
( عذيري من ذي صفحة يوسفية ... بها شجة جلت عن اللثم واللمس )

( يقولون من عجب أتحسن وصفها ... فقلت هلال لاح في شفق الشمس )
540 - وقال القاضي أبوالوليد الوقشي فيمن طر شاربه
( قد بينت فيه الطبيعة انها ... لبديع أفعال المهندس باهره )
( عنيت بمبسمه فخطت فوقه ... بالمسك خطا من محيط الدائره )
541 - وقال أبو الحسن ابن عيسى
( عابوه أسمر ناحلا ذا زرقة ... رمدا وظنوا أن ذاك يشينه )
( جهلوا بأن السمهري شبيهه ... وخضابه بدم القلوب يزينه )
542 - وقال الأستاذ أبو ذر الخشني
( أنكر صحبي إذ رأوا طرفه ... ذا حمرة يشفى بها المغرم )
( لا تنكروا ما احمر من طرفه ... فالسيف لا ينكر فيه الدم )
543 - وقال أبو عبدالله محمد بن أبي خالص الرندي
( ياشادنا برز العذار بخده ... وازداد حسنا ليته لم يبرز )
( الآن أعلم حين جد بي الهوى ... كم بين مختصر وبين مطرز )
544 - وقال أبو الحسين عبدالملك بن مفوز المعافري
( ومعذر من خده ورقيبه ... شغلان حلا عقد كل عزيمة )
( خد وخب عيل صبري منهما ... هذا بنمنمة وذا بنميمة )
545 - وقال أبو الوليد ابن زيدون فيمن أصابه جدري

( قال لي اعتل من هويت حسود ... قلت أنت العليل ويحك لا هو )
( ما الذي قد نكرت من بثرات ... ضاعفت حسنه وزانت حلاه )
( جسمه في الصفاء والرقة الماء ... فلا غرو أن حباب علاه )
546 - وقال الهيثم
قالوا به جرب فقلت لهم قفوا ... تلك الندوب مواقع الأبصار )
( هو روضة والقد غصن ناعم ... أرأيتم غصنا بلا نوار )
547 - وقال أبو بكر محمد بن عياض القرطبي في مخضوبة الأنامل
( وعلقتها فتانة أعطافها ... تزري بغصن البانة المياد )
( من للغزالة والغزال بحسنها ... في الخد او في العين أو في الهادي )
( خضبت أناملها السواد وقلما ... أبصرت أقلاما بغير مداد )
548 - وقال أبو الحسين النفزي
( بدا يوسفا وشدا معبدا ... فللعين ما تشتهي والأذن )
( كأن بأعلاه قمرية ... تغرد من قده في غصن )
549 - وقال ابن صارة
( مقام حر بأرض هون ... عجز لعمري من المقيم )
( سافر فإن لم تجد كريما ... فمن لئيم الى لئيم )

550 - أشعار المعتمد
وقال المعتمد بن عباد رحمه الله تعالى
( مولاي أشكو إليك داء ... أصبح قلبي به قريحا )
( سخطك قد زادني سقاما ... فأبعث إلي الرضى مسيحا )
قال بعضهم وقوله مسيحا من القوافي التى يتحدى بها
وكتب إلى أبيه جوابا عن تحفة
( يا مالكا قد أصبحت كفه ... ساخرة بالعارض الهاطل )
( قد أفحمتني منة مثلها ... يضيق القول على القائل )
( وإن كنت قصرت في وصفها ... فحسنها عن وصفها شاغلي )
وكتب الى وزيره ابن عمار
( لما نأيت نأى الكرى عن ناظري ... ووددته لما انصرفت عليه )
( طلب البشير بشارة يجزى بها ... فوهبت قلبي واعتذرت إليه )
وقال في جارية له كان يحبها وبينما هي تسقيه إذ لمع البرق فارتاعت
( يروعها البرق وفي كفها ... برق من القهوة لماع )
( ياليت شعري وهي شمس الضحى ... كيف من الأنوار ترتاع )
ومن توارد الخواطر أن ابن عباد أنشد عبد الجليل بن وهبون البيت الأول وأمره أن يذيله فقال
( ولن ترى أعجب من آنس ... من مثل ما يمسك يرتاع )

وقال المعتمد رحمه الله تعالى
( داوى ثلاثته بلطف ثلاثة ... فثنى بذاك رقيبه لم يشعر )
( أسراره بتستر وأواره ... يتصبر وخباله بتوقر )
وكانت له جارية اسمها جوهرة وكان يحبها فجرى بينهما عتاب ورأى أن يكتب إليها يسترضيها فأجابته برقعة لم تعنونها باسمها فقال
( لم تصف لي بعد وإلا فلم ... لم أر في عنوانها جوهره )
( درت بأني عاشق لاسمها )
( فلم ترد للغيظ أن تذكره )
( قالت إذا أبصره ثابتا ... قبله والله لا أبصره )
وقال في هذه الجارية
( سرورنا بعدكم ناقص ... والعيش لا صاف ولا خالص )
( والسعد إن طالعنا نجمه ... وغبت فهو الآفل الناكص )
( سموك بالجوهر مظلومة ... مثلك لا يدركه غائص )
وقال فيها أيضا
( جوهرة عذبني ... منك تمادي الغضب )
( فزفرتي في صعد ... وعبرتي في صبب )
( ياكوكب الحسن الذي ... أزرى بزهر الشهب )
( مسكنك القلب فلا ... ترضي له بالوصب )
وقال في جارية اسمها وداد
( اشرب الكأس في وداد ودادك ... وتأنس بذكرها في انفرادك )

( قمر غاب عن جفونك مرآه ... وسكناه في سواد فؤادك )
وقال
( لك الله كم أودعت قلبي من أسى ... وكم لك مابين الجوانح من كلم )
( لحاظك طول الدهر حرب لمهجتي ... ألا رحمة تثنيك يوما إلى سلمي )
وقال
( قلت متى ترحمني ... قال ولا طول الأبد )
( قلت فقد أيأستني ... من الحياة قال قد )
551 - وأهدى أبو الوليد ابن زيدون باكورة تفاح الى المعتضد والد المعتمد وكتب له معها
( يامن تزينت الرياسة ... حين ألبس ثوبها )
( جاءتك جامدة المدام ... فخذ عليها ذوبها )
552 - وقال المعتمد وقد أمره أبوه المعتضد أن يصف مجنا فيه كواكب فضة
( مجن حكى صانعوه السما ... لتقصر عنه طوال الرماح )
( وقد صوروا فيه شبه الثريا ... كواكب تقضي له بالنجاح )
553 - وقال ابن اللبانة كنت بين يدي الرشيد ابن المعتمد في مجلس أنسه فورد الخبر بأخذ يوسف بن تاشفين غرناطة سنة 483 فتفجع وتلهف

واسترجع وتأسف وذكر قصر غرناطة فدعونا لقصره بالدوام ولملكه بتراخي الأيام وامر عند ذلك أبا بكر الإشبيلي بالغناء فغنى
( يادار مية بالعلياء فالسند ... أقوت وطال عليها سالف الأمد )
فاستحالت مسرته وتجهمت أسرته وامر بالغناء من ستارته فغنى
( إن شئت أن لا ترى صبرا لمصطبر ... فانظر على أي حال أصبح الطلل )
فتأكد تطيره واشتد اربداد وجهه وتغيره وامر مغنية اخرى من سراريه بالغناء فغنت
( يالهف نفسي على مال أفرقه ... على المقلين من أهل المروءات )
( إن اعتذاري إلى من جاء يسألني ... مالست املك من إحدى المصيبات )
قال فتلافيت الحال بأن قلت
( محل مكرمة لا هد مبناه ... وشمل مأثره لا شتت الله )
( البيت كالبيت لكن زاد ذا شرفا ... ان الرشيد مع المعتد ركناه )
( ثاو على انجم الجوزاء مقعده ... وراحل في سبيل السعد مسراه )
( حتم على الملك أن يقوى وقد وصلت ... بالشرق والغرب يمناه ويسراه )
( بأس توقد فاحمرت لواحظه ... ونائل شب فاخضرت عذاراه )
فلعمري لقد بسطت من نفسه وأعادت عليه بعض أنسه على اني وقعت فيما وقع فيه الكل لقولي البيت كالبيت وأمر إثر ذلك أبا بكر بالغناء فغنى
( ولما قضينا من منى كل حاجة ... ولم يبق إلا أن تزم الركائب )

فأيقنا ان هذا التطير يعقبه التغير
554 - وقد كان المعتضد بن عباد حين تصرمت أيامه وتدانى حمامه استحضر مغنيا يغنيه ليجعل ما يبدأ به فألا وكان المغني السوسي فأول شعر قاله
( نطوي المنازل علما أن ستطوينا ... فشعشعيها بماء المزن واسقينا )
فمات بعد خمسة أيام وكان الغناء من هذا الشعر في خمسة أبيات
555 - وقال المعتمد بعدما خلع وسجن
( قبح الدهر فماذا صنعا ... كلما أعطى نفيسا نزعا )
( قد هوى ظلما بمن عاداته ... أن ينادي كل من يهوي لعا )
( من إذا قيل الخنى صم وإن ... نطق العافون همسا سمعا )
( قل لمن يطمع في نائله ... قد أزال اليأس ذاك الطمعا )
( راح لا يملك إلا دعوة ... جبر الله العفاة الضيعا )
556 - وقال ابن اللبانة كنت مع المعتمد بأغمات فلما قاربت الصدر وأزمعت السفر صرف حيله واستنفد ما قبله وبعث الي مع شرف الدولة ولده وهذا من بنيه أحسن الناس سمتا واكثرهم صمتا تخجله اللفظة وتجرحه اللحظة حريص على طلب الأدب مسارع في اقتناء الكتب مثابر على نسخ الدواوين مفتح فيها من خطه زهر الرياحين بعشرين مثقالا مرابطية وثوبين غير مخيطين وكتب معها أبياتا منها
( إليك النزر من كف الأسير ... وإن تقنع تكن عين الشكور )

( تقبل ما يذوب له حياء ... وإن عذرته حالات الفقير )
فامتنعت من ذلك عليه وأجبته بأبيات منها
( تركت هواك وهو شقيق ديني ... لئن شقت برودي عن غدور )
( ولا كنت الطليق من الرزايا ... إذا أصبحت أجحف بالأسير )
( جذيمة أنت والزباء خانت ... وما انا من يقصر عن قصير )
( تصرف في الندى حيل المعالي ... فتسمح من قليل بالكثير )
( وأعجب منك أنك في ظلام ... وترفع للعفاة منار نور )
( رويدك سوف توسعني سرورا ... إذا عاد ارتقاؤك للسرير )
( وسوف تحلني رتب المعالي ... غداة تحل في تلك القصور )
( تزيد على ابن مروان عطاء ... بها وأزيد ثم على جرير )
( تأهب ان تعود الى طلوع ... فليس الخسف ملتزم البدور )
وأتبعتها أبياتا منها
( حاش لله أن أجيح كريما ... يتشكى فقرا وقد سد فقرا )
( وكفاني كلامك الرطب نيلا ... كيف ألغي درا وأطلب تبرا )
( لم تمت إنما المكارم ماتت ... لا سقى الله بعدك الأرض قطرا )
ورأى ابن اللبانة أحد أبناء المعتمد وهو غلام وسيم وقد اتخذ الصياغة صناعة وكان يلقب أيام سلطانهم من الألقاب السلطانية بفخر الدولة فنظر إليه وهو ينفخ الفحم بقصبة الصائغ وقد جلس في السوق يتعلم الصياغة فقال
( شكاتنا لك يا فخر العلا عظمت ... والرزء يعظم ممن قدره عظما )
( طوقت من نائبات الدهر مخنقة ... ضاقت عليك وكم طوقتنا نعما )
( وعاد طوقك في دكان قارعة ... من بعد ماكنت في قصر حكى إرما )

( صرفت في آلة الصواغ أنملة ... لم تدر إلا الندى والسيف والقلما )
( يد عهدتك للتقبيل تبسطها ... فتستقل الثريا ان تكون فما )
( يا صائغا كانت العليا تصاغ له ... حليا وكان عليه الحلي منتظما )
( للنفخ في الصور هول ماحكاه سوى ... هول رأيتك فيه تنفخ الفحما )
( وددت إذ نظرت عيني إليك به ... لو أن عيني تشكو قبل ذاك عمى )
( ماحطك الدهر لما حط عن شرف ... ولا تحيف من أخلاقك الكرما )
( لح في العلا كوكبا ان لم تلح قمرا ... وقم بها ربوة إن لم تقم علما )
( واصبر فربما أحمدت عاقبة ... من يلزم الصبر يحمد غب ما لزما )
( والله لو أنصفتك الشهب لانكسفت ... ولو وفى لك دمع الغيث لانسجما )
( أبكى حديثك حتى الدر حين غدا ... يحكيك رهطا وألفاظا ومبتسما )
557 - وقال لسان الدين بن الخطيب رحمه الله تعالى وقفت على قبر المعتمد بن عباد بمدينة أغمات في حركة راحة أعملتها إلى الجهات المراكشية باعثها لقاء الصالحين ومشاهدة الآثار سنة 761 وهو بمقبرة أغمات في نشز من الأرض وقد حفت به سدرة وإلى جانبه قبر اعتماد حظيته مولاة رميك وعليها هيئة التغرب ومعاناة الخمول من بعد الملك فلا تملك العين دمعها عند رؤيتها فأنشدت في الحال
( قد زرت قبرك عن طوع بأغمات ... رأيت ذلك من أولى المهمات )
( لم لا أزورك يا أندى الملوك يدا ... ويا سراج الليالي المدلهمات )
( وأنت من لو تخطى الدهر مصرعه ... الى حياتي لجادت فيه أبياتي )
( اناف قبرك في هضب يميزه ... فتنتحيه حفيات التحيات )
( كرمت حيا وميتا واشتهرت علا ... فأنت سلطان أحياء وأموات )

( ما ريء مثلك في ماض ومعتقدي ... ان لايرى الدهر في حال وفي آت )
وقد زرت أنا قبر المعتمد بن عباد بمدينة أغمات سنة 1010 ورأيت فيه مثل ماذكره لسان الدين رحمه الله تعالى فسبحان من لايبيد ملكه لا اله إلا هو
وأخبار المعتمد كثيرة
558 - وقال وزيره أبو الوليد ابن زيدون
( متى أخف الغرام يصفه جسمي ... بألسنة الضنى الخرس الفصاح )
( فلو أن الثياب نزعن عني ... خفيت خفاء خصرك في الوشاح )
وقال يخاطب المعتمد
( وطاعة أمرك فرض أراه ... من كل مفترض أوكدا )
( هي الشرع أصبح دين الضمير ... فلو قد عصاك لقد ألحدا )
وقال فيه
( ياندى يمنى أبي القاسم عم ... ياسنا بشر المحيا أشمس )
( وارتشف معسول ثغر أشنب ... لحبيب من عجاج ألعس )
وقال
( مهما امتدحت سواك قبل فإنما ... مدحي الى مدحي لك استطراد )
( تغشى الميادين الفوارس حقبة ... كيما يعلمها النزال طراد )
وقال

( يحييني بريحان التجني ... ويصحبني معتقة السماح )
( فها أنا قد ثملت من الأيادي ... إذا اتصل اغتباقى باصطحابي )
وكتب إلى أبي عامر يستدعيه
( أبا المعالي نحن في روضة ... فانقل إلينا القدم العاليه )
( أنت الذي لو نشتري ساعة ... منه بدهر لم تكن غاليه )
وتذكرت هنا قول بعض المشارقة فيما أظن
( لله أيام مضت مأنوسة ... ماكان احسنها وأنضرها معا )
( لو ساعة منها تباع شريتها ... ولو انها بيعت بعمري اجمعا )
رجع
559 - وقال أبو القاسم أسعد من قصيدة في المعتصم بن صمادح
( وقد ذاب كحل الليل في دمع فجره ... الى ان تبدى الليل كاللمة الشمطا )
( كأن الدجى جيش من الزنج نافذ ... وقد أرسل الإصباح في إثره القبطا )
ومنها
( إذا سار الجود تحت لوائه ... فليس يحط المجد إلا إذا حطا )
560 - وقال ابن خلصة المكفوف النحوي من قصيدة
( ملك تملك حر المجد لايده ... نالت بظلم ولا مالت الى البخل )
( مهذب الجد ماضي الحد مضطلع ... لما تحمله العلياء من ثقل )

( أغر لاوعده يخشى له أبدا ... خلف ولا رأيه يؤتى من الزلل )
( قد جاوزت نطق الجوزاء همته ... به ومازحلت عن مرتقى زحل )
( يأبى له ان يحل الذم ساحته ... ماصد من جلل او سد من خلل )
ومنها
( إن لم تكن بكم حالي مبدلة ... فما انتفاعي بعلم الحال والبدل )
561 - وقال ابن الحداد يمدح المعتصم بن صمادح
( عج بالحمى حيث الغياض العين ... فعسى تعن لنا مهاه العين )
( واستقبلن أرج النسيم فدارهم ... ندية الأرجاء لا دارين )
( أفق إذا مارمت لحظ شموسه ... صدتك للنقع المثار دجون )
( أنى اراع لهم وبين جوانحي ... شوق يهون خطبهم فيهون )
( أنى يهاب ضرابهم وطعانهم ... صب بألحاظ العيون طعين )
( فكأنما بيض الصفاح جداول ... وكأنما سمر الرماح غصون )
( ذرني أسر بين الأسنة والظبى ... فالقلب في تلك القباب رهين )
( ياربة القرط المعير خفوقه ... قلبي اما لحراكه تسكين )
( توريد خدك للصبابة مورد ... وفتور طرفك للنفوس فتون )
( فإذا رمقت فوحي حبك منزل ... وإذا نطقت فإنه تلقين )
ومنها في وصف قصر
( رأس بظهر النون إلا أنه ... سام فقبته بحيث النون )
( هو جنة الدنيا تبوأ نزلها ... ملك تملكه التقى والدين )
( فكأنما الرحمن عجلها له ... ليرى بما قد كان ماسيكون )
( وكأن بانيه سنمار فما ... يعدوه تحسين ولا تحصين )

( وجزاؤه فيه نقيض جزائه ... شتان ما الإحياء والتحيين )
ومنها في المديح
( لا تلقح الأحكام حيفا عنده ... فكأنها الأفعال والتنوين )
ومنها
( وبدا هلال الأفق احنى ناسخا ... عهد الصيام كأنه العرجون )
( فكأن بين الصوم خطط نحوه ... خطا خفيا بان منه النون )
562 - وقال عبد الجليل بن وهبون
( زعموا الغزال حكاه قلت لهم نعم ... في صده عن عاشقيه وهجره )
( وكذا يقولون المدام كريقه ... يارب ماعلموا مذاقة ثغره )
563 - وقال أبو الحسن علي بن احمد بن أبي وهب الأندلسي
( قالوا تدانيت من وداعهم ... ولم نر الصبر عنك مغلوبا )
( فقلت للعلم أنني بغد ... أسمع لفظ الوداع مقلوبا )
وهذا كقول بعض شعراء اليتيمة
( أذا دهاك الوداع فاصبر ... ولا يروعنك البعاد )
( وانتظر العود عن قريب ... فإن قلب الوداع عادوا )
564 - وقال ابن اللبانة
( إن تكن تبتغي القتال فدعني ... عنك في حومة القتال احامي )

( خذ جناني عن جنة ولساني ... عن سنان وخاطري عن حسام )
565 - وقال القزاز يمدح ابن صمادح وخلط النسيب بالمديح
( نفى الحب عن مقلتي الكرى ... كما قد نفى عن يدي العدم )
( فقد قر حبك في خاطري ... كما قر في راحتيك الكرم )
( وفر سلوك عن فكرتي ... كما فر عن عرضه كل ذم )
( فحبي ومفخره باقيان ... لا يذهبان بطول القدم )
( فأبقى لي الحب خال وجد ... وأبقى له الفخر خال وعم )
566 - وقال أبو الحسن ابن الحاج
( أذوب اشتياقا يوم يحجب شخصه ... وإني على ريب الزمان لقاسي )
( وأذعر منه هيبة وهو المنى ... كما يذعر المخمور اول كاس )
وقال
( من لي بطرف كأنني أبدا ... منه بغير المدام مخمور )
( ما أصدق القائلين حين بدا ... عاشق هذا الجمال معذور )
وقال
( أبا جعفر مات فيك الجمال ... فأطهر خدك لبس الحداد )
( وقد كان ينبت نور الربيع ... فقد صار ينبت شوك القتاد )
( فهل كنت من عبد شمس فأخشى ... عليك ظهور شعار السواد )
وقال وما احكمه
( ما عجبي من بائع دينه ... بلذة يبلغ فيها هواه )

( وإنما اعجب من خاسر ... يبيع أخراه بدنيا سواه )
وقال من مخمسة يرثي فيها ابن صمادح ويندب الأندلس زمن الفتنة
( من لي بمجبول على ظلم البشر ... صحف في أحكامه حاء الحور )
( مر بنا يسحب أذيال الخفر ... ما أحسد الظبي له إذا نفر )
( وأشبه الغصن به إذا خطر )
( كافورة قد طرزت بمسك ... جوهرة لم تمتهن بسلك )
( نبذت فيها ورعي ونسكي ... بعد لجاجي في التقى ومحكي )
( فاليوم قد صح رجوعي واشتهر )
( نهيت قدما ناظري عن نظر ... علما بما يجني ركوب الغرر )
( وقلت عرج عن سبيل الخطر ... فاليوم قد عاين صدق الخبر )
( إذ بات وقفا بين دمع وسهر )
( سقى الحيا عهدا لنا بالطاق ... معترك الألباب والأحداق )
( وملتقى الأنفس والأشواق ... أيأس فيه الدهر عن تلاقي )
( وربما ساءك دهر ثم سر )
( أحسن به مطلعا ما أغربا ... قابل من دجلة مرأى معجبا )
( إن طلعت شمس وقد هبت صبا ... حسبته ينشر بردا مذهبا )
( بمنظر فيه جلاء للبصر )
( يارب أرض قد خلت قصورها ... وأصبحت آهلة قبورها )
( يشغل عن زائرها مزورها ... لا يأمل العودة من يزورها )
( هيهات ذاك الورد ممنوع الصدر )

( تنتحب الدنيا على ابن معن ... كأنها ثكلى أصيبت بابن )
( أكرم مأمول ولا أستثني ... أثني بنعماه ولا أثني )
( والروض لا ينكر معروف المطر )
( عهدي به والملك في ذماره ... والنصر فيما شاء من أنصاره )
( يطلع بدر التم من أزراره ... وتكمن العفة في إزاره )
( ويحضر السؤدد أيان حضر )
( قل للنوى جد بنا انطلاق ... مابعدت مصر ولا العراق )
( إذا حدا نحوهما اشتياق ... ومن دواء الملل الفراق )
( ومن نأى عن وطن نال وطر )
( سار بذي برد من الإصباح ... راكب نشوى ذات قصد صاح )
( مسودة مبيضة الجناح ... تسبح بين الماء والرياح )
( بزورها عن طافح الموج زور )
( يقتحم الهول بها اغترارا ... في فتية تحسبها سكارى )
( قد افترشن المسد المغارا ... حتى إذا شارفت المنارا )
( هب كما بل العليل المحتضر )
( يؤم عدل الملك الرضي ... الهاشمي الطاهر النقي )
( والمجتبى من ضضىء النبي ... من ولد السفاح والمهدي )
( فخر معد ونزار ومضر )
( حيث ترى العباس يستسقى به ... والشرف الأعظم في نصابه )
( والأمر موقوفا على أربابه ... والدين لا تختلط الدنيا به ) ... ( وسيرة الصديق تمضي وعمر )

567 - أشعار لابن خفاجة
وقال ابن خفاجة في صفة قوس
( عوجاء تعطف ثم ترسل تارة ... فكأنما هي حية تنساب )
( وإذا انحنت والسهم منها خارج ... فهي الهلال انقض منه شهات )
وقال
( وعسى الليالي أن تمن بنظمنا ... عقدا كما كنا عليه وأكملا )
( فلربما نثر الجمان تعمدا ... ليعاد أحسن في النظام وأجملا )
وهو من قول مهيار
( عسى الله يجعلها فرقة ... تعود بأكمل مستجمع )
وقول المتنبي
( سألت الله يجعله رحيلا ... يعين على الإقامة في ذراكا )
وقال
( اقض على خلك او ساعد ... عشت بجد في العلا صاعد )
( فقد بكى جفني دما سائلا ... حتى لقد ساعده ساعدي )
وقال
( وأسود يسبح في بركة ... لا تكتم الحصباء غدرانها )
( كأنها في صفوها مقلة ... زرقاء والأسود إنسانها )

وقال
( حيا بها ونسيمها كنسيمه ... فشربتها من كفه في ودة )
( منساغة فكأنها من ريقه ... محمرةفكأنها من خده )
وقال
( لعمري لو أوضعت في منهج التقى ... لكان لنا في كل صالحة نهج )
( فما يستقيم الأمر والملك جائر ... وهل يستقيم الظل والعود معوج )
وقال يرثي صديقا من أبيات
( تيقن أن الله أكرم جيرة ... فأزمع عن دار الحياة رحيلا )
( فإن أقفرت منه العيون فإنه ... تعوض منها بالقلوب بديلا )
( ولم أر أنسا قبله عاد وحشة ... وبردا على الأكباد عاد غليلا )
( ومن تك أيام السرور قصيرة ... به كان ليل الحزن فيه طويلا )
وقال
( تفاوت نجلا أبي جعفر ... فمن متعال ومن منسفل )
( فهذا يمين بها أكله ... وهذا شمال بها يغتسل )
568 - وقال ابن الرفاء
( ولما رأيت الغرب قد غص بالدجى ... وفي الشرق من ضوء الصباح دلائل )
( توهمت ان الغرب بحر أخوضه ... وأن الذي يبدو من الشرق ساحل )
569 - وقال أبو محمد ابن عبدالبر الكاتب
( لا تكثرن تأملا ... وامسك عليك عنان طرفك )

( فلربما أرسلته ... فرماك في ميدان حتفك )
570 - وقال أبو القاسم السميسر
( يا آكلا كل ما اشتهاه ... وشاتم الطب والطبيب )
( ثمار ماقد غرست تجني ... فانتظر السقم عن قريب )
( يجتمع الماء كل يوم ... أغذيه السوء كالذنوب )
وكان كثير الهجاء وله كتاب سماه بشفاء الأمراض في أخذ الأعراض والعياذ بالله تعالى
ومن قوله
( خنتم فهنتم وكم أهنتم ... زمان كنتم بلا عيون )
( فأنتم تحت كل تحت ... وأنتم دون كل دون )
( سكنتم يارياح عاد ... وكل ريح الى سكون )
وقال
( يا مشفقا من خمول قوم ... ليس لهم عندنا خلاق )
( ذلوا ويا طالما أذلوا ... دعهم يذوقوا الذي أذاقوا )
وقال
( وليتم فما أحسنتم مذ وليتم ... ولا صنتم عمن يصونكم عرضا )
( وكنتم سماء لا ينال منالها ... فصرتم لدى من لا يسائلكم أرضا )
( ستسترجع الأيام ما أقرضتكم ... ألا إنها تسترجع الدين والقرضا )

571 - وقال ابن شاطر السرقسطي
( قد كنت لا أدري لأية علة ... صار البياض لباس كل مصاب )
( حتى كساني الدهر سحق ملاءة ... بيضاء من شيبي لفقد شبابي )
( فبذا تبين لي إصابة من رأى ... لبس البياض على نوى الأحباب )
572 - وهذه عادة أهل الأندلس ولهذا قال الحصري
( إذا كان البياض لباس حزن ... بأندلس فذاك من الصواب )
( ألم ترني لبست بياض شيبي ... لأني قد حزنت على الشباب )
وما أحسن قوله رحمه الله تعالى
( لو كنت زائرتي لراعك منظري ... ورأيت بي ما يصنع التفريق )
( ولحال من دمعي وحر تنفسي ... بيني وبينك لجة وحريق )
573 - وقال ابن عبدالصمد يصف فرسا
( على سابح فرد يفوت بأربع ... له أربعا منها الصبا والشمائل )
( من الفتخ خوار العنان كأنه ... مع البرق سار أو مع السيل سائل )
574 - وقال ابن عبدالحميد البرجي
( أرح متن المهند والجواد ... فقد تعبا بجدك في الجهاد )
( قضيت بعزمة حق العوالي ... فقض براحة حق الهوادي )
575 - وقال عبادة
( إنما الفتح هلال طالع ... لاح من أزراره في فلك )
( خده شمس وليل شعره ... من رأى الشمس بدت في حلك )

576 - وقال ابن المطرف المنجم
( يرى العواقب في أثناء فكرته ... كأن أفكاره بالغيب كهان )
( لا طرفة منه إلا تحتها عمل ... كالدهر لا دورة إلا لها شان )
577 - وقال أبو الحسن ابن اليسع
( راموا ملامي وكان إغرا ... وذم حبي وكان إطرا )
( لو علم العاذلون مابي ... لانقلبت فيه لامهم را )
وقال
( لما قدمت وعندي ... شطر من الشوق وافي )
( قدمت قلبي قبلي ... فصنه حتى أوافي )
578 - ولما خاطب المستنصر ملك إفريقية ابن سيد الناس بقوله
( ماحال عينيك ياعين الزمان فقد ... أورثتني حزنا من أجل عينيكا )
( وليس لي حيلة غير الدعاء فيا ... رب براوي الصحيحين حنانيكا )
أجابه الحافظ أبو المطرف ابن عميرة المخزومي خدمة عن الحافظ أبي بكر ابن سيد الناس
( مولاي حالهما والله صالحة ... لما سألت فأعلى الله حاليكا )
( ماكان من سفر اوكان من حضر ... حتى تكون الثريا دون نعليكا )
579 - وقال الأديب أبوالعباس الرصافي وهو من أصحاب أبي حيان
( هذا هلال الحسن أطلع بيننا ... وجميعنا بحلى محاسنه شغف )

( لما رأى صل العذار بخده ... ماء النعيم أتى اليه ليرتشف )
( فكأن ذاك الخد أنكر أمره ... فاحمر من حنق عليه وقال قف )
وقال
( وعشية نعمت بها أرواحنا ... والخمر قد أخذت هنالك حقها )
( وكأنما إبريقنا لما جثا ... ألقى حديثا للكؤوس وقهقها )
580 - وقال الإمام الحافظ أبوالربيع ابن سالم
( كأنما ابريقنا عاشق ... كل عن الخطو فما أعمله )
( غازل من كأسي حبيبا له ... فكلما قبله أخجله )
581 - وقال أبو القاسم ابن الأبرش
( رأيت ثلاثة تحكي ثلاثا ... إذا ماكنت في التشبيه تنصف )
( فتنجو النيل منفعة وحسنا ... وشنترين مصر وأنت يوسف )
وقال في غريق وقيل إنه مما تمثل به
( الحمد لله على كل حال ... قد أطفأ الماء سراج الجمال )
( أطفأه ماكان محيا له ... قد يطفىء الزيت ضياء الذبال )
وهو القائل أيضا
( لو لم يكن لي آباء أسود بهم ... ولم يؤسس رجال الغرب لي شرفا )
( ولم أنل عند ملك العصر منزلة ... لكان في سيبويه الفخر لي وكفى )
( فكيف علم ومجد قد جمعتهما ... وكل مختلق في مثل ذا وقفا )

582 - وقال أبو الحسن ابن حريق
( أصبحت تدمير مصرا كاسمها ... وأبويوسف فيها يوسفا )
583 - وقال أبو القاسم ابن العطار الاشبيلي في بعض الهوزنيين وقد غرق في نهر طلبيرة عند فتحها
( ولما رأوا أن لا مقر لسيفه ... سوى هامهم لاذوا بأجرأ منهم )
( فكان من النهر المعين معينهم ... ومن ثلم السد الحسام المثلم )
( فيا عجبا للبحر غالته نطفة ... وللأسد الضرغام أرداه أرقم )
584 - نقول من التكملة
1 - وقال أبو العباس اللص
( وقائلة والضنى شاملي ... علام سهرت ولم ترقد )
( وقد ذاب جسمك فوق الفراش ... حتى خفيت على العود )
( فقلت وكيف أرى نائما ... ورائي المنية بالمرصد )
ولما قرىء عليه ديوان أبي تمام ومر فيه وصف سيف قال أنا أشعر منه حيث اقول
( تراه في غداة الغيم شمسا ... وفي الظلماء نجما أو ذبالا )
( يروعهم معاينة ووهما ... ولو ناموا لروعهم خيالا )
2 - وقال أبو إسحاق الإلبيري

( تمر لداتي واحدا بعد واحد ... وأعلم اني بعدهم غير خالد )
( وأحمل موتاهم وأشهد دفنهم ... كأني بعيد عنهم غير شاهد )
( فها انا في علمي لهم وجهالتي ... كمستيقظ يرنو بمقلة راقد )
قيل ولو قال في البيت الثاني
( كأني عنهم غائب غير شاهد ) لكان أحسن وأبدع وأبرع في الصناعة الشعرية قاله ابن الأبار رحمه الله تعالى
3 - وقال الوزير ابو الوليد ابن مسلمة
( إذا خانك الرزق في بلدة ... ووافاك من همها ما كثر )
( فمفتاح رزقك في بلدة ... سواها فردها تنل مايسر )
( كذا المبهمات بوسط الكتاب ... مفتاحها أبدا في الطرر )
4 - وقال ابو الطاهر إسماعيل الخشني الجياني المعروف بابن أبي ركب وقيل أن اخاه الأستاذ أبا بكر هو المعروف بذلك
( يقول الناس في مثل ... تذكر غائبا تره )
( فمالي لا أرى سكني ... ولا أنسى تذكره )
5 - وأنشد ابو المعالي الإشبيلي الواعظ بمسجد رحبة القاضي من بلنسية أبياتا منها

( أنا في الغربة ابكي ... مابكت عين غريب )
( لم أكن يوم خروجي ... من بلادي بمصيب )
( عجبا لي ولتركي ... وطنا فيه حبيبي )
6 - وقال أبو القاسم ابن الأنقر السرقسطي
( احفظ لسانك والجوارح كلها ... فلكل جارحة عليك لسان )
( واخزن لسانك ما استطعت فإنه ... ليث هصور والكلام سنان )
7 - وقال أبو القاسم خلف بن يحيى بن خطاب الزاهد مما نسبه لأبي وهب الزاهد
( قد تخيرت ان أكون مخفا ... ليس لي من مطيهم غير رجلي )
( فإذا كنت بين ركب فقالوا ... قدموا للرحيل قدمت نعلي )
( حيثما كنت لا أخلف رحلا ... من رآني فقد رآني ورحلي )
8 - وقال أبو عبدالله ابن محمد بن فتح الأنصاري الثغري
( كم من قوي قوي في تقلبه ... مهذب الرأي عنه الرزق ينحرف )
( ومن ضعيف ضعيف الرأي مختبل ... كأنه من خليج البحر يغترف )
9 - وقال أبو القاسم محمد بن نصير الكاتب
( مضت اعمارنا ومضت سنونا ... فلم تظفر بذي ثقة يدان )
( وجربنا الزمان فلم يفدنا ... سوى التخويف من أهل الزمان )

10 - وحكي عن الفقيه الأديب النحوي ابي عبدالله محمد بن ميمون الحسيني قال كانت لي في صبوتي جارية وكنت مغرى بها وكان أبي رحمه الله يعذلني ويعرض لي ببيعها لأنها كانت تشغلني عن الطلب والبحث عليه فكان عذله يزيدني إغراء بها فرأيت ليلة في المنام كأن رجلا يأتيني في زي أهل المشرق كل ثيابه بيض وكان يلقى في نفسي أنه الحسين بن علي ابن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما وكان ينشدني
( تصبو الى مي ومي لا تني ... تزهو ببلواك التي لا تنقضي )
( وفخارك القوم الألى ما منهم ... إلا إمام أو وصي أو نبي )
( فاثن عنانك للهدى عن ذي الهوى ... وخف الإله عليك ويحك وارعوي )
قال فانتبهت فزعا مفكرا فيما رأيته فسألت الجارية هل كان لها اسم قبل أن تتسمى بالاسم الذي أعرفه فقالت لا ثم عاودتها حتى ذكرت أنها كانت تسمى مية فبعتها حينئذ وعلمت أنه وعظ وعظني الله به عز و جل وبشرى
11 - وقال ابن الحداد أول قصيدته حديقة الحقيقة
( ذهب الناس فانفرادي أنيسي ... وكتابي محدثي وجليسي )
( صاحب قد أمنت منه ملالا ... واختلالا وكل خلق بئيس )
( ليس في نوعه بحي ولكن ... يلتقي الحي منه بالمرموس )
12 - وقال بعض اهل الجزيرة الخضراء

( ألحاظكم تجرحنا في الحشا ... ولحظنا يجرحكم في الخدود )
( جرح بجرح فاجعلوا ذا بذا ... فما الذى أوجب جرح الصدود )
وقال ابن النعمة إنهما لابن شرف وقد ذكرناهما مع جوابهما في غير هذا الموضع
13 - وقال المعتمد بن عباد
( اقنع بحظك في دنياك ما كان ... وعز نفسك إن فارقت أوطانا )
( في الله من كل مفقود مضى عوض ... فأشعر القلب سلوانا وإيمانا )
( أكلما سنحت ذكرى طربت لها ... مجت دموعك في خديك طوفانا )
( أما سمعت بسلطان شبيهك قد ... بزته سود خطوب الدهر سلطانا )
( وطن على الكره وارقب إثره فرجا ... واستغفر الله تغنم منه غفرانا )
14 - وقال أبو عامر البرياني في الصنم الذي بشاطبة
( بقية من بقايا الروم معجبة ... أبدى البناة بها من علمهم حكما )
( لم أدر ما أضمروا فيه سوى أمم ... تتابعت بعد سموه لنا صنما )
( كالمبرد الفرد ما أخطأ مشبهه ... حقا لقد برد الأيام والأمما )
( كأنه واعظ طال الوقوف به ... مما يحدث عن عاد وعن إرما )
( فانظر الى حجر صلد يكلمنا ... أسمى وأوعظ من قس لمن فهما )
قيل لو قال مكان حكما علما لأحسن
15 - وقال السميسر

( إذا شئت إبقاء أحوالكا ... فلا تجر جاها على بالكا )
( وكن كالطريق لمجتازها ... يمر وانت على حالكا )
وقال
( هن إذا ما نلت حظا ... فأخو العقل يهون )
( فمتى حطك دهر ... فكما كنت تكون )
16 - وقال أبو الربيع ابن سالم الكلاعي أنشدني أبو محمد الشلبي أنشدني أبو بكر ابن منخل لنفسه
( مضت لي ست بعد سبعين حجة ... ولي حركات بعدها وسكون )
( فيا ليت شعري أين او كيف أو متى ... يكون الذي لابد أن سيكون )
17 - وقال أبو محمد عبدالحق الإشبيلي
( لا يخدعنك عن دين الهدى نفر ... لم يرزقوا في التماس الحق تأييدا )
( عمي القلوب عروا عن كل فائدة ... لأنهم كفروا بالله تقليدا )
18 - وقال أبو محمد ابن صارة
( بنو الدنيا بجهل عظموها ... فعزت عندهم وهي الحقيره )
( يهارش بعضهم بعضا عليها ... مهارشة الكلاب على العقيره )
وقال
( اسعد بمالك في الحياة ولا تكن ... تبقي عليه حذار فقر حادث

( فالبخل بين الحادثين وإنما ... مال البخيل لحادث أو وارث )
19 - ودخل أبو محمد الطائي القرطبي على القاضي أبي الوليد ابن رشد فأنشده ارتجالا
( قام لي السيد الهمام ... قاضي قضاة الورى الإمام )
( فقلت قم بي ولا تقم لي ... فقلما يؤكل القيام )
20 - وقال الحافظ أبو محمد ابن حزم
( لا تلمني لأن سبقت لحظ ... فات إدراكه ذوي الألباب )
( يسبق الكلب وثبة الليث في العدو ... ويعلو النخال فوق اللباب )
21 - وقال أبو عبدالله الجبلي الطبيب القرطبي
( اشدد يديك على كلب ظفرت به ... ولا تدعه فإن الناس قد ماتوا )
قلت تذكرت بهذا قول الآخر
( اشدد يديك بكلب إن ظفرت به ... فأكثر الناس قد صاروا خنازيرا )
22 - وقال محمد بن عبدالله الحضرمي مولى بني امية
( عاشر الناس بالجميل ... وسدد وقارب )
( واحترس من أذى الكرام ... وجد بالمواهب )
( لا يسود الجميع من ... لم يقم بالنوائب )
( ويحوط الأذى ويراعي ... ذمام الأقارب )

( لا تواصل إلا الشريف ... الكريم المناصب )
( من له خير شاهد ... وله خير غائب )
( واجتنب وصل كل وغد ... دنيء المكاسب )
ابن الأبار
585 - وقال الكاتب الحافظ أبو عبدالله ابن الأبار
( لله نهر كالحباب ... ترقيشه سامي الحباب )
( يصف السماء صفاؤه ... فحصاه ليس بذي احتجاب )
( وكأنما هو رقة ... من خالص الذهب المذاب )
( غارت على شطيه أبكار ... المنى عصر الشباب )
( والظل يبدو فوقه ... كالخال في خد الكعاب )
( لابل أدار عليه خوف ... الشمس منه كالنقاب )
( مثل المجرة جر فيها ... جون السحاب )
وقال
( شتى محاسنه فمن زهر على ... نهر تسلسل كالحباب تسلسلا )
( غربت به شمس الظهيرة لاتني ... إحراق صفحته لهيبا مشعلا )
( حتى كساه الدوح من أفنانه ... بردا بمزن في الأصيل مسلسلا )
( وكأنما لمع الظلال بمتنه ... قطع الدماء جمدن حين تحللا )
وقال يمدح المستنصر صاحب إفريقية
( إن البشائر كلها جمعت ... للدين والدنيا وللأمم )

( في نعمتين جسيمتين هما ... برء الإمام وبيعة الحرم )
قال ابن الأبار وأخبرني بعض أصحابنا يعني أبا عمرو ابن عبد الغني أنه أنشدهما الخليفة فسبقه إلى عجز البيت الثاني فقلت له على البديهة
( فخر لشعري على الأشعار يحفظه ... خليفة الله كان الله حافظه )
وأشار بقوله وبيعة الحرم الى ما ذكره ابن خلدون وغير واحد من المؤرخين ان أهل مكة خطبوا للمستنصر صاحب تونس بعرفة وكتبوا له بيعة من إنشاء ابن سبعين المتصوف وقد ذكر ابن خلدون نص البيعة في ترجمة المستنصر فليراجعها من أرادها
وقال ابن الأبار
( ألا اسمع في الأمير مقال صدق ... وخذه عن امرىء خدم الأميرا )
( متى يكتب ترد وشلا أجاجا ... وإن يركب ترد عذبا نميرا )
وقال مجيبا للتجاني
( أيها الصاحب الصفي مباح ... لك عني فيما نصصت الرواية )
( إن عناني إسعاف قصدك فيها ... فلكم لم تزل بها ذا عنايه )
( ولها شرطها فحافظ عليه ... ثم كافىء وصيتي بالكفايه )
( وتحام الإخلال جهدك لاقيت ... من الله عصمة وحمايه )
ونص استدعاء التجاني
( إن رأى سيدي الذي حاز في العلم ... مع الحلم والعلا كل غايه )
( وحوى المجد عن جدود كرام ... كلهم في السماح والفضل آيه )
( أن أرى عنه بالإجازة أروى ... كل مافيه لي تصح الروايه

( من حديث وكل نظم ونثر ... وفنون له بهن دراية )
( فله في ذاك الثواب من الله ... ومنا الثناء دون نهايه )
( دام في رفعة وعز وسعد ... وأمان ومكنة وحمايه )
( ماتولى جيش الظلام هزيما ... وعلت للصباح في الأفق رايه )
ولابن الأبار ترجمة واسعة ذكرتها في أزهار الرياض في أخبار عياض وما يناسبها مما يحصل به للنفس ارتياح وللعقل ارتياض ) فلتراجع فيه
586 - وأما التجاني أبو عبدالله هذا المذكور فقد وصفه قريبه أبو الفضل محمد حفيد عمه في كتابه الحلى التيجانية والحلل التجانية قال ابن رشيد وجمعه باسمنا حفظه الله تعالى وشكره وقال في موضع آخر إنه باسمه واسم صاحبه الوزير ابن الحكيم رحمهما الله تعالى انتهى
587 - وقال ابن مفوز أبو الحسين
( إذا عرتك عيلة ... يعجز عنها ماتجد )
( فلتقصد فإنه ... ما عال قط مقتصد )
وقال
( حاز دنياه كلها ... محرزا اكبر المنن )
( من حوى قوت يومه ... آمنا سالم البدن ) وقال
( أعن أخاك في الذي ... يأمله ويرتجيه )
( فالله في عون الفتى ... ما كان في عون أخيه )
وقال
( أنفس ما أودعته ... قلبك ذكرى موقظه )

( وخير ما أتلفته ... مال أفاد موعظه )
588 - وقال أبو البركات القميحي أنشدنا أبو العباس ابن مكنون وقد رأى اهتزاز الثمار وتمايلها مرتجلا
( حارت عقول الناس في إبداعها ... ألسكرها أم شكرها تتأود )
( فيقول أرباب البطالة تنثني ... ويقول أرباب الحقيقة تسجد )
قال الشيخ أبو البركات القميحي قلت لابن مكنون ما الذي يدل على أنهما في وصف الثمار فقال وطىء أنت لهما فقلت
( يامن أتى متنزها في روضة ... أزهارها من حسنها تتوقد )
( انظر إلي الأشجار في دوحاتها ... والريح تنسف والطيور تغرد )
( فترى الغصون تمايلت أطرافها ... وترى الطيور على الغصون تعربد )
قال ابن رشيد غلط المذكور في نسبته البيتين لابن مكنون وإنما هما لأبي زيد الفازازي من قصيدة أولها
( نعم الإله بشكره تتقيد ... فالله يشكر في النوال ويحمد )
( مدت إليه أكفنا محتاجة ... فأنالها من جوده ماتعهد )
والبيتان في أثنائها غير أن اولهما في ديوانه هكذا
( تاهت عقول الناس في حركاتها )
انتهى
ورأيت في روضة التعريف للسان الدين بعدهما بيتا ثالثا وهو
( وإذا أردت الجمع بينهما فقل ... في شكر خالقها تقوم وتقعد )

589 - وحكي أن حافظ الأندلس إمام الأدباء رئيس المؤلفين حسنة الزمان نادرة الإحسان أبا محمد عبدالله بن ابراهيم الصنهاجي الحجاري صاحب كتاب المسهب كان سبب اتصاله بعبد الملك بن سعيد جد علي بن موسى صاحب المغرب أنه وفد عليه في قلعته فلما وقف على بابه وهو بزي بداوة ازدراه البوابون فقال لهم استأذنوا لي على القائد فضحكوا به وقالوا له ماكان وجد القائد من يدخل عليه في هذه الساعة إلا أنت فمد يده الى دواة في حزامه وسحاءة وكتب بها بباب القائد الأعلى لازال آهلا بأهل الفضيلة رجل وفد عليه من شلب يقصيدة مطلعها
( عليك احالني الذكر الجميل )
فإن رأى سيدي أن يحجب من بلده شلب ومن قصيده هذا فهو أعلم بما يأتي ويذر ولا عتب على القدر ورغب إلى أحد غلمانه فاوصل الورقة فلما وقف عليها القائد قال من شلب وهذا مطلع قصيدته مالهذا إلا شأن ولعله الوزير ابن عمار وقد نشر إلى الدنيا عجلوا بالإذن له فأذنوا له ودخل وبقي واقفا لم يسلم ولا كلم أحدا فاستثقله الحاضرون واستبردوا مقصده ونسبوه للجهل وسوء الأدب فقال له أحدهم مالك لا تسلم على القائد وتدخل مداخل الأدباء والشعراء فقال حتى أخجل جميعكم قدر ما أخجلتموني على الباب مع أقوام أنذال وأعلم أيضا من هو الكثير الفضول من أصحاب القائد أعزه الله تعالى فاكون أتقيه إن قدر لي خدمته فقال له عبدالملك اتأخذنا بما فعل السفهاء منا قال لا والله بل أغفر لك ذنوب الدهر أجمع وإنما هي أسباب نقصدها لنحاور بها مثلك أعزك الله تعالى ويتمكن التأنيس وينحل قيد الهيبة ثم أنشد من رأسه ولا ورقة في يده

( عليك احالني الذكر الجميل ... فصح العزم واقتضي الرحيل )
( وودعت الحبيب بغير صبر ... ولم أسمع لما قال العذول )
( وأسبلت الظلام علي سترا ... ونجم الأفق ناظره كليل )
( ولم أشك الهجير وقد دعاني ... الى أرجائك الظل الظليل )
وهي طويلة فأكرمه وقربه رحم الله تعالى الجميع
590 - وأهديت للمعتمد بن عباد شمعة فقال في وصفها ابو القاسم ابن مرزقان الإشبيلي وهو ممن قتل في فتنة المعتمد
( مدينة في شمعة صورت ... قامت حماة فوق أسوارها )
( وما رأينا قبلها روضة ... تتقد النار بنوارها )
تصير الليل نهارا إذا ... ما أقبلت ترفل في نارها )
( كأنها بعض الأيادي التي ... تحت الدجى تسري بأنوارها )
( من ملك معتمد ماجد ... بلاده أوطان زوارها )
591 - وقال أبو الأصبغ ابن رشيد الإشبيلي لما هطت بإشبيلية سحابة بقطر أحمر يوم السبت الثالث عشر من صفر عام أربعة وستين وخمسمائة
( لقد آن للناس أن يقلعوا ... ويمشوا على السنن والأقوم )
( متى عهد الغيث ياغافلا ... كلون العقيق او العندم )
( أظن الغمائم في جوها ... بكت رحمة للورى بالدم )
وفيها أيضا
( لا تكن دائم الكآبة مما ... قد غدا في الثرى نميرا نجيعا )

( لطم البرق صفحة المزن حتى ... سال منه على الرياض نجيعا )
وله في دولاب
( ومنجنون إذا دارت سمعت لها ... صوتا اجش وظل الماء ينهمل )
( كا أقداسها ركب إذا سمعوا ... منها حداء بكوا للبين وارتحلوا )
وله فيمن اسمه مالك
( غزالي الجفون شقيق بدر ... تبسم عن عقيق فوق در )
( له نفحات مسك أي مسك ... له نفثات سحر أي سحر )
( شكوت له الهوى والهجر منه ... فقال عليك باسمي سوف تدري )
( تعلمت القساوة من سميي ... وأحرقت القلوب بنار هجري )
592 - وقال أبو بكر ابن حجاج الغافقي في موسى وسيم إشبيلية الذي كان شعراؤها يتغزلون فيه
( من مبلغ موسى المليح رسالة ... بعثت له من كافري عشاقه )
( ماكان خلق راغبا عن دينه ... لو لم تكن توراته من ساقه )
وقال
( إن الزويلي فتى شاعر ... قد أعجب العالم من نظمه )
( وأنت ياموسى قد اخترته ... واختار موسى قبل من قومه )
وقال
( على معاذ قرون لو يعاينها ... فرعون ماقال أوقد لي على الطين )

( قالت له عرسه إذ جاء ينكحها ... ماذا دهيت به من كل عنين )
( هلا استعنت بميمون فقال لها )
( إني استعنت على نفسي بميمون )
593 - وقال أبو وهب ابن عبدالرؤوف النحوي وكان له حظ في قرض الشعر وكان سناطا
( ليس لمن ليست له لحية ... بأس إذا حصلته ليسا )
( وصاحب اللحية مستقبح ... يشبه في طلعته التيسا )
( إن هبت الريح تلاهت به ... وماست الريح به ميسا )
594 - وقال أبو عبدالله محمد بن يحيى القلفاط
( ياغزالا عن لي فابتز ... قلبي ثم ولى )
( انت مني بفؤادي ... يامنى نفسي أولى )
595 - وقال أحمد بن المبارك الحبيبي في الناصر قبل أن يلي عهد جده
( ياعابد الرحمن فقت الورى ... بهذه العليا وهذا الكرم )
( ماجعل الله الندى في امرىء ... إلا وقد جنبه كل ذم )
596 - واستدعى الوزير عبيدالله بن إدريس ابا بكر احمد بن عثمان المرواني ونادمه ليلة فلما قرب الصباح قال له أين مايحدث عنك من حسن الشعر فهذا موضعه فقال الدواة والقرطاس فأمر له بإحضارهما فجعل يفكر ويكتب إلى ان أنشده هذه الأبيات
( بتنا ندامى صفاء يستحث لنا ... في جامد الفضة التبر الذي سبكا )

( كل مصيخ إلى ماقال صاحبه ... ولا يبالي أصدقا قال أم أفكا )
( موقرون خفاف عند شربهم ... ولا يخافون فيما احدثوا دركا )
( لا تعدمن إذا أبصرتهم فرحا ... اما ترى الصبح من بشر بهم ضحكا )
597 - وقال أبو محمد عبدالله المرواني في الخيري
( عجبت من الخيري يكتم عرفه ... نهارا ويسري بالظلام فيعرب )
( فتجني عروس الطيب منه يد الدجى الدى ... ويبدو له وجه الصباح فيحجب )
598 - وقال إبراهيم بن إدريس العلوي
( للبين في تعذيب نفسي مذهب ... ولنائبات الدهر عندي مطلب )
( أما ديون الحادثات فإنها ... تأتيي لوقت صادق لا يكذب )
599 - وخرج الأديب النحوي هذيل الإشبيلي يوما من مجلسه فنظر إلى سائل عاري الجسم وهو يرعد ويصيح الجوع والبرد فأخذ بيده ونقله الى موضع بلغته الشمس وقال له صح الجوع فقد كفاك الله مؤونة البرد
600 - ومر المعتمد بن عباد ليلة مع وزيره ابن عمار بباب شيخ كثير التهكم والتنذير يمزج ذلك بانحراف يضحك الثكلى فقال لابن عمار تعال نضرب على هذا الشيخ الساقط بابه حتى نضحك منه فضربا عليه الباب فقال من هذا فقال ابن عباد إنسان يرغب أن تقد له هذه الفتيلة فقال والله لو ضرب ابن عباد بابي في هذا الوقت ما فتحته له فقال فإني ابن عباد فقال مصفوع ألف صفعة فضحك ابن عباد حتى سقط الى الأرض وقال لوزيره امض بنا قبل ان يتعدى الصفع من القول إلى الفعل فهذا شيخ ركيك ولما كان من غد تلك الليلة وجه له ألف درهم وقال

لموصلها قل له هذه حق الألف صفعة التى كانت البارحة
601 - وكان في زمان المعتمد السارق المشهور بالبازي الأشهب وكان له في السرقة كل غريبة وكان مسلطا على اهل البادية وبلغ من سرقته أنه سرق وهو مصلوب لأن ابن عباد أمر بصلبه على ممر أهل البادية لينظروا إليه فبينما هو على خشبته على تلك الحال إذ جاءت إليه زوجته وبناته وجعلن يبكين حوله ويقلن لمن تتركنا نضيع بعدك وإذا ببدوي على بغل وتحته حمل ثياب وأسباب فصاح عليه يا سيدي انظر في أي حالة أنا ولي عندك حاجة فيها فائدة لي ولك قال وماهي قال انظر الى تلك البئر لما أرهقني الشرط رميت فيها مائة دينار فعسى تحتال في اخراجها وهذه زوجتي وبناتي يمسكن بغلك طلال ماتخرجها فعمد البدوي الى حبل ودلى نفسه في البئر بعدما اتفق معه على أن يأخذ النصف منها فلما حصل أسفل البئر قطعت زوجة السارق الحبل وبقي حائرا يصيح وأخذت ماكان على البغل مع بناتها وفرت به وكان ذلك في شدة حر وما سبب الله شخصا يغيثه إلا وقد غبن عن العين وخلصن فتحيل ذلك الشخص مع غيره على إخراجه وسألوه عن حاله فقال هذا الفاعل الصانع احتال علي حتى مضت زوجته وبناته بثيابي وأسبابي ورفعت هذه القصة الى ابن عباد فتعجب منها وأمر بإحضار البازي الأشهب وقال له كيف فعلت هذا مع أنك في قبضة الهلكة فقال له ياسيدي لو علمت قدر لذتي في السرقة خليت ملكك واشتغلت بها فلعنه وضحك منه ثم قال له إن سرحتك وأحسنت إليك وأجريت عليك رزقا يقلك أتتوب من هذه الصنعة الذميمة فقال يامولاي كيف لا أقبل التوبة وهي تخلصني من القتل فعاهده وقدمه على رجال انجاد

وصار من جملة حراس احواز المدينة
602 - ويحكى ان منصور بني عبدالمؤمن لما أراد بناء صومعة إشبيلية العظيمة القدر أحضر لها العرفاء والصناع من مظانهم فعرف بشيخ مغفل صحيح المذهب عارف بالبناء الذي يجهله كثير من الصناع فأحضر فقال له المنصور كم تقدر أن ينفق على هذه الصومعة فضحك وقال ياسيدي البنيان إنما هو مثل ذكر ليس يقدر حتى يقوم فكاد المنصور يفتضح من الضحك وصرف وجهه عنه وبقيت حكايته يضحك عليها زمانا
603 - وكان أحمد المقريني المعروف بالكساد شاعرا وشاحا زجالا إشبيليا وقال في موسى الذي تغزل فيه ابن سهل
( مالموسى قد خر لله لما ... فاض نور غشاه ضوء سناه )
( وأنا قد صعقت من نور موسى ... لا أطيق الوقوف حين أراه )
وقال في رثائه
( فر الى الجنة حوريها ... وارتفع الحسن من الأرض )
( وأصبح العشاق في مأتم ... بعضهم يبكي على بعض )
وقال فيه
( هتف الناعي بشجو الأبد ... إذ نعى موسى بن عبدالصمد )
( ماعليهم ويحهم لو دفنوا ... في فؤادي قطعة من كبدي )

ولابن سهل الإسرائيلي في موسى هذا ماهو مثبت في ديوانه
604 - وكان محمد بن أحمد بن أبي بكر القرموطي المرسي من أعرف اهل الأندلس بالعلوم القديمة المنطق والهندسة والعدد والموسيقى والطب فيلسوفا طبيبا ماهرا آية الله في المعرفة بالأندلس يقرىء الأمم بألسنتهم فنونهم التي يرغبون فيها وفي تعلمها ولما تغلب طاغية الروم على مرسية عرف له حقه فبنى له مدرسة يقرىء فيها المسلمين والنصارى واليهود وقال له يوما وقد أدنى منزلته لو تنصرت وحصلت الكمال كان لك عندي كذا وكنت كذا فاجابه بما أقنعه ولما خرج من عنده قال لأصحابه انا عمري كله أعبد إلها واحدا وقد عجزت عما يجب له فكيف حالي لو كنت أعبد ثلاثة كما طلب الملك مني انتهى
605 - وقال أبو عبدالله محمد بن سالم القيسي الغرناطي يخاطب السلطان على ألسنة أصحابه الأطباء الذين ببابه موريا بأسمائهم
( قد جمعنا ببابكم سطر علم ... لبلوغ المنى ونيل الإراده )
( ومن أسمائنا لكم حسن فال ... سالم ثم غالب وسعاده )
606 - وقال أبو عبدالله ابن عمر الإشبيلي الخطيب
( وكل إلى طبعه عائد ... وإن صده المنع عن قصده )
( كذا الماء من بعد إسخانه ... يعود سريعا إلى برده )
607 - وقال الكاتب أبو زيد عبدالرحمن العثماني لما تغير حاله بإشبيلية

( لا تسلني عن حالتي فهي هذي ... مثل حالي لا كنت يا من يراني )
( ملني الأهل والأخلاء لما ... أن جفاني بعد الوصال زماني )
( فاعتبر بي ولا يغرك دهر ... ليس منه ذو غبطة في امان )
608 - ودخل الأديب النحوي أبو عمران موسى الطرياني إلى بعض الأكابر يوم نيروز وعادتهم ان يصنعوا في مثل هذا اليوم مدائن من العجين لها صور مستحسنة فنظر الى مدينة أعجبته فقال له صاحب المجلس صفها وخذها فقال
( مدينة مسورة ... تحار فيها السحره )
( لم تبنها إلا يدا ... عذراء أو مخدره )
( بدت عروسا تجتلى ... من درمك مزعفرة )
( ومالها مفاتح ... إلا البنان العشرة )
ورفع إلى القائد أبي السرور صاحب ديوان سبتة قصيدة يعرض له فيها بزاد وقد عزم على سفر فأنعم عليه بذلك ثم أتبعه بتحف مما يكون في الديوان مما يجلبه الإفرنج إلى سبتة ولم يكن التمس منه ذلك ولا خطر بخاطره فكتب إليه
( أيا سابقا بالذي لم يجل ... بفكري ولم يبد لي في خطاب )
( وياغائصا في بحار الندى ... ويا فاتحا للعلا كل باب )
( كذا فلتكن نعم الأكرمين ... تفاجي بنيل المنى والطلاب )
( ولم أر أعظم من نعمة ... أتتني ولم تك لي في حساب )
( سأشكرها شكر عهد الرضى ... وأذكرها ذكر غض الشباب )

609 - وكتب مجاهد صاحب دانية إلى المنصور بن أبي عامر الأصغر ملك بلنسية رقعة ولم يضمنها غير بيت الحطيئة
( دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك انت الطاعم الكاسي )
فأخرجت المنصور وأقامته وأقعدته فأحضر وزيره أبا عامر ابن التاكرني فكتب عنه
( شتمت مواليها عبيد نزار ... شيم العبيد شتيمة الأحرار )
فسلا المنصور عما كان فيه
ومن شعر المذكور في المنصور
( انهض على اسمك انه منصور ... وارم العدو فإنه مقهور )
( ولو اغتنيت عن النهوض كفيتهم ... فبذكر بأسك كلهم مذعور )
( ولتبلغن مدى مرادك فيهم ... ويكون يوم في العدا مشهور )
وقال له المنصور يوما والله لقد سئمت من هؤلاء الجند ووددت الراحة منهم فقال له يصبر مولاي فلا بد من السآمة فهي على حالتين إما ممن يكون امرك إليه أو يكون أمره إليك والحمد لله الذي رفعه عن الحالة الأولى
610 - وقال بعض الهجائين في رندة
( قبحا لرندة مثلما ... قبحت مطالعة الذنوب )

( بلد عليه وحشة ... ما إن يفارقه القطوب )
( ماحلها أحد فينوي ... بعد بين أن يؤوب )
( لم آتها عند الضحى ... إلا وخيل لي غروب )
( أفق أغم وساحة ... تملا القلوب من الكروب )
611 - وقال حبلاص الشاعر الرندي
( لا تفرحن بولاية سوغتها ... فالثور يعلف أشهرا كي يذبحا )
وله في بعض رؤساء الملثمين من قصيدة
( ولو لم تكن كالبدر نورا ورفعة ... لما كنت غرا بالسحاب ملثما )
( وماذاك إلا للنوال علامة ... كذا القطر مهما لثم الأفق انهمى )
فاهتز الملثم وأعجبه وامر له بكسوة وذهب
612 - ولما ذكر أبو بكر ابن عمر الأندي في مجلس بعض الرؤساء بحضرة أبي الحسن علي بن سعيد وأطنب في الثناء عليه وعمر المجلس بشكره واخبر بذلك أطرق ساعة ثم قال
( لا تذكرن ماغاب عني من ثنا ... أطنبت فيه فليس ذلك يجهل )
( فمتى حضرت بمجلس وجرى به ... خبري فإن الذكر فيه يجمل )
613 - ولما نفى بنو ذي النون أرقم من نسبهم لأنه كان ابن أمة مهينة واقعها أبو الظافر في حال سكره ولم يكن فيهم من ينظم ويتولع بالأدب غيره

وولي ابنه يحيى وكان أحسد من طلعت عليه الشمس فمال على أرقم بالأذبة ففر عن مملكته وقال مرتجلا
( لئن طبتم نفسا بتركي دياركم ... فنفسي عنكم بالتفرق أطيب )
( إذا لم يكن لي جانب في دياركم ... فما العذر لي أن لا يكون تجنب )
( زعمتم بأني لست فرعا لأصلكم ... فهلا علمتم أنني عنه أرغب )
( وحسبي إذا ما البيض لم ترع نسبة ... بأني الى سيفي ورمحي أنسب )
( وإن مدت الأيام عمري للعلا ... يشرق ذكري في الورى ويغرب )
614 - وكتب الوزير الكاتب ابو محمد ابن سفيان الى أبي أمية ابن عصام قاضي قضاة شرق الأندلس عين زمانه فوقعت نقطة على العين فتوهمها وظن انه أبهمها واعتقدها وعددها وانتقدها فقال
( لا تلزمني ما جنته يراعة ... طمست بريقتها عيون ثناء )
( حقدت علي لزامها فتحولت ... أفعى تمج سمامها بسحاء )
( غدر الزمان وأهله عرف ولم ... أسمع بغدر يراعة وإباء )
615 - وشرب المامون بن ذي النون مع أبي بكر محمد بن أرفع رأسه الطليطلي وحفل من رؤساء ندمائه كابن لبون وابن سفيان وابن الفرج وابن مثنى فجرت مذاكرة في ملوك الطوائف في ذلك العصر فقال كل واحد ما عنده بحسب غرضه فقال ابن أرفع رأسه ارتجالا
( دعوا الملوك وأبناء الملوك فمن ... أضحى على البحر لم يشتق الى نهر )
( مافي البسيطة كالمأمون ذو كرم ... فانظر لتصديق ما أسمعت من خبر )

( ياواحدا ماعلى علياه مختلف ... مذ جاد كفك لم نحتج الى المطر )
( وقد طلعت لنا شمسا فما نظرت ... عين الى كوكب يهدي ولا قمر )
( وقد بدوت لنا وسطى ملوكهم ... فلم نعرج على شذر ولا درر )
فداخل ابن ذي النون من الارتياح ماليس عليه مزيد وأمر له بإحسان جزيل عتيد
616 - وقال أبو أحمد عبد المؤمن الطليطلي
( رأيت حيائي قادحا في معيشتي ... ويصعب تركي للحياء ويقبح )
( وقد فسد الناس الذين عهدتهم ... وقد طال تأنيبي لمن ليس يصلح )
وله
( ولما غدوا بالغيد فوق جمالهم ... طفقت أنادي لا أطيق بهم همسا )
( عسى عيس من أهوى تجود بوقفة ... ولو كوقوف العين لاحظت الشمسا )
617 - وقال الزاهد ابو محمد عبدالله بن العسال
( أعندكم علم بأني متيم ... وإلا فما بال المدامع تسجم )
( ومابال عيني لا تغمض ساعة ... كأني في رعي الدراري منجم )
618 - وكان الوزير ابو جعفر الوقشي تياها معجبا بنفسه ومن شعره في غرضه الفاسد
( إذا لم أعظم قدر نفسي وإنني ... عليم بما حازته من عظم القدر )
( فغيري معذور إذا لم يبرني ... ولا يكبر الإنسان شيء سوى الكبر )

وله
( يرومون بي غير المكان الذي له ... خلقت وبعضي منكر ذاك من بعضي )
( فقولوا لبدر الأفق يترك سماءه ... ويحتل من أجل التواضع في الأرض )
وقال
( تكبر وإن كنت الصغير تظاهرا ... وباعد اخا صدق متى ما اشتهى القربا )
( وكن تابعا للهر في حفظ امره ... ألست تراه عندما يبصر الكلبا )
وقال له بعض ندماء ملكه يوما صاحب جيان ابن همشك يا أبا جعفر انت جملة محاسن وفيك الأدوات العلية التي هي أهل لكل فضيلة غير أنك قد قدحت في ذلك كله بكثرة عجبك وإذا مشيت على الأرض تشمئز منها فقال له كيف لا أشمئز من شيء أشترك معك في الوطء عليه فضحك جميع من حضر من جوابه وله جواب لمن اعتذر عن غيبته عنه
( لك الفضل في ان لا تلوح لناظري ... وتبعد عني ما بقيت مدى الدهر )
( فوجهك في لحظي كما صور الردى ... ولفظك في سمعي حديث عن الفقر )
( ومن حاز ماقد حزته من ركاكة ... وغاب فلا يحتج إلى كلفة العذر )
وله أيضا
( لك يومان لم تلح لعياني ... ولك الفضل في زيادة شهر )
( ولك الفضل في زيادة عام ... ولك الفضل في زيادة دهر )
( ولك الفضل أن تغيب عني ... ذلك الوجه ما تطاول عمري )

وله وقد شرب على صهريج فاختنق الأسد الذي يرمي بالماء فنفخ فيه رجل أبخر فجرى
( ليث بديع الشكل لا مثل له ... صيغ من الماء له سلسله )
( يقذف بالماء على حينه ... كانه عاف الذي قبله )
619 - وقال أبو الوليد هشام الوقشي
( برح بي ان علوم الورى ... اثنان ما إن فيهما من مزيد )
( حقيقة يعجز تحصيلها ... وباطل تحصيله لا يفيد )
وله
( وفاره يركبه فاره ... مر بنا في يده صعده )
( سنانها مشتمل لحظه ... وقدها منتحل قده )
( يزحف للنساك في جحفل ... من حسنه وهو يرى وحده )
( قلت لنفسي حين مدت لها الآمال ... والآمال ممتده )
( لا تطمعي فيه كما الشعر لا ... يطمع في تسويده خده )
وقال
( عجبا للمدام ماذا استعارت ... من سجايا معذبي وصفاته ) ( طيب أنفاسه وطعم ثناياه ... وسكر العقول من لحظاته )
( وسنا وجهه وتوريد خديه ... ولطف الديباج من بشراته )
( والتداوي منها بها كالتداوي ... برضى من هويت من سطواته )

( وهي من بعد ذا علي حرام ... مثل تحريمه جنى رشفاته )
ومن تآليفه نكت الكامل للمبرد وقد مر ذكر هذا الرجل الفرد قبل هذا
وحضر يوما مجلس ابن ذي النون فقدم نوع من الحلوى يعرف بآذان القاضي فتهافت جماعة من خواصة عليها يقصدون التندير فيه وجعلوا يكثرون من أكلها وكان فيما قدم من الفاكهة طبق فيه نوع يسمى عيون البقر فقال له المأمون ياقاضي أرى هؤلاء يأكلون أذنيك فقال وانا أيضا آكل عيونهم وكشف عن الطبق وجعل ياكل منه وكان هذا من الاتفاق الغريب
620 - وكان الفاضل أبو الحسين ابن الوزير أبي جعفر الوقشي آية الله في الظرف وكيف لا ووالده الوزير أبوجعفر وصهره أبوالحسين ابن جبير وشيخه في علم الموسيقى والتهذيب والظرف والتدريب أبو الحسن ابن الحسن ابن الحاسب شيخ هذه الطريقة وقد رزق أبو الحسين المذكور فيها ذوقا مع00000000 صوت بديع أشهى من الكأس للخليع قال أبو عمران ابن سعيد ما سمعته إلا تذكرت قول الرصافي
( ومطارح مما تجس بنانه ... لحنا أفاض عليه ماء وقاره )
( يثني الحمام فلا يروح لوكره ... طربا ورزق بنيه في منقاره )
وكنت أرتاح إلى لقائه ارتياح العليل إلى شفائه ولم أزل أقرع بابا فبابا وأخرق للاتصال حجابا فحجابا حتى هجمت مع شفيع لا يرد عليه وجلست بين يديه فحينئذ حرضه حسبه على الإكرام وتلقى بما أوسع من البشر والسلام وقال ليعلم سيدي أني كنت أود الناس في لقائه واحبهم في

إخائه والحمد لله الذي جعلني أنشد
( وليس الذي يتبع الوبل رائدا ... كمن جائه في داره رائد الوبل )
ثم قام الى خزانة فاخرج منها عود غناء يطرب دون أن تجس أوتاره وتلحن أشعاره واندفع يغني دون ان أسأله ذلك ولا أتجشم تكليفه الدخول في تلك المسالك
( ومازلت أرجو في الزمان لقاءكم ... فقد يسر الرحمن ماكنت أرتجي )
( فذكركم مازلت أتلوه دائبا ... إذا ذكروا مابين سلمى ومنعج )
فلما فرغ من استهلاله وعمله قبلت رأسه وقلت له لا أدري علام أشكرك قبل هل على تعجيلك بما لم تدعني أسألك في شأنه أم على ما تفردت بإحسانه فما هذا الصوت قال هذا نشيد خسرواني من تلحيني قال وأنشدني لنفسه
( حننت الى صوت النواعير سحرة ... فأضحى فؤادي لا يقر ولا يهدا )
( وفاضت دموعي مثل فيض دموعها ... أطارحها تلك الصبابة والوجدا )
( وزاد غرامي حين أكثر عاذلي ... فقلت له أقصر ولا تقدح الزندا )
( أهيم بهم في كل واد صبابة ... وأزداد مع طول البعاد لهم ودا )
وأنشدني لنفسه
( ولقد مررت على المنازل بعدهم ... أبكي وأسأل عنهم وأنوح )
( وأقول إن سألوا بحالي في النوى ... ماحال جسم فارقته الروح )
قال وكتب إلي
( ياحسرة ما قضت من لذة وطرا ... أين الزمان الذي يرجى به الخلف )

( أبكيك ملء جفوني ثم يرجعني ... إلى التصبر أني سوف انصرف )
قال أبو عمران وكنت في أيام الفتنة إذا ركنت إلى الامال هونت على نفسي ما ألقى من أهوالها بقولي مع خاطري قوله
( أين الزمان الذي يرجى به الخلف )
انتهى
621 - وكان أبو الحسين علي بن الحمارة ممن برع في الألحان وعلمها وهو من أهل غرناطة واشتهر عنه أنه كان يعمد إلى الشعراء فيقطع العود بيده ثم يصنع منه عودا للغناء وينظم الشعر ويلحنه ويغني به فيطرب سامعيه ومن شعره قوله
( إذا ظن وكرا مقلتي طائر الكرى ... رأى هدبها فارتاع خوف الحبائل )
وقال بعض العلماء في حقه إنه آخر فلاسفة الأندلس قال وأعجب ما وقع له في الشعر أنه دخل سلا وقد فرغ ابن عشرة من بناء قصره والشعراء تنشده في ذلك فارتجل ابن الحمارة هذين البيتين وانشدهما بعدهم
( ياواحد الناس قد شيدت واحدة ... فحل فيها محل الشمس في الحمل )
( فما كدارك في الدنيا لذي أمل ... ولا كدارك في الأخرى لذي عمل )
وسيأتي ذكر هذين البيتين
622 - وكان اهل الأندلس في غاية الاستحضار للمسائل العلمية على البديهة

قال ابن مسدي أملى علينا ابن المناصف النحوي بدانية على قول سيبويه هذا باب ما الكلم من العربية عشرين كراسا بسط القول فيها في مائة وثلاثين وجها انتهى
وهذا وأشباهه يكفيك في تبحر أهل الأندلس في العلم وربما سئل العالم منهم عن المسألة التي يحتاج في جوابها الى مطالعة ونظر فلم يحتج الى ذلك ويذكر من فكره ما لا يحتاج معه الى زيادة
623 - ومن الحكايات في مثل ذلك ان الأديب البليغ الحافظ أبا بكر ابن حبيش لما قال في تخميسه المشهور
( بماذا على كل من الحق اوجبت )
اعترض عليه أبو زكريا اليفرني بما نصه استعمل المخمس ماذا في البيت تكثيرا وخبرا والمعروف من كلام العرب استعمالها استفهاما فجاوبه بقوله اما استعمالها استفهاما كما قال فكثير لا يحتاج الى شاهد واما استعمالها في ألسن فصحاء العرب للكثرة فكثير لا يحتاج إلى شاهد لو وصل بحث واستعمل مكث فلم يعترض علي ولي ولا تشكك في جلي
( وليس يصح في الأفهام شيء ... إذا احتاج النهار الى دليل )
قال الله تعالى في سورة يونس ( قل انظروا ماذا في السموات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ) يونس 101 ووقع في صحيح البخاري في رثاء المقتولين من المشركين يوم بدر
( وماذا بالقليب قليب بدر ... من الفتيان والشرب الكرام )

( وماذا بالقليب قليب بدر ... من الشيزى تكلل بالسنام )
وفي السير في رثاء المذكورين أيضا
( ماذا ببدر فالعقنقل ... من مرازبة جحاجح )
وهذا الشعر لأمية بن أبي الصلت الثقفي ووقع في الأغاني للوليد بن يزيد يرثي نديما له يعرف بابن الطويل
( لله قبر ضمنت ... فيه عظام ابن الطويل )
( ماذا تضمن إذ ثوى ... فيه من الرأي الأصيل )
والخبر طويل وأجلى من هذا وأعلى وأحق بكل تقديم وأولى ولكن الواو لا تفيد رتبة ولا تتضمن نسبة قول رسول الله ( ماذا أنزل الليلة من الفتن ) وهو في الصحاح ووقع في الحماسة وقد أجمعوا على الاستشهاد بكل ما فيها
( ماذا أجال وثيرة بن سماك ... من دمع باكية عليه وباك )
وفي الحماسة أيضا وأظنها لأبي دهبل
( ماذا رزئنا غداة الحل من زمع ... عند التفرق من خيم ومن كرم )
ووقع في نوادر القالي لكعب بن سعد الغنوي يرثي أخاه ابا المغوار

هوت امه ما يبعث الصبح غاديا ... وماذا يرد الليل حين يؤوب )
ووقع في شعر الخنساء ترثي اخاها صخرا
( ألا ثكلت أم الذين غدوا به ... الى القبر ماذا يحملون الى القبر )
( وماذا يواري القبر تحت ترابه ... من الجود في بؤسى الحوادث والدهر )
ولجرير وهو في الحماسة
( إن الذين غدوا بلبك غادروا ... وشلا بعينك لا يزال معينا )
( غيضن من عبراتهن وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا )
وفي الحماسة أيضا
( ماذا من البعد بين البخل والجود )
ووقع في الحماسة أيضا وهو لامرأة
( هوت أمهم ماذا بهم يوم صرعوا ... بجيشان من أسباب مجد تصرما )
أرادت ماذا تصرم لهم يوم صرعوا بجيشان من أسباب مجد تصرما
ومما يستظهر به قول أبي الطيب المتنبي
( ماذا لقيت من الدنيا وأعجبها ... أني بما أنا باك منه محسود )
وقوله أيضا
( وماذا بمصر من المضحكات ... ولكنه ضحك كالبكا )

ومن ملح المتأخرين كان بمرسية ابو جعفر المذكور في المطمح وكان يلقب بالبقيرة فقال فيه بعض أهل عصره
( قالوا البقيرة يهجونا فقلت لهم ... ماذا دهيت به حتى من البقر )
( هذا وليس بثور بل هو ابنته ... وأين منزلة الأنثى من الذكر )
وأنشد صاحب الزهر ولا أذكر قائله
( ماذا لقيت من المستعربين ومن ... قياس قولهم هذا الذي ابتدعوا )
( إن قلت قافية بكرا يكون لها ... معنى يخالف ماقالوا وما وضعوا )
( قالوا لحنت وهذا الحرف منتصب ... وذاك خفض وهذا ليس يرتفع )
( وضربوا بين عبدالله واجتهدوا ... وبين زيد فطال الضرب والوجع )
وقال صاحب الزهر أنشد أبو حاتم ولم يسم قائله
( ألا في سبيل الله ماذا تضمنت ... بطون الثرى واستودع البلد القفر )
هذا ماحضر بفضل الله من الاستشهاد على ان ماذا تستعمل بمعنى الخبر والتكثير ووالله الذى لا إله غيره ما طالعت عليه كتابا ولا فتحت فيه بابا وإنما هو ثمالة من حوض التذكار وصبابة مما علق به شرك الأفكار وأثر مما سدك به السمع أيام خلو الذرع وعقدت عليه الحبى في عصر الصبا ورحم الله من تصفح وتلمح فتسمح وصحح ماوقع إليه من الاعتلال وأصلح ماوضع لديه من اختلال فخير الناس من أخذ بالبر والإيناس فبصر من جهلة وادكر عن وهلة وإنما المؤمنون إخوة

وتحابهم في الله رفعة وحظوة ولهم في السلف الكريم ومحافظتهم على الود القديم أسوة كريمة وقدوة
قال ابن الطراح انظر تحصيل هذا الإمام الرئيس والأسمى النفيس واستحضاره كلام الأدباء وسير النقاد البلغاء ومساجلته مع فرسان المعاني ووصفه تلك المغاني وقد كان حامل لواء الأدب وفائق أبناء جنسه في مرقب الطلب وهذه الكلمة أعني ماذا جرت بسببها مناظرة بين الأستاذ أبي الحسين ابن أبي الربيع النحوي المشهور وبين مالك بن المرحل بسبتة حتى ألف مالك كتاب الرمي بالحصى والضرب بالعصا وفيه هنات لا ينبغي لعاقل أن يذكرها ولا لذي طي في البيان أن ينشرها وفي ذلك قال الأستاذ أبو الحسين رحمه الله تعالى
( كان ماذا ليتها عدم ... جنبوها قربها ندم )
( ليتني يا مال لم أرها ... إنها كالنار تضطرم )
وقوله يامال ترخيم مالك
وحكى الأستاذ ابن غازي أنهم اختلفوا هل يقال كان ماذا أم لا وقال إن الأستاذ ابن أبي الربيع تطفل على مالك بن المرحل في الشعر كما أن ابن المرحل تطفل عليه في النحو قال ومن نظم مالك بن المرحل في هذه القضية
( عاب قوم كان ماذا ... ليت شعري كان ماذا )
( إن يكن ذلك جهلا ... منهم فكان ماذا )
ومن نظم ابن حبيش المذكور قوله

( إذا ما شئت أن تحيا هنيا ... رفيع القدر ذا نفس كريمه )
( فلا تشفع الى رجل كبير ... ولا تشهد ولا تحضر وليمه )
وله أيضا
( لأعملن الى لقياكم قدمي ... ولو تجشمت بين الطين والماء )
( لأن يبل ثيابي الغيث أهون بي ... من أن تحرق نار الشوق أحشائي )
ترجمة اليفرني النحو
وأبو زكريا المعترض على ابن حبيش هو الفقيه النحوي الأديب أبوزكريا يحيى بن علي بن سلطان اليفرني ولد سنة 641 وبرع في العربية كان يلقب في المشرق جبل النحو وكان عند نفسه مجتهدا وكان لا يجيز نكاح الكتابيات خلافا للإمام مالك وهو مذهب الإمام احمد بن حنبل رحمه الله تعالى ويتمسك بقوله تعالى ( وجعل بينكم مودة ورحمة ) الروم 21 وكان يرى أن الطلاق لا يكون إلا مرتين مرة للاستبراء ومرة للانفصال ولا يقول بالثلاث وهو خلاف الإجماع وكان يقول في نهيه والسلام عن أكل ذي ناب من السباع أي ماكول كل ذي ناب وتبقى هي على الإباحة ويدل عليه قوله تعالى ( وما أكل السبع ) المائدة 3وكان يقول في قوله تعالى ( إن هذان لساحران ) طه 63 الهاء اسم ان وذان لساحران جملة خبر لإن ولا تحتاج لرابط لأنها تفسيرية والمعنى عنده وأسروا النجوى قالوا إنها أي نجوانا هذان لساحران أي قولنا هذان لساحران تثبيطا للناس عن اتباعهما وخط المصحف يرده لكن في المصحف أشياء كتبت على غير المصطلح مثل مال هذا ولا أوضعوا

ولا أذبحه قال ابن الطراح ورأيت هذا المعنى لغيره وأظنه ابن النحاس وتوفي اليفرني المذكور سنة 700 ومن شعره
( ماذا على الغصن المياس لو عطفا ... على صبابة صب حالف الدنفا )
( يارحمة لفؤادي من معذ به ... كم ذا يحمله أن يحمل الكلفا )
( ويارعى الله دارا ظل يجمعنا ... في ظل عيش صفا من طيبه وضفا )
( مودة بيننا في الحب كاملة ... ونحن لا نعرف لاتعرف الإعراض والصلفا )
رجع إلى كلام الأندلسيين
624 - قال صالح بن شريف الرندي رحمه الله تعالى في سكين الكتابة
( أنا صمصامة الكتابة ما لي ... من شبيه في المرهفات الرقاق )
( فكأني في الحسن يوم وصال ... وكأني في القطع يوم فراق )
وقال في المقص
( ومصطحبين ما اتهما بعشق ... وإن وصفا بضم واعتناق )
( لعمر أبيك ما اجتمعنا لشيء ... سوى معنى القطيعة والفراق )
625 - ولبعض الأندلسيين
( هلا اقتدى ذو خلة بفعالنا ... فيكون واصل خله كوصالنا ) ... ( مهما يجىء أحد ليقطع بيننا ... نقطعه ثم نعد لأحسن حالنا )
626 - وجرح بعض الكتاب يده بالمقص فأنشده أحد جلسائه وغالب ظني أنه أندلسي

( عداوة لا لكفك من قديم ... فلا تعجب لمقراض لئيم )
( لئن أدماك فهو للا شبيه ... وقد يعدو اللئيم على الكريم )
627 - ولما ألف ابن عصفور كتابه المقرب في النحو انتقده جماعة من أهل قطره الأندلسيين وغيرهم منهم ابن الصائغ وابن هشام والجزيري وله عليه المنهج المعرب في الرد على المقرب وفيه تخليط كثير وتعسف
( وفي تعب من يحسد الشمس نورها ... ويأمل أن يأتي لها بضريب )
ومنهم ابن الحاج وأبو الحسن حازم القرطاجني الخزرجي وسماه شد الزيار على جحفلة الحمار وابن مؤمن القابسي وبهاء الدين ابن النحاس
628 - ومن شعر حازم الأندلسي المذكور قوله
( لم تدر إذ سألتك ما أسلاكها ... أبكت أسى أم قطعت أسلاكها )
وعارضة التجابي بقوله
( ياساحر الألحاظ يا فتاكها ... فتيا جواز الصد من أفتاكها )
629 - ومن حكاياتهم في المجون وما يجري مجراه أن الوزير أبا بكر ابن الملح كان له ابن شاب فاسترسل مع الأدب إلى أن خرج من القول إلى الفعل وأتى بأشياء لا تليق بمثله فكتب إليه أبوه
( ياسخنة العين يابنيا ... ليتك ماكنت لي بنيا )
( أبكيت عيني أطلت حزني ... أمت صيتي وكان حيا )
( حططت قدري وكان أعلى ... في كل حال من الثريا )

( أما كفاك الزنا ارتكابا ... وشرب مشمولة الحميا )
( حتى ضربت الدفوف جهرا ... وقلت للشر جىء إليا )
( فاليوم أبكيك ملء عيني ... لو كان يغني البكاء شيا )
فأجابه ابنه بقوله
( يالائم الصب في التصابي ... ماعنك يغني البكاء شيا )
( أوجفت خيل العتاب نحوي ... وقبل وثبتها إليا )
( وقلت عمر الهنا قصير ... فاربح من العيش ما تهيا )
( قد كنت أرجو المتاب مما ... فتنت جهلا به وغيا )
( لولا ثلاث شيوخ سوء ... أنت وإبليس والحميا )
630 - وقال أبو جعفر ابن صفوان المالقي رحمه الله تعالى
( سألته الإتيان تحوي مقبلا ... فقال سل نحوي كي تحصلا )
( قرأت باب الجمع من شوقي له ... وهو بالاشتغال عني قد سلا )
( للاستغاثة ابتدأت تاليا ... وهو لأفعال التعدي قد تلا )
( وكلما طلبت منه في الهوى ... عطفا غدا يطلب مني بدلا )
( وإن أرم محض إضافة له ... أعمل في قطعي عنه الحيلا )
( في ألف الوصل ظللت باحثا ... وهو بباب الفصل قد تكفلا )
( فلست موصولا وليس عائدا ... وليس حالي عن أسى منتقلا )
( فيا منى نفسي ومن لفهمه ... دانت فهوم الأذكياء النبلا )
( وجدي موقوف عليك لا أرى ... عنك مدى الدهر له تنقلا )
( فما الذي يمنع من تسكينه ... والوقف بالتسكين حكم أعملا )
( والحب مرفوع إليك مفرد ... فلم ترى لضمتي مستثقلا )
( فالضم للرفع غدا علامة ... في مفرد مثلي فأوضح مشكلا )

( لا زلت للهيام عني رافعا ... للوصل ناصبا لقولي معملا )
( للشوق مسكنا لهجري صارفا ... بالقرب من حال البعاد مبدلا )
( تجزم أمرا في الأماني ماضيا ... وتبتدي بما تشا مستقبلا )
631 - وقال محمد بن إدريس القضاعي الأصطبوني
( علاه رياض أورقت بمحامد ... تنور بالجدوى وتثمر بالأمل )
( تسح عليها من نداه غمامة ... تروي ثرى المعروف بالعل والنهل )
( وهل هو إلا الشمس نفسا ورفعة ... فيقرب بالجدوى ويبعد بالأمل )
( تعم أياديه البرية كلها ... فدان وقاص جود كفيه قد شمل )
632 - وقال محمد التطيلي الهذلي من أعيان غرناطة
( جارت علي لواحظ الآرام ... لما رمت أجفانها بسهام )
( حكمت علي بحكمها فتبسمت ... فغدا الضنى منها لدى أحكام )
( ياقاتلي عمدا بسيف لحاظه ... اغمد ظباه قبل وقع حمامي )
( كم رمت وصلك والصدود يصدني ... ويفل عزمي أمره ومرامي )
( إني عدمت النفس يوم فراقكم ... والبين أسلمها الى الإعدام )
( كيف المقام وأصل جسمي ناحل ... إن النفوس مقيمة الأجسام )
( صعب العلاج فليس يمكن برؤها ... حتى يعود الشهر مثل العام )
( قد كنت أفرح بالسلو فها أنا ... قد زم قلبي في الهوى بزمام )
( مالت به نحو الفتون بدائع ... من شادن يحكيه بدر تمام )
( فقوام انفسنا بلذة وصله ... وجميع أعيننا عليه سوام )
( قد أبرزت خداه روض محاسن ... عظمت على الأفكار والأوهام )

( تندى بماء شبيبة وتنعم ... فيروق منه الزهر في الأكمام )
( فكأنما وجناتها في لونها ... ورد الرياض ربا بصوب غمام )
( وكأنما درع الدجى من شعره ... قد حاكه منها يد الإظلام )
( وكأنما ريق حواه ثغره ... مسك أديف بعنبر ومدام )
( وكأنما سيف نضت ألحاظه ... سبق الأمير ممهد الإسلام )
( ذاك الأمير محمد بن محمد ... ناهيك من ملك أغر همام )
( ملك علا فوق السماك علاؤه ... وسما فأدرك غاية الإعظام )
( لو كان يعتقل السها لأتاه في ... شكل الفتاة ملثما بلثام )
( أو كان يرضى بالمجرة أجردا ... لجرت إلى الإسراج والإلجام )
( فالسعد يفعل للأماني قولها ... والنصر يخدمه مع الأيام )
( واليوم يعشقه ويحسد ليله ... فيه كعشق سيوفه للهام )
( نامت عيون الشرك خوف سنانه ... لولاه ما اكتحلت بطيف منام )
( بهر الأنام بسيفه وببأسه ... فسبى وأنعم أيما إنعام )
( فالمعتفي يجني جزيل هباته ... والمعتدي يصلى الردى بحسام )
( مهما استعنت به فضيغم معرك ... وإذا استجرت به فطود شمام )
( أجرى مياه العدل بعد جفوفها ... وأزال نار الظلم بعد ضرام )
( كم من كتيبة جحفل قد هدها ... في معرك بمهند صمصام )
( المقتني الجرد المذاكي عدة ... للكر في الأعداء والإقدام )
( من كل مبيض كأن أديمه ... لون الصباح أتى عقيب ظلام )
ومنها
( ياخير من ركب الجياد وقادها ... تحت اللواء وعمدة الأقوام )
( لازلتم والسعد يخدم أمركم ... في غبطة موصولة بدوام )
( حتى يصير الأمن في أرجائنا ... عبدا يقوم لنا على الأقدام )

( والله ينصركم ويعلي مجدكم ... ما سح إثر الصحو ماء غمام )
633 - وكان يحيى السرقسطي أديبا فرجع إلى الجزارين فأمر الحاجب ابن هود أبا الفضل ابن حسداي أن يوبخه على ذلك فكتب إليه
( تركت الشعر من عدم الإصابة ... وملت إلى التجارة والقصابة )
فأجابه يحيى
( تعيب علي مألوف القصابه ... ومن لم يدر قدر الشيء عابه )
( ولو أحكمت منها بعض فن ... لما استبدلت منها بالحجابه )
( ولو تدري بها كلفي ووجدي ... علمت علام أحتمل الصبابه )
( وإنك لو طلعت علي يوما ... وحولي من بني كلب عصابه )
( لهالك ما رأيت وقلت هذا ... هزبر صير الأوضام غابه )
( وكم شهدت لنا كلب وهر ... بأن المجد قد حزنا لبابه )
( فتكنا في بني العنزي فتكا ... أقر الذعر فيهم والمهابه )
( ولم نقلع عن الثوري حتى ... مزجنا بالدم القاني لعابه )
( ومن يغتر منهم بامتناع ... فإن إلى صوارمنا إيابه )
( ويبرز واحد منا لألف ... فيغلبهم وذاك من الغرابه )
ومنها
( أبا الفضل الوزير أجب ندائي ... وفضلك ضامن عنك الإجابة )
( وإصغاء إلى شكوى شكور ... أطلت على صناعته عتابه )
( وحقك ماتركت الشعر حتى ... رأيت البخل قد أوصى صحابه )

( وحتى زرت مشتاقا خليلي ... فأبدى لي التحيل والكآبه )
( وظن زيارتي لطلاب شيء ... فنافرني وغلظ لي حجابه )
634 - وقال الأديب أبو الحسن ابن الحداد
( قالت وأبدت صفحة ... كالشمس من تحت القناع )
( بعت الدفاتر وهي آخر ... مايباع من المتاع )
( فأجبتها ويدي على ... كبدي وهمت بانصداع )
( لا تعجبي مما رأيت ... فنحن في زمن الضياع )
635 - وقال الأديب أبو زكريا ابن مطروح من أهل مدينة باغه وقد عزل وال فنزل المطر على إثره وهو من أحسن شعر قاله وكان الوالي غير مرضي
( ورب وال سرنا عزله ... فبعضنا هنأه البعض )
( قد واصلتنا السحب من بعده ... ولذ في أجفاننا الغمض )
( لو لم يكن من نجس شخصه ... ما طهرت من بعده الأرض )
636 - وقال القاضي أبو البركات ابن الحاج البلفيقي رحمه الله تعالى
( وعشية حكمت على من تاب من ... أهل الخلاعة أن يعود لما مضى )
( جمعت لنا شمل السرور بفتية ... جمعوا من اللذات شملا مرتضى )
( ماعاقني عن أن أسير بسيرهم ... إلا الرياء مع الخطابة والقضا )
637 - وقال أبو الحجاج يوسف الفهري من أهل دانية

( أبى الله إلا أن أفارق منزلا ... يطالعني وجه المنى فيه سافرا )
( كأن على الأيام أن لا أحله ... رويدا فما أغشاه إلا مسافرا )
638 - وقال بعضهم في الرثاء
( عبرات تفيض حزنا وثكلا ... وشجون تعم بعضا وكلا )
( ليس إلا صبابة أضرمتها ... حسرة تبعث الأسى ليس إلا )
639 - ولأبي جعفر البغيل أحد شعراء المرية وكتابها
( عزاء على هذا المصاب الذي دهى ... وشتت شمل الأنس من بعد ما انتهى )
( بفرع علاء في منابت سؤدد ... تسامى رقيا في المعالي الى السها )
( أصبت به من بعد ما تم مجده ... وقد شمخت منه الشماريخ وازدهى )
( فأية شمس فيه للمجد كورت ... وأي بناء للمكارم قد وهى )
( فصبرا عليه لا رزئت بمثله ... فمثلك من يعزى إلى الحلم والنهى )
640 - وقال الكاتب الماهر أبو جعفر أحمد بن أيوب اللمائي المالقي
( طلعت طلائع للربيع فأطلعت ... في الروض وردا قبل حين أوانه )
( حيا أمير المؤمنين مبشرا ... ومؤملا للنيل من إحسانه )
( ضنت سحائبه عليه بمائه ... فأتاه يستسقيه ماء بنانه )
( دامت لنا أيامه موصولة ... بالعز والتمكين في سلطانه )
641 - وقال أبو جعفر أحمد بن طلحة من جزيرة شقر
( ياهل ترى أظرف من يومنا ... قلد جيد الأفق طوق العقيق )
( وأنطق الورق بعيدانها ... مطربة كل قضيب وريق )

( والشمس لا تشرب خمر الندى ... في الروض إلا بكؤوس الشقيق )
642 - وقال أبو جعفر الغساني من أهل وادي آش واستوطن غرناطة ثم مات بالمرية فكتب على حمالة قراب لموطإ الإمام مالك بعدما استنجد قرائح أدباء عصره واستصرخ اختراعاتهم لنصره فكلهم قصر عن غرضه وأداء مفترضة فقال هو
( ياطالبا لكمال ... حفظي أتم كمالك )
( فما تقلدت مثلي ... إذ لم تقلد كمالك )
643 - وقال أبو بكر يحيى بن بقي
( خذها على وجه الربيع المخصب ... لم يقض حق الروض من لم يشرب )
( هممي سماء علا وهمي مارد ... فارجمه من تلك الكؤوس بكوكب )
وهو رحمه الله تعالى صاحب الأبيات المشهورة
( زحزحته عن أضلع تشتاقه ... كيلا ينام على فراش خافق )
وانتقد عليه بعض اللطفاء فقال إنه كان جافي الطبع حيث قال زحزحته ولو قال باعدت عنه أضلعا تشتاقه لكان أحسن
644 - وقال السلطان المتوكل بن الأفطس صاحب بطليوس يستدعي
( انهض أبا طالب إلينا ... واسقط سقوط الندى علينا )
( فنحن عقد بغير وسطى ... مالم تكن حاضرا لدينا )
وتذكرت هنا قول بعض المشارقة فيما أظن والله تعالى أعلم

( نحن في مجلس أنس ... مابه غير محبك )
( فتصدق بحضور ... واجمع الوقت بقربك )
( وخف الآن عتابي ... مثل خوفي عند عتبك )
645 - وقال أبو عبدالله ابن خلصة الضرير
( ولو جاد بالدنيا وثنى بمثلها ... لظن من استصغارها أنه ضنا )
( ولا عيب في إنعامه غير أنه ... إذا من لم يتبع مواهبه منا )
وله أيضا
( يامالكا حسدت عليه زمانه ... أمم خلت من قبله وقرون )
( مالي أرى الآمال بيضا وضحا ... ووجوه آمالي حوالك جون )
( أنا آمن فرق وراج آيس ... ورو صد ومسرح مسجون )
( لا تعدني انواء سيبك لا عداك ... النصر والتأييد والتمكين )
646 - وقال ابن اللبانة
( كرمت فلا بحر حكاك ولا حيا ... وفت فلا عجم شأتك ولا عرب )
( وأوليتني منك الجميل فواله ... عسى السح من نعماك يتبعه السكب )
647 - وقال أبو علي ابن اليمان
( أبنات الهديل أسعدن أوعدن ... قليل العزاء بالإسعاد )
( بيد أني لا أرتضي مافعلتن ... فأطواقكن في الأجياد )

648 - وقال أبو جعفر أحمد بن الدودين من كلمة
( فغدت غواني الحي عنك غوانيا ... وأسلن ألحاظ الرباب ربابا )
649 - وقال ابن أبي الخصال في مليحة لها أربع جوار قبيحات
( وليلة طولها على سنة ... بات بها الجفن نادبيا وسنه )
( بأربع بينهن واحدة ... كسيئات وبينها حسنه )
650 - وقال غالب بن تمام الملقب بالحجام
( صغار الناس أكثرهم قبيحا ... وليس لهم بصالحة نهوض )
( ألم تر في سباع الطير نسرا ... يسالمنا ويؤذينا البعوض )
651 - وقال ابن عائشة
( وروضة قد علت سماء ... تطلع أزهارها نجوما )
( هفا نسيم الصبا عليها ... فخلتها أرسلت رجوما )
( كأنما الجو غار لما ... بدت فأغرى بها النسيما )
وله يصف فرسا وهو من بدائعه
( قصرت له تسع وطالت أربع ... وزكت ثلاث منه للمتأمل )
( وكأنما سال الظلام بمتنه ... وبدا الصباح بوجهه المتهلل )
( وكأن راكبه على ظهر الصبا ... من سرعة أو فوق ظهر الشمأل )

وقال
( تربة مسك وجو عنبرة ... وغيم ند وطش ما ورد )
( كأنما جائل الحباب به ... يلعب في جانبيه بالنرد )
وتروى هذه الأبيات لغيره
وقال
( هم سليوني حسن صبري اذ بانوا ... بأقمار أطواق مطالعها بان )
( لئن غادروني باللوى إن مهجتي ... مسايرة أظعانهم حيثما كانوا )
652 - وقال أبو محمد ابن سفيان وهو من أبدع التخلص
( فقلت وجفني قد تداعت شؤونه ... وحر ضلوعي مقعد ومقيم )
( لئن دهمت دهم الخطوب وآلمت ... فإن أبا عيسى أغر كريم )
653 - وقال ابن الزقاق
( بأبي وغير أبي أغن مهفهف ... مهضوم ماتحت الوشاح حميصه )
( لبس الفؤاد ومزقته جفونه ... فأتى كيوسف حين قد قميصه )
وقال
( سلام على أيامكم مابكى الحيا ... وسقيا لذاك العهد ماابتسم الزهر )
( كأن لم نبت في ظل امن تضمنا ... من الليلة الظلماء أردية خضر )
ولم نغتبق تلك الأحاديث قهوة ... وكم مجلس طيب الحديث به خمر )
( ألا في ضمان الله في كل ساعة ... يجدد لي فيها بشوقي له ذكر )

( يذكرنيه البرق جذلان باسما ... ويذكرني إسفار غرته الفجر )
ومارق زهر الروض إلا تمثلت ... لناظر عيني منه آدابه الزهر )
654 - وقال يحيى السرقسطي
( هاتها عسجدية كوثرية ... بنت كرم رحيقة عطريه )
( كلما شفها النحول تقوت ... فاعجبوا من ضعيفة وقويه )
( رب خمارة سريت إليها ... والدجى في ثيابه الزنجية )
ومنها
( كم عقار بدلته بعقار ... وثياب صبغتها خمرية )
( إن خير البيوع ماكان نقدا ... ليس ماكان آجلا بنسيه )
وله
( نسبتم الظلم لعمالكم ... ونمتم عن قبح أعمالكم )
( والله لو حكمتم ساعة ... ماخطر العدل على بالكم )
655 - وقال الرصافي في الدولاب
( وذي حنين يكاد شجوا ... يختلس الأنفس اختلاسا )
( إذا غدا للرياض جارا ... قال لها المحل لا مساسا )
( يبتسم الروض حين يبكي ... بأدمع ما رأين باسا )
( من كل جفن يسل سيفا ... صار له عقده رئاسا )
656 - وخرج أبو بكر الصابوني لنزهة بوادي اشبيلية وكان يهوى

فتى اسمه علي فقال
( أبا حسن أبا حسن ... بعادك قد نفى وسني )
( وما أنسى تذكره ... فهل أنسى فيذكرني )
ويشبه هذا قول الطاهر بن أبي ركب
( يقول الناس في مثل ... تذكر غائبا تره )
( فما لي لا أرى سكني ... وما أنسى تذكره )
657 - وكتب بعض الأدباء الى ابن حزم الأندلسي بقوله
( سألت الوزير الفقيه الأجل ... سؤال مدل على من سأل )
( فقلت أيا خير مسترشد ... وياخير من عن إمام نقل )
( أيحرم أن نالني قبلة ... غزال ترشف فيه الغزل )
( وعانقني والدجى خاضب ... فبتنا ضجيعين حتى نصل )
( وجئتك أسأل مسترشدا ... فبين فديت لمن قد سأل )
فأجابه ابن حزم بقوله
( إذا كان ما قلته صادقا ... وكنت تحريت جهد المقل )
( وكان ضجيعك طاوي الحشا ... أعار المهاة احمرار المقل )
( قريب الرضى وله غنة ... تميت الهموم وتحيي الجذل )
( ففي أخذ أشهب عن مالك ... عن ابن شهاب عن الغير قل )
( بترك الخلاف على جمعهم ... على أن ذلك حل وبل )
658 - ونظر الرصافي يوما إلى صبي يبكي ويأخذ من ريقه ويبل

عينيه كي يخفي أثر البكاء فارتجل الرصافي
( عذيري من جذلان يبدي كآبة ... وأضلعه مما يحاوله صفر )
( أميلد مياس إذا قاده الصبا ... إلى ملح الإدلال أيده السحر )
( يبل مآقي مقلتيه بريقه ... ليحكي البكا عمدا كما ابتسم الزهر )
( أيوهم أن الدمع بل جفونه ... وهل عصرت يوما من النرجس الخمر )
وكان المذكور أعني الرصافي يميل في شبينته لبعض فتيان الطلبة وأجمع الطلبة على أن يصنعوا نزهة بالوادي الكبير بمالقة فركبوا زورقا للمسير الى الوادي فوافق أن اجتمع في الزورق شمل الرصافي بمحبوبه ثم ان الريح الغربية عصفت وهاج البحر ونزل المطر فنزلوا من الزورق وافترق شمل الرصافي من محبوبه فارتجل في ذلك ويقال إنها من أول شعره
( غار بي الغرب إذ رآني ... مجتمع الشمل بالحبيب )
( فأرسل الماء عن فراق ... وأرسل الريح عن رقيب )
فلما سمع ذلك أستاذه استنبله وقال له إنك ستكون شاعر زمانك
659 - وحكي أن أبا بكر ابن مجبر قال في ابن لأبي الحسن ابن القطان بمحضر والده
( جاء وفي يساره ... قوس وفي اليمنى قدح )
( كأنه شمس بدت ... وحولها قوس قزح )
( يا لائمي في حبه ... ماكل من لام نصح )
فقال ابن عياش الكاتب هذه أبيات الأندلسي استوطن المشرق في تركي

فأقسم أبو بكر أنه لم يسمع شيئا من ذلك وإنما ارتجلها وقيل إنها لأبي الفتح محمد بن عبيد الله من أهل بغداد وأولها
( جد بقلبي ومزح )
فالله أعلم بحقيقة الأمر
660 - وخرج أبو بكر ابن طاهر وأبو ذر الخشني والقاضي أبو حفص ابن عمر وهو إذ ذاك وسيم فأثرت الشمس في وجهه فقال أبو ذر
( وسمتك الشمس يا عمر ... سمة في القلب تنتثر )
فقال الآخر
( علمت قدر الذي صنعت ... فأتت صفراء تعتذر )
661 - وقال أبو الحسين البلنسي الصوفي كان لي صديق أمي لا يقرأ ولا يكتب فعلق فتى وكان خرج لنزهة فأثرت الشمس في وجهه فأعجبه ذلك وأنشد
( رأيت أحمد لما جاء من سفر ... والشمس قد أثرت في وجهه أثرا )
( فانظر لما أثرته الشمس في قمر ... والشمس لا ينبغي أن تدرك القمرا )
662 - واجتمع أبو الوليد الوقشي وأبو مروان عبدالملك بن سراج القرطبي وكانا فريدي عصرهما حفظا وتقدما فتعارفا وتساءلا ثم بادر أبو الوليد بالسؤال وقال كيف يكون قول القائل
( ولو أن مابي بالحصى فعل الحصى ... وبالريح لم يسمع لهن هبوب )

ما ينبغي أن يكون مكان فعل الحصى فقال أبو مروان فلق الحصى فقال وهمت إنما يكون قلق الحصى ليكون مطابقا لقوله لم يسمع لهن هبوب يريد أن ما يحرك به ما شأنه السكون ويسكن ما شأنه الحركة فقال أبو مروان مايريد الشاعر بقوله
( وراكعة في ظل غصن منوطة ... بلؤلؤة نيطت بمنقار طائر )
وكان اجتماعهما في مسجد فأقيمت الصلاة إثر فراغ ابن سراج من إنشاد البيت فلما انقضت الصلاة قال له الوقشي ألغز الشاعر باسم أحمد فالراكعة الحاء والغصن كناية عن الألف واللؤلؤة الميم ومنقار الطائر الدال فقال له ابن سراج ينبغي أن تعيد الصلاة لشغل خاطرك بهذا اللغز فقال له الوقشي بين الإقامة وتكبيرة الإحرام فككته
والبيت الأول لعبدالله بن الدمينة وبعده
( ولو أنني أستغفر الله كلما ... ذكرتك لم تكتب علي ذنوب )
663 - وقال الوزير أبو الحسن ابن الأضحى
( ومستشفع عندي بخير الورى عندي ... واولاهم بالشكر مني وبالحمد )
( وصلت فلما لم أقم بجزائه ... لففت له رأسي حياء من المجد )
وكان سبب قوله هذين البيتين أنه كتب إليه بعض الوزراء شافعا لأحد الأعيان فلما وصل إليه بره وأنزله وأعطاه عطاء استعظمه واستجزله وخلع عليه خلعا وأطلعه من الأحمال بدرا لم يكن مطلعا ثم اعتقد أنه قد جاء مقصرا فكتب إليه معتذرا بالبيتين هكذا حكاه الفتح وقال بعد ذلك ما صورته ومن باهر جلاله وطاهر خلاله أنه أعف الناس بواطن

وأشرفهم في التقى مواطن ما علمت له صبوة ولا حلت له الى مستنكر حبوة مع عدل لا شيء يعدله وتحجب عما يتقى مما يرسل عليه حجابه ويسد له وكان لصاحب البلد الذي كان يتولى القضاء به ابن من أحسن الناس صورة وكانت محاسن الأقوال والأفعال عليه مقصورة مع ما شئت من لسن وصوت حسن وعفاف واختلاط بالبهاء والتفاف قال الفتح وحملنا لإحدى ضياعه بقرب من حضرة غرناطة فحللنا قرية على ضفة نهر احسن من شاذمهر تشقها جداول كالصلال ولا ترمقها الشمس من تكاثف الظلال ومعنا جملة من أعيانها فأحضرنا من انواع الطعام وأرانا من فرط الإكرام والإنعام مالا يطاق ولا يحد ويقصر عن بعضه العد وفي أثناء مقامنا بدا لي من ذلك الفتى المذكور ما أنكرته فقابلته بكلام اعتقده وملام احقده فلما كان من الغد لقيت منه اجتنابه ولم أر منه ما عهدته من الإنابة فكتبت اليه مداعبا له فراجعني بهذه القطعة
( أتتني أبا نصر نتيجة خاطر ... سريع كرجع الطرف في الخطرات )
( فأعربت عن وجد كمين طويته ... بأهيف طاو فاتر اللحظات )
( غزال أحم المقلتين عرفته ... بخيف منى للحسن أو عرفات )
( رماك فأصمى والقلوب رمية ... لكل كحيل الطرف ذي فتكات )
( وظن بأن القلب منك محصب ... فلباك من عينيه بالجمرات )
( تقرب بالنساك في كل منسك ... وضحى غداة النحر بالمهجات )
( وكانت له جيان مثوى فأصبحت ... ضلوعك مثواه بكل فلاة )
( يعز علينا ان تهيم فتنطوي ... كئيبا على الأشجان والزفرات )
( فلو قبلت للناس في الحب فدية ... فديناك بالأموال والبشرات )
ومن إيثار ديانته وعلامة حفظه للشرع وصيانته وقصده مقصد المتورعين وجريه جري المتشرعين أن أحد أعيان بلده كان متصلا به اتصال الناظر

بسواده محتلا في عينه وفؤاده لا يسلمه الى مكروه ولا يفرده في حادث يعروه وكان من الأدب في منزلة تقتضي إسعافه ولا تورده من تشفيعه في مورد قد عافه فكتب إليه ضارعا في رجل من خواصه اختلط بامرأة طلقها ثم تعلقها وخاطبه في ذلك بشعر فلم يسعفه وكتب إليه مراجعا
( ألا أيها السيد المجتبى ... ويا أيها الألمعي العلم )
( أتتني أبياتك المحكمات ... بما قد حوت من بديع الحكم )
( ولم أر من قبلها مثلها ... وقد نفثت سحرها في الكلم )
( ولكنه الدين لا يشترى ... بنثر ولا بنظام نظم )
( وكيف أبيح حمى مانعا ... وكيف أحلل ماقد حرم )
( ألست أخاف عقاب الإله ... ونارا مؤججة تضطرم )
( أأصرفها طالقا بتة ... على أنوك قد طغى واجترم )
( ولو أن ذاك الغوي الزري ... تثبت في أمره ماندم )
( ولكنه طاش مستعجلا ... فكان أحق الورى بالندم )
انتهى كلام الفتح الذي أردت جلبه هنا
ولا خفاء ان هذه الحكاية مما يدخل في حكايات عدل قضاة الأندلس
ومن نظم ابن أضحى المذكور ماكتب به الى بعض من يعز عليه
( يا ساكن القلب رفقا كم تقطعه ... الله في منزل قد ظل مثواكا )
( يشيد الناس للتحصين منزلهم ... وانت تهدمه بالعنف عيناك )
( والله والله ماحبي لفاحشة ... أعاذني الله من هذا وعافاكا )

وله في مثل ذلك
( روحي إليك فرديه الى جسدي ... من لي على فقده بالصبر والجلد )
( بالله زوري كئيبا لا عزاء له ... وشرفيه ومثواه غداة غد )
( لو تعلمين بما ألقاه يا أملي ... بايعتني الود تصفيه يدا بيد )
( عليك مني سلام الله مابقيت ... آثار عينيك في قلبي وفي كبدي )
664 - وإذا وصلت إلى هذا الموضع من كلام اهل الأندلس فقد رأيت أن أذكر جملة من نساء اهل الأندلس اللاتي لهن اليد الطولى في البلاغة كي يعلم ان البراعة في اهل الأندلس كالغريزة لهم حتى في نسائهم وصبيانهم
1 - فمن النساء المشهورات بالأندلس ام السعد بنت عصام الحميري من أهل قرطبة وتعرف بسعدونة ولها رواية عن أبيها وجدها وغيرهما كما حكاه ابن الأبار في ترجمتها من التكملة وأنشدت لنفسها في تمثال نعل النبي تكملة لقول غيرها ماصورته
( سألثم التمثال إذ لم أجد ... للثم نعل المصطفى من سبيل )
( لعلني احظى بتقبيله ... في جنة الفردوس أسنى مقيل )
( في ظل طوبى ساكنا آمنا ... أسقي بأكواس من السلسبيل )
( وأمسح القلب به عله ... يسكن ما جاش به من غليل )
( فطالما استشفى بأطلال من ... يهواه أهل الحب في كل جيل )
وأنشدني ابن جابر الوادي آشي عن شيخه المحدث أبي محمد ابن هرون

القرطبي لجدته سعدونة وأظنها هذه
( آخ الرجال من الأبا ... عد والأقارب لا تقارب )
( إن الأقارب كالعقارب ... أو أشد من العقارب )
هكذا نقله الخطيب ابن مرزوق ورأيت نسبة البيتين لابن العميد فالله أعلم
2 - ومنهن حسانة التميمية بنت أبي المخشى الشاعر
تأدبت وتعلمت الشعر فلما مات أبوها كتبت إلى الحكم وهي إذ ذاك بكر لم تتزوج
( إني إليك أبا العاصي موجعة ... أبا المخشى سقته الواكف الديم )
( قد كنت أرتع في نعماه عاكفة ... فاليوم آوي إلى نعماك يا حكم )
( أنت الإمام الذي انقاد الأنام له ... وملكته مقاليد النهى الأمم )
( لا شيء أخشى إذا ماكنت لي كنفا ... آوي إليه ولا يعروني العدم )
( لا زلت بالعزة القعساء مرتديا ... حتى تذل إليك العرب والعجم )
فلما وقف الحكم على شعرها استحسنه وامر لها بإجراء مرتب وكتب إلى عامله على إلبيرة فجهزها بجهاز حسن
ويحكى أنها وفدت على ابنه عبدالرحمن بشكية من عامله جابر بن لبيد

والي إ لبيرة وكان الحكم قد وقع لها بخط يده تحرير املاكها وحملها في ذلك على البر والإكرام فتوسلت إلى جابر بخط الحكم فلم يفدها فدخلت الى الإمام عبدالرحمن فأقامت بفنائه وتلطفت مع بعض نسائه حتى اوصلتها إليه وهو في حال طرب وسرور فانتسبت إليه فعرفها وعرف أباها ثم أنشدته
( الى ذي الندى والمجد سارت ركائبي ... على شحط تصلى بنار الهواجر )
( ليجبر صدعي إنه خير جابر ... ويمنعني من ذي الظلامة جابر )
( فإني وأيتامي بقبضة كفه ... كذي ريش أضحى في مخالب كاسر )
( جدير لمثلي أن يقال مروعة ... لموت أبي العاصي الذي كان ناصري )
( سقاه الحيا لو كان حيا لما اعتدى ... علي زمان باطش بطش قادر )
( أيمحو الذي خطته يمناه جابر ... لقد سام بالأملاك إحدى الكبائر )
ولما فرغت رفعت إليه خط والده وحكت جميع أمرها فرق لها وأخذ خط أبيه فقبله ووضعه على عينيه وقال تعدى ابن لبيد طوره حين رام نقض رأي الحكم وحسبنا أن نسلك سبيله بعده ونحفظ بعد موته عهده انصرفي ياحسانة فقد عزلته لك ووقع لها بمثل توقيع أبيه الحكم فقبلت يده وأمر لها بجائزة فانصرفت وبعثت إليه بقصيدة منها
( ابن الهشامين خير الناس مأثرة ... وخير منتجع يوما لرواد )
( إن هز يوم الوغى أثناء صعدته ... روى أنابيبها من صرف فرصاد )
( قل للإمام أيا خير الورى نسبا ... مقابلا بين آباء وأجداد )
( جودت طبعي ولم ترض الظلامة لي ... فهاك فضل ثناء رائح غاد )
( فإن أقمت ففي نعماك عاطفة ... وإن رحلت فقد زودتني زادي )

3 - ومنهن أم العلاء بنت يوسف الحجارية
ذكرها صاحب المغرب وقال إنها من أهل المائة الخامسة ومن شعرها
( كل مايصدر منكم حسن ... وبعلياكم تحلى الزمن )
( تعطف العين على منظركم ... وبذكراكم تلذ الأذن )
( من يعش دونكم في عمره ... فهو في نيل الأماني يغبن )
وعشقها رجل أشيب فكتبت إليه
( الشيب لا يخدع فيه الصبا ... بحيلة فاسمع إلى نصحي )
( فلا تكن أجهل من في الورى ... يبيت في الجهل كما يضحي )
ولها أيضا
( افهم مطارح أحوالي وماحكمت ... به الشواهد واعذرني ولا تلم )
( ولا تكلني إلى عذر أبينه ... شر المعاذير ما يحتاج للكلم )
( وكل ما جئته من زلة فبما ... أصبحت في ثقة من ذلك الكرم )
والحجارية بالراء المهملة نسبة الى وادي الحجارة
4 - ومنهن أمة العزيز
قال الحافظ أبو الخطاب ابن دحية في كتاب المطرب من أشعار المغرب أنشدتني أخت جدي الشريفة الفاضلة امة العزيز الشريفة الحسينية لنفسها

( لحاظكم تجرحنا في الحشا ... ولحظنا يجرحكم في الخدود )
( جرح بجرح فاجعلوا ذا بذا ... فما الذي أوجب جرح الصدود )
قلت هذا السؤال يحتاج الي جواب وقد رأيت لبلدينا القاضي الامام الفاضل أبي الفضل قاسم العقباني التلمساني رحمه الله تعالى جوابه والغالب أنه من نظمه وهو قوله
( أوجبه مني ياسيدي ... جرح بخد ليس فيه الجحود )
( وأنت فيما قلته مدع ... فأين ماقلت وأين الشهود )
انتهى
5 - ومنهن أم الكرام بنت المعتصم بن صمادح ملك المرية
قال ابن سعيد في المغرب كانت تنظم الشعر وعشقت الفتى المشهور بالجمال من دانية المعروف بالسمار وعملت فيه الموشحات ومن شعرها فيه
( يامعشر الناس ألا فاعجبوا ... مما جنته لوعة الحب )
( لولاه لم ينزل ببدر الدجى ... من أفقه العلوي للترب )
( حسبي بمن أهواه لو أنه ... فارقني تابعه قلبي )
6 - ومنهن الشاعرة الغسانية البجانية بالنون نسبة الى بجانة وهي كورة عظيمة وتشتهر بإقليم المرية وهي من أهل المائة الرابعة فمن نظمها من أبيات

( عهدتهم والعيش في ظل وصلهم ... أنيق وروض الوصل أخضر فينان )
( ليالي سعد لا يخاف على الهوى ... عتاب ولا يخشى على الوصل هجران )
7 - ومنهن العروضية مولاة أبي المطرف عبدالرحمن بن غلبون الكاتب
سكنت بلنسية وكانت قد أخذت عن مولاها النحو واللغة لكنها فاقته في ذلك وبرعت في العروض وكانت تحفظ الكامل للمبرد والنوادر للقالي وتشرحهما قال أبو داود سليمان بن نجاح قرأت عليها الكتابين وأخذت عنها العروض وتوفيت بدانية بعد سيدها في حدود الخمسين والأربعمائة رحمها الله تعالى
8 - ومنهن حفصة بنت الحاج الركونية الشاعرة الأديبة المشهورة بالجمال والحسب والمال ذكرها الملاحي في تاريخه وأنشد لها مما قالته في أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي ارتجالا بين يديه
( ياسيد الناس يامن ... يؤمل الناس رفده )
( امنن علي بطرس ... يكون للدهر عده )
( تخط يمناك فيه ... الحمد لله وحده )
وأشارت بذلك إلى العلامة السلطانية عند الموحدين فإنها كانت أن يكتب السلطان بيده بخط غليظ في رأس المنشور الحمد لله وحده
665 - استطراد بقصتين
تذكرت بذلك والشيء بالشيء يذكر أنه لما قفل السلطان الناصر أمير

المؤمنين اببن أمير المؤمنين يعقوب المنصور ابن أمير المؤمنين يوسف بن عبد المؤمن بن علي سلطان المغرب والأندلس من إفريقية سنة ثلاث وستمائة بعد فتح المهدية هنأته الشعراء بذلك ثم اجتمع أبو عبدالله ابن مرج الكحل بالشعراء والكتاب فتذكروا الفتح وعظمه فأنشدهم ابن مرج الكحل في الوقت لنفسه
( ولما توالى الفتح من كل وجهة ... ولم تبلغ الأوهام في الوصف حده )
( تركنا أمير المؤمنين لشكره ... بما أودع السر الإلهي عنده )
( فلا نعمة إلا تؤدي حقوقها ... علامته بالحمد لله وحده )
فاستحسن الكتاب له ذلك ووقع أحسن موقع
وحكى صاحب كتاب روح الشعر وروح الشحر وهو الكاتب أبو عبدالله محمد بن الجلاب الفهري أن أمير المؤمنين يعقوب المنصور لما قفل من غزوة الأراكة المشهورة وكانت يوم الأربعاء تاسع شعبان سنة إحدى وتسعين وخمسمائة ورد عليه الشعراء من كل قطر يهنئونه فلم يمكن لكثرتهم أن ينشد كل انسان قصيدته بل كان يختص منها بالإنشاد البيتين أو الثلاثة المختارة فدخل أحد الشعراء فأنشده
( ما أنت في أمراء الناس كلهم ... إلا كصاحب هذا الدين في الرسل )
( أحييت بالسيف دين الهاشمي كما ... أحياه جدك عبدالمؤمن بن علي )
فأمر له بألفي دينار ولم يصل أحدا غيره لكثرة الشعراء وأخذ بالمثل منع الجميع أرضى للجميع قال وانتهت رقاع القصائد وغيرها إلى أن حالت بينه وبين من كان أمامه لكثرتها انتهى
رجع الى أخبار حفصة
وأنشد لها أبو الخطاب في المطرب قولها

( ثناءي على تلك الثنايا لأنني ... أقول على علم وأنطق عن خبر )
( وأنصفها لا أكذب الله إنني ... رشفت بها ريقا أرق من الخمر )
وتولع بها السيد أبو سعيد ابن عبدالمؤمن ملك غرناطة وتغير بسببها على أبي جعفر ابن سعيد حتى ادى تغيره عليه أن قتله وطلب أبو جعفر منها الاجتماع فمطلته قدر شهرين فكتب لها
( يامن اجانب ذكر اسمه ... وحسبي علامه )
( ما إن أرى الوعد يقضى ... والعمر أخشى انصرامه )
( اليوم أرجوك لا أن ... تكون لي في القيامه )
( لو قد بصرت بحالي ... والليل أرخى ظلامه )
( أنوح وجدا وشوقا ... إذ تستريح الحمامه )
( صب أطال هواه ... على الحبيب غرامه )
( لمن يتيه عليه ... ولا يرد سلامه )
( إن لم تنيلي أريحي ... فاليأس يثني زمامه )
فأجابته
فأجابته
( يامدعي في هوى الحسن ... والغرام الإمامه )
( أتى قريضك لكن ... لم أرض منه نظامه )
( أمدعي الحب يثني ... يأس الحبيب زمامه )
( ضللت كل ضلال ... ولم تفدك الزعامه )
( مازلت تصحب مذ كنت ... في السباق السلامه )
( حتى عثرت واخجلت ... بافتضاح السآمه )
( بالله في كل وقت ... يبدي السحاب انسجامه )
( والزهر في كل حين ... يشق عنه كمامه )

( لو كنت تعرف عذري ... كففت غرب الملامه )
ووجهت هذه الأبيات مع موصل أبياته بعدما لعنته وسبته وقالت له لعن الله المرسل والمرسل فما في جميعكما خير ولا لي برؤيتكما حاجة وانصرف بغاية من الخزي ولما أطل على أبي جعفر وهو في قلق لانتظاره قال له ماوراءك ياعصام قال مايكون وراء من وجهه خلف الى فاعلة تاركة اقرإ الأبيات تعلم فلما قرأ الأبيات قال للرسول ما أسخف عقلك وأجهلك إنها وعدتني للقبة التي في جنتي المعروفة بالكمامة سر بنا فبادروا للكمامة فما كان إلا قليلا وإذا بها قد وصلت وأراد عتبها فأنشدت
( دعي عد الذنوب إذا التقينا ... تعالي لا نعد ولا تعدي )
وجلسا على أحسن حالة وإذا برقعة الكتندي الشاعر لأبي جعفر وفيها
( أبا جعفر يا ابن الكرام الأماجد ... خلوت بمن تهواه رغما لحاسد )
( فهل لك في خل قنوع مهذب ... كتوم عليم باختفاء المراصد )
( يبيت إذا يخلو المحب بحبه ... ممتع لذات بخمس ولائد )
فقرأها على حفصة فقالت لعنه الله قد سمعنا بالوارش على الطعام والواغل على الشراب ولم نسمع اسما لمن يعلم باجتماع محبين فيروم الدخول عليهما فقال لها بالله سميه لنكتب له بذلك فقالت أسميه الحائل لأنه يحول بيني وبينك إن وقعت عيني عليه فكتب له في ظهر رقعته
( يامن إذا ما اتاني ... جعلته نصب عيني )
( تراك ترضى جلوسا ... بين الحبيب وبيني )
( إن كان ذاك فماذا ... تبغي سوى قرب حيني )

( والآن قد حصلت لي ... بعد المطال بديني )
( فإن أتيت فدفعا ... منها بكلتا اليدين )
( أو ليس تبغي وحاشاك ... ان ترى طير بين )
( وفي مبيتك بالخمس ... كل قبح وشين )
( فليس حقك إلا الخلو ... بالقمرين )
وكتب له تحت ذلك ماكان منها من الكلام وذيل ذلك بقوله
( سماك من اهواه حائل ... إن كنت بعد العتب واصل )
( مع أن لونك مزعج ... لوكنت تحبس بالسلاسل )
فلما رجع إليه الرسول وجده قد وقع بمطمورة نجاسة وصار هتكة فلما قرأ الأبيات قال للرسول أعلمهما بحالي فرجع الرسول وأخبرهما بذلك فكاد أن يغشى عليهما من الضحك وكتب إليه كل واحد بيتا وابتدأ أبوجعفر فقال
( قل للذي خلصنا ... منه الوقوع في الخرا )
( ارجع كما شاء الخرا ... يا ابن الخرا إلى ورا )
( وإن تعد يوما إلى ... وصالنا سوف ترى )
( يا أسقط الناس ويا ... انذلهم بلا مرا )
( هذا مدى الدهر تلاقي ... لو أتيت في الكرى )
( يالحية تشغف في ... الخرء وتشنا العنبرا )
( لا قرب الله اجتماعا ... بك حتى تقبرا
ومن شعرها
( سلام يفتح في زهره الكمام ... وينطق ورق الغصون )

( على نازح قد ثوى في الحشا ... وإن كان تحرم منه الجفون )
( فلا تحسبوا البعد ينسيكم ... فذلك والله مالا يكون )
وقولها من أبيات
( ولو لم يكن نجما لما كان ناظري ... وقد غبت عنه مظلما بعد نوره )
( سلام على تلك المحاسن من شج ... تناءت بنعماه وطيب سروره )
وقولها
( سلوا البارق الخفاق والليل ساكن ... أظل بأحبابي يذكرني وهنا )
( لعمري لقد أهدى لقلبي خفقة ... وأمطرني منهل عارضه الجفنا )
ونسب بعض إليها البيتين الشهيرين
( أغار عليك من عيني رقيبي ... ومنك ومن زمانك والمكان )
( ولو اني خبأتك في عيوني ... إلي يوم القيامة ماكفاني ) والله تعالى أعلم
وكتبت إلي أبي جعفر
( رأست فما زال العداة بظلمهم ... وعلمهم النامي يقولون ما رأس )
( وهل منكر أن ساد اهل زمانه ... جموح إلى العليا حرون عن الدنس )
وقال ابن دحية حفصة من أشراف غرناطة رخيمة الشعر رقيقة النظم والنثر انتهى

ومن قولها في السيد أبي سعيد ملك غرناطة تهنئه بيوم عيد وكتبت بذلك إليه
( ياذا العلا وابن الخليفة ... والإمام المرتضى )
( يهنيك عيد قد جرى ... فيه بما تهوى القضا )
( وأتاك من تهواه في ... قيد الإنابة والرضى )
( ليعيد من لذاته ... ماقد تصرم وانقضى )
وذكر الملاحي في تاريخه انها سألتها امرأة من أعيان أهل غرناطة أن تكتب لها شيئا بخطها فكتبت إليها
( ياربة الحسن بل يا ربة الكرم ... غضي جفونك عما خطه قلمي )
( تصفحيه بلحظ الود منعمة ... لا تحفلي بردىء الخط والكلم )
واتفق ان بات أبو جعفر ابن سعيد معها في بستان بحور مؤمل على ما يبيت به الروض والنسيم من طيب النفحة ونضارة النعيم فلما حان الانفصال قال أبو جعفر وكان يهواها كما سبق
( رعى الله ليلا لم يرح بمذمم ... عشية وارانا بحور مؤمل )
( وقد خفقت من نحو نجد أريجه ... إذا نفحت هبت بريا القرنفل )
( وغرد قمري على الدوح وانثنى ... قضيب من الريحان من فوق جدول )
( يرى الروض مسرورا بما قد بدا له ... عناق وضم وارتشاف مقبل )
وكتب بها إليها بعد الافتراق لتجيبه على عادتها في مثل ذلك فكتبت إليه بقولها
( لعمرك ما سر الرياض بوصلنا ... ولكنه أبدى لنا الغل والحسد )
( ولا صفق النهر ارتياحا لقربنا ... ولا غرد القمري إلا لما وجد )

( فلا تحسن الظن الذي أنت اهله ... فماهو في كل المواطن بالرشد )
( فما خلت هذا الأفق أبدى نجومه ... لأمر سوى كيما تكون لنا رصد )
وقال ابن سعيد في الطالع السعيد كتبت حفصة الركونية الى بعض أصحابها
( أزورك ام تزور فإن قلبي ... الى ما تشتهي أبدا يميل )
( فثغري مورد عذب زلال ... وفرع ذؤابتي ظل ظليل )
( وقد أملت أن تظما وتضحى ... إذا وافى إليك بي المقيل )
( فعجل بالجواب فما جميل ... إباؤك عن بثينة يا جميل )
666 - سلمى بنت القراطيسي
قال التجاني تشبه أبيات حفصة هذه أبيات أنشدها ابن أبي الحصين في تاريخه لسلمى بنت القراطيسي من اهل بغداد وكانت مشهورة بالجمال وهي
( عيون مها الصريم فداء عيني ... وأجياد الظباء فداء جيدي )
( أزين بالعقود وإن نحري ... لأزين للعقود من العقود )
( ولا أشكو من الأوصاب ثقلا ... وتشكو قامتي ثقل النهود )
وبلغت هذه الأبيات المقتفي أمير المؤمنين فقال ايألوا هل تصدق صفتها قولها فقالوا مايكون أجمل منها فقال اسألوا عن عفافها فقالوا له هي أعف الناس فأرسل إليها مالا جزيلا وقال تستعين به على صيانة جمالها ورونق بهجتها انتهى
رجع الى حفصة
وقال أبو جعفر ابن سعيد أقسم ما رأيت ولا سمعت بمثل حفصة ومن

بعض ما أجعله دليلا على تصديق عزمي وبر قسمي أني كنت يوما في منزلي مع من يحب أن يخلى معه من الأجواد الكرام على راحة سمحت بها غفلات الأيام فلم نشعر إلا بالباب يضرب فخرجت جارية تنظر من الضارب فوجدت امرأة فقالت لها ماتريدين فقالت ادفعي لسيدك هذه الرقعة فجاءت برقعة فيها
( زائر قد اتى بجيد الغزال ... مطلع تحت جنحه للهلال )
( بلحاظ من سحر بابل صيغت ... ورضاب يفوق بنت الدوالي )
( يفضح الورد ماحوى منه خد ... وكذا الثغر فاضح للآلي )
( ماترى في دخوله بعد إذن ... أو تراه لعارض في انفصال )
قال فعلمت أنها حفصة وقمت مبادرا للباب وقابلتها بما يقابل به من يشفع له حسنه وآدابه والغرام به وتفضله بالزيارة دون طلب في وقت الرغبة في الأنس به انتهى
667 -
أبو جعفر ابن سعيد
قلت وإذ قد جرى ذكر ابي جعفر ابن سعيد سابق الحلبة فلنلم ببعض أحواله فنقول هو أبو جعفر أحمد بن عبد الملك بن سعيد العنسي قال قريبه أبو الحسن علي بن موسى بن سعيد في المغرب سمعت أبي يقول لا أعلم في بني سعيد أشعر منه بل لا أعلم في بلده وعشق حفصة شاعرة الأندلس وكانا يتجاوبان تجاوب الحمام ولما استبد والده بأمر القلعة حين ثار أهل الأندلس بسبب صولة بني عبدالمؤمن على الملثمين اتخذه وزيرا واستنابه في

أموره فلم يصبر على ذلك واستعفى فلم يعفه وقال أفي مثل هذا الوقت الشديد تركن الى الراحة فكتب إليه
( مولاي في أي وقت ... انال في العيش راحه )
( أن لم أنلها وعمري ... ما إن أنار صباحه )
( وللملاح عيون ... تميل نحو الملاحه )
( وكأس راحي ما إن ... تمل مني راحه )
( والخطب عني أعمى ... لم يقترب لي ساحه )
( وأنت دوني سور ... من العلا والرجاحه )
( فأعفني وأقلني ... مما رأيت صلاحه )
( مافي الوزارة حظ ... لمن يريد ارتياحه )
( كل وقال وقيل ... ممن يطيل نباحه )
( أنسي أتى مستغيثا ... فاترك فديت سراحه )
فلما قرأ الأبيات قال لا ينفع الله بما لايكون مركبا في الطبع مائلة له النفس ثم وقع على ظهر ورقته قد تركنا سراح أنسك والحقنا يومك بأمسك ولما رجع ثوار الأندلس إلى عبد المؤمن وبايعه عبدالملك بن سعيد فغمره إحسانا وبرا وولي السيد أبو سعيد ابن عبدالمؤمن غرناطة طلب كاتبا من أهلها فوصف له فضل أبي جعفر وحسبه وأدبه فاستكتبه فطلب أن يعفيه فأبى إلى أن شرب أبو جعفر يوما مع خواصة وخرج ثاني يوم الى الصيد وكان اليوم ذا غيم وبرد ولما اشتد البرد مالوا الى خيمة ناطور وجعلوا يصطلون ويشربون على ما اصطادوا فحمل أبا جعفر بقية السكر على ان قال يصف يومه ويستطرد بما في نفسه
( ويوم تجلى الأفق فيه بعنبر ... من الغيم لذنا فيه باللهو والقنص )
( وقد بقيت فينا من الأمس فضلة ... من السكر تغرينا بمنتهب الفرص )

( ركبنا له صبحا وليلا وبعضنا ... أصيلا وكل إن شدا جلجل رقص )
( وشهب بزاة قد رجمنا بشهبها ... طيورا يساغ اللهو إن شكت الغصص )
( وعن شفق تغري الصباح أو الدجى ... إذا أوثقت ماقد تحرك أو قمص )
( وملنا وقد نلنا من الصيد سؤلنا ... على قنص اللذات والبرد قد قرص )
( بخيمة ناطور توسط عذبها ... جحيم به من كان عذب قد خلص )
( أدرنا عليه مثله ذهبية ... دعته إلى الكبرى فلم يجب الرخص )
( فقل لحريص أن يراني مقيدا ... بخدمته لا يجعل الباز في القفص )
( وما كنت إلا طوع نفسي فهل أرى ... مطيعا لمن عن شأو فخري قد نقص )
فكان في أصحابه من حفظ هذين البيتين ووشى بهما للسيد فعزله أسوأ عزل ثم بلغه بعد ذلك أنه قال لحفصة الشاعرة ما تحبين في ذلك الأسود وانا أقدر أن أشتري لك من سوق العبيد عشرة خيرا منه وكان لونه مائلا إلى السواد فأسرها في نفسه الى أن فر عبدالرحمن بن عبدالملك بن سعيد إلى ملك شرق الأندلس محمد بن مردنيش فوجد له بذلك سببا فقتله صبرا بمالقة
وكان عبدالملك بن سعيد يذكر ابنه أبا جعفر لعبدالمؤمن وينشده من شعره رغبة في تشريفه بالحضور بين يديه وإنشاده في مجلسه فأمره بحضوره فعندما دخل عليه قبل يده وأنشد قصيدة منها قوله
( عليك أحالني داعي النجاح ... ونحوك حثني حادي الفلاح )
( وكنت كساهر ليلا طويلا ... ترنح حين بشر بالصباح )
( وذي جهل تغلغل في قفار ... شكا ظمأ فدل على القراح )
( دعانا نحو وجهك طيب الذكر ... ويذكر للرياض شذا الرياح )

وله في غلام أسود ساق ارتجالا
( أدار علينا الكأس ظبي مهفهف ... غدا نشره واللون للعنبر الشحري )
( وزاد لنا حسنا بزهر كؤوسه ... وحسن ظلام الليل بالأنجم الزهر )
وقوله فيه وقد لبس أبيض
( وغصن من الآبنوس ارتدى ... بعاج كليل علاه فلق )
( يحاكي لنا الكأس في كفه ... صباح بجنح علاه شفق )
وقوله مما كتب به إلى اخيه محمد وقد ورد منه كتاب بإنعام
( وافى كتابك ينبي ... عن سابغ الإنعام )
( فقلت در ودر ... من زاخر وغمام )
وقوله يذم حماما
( يارب حمام لعنا بما ... أبدى إلينا كل حمام )
( أفق له قطر حميم كما ... أصمت سهام من يدي رامي )
( يخرق سحبا للدخان الذي ... لاح لغيم العارض الهامي )
( وقيم يجذبني جذبة ... وتارة يكسر إبهامي )
( ويجمع الأوساخ من لؤمه ... في عضدي قصدا لإعلامي )
( وازدحم الأنذال فيه وقد ... ضجوا ضجيجا دون إفهام )
( وجملة الأمر دخلنا بني ... سام وعدنا كبني حام )
وله في ضد ذلك والنصف الأخير لابن بقي
( لا أنس ما عشت حماما ظفرت به ... وكان عندي أحلى من جني الظفر )
( نعمت جسمي في ضدين مغتنما ... تنعم الغصن بين الشمس والمطر )

وقال له السيد أبو سعيد ابن عبدالمؤمن صاحب غرناطة ما أنت إلا حسن الفراسة وافر العقل فقال
( نسبتم لمن هذبتموه فراسة ... وعقلا ولولاكم للازمة الجهل )
( وماهو أهل للثناء وإنما ... علاكم لتقليد الأيادي له أهل )
( وما انا إلا منكم وإليكم ... وما في من خير فأنتم له أصل )
وقال
( ولما رأيت السعد في صفح وجهه ... منيرا دعاني ما رأيت الى الشكر )
( وأقبل يبدي لي غرائب نطقه ... وماكنت ادري قبله منزع السحر )
( فأصغيت إصغاء الجديب إلى الحيا ... وكان ثنائي كالرياض على القطر )
وله
( لا تكثرن عتابي ... إن طال عنك فراقي )
( فما يضر بعاد ... يطول والود باقي )
وله
( ماخدمناكم لأن تشفعوا فينا ... بدار الجزاء يوم الحساب )
( ذاك يوم أنا وأنت سواء ... فيه كل يخاف سوء العقاب )
( إنما الشأن الذب في هذه الدنيا ... بسلطانكم عن الأصحاب )
( وإذا ماخذلتموهم بشكوى ... وبخلتم عنهم برد الجواب )
( فاعذروهم ان يطلبوا من سواكم ... نصرة وارفعوا حجال العتاب )
( وإذا أرض مجدب لفظته ... فله العذر في اتباع السحاب )
وله وقد تقدم أمامه في ليلة مظلمة أحد أصحابه فطفىء السراج في يده فقال لوقته

( لي من جبينك هادي ... في الليل نحو مرادي )
( فما أريد سراجا ... يدلني لرشاد )
( أنى وكفك سحب ... يبدو بها ذا اتقاد )
وله في قوادة
( قوادة تفخر بالعار ... أقود من ليل على سار )
( ولاجة في كل دار وما ... يدري بها من حذقها داري )
( ظريفة مقبولة الملتقى ... خفيفة الوطء على الجار )
( لحافها لا ينطوي دائما ... أقلق من راية بيطار )
( قد ربيت مذ عرفت نفعها ... مابين فتاك وشطار )
( جاهلة حيث ثوى مسجد ... عارفة حانة خمار )
( بسامة مكثرة برها ... ذات فكاهات وأخبار )
( علم الرياضات حوته وسا ... سته ... بتقويم وأسحار )
( مناعة للنعل من كيسها ... موسرة في حال اعسار )
( تكاد من لطف أحاديثها ... تجمع بين الماء والنار )
وما سمعنا في هذا الباب أحسن من هذا والبيت السائر
( تقود من السياسة ألف بغل ... إذا حرنت بخيط العنكبوت )
وشرب ليلة مع أصحاب له وفيهم وسيم فأعرض بجانبه وقطب فتكدر المجلس فقال أبو جعفر
( يا من نأى عنا الى جانب ... صدا كميل الشمس عند الغروب )
( لا تزو عنا وجهك المجتلى ... فالشمس لا يعهد منها قطوب )
( إن دام هذا الحال ما بيننا ... فإننا عما قريب نتوب )

( ما نشتكي الدهر ولا خطبه ... لولاك مادارت علينا خطوب )
وله أيضا
( أيا لائمي في حمل صحبة جاهل ... قطوب المحيا سيء اللحظ والسمع )
( لمنفعة ترجى لديه صحبته ... وإن كان ذا طبع يخالفه طبعي )
( كما احتمل الإنسان شرب مرارة الدواء ... لما يرجو لديه من النفع )
وله وقد أحسن ماشاء
( تركتكم لا كارها في جنابكم ... ولكن أبى ردي إلى بابكم دهري )
( وطاحت بي الأطماع في كل وجهة ... تنقلني من كل سهل إلى وعر )
( وما باختيار فارق الخلد آدم ... وماعن مراد لاذ أيوب بالصبر )
( ولكنها الأيام ليست مقيمة ... على ما اشتهاه مشته امد العمر )
( وإنك إن فكرت فيما أتيته ... تيقنت أن الترك لم يك عن غدر )
( ولكن لجاج في النفوس إذا انقضى ... رجعت كما قد عاد طير إلى وكر )
( وإني لمنسوب إليكم وإن نأت ... بي الدار عنكم والغدير إلى القطر )
( وإني لمثن بالذي نلت منكم ... مقيم على ما تعلمون من البر )
( وإن خنتكم يوما فخانني المنى ... وساء لديكم بعد إحماده ذكري )
( على أنني أقررت أني مذنب ... وذو المجد من يغني المقر عن العذر )
وله يصف نارا
( نظرت الى نار تصول على الدجى ... إذا ما حسبناها تدانت تبعد )
( ترفعها أيدي الرياح وتارة ... تخفضها مثل المكبر يسجد )
( وإلا فمن لا يملك الصبر قلبه ... يقوم به غيظ هناك ويقعد )
( لها ألسن تشكو بها ما أصابها ... وقد جعلت من شدة القر ترعد )

وله على لسان إنسان أخلقت بردته
( مولاي هذي بردتي أخلقت ... وليس شيء دونها املك )
( وصرت من بأس ومن فاقة ... أبكي إذا أبصرتها تضحك )
وله يستدعي احد أبناء الرؤساء إلى يوم اجتماع
( تداركنا فإنا في سرور ... وما بسؤاك يكتمل السرور )
( أهلة أنسنا بك في تمام ... أليس تتم بالشمس البدور )
وله وقد خطر على منزله من إليه له ميل وقال لولا أخاف التثقيل لدخلت وانصرف فلما أعلم أبو جعفر كتب إليه
( مولاي لم تقصد تعذيب من ... يهوى وما قصدك مجهول )
( طلبت تخفيفا ببعد وفي ... تخفيف من تهواه تثقيل )
( غيرك إن زار جنى ضجرة ... ولج منه القال والقيل )
( وأنت إن زرت حياة وما العيش ... إذا ماطال مملول )
وله وقد جلس إلى جانبه رجل تكلم فأنبأ عن علو قدر فسأله عن بلده فقال إشبيلية ففكر ثم قال
( ياسيدا لم أكن من قبل أعرفه ... حتى تكلم مثل الروض بالعبق )
( وزادني أن غدا في حمص منشؤه ... لقد تشاكل بين البدر والأفق )
وله وقد حضر مجلسا مع إخوان له في انبساط ومزاح فدخل عليهم أحد ظرفاء الغرباء بوجه طلق وبشاشة فاهتز لما سمع بينهم وجعل يصل ما

يحتاج من مزاحهم إلى صلة بأحسن منزع وأنبل مقصد فأنشده أبو جعفر ارتجالا
( ياسيدا قد ضمه مجلس ... حل به للمزح إخوان )
( لم نلق من فجأته خجلة ... ولا ثنانا عنه كتمان )
( كأنه من جمعنا واحد ... لم ينب منا عنه إنسان )
( ولم نكن ندريه لكن بدا ... في وجهه للظرف عنوان )
وله وقد لقي أحد إخوانه وكان قد أطال الغيبة عنه فدار بينهما ما اوجب أن قال
( إن لحت لم تلمح سواك الأعين ... أوغبت لم تذكر سواك الألسن )
( انت الذي ما إن يمل حضوره ... ومغيبه السلوان عنه يؤمن )
وله وهو من آياته
( إني لأحمد طيفها وألومها ... والفرق بينهما لدي كبير )
( هي إن بدت لي شيبة في جفوة ... والطيف في حين المشيب يزور )
( وإذا توالى صدها أو بينها ... وافى على أن المزار عسير )
وله وقد سافر بعض الأراذل بماله فنكب في سفره وعاد فقيرا بأسوء أحواله
( اغد ولا يغن عنك القيل والقال ... فالجود مبتسم والفضل يختال )
( قالوا فلان رماه الله في سفر ... رآه رأيا بما حالت به الحال )
( فآب منه سليبا مثل مولده ... عليه ذل وتفجيع وإقلال )
( فقلت لا خفف الرحمن عنه فلم ... يكن لديه على القصاد إقبال )
( فقل له دام في ذل ومسغبة ... ولا أعيدت له في المال آمال )

( قد كان حمقك حسن المال يستره ... فاليوم أصبحت لا عقل ولا مال )
وله وقد سافر احد الرؤساء من أصحابه
( أيا غائبا لم يغب ذكره ... ولا حال عن وده حائل )
( لئن مال دهري بي عنكم ... فقلبي نحوكم مائل )
( فإني شاهدت منكم علا ... من العجز قس بها باقل )
( لئن طال بي البعد عن لحظكم ... فما في حياتي إذن طائل )
وله وهو من حسناته
( شقت جيوب فرحا عندما ... آبت وفي البعد تشق القلوب )
( فقلت هذا موقف ما يشق الجيب ... فيه غير صب طروب )
( فابتسمت زهوا وقالت كذا الأفق ... لعود الشمس شق الجيوب )
وله وقد أجمع رأيه على أن يفد على امير المؤمنين عبدالمؤمن فأخذ في ذلك مع أصحاب له فجعلوا يثنونه عن ذلك وظهر عليهم الحسد له فقال
( سر نحو ما تختار لا تسمعن ... ماقاله زيد ولا عمرو )
( كلهم يحمد مارمته ... مهما يساعد رأيك الدهر )
( عجبت ممن رام صدر العلا ... يروم ان يصفو له دهر )
فقالوا له اتهمتنا في الود فقال لو لم اتهمكم كنت أتهم عقلي والعياذ بالله تعالى من ذلك وكيف لا أتهمكم وقد غدوتم تثنونني عن زيارة خليفة لوالدي عنده مكان وله علينا إحسان ولي شافع عنده مقرب لمجلسه عقلي ولساني ولكنني انا المخطىء الذي عدلت عن العمل بقول القائل

( ولم يستشر في امره غير نفسه ... ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا )
وله في شعاع القمر والشمس على النهر
( ألا حبذا نهر إذا ما لحظته ... أبى أن يرد اللحظ عن حسنه الأنس )
( ترى القمرين الدهر قد عنيا به ... يفضضه بدر وتذهبه شمس )
وله في والده وقد سن عليه درعا
( أيا قائد الأبطال في كل وجهة ... تطير قلوب الأسد فيها من الذعر )
( لقد قلت لما أن رأيتك دارعا ... أيا حسن ما لاح الحباب على البحر )
( وأنشدت والأبطال حولك هالة ... أيا حسن ما دار النجوم على البدر )
وقوله وقد بلغه أن حاسدا شكره
( متى سمعت ثناء ... عمن غدا لك حاسد )
( فكان منك انخداع ... به فرأيك فاسد )
( بصدره منك نار ... لهيبها غير خامد )
( وعله لك مازدت ... في السعادة زائد )
( وإنما ذاك منه ... كالحب في فخ صائد )
وله
( أبصره من يلوم فيه ... فقال ذا في الجمال فائق )
( أما ترى مادهيت منه ... كان عذولا فصار عاشق )
وله في أبيه وقد سجنه عبدالمؤمن
( مولاي إن يحبسك خير خليفة ... فبذاك فخرك واعتلاء الشان )
( فالجفن يحبس نوره من غبطة ... والمرهفات تصان في الأجفان )

( فابشر فنزع الدر من أصدافه ... يعليه للأسلاك والتيجان )
( ولئن غدا من ظل دونك مطلقا ... إن القذى ملقى عن الأجفان )
( والعين تحبس دائما أجفانها ... وهداية الإنسان بالإنسان )
( والطرس يختم ماحواه نفاسة ... ويهان مايبدو من العنوان )
( فاهنأ به لكن مليا مكثه ... سجنا لغير مذلة وهوان )
( فلتعلون رغم الأعادي بعده ... بذري الخليفة في ذري كيوان )
مولاي غيرك يعزي بما لم يزل يجري على الكرام ويذكر تأنيسا له في الوحشة بما يطرأ من الكسوف والخسوف على الشمس المنيرة والبدر التمام
( وأنت تعلم الناس التعزي ... وخوض الموت في الحرب السجال )
وقد كان مولاي أنشدني لعلي بن الجهم قائلا إن أحدا لم يسل نفسه عما ناله من السجن بمثله
( قالوا سجنت فقلت ليس بضائر ... سجني وأي مهند لا يغمد )
الأبيات ماذا تفيدك من العلم وصدرك ينبوعه وبخاطرك لا يزال غروبه وطلوعه وإنما هي عادة تبعناها أدبا وقضينا بها ما في النفس من الإعلام بالتوجع والتفجع أربا ولعل الله تعالى يتبع هذه التسلية بتهنئة ويعقب بالنعمة هذه المرزئة قال فأمر الملك بتسريحه إثر ذلك فلما اجتمع وجهه بوجهه جعل يحمد الله تعالى جهرا ويغرد بهذه الأبيات وكان سراحه بكرة
( طلعت علينا كالغزالة بالضحى ... وعزك طماح ووجهك مشرق )

( فغفرا لذنب الدهر أجمع إنه ... أتى اليوم من حسناه ماهو أليق )
( فلح في سماء العز بالسعد طالعا ... وقدرك سام أفقه ليس يلحق )
( فقد سرحت لما غدوت مسرحا ... قلوب وأفكار وسمع ومنطق )
فاهتز أبوه من شدة الطرب وقال له والله إنك لتملأ الدلو إلى عقد الكرب
وله يعتذر وقد دعي الى مجلس أنس سيدي ساعدك سولك لما وصل إلى أخيك المعتد بك رسولك قابله بما يجب من القبول وأبدى له من الشغل مامنع من الوصول
( ومن ذا الذي يدعى لعدن فلا يرى ... على الرأس اجلالا إليها يبادر )
ولكن الاضطرار لا يكون معه اختيار وإني لأشوق الناس إلى مشاهدة تلك المكارم وأحبهم في محاضرة تلك الآداب المترادفة ترادف الغمائم ولكن شغلني عارض قاطع وبرغمي أني لدعوتك عاص وله طائع وإني بعد ذلك لحامل على تلك السجية الكريمة في الغفران مستجير بالخلاص الذي أعهد من خرق فلان ومكر فلان فإني متى غبت لا أعدم مترصدا قرحة يقع عليها ذبابه ومستجمعا إذا أبصر فرصة سل عليها ذبابه
( ولكنني أدري بأني نازح ... ودان سواء عند من يحفظ العهدا )
وإني لأقول وقد غبت عن تلك الحضرة العلية وجانبت ذلك الجناب السامي والمثابة السنية
( لئن غبت عمن نوره نور ناظري ... فحسبي لديه أن أغيب عقابا )
( وسوف اوافيه مقرا بزلتي ... وفي حلمه أن لا يطيل حسابا )
وله في قصر النهار ولو لم يكن له غيره لكفاه

( لله يوم مسرة ... أضوا وأقصر من ذباله )
( لما نصبنا للمنى ... فيه بأوتار حباله )
( طار النهار به كمر تاع ... وأجفلت الغزاله )
وهذا المعنى لم يسبق إليه ولم يقدر أحد أن ينزعه من يديه
ولما وصل صحبة والده إلى إشبيلية افتتن بواديها واعتكف على الخلاعة فيها مصعدا ومنحدرا بين بساتينه ومنازهه فمر ليلة بطريانة فمال نحو منزه فيه طرب سمعه فاستوقفه هنالك وهو في الزورق متكىء وأصحابه وأصحاب أبيه مظهرون انحطاطهم عنه في المرتبة فأخرج رأسه أحد الأنذال المعتادين بالنادر من شرجب والشرجب هو الدرابزين من خشب فيه طاقات وطريانة مقابلة إشبيلية وبها المنازه والأبنية الحسنة فضرط له ذلك النذل بغاية ماقدر فرفع رأسه وقد أخذ منه السكر ولم يعتد مثل ذلك في بلده وقال ياسفلة أتقدم علي بهذا قبل معرفتي فثنى عليه واحدة أخرى ثم رفع ثوبه عن ذكره وهو منعظ وقال ياوزير اجعل هذا عندك وديعة حتى أعرف من تكون ثم رفع ماعلى استه من ثيابه وقال واعمل من هذا غلافا للحيتك فإذا عرفناك ذهبناه لك فغلبه الضحك على الحرج وجعل أصحابه يقولون له ماسمعت أن من دخل هذا الوادي يعول على هذا وأمثاله فمال عن ذلك المنزه قليلا وأطرق ساعة وقال
( نهر حمص لا عدمناك ... فما مثلك نهر )
( فيك يلتذ ارتياح ... أبد الدهر وسكر )
( كل عمر قد خلا منك ... فما ذلك عمر )
( خصه الله بمعنى ... فيه للألباب سر )

( يلعن الإنسان فيه ... وهو يصغي ويسر )
ثم سأل بعد ذلك عن رب المنزه فسمي له وأعلم ان ابن سيد الشاعر المشهور باللص كان حاضرا وانه أملى على السفلة ماقال وصنع فكتب له أبو جعفر
( ياسميي وإن أفاد اشتراك ... غير ما يرتضيه فضل وود )
( أكذا يزدري الخليل بأفق ... أنت فيه ولم يكن منك رد )
( لا أرى من سلطت وغدا ولكن ... ليس يخفى عليك من هو وغد )
فلما وقف على هذه الأبيات كتب له يامولاي وسيدي وأجل ذخري للزمان وعضدي الذي أفخر بمشاركة اسمه وتتيه هذه الصناعة بذكره ورسمه
( وخير الشعر أشرفه رجالا ... وشر الشعر ما قال العبيد )
سلام كتسنيم على ذلك المقام الكريم ورحمة الله تعالى وبركاته وإن كان مولاي لم يفاتحني بالسلام ولا رآني أهلا لمقاومة الكرام لكن حط قدري عنده مانسب لي من الذنب المختلق ولا والله مانطقت بلسان ولا كنت ممن رمق بل الذي زور لسيدي في هذه الوشاية كان المعين عليها والملم إليها فبادر إليكم قبل ان أسبقه فاتسم بأسقط خطتين النذالة الأولى والوشاية الأخرى ولولا أن المجالس بالأمانات وأن الخلاعة بساط يطوى على ماكان فيه لكنت أسبق منه لكني يأبي ذلك خلقي وما تأدبت به ومع ذلك فإني أقول

( فإن كنت ذا ذنب فقد جئت تائبا ... ومثلك غفار ومثلك قابل )
ولولا ما اخشى من التثقيل وما اتوقع من الخجل إذا التقى الوجهان لأتيت حتى أبلغت في الاعتذار بالمشافهة ما لا يسع القرطاس لكنني متكل على حلم سيدي وإغضائه متوسل إليه في الغفران بعلائه وكتب تحت ذلك شعرا طويلا منه
( ولا غرو أن تعفو وأنت ابن من غدا ... تعود عفوا عن كبار الجرائم )
( لكم آل عمار بيوت رفيعة ... تشيد من كسب الثنا بدعائم )
( إذا نحن أذنبنا رجونا ثوابكم ... ولم نقتنع بالعفو دون المكارم )
( وإنك فرع من أصول كريمة ... ولا تلد الأزهار غير الكمائم )
( وإني مظلوم لزور سمعته ... وقد جئت أرجو العفو في زي ظالم )
فأجابه أبو جعفر بما نصه سيدي الذي أكبر قدره وأجل ذكره وأجزل شكره وصل جوابك الذي لو كان لك من الذنب ماتحمله ابن ملجم لأضربت لك عنه صفحا ونسيت بما تأخر ما تقدم ومعاذ الله أن أنسب لفضلك عيبا فأذم لك حضورا أو غيبا وإنما قصدت بالمعاتبة ماتحتها من المطارحة والمداعبة على أن سيدي لو تيقنت انه ظالم لأنشدت
( منذ غدا طرفك لي ظالما ... آليت لا أدعو على ظالم )
لكنني أتيقن خلاف ذلك وأعلم حتى كاني حاضر ماكان هنالك وقد أطلت عليك وبعد هذا فلتعتمد على ان تصل إلي أو أصل إليك فهذا يوم كما قال البستي
( يوم له فضل على الأيام ... مزج السحاب ضياءه بظلام )

( فالبرق يخفق مثل قلب هائم ... والغيم يبكي مثل جفن هام )
( فاختر لنفسك أربعا هن المنى ... وبهن تصفو لذة الأيام )
( وجه الحبيب ومنظرا مستشرقا ... ومغنيا غردا وكأس مدام )
وقد حضرت عند محبك الثلاثة فكن رابعها ونادت بك همم الأماني فكن بفضلك سامعها ومركز أفلاك هذه المسرة حين كتب هذه الرقعة إلى مجدك منزه مطل على جزيرة شنتبوس لا أزال أترنم فيه بقول ابن وكيع
( قم فاسقني والخليج مضطرب ... والريح تثني ذوائب القضب )
( كأنها والرياح تعطفها ... صف قنا سندسية العذب )
( والجو في حلة ممسكة ... قد طرزتها البروق بالذهب )
فإن كان سيدي في مثل هذا المكان جرينا إليه جري الحلبة لخصل الرهان وإن كان في كسر بيته فليبادر إلى محل تقصر عنه همة قيصر وكسرى وإن أبطأ فإن الرقاع بالإستدعاء لا تزال عليه تترى وإن كان لا يجدي هذا الكلام فما نقنع من العقوبة المؤلمة بالملام وعلى المودة المرعية الداعية أكمل مايكون من السلام
فعندما قرأ الرقعة ركب إليه زورقا وصنع هذه الأبيات في طريقه فعند وصوله أنشده إياها
( ركبت إليك النهر يا بحر فالقنا ... بما يتلقى جوده كل قادم )
( بفيض ولكن من مدام وهزة ... ولكن إلى بذل الندى والمكارم )
( وكنا نسمي قبل كونك حاتما ... ومذ لحت فينا لم نعد ذكر حاتم )
( بآل سعيد يفخر السعد والعلا ... فأيديهم تلغي أيادي الغمائم )
فامتلأ أبو جعفر سرورا وخلع عليه ماكان عنده هنالك ووعده بغير ذلك فأطرق لينظم شيئا في شكره فأقسم عليه أن لا يشغل خاطره في ذلك

الوقت عن الارتياح وحث أكؤس الراح فأقبلوا على شأنهم وكان ابن سيد في ذلك الحين متسترا بشرب الراح وكان عند أبي جعفر خديم كثير النادر والالتفات يخاف أهل التستر من مثله فقال ابن سيد هات دواة وقرطاسا فأعطاه ذلك فكتب
( ياسيدي قد علمت أني ... بهذه الحال لا اظاهر )
( أخشى أناسا لهم عيون ... نواظر مني المعاير )
( أحذرهم طاقتي وإني ... وثقت بالله فهو غافر )
( ولا تقس حالتي بحال ... منك اعتذارفالفرق ظاهر )
( فأنت إن كنت ذا جهار ... غير مبال فالجاه ساتر )
( لاتخش من قول ذي اعتراض ... ولا حسود عليك قادر )
( وإنني قد رأيت ممن ... يكثر القول وهو ساخر )
( ماقد أراب العفيف منه ... ضحك وظن به يجاهر )
( أخشى إذا قيل كيف كنتم ... قال بحال تسر ناظر )
( واللص ما بيننا صريعا ... بكل كأس عليه دائر )
( مطرحا للصلاة يصغي ... لصولة الدف والمزامر )
( فأغتدي سيدي مشارا ... إلي مهما مررت خاطر )
( وإن أتيت الملوك أبغي ... نوالهم قيل أي شاعر )
( يذكر في شعره خلافا ... وهو لزور المحال ذاكر )
( بالأمس قد كان ذا انتهاك ... فما له بعد ذاك عاذر )
( إن كان هذا فإن حظي ... وافى لربح فآب خاسر )
فقال له أبو جعفر يا أبا العباس اشرب هنيئا غير مقدر ماقدرت فلو

كان هذا المضحك على الصفة التى ذكرت كان الذنب منسوبا الي في كوني احضر في مجلسي من يهتك ستر المستورين ومهما تره هنا بهذه الخفة والطيش والتسرع للكلام فإنه إذا فارقنا أثقل من جبل وأصمت من سمكة متزي بزي خطيب في نهاية من السكون والوقار
( وتحت الثياب العار لو كان باديا )
فكن في امن ما شربت معي فإني والله لا أسمع أحدا من أصحابنا تكلم في شأنك بأمر إلا عاقبته أشد العقاب والذنب في ذلك راجع إلي فسكن إبن سيد وجعل يحث الأقداح ويمرح أشد المراح على ماكان يظهره من الانقباض تقية لما يخشاه من الاعتراض إلى ان قاربت الشمس الغروب ومد لها في النهر معصم مخضوب فقال أبو جعفر
( انظر الى الشمس قد ألصقت ... على الأرض خدا )
فقال إبن سيد
( هي المرأة ولكن ... من بعدها الأفق يصدا )
فقال أبو جعفر
( مدت طرازا على النهر ... عندما لاح بردا )
فقال ابن سيد
( أهدت لطرفك منه ... ما للأكارم يهدى )
فقال أبو جعفر
( درع اللجين عليه ... سيف من التبر مدا )

فقال ابن سيد
( فاشرب عليه هنيئا ... وزد سرورا وسعدا
ثم لما أظلم الليل نظروا إلى منارة شنتبوس قد عكست مصابيحها في النهر والى النجوم قد طلعت فيه فقال ابن سيد
( اخلع على النهر ثوب الكرى ... فذلك واجب )
فقال أبو جعفر
( وانظر إلى السرج فيه ... كالزهر ذات الذوائب )
( وحين صفق للأفق ... نقطته الكواكب )
فقبل ابن سيد رأسه وقال ماتركت بعد هذا مقالا لقائل ثم جعلوا يشربون
فقال أبو جعفر
( سقني والأفق برد ... بنجوم الليل معلم )
فقال ابن سيد
( وبساط النهر منها ... وهو فضي مدرهم )
فقال أبو جعفر
( ورواق الليل مرخى ... والشذا بالروض قد نم )
فقال ابن سيد
( والندى في الزهر منثور ... على عقد منظم )
فقال أبو جعفر
( والصبا جرت على ميت ... الطلى كف ابن مريم )

فقال ابن سيد
( كان مبهوتا فلما ... نفخت فيه تكلم )
فقال أبو جعفر
( وكأن الكأس والقهوة ... دينار ودرهم )
فقال ابن سيد
( وبدا الدف يناغي العود ... والمزمار هيم )
فقال أبو جعفر
( فأذاع الأنس منا ... كل ماقد كان مكتم )
فقال ابن سيد
( أي عيش يهتك المستور ... لو كان ابن أدهم )
فقال أبو جعفر
( هكذا العيش ودعني ... من زمان قد تقدم )
فقال ابن سيد
( حين لا خمر سوى ما ... بكؤوس البيض من دم )
فقال أبو جعفر والله ما تعديت ماجال الساعة في خاطري فإني ذكرت أيام الفتنة وماكابدنا فيها من المحن وأنا لم نزل في مصادمة ومقارعة ثم رأيت مانحن الآن فيه بهذه الدولة السعيدة التي امنت وسكنت فشكرت الله تعالى ودعوت بدوامها
ثم لما طلع الفجر قال أبو جعفر
( نثر الطل عقوده ... ونضا الليل بروده )

فقال ابن سيد
( وبدا الصبح بوجه ... مطلع فينا سعوده )
فقال أبو جعفر
( وغدا ينشر لما ... فتر الليل بنوده )
فقال ابن سيد
( فهلم اشرب وقبل ... من غدا ينطق عوده ) فقال جعفر
( ثم صافحه على رغم ... النوى وافرك نهوده )
فقال ابن سيد
( واجعل الشكر على ما ... نلته منه جحوده )
فقال أبو جعفر يا أبا العباس إنك أغرت على التهامي في هذا البيت في قوله
( وشكر أيادي الغانيات جحودها )
قال فلم لقبت باللص لولا هذا وأمثاله ماكان ذلك
واللص المذكور اسمه أحمد بن سيد يكنى أبا العباس وهو من مشهوري شعراء الأندلس ولما أنشد أمير المؤمنين عبدالمؤمن بن علي بجبل الفتح قوله
( غمض عن الشمس واستقصر مدى زحل ... وانظر إلى الجبل الراسي على جبل ) قال له أنت شاعر هذه الجزيرة لولا أنك بدأتنا بغمض وزحل والجبل
ومن بديع له أنت شاعر هذه الجزيرة لولا أنك بدأتنا بغمض وزحل والجبلنظم اللص قوله
( سلبت قلبي بلحظ ... أبا الحسين خلوب )

( فلم أسمى بلص ... وأنت لص القلوب )
ولما اجتمع أبو جعفر ابن سعيد المترجم به باللص أبي العباس المذكور في جبل الفتح عندما وفد فضلاء الأندلس على عبدالمؤمن واستنشده فجعل ينشده ما استجفاه به لخروجه عن حلاوة منزع أبي جعفر إلى ان انشده قوله
( وما أفنى السؤال لكم نوالا ... ولكن جودكم افنى السؤالا )
فقال له أبو جعفر لا جعلك الله في حل من نفسك يكون في شعرك مثل هذا وتنشدني ماكان يحملني على أن أسأت معك الأدب والله لو لم يكن لك غير هذا البيت لكنت به أشعر أهل الأندلس
وكتب إلي أبي جعفر أبو الحكم بن هرودس في يوم بارد بغرناطة
( ياسميي فى علم مجدك مايحتاج ... فيه هذا النهار المطير )
( ندف الثلج فيه قطنا علينا ... ففررنا بعدلكم نستجير )
( والذي أبتغيه في اللحظ منه ... ورضاب الذي هويت نظير )
( يوم قر يود من حل فيه ... لو تبدى لمقلتيه سعير )
فوجه بما طلب وجاوبه بما كتب
( أيها السيد الأجل الوزير ... ألذي قدره معلى خطير )
( قد بعثنا بما أشرت إليه ... دمت للأنس والسرور تشير )
( كان لغزا فككته دون فكر ... إن فهمي بما تريد خبير )

ومن نظم أبي الحكم
( إذا ضاقت عليك فول عنها ... وسر في الأرض واختبر العبادا )
( ولا تمسك رحالك في بلاد ... غدوت بأهلها خبرا معادا )
668 - أخيل الرندي
ولما مدح أبو القاسم أخيل بن ادريس الرندي عبدالمؤمن في جبل الفتح بقصيدة اولها
( ما الفخر إلا فخر عبدالمؤمن ... أثنى عليه كل عبد مؤمن )
قال أبو جعفر ابن سعيد دعاه التجنيس إلى الضعف والخروج عن المقصود والأولى ان لو قال شاد الخلافة وهو أول مبتني
ومن هذه القصيدة
( اما ابن سعد فهو أول مارق ... ياليته بأبيه سعد يكتني )
( ما قدر مرسية وحكمك نافذ ... إن شئت من عدن لأرض المعدن )
فلما أكملها قال له عبدالمؤمن أجدت فقال ارتجالا
( من لي أمير المؤمنين بموقفي ... هذا وقولك لي أجدت ولم تن )
( فلقد مدحتك خائفا أن لا يفي ... لسني بما يعيي جميع الألسن )
ولابن إدريس المذكور
( أيها البدر هل علمت بأني ... لم أبت راعيا محياك ودا )
( انا لو بات من حكيت بجنبي ... لم يكن عنه ناظري يتعدى )

وله
( شتان مابيني وبينك في الهوى ... انا أبتغيك وأنت عني تصدف )
( وإذا عتبتك وارعويت يبين لي ... في الحين منك بأن ذاك تكلف )
( ياليت شعري كيف يقضى وصلنا ... والعمر يفنى والمواعد تخلف )
وقيل له لما هجره عبدالمؤمن اكتب له واعتذر وبرهن عن نفسك فقال مايكون أمير المؤمنين هجرني إلا وقد صح عنده ولا أنسبه في أمري لقلة التثبت والجور وإنما أرغب في عفوه ورحمته فكأن هذا الكلام ألان عليه قلب عبدالمؤمن لما بلغه وكان قد نقل عنه حساده أنه قال كيف تصح له الخلافة وليس بقرشي
669 - ترجمة اللص
ولا بأس أن نزيد من أخبار اللص الذي جرى ذكرنا له مع أبي جعفر ابن سعيد فنقول
هو النحوي المبرز في الشعر أبو العباس أحمد بن سيد الإشبيلي ذكره ابن دحيه في المطرب وأخبر أنه شيخه وختم كتاب سيبويه مرتين على النحوي أبي القاسم ابن الرماك واجتمع به أبو جعفر ابن سعيد بحبل الفتح كما سبق ولقب اللص لإغارته على أشعار الناس
وله
( شاموا الردى فأشموا الترب آنفهم ... ولم يبالوا بما فيها من الشمم )
ثم جعل يقول قطع الله لساني إن كان اليوم على وجه الأرض من يعرف

أن يسمعه فضلا عن ان يقوله
وله القصيدة الشهيرة
( نداك الغيث إن محل توالى ... وأنت الليث إن شاءوا القتالا )
( سلبت الليث شدة ساعديه ... نعم وسلبت عينيه الغزالا )
( وما أفنى السؤال لكم نوالا ... ولكن جودكم أفنى السؤالا )
وقد تقدم هذا البيت في حكايته مع ابن سعيد
وقال في حلقة خياط وهو من محاسنه
( كأنها بيضة وخز الرماح بها ... باد وقونسها بالسيف قد قطعا )
وقال
( فالليل إن واصلت كالليل إن هجرت ... أشكو من الطول ما أشكو من القصر )
رجع إلى أخبار أبي جعفر ابن سعيد
قال في الأزهار المنثورة في الأخبار المأثورة مانصه لما قبض على الوزير أبي جعفر ابن عبدالملك بن سعيد العنسي وثقف بمالقة دخل إليه ابن عمه ووصل الى الإجتماع به ريثما استؤذن السيد أبو سعيد ابن الخليفة عبدالمؤمن في أمره قال فدمعت عيناي حين رأيته مكبولا فقال لي أعلي تبكي بعدما بلغت من الدنيا أطايب لذاتها فأكلت صدور الدجاج وشربت في الزجاج ولبست الديباج وتمتعت بالسراري والأزواج واستعملت من الشمع السراج الوهاج وركبت كل هملاج وها انا في يد الحجاج منتظر محنة الحلاج قادم على غافر لا يحتاج إلى اعتذار ولا احتجاج قال فقلت أفلا يؤسف

على من ينطق بهذا الكلام ثم يفقد وقمت عنه فكان آخر العهد به انتهى
رجع إلى أخبار النساء
9 - ومن أشهرهن بالأندلس ولادة بنت المستكفي بالله محمد بن عبدالرحمن ابن عبيدالله بن الناصر لدين الله وكانت واحدة زمانها المشار إليها في أوانها حسنة المحاضرة مشكورة المذاكرة كتبت بالذهب على طرازها الأيمن
( انا والله أصلح للمعالي ... وأمشي مشيتي وأتيه تيها )
وكتبت على الطراز الأيسر
( وأمكن عاشقي من صحن خدي ... وأعطي قبلتي من يشتهيها )
وكانت مع ذلك مشهورة بالصيانة والعفاف وفيها خلع ابن زيدون عذاره وقال فيها القصائد الطنانة والمقطعات وكانت لها جارية سوداء بديعة المعنى فظهر لولادة ان ابن زيدون مال إليها فكتبت إليه
( لو كنت تنصف في الهوى ما بيننا ... لم تهو جاريتي ولم تتخير )
( وتركت غصنا مثمرا بجماله ... وجنحت للغصن الذي لم يثمر )
( ولقد علمت بأنني بدر السما ... لكن ولعت لشقوتي بالمشتري )
ولقبت ابن زيدون بالمسدس وفيه تقول
( ولقبت المسدس وهو نعت ... تفارقك الحياة ولا يفارق )
( فلوطي ومأبون وزان ... وديوث وقرنان وسارق )
وقالت فيه

( إن ابن زيدون على فضله ... يغتابني ظلما ولا ذنب لي )
( يلخظني شزرا إذا جئته ... كأنني جئت لأخصي علي )
وقالت فيه أيضا
( إن ابن زيدون على فضله ... يعشق قضبان السراويل )
( لو أبصر الأير على نخلة ... صار من الطير الأبابيل )
وقالت ولادة تهجو الأصبحي
( يا أصبحي اهنأ فكم نعمة ... جاءتك من ذي العرش رب المنن )
( قد نلت باست ابنك مالم ينل ... بفرج بوران أبوها الحسن )
وكتبت إليه لما أولع بها بعد طول تمنع
( ترقب إذا جن الظلام زيارتي ... فإني رأيت الليل اكتم للسر )
( وبي منك ما لو كان بالشمس لم تلح ... وبالبدر لم يطلع وبالنجم لم يسر )
ووفت بما وعدت ولما أرادت الانصراف ودعته بهذه الأبيات
( ودع الصبر محب ودعك ... ذائع من سره ما استودعك )
( يقرع السن على ان لم يكن ... زاد في تلك الخطى إذ شيعك )
( يا أخا البدر سناء وسنا ... حفظ الله زمانا أطلعك )
( إن يطل بعدك ليلي فلكم ... بت أشكو قصر الليل معك )
وكتبت إليه
( ألا هل لنا من بعد هذا التفرق ... سبيل فيشكو كل صب بما لقي )
( وقد كنت أوقات التزاور في الشتا ... أبيت على جمر من الشوق محرق )
( فكيف وقد أمسيت في حال قطعة ... لقد عجل المقدور ما كنت أتقي )

( تمر الليالي لا أرى البين ينقضي ... ولا الصبر من رق التشوق معتقي )
( سقى الله أرضا قد غدت لك منزلا ... بكل سكوب هاطل الوبل مغدق )
فأجابها بقوله
( لحى الله يوما لست فيه بملتق ... محياك من أجل النوى والتفرق )
( وكيف يطيب العيش دون مسرة ... وأي سرور للكئيب المؤرق )
وكتب في أثناء الكلام بعد الشعر وكنت ربما حثثتني على أن أنبهك على ما أجد فيه عليك نقدا وإني انتقدت عليك قولك
( سقى الله أرضا قد غدت لك منزلا ... )
فإن ذا الرمة قد انتقد عليه قوله مع تقديم الدعاء بالسلامة
( ألا يا اسلمي يادار مي على البلى ... ولا زال منهلا بجرعائك القطر )
إذ هو أشبه بالدعاء على المحبوب من الدعاء له واما المستحسن فقول الآخر
( فسقى ديارك غير مفسدها ... صوب الربيع وديمة تهمي ) وبسببها خاطب ابن عبدوس بالرسالة المشهورة التى شرحها غير واحد من أدباء المشارقة كالجمال ابن نباتة والصفدي وغيرهما وفيها من التلميحات والتنديرات ما لا مزيد عليه
وقد ذكر ولادة ابن بشكوال في الصلة فقال كانت اديبة شاعرة جزلة القول حسنة الشعر وكانت تناضل الشعراء وتساجل الأدباء وتفوق البرعاء وعمرت عمرا طويلا ولم تتزوج قط وماتت لليلتين خلتا من صفر سنة ثمانين وقيل أربع وثمانين وأربعمائة رحمها الله تعالى

وكان أبوها المستكفي بايعه أهل قرطبة لما خلعوا المستظهر كما ألمعنا به في غير هذا الموضع وكان جاهلا ساقطا وخرجت هي في نهاية من الأدب والظرف حضور شاهد وحرارة اوابد وحسن منظر ومخبر وحلاوة مورد ومصدر وكان مجلسها بقرطبة منتدى لأحرار المصر وفناؤها ملعبا لجياد النظم والنثر يعشو أهل الأدب إلى ضوء غرتها ويتهالك أفراد الشعراء والكتاب على حلاوة عشرتها وعلى سهولة حجابها وكثرة منتابها تخلط ذلك بعلو نصاب وكرم أنساب وطهارة أثواب على أنها أوجدت للقول فيها السبيل بقلة مبالاتها ومجاهرتها بلذاتها ولما مرت بالوزير أبي عامر ابن عبدوس وامام داره بركة تتولد عن كثرة الأمطار وربما استمدت بشيء مما هنالك من الأقذار وقد نشر أبو عامر كميه ونظر في عطفيه وحشر أعوانه إليه فقالت له
( أنت الخصيب وهذه مصر ... فتدفقا فكلاكما بحر )
فتركته لا يحير حرفا ولا يرد طرفا
وقال في المغرب بعد ذكره أنها بالغرب كعلية بالشرق إلا ان هذه تزيد بمزية الحسن الفائق وأما الأدب والشعر والنادر وخفة الروح فلم تكن تقصر عنها وكان لها صنعة في الغناء وكان لها مجلس يغشاه أدباء قرطبة وظرفاؤها فيمر فيه من النادر وإنشاد الشعر كثير لما اقتضاه عصرها من مثل ذلك وفيها يقول ابن زيدون
( بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا ... شوقا إليكم ولا جفت مآقينا )
وقال أيضا يخاطب ابن عبدوس لاشتراكه معه في هواها
( أثرت هزبر الشرى إذ ربض ... ونبهته إذ هذا فاغتمض )
( وما زلت تبسط مسترسلا ... إليه يد البغي لما انقبض )

( حذار حذار فإن الكريم ... إذا سيم خسفا أبى فامتعض )
( وإن سكون الشجاع النهوس ... ليس بمانعه أن يعض )
( عمدت لشعري ولم تتئد ... تعارض جوهره بالعرض )
( أضاقت أساليب هذا القريض ... أم قد عفا رسمه فانقرض )
( لعمري فوقت سهم النضال ... وأرسلته لو أصبت الغرض )
ومنها
( وغرك من عهد ولادة ... سراب تراءى وبرق ومض )
( هي الما يعز على قابض ... ويمنع زبدته من مخض )
ومن اخبار ولادة مع ابن زيدون ما قاله الفتح فى القلائد إن ابن زيدون كان يكلف بولادة ويهيم ويستضيء بنور محياها في الليل البهيم وكانت من الأدب والظرف وتتميم السمع والطرف بحيث تختلس القلوب والألباب وتعيد الشيب إلى أخلاق الشباب فلما حل بذلك الغرب وانحل عقد صبره بيد الكرب فر إلى الزهراء ليتوارى في نواحيها ويتسلى برؤية موافيها فوافاها والربيع قد خلع عليها برده ونشر سوسنه وورده وأترع جداولها وأنطق بلابلها فارتاح ارتياح جميل بوادي القرى وراح بين روض يانع وريح طيبة السرى فتشوق إلى لقاء ولادة وحن وخاف تلك النوائب والمحن فكتب إليها يصف فرط قلقه وضيق امده إليها وطلقه ويعلمها انه ما سلا عنها بخمر ولا خبا ما في ضلوعه من ملتهب جمر ويعاتبها على إغفال تعهده ويصف حسن محضره بها ومشهده
( إني ذكرتك بالزهراء مشتاقا ... والأفق طلق ووجه الأرض قد راقا )

( وللنسيم اعتلال في أصائله ... كأنما رق لي فاعتل إشفاقا )
( والروض عن مائه الفضي مبتسم ... كما حللت عن اللبات أطواقا )
( يوم كأيام لذات لنا انصرمت ... بتنا لها حين نام الدهر سراقا )
( نلهو بما يستميل العين من زهر ... جال الندى فيه حتى مال أعناقا )
( كأن أعينه إذ عاينت أرقي ... بكت لما بي فجال الدمع رقراقا )
( ورد تألق في ضاحي منابته ... فازداد منه الضحى في العين إشراقا )
( سرى ينافحه نيلوفر عبق ... وسنان نبه منه الصبح أحداقا )
( كل يهيج لنا ذكرى تشوقنا ... إليك لم يعد عنها الصدر أن ضاقا )
( لو كان وفى المنى في جمعنا بكم ... لكان من اكرم الأيام أخلاقا )
( لاسكن الله قلبا عن ذكركم ... فلم يطر بجناح الشوق خفاقا )
( لو شاء حملي نسيم الريح حين هفا ... وافاكم بفتى أضناه ما لاقى )
( ياعلقي الأخطر الأسنى الحبيب إلى ... نفسي إذا ما اقتنى الأحباب أعلاقا )
( كان التجاري بمحض الود مذ زمن ... ميدان أنس جرينا فيه أطلاقا )
( فالآن أحمد ماكنا لعهدكم ... سلوتم وبقينا نحن عشاقا )
وقال أيضا إن إبن زيدون لم يزل يروم دنو ولادة فيتعذر ويباح دمه دونها ويهدر لسوء أثره في ملك قرطبة وواليها وقبائح كان ينسبها إليه ويواليها أحقدت بني جهور عليه وسددت أسهمهم إليه فلما يئس من لقياها وحجب عنه محياها كتب إليها يستديم عهدها ويؤكد ودها ويعتذر من فراقها بالخطب الذي غشيه والامتحان الذي خشيه ويعلمها انه ما سلا عنها بخمر ولا خبا ما في ضلوعه من ملتهب الجمر وهي قصيدة ضربت في الإبداع بسهم وطلعت في كل خاطر ووهم ونزعت منزعا قصر عنه حبيب وابن الجهم وأولها

( بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا ... شوقا إليكم ولا جفت مآقينا )
( تكاد حين تناجيكم ضمائرنا ... يقضي علينا الأسى لولا تأسينا )
واخبار ولادة كثيرة وفيما ذكرناه كفاية
10 - ومن المشهورات بالأندلس اعتماد جارية المعتمد بن عباد وأم أولاده وتشتهر بالرميكية وفي المسهب والمغرب أنه ركب المعتمد في النهر ومعه ابن عمار وزيره وقد زردت الريح النهر فقال ابن عباد لابن عمار أجز
( صنع الريح من الماء زرد )
فأطال ابن عمار الفكرة فقالت امرأة من الغسالات
( أي درع لقتال لو جمد )
فتعجب ابن عباد من حسن ما أتت به مع عجز ابن عمار ونظر إليها فإذا هي صورة حسنة فأعجبته فسألها أذات زوج هي فقالت لا فتزوجها وولدت له أولاده الملوك النجباء رحمهم الله تعالى
وحكى البعض منهم صاحب البدائه بسنده الى بعض أدباء الأندلس وسماه ولم يحضرني الآن أنه هو الذي قال للمعتمد
( أي درع لقتال لو جمد )
قال فاستحسنه المعتمد وكنت رابعا في الإنشاد فجعلني ثانيا وأجازني بجائزة سنية
قال ابن ظافر وقد أخذت هذا المعنى فقلت أصف روضا

( فلو دام ذاك النبت كان زبرجدا ... ولو جمدت انهاره كان بلورا )
ولما قال ابن ظافر
( قد أذكت الشمس على الما لهبا )
قال القاضي الأعز
( فكست الفضة منه ذهبا )
رجع
ولما خلع المعتمد وسجن بأغمات قالت له ياسيدي لقد هنا هنا فقال
( قالت لقد هنا هنا ... مولاي أين جاهنا )
( قلت لها إلهنا ... صيرنا إلى هنا )
وحكي انها قالت له وقد مرض ياسيدي ما لنا قدرة على مرضاتك في مرضاتك
ولما قال الوزير ابن عمار قصيدته اللامية الشهيرة في المعتمد والرميكية اغرت المعتمد به حتى قتله وضربه بالطبرزين ففلق رأسه وترك الطبرزين في رأسه فقالت الرميكية قد بقي ابن عمار هدهدا والقصيدة أولها
( ألا حي بالغرب حيا حلالا ... أناخوا جمالا وحازوا جمالا )
( وعرج بيومين أم القرى ... ونم فعسى أن تراها خيالا )
ويومين قرية اشبيلية كانت منها اولية بني عباد وفي هذه القصيدة يقول معرضا بالرميكية
( تخيرتها من بنات الهجان ... رميكية ما تساوي عقالا )

( فجاءت بكل قصير العذار ... لئيم النجارين عما وخالا )
( قصار القدود ولكنهم ... أقاموا عليها قرونا طوالا )
( أتذكر أيامنا بالصبا ... وأنت إذا لحت كنت الهلالا )
( اعانق منك القضيب الرطيب ... وأرشف من فيك ماء زلالا )
( وأقنع منك بدون الحرام ... فتقسم جهدك أن لا حلالا )
( سأهتك عرضك شيئا فشيئا ... وأكشف سترك حالا فحالا )
ومنها
( فيا عامر الخيل يا زيدها ... منعت القرى وأبحت العيالا )
وسبب قول ابن عمار هذه القصيدة أن المعتمد ندر به وذيل على قصيدته الرائية المذكورة في القلائد بعد قوله
( كيف التفلت بالخديعة من يدي ... رجل الحقيقة من بني عمار ) وسخر به في أبيات مشهورة
670 - أخبار المعتمد
قال الفتح في حق المعتمد بعد كلام وما زالت عقارب تلك الداخلة تدب وريحها العاصفة تهب ونارها تقد وضلوعها تحنق وتحقد وتضمر الغدر وتعتقد حتى دخل البلد من واديه وبدت من المكروه بواديه وكر عليه الدهر بعوائده وعواديه وهو مستسمك بعرى لذاته منغمس فيها بذاته ملقى بين جواريه مغتر بودائع ملكه وعواريه التي استرجعت منه في يومه ونبهه فواتها من نومه ولما انتشر الداخلون في البلد وأوهنوا القوى والجلد

خرج والموت يتسعر في ألحاظه ويتصور من ألفاظه وحسامه يعد بمضائه ويتوقد عند انتضائه فلقيهم برحبة القصر وقد ضاق بهم فضاؤها وتضعضعت من رجتهم أعضاؤها فحمل فيهم حملة صيرتهم فرقا وملأتهم فرقا وما زال يوالي عليهم الكر المعاد حتى اوردهم النهر ومابهم جواد وأودعهم حشاه كأنهم له فؤاد ثم انصرف وقد أيقن بانتهاء حاله وذهاب ملكه وارتحاله وعاد إلى قصره واستمسك فيه يومه وليلته مانعا لحوزته دافعا للذل عن عزته وقد عزم على أفظع امر وقال بيدي لا بيد عمرو ثم صرفه تقاه عما كان نواه فنزل من القصر بالقسر إلى قبضة الأسر فقيد للحين وحان له يوم شر ماظن انه يحين ولما قيدت قدماه وذهبت عنه رقة الكبل ورحماه قال يخاطبه
( إليك فلو كانت قيودك أسعرت ... تضرم منها كل كف ومعصم )
( مخافة من كان الرجال بسيبه ... ومن سيفه في جنة او جهنم )
ولما آلمه عضه ولازمه كسره ورضه وأوهاه ثقله وأعياه نقله قال
( تبدلت من عز ظل البنود ... بذل الحديد وثقل القيود )
( وكان حديدى سنانا ذليقا ... وعضبا رقيقا صقيل الحديد )
( فقد صار ذاك وذا أدهما ... يعض بساقي عض الأسود )
ثم جمع هو وأهله وحملتهم الجواري المنشآت وضمتهم جوانحها كانهم اموات بعدما ضاق عنهم القصر وراق منهم العصر والناس قد حشروا بضفتي الوادي وبكوا بدموع كالغوادي فساروا والنوح يحدوهم والبوح باللوعة لا يعدوهم وفي ذلك يقول ابن اللبانة
( تبكي السماء بمزن رائح غاد ... على البهاليل من أبناء عباد )
( على الجبال التي هدت قواعدها ... وكانت الأرض منها ذات أوتاد )

( عريسة دخلتها النائبات على ... أساود لهم فيها وآساد )
( وكعبة كانت الآمال تخدمها ... فاليوم لا عاكف فيها ولا باد )
( ياضيف أقفر بيت المكرمات فخذ ... في ضم رحلك واجمع فضلة الزاد )
( ويامؤمل واديهم ليسكنه ... خف القطين وجف الزرع بالوادي )
( وأنت يافارس الخيل التى جعلت ... تختال في عدد منهم وأعداد )
( ألق السلاح وخل المشرفي فقد ... أصبحت في لهوات الضيغم العادي )
( لما دنا الوقت لم تخلف له عدة ... وكل شيء لميقات وميعاد )
( إن يخلعوا فبنو العباس قد خلعوا ... وقد خلت قبل حمص أرض بغداد )
( حموا حريمهم حتى إذا غلبوا ... سيقوا على نسق في حبل مقتاد )
( وأنزلوا عن متون الشهب واحتملوا ... فويق دهم لتلك الخيل انداد )
( وعيث في كل طوق من دروعهم ... فصيغ منهن أغلال لأجياد )
( نسيت إلا غداة النهر كونهم ... في المنشآت كأموات بألحاد )
( والناس قد ملأوا العبرين واعتبروا ... من لؤلؤ طافيات فوق أزياد )
( حط القناع فلم تستر مخدرة ... ومزقت اوجه تمزيق أبراد )
( حان الوداع فضجت كل صارخة ... وصارخ من مفداة ومن فاد )
( سارت سفائنهم والنوح يصحبها ... كانها إبل يحدو بها الحادي )
( كم سال في الماء من دمع وكم حملت ... تلك القطائع من قطعات اكباد )
انتهى ماقصد جلبه من كلام الفتح رحمه الله تعالى وسامحه
وقال ابن اللبانة في كتاب نظم السلوك في مواعظ الملوك في اخبار الدولة العبادية إن طائفة من اصحاب المعتمد خامرت عليه فأعلم باعتقادها وكشف له عن مرادها وحض على هتك حرمها وأغري بسفك دمها فأبى ذلك مجده الأثيل ومذهبه الجميل وماخصه الله تعالى به من حسن اليقين وصحة الدين إلى أن أمكنتهم الغرة فانتصروا ببغاث مستنسر وقاموا بجمع

غير مستبصر فبر ز من قصره متلافيا لأمره عليه غلالة ترف على جسده وسيفه يتلظى في يده
( وذاك السيف راق وراع حتى ... كأن عليه شيمة منتضية )
( كأن الموت اودع فيه سرا ... ليرفعه إلى يوم كرية )
فلقي على باب من أبواب المدينة فارسا مشهورا بنجدة فرماه الفارس برمح التوى على غلالته وعصمه الله تعالى منه وصب هو سيفه على عاتق الفارس فشقه إلى أضلاعه فخر صريعا سريعا فرأيت القائمين عندما تسنموا الأسوار تساقطوا منها وبعدما أمسكوا الأبواب تخلوا عنها وأخذوا على غير طريق وهوت بهم ريح الهيبة في مكان سحيق فظننا ان البلد من أقذائه قد صفا وثوب العصمة علينا قد ضفا إلى أن كان يوم الأحد الحادي والعشرون من رجب فعظم الأمر في الخطب الواقع واتسع الخرق فيه على الراقع ودخل البلد من جهة واديه وأصيب حاضره بعاديه باديه بعد أن ظهر من دفاع المعتمد وبأسه وتراميه على الموت بنفسه ما لا مزيد عليه ولا انتهى خلق إليه فشنت الغارة في البلد ولم يبق فيه على سبد لأحد ولا لبد وخرج الناس من منازلهم يسترون عوراتهم باناملهم وكشفت وجوه المخدرات العذارى ورأيت الناس سكارى وماهم بسكارى ورحل بالمعتمد وآله بعد استئصال جميع ماله لم يصحب معه بلغة زاد ولا بغية مراد فأمضيت عزيمتي في اتباعه فوصلت إليه بأغمات عقب ثقاف استنقذه الله منه فذكرت به شعرا كان لي في صديق اتفق له مثل ذلك في الشهر بعينه من العام الماضي وهو الأمير أبوعبدالله ابن الصفار وهو
( لم نقل في الثقاف كان ثقافا ... كنت قلبا به وكان شغافا )
( يمكث الزهر في الكمام ولكن ... بعد مكث الكمام يدنو قطافا )
( وإذا ما الهلال غاب بغيم ... لم يكن ذلك المغيب انكسافا )

( إانما أنت درة للمعالي ... ركب الدهر فوقها أصدافا )
( حجب البيت منك شخصا كريما ... مثلما تحجب الدنان السلافا )
( أنت للفضل كعبة ولو أني ... كنت أستطيع لاستطعت الطوافا )
قال أبو بكر وجرت بيني وبينه مخاطبات ألذ من غفلات الرقيب وأشهى من رشفات الحبيب وأدل على السماح من فجر على صباح انتهى
ثم قال ولما خلع المعتمد وذهب إلى أغمات طلب من حواء بنت تاشفين خباء عارية فاعتذرت بأنه ليس عندها خباء فقال
( هم أوقدوا بين جنبيك نارا ... أطالوا بها في حشاك استعارا )
( أما يخجل المجد أن يرحلوك ... ولم يصحبوك خباء معارا )
( فقد قنعوا المجد إن كان ذاك ... وحاشاهم منك خزيا وعارا )
( يقل لعينيك أن يجعلوا ... سواد العيون عليكم شعارا )
ثم إنه بقي مأسورا بأغمات إلى سنة 486 فأخذ بمالقة رجل كبير يعرف بابن خلف فسجن مع أصحاب له فنقبوا السجن وذهبوا إلى حصن منت ميور ليلا فأخرجوا قائدها ولم يضروه وبينما هم كذلك إذ طلع عليهم رجل فسألوه فإذا هو عبدالجبار بن المعتمد فولوه على أنفسهم وظن الناس أنه الراضي فبقي في الحصن ثم أقبل مركب من الغرب يعرف بمركب ابن الزرقاء فانكسر بمرسى الشجرة قريبا من الحصن فأخذوا بنوده وطبوله وما فيه من طعام وعدة فاتسعت بذلك حالتهم ثم وصلت أم عبدالجبار إليه ثم خاطبه أهل الجزيرة وأهل أركش فدخلها سنة 488 ولما بلغ خبر عبدالجبار إلى ابن تاشفين أمر بثقاف المعتمد في الحديد وفي ذلك يقول
( قيدي اما تعلمني مسلما ... أبيت أن تشفق أو ترحما )

( يبصرني فيك أبو هاشم ... فينثني القلب وقد هشما ) وبقي إلى أن توفي رحمه الله سنة 488
وقد ساق الفتح قضية ثورة عبدالجبار بن المعتمد بعبارته البارعة فقال وأقام بالعدوة برهة لا يروع له سرب وإن لم يكن آمنا ولا يثور له كرب وإن كان في ضلوعه كامنا إلى أن ثار أحد بنيه بأركش معقل كان مجاورا لإشبيلية مجاورة الأنامل للراح ظاهر على بسائط وبطاح لا يمكن معه عيش ولا يتمكن من منازلته جيش فغدا على أهلها بالمكاره وراح وضيق عليهم المتسع من جهاتها والبراح فسار نحوه الأمير سير بن أبي بكر رحمة الله عليه قبل أن يرتد طرف استقامته إليه فوجده وشره قد تشمر وضره قد تنمر وجمره متسعر وأمره متوعر فنزل عدوته وحل للحزم حبوته وتدارك داءه قبل اعضاله ونازله وما اعد آلات نضاله وانحشدت إليه الجيوش من كل قطر وأفرغ من مسالكه كل قطر فبقي محصورا لايشد إليه إلا سهم ولا ينفذ عنه إلا نفس أو وهم وامتسك شهورا حتى عرضه أحد الرماة بسهم فرماه فأصماه فهوى في مطلعه وخر قتيلا في موضعه فدفن إلى جانب سريره وأمن عاقبة تغريره وبقي أهله ممتنعين مع طائفة من وزرائه حتى اشتد عليهم الحصر وارتد عنهم النصر وعمهم الجوع وأغب أجفانهم الهجوع فنزلت منهم طائفة متهافتة وولت بأنفاس خافتة فتبعهم من بقي ورغب في التنعم من شقي فوصلوا إلى قبضة الملمات وحصلوا في غصة الممات فوسمهم الحيف وتقسمهم السيف ولما زأر الشبل خيفت سورة الأسد ولم يرج صلاح الكل والبعض قد فسد فاعتقل المعتمد خلال تلك الحال وأثناءها وأحل ساحة الخطوب

وفناءها وحين أركبوه أساودا وأورثوه حزنا بات له معاودا قال
( غنتك أغماتية الألحان ... ثقلت على الأرواح والأبدان )
( قد كان كالثعبان رمحك في الورى ... فغدا عليك القيد كالثعبان )
( متمردا يحميك كل تمرد ... متعطفا لا رحمة للعاني )
( قلبي إلى الرحمن يشكو بثه ... ماخاب من يشكو إلى الرحمن )
( ياسائلا عن شأنه ومكانه ... ماكان أغنى شأنه عن شان )
( هاتيك قينته وذلك قصره ... من بعد أي مقاصر وقيان )
ولما فقد من يجالسه وبعد عنه من كان يؤانسه وتمادى كربه ولم تسالمه حربة قال
( تؤمل للنفس الشجية فرجة ... وتأبى الخطوب السود إلا تماديا )
( لياليك في زاهيك أصفى صحبتها ... كذا صحبت قبلي الملوك اللياليا )
( نعيم وبؤس ذا لذلك ناسخ ... وبعدهما نسخ المنايا الأمانيا )
ولما امتدت في الثقاف مدته واشتدت عليه قسوة الكبل وشدته وأقلقته همومه وأطبقته غمومه وتوالت عليه الشجون وطالت لياليه الجون قال
( أنباء أسرك قد طبقن آفاقا ... بل قد عممن جهات الأرض إقلاقا )
( سرت من الغرب لا تطوى لها قدم ... حتى أتت شرقها تنعاك إشراقا )
( فأحرق الفجع أكبادا وأفئدة ... وأغرق الدمع آماقا وأحداقا )
( قد ضاق صدر المعالي إذ نعيت لها ... وقيل إن عليك القيد قد ضاقا )
( أنى غلبت وكنت الدهر ذا غلب ... للغالبين وللسباق سباقا )
( قلت الخطوب أذلتني طوارقها ... وكان غربي إلى الأعداء طراقا )

( متى رأيت صروف الدهر تاركة ... إذا انبرت لذوي الأخطار أرماقا )
وقال لي من أثقه لما ثار ابنه حيث ثار وأثار من حقد امير المسلمين عليه ما أثار جزع جزعا مفرطا وعلم انه قد صار في أنشوطة الشر متورطا وجعل يتشكى من فعله ويتظلم ويتوجع منه ويتألم ويقول عرض بي للمحن ورضي لي أن أمتحن ووالله ما أبكي إلا انكشاف من أتخلفه بعدي ويتحيفه بعدي ثم أطرق ورفع رأسه وقد تهللت أسرته وظللته مسرته ورأيته قد استجمع وتشوف إلى السماء وتطلع فعلمت أنه قد رجا عودة إلى سلطانه وأوبة إلى أوطانه فما كان إلا بمقدار ما تنداح دائرة أو تلتفت مقلة حائرة حتى قال
( كذا يهلك السيف في جفنه ... إلى هز كفي طويل الحنين )
( كذا يعطش الرمح لم أعتقله ... ولم تروه من نجيع يميني )
( كذا يمنع الطرف علك الشكيم ... مرتقبا غرة في كمين )
( كأن الفوارس فيه ليوث ... تراعي فرائسها في عرين )
( ألا شرف يرحم المشرفي ... مما به من شمات الوتين )
( ألا كرم ينعش السمهري ... ويشفيه من كل داء دفين )
( ألا حنة لابن محنية ... شديد الحنين ضعيف الأنين )
( يؤمل من صدرها ضمة ... تبوئه صدر كفؤ معين )
وكانت طائفة من أهل فاس قد عاثوا فيها وفسقوا وانتظموا في سلك الطغيان واتسقوا ومنعوا جفون أهلها السنات وأخذوا البنين من حجور آبائهم والبنات وتلقبوا بالإمارة وأركبوا السوء نفوسهم الأمارة حتى كادت أن تقفر على أيديهم وتدثر رسومها بإفراط تعديهم إلى أن تدارك أمير المسلمين رحمه الله تعالى أمرهم وأطفأ جمرهم وأوجعهم ضربا وأقطعهم ماشاء حزنا وكربا وسجنهم بأغمات وضمتهم جوانح الملمات

والمعتمد إذ ذاك معتقل هناك وكانت فيهم طائفة شعرية مذنبة أو برية فرغبوا إلى سجانهم أن يستريحوا مع المعتمد من أشجانهم فخلى ما بينهم وبينه وغمض لهم في ذلك عينه فكان المعتمد رحمه الله تعالى يتسلى بمجالستهم ويجد أثر مؤانستهم ويستريح إليهم بجواه ويبوح لهم بسره ونجواه إلى أن شفع فيهم وانطلقوا من وثاقهم وانفرج لهم مبهم أغلاقهم وبقي المعتمد في محبسه يشتكي من ضيق الكبل ويبكي بدمع كالوبل فدخلوا عليه مودعين ومن بثه متوجعين فقال
( اما لانسكاب الدمع في الخد راحة ... لقد آن أن يفنى ويفنى به الخد )
( هبوا دعوة يا آل فاس لمبتلى ... بما منه قد عافاكم الصمد الفرد )
( تخلصتم من سجن أغمات والتوت ... علي قيود لم يحن فكها بعد )
( من الدهم أما خلقها فأساود ... تلوى وأما الأيد والبطش فالأسد )
( فهنيتم النعما ودامت لكلكم ... سعادته إن كان قد خانني سعد )
( خرجتم جماعات وخلفت واحدا ... ولله في أمري وأمركم الحمد )
ومر عليه في موضع اعتقاله سرب قطا لم يعلق لها جناح ولا تعلق بها من الأيام جناح ولا عاقها عن أفراخها الأشراك ولا أعوزها البشام ولا الأراك وهى تمرح في الجو وتسرح في مواقع النو فتنكد بما هو فيه من الوثاق ومادون أحبته من الرقباء والأغلاق وما يقاسيه من كبله ويعانيه من وجده وخبله وفكر في بناته وافتقارهن إلى نعيم عهدنه وحبور حضرنه وشهدنه فقال
( بكيت إلى سرب القطا إذ مررن بي ... سوارح لا سجن يعوق ولا كبل )
( ولم تك والله المعيذ حسادة ... ولكن حنينا أن شكلي لها شكل )

( فأسرح لا شملي صديع ولا الحشا ... وجيع ولا عيناي يبكيهما ثكل )
( هنيئا لها أن لم يفرق جميعها ... ولا ذاق منها البعد عن أهلها أهل )
( وإذ لم تبت مثلي تطير قلوبها ... إذا اهتز باب السجن أو صلصل القفل )
( وماذاك مما يعتريه وإنما ... وصفت التي في جبلة الخلق من قبل )
( لنفسي إلى لقيا الحمام تشوف ... سواي يحب العيش في ساقه كبل )
( ألا عصم الله القطا في فراخها ... فإن فراخي خانها الماء والظل )
وفي هذه الحالة زاره الأديب أبو بكر ابن اللبانة وهو احد شعراء دولته المرتضعين دررها المنتجعين دررها وكان المعتمد رحمه الله تعالى يميزه بالشفوف والإحسان ويجوزه في فرسان هذا الشأن فلما رآه وحلقات الكبل قد عضت بساقيه عض الأسود والتوت عليه التواء الأساود السود وهو لا يطيق إعمال قدم ولا يريق دمعا إلا ممزوجا بدم بعدما عهده فوق منبر وسرير ووسط جنة وحرير تخفق عليه الألوية وتشرق منه الأندية وتكف الأمطار من راحته وتشرف الأقدار بحلول ساحته ويرتاع الدهر من اوامره ونواهيه ويقصر النسر أن يقارنه أو يضاهيه ندبه بكل مقال يلهب الأكباد ويثير فيها لوعة الحارث بن عباد أبدع من أناشيد معبد وأصدع للكبد من مراثي أربد او بكاء ذي الرمة بالمربد سلك فيها للاحتفاء طريقا لاحبا وغدا فيها لذيول الوفاء ساحبا فمن ذلك قوله
( انفض يديك من الدنيا وساكنها ... فالأرض قد أقفرت والناس قد ماتوا )
( وقل لعالمها السفلي قد كتمت ... سريرة العالم العلوي أغمات )
( طوت مظلتها لا بل مذلتها ... من لم تزل فوقه للعز رايات )
( من كان بين الندى والبأس أنصله ... هندية وعطاياه هنيدات )

( رماه من حيث لم تستره سابغة ... دهر مصيباته نبل مصيبات )
( أنكرت إلا التواءات القيود به ... وكيف تنكر في الروضات حيات )
( غلطت بين همايين عقدن له ... وبينها فإذا الأنواع أشتات )
( وقلت هن ذؤابات فلم عكست ... من رأسه نحو رجليه الذؤابات )
( حسبتها من قناه أو أعنته ... إذا بها لثقاف المجد آلات )
( دروه ليثا فخافوا منه عادية ... عذرتهم فلعدو الليث عادات )
( لو كان يفرج عنه بعض آونة ... قامت بدعوته حتى الجمادات )
( بحر محيط عهدناه تجيء له ... كنقطة الدارة السبع المحيطات )
( لهفي على آل عباد فإنهم ... أهلة مالها في الأفق هالات )
( راح الحيا وغدا منهم بمنزلة ... كانت لنا بكر فيها وروحات )
( أرض كأن على أقطارها سرجا ... قد أوقدتهن بالأدهان أنبات )
( وفوق شاطىء واديها رياض ربى ... قد ظللتها من الأنشام دوحات )
( كأن واديها سلك بلبتها ... وغاية الحسن أسلاك ولبات )
( نهر شربت بعبريه على صور ... كانت لها في قبل الراح سورات )
( وربما كنت أسمو للخليج به ... وفي الخليج لأهل الراح راحات )
( وبالعروسات لا جفت منابتها ... من النعيم غروسات جنيات )
ولم تزل كبده تتوقد بالزفرات وخلده يتردد بين النكبات والعثرات ونفسه تتقسم بين الأشجان والحسرات إلى أن شفته منيته وجاءته بها أمنيته فدفن بأغمات وأريح من تلك الأزمات
( وعطلت المآثر من حلاها ... وأفردت المفاخر من علاها )
ورفعت مكارم الأخلاق وكسدت نفائس الأعلاق وصار امره عبرة في عصره وصاب أندى عبرة في مصره وبعد أيام وافى أبو بحر ابن عبد الصمد شاعره المتصل به المتوصل إلى المنى بسببه فلما كان يوم العيد وانتشر

الناس ضحى وظهر كل متوار وضحا قام على قبره عند انفصالهم من مصلاهم واختيالهم يزينتهم وحلاهم وقال بعد أن طاف بقبره والتزمه وخر على تربه ولثمه
( ملك الملوك أسامع فأنادي ... أم قد عدتك عن السماع عوادي )
( لما خلت منك القصور فلم تكن ... فيها كما قد كنت في الأعياد )
( قبلت في هذا الثرى لك خاضعا ... وتخذت قبرك موضع الإنشاد )
وهي قصيدة أطال إنشادها وبنى بها اللواعج وشادها فانحشر الناس إليه وانحفلوا وبكوا ببكائه وأعولوا وأقاموا أكثر نهارهم مطيفين به طواف الحجيج مديمين للبكاء والعجيج ثم انصرفوا وقد نزفوا ماء عيونهم وأقرحوا مآقيهم بفيض شؤونهم وهذه نهاية كل عيش وغاية كل ملك وجيش والأيام لا تدع حيا ولا تألوا كل نشر طيا تطرق رزاياها كل سمع وتفرق مناياها كل جمع وتصمي كل ذي امر ونهي وترمي كل مشيد بوهي ومن قبله طوت النعمان ابن الشقيقة ولوت مجازه في تلك الحقيقة انتهى ما قصدنا جلبه من كلام الفتح مما يدخل في أخبار المعتمد بن عباد المناسبة لما مر
وكلام الفتح كله الغاية وليس الخبر كالعيان ولذا قال بعض من عرف به إنه أراد أن يفضح الشعراء الذين ذكرهم في كتبه بنثره سامحة الله تعالى
وأخبار المعتمد رحمه الله تعالى تحتمل مجلدات وآثاره إلى الآن بالغرب مخلدات وكان من النادر الغريب قولهم في الدعاء للصلاة على جنازته الصلاة على الغريب بعد اتساع ملكه وانتظام سلكه وحكمه على إشبيلية وأنحائها وقرطبة وزهرائها وهكذا شأن الدنيا في تدريسها نحو ندبتها وإغرائها
وقد توجه لسان الدين الوزير ابن الخطيب إلى أغمات لزيارة قبر المعتمد رحمه

الله تعالى ورأى ذلك من المهمات وأنشد على قبره أبياته الشهيرة التى ذكرتها في جملة نظمه الذي هو أرق من النسيم وأبهج من المحيا الوسيم
قلت وقد زرت انا قبر المعتمد والرميكية أم أولاده حين كنت بمراكش المحروسة عام عشرة وألف وعمي علي أمر القبر المذكور وسألت عنه من تظن معرفته له حتى هداني إليه شيخ طعن في السن وقال لي هذا قبر ملك ملوك الأندلس وقبر حظيته التي كان قلبه بحبها خفاقا غير مطمئن فرأيته في ربوة حسبما وصفه ابن الخطيب رحمه الله تعالى في الأبيات وحصلت لي في ذلك المحل خشية وادكار وذهبت بي الأفكار في ضروب الآيات فسبحان من يؤتي ملكه من يشاء لا إله غيره وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين
وما احسن قول الوزير ابن عبدون في مطلع رائيته الشهيرة
( الدهر يفجع بعد العين بالأثر ... فما البكاء على الأشباح والصور )
وهو القائل
( يانائم الليل في فكر الشباب أفق ... فصبح شيبك في أفق النهى بادي )
( غضت عنانك أيدي الدهر ناسخة ... علما بجهل وإصلاحا بإفساد )
( وأسلمت للمنايا آل مسلمة ... وعبدت للرزايا آل عباد )
( لقد هوت منك خانتها قوادمها ... بكوكب في سماء المجد وقاد )
ومنها
( ومالك كان يحمي شول قرطبة ... أستغفر الله لا بل شول بغداد )

( شق العلوم نطافا والعلا زهرا ... ثبين مابين رواد ووراد )
وأين هذه القصيدة في مدحهم من قصيدة الغض منهم وهي قول أبي الحسن جعفر بن إبراهيم ابن الحاج اللورقي
( تعز عن الدنيا ومعروف أهلها ... إذا عدم المعروف في آل عباد )
( حللت بهم ضيفا ثلاثة أشهر ... بغير قرى ثم ارتحلت بلا زاد )
وهذا يدلك على ان الشعراء لم يسلم من لسانهم من أحسن فضلا عمن أساء من العظماء والرؤساء وما امدح قول أبي محمد غانم فيهم
( ومن الغريب غروب شمس في الثرى ... وضياؤها باق على الآفاق ) وقال في المطمح في حق بني عباد وأوليتهم ما صورته الوزير أبو القاسم محمد بن عباد هذه بقية منتماها في لخم ومرتماها إلى مفخر ضخم وجدهم المنذر بن ماء السماء ومطلعهم من جو تلك السماء وبنو عباد ملوك أنس بهم الدهر وتنفس منهم عن أعبق الزهر وعمروا ربع الملك وأمروا بالحياة والهلك ومعتضدهم أحد من أقام وأقعد وتبوأ كاهل الإرهاب واقتعد وافترش من عريسته وافترس من مكايد فريسته وزاحم بعود وهد كل طود وأخمل كل ذي زي وشارة وختل بوحي وإشارة ومعتمدهم كان أجود الأملاك وأحد نيرات تلك الأفلاك وهو القائل وقد شغل عن منادمة خواص دولته بمنادمة العقائل
( لقد حننت إلى ما اعتدت من كرم ... حنين أرض إلى مستأخر المطر )
( فهاتها خلعا أرضي السماح بها ... محفوفة في أكف الشرب بالبدر )

وهو القائل وقد حن في طريقه إلى فريقه
( أدار النوى كم طال فيك تلذذي ... وكم عقتني عن دار أهيف أغيد )
( حلفت به لو قد تعرض دونه ... كماة الأعادي في النسيج المسرد )
( لجردت للضرب المهند فانقضى ... مرادي وعزما مثل حد المهند )
والقاضي أبو القاسم هذا جدهم وبه سفر مجدهم وهو الذي اقتنص لهم الملك النافر واختصهم منه بالحظ الوافر فإنه أخذ الرياسة من أيدي جبابر وأضحى من ظلالها أعيان اكابر عندما اناخت بها اطماعهم وأصاخت إليها أسماعهم وامتدت إليها من مستحقيها اليد وأتلعوا أجيادا زانها الجيد وفغر عليها فمه حتى هجا بيت العبدى وتصدى إليها من تحضر وتبدى فاقتعد سنامها وغاربها وأبعد عنها عجمها واعاربها وفاز من الملك بأوفر حصة وغدت سمته به صفة مختصة فلم يمح رسم القضاء ولم يتسم بسمة الملك مع ذلك النفوذ والمضاء وما زال يحمي حوزته ويجلو غرته حتى حوته الرجام وخلت منه تلك الآجام وانتقل الملك الى ابنه المعتضد وحل منه في روض نمق له ونضد ولم يعمر فيه ولم يدم ولاه وتسمى بالمعتضد بالله وارتمى إلى أبعد غايات الجود بما أناله وأولاه لولا بطش في اقتضاء النفوس كدر ذلك المنهل وعكر أثناء ذلك صفو العل والنهل ومازال للأرواح قابضا وللوثوب عليها رابضا يخطف أعداءه اختطاف الطائر من الوكر وينتصف منهم بالدهاء والمكر إلى أن أفضى الملك إلى إبنه المعتمد فاكتحل منه طرفه الرمد وأحمد مجده وتقلد منه أي بأس ونجدة ونال به الحق مناه وجر رسنه وأقام في الملك ثلاثا وعشرين سنة لم تعدم له فيها حسنة ولا سيرة مستحسنة إلى أن غلب على سلطانه وذهب به من أوطانه فنقل

إلى حيث اعتقل وأقام كذلك إلى ان مات ووارته برية اغمات وكان للقاضي جده أدب غض ومذهب مبيض ونظم يرتجله كل حين ويبعثه اعطر من الرياحين فمن ذلك قوله يصف النيلوفر
( يا ناظرين لذا النيلوفر البهج ... وطيب مخبره في الفوح والأرج )
( كأنه جام در في تألقه ... قد أحكموا وسطه فصا من السبج ) انتهى المقصود منه
671 - تراجم منقولة عن الفتح
1 - ترجمة ابن البنبي من المطمح
وهو اعني الفتح يشيد قصور الشرف إذا مدح ويهدم معاقلها إذا هجا وقدح
ومن أغراضه قوله في المطمح في حق الأديب أبي جعفر ابن البني رافع رايات القريض وصاحب آيات التصريح والتعريض أقام شرائعه وأظهر بدائعه إذا نظم أزرى بالعقود وأتى بأحسن من رقم البرود وكان أليف غلمان وحليف كفر لا إيمان مانطق متشرعا ولا رمق متورعا ولا اعتقد حشرا ولا صدق بعثا ولا نشرا وربما تنسك مجونا وفتكا وتمسك باسم التقى وقد هتكه هتكا لا يبالي كيف ذهب ولا بما تمذهب وكانت له أهاجي جرع بها صابا ودرع منها اوصابا وقد أثبت له ما يرتشف ريقا ويشرب تحقيقا فمن ذلك قوله يتغزل
( من لي بغرة فاتن يختال في ... حلل الجمال إذا بدا وحليه )
( لو شمت في وضح النهار شعاعها ... ما عاد جنح الليل بعد مضيه )

( شرقت لآلي الحسن حتى خلصت ... ذهبية في الخد من فضية )
( في صفحتيه من الجمال أزاهر ... غذيت بوسمي الحيا ووليه )
( سلت محاسنه لقتل محبه ... من سحر عينيه حسام سميه ) وله فيه
( كيف لا يزداد قلبي ... من جوى الشوق خبالا )
( وإذا قلت علي ... بهر الناس جمالا )
( هو كالغصن وكالبدر ... قواما واعتدالا )
( أشرق البدر كمالا ... وانثنى الغصن اختيالا )
( إن من رام سلوي ... عنه قد رام محالا )
( لست أسلو عن هواه ... كان رشدا أو ضلالا )
( قل لمن قصر فيه ... عذل نفسي او أطالا )
( دون أن تدرك هذا ... تسلب الأفق الهلالا )
وكنت بميورقة وقد حلها متسما بالعبادة وهو أسرى إلى الفجور من خيال أبي عبادة وقد لبس أسمالا ولبس منه أقوالا وأفعالا سجوده هجود وإقراره بالله جحود وكانت له رابطة لم يكن للوازمها مرتبطا ولا بسكناها مغتبطا سماها بالعقيق وسمى فتى كان يتعشقه بالحمى وكان لا يتصرف إلا في صفاته ولا يقف إلا بعرفاته ولا يؤرقه إلا جواه ولا يشوقه إلا هواه فإذا بأحد دعاة حبيبه ورواة تشبيبه قال له كنت البارحة بحماه وذكر له خبرا ورى به عني وعماه فقال

( تنفس بالحمى مطول أرض ... فأودع نشره نشرا شمالا )
( فصبحت العيون إلى كسلى ... تجرر فيه أردانا خضالا )
( أقول وقد شممت الترب مسكا ... بنفحتها يمينا او شمالا )
( نسيم جاء يبعث منك طيبا ... ويشكو من محبتك اعتلالا )
ولما تقرر عند ناصر الدولة من أمره ما تقرر وتردد على سمعه انتهاكه وتكرر أخرجه من بلده ونفاه وطمس رسم فسقه وعفاه فأقلع إلى المشرق وهو جار فلما صار من ميورقة على ثلاثة مجار نشأت له ريح صرفته عن وجهته إلى فقد مهجته فلما لحق بميورقة أراد ناصر الدولة إماحته وأخذ ثار الدين منه وإراحته ثم آثر صفحه وأخمد ذلك الجمر ولفحه وأقام أياما ينتظر ريحا علها تزجيه ويستهديها لتخلصه وتنجيه وفي أثناء بلوته لم يتجاسر أحد على إتيانه من إخوته فقال يخاطبهم
( أحبتنا الألى عتبوا علينا ... فأقصرنا وقد أزف الوداع )
( لقد كنتم لنا جذلا وأنسا ... فهل في العيش بعدكم انتفاع )
( أقول وقد صدرنا بعد يوم ... أشوق بالسفينة أم نزاع )
( إذا طارت بنا حامت عليكم ... كأن قلوبنا فيها شراع )
وله يتغزل
( بني العرب الصميم ألا رعيتم ... مآثركم بآثار السماح )
( رفعتم ناركم فعشا إليها ... بوهن فارس الحي الوقاح )
( فهل في القعب فضل تنضحوه ... به من محض ألبان اللقاح )
( لعل الرسل شابته الثنايا ... بشهد من ندى نور الأقاح )

وله أيضا
( وكأنما رشأ الحمى لما بدا ... لك في مضلعه الحديد المعلم )
( غصب الغمام قسية فأراكها ... من حسن معطفه قويم الأسهم )
وله أيضا
( نظرت إليه فاتقاني بمقلة ... ترد إلى نحري صدور رماح )
( حميت الجفون النوم يا رشأ الحمى ... وأظلمت أيامي وأنت صباحي ) وقال
( قالوا تصيب طيور الجو أسهمه ... إذا رماها فقلنا عندنا الخبر )
( تعلمت قوسها من قوس حاجبه ... وأيد السهم من ألحاظه الحور )
( يروح في بردة كالنقس حالكة ... كما أضاء بجنح الليلة القمر )
( وربما راق في خضراء مورقة ... كما تفتح في اوراقه الزهر )
2 - ترجمة ابن لبال من المطمح
وقال في ترجمة أبي الحسن ابن لبال شاعر سمح متقلد بالإحسان متشح أم الملوك والرؤساء ويمم تلك العزة القعساء فانتجع مواقع خيرهم واقتطع ماشاء من ميرهم وتمادت أيامه إلى هذا الأوان فجالت به في ميدان الهوان فكسد نفاقه وارتدت آفاقه وتوالى عليه حرمانه وإخفاقه وأدركته وقد خبنته سنونه وانتظرته منونه ومحاسنه كعهدها في الاتقاد وبعدها من الانتقاد وقد أثبت منها ما يعذب جنى وقطافا ويستعذب استنزالا واستلطافا فمن ذلك قوله يستنجد الأمير الأجل أبا إسحاق ابن أمير المسلمين

( قل للأمير ابن الأمير بل الذي ... أبدا به في المكرمات وفي الندى )
( والمجتني بالزرق وهي بنفسج ... ورد الجراح مضعفا ومنضدا )
( جاءتك آمال العفاة ظوامئا ... فاجعل لها من ماء جودك موردا )
( وانثر على المداح سيبك إنهم ... نثروا المدائح لؤلؤا وزبرجدا )
( فالناس إن ظلموا فأنت هو الحمى ... والناس إن ضلوا فأنت هو الهدى )
أخبرني وزير السلطان ان هذه القطعة لما ارتفعت اعتنت بجملة الشعراء وشفعت فأنجز لهم الموعود وأورق لهم ذلك العود وكثر اللغط في تعظيمها واستجادة نظيمها وحصل له بها ذكر وانصقل له بسببها فكر وله من قطعة يصف بها سيفا
( كل نهر توقدت شفرتاه ... كاتقاد الشهاب في الظلماء )
( فهو ماء قد ركبت فوق نار ... أو كنار قد ركبت فوق ماء ) وكتب إلي معزيا عن والدتي
( على مثله من مصاب وجب ... على من أصيب به المنتجب )
( وقلب فروق ولب خفوق ... ونفس تشب وهم نصب )
( فقد خشعت للتقى هضبة ... ذؤابتها في صميم العرب )
( من الجاعلات محاريبها ... هوادجها أبدا والقتب )
( من القائمات بظل الدجى ... ولا من تسامر إلا الشهب )
( فكم ركعت إثرها في الدجى ... تناجي بها ربها من كثب )
( وكم سكبت في أوان السجود ... مدامع كالغيث لما انسكب )
( وقد خلفت ولدا باسلا ... فصيحا إذا ماقرأ او خطب )

( يفل السيوف بأقلامه ... ويكسر صم القنا بالقصب )
وكان القائد أبو عمرو عثمان بن يحيى بن ابراهيم أجل من جال في خلد واستطال على جلد رشأ يحيى باحتشامه ويسترد البدر بلثامه ويزري بالغصن تثنيه ويثمر الحسن لو دنت قطوفه لمجتنيه مع لوذعية تخالها جريالا وسجية يختال فيها الفضل اختيالا وكان قد بعد عن أنسنا بحمص وانتضى من تلك القمص وكان بثغر الأشبونة فسده ولم ينفرج لنا من الأنس بعده ما يسد مسده إلى أن صدر فأسرع إلينا وابتدر فالتقينا وبتنا ليلة نام عنها الدهر وغفل وقام لنا بما شئنا فيها وتكفل فبينا نحن نفض ختامها وننفض عنا غبار الوحشة وقتامها إذا أنا بابن لبال هذا وقد دخل إذنه علينا فأمرناه بالنزول والتقيناه بترحيب وأنزلناه بمكان من المسرة رحيب وسقيناه صغارا وكبارا وأريناه إعظاما وإكبارا فلما شرب طرب وكلما كرعها التحف السلوة وتدرعها ومازال يشرب أقداحا وينشد فينا أمداحا ويفدي بنفسه ويستهدي الاستزادة من أنسه فهتكنا الظلام بما أهداه من البديع واجتلينا محاسنه كالصديع وانفصلت ليلته عن أتم مسرة وأعم مبرة وارتحل عثمان أعزه الله إلى ثغره وأقام به برهة من دهره فمشيت بها إليه مجددا عهدا ومتضلعا من مؤانسته شهدا فكتب ابن لبال هذه القطعة من القصيدة يذهب إلى شكره ويجتهد في تجديد ذكره
( ماشام إنسان إنسان كعثمان ... ولا كبغيتة من حسن إحسان )
( بدر السيادة يبدو في مطالعه ... من المحاسن محفوفا بشهبان )
( له التمام وما بالأفق من قمر ... متمم دون أن يرمى بنقصان )
( به الشبيبة تزهى من نضارتها ... كما تساقط طل فوق بستان )

( معصفر الحسن للأبصار ناصعه ... كأنه فضة شيبت بعقيان )
( نبئت عنه بأنباء إذا نفحت ... تعطلت نفحات المسك والبان )
( قامت عليه براهين تصدقها ... كالشكل قام عليه كل برهان )
( قد زادها ابن عبيدالله من وضح ... مازادت الشمس نور الفجر للراني )
( بالله بلغه تسليمي إذا بلغت ... تلك الركاب وعجل غير ليان )
( وليت اني لو شاهدت أنسكما ... على كؤوس وطاسات وكيزان )
( فألفظ الكلم المنثور بينكما ... كأنما هو من در ومرجان )
( لله درك ياذا الخطتين لقد ... خططت بالمدح فيه كل ديوان )
( كلاكما البحر في وجود وفي كرم ... أو الغمامة تسقي كل ظمآن )
( إن كان فارس هيجاء ومعترك ... فأنت فارس إفصاح وتبيان )
( فاذكر أبا نصر
المعمور منزله ... بالرفد ماشئت من مثنى ووحدان )
( قصائدا لأخي ود وإن نزحت ... بك الركاب إلى أقصى خراسان )
3 - ترجمة عبدالمعطي من المطمح
وقال في ترجمة الأديب أبي بكر عبدالمعطي بيت شعر ونباهة وأبو بكر ممن انتبه خاطره للبدائع أي انتباهة وله أدب باهر ونظم كما سفرت ازاهر وقد أثبت له جمالا يبلغ آمالا فمن ذلك قوله وقد اجتمعنا في ليلة لم يضرب لها وعد ولم يعزب عنها سعد وهو قعدي قد شب عن طوق الأنس في الندي وماقال خالي عمرو ولا عدي والكهولة قد قبضته وأقعدته عن ذلك وما أنهضته

( إمام النثر والمنظوم فتح ... جميع الناس ليل وهو صبح )
( له قلم جليل لا يجارى ... يقر بفضله سيف ورمح )
( يباري المزن ما سحت سماحا ... وإن شحت فليس لديه شح )
وكان مرتسما في عسكر قرطبة وكان ابن سراج يقوم له بكل ما يبغي تطلبه خيفة من لسانه ومحافظة على إحسانه ولما خرج إلى إقليش خرج معه وجعل يساير من شيعه فلما حصلوا بفحص سرادق وهو موضع توديع المفارق للمفارق قرب منه أبو الحسين ابن سراج لوداعه وأنشده في تفرق الشمل وانصداعه
( هم رحلوا عنا لأمر لهم عنا ... فما أحد منهم على أحد حنا )
( ومارحلوا حتى استقادوا نفوسنا ... كأنهم كانوا أحق بها منا )
( فيا ساكني نجد لتبعد داركم ... ظننا بكم ظنا فأخلفتم الظنا )
( غدرتم ولم أغدر وخنتم ولم أخن ... وقلتم ولم أعتب وجرتم وما جرنا )
( وأقسمتم أن لا تخونون في الهوى ... فقد وذمام الحب خنتم وما خنا )
( ترى تجمع الأيام بيني وبينكم ... ويجمعنا دهر نعود كما كنا
فلما استتم إنشاده لحق بالسلطان وإعتذر إليه بمريض خلفه وهو يخاف تلفه فأذن له بالانصراف وكتب ألي أبي الحسين ابن سراج
( أما والهدايا ما رحلنا ولا حلنا ... وإن عن من دون الترحل ماعنا )
( تركنا ثواب الفضل والعز للعزى ... على مضض منا وعدنا كما كنا )
( وليس لنا عنكم على البين سلوة ... وإن كان أنتم عندكم سلوة عنا )
وجمعتنا عشية بربض الزجالي بقرطبة ومعنا لمة من الإخوان وهو في

جملتهم مناهض لأعيانهم وجلتهم بفضل أدبه وكثرة سحبه فجعل يرتجل ويروي وينشر محاسن الآداب ويطوي ويمتعنا بتلك الأخبار ويقطعنا منها جانب اعتبار ويطلعنا على إقبال الأيام وعلى الادبار ثم قال
( أيا ابن عبيدالله يا ابن الأكارم ... لقد بخلت يمناك صوب الغمائم )
( لك القلم الأعلى الذي عطل القنا ... وفل ظبات المرهفات الصوارم )
( وأخلاقك الزهر الأزاهر بالربى ... ترف بشؤبوب الغيوث السواجم )
( بقيت لتشييد المكارم والعلى ... تظاهرها بالسالف المتقادم )
واجتمع عند أبيه لمة من أهل الأدب وذوي المنازل والرتب في عشية غيم أعقب مطرا وخط فيها البرق أسطرا والبرد يتساقط كدر من نظام ويتراءى كثنايا غادة ذات ابتسام وهو غلام ما نضا برد شبابه ولا انتضى مرهف آدابه فقال معرضا بهم ومتعرضا لتحقق أدبهم
( كأن الهواء غدير جمد ... بحيث البروق تذيب البرد )
( خيوط وقد عقدت في الهواء ... وراحة ريح تحل العقد )
وشرب في دار ابن الأعلم في يوم لم ير الدهر فيه اساءة وليل نسخ نور أنسه مساءه ومعهم جملة من الشعراء وجماعة من الوزراء منهم أبناء القبطرنة فوقع بينهم عتاب وتعذال وامتهان في ميدان المشاجرة وابتذال آل به إلى تجريد السيف وتكدير ما صفا بذلك الحيف فسكنوه بالاستنزال وثنوه عن ذلك النزال
4 - ترجمة ابن بقي من المطمح والقلائد
وقال في المطمح في حق أبي بكر يحيى بن بقي القرطبي صاحب الموشحات البديعة كان نبيل السيرة والنظام كثير الارتباط في سلكه والانتظام أحرز خصالا وطرز بمحاسنه بكرا وآصالا وجرى في ميدان الإحسان إلى أبعد

أمد وبنى من المعارف أثبت عمد إلا ان الأيام حرمته وقطعت حبل رعايته وصرمته فلم تتم له وطرا ولم تسجم عليه الحظوة مطرا ولا سوغت من الحرمة نصيبا ولا انزلته مرعى خصيبا فصار راكب صهوات وقاطع فلوات لا يستقر يوما ولا يستحسن نوما مع توهم لا يظفره بامان وتقلب ذهن كالزمان إلا أن يحيى بن علي بن القاسم نزعه من ذلك الطيش وأقطعه جانبا من العيش وأرقاه إلى سمائه وسقاه صيب نعمائه وفيأه ظلاله وبوأة أثر النعمة يجوس خلاله فصرف به أقواله وشرف بعواقبه فعاله وأفرده منها بأنفس در وقصده منها بقصائد غر انتهى المقصود جلبة من ترجمته في المطمح
وقال في حقه في القلائد رافع راية القريض وصاحب آية التصريح فيه والتعريض اقام شرائعه وأظهر روائعه وصار عصية طائعة إذا نظم زرى بنظم العقود واتى بأحسن من رقم البرود وطفا عليه حرمانه فما صفا له زمانه انتهى
وابن بقي المذكور هو القائل
( بأبي غزال غازلته مقلتي ... بين العذيب وبين شطي بارق ) الأبيات المذكورة في غير هذا الموضع
ومن موشحاته قوله
( غلب الشوق بقلبي فاشتكى ... ألم الوجد فلبت أدمعي )
( أيها الناس فؤادي شفف ... وهو من بغي الهوى لا ينصف )
( كم أداريه ودمعي يكف )
( أيها الشادن من علمكا ... بسهام اللحظ قتل السبع )

( بدر تم تحت ليل أغطش ... طالع في غصن بان منتشي )
( أهيف القد بخد أرقش )
( ساحر الطرف وكم ذا فتكا ... بقلوب الأسد بين الأضلع )
( أي ريم رمته باجتنبا ... وانثنى يهتز من سكر الصبا )
( كقضيب هزه ريح الصبا )
( قلت هب لي ياحبيبي وصلكا ... واطرح أسباب هجري ودع )
( قال خدي زهرة مذ فوفا ... جردت عيناي سيفا مرهفا )
( حذرا منه بأن لا يقطفا )
( إن من رام جناه هلكا ... فأزل عنك علال الطمع )
( ذاب قلبي في هوى ظبي غرير ... وجهه في الدجن صبح مستنير )
( وفؤادي بين كفيه أسير )
( لم أجد للصبر عنه مسلكا ... فانتصاري بانسكاب الأدمع )
وقال رحمه الله تعالى
( خذ حديث الشوق عن نفسي ... وعن الدمع الذي همعا )
( ماترى شوقي وقد وقدا

وهمى دمعي واطردا )
( واغتدى قلبي عليك سدى )
( آه من ماء ومن قبس ... بين طرفي والحشا جمعا )
( بأبي ريم إذا سفرا ... أطلعت أزراره قمرا )
( فاحذروه كلما نظرا )
( فبألحاظ الجفون قسي ... انا منها بعض من صرعا )
( أرتضيه جار او عدلا ... قد خلعت العذر والعذلا )
( إنما شوقي إليه جلا )
( كم وكم أشكو إلى اللعس ... ظمئي لو أنه نفعا )
( صال عبدالله بالحور ... وبطرف فاتر النظر )
( حكمه في أنفس البشر )
( مثل حكم الصبح في الغلس ... إن تجلى نوره صدعا )
( شبهته بالرشا الأمم ... فلعمري إنهم ظلموا )
( فتغنى من به السقم )
( أين ظبي القفر والكنس ... من غزال في الحشا رتعا ) انتهى

وله أيضا
( ماردني لابس ثوب الضنى الدارس إلا قمر ... في غصن مائس شعاعه عاكس ضوء البصر )
( أسير كالسيل إليه لا باع إلا ودادي ... والطيف في خيل لهن إسراع مع الرقاد )
( ياكوكب الليل إن كنت ترتاع فلم فؤادي ... كالأسد العابس لكنه خانس من الحور )
ومن نظمه قصيدة مدح يحيى بن علي بن القاسم المذكور بها منها في المديح قوله
( نوران ليسا يحجبان عن الورى ... كرم الطباع ولا جمال المنظر )
( وكلاهما جمعا ليحيى فليدع ... كتمان نور علائه المتشهر )
( في كل أفق من جمال ثنائه ... عرف يزيد على دخان المجمر )
( رد في شمائله ورد في جوده ... بين الحديقة والغمام الممطر )
( بدر عليه من الوقار سكينة ... فيها لقيطة كل ليث مخدر )
( مثل الحسام إذا انطوى في غمده ... ألقى المهابة في نفوس الحضر )
( أربى على المزن الملث لأنه ... أعطى كما أعطى ولم يستعبر ) ومنها
( أقبلت مرتادا لجودك إنه ... صوب الغمامة بل زلال الكوثر )
( ورأيت وجه النجح عندك أبيضا ... فركبت نحوك كل لج أخضر ) وهي طويلة
استطراد
وقوله أربى على المزن الملث البيت هو معنى تلاعب الشعراء بكرته

وأورده كل منهم على حسب مقدرته فقال بعض
( من قاس جدواك بالغمام فما ... انصف في الحكم بين شيئين )
( أنت إذا جدت ضاحك أبدا ... وهو إذا جاد دامع العين )
وقال آخر
( ما نوال الغمام يوم ربيع ... كنوال الأمير يوم سخاء )
( فنوال الأمير بدرة عين ... ونوال الغمام قطرة ماء ) وهما من شواهد البديع
وقال أبو عبدالله الحوضي التلمساني في قصيدة مدح بها سلطان تلمسان أبا عبدالله الزياني
( أصبح المزن من عطائك يحكي ... يوم الاثنين للأنام عطاء )
( كيف يدعى لك الغمام شبيها ... ولقد فقته سنا وسناء )
( أنت تعطي إذا تقصر مالا ... وهو يعطي إذا تطول ماء )
رجع
وذكر العماد في الخريدة ابن بقي المذكور وأورد له جملة من المقطعات ومحاسنه كثيرة رحمه الله تعالى وبقي على وزن علي
رجع إلى بني عباد رحمهم الله تعالى
وقال ابن اللبانة في بني عباد ما نصه بماذا أصفهم وأحليهم وأي منقبة من الجلالة اوليهم فهم القوم الذين تجل مناقبهم عن العد والإحصاء ولا يتعرض لها بالاستيفاء والاستقصاء ملوك زينت بهم الدنيا وتحلت وترقت حيث شاءت وحلت إن ذكرت الحروب فعليهم يوقف منها الخبر اليقين أو عدت المآثر فهم في ذلك في درجة السابقين أصبح الملك بهم مشرق القسام والأيام

ذات بهجة وابتسام حتى اناخ بهم الحمام وعطل من محاسنهم الوراء والأمام فنقل إلى العدم وجودهم ولم يرع بأسهم وجودهم وكل ملك آدمي فمفقود ( وما نؤخره إلا لأجل معدود ) هود 104 فاول ناشئة ملكهم ومحصل الأمر تحت ملكهم عظيمهم الأكبر وسابقة شرفهم الأجل الأشهر وزينهم الذي يعد في الفضائل بالوسطى والخنصر محمد بن عباد ويكنى أبا القاسم واسم والده إسماعيل ومن شعره قوله
( يا حبذا الياسمين إذ يزهر ... فوق غصون رطيبة نضر )
( قد امتطى للجبال ذروتها ... فوق بساط من سندس أخضر )
( كأنه والعيون ترمقه ... زمرد في حلاله جوهر )
ولنذكر كلام ابن اللبانة وغيره في حقهم فنقول وصف المعتضد رحمه الله تعالى بما صورته المعتضد أبو عمرو عباد رحمه الله تعالى لم تخل أيامه في أعدائه من تقييد قدم ولا عطل سيفه من قبض روح وسفك دم حتى لقد كانت في باب داره حديقة لا تثمر إلا رؤوسا ولا تنبت إلا رئيسا ومرؤوسا فكان نظره إليها أشهى مقترحاته وفي التلفت إليها استعمل جل بكره وروحاته فبكى وأرق وشتت وفرق ولقد حكي عنه من اوصاف التجبر ما ينبغي أن تصان عنه الأسماع ولا يتعرض له بتصريح ولا إلماع ومن نظمه عفا الله عنه
( أتتك أم الحسن ... تشدو بصوت حسن )
( تمد في ألحانها ... من الغناء المدني )
( تقود مني ساكنا ... كأنني في رسن )
( أوراقها أستارها ... إذا شدت في فنن ) وقوله
( شربنا وجفن الليل يغسل كحله ... بماء صباح والنسيم رقيق )

( معتقة كالتبر اما نجارها ... فضخم وأما جسمها فرقيق )
وقوله
( قد وجدنا الحبيب يصفي وداده ... وحمدنا ضميره واعتقاده )
( قرب الحب من فؤاد محب ... لا يرى هجره ولا إبعاده )
وقال عند حصول رندة في ملكه
( لقد حصلت يارندة ... فصرت لملكنا عده )
( أفادتناك أرماح ... وأسياف لها حده )
وقال رحمه الله تعالى
( اشرب على وجه الصباح ... وانظر إلى نور الأقاح )
( واعلم بأنك جاهل ... مالم تقل بالاصطباح )
( فالدهر شيء بارد ... مالم تسخنه براح )
672 - ابن جاخ والمعتضد
ومن حكايات المعتضد عباد ما ذكره غير واحد ان ابن جاخ الشاعر ورد على حضرته فدخل الدار المخصوصة بالشعراء فسألوه فقال إني شاعر فقالوا أنشدنا من شعرك فقال
( إني قصدت إليك ياعبادي ... قصد القليق بالجري للوادي )
فضحكوا منه وازدروه فقال بعض عقلائهم دعوه فإن هذا شاعر وما يبعد أن يدخل مع الشعراء ويندرج في سلكهم فلم يبالوا بكلام الرجل وتنادروا على المذكور فبقي معهم وكان لهم في تلك الدولة يوم مخصوص

لا يدخل فيه على الملك غيرهم وربما كان يوم الاثنين فقال بعض لبعض هذه شنعة بنا أن يكون مثل هذا البادي يقدم علينا ويجترىء على الدخول معنا فاتفقوا على ان يكون هو اول متكلم في اليوم المخصوص بهم عند جلوس السلطان وقد راوا ان يقول مثل ذلك الشعر المضحك فيطرده عنهم ويكون ذلك حسما لعله إقدام مثله عليهم فلما كان اليوم المذكور وقعد السلطان في مجلسه ونصب الكرسي لهم رغبوا منه ان يكون هذا القادم اول متكلم في ذلك اليوم فأمر بذلك فصعد الكرسي وانتظروا أن ينشد مثل الشعر المضحك المتقدم فقال
( قطعت يا يوم النوى أكبادي ... وحرمت عن عيني لذيذ رقادي )
( وتركتني أرعى النجوم مسهدا ... والنار تضرم في صميم فؤادي )
( فكأنما آلى الظلام ألية ... لا ينجلي إلا إلى ميعاد )
( يا بين بين أين تقتاد النوى ... إبل الذين تحملوا بسعاد )
( ولرب خرق قد قطعت نياطه ... والليل يرفل في ثياب حداد )
( بشملة حرف كأن ذميلها ... سرح الرياح وكل برق غادي )
( والنجم يحدوها وقد ناديتها ... يا ناقتي عوجي على عباد )
( ملك إذا ما أضرمت نار الوغى ... وتلاقت الأجناد بالأجناد )
( فترى الجسوم بلا رؤوس تنثني ... وترى الرؤوس لقى بلا أجساد )
( يا أيها الملك المؤمل والذي ... قدما سما شرفا على الأنداد )
( إن القريض لكاسد في أرضنا ... وله هنا سوق بغير كساد )
( فجلبت من شعري إليك قوافيا ... يفنى الزمان وذكرها متمادي )
( من شاعر لم يضطلع أدبا ولا ... خطت يداه صحيفة بمداد )
فقال له الملك انت ابن جاخ فقال نعم فقال اجلس فقد وليتك رئاسة الشعراء واحسن إليه ولم يأذن في الكلام في ذلك اليوم لأحد بعده انتهى

رجع إلى أخبار بقية بني عباد
المعتمد على الله أبو القاسم محمد بن المعتضد أبي عمرو عباد ابن القاضي أبي القاسم ابن عباد رحمه الله تعالى ملك مجيد وأديب على الحقيقة مجيد وهمام تحلى به للملك لبة وللنظم جيد أفنى الطغاة بسيفه وأباد وأنسى بسيبه ذكر الحارث بن عباد فأطلع أيامه في الزمان حجولا وغررا ونظم معاليه في أجيادها جواهر ودررا وشيد في كل معلوة فناءه وعمر بكل نادرة مستغربة وبادرة مستظرفة أوقاته وآناءه فنفقت به للمحامد سوق وبسقت ثمرات إحسانه أي بسوق منع وقرى وراش وبرى ووصل وفرى وكان له من أبنائه عدة أقمار نظمهم نظم السلك وزين بهم سماء ذلك الملك فكانوا معاقل بلاده وحماة طارفه وتلاده إلى أن استدار الزمان كهيئته وأخذ البؤس في فيئته واعتز الخلاف وظهر وسل الشتات سيفه وشهر والمعتمد رحمه الله تعالى يطلب نفسه أثناء ذلك بالثبات بين تلك الثبات والمقام في ذلك المقام إلى أن بدل القطب بالواقع واتسع الخرق على الراقع فاستعضد بابن تاشفين فورد عليه خطابه يشعر بالوفاء فثاب إليه فكر خاطره وفاء وثبت خلال تلك المدة للنزال ودعا من رام حربة نزال إلى ان أصبح والحروب قد نهبته والأيام تسترجع منه ما وهبته فثل ذلك العرش واعتدت الليالي حين أمنت من الأرش فنقل من صهوات الخيول إلى بطون الأجفان وهذه الدنيا جميع ما لديها زائل وكل من عليها فان فما أغنت تلك المملكة وما دفعت وليتها ما ضرت إذ لم تكن نفعت وكل يلقى معجله ومؤجله ويبلغ الكتاب اجله
وقال الفقيه القاضي أبو بكر ابن خميسن رحمه الله تعالى حين ذكر تاريخ بني عباد وقد ذكر الناس للمعتمد من اوصافه ما لا يبلغ مع كثرته إلى إنصافه وأنا الآن أذكر نبذا من أخباره وأردفها بما وقفت عليه من منظومات

أشعاره فإنه رحمه الله تعالى جم الأدب رائقه عالي النظم فائقه كان يسمى بمحمد ويكنى بأبي القاسم على كنية جده القاضي استبد بالأمر عند موت أبيه المعتضد وفي ذلك يقول الحصري رحمه الله تعالى
( مات عباد ولكن ... بقي الفرع الكريم )
( فكأن الميت حي ... غير أن الضاد ميم )
قال ابن اللبانة رحمه الله تعالى ولم يزل المعتمد بخير إلى أن كانت سنة خمس وسبعين وأربعمائة ووصل اليهودي ابن شاليب لقبض الجزية المعلومة مع قوم من رؤساء النصارى وحلوا بباب من أبواب إشبيلية فوجه لهم المعتمد المال مع جماعة من وجوه دولته فقال اليهودي والله لا أخذت هذا العيار ولا آخذه منه إلا مشجرا وبعد هذا العام لا آخذ منه إلا أجفان البلاد ردوه إليه فرد المال إلى المعتمد وأعلم بالقصة فدعا بالجند وقال ائتوني باليهودي وأصحابه واقطعوا حبال الخباء ففعلوا وجاؤوا بهم فقال اسجنوا النصارى واصلبوا اليهودي الملعون فقال اليهودي لا تفعل وأنا أفتدي منك بزنتي مالا فقال والله لو أعطيتني العدوة والأندلس ما قبلتهما منك فصلب فبلغ الخبر النصراني فكتب فيهم فوجه اليه بهم فأقسم النصراني أن يأتي من الجنود بعدد شعر رأسه حتى يصل إلى بحر الزقاق وأمير المسلمين يوسف ابن تاشفين إذ ذاك محاصر سبتة فجاز المعتمد إليه ووعده بنصرته فرجع وحث ملوك الأندلس على الجهاد ثم وصل ابن تاشفين فكانت غزوة الزلاقة المشهورة ورجع ابن تاشفين إلى المغرب ثم جاز بعد ذلك الى الأندلس وتوهم ابن عباد أنه إذا أخذ البلاد يأخذ أموالها ويترك الأجفان فعزم ابن تاشفين على أن يخلع ملوك الأندلس ودارت إذ ذاك مكايد جمة ثم وجه ابن تاشفين من سبتة إلى المعتمد يطلب منه الجزيرة الخضراء وفيها ابنه يزيد فكتب إليه معتذرا عنها فلم يكن إلا كلمح البصر وإذا بمائة شراع قد أطلت على الجزيرة

فطير ابنه الحمام إليه فأمره باخلائها فظهر عند ذلك ابن تاشفين وقيل إنه لم يجز المرة الأولى حتى طلب من المعتمد الجزيرة لتكون عدة له وكان ذلك بدسيسة بعض اهل الأندلس نصحا لابن تاشفين ثم شرع ابن تاشفين في خلع ملوك الأندلس وقتالهم وأرسل إلى كل مملكة جماعة من أهل دولته وأجناده يحاصرونها وأرسل إلى حضرة المعتمد إشبيلية وشرع في قتالها والناس قد ملوا الدولة العبادية وسئموها على ماجرت به العادة من حب الجديد لاسيما وقد ظهر من ابن عباد من التهتك في الشرب والملاهي ما لا يخفى أمره فتمنى أكثر الناس الراحة من دولتهم ولما اشتد مخنق المعتمد وجه عن النصارى فأعد لهم ابن تاشفين من لقيهم في الطريق فهزمهم وجهز ابن تاشفين القطائع لإشبيلية وجد في حصارها والمعتمد مع ذلك منغمس في لذاته وقد ألقى الأمور بيد ابنه الرشيد فلم يشعر ابن عباد إلا والعسكر معه في البلد فأفاق من نومه وصحا من سكره وركب فرسه وحسامه في يده وليس عليه إلا ثوب واحد فوافق العسكر قد دخل من باب الفرج ووافى هنالك طبالا فضربه بسيفه ضربة قسمه بها نصفين ففر الناس امامه وتراموا من السور ووقف حتى بان الباب وفي ذلك يقول الأبيات المذكورة فيما يأتي
( إن يسلب القوم العدا إالخ )
فلما وصل إلى باب الصباغين وجد ابنه مالكا مقتولا فاسترحم له ودخل القصر وزاد الأمر بعد ذلك ودخل البلد من كل جهاته فطلب الأمان له ولمن معه فأمن وجميع من له وأعدت له مراكب واجتاز إلى طنجة فلقيه الحصري الشاعر وكان قد ألف له كتاب المستحسن من الأشعار فلم يقض بوصوله إليه إلا وهو على تلك الحالة فلما أخذ المعتمد الكتاب قال للحصري ارفع ذلك البساط فخذ ما تحته فوالله ما املك غيره فوجد تحته جملة مال فأخذه ثم انتقل حتى وصل أغمات ولم يزل بها إلى أن مات رحمه الله تعالى

وقال الفتح في ترجمته مانصه ملك قمع العدا وجمع البأس والندى وطلع على الدنيا بدر هدى لم يتعطل يوما كفه ولا بنانه آونة يراعه وآونة سنانه وكانت أيامه مواسم وثغوره بواسم ولياليه كلها دررا وللزمان حجولا وغررا لم يغفلها من سمات عوارف ولم يضحها من ظل إيناس وارف ولا عطلها من مأثرة بقي أثرها باديا ولقي معتفيه منها إلى الفضل هاديا وكانت حضرته مطمحا للهمم ومسرحا لآمال الأمم ومقذفا لكل كمي وموقفا لكل ذي انف حمي لم تخل من وفد ولم يصح جوها من انسجام رفد فاجتمع تحت لوائه من جماهير الكماة ومشاهير الحماة أعداد يغص بهم الفضاء وأنجاد يزهى بهم النفوذ والمضاء وطلع في سمائه كل نجم متقد وكل ذي فهم منتقد فأصبحت حضرته ميدانا لرهان الأذهان ومضمارا لأحراز الخصل في كل معنى وفصل فلم يلتحق بزمامه إلا كل بطل نجد ولم يتسق في نظامه إلا ذكاء ومجد فأصبح عصره اجمل عصر وغدا مصره أكمل مصر تسفح فيه ديم الكرم ويفصح فيه لسانا سيف وقلم ويفضح الرضى في وصفه أيام ذي سلم وكان قومه وبنوه لتلك الحلبة زينا ولتلك الجملة عينا إن ركبوا خلت الأرض فلكا يحمل نجوما وإن وهبوا رأيت الغمائم سجوما وإن أقدموا احجم عنترة العبسي وإن فخروا أفحم عرابة الأوسي ثم انحرفت الأيام فألوت بإشراقه وأذوت يانع إيراقه فلم يدفع الرمح ولا الحسام ولم تنفع تلك المنن الجسام فتملك بعد الملك وحط من فلكه إلى الفلك فأصبح خائضا تحدوه الرياح وناهضا يزجيه البكاء والصياح قد ضجت عليه أياديه وارتجت جوانب ناديه وأضحت منازله قد بان عنها الأنس والحبور وألوت ببهجتها الصبا والدبور فبكت العيون عليه دما وعاد

موجود الحياة عدما وصار أحرار الدهر فيه خدما فسحقا لدنيا مارعت حقوقه ولا أبقت شروقه فكم أحياها لبنيها وأبداها رائقة لمجتيها وهي الأيام لا يتقى من تجنيها ولا تبقي على مواليها ومدانيها أدثرت آثار جلق وأخمدت نار المحلق وذللت عزة ابن شداد وهدت القصر ذا الشرفات من سنداد ونعمت ببؤس النعمان وأكمنت غدرها له في طلب الأمان انتهى
ثم ذكر الفتح من أخباره وأشعاره ومجالس انسه وغير ذلك من أمره نبذا ذكرنا بعضها في هذا الكتاب
673 - الراضي ابن المعتمد
وقال في ترجمة ابنه الراضي بالله أبي خالد يزيد بن المعتمد مانصه ملك تفرع من دوحة سناء أصلها ثابت وفرعها في السماء وتحدر من سلالة اكابر ورقاة أسرة ومنابر وتصرف أثناء شبيبته بين دراسة معارف وإفاضة عوارف وكلف بالعلم حتى صار ملهج لسانه وروضة أجفانه لا يستريح منه إلا إلى متن سائل الغرة ميمون الأسرة يسابق به الرياح ويحاسن بغرته البدر اللياح عريق في السناء عتيق الاقتناء سريع الوخد والإرقال من آل أعوج أو لذي العقال إلى أن ولاه أبوه الجزيرة الخضراء وضم إليها رندة الغراء فانتقل من متن الجواد إلى ذروة الأعواد وأقلع عن الدراسة إلى تدبير الرياسة ومازال يدبرها بجوده ونهاه ويورد الآمل فيها مناه حتى غدت عراقا وامتلأت إشراقا إلى أن اتفق في أمر الجزيرة ما اتفق وخاب

فيها الرجاء وأخفق واستحالت بهجتها واحالت عليها من الحال لجتها فانتقل إلى رندة معقل أشب ومنزل للسماك منتسب وأقام فيها رهين حصار ومهين حماة وأنصار ولقيت ريحه كل إعصار حتى رمته سهام الخطوب عن قسيها وأمكنت منه يدي مسيها فحواه رمسه وطواه عن غده امسه حسبما بسطنا القول فيه فيما مر من أخبار أبيه انتهى
والذي أشار إليه هنا وأحال عليه فيما تقدم له من أخبار المعتمد هو قوله بعد حكايته قتل المأمون بن المعتمد بقرطبة وسياقة أخبار ذلك ما نصه ثم انتقلوا إلى رندة احد معاقل الأندلس الممتنعة وقواعدها السامية المرتفعة تطرد منها على بعد مرتقاها ودنو النجوم من ذراها عيون لانصبابها دوي كالرعد القاصف والرياح العواصف ثم تتكون واديا يلتوي بجوانبها التواء الشجاع ويزيدها في التوعر والامتناع وقد تجونت نواحيها وأقطارها وتكونت فيها لباناتها وأوطارها لا يتعذر لها مطلب ولا يتصورفيها عدو إلا علقه ناب أو مخلب فلما أناخوا منها على بعد وأقاموا من الرجاء فيها على غير وعد وفيها ابنه الراضي لم يحفل بأناختهم بإزائه ولا عدها من أرزائه لامتناعه من منازلتهم وارتفاعه عن مطاولتهم إلى ان انقضى في امر إشبيلية ما انقضى وأفضى أمر أبيه إلى ما أفضى فحمل على مخاطبته لينزل عن صياصيه ويمكنهم من نواصيه فنزل برا بأبيه وإبقاء على أرماق ذويه بعد أن عاقدهم مستوثقا وأخذ عليهم عهدا من الله وموثقا فلما وصل إليهم وحصل في يديهم مالوا به عن الحصن وجرعوه الردى وأقطعوه الثرى حين اودى وفي ذلك يقول المعتمد يرثيهما وقد رأى قمرية بائحة بشجنها نائحة بفننها على سكنها وامامها وكر فيه طائران يرددان نغما ويغردان ترحة وترنما

( بكت ان رأت إلفين ضمهما وكر ... مساء وقد أخنى على إلفها الدهر )
( وناحت فباحت واستراحت بسرها ... وما نطقت حرفا يبوح به سر )
( فما لي لا أبكي أم القلب صخرة ... وكم صخرة في الأرض يجري بها نهر )
( بكت واحدا لم يشجها غير فقده ... وأبكي لألاف عديدهم كثر )
( بني صغير أو خليل موافق ... يمزق ذا قفر ويغرق ذا بحر )
( ونجمان زين للزمان احتواهما ... بقرطبة النكداء او رندة القبر )
( غدرت إذن إن ضن جفني بقطرة ... وإن لومت نفسي فصاحبها الصبر )
( فقل للنجوم الزهر تبكيهما معي ... لمثلهما فلتحزن الأنجم الزهر )
وقال في ترجمة الراضي ما صورته وكان المعتمد رحمه الله تعالى كثيرا ما يرميه بملامه ويصميه بسهامه فربما استلطفه بمقال أفصح من دمع المحزون وأملح من روض الحزون فانه كان ينظم من بديع القول لآلىء وعقودا تسل من النفوس سخائم وحقودا وقد أثبت من كلامه في بث آلامه واستجارة عذله وملامه ما تستبدعه وتحله النفوس وتودعه فمن ذلك ما قاله وقد أنهض جماعة من إخوته وأقعده وأدناهم وأبعده
( أعيذك ان يكون بنا خمول ... ويطلع غيرنا ولنا أفول )
( حنانك إن يكن جرمي قبيحا ... فإن الصفح عن جرمي جميل )
( ألست بفرعك الزاكي وماذا ... يرجي الفرع خانته الأصول )
ثم قال الفتح بعد كلام ومرت عليه يعنى الراضي هوادج وقباب فيها حبائب كن له وأحباب ألفهن أيام خلائه من دولة وجال معهن في

ميدان المنى اعظم جولة ثم انتزعوا منه ببعده وأودعوا الهوادج من بعده ووجهوا هدايا إلى العدوة وألموا بها إلمام قريش بدار الندوة فقال
( مروا بنا أصلا من غير ميعاد ... فأوقدوا نار شوقي أي ايقاد )
( وأذكروني أياما لهوت بهم ... فيها ففازوا بإيثاري وإحمادي )
( لا غرو أن زاد في وجدي مرورهم ... فرؤية الماء تذكي غلة الصادي )
ولما وصل المعتمد لورقة أعلم ان العدو قد جيش لها واحتشد ونهد نحوها وقصد ليتركهاخاوية على عروشها طاوية الجوانح على وحوشها فتعرض له المعتمد دون بغيته وطلع عليه من ثنيته وامر الراضي بالخروج إليه في عسكر جرده لمحاربته وأعده لمصادمته ومضاربته فأظهر التمارض والتشكي وأضمر التقاعس والتلكي فرارا من المصادمة وإحجاما عن المساومة وجزعا من منازلة الأقران ومقابلة ذوابل المران ومقاساة الطعان وملاقاة أبطال كالرعان ورأى ان المطالعة أرجح من المقارعة ومعاناة العلوم أربح من مداواة الكلوم فقد كان عاكفا على تلاوة ديوان عارفا بإجادة صدر وعنوان فعلم المعتمد ما نواه وتحقق ما لواه فأعرض عنه ونفض يده منه ووجه المعتد مع ذلك الجيش الذي لم تنشر بنوده ولا نصرت جنوده فعندما لاقوا العدو لاذوا بالفرار وعاذوا بإعطاء الغرة بدلا من الغرار وتفرقوا في تلك الأماريت وفرقوا من تخطف اولئك العفاريت فتحيف العدو من بقي مع المعتد واهتضمه وخضم مافي العسكر وقضمه وغدت مضاربه مجر عواليه ومجرى مذاكيه وآب أخسر من بائع السدانة ومضيع الأمانة فانطبقت سماء المعتمد على أرضه وشغلته عن إقامة نوافله وفرضه فكتب إليه الراضي

( لايكرثنك خطب الحادث الجاري ... فما عليك بذاك الخطب من عار )
( ماذا على ضيغم أمضى عزيمته ... إن خانه حد أنياب وأظفار )
( لئن أتوك فمن جبن ومن خور ... قد ينهض العير نحو الضيغم الضاري )
( عليك للناس أن تبقى لنصرتهم ... وما عليك لهم إسعاد أقدار )
( لو يعلم الناس فيما أن تدوم لهم ... بكوا لأنك من ثوب الصبا عاري )
( ولو أطاقوا انتقاصا من حياتهم ... لم يتحفوك بشيء غير أعمار )
فحجب عنه وجه رضاه ولم يستنزله بذلك ولا استرضاه وتمادى على إعراضه وقعد عن إظهاره وأنماضه حتى بسطته سوانح السلو وعطفته عليه جوانح الحنو فكتب إليه بهزل غلب فيه كل منزع جزل وهو
( الملك في طي الدفاتر ... فتخل عن قود العساكر )
( طف بالسرير مسلما ... وارجع لتوديع المنابر )
( وازحف إلى جيش المعارف ... تقهر الحبر المقامر )
( واطعن بأطراف اليراع ... نصرت في ثغر المحابر )
( واضرب بسكين الدواة ... مكان ماضي الحد باتر )
( أولست رسطاليس إن ... ذكر الفلاسفة الأكابر )
( وأبوحنيفة ساقط ... في الرأي حين تكون حاضر )
( وكذاك إن ذكر الخليل ... فأنت نحوي وشاعر )
( من هرمس من سيبويه ... من ابن فورك إذ تناظر )
( هذي المكارم قد حويت ... فكن لمن حاباك شاكر )
( واقعد فإنك طاعم ... كاس وقل هل من مفاخر )

( لحجبت وجه رضاي عنك ... وكنت قد تلقاه سافر )
( أولست تذكر وقت لورفة ... وقلبك ثم طائر )
( لا يستقر مكانه ... وأبوك كالضرغام خادر )
( هلا اقتديت بفعله ... وأطعته إذ ذاك آمر )
( قد كان أبصر بالعواقب ... والموارد والمصادر )
فكتب إليه الراضي مراجعا بقطعة منها
( مولاي قد أصبحت كافر ... بجميع ماتحوي الدفاتر )
( وفللت سكين الدواة ... وظلت للأقلام كاسر )
( وعلمت ان الملك ما ... بين الأسنة والبواتر )
( والمجد والعلياء في ... ضرب العساكر بالعساكر )
( لاضرب أقوال بأقوال ... ضعيفات مناكر )
( قد كنت احسب من سفاه ... انها أصل المفاخر )
( فإذا بها فرع لها ... والجهل للإنسان عاذر )
( لايدرك الشرف الفتى ... إلا بعسال وباتر )
( وهجرت من سميتهم ... وحجدت انهم اكابر )
( لو كنت تهوى ميتتي ... لوجدتني للعيش هاجر )
( ضحك الموالي بالعبيد ... إذا تؤمل غير ضائر )
( إن كان لي فضل فمنك ... وهل لذاك النور ساتر )
( او كان بي نقص فمني ... غير أن الفضل غامر )
( ذكرت عبدك ساعة ... يبقى لها ما عاش ذاكر )
( ياليته قد غيبته ... عندها إحدى المقابر )
( أتريد مني أن أكون ... كمن غدا في الدهر نادر )
( هيهات ذلك مطمع ... يعيي الأوائل والأواخر )

( لا تنس يا مولاي قولة ... ضارع لا قول فاخر )
( ضبط الجزيرة عندما ... نزلت بعقوتها العساكر )
( أيام ظللت بها فريدا ... ليس غير الله ناصر )
( إذ كان يعشي ناظري ... لمع الأسنة والبواتر )
( ويصم أسماعي بها ... قرع الحجارة بالحوافر )
( وهي الحضيض سهولة ... لكن ثبت بها مخاطر )
( هبني أسأت كما أسأت ... أما لهذا العتب آخر )
( هب زلتي لبنوتي ... واغفر فإن الله غافر )
فقربه وأدناه وصفح عما كان جناه ولم تزل الحال آخذة في البوار والأمور معتلة اعتلال حب الفرزدق للنوار حتى مضوا لغير طية وقضوا بين الصوارم والرماح الخطية حسبما سردناه وعلى ما أوردناه وإذا أراد الله سبحانه إنفاذ أمر سبق في علمه فلا مرد له ولا معقب لحكمه ولا إله إلا هو رب العالمين انتهى كلام الفتح
وعلى الجملة فكانت دولة بني عباد بالأندلس من أبهج الدول في الكرم والفضل والأدب حتى قال ابن اللبانة رحمه الله تعالى إن الدولة العبادية بالأندلس أشبه شيء بالدولة العباسية ببغداد سعة مكارم وجمع فضائل ولذلك ألف فيها كتابا مستقلا سماه الاعتماد في أخبار بني عباد ولا يلتفت لكلب عقور نبح بقوله
( مما يزهدني في أرض أندلس ... أسماء معتضد فيها ومعتمد )
( ألقاب مملكة في غير موضعها ... كالهر يحكي انتفاخا صورة الأسد )
لأن هذه مقالة متعسف كافر للنعم ومثل ذلك في حقهم لايقدح ومازالت الأشراف تهجى وتمدح

وللمعتمد اولاد ملوك منهم المامون والرشيد والراضي والمعتد وغيرهم وقد سردنا خبر بعضهم
674 - مدائح ابن اللبانة في بني عباد
وكان الداني المذكور مائلا إلى بني عباد بطبعه إذ كان المعتمد هو الذي جب بضبعه وله فيه المدائح الأنيقة التى هي أذكى من زهر الحديقة فمن ذلك قوله من قصيدة يمدحه بها ويذكر اولاده الأربعة الذين عمروا من المجد أربعه وهم الرشيد عبيدالله والراضي يزيد والمأمون والمؤتمن وكانوا نجوم ذلك الأفق وغيوث ذلك الزمن ولقد اجاد في ذلك كل الإجادة وأطال لمجدهم نجاده
( يغيثك في محل يعينك في ردى ... يروعك في درع يروقك في برد )
( جمال وإجمال وسبق وصوله ... كشمس الضحى كالمزن كالبرق كالرعد )
( بمهجته شاد العلا ثم زادها ... بناء بأبناء جحاجحة لد )
( بأربعة مثل الطباع تركبوا ... لتعديل ذكر المجد والشرف العد )
والمامون بن المعتمد قتله لمتونة بقرطبة والراضي يزيد قتلوه برندة كما سقنا خبره آنفا وفي حالتهم هذه يقول الشاعر المشهور عبدالجبار بن حمديس الصقلي
( ولما رحلتم بالندى في اكفكم ... وقلقل رضوى منكم وثبير )
( رفعت لساني بالقيامة قد دنت ... فهذي الجبال الراسيات تسير )
وفي قصة المعتمد يقول الداني المذكور
( لكل شيء من الأشياء ميقات ... وللمنى في مناياهن غايات )

( والدهر في صفة الحرباء منغمس ... الوان حالاته فيها استحالات )
( ونحن من لعب الشطرنج في يده ... وطالما قمرت بالبيدق الشاة )
( انفض يديك من الدنيا وزينتها ... فالأرض قد أقفرت والناس قد ماتوا )
( وقل لعالمها الأرضي قد كتمت ... سريرة العالم العلوي أغمات ) وهي طويلة ذكرها الفتح وغيره
وللداني أيضا قصيدة عملها في المعتمد وهو بأغمات سنة 486
( تنشق بريحان السلام فإنما ... أفض به مسكا عليك مختما )
( وقل لي مجازا إن عدمت حقيقة ... لعلك في نعمى فقد كنت منعما )
( أفكر في عصر مضى بك مشرقا ... فيرجع ضوء الصبح عندي مظلما )
( وأعجب من أفق المجرة إذ رأى ... كسوفك شمسا كيف أطلع أنجما )
( لئن عظمت فيك الرزية إننا ... وجدناك منها في الرزية أعظما )
( قناة سعت للطعن حتى تقسمت ... وسيف أطال الضرب حتى تثلما )
ومنها
( بكى آل عباد ولا كمحمد ... وأولاده صوب الغمامة إذ همى )
( حبيب إلى قلبي حبيب لقوله ... عسى طلل يدنو بهم ولعلما )
( صباحهم كنا به نحمد السرى ... فلما عدمناهم سرينا على عمى )
( وكنا رعينا العز حول حماهم ... فقد أجدب المرعى وقد أقفر الحمى )
( وقد ألبست أيدي الليالي قلوبهم ... مناسج سدى الغيث فيها وألحما )
( قصور خلت من ساكنيها فما بها ... سوى الأدم تمشي حول واقفة الدمى )

( تجيب بها الهام الصدى ولطالما ... اجاب القيان الطائر المترنما )
( كأن لم يكن فيها أنيس ولا التقى ... بها الوفد جمعا والخميس عرمرما )
ومنها
( حكيت وقد فارقت ملكك مالكا ... ومن ولهي احكي عليك متمما )
( مصاب هوى بالنيرات من العلا ... ولم يبق في أرض المكارم معلما )
( تضيق علي الأرض حتى كأنما ... خلقت وإياها سوارا ومعصما )
( ندبتك حتى لم يخل لي الأسى ... دموعا بها أبكي عليك ولا دما )
( وإني على رسمي مقيم فإن أمت ... سأجعل للباكين رسمي موسما )
( بكاك الحيا والريح شقت جيوبها ... عليك وناح الرعد باسمك معلما )
( ومزق ثوب البرق واكتست الضحى ... حدادا وقامت أنجم الجو أفحما )
( وحار ابنك الإصباح وجدا فما اهتدى ... وغار أخوك البحر غيضا فما طمى )
( وماحل بدر التم بعدك دارة ... ولا أظهرت شمس الظهيرة مبسما )
( قضى الله ان حطوك عن ظهر أشقر ... بشم وان أمطوك أشأم أدهما )
وكان قد انفكت عنه القيود فأشار إلى ذلك بقوله فيها
( قيودك ذابت فانطلقت لقد غدت ... قيودك منهم بالمكارم أرحما )
( عجبت لأن لان الحديد وأن قسوا ... لقد كان منهم بالسريرة أعلما )
( سينجيك من نجى من السجن يوسفا ... ويؤويك من آوى المسيح بن مريما )
ولأبي بكر الداني المذكور في البكاء على أيامهم وانتثار نظامهم عدة مقطوعات وقصائد هي قرة عين الطالب ونجعة الرائد وقد اشتمل عليها جزء لطيف صدر عنه في هيئة تصنيف سماه السلوك في وعظ الملوك ووفد على المعتمد وهو بأغمات عدة وفادات لم يخل في جميعها من إفادات وقال في إحداها هذه وفادة وفاء لا وفادة اجتداء

675 - مقتطفات من اخبار المعتمد
قال غير واحد من النادر الغريب أنه نودي في جنازته الصلاة على الغريب بعد عظم سلطانه وسعة أوطانه وكثرة صقالبته وحبشانه وعظم امره وشانه فتبارك من له العزة والبقاء والدوام واجتمع عند قبره جماعة من الأقوام الذين لهم في الأدب حصة ولقضية المعتمد في صدورهم غصة منهم البالغ في البلاغة الأمد شاعره أبو بحر عبدالصمد وكان به خصيصا وكم ألبسه من بره حلة وقميصا فقال من قصيدة طويلة أجاد فيها ما شا وجلب بها إلى انفس الحاضرين بعد الأنس ايحاشا مطلعها
( ملك الملوك أسامع فأنادي ... أم قد عدتك عن السماع عوادي )
ومنها
( لما خلت منك القصور ولم تكن ... فيها كما قد كنت في الأعياد )
( قبلت من هذا الثرى لك خاضعا ... وجعلت قبرك موضع الإنشاد )
فلما بلغ من إنشاده إلى مراده قبل الثرى ومرغ جسمه وعفر خده فبكى كل من حضر وصرفه ذلك عن سرور العيد وصده إذ كانت هذه القصة يوم عيد فسبحان المبدىء المعيد
ويحكى ان رجلا رأى في منامه إثر الكائنة على المعتمد بن عباد كأن رجلا صعد منبر جامع قرطبة فاستقبل الناس وأنشد هذه الأبيات متمثلا
( رب ركب قد اناخوا عيسهم ... في ذرى مجدهم حين بسق )
( سكت الدهر زمانا عنهم ... ثم أبكاهم دما حين نطق )
وعاش أبو بكر ابن اللبانة المعروف بالداني المذكور آنفا بعد المعتمد وقدم ميورقة آخر شعبان سنة 489 ومدح ملكها مبشر بن سليمان بقصيدة مطلعها

( ملك يروعك في حلى ريعانه ... راقت برونقه صفات زمانه )
وأين هذا من امداحه في المعتمد
وتذكرت هنا من احوال الداني انه دخل على ابن عمار في مجلس فأراد ان يندر به وقال له اجلس ياداني بغير ألف فقال له نعم يا ابن عمار بغير ميم وهذا هو الغاية في سرعة الجواب والأخذ بالثأر في المزاح
ونظيره وإن كان من باب آخر ان المعتمد مر مع وزيره ابن عمار ببعض أرجاء إشبيلية فلقيتهما امرأة ذات حسن مفرط فكشفت وجهها وتكلمت بكلام لا يقتضيه الحياء وكان ذلك بموضع الجباسين الذين يصنعون به الجبس والجيارين الصانعين للجير بإشبيلية فالتفت المعتمد إلى موضع الجيارين وقال يا ابن عمار الجيارين ففهم مراده وقال في الحال يا مولاي والجباسين فلم يفهم الحاضرون المراد وتحيروا فسالوا ابن عمار فقال له المعتمد لاتبعها منهم إلا غالية وتفسيرها أن ابن عباد صحف الحيا زين بقوله الجيازين إشارة إلى أن تلك المرأة لو كان لها حياء لازدانت فقال له والجباسين وتصحيفه والخنا شين أي هي وإن كانت جميلة بديعة الحسن لكن الخنا شانها وهذا شأو لا يلحق
ومن أخبار المعتمد انه جلس يوما والبزاة تعرض عليه فاستحث الشعراء في وصفها فصنع ابن وهبون بديها
( للصيد قبلك سنة مأثورة ... لكنها بك أبدع الأشياء )
( تمضي البزاة وكلما أمضيتها ... عاطيتها بخواطر الشعراء
فاستحسنهما وأسنى جائزته
وذكر ابن بسام أن أبا العرب الصقلي حضر مجلس المعتمد يوما وقد حمل إليه حمول وافرة من قراريط الفضة فأمر له بكيسين منها وكان بين يديه تماثيل

عنبر من جملتها جمل مرصع بالذهب واللآلىء فقال له أبو العرب معرضا مايحمل هذين الكيسين إلا جمل فتبسم المعتمد وأمر له به فقال أبو العرب بديها
( أهديتني جملا جونا شفعت به ... حملا من الفضة البيضاء لو حملا )
( نتاج جودك في أعطان مكرمة ... لاقد تصرف من منع ولا عقلا )
( فاعجب لشأني فشأني كله عجب ... رفهتني فحملت الحمل والجملا )
وذكر الحجاري هذه القصة فقال قعد المعتمد في مجلس احتفل في تنضيده وإحضار الطرائف الملوكية وكان في الجملة تمثال جمل من بلور وله عينان من ياقوتتين وقد حلي بنفائس الدر فأنشده أبو العرب قصيدة فأمر له بذهب كثير مما كان بيده من السكة الجديدة فقال معرضا بذلك الجمل ما يحمل هذه الصلة إلا جمل فقال خذ هذا الجمل فإنه حمال أثقال فارتجل شعرا منه
( رفهتني فحملت الحمل والجملا )
وذكر ان ذلك الجمل بيع بخمسمائة مثقال فسارت بهذا الخبر الركائب وتهادته المشارق والمغارب
وتباحث المعتمد مرة مع الجلساء في بيت المتنبي الذي زعم أنه أمير شعره
( أزورهم وسواد الليل يشفع لي ... وأنثني وبياض الصبح يغري بي )
فقال ماقصر في مقابلة كل لفظة بضدها إلا أن فيه نقدا خفيا ففكروا فيه فلما فكروا قالوا فيه ماوقفنا على شيء فقال الليل لا يطابق إلا بالنهار لأن الليل كلي والصبح جزئي فتعجب الحاضرون وأثنوا على تدقيق انتقاده

قال الصفدي قلت ليس هذا بنقد صحيح والصواب مع أبي الطيب لأنه قال أزورهم وسواد الليل يشفع لي فهذا محب يزور أحبابه في سواد الليل خوفا ممن يشي به فإذا لاح الصبح أغرى به الوشاة ودل عليه أهل النميمه والصبح أول ما يغري به قبل النهار وعادة الزائر المريب ان يزور ليلا وينصرف عند انفجار الصبح خوفا من الرقباء ولم تجر العادة أن الخائف يتلبث إلى أن يتوضح النهار ويمتلىء الأفق نورا فذكر الصبح هنا أولى من ذكر النهار والله أعلم انتهى
قلت كان يختلج في صدري ضعف ما قال الصفدي حتى وقفت على ما كتبه البدر البشتكي ومن خطه نقلت ما صورته هو ما انتقد عليه المعنى إنما انتقد عليه مطابقة الليل بالصبح فإن ذلك فاسد انتهى فحمدت الله على الموافقة انتهى
وقال في بدائع البدائه جلس المعتمد للشرب وذلك في وقت مطر أجرى كل وهدة نهرا وحلى جيد كل غصن من الزهر جوهرا وبين يديه جارية تسقيه وهي تقابل وجهها بنجم الكأس في راحة كالثريا وتخجل الزهر بطيب العرف والريا فاتفق ان لعب البرق بحسامه وأجال سوطه المذهب يسوق به ركامه فارتاعت لخطفته وذعرت من خيفته فقال المعتمد بديها
( روعها البرق وفي كفها ... برق من القهوة لماع )
( عجبت منها وهي شمس الضحي ... كيف من الأنوار ترتاع )
فاستدعى عبدالجليل بن وهبون المرسي وأنشده البيت الأول مستجيزا فقال عبدالجليل
( ولن ترى أعجب من آنس ... من مثل ما يمسك يرتاع )

فاستحسنه وأمر له بجائزة
قال ابن ظافر وبيته عندي أحسن من بيت المعتمد انتهى
وقال ابن بسام كان في قصر المعتمد فيل من الفضة على شاطىء بركة يقذف الماء وهو الذي يقول فيه عبدالجليل بن وهبون من بعض قصيدة
( ويفرغ فيه مثل النصل بدع ... من الأفيال لا يشكو ملالا )
( رعى رطب اللجين فجاء صلدا ... تراه قلما يخشى هزالا )
فجلس المعتمد يوما على تلك البركة والماء يجري من ذلك الفيل وقد أوقدت شمعتان من جانبيه والوزير أبو بكر ابن الملح عنده فصنع الوزير فيهما عدة مقاطيع بديها منها
( ومشعلين من الأضواء قد قرنا ... بالماء والماء بالدولاب منزوف )
( لاحا لعيني كالنجمين بينهما ... خط المجرة ممدود ومعطوف )
وقال أيضا
( كأنما النار فوق الشمعتين سنا ... والماء من نفذ الأنبوب منسكب )
( غمامة تحت جنح الليل هامعة ... في جانبيها حفاف البرق يضطرب )
وقال أيضا
( وأنبوب ماء بين نارين ضمنا ... هوى لكؤوس الراح تحت الغياهب )
( كأن اندفاع الماء بالماء حية ... يحركها في الماء لمع الحباحب )
وقال أيضا
( كأن سراجي شربهم في التظائها ... وأنبوب ماء الفيل في سيلانه )
( كريم تولى كبره من كليهما ... لئيمان في انفاقه يعذلانه )

676 - ابن زيدون عند بني عباد
ولما مات والد المعتمد واستقل بالملك قال ذو الوزارتين ابن زيدون يرثي المعتضد ويمدح المعتمد بقصيدة طويلة أولها
( هو الدهر فاصبر للذي أحدث الدهر ... فمن شيم الأحرار في مثلها الصبر )
( ستصبر صبر اليأس أو صبر حسبه ... فلا تؤثر الوجه الذي معه الوزر )
( حذارك من ان يعقب الرزء فتنة ... يضيق بها عن مثل إيمانك العذر )
( إذا آسف الثكل اللبيب فشفه ... رأى أفدح الثكلين ان يذهب الأجر )
( مصاب الذي يأسى بموت ثوابه ... هو البرح لا الميت الذي أحرز القبر )
( حياة الورى نهج إلى الموت مهيع ... لهم فيه إيضاع كما يوضع السفر )
ومنها
( إذا الموت أضحى قصد كل معمر ... فإن سواء طال أو قصر العمر )
( ألم تر أن الدين ضيم ذماره ... فلم يغن أنصار عديدهم دثر )
( بحيث استقل الملك ثاني عطفه ... وجرر من أذياله العسكر المجر )
( هو الضيم لو غير القضاء يرومه ... ثناه المرام الصعب والمسلك الوعر )
( إذا عثرت جرد العناجيج في القنا ... بليل عجاج ليس يصدعه فجر )
ومنها
أعباد يا أوفى الملوك لقد عدا ... عليك زمان من سجيته الغدر )
إلى ان قال بعد أبيات كثيرة

( ألا أيها المولى الوصول عبيده ... لقد رأبنا أن يتلو الصلة الهجر )
( يغاديك داعينا السلام كعهده ... فما يسمع الداعي ولا يرفع الستر )
( أعتب علينا ذاد عن ذلك الرضى ... فتسمع ام بالمسمع المعتلي وقر )
ومنها
( وكيف بنسيان وقد ملأت يدي ... جسام أياد منك أيسرها الوفر )
( وإن كنت لم أشكر لك المنن التي ... تمليتها تترى فأوبقني الكفر )
( فهل علم الشلو المقدس أنني ... مسوغ حال حار في كنهها الفكر )
( وان متاتي لم يضعه محمد ... خليفتك العدل الرضى وابنك البر )
( هو الظافر الأعلى المؤيد بالذي ... له في الذي وافاه من صنعه سر )
( له في اختصاصي ما رأيت وزادني ... مزية زلفى من نتائجها الفخر )
( وأرغم في بري أنوف عصابة ... لقاؤهم جهم ولحظهم شزر )
( إذا ما استوى في الدست عاقد حبوة ... وقام سماطا حفله فلي الصدر )
( وفي نفسه العلياء لي متبوأ ... يساجلني فيه السماكان والنسر )
ومنها
( لك الخير إن الرزء كان غيابة ... طلعت لنا فيها كما طلع البدر )
( فقرت عيون كان أسخنها البكا ... وقرت قلوب كان زلزلها الذعر )
ومنها
( ولما قدمت الجيش بالأمر أشرقت ... إليك من الآمال آفاقها الغبر )

( فقضيت من فرض الصلاة لبانة ... فشيعها نسك وقارنها طهر )
( ومن قبل ما قدمت مثنى نوافل ... يلاقي بها من صام من عوز فطر )
( ورحت إلى القصر الذي غض طرفه ... بعيد التسامي ان غدا غيره القصر )
( وأجمل عن الثاوي العزاء فإن ثوى ... فإنك لا الواني ولا الضرع الغمر )
( وما أعطت السبعون قبل أولي الحجى ... من اللب ما أعطاك عشروك والعمر )
( ألست الذي إن ضاق ذرع بحادث ... تبلج منه الوجه واتسع الصدر )
( فلا تهض الدنيا جناحك بعده ... فمنك لمن هاضت نوائبها جبر )
( ولا زلت موفور العديد بقرة ... لعينك مشدودا بها ذلك الأزر )
( فإنك شمس في سماء رياسة ... تطلع منهم حولنا أنجم زهر )
( شككنا فلم نثبت أأيام دهرنا ... بها وسن أم هز أعطافها سكر )
( وما إن تغشتها مغازلة الكرى ... وما إن تمشت في معاطفها الخمر )
( سوى نشوات من سجايا مملك ... يصدق في عليائها الخبر الخبر )
( أرى الدهر إن يبطش فأنت يمينه ... وإن تضحك الدنيا فأنت لها ثغر )
( وكم سائل بالغيب عنك أجبته ... هناك الأيادي الشفع والسودد الوتر )
( هناك التقى والعلم والحلم والنهى ... وبذل اللها والبأس والنظم والنثر )
( همام إذا لاقى المناجز رده ... وإقباله خطر وإدباره حصر )
( محاسن ما للروض سامره الندى ... رواء إذا نصت حلالها ولا نشر )
( متى انتشقت لم تدر دارين مسكها ... حياء ولم تفخر بعنبرها الشحر )
( عطاء ولا من وحكم ولا هوى ... وحلم ولا عجز وعز ولا كبر )
( قد استوفت النعماء فيك تمامها ... علينا فمنا الحمدلله والشكر

وكتب ابن زيدون المذكور إلى المعتمد رحمهما الله تعالى يشوقه إلى تعاطي الحميا في قصوره البديعة التى منها المبارك والثريا
( فز بالنجاح وأحرز الإقبالا ... وخذ المنى وتنجز الآمالا )
( وليهنك التأييد والظفر اللذا ... صدقاك في السمة العلية فالا )
( يا أيها الملك الذي لولاه لم ... تجد العقول الناشدات كمالا )
( اما الثريا فالثريا نسبة ... وإفادة وإنافة وجمالا )
( قد شاقها الإغباب حتى إنها ... لو تستطيع سرت إليك خيالا )
( رفه ورود كها لتغنم راحة ... وأطل مزاركها لتنعم بالا )
( وتأمل القصر المبارك وجنة ... قد وسطت فيها الثريا خالا )
( وأدر هناك من المدام كؤوسها ... وأتمها وأشفها جريالا )
( قصر يقر العين منه مصنع ... بهج الجوانب لو مشى لاختالا )
( لا زلت تفترش السرور حدائقا ... فيه وتلتحف النعيم ظلالا )
وأهدى إليه تفاحا واعتقد ان يكتب معه قطعة فبدأ بها ثم عرض له غيرها فتركها ثم ابتدأ
( دونك الراح جامدة ... وفدت خير وافده )
( وجدت سوق ذوبها ... عندك اليوم كاسده )
( قاستحالت إلى الجمود ... وجاءت مكايده )
وكتب إلى المعتمد

( يا أيها الظافر نلت المنى ... ولا أتانا فيك محذور )
( إن الخلال الزهر قد ضمها ... ثوب عليك الدهر مزرور )
( لا زال للمجد الذي شدته ... ربع بتعميرك معمور )
( وافاك نظم لي في طيه ... معنى معمى اللفظ مستور )
( مرامه يصعب مالم يبح ... بالسر قمري وشحرور )
وذكر أبياتا فيها اسماء طيور عمى بها عن بيت طيره فيها والبيت المطير فيه
( انت إن تغز ظافر ... فليطع من ينافر )
ففكه المعتمد وجاوبه
( ياخير من يلحظه ناظري ... شهادة ما شانها زور )
( ومن إذا خطب دجا ليله ... لاح به من رأيه نور )
( جاءتني الطير التي سرها ... نظم به قلبي مسرور )
( شعر هو السحر فلا تنكروا ... أني به ما عشت مسحور )
( اللفظ والقرطاس إن شبها ... قيل هما مسك وكافور )
( هوى لحسن الطير من فكرتي ... صقر فولى وهو مقهور )
( ولاح لي بيت فؤادي له ... دأبا على ودك مقصور )
( حظك من شكري ياسيدي ... حظ تمالا منك موفور )
( قصرت في نظمي فاعذر فمن ... ضاهاك في التقصير معذور )
( فأنت إن تنظم وتنثر فقد ... أعوز منظوم ومنثور )

( لا يعدكم روض من الحظ في الإكرام ... والترفيع ممطور )
فكتب إليه ابن زيدون
( حظي من نعماك موفور ... وذنب دهري بك مغفور )
( وجانبي إن رامه أزمة ... حجر لدى ظلك محجور )
( يا ابن الذي سرب الهدى آمن ... منذ انبرى يحميه مخفور )
( وآمر الدهر الذي لم يزل ... يصغي إليه منه مأمور )
( ألبس منك الدهر أسنى الحلى ... بظافر منحاه منصور )
( يامروي المأثور يا من له ... مجد مع الأيام مأثور )
( عبدك إن أكثر من شكره ... فهو بما توليه مكثور )
( إن تعف عن تقصيره منعما ... فاليسر أن يقبل معسور )
( إن حلال السحر إن صغته ... في صحف الأنفس مسطور )
( نظم زهاني منه إذ جاءني ... علق عظيم القدر مذخور )
( لا غرو أن أفتن إذ لاحظت ... فكري منه أعين حور )
( تنم عن معناه ألفاظه ... كما وشى بالراح بلور )
( جهلت إذ عارضته غير أن ... لابد أن ينفث مصدور )
( يا آ ' ل عباد موالاتكم ... زاك من الأعمال مبرور )
( إن الذي يرجو موازاتكم ... من المناوين لمغرور )
( مكانه منكم كما انحط عن ... منزلة المرفوع مجرور )
( لازلتم في غبطة ما انجلى ... عن فلق الإصباح ديجور )

( ولا يزل يجري بما شئتم ... أعماركم لله مقدور )
وكتب المعتمد إلى ابن زيدون بعد أن فك معمى كتب به إليه ابن زيدون ما صورته
( العين بعدك تقذي ... بكل شيء تراه )
( فليجل شخصك عنها ... ما بالمغيب جناه )
وقد قدمنا من كلام أبي الوليد ابن زيدون رحمه الله تعالى ما فيه كفاية
رجع الى بني عباد
قال ابن حمديس لما قدمت وافدا على المعتمد بن عباد استدعاني وقال افتح الطاق فإذا بكير زجاج والنار تلوح من بابيه وواقده يفتحهما تارة ويسدهما أخرى ثم أدام سد أحدهما وفتح آخر فحين تأملتهما قال لي أجز
( انظرهما في الظلام قد نجما )
فقلت
( كما رنا في الدجنة الأسد )
فقال
( يفتح عينيه ثم يطبقها )
فقلت
( فعل امرىء في جفونه رمد )

فقال
( فابتزه الدهر نور واحدة
فقلت
( وهل نجا من صروفه أحد )
فاستحسن ذلك وأطربه وامر لي بجائزة وألزمني الخدمة
677 - مقطعات لابن حمديس
وعلى ذكر ابن حمديس فما أحسن قوله
( أراك ركبت في الأهوال بحرا ... عظيما ليس يؤمن من خطوبه )
( تسير فلكه شرقا وغربا ... وتدفع من صباه إلى جنوبه )
( وأصعب من ركوب البحر عندي ... امور ألجأتك إلى ركوبه )
ولغيره
( إن ابن آدم طين ... والبحر ماء يذيبه )
( لولا الذي فيه يتلى ... ماجاز عندي ركوبه )
وقال ابن حمديس في هذا المعنى
( لا أركب البحر أخشى ... علي منه المعاطب )
( طين انا وهو ماء ... والطين في الماء ذائب )
رجع إلى بني عباد رحمهم الله تعالى
قال ابن بسام أخبرني الحكيم النديم المطرب أبو بكر ابن الإشبيلي قال حضرت مجلس الرشيد بن المعتمد بن عباد وعنده الوزير أبو بكر ابن عمار

فلما دارت الكأس وتمكن الأنس وغنيت أصواتا ذهب الطرب بابن عمار كل مذهب فارتجل يخاطب الرشيد
( ماضر ان قيل إسحاق وموصله ... ها أنت أنت وذي حمص وإسحاق )
( أنت الرشيد فدع من قد سمعت به ... وإن تشابه أخلاق وأعراق )
( لله درك داركها مشعشعة ... واحضر بساقيك ماقامت بنا ساق )
وكان الرشيد هذا احد أولاد المعتمد النجيا وله اخبار في الكرم يقضي الناظر فيها من امرها عجبا وكذلك إخوته وقد ألمعنا في هذا الكتاب بجملة من محاسنهم وامهم اعتماد الملقبة بالرميكية هي التي ترجمناها في هذا الموضع واقتضت المناسبة ذكر أمر بني عباد فلنعد إلى ما كنا بصدده من أخبارها رحمها الله تعالى فنقول
رجع إلى ذكر الرميكية
قال ابن سعيد في بعض مصنفاته كان المعتمد كثيرا ما يأنس بها ويستطرف نوادرها ولم تكن لها معرفة بالغناء وإنما كانت مليحة الوجه حسنة الحديث حلوة النادر كثيرة الفكاهة لها في كل ذلك نوادر محكية وكانت في عصرها ولادة بنت محمد بن عبدالرحمن وهي أبدع منها ملحا وأحسن افتنانا وأجل منصبا وكان أبوها أمير قرطبة ويلقب بالمستكفي بالله وأخبار أبي الوليد ابن زيدون معها وأشعاره فيها مشهورة انتهى ملخصا
ومن أخبار الرميكية القصة المشهورة في قولها ولا يوم الطين وذلك أنها رأت الناس يمشون في الطين فاشتهت المشي في الطين فأمر المعتمد فسحقت أشياء من الطيب وذرت في ساحة القصر حتى عمته ثم نصبت الغرابيل وصب فيها ماء الورد على أخلاط الطيب وعجنت بالأيدي حتى عادت كالطين

وخاضتها مع جواريها وغاضبها في بعض الأيام فأقسمت انها لم تر منه خيرا قط فقال ولا يوم الطين فاستحيت واعتذرت وهذا مصداق قول نبينا في حق النساء ( لو أحسنت إلى احداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئا قالت ما رأيت منك خيرا قط )
قلت ولعل المعتمد أشار في أبياته الرائية إلى هذه القضية حيث قال في بناته
( يطأن في الطين والأقدام حافية ... كأنها لم تطأ مسكا وكافورا )
ويحتمل أن يكون أشار بذلك إلى ماجرت به عادة الملوك من ذر الطيب في قصورهم حتى يطؤوه بأقدامهم زيادة في التنعم
وسبب قول المعتمد ذلك ما حكاه الفتح فقال وأول عيد أخذه يعني المعتمد بأغمات وهو سارح وما غير الشجون له مبارح ولا زي إلا حالة الخمول واستحالة المأمول فدخل عليه من بنيه من يسلم عليه ويهنيه وفيهم بناته وعليهن أطمار كأنها كسوف وهن أقمار يبكين عند التساؤل ويبدين الخشوع بعد التخايل والضياع قد غير صورهن وحير نظرهن وأقدامهن حافية وآثار نعيمهن عافية فقال
( فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا ... فساءك العيد في أغمات مأسورا )
( ترى بناتك في الأطمار جائعة ... يغزلن للناس ما يملكن قطميرا )
( برزن نحوك للتسليم خاشعة ... أبصارهن حسيرات مكاسيرا )

( يطأن في الطين والأقدام حافية ... كأنها لم تطأ مسكا وكافورا )
( لا خد إلا تشكى الجدب ظاهره ... وليس إلا مع الأنفاس ممطورا )
( أفطرت في العيد لا عادت مساءته ... فكان فطرك للأكباد تفطيرا )
( قد كان دهرك إن تأمره ممتثلا ... فردك الدهر منهيا ومأمورا )
( من باب بعدك في ملك يسر به ... فإنما بات بالأحلام مغرورا )
678 - عود إلى أخبار المعتمد
وقال الفتح أيضا ولما نقل المعتمد من بلاده وأعري من طارفه وتلاده وحمل في السفين واحل في العدوة محل الدفين تندبه منابره واعواده ولا يدنو منه زواره ولا عوادة بقي أسفا تتصعد زفراته وتطرد اطراد المذانب عبراته لا يخلو بمؤانس ولا يرى إلا عرينا بدلا من تلك المكانس ولما لم يجد سلوا ولم يؤمل دنوا ولم ير وجه مسرة مجلوا تذكر منازله فشاقته وتصور بهجتها فراقته وتخيل استيحاش اوطانه وإجهاش قصره إلى قطانه وإظلام جوه من أقماره وخلوه من حراسه وسماره فقال
( بكى المبارك في إثر ابن عباد ... بكى على إثر غزلان وآساد )
( بكت ثرياه لا غمت كواكبها ... بمثل نوء الثريا الرائح الغادي )
( بكى الوحيد بكى الزاهي وقبته ... والنهر والتاج كل ذله بادي )
( ماء السماء على أفيائه درر ... يا لجة البحر دومي ذات إزباد )
وفي ذلك يقول ابن اللبانة
( أستودع الله أرضا عندما وضحت ... بشائر الصبح فيها بدلت حلكا )

( كان المؤيد بستانا بساحتها ... يجني النعيم وفي عليائها فلكا )
( في أمره لملوك الدهر معتبر ... فليس يغتر ذو ملك بما ملكا )
( نبكيه من جبل خرت قواعده ... فكل من كان في بطحائه هلكا )
وكان القصر الزاهي من اجمل المواضع لديه وأبهاها وأحبها إليه وأشهاها لإطلاله على النهر وإشرافه على القصر وجماله في العيون واشتماله بالزهر والزيتون وكان له به من الطرب والعيش المزري بحلاوة الضرب مالم يكن بحلب لبني حمدان ولا لسيف بن ذي يزن في رأس غمدان وكان كثيرا ما يدير به راحه ويجعل فيه انشراحه فلما امتد الزمان إليه بعد وانه وسد عليه أبواب سلوانه لم يحن إلا إليه ولم يتمن غير الحلول لديه فقال
( غريب بأرض المغربين أسير ... سيبكي عليه منبر وسرير )
( وتندبه البيض الصوارم والقنا ... وينهل دمع بينهن غزير )
( مضى زمن والملك مستأنس به ... وأصبح منه اليوم وهو نفور )
( برأي من الدهر المضلل فاسد ... متى صلحت للصالحين دهور )
( أذل بني ماء السماء زمانهم ... وذل بني ماء السماء كبير )
( فيا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... امامي وخلفي روضة وغدير )
( بمنبتة الزيتون مورثة العلا ... تغني حمام او ترن طيور )
( بزاهرها السامي الذي جاده الحيا ... تشير الثريا نحونا ونشير )
( ويلحظنا الزاهي وسعد سعوده ... غيورين والصب المحب غيور )
( تراه عسيرا لا يسيرا مناله ... ألا كل ما شاء الإله يسير )
وقال الحجاري في المسهب إن أمير المسلمين يوسف بن تاشفين أهدى

إلى المعتمد جارية مغنية قد نشأت بالعدوة وأهل العدوة بالطبع يكرهون أهل الأندلس وجاء بها إلى إشبيلية وقد كثر الإرجاف بأن سلطان الملثمين ينتزع بلاد ملوك الطوائف منهم واشتغل خاطر ابن عباد بالفكر في ذلك فخرج بها إلى قصر الزاهر على نهر إشبيلية وقعد على الراح فخطر بفكرها أن غنت عندما انتشى هذه الأبيات
( حملوا قلوب الأسد بين ضلوعهم ... ولووا عمائمهم على الأقمار )
( وتقلدوا يوم الوغى هندية ... أمضى إذا انتضيت من الأقدار )
( إن خوفوك لقيت كل كريهة ... أو أمنوك حللت دار قرار )
فوقع في قلبه أنها عرضت بساداتها فلم يملك غضبه ورمى بها في النهر فهلكت انتهى فقدر الله تعالى أن كان تمزيق ملكه على يدهم تصديقا للجارية في قولها
( إن خوفوك لقيت كل كريهة )
وحصره جيوش لمتونه الملثمين حتى أخذوه قهرا وسيق إلى أمير المسلمين والقصة مشهورة
وقال الفتح في شأن حصار المعتمد ما صورته ولما تم في الملك امده وأراد الله تعالى ان تخر عمده وتنقرض أيامه وتتقوض عن عراص الملك خيامه نازلته جيوش أمير المسلمين ومحلاته وظاهرته فساطيطه ومظلاته بعدما نثرت حصونه وقلاعه وسعرت بالنكاية جوانحه وأضلاعه وأخذت عليه الفروج والمضايق وثنت إليه الموانع والعوايق وطرقته طوارقها بالإضرار وأمطرته من النكاية كل ديمة مدرار وهو ساه بروض ونسيم لاه براح

ومحيا وسيم زاه بفتاه تنادمه ناه عن هدم أنس هو هادمه لا يصيخ إلى نبأة سمعه ولا ينيخ إلا على لهو يفرق جموعه جمعه وقد ولى المدامه ملامه وثنى إلى ركنها طوافه واستلامه وتلك الجيوش تجوس خلاله وتقلص ظلاله وحين اشتد حصاره وعجز عن المدافعة أنصاره ودلس عليه ولاته وكثرت أدواؤه وعلاته فتح باب الفرج وقد لفح شواظ الهرج فدخلت عليه من المرابطين زمرة واشتعلت من التغلب جمرة تأجج اضطرامها وسهل بها إيقاد الفتنة وإضرامها وعندما سقط الخبر عليه خرج حاسرا من مفاضته جامحا كالمهر قبل رياضته فلحق اوائلهم عند الباب المذكور وقد انتشروا في جنباته وظهروا على البلد من اكثر جهاته وسيفه في يده يتلمظ للطلى والهام ويعد بانفراج ذلك الاستبهام فرماه أحد الداخلين برمح تخطاه وجاوز مطاه فبادره بضربة أذهبت نفسه وأغربت شمسه ولقي ثانيا فضربه وقسمه وخاض حشا ذلك الداء وحسمه فأجلوا عنه وولوا فرارا منه فأمر بالباب فسد وبني منه ماهد ثم انصرف وقد أراح نفسه وشفاها وأبعد الله تعالى عنه الملامة ونفاها وفي ذلك يقول عندما خلع وأودع من المكروه ما اودع
( إن يسلب القوم العدى ... ملكي وتسلمني الجموع )
( فالقلب بين ضلوعه ... لم تسلم القلب الضلوع )
( قد رمت يوم نزالهم ... أن لا تحصنني الدروع )
( وبرزت ليس سوى القميص ... على الحشا شيء دفوع )
( أجلي تأخر لم يكن ... بهواي ذلي والخضوع )
( ما سرت قط إلى القتال ... وكان من أملي الرجوع )
( شيم الألى انا منهم ... والأصل تتبعه الفروع )

وما زالت عقارب تلك الداخلة تدب ثم ذكر الفتح تمام هذا الكلام فراجعه فيما مر بنحو ثلاث ورقات
ومن حكايات مجالس انسه أيام ملكه قبل أن ينظمه صرف الدهر في سلكه ماحكاه الفتح عن ذخر الدولة انه دخل عليه في دار المزينية والزهر يحسد إشراق مجلسه والدر يحكي اتساق تأنسه وقد رددت الطير شدوها وجودت طربها ولهوها وجددت كلفها وشجوها والغصون قد التحفت بسندسها والأزهار تحيي بطيب تنفسها والنسيم يلم بها فتضعه بين أجفانها وتودعه أحاديث آذارها ونيسانها وبين يديه فتى من فتيانه يتثنى تثنى القضيب ويحمل الكأس في راحة أبهى من الكف الخضيب وقد توشح وكأن الثريا وشاحه وأنار فكأن الصبح من محياه كان اتضاحه فكلما ناوله الكأس خامرته سورة وتخيل أن الشمس تهديه نوره فقال المعتمد
( لله ساق مهفهف غنج ... قد قام يسقي فجاء بالعجب )
( أهدى لنا من لطيف حكمته ... في جامد الماء ذائب الذهب )
ولما وصل لورقة استدعى ذا الوزارتين القائد أبا الحسن ابن اليسع ليلته تلك في وقت لم يخف فيه زائر من مراقب ولم يبد فيه غير نجم ثاقب فوصل وما للأمن إلى فؤاده وصول وهو يتخيل ان الجو صوارم ونصول بعد أن وصى بما خلف وودع من تخلف فلما مثل بين يديه آنسه وازال توجسه وقال له خرجت من إشبيلية وفي النفس غرام طويته بين ضلوعي وكففت فيه غرب دموعي بفتاة هي الشمس أو كالشمس إخالها لا يجول قلبها ولا خلخالها وقد قلت في يوم وداعها عند تفطر كبدي وانصداعها

( ولما التقينا للوداع غدية ... وقد خفقت في ساحة القصر رايات )
( بكينا دما حتى كأن عيوننا ... لجري الدموع الحمر منها جراحات )
وقد زارتني هذه الليلة في مضجعي وأبرأتني من توجعي ومكنتني من رضابها وفتنتني بدلالها وخضابها فقلت
( أباح لطيفي طيفها الخد والنهدا ... فعض بها تفاحة واجتنى وردا )
( ولز قدرت زارت على حال يقظة ... ولكن حجاب البين ما بيننا مدا )
( اما وجدت عنا الشجون معرجا ... ولا وجدت منا خطوب النوى بدا )
( سقى الله صوب القطر ام عبيدة ... كما قد سقت قلبي على حره بردا )
( هي الظبي جيدا والغزالة مقلة ... وروض الربى عرفا وغصن النقا قدا )
فكرر استجادته وأكثر استعادته فامر له بخمسمائة دينار وولاه لورقة من حينه
قال الفتح وأخبرني ابن اللبانة انه استدعاه ليلة إلى مجلس قد كساه الروض وشيه وامتثل الدهر فيه امره ونهيه فسقاه الساقي وحياه وسفر له الأنس عن مونق محياه فقام للمعتمد مادحا وعلى دوحة تلك النعماء صادحا فاستجاد قوله وأفاض عليه طوله فصدر وقد امتلأت يداه وغمره جوده ونداه فلما حل بمنزله وافاه رسوله بقطيع وكأس من بلار قد أترعا بصرف العقار ومعهما
( جاءتك ليلا في ثياب نهار ... من نورها وغلالة البلار )
( كالمشتري قد لف من مريخه ... إذ لفه في الماء جذوة نار )
( لطف الجمود لذا وذا فتألفا ... لم يلق ضد ضده بنفار )

( يتحير الراءون في نعتيهما ... أصفاء ماء أم صفاء دراري )
وقال الفتح أيضا وأخبرني ذخر الدولة انه إستدعاه في ليلة قد ألبسها البدر رواءه وأوقد فيها أضواءه وهو على البحيرة الكبرى والنجوم قد انعكست فيها تخالها زهرا وقابلتها المجرة فسالت فيها نهرا وقد أرجت نوافج الند وماست معاطف الرند وحسد النسيم الروض فوشى بأسراره وأفشى حديث آسه وعراره ومشى مختالا بين لبات النور وأزراره وهو وجم ودمعه منسجم وزفراته تترجم عن غرامه وتجمجم عن تعذر مرامه فلما نظر إليه استدناه وقربه وشكا إليه من الهجران ما استغربه وأنشده
( أيا نفس لا تجزعي واصبري ... وإلا فإن الهوى متلف )
( حبيب جفاك وقلب عصاك ... ولاح لحاك ولا منصف )
( شجون منعن الجفون الكرى ... وعوضنها أدمعا تنزف )
فانصرف ولم يعلمه بقصته ولا كشف له عن غصته انتهى
وقال الفتح أيضا أخبرني ذخر الدولة بن المعتضد انه دخل عليه في ليلة قد ثنى السرور منامها وامتطى الحبور غاربها وسنامها وراع الأنس فؤادها وستر بياض الأماني سوادها وغازل نسيم الروض زوارها وعوادها ونور السرج قد قلص أذيالها ومحا من لجين الأرض نيالها والمجلس مكتس بالمعالي وصوت المثاني والمثالث عالي والبدر قد كمل والتحف بضوئه القصر واشتمل وتزين بسناه وتجمل فقال المعتمد
( ولقد شربت الراح يسطع نورها ... والليل قد مد الظلام رداء )

( حتى تبدى البدر في جوزائه ... ملكا تناهى بهجة وبهاء )
( وتناهضت زهر النجوم يحفه ... لألاؤها فاستكمل اللألاء )
( لما أراد تنزها في غربه ... جعل المظلة فوقه الجوزاء )
( وترى الكواكب كالمواكب حوله ... رفعت ثرياها عليه لواء )
( وحكيته في الأرض بين كواكب ... وكواعب جمعت سنا وسناء )
( إن نشرت تلك الدروع حنادسا ... ملأت لنا هذي الكؤوس ضياء )
( وإذا تغنت هذه في مزهر ... لم تأل تلك على التريك غناء )
وأخبرني ابن اقبال الدولة بن مجاهد انه كان عنده في يوم قد نشر من غيمه رداء ند وأسكب من قطره ماء ورد وأبدى من برقة لسان نار وأظهر من قوس قزحه حنايا آس حفت بنرجس وجلنار والروض قد بعث رياه وبن الشكر لسقياه فكتب إلى الطبيب الأديب أبي محمد المصري
( أيها الصاحب الذي فارقت عيني ... ونفسي منه السنا والسناء )
( نحن في المجلس الذي يهب الراحة ... والمسمع الغنى والغناء )
( نتعاطى التى تنسي من الرقة ... واللذة الهوى والهواء )
( فأته تلف راحة ومحيا ... قد أعدا لك الحيا والحياء )
فوافاه وألفى مجلسه وقد أتلعت فيه أباريقه أجيادها وأقامت فيه خيل السرور طرادها وأعطته الأماني انطباعها وانقيادها وأهدت الدنيا ليومه مواسمها وأعيادها وخلعت عليه الشمس شعاعها ونشرت فيه الحدائق إيناعها فأديرت الراح وتعوطيت الأقداح وخامر النفوس الابتهاج والارتياح وأظهر المعتمد من إيناسه ما استرق به نفوس جلاسه ثم دعا

بكبير فشربه كالشمس غربت في ثبير وعندما تناولها قام المصري ينشد أبياتا تمثلها
( اشرب هنيئا عليك التاج مرتفقا ... بشاذمهر ودع غمدان لليمن )
( فأنت أولى بتاج الملك تلبسه ... من هوذة بن علي وابن ذي يزن )
فطرب حتى زحف عن مجلسه وأسرف في تأنسه وأمر فخلعت عليه خلع لا تصلح إلا للخلفاء وأدناه حتى أجلسه مجلس الأكفاء وأمر له بدنانير عددا وملأ له بالمواهب يدا
وله في غلام رآه يوم العروبة من ثنيات الوغى طالعا ولطلى الأبطال قارعا وفي الدماء والغا ولمستبشع كؤوس المنايا سائغا وهو ظبي قد فارق كناسه وعاد أسدا صارت القنا أخياسه ومتكاثف العجاج قد مزقه إشراقه وقلوب الدارعين قد شكتها أحداقه فقال
( أبصرت طرفك بين مشتجر القنا ... فبدا لطرفي أنه فلك )
( أو ليس وجهك فوقه قمرا ... يجلى بنير نوره الحلك )
وقال فيه
( ولما اقتحمت الوغى دارعا ... وقنعت وجهك بالمغفر )
( حسبنا محياك شمس الضحى ... عليها سحاب من العنبر )
وقد جمع بنا القلم في ترجمة المعتمد بن عباد بعض جموح وماذلك إلا لما علمنا ان نفوس الأدباء إلى أخباره رحمه الله تعالى شديدة الطموح وقد جعل الله تعالى له كما قال ابن الأبار في الحلة السيراء رقة في القلوب وخصوصا

بالمغرب فإن اخباره وأخبار الرميكية إلى الآن متداولة بينهم وإن فيها لأعظم عبرة رحم الله تعالى الجميع
رجع إلى أخبار النساء
11 - ومنهن العبادية جارية المعتضد عباد والد المعتمد أهداها إليه مجاهد العامري من دانية وكانت أديبة ظريفة كاتبة شاعرة ذاكرة لكثير من اللغة قال ابن عليم في شرحه لأدب الكتاب لابن قتيبة وذكر الموسعة وهي خشبة بين حمالين يجعل كل واحد منهما طرفها على عنقه ما صورته وبذكر الموسعة أغربت جارية لمجاهد أهداها إلى عباد كاتبة شاعرة على علماء إشبيلية وبالهزمة التى تظهر في أذقان بعض الأحداث وتعتري بعضهم في الخدين عند الضحك فاما التي في الذقن فهي النونة ومنه قول عثمان رضي الله تعالى عنه دسموا نونته لتدفع العين واما التي في الخدين عند الضحك فهي الفحصة فما كان في ذلك الوقت في إشبيلية من عرف منها واحدة
وسهر عباد ليلة لأمر حزبه وهي نائمة فقال
( تنام ومدنفها يسهر ... وتصبر عنه ولا يصير )
فأجابته بديهة بقولها
( لئن دام هذا وهذا له ... سيهلك وجدا ولا يشعر )
ويكفيك هذا شاهدا على فضلها رحمها الله تعالى وسامحها

12 - ومنهن بثينة بنت المعتمد بن عباد وامها الرميكية السابقة الذكر وكانت بثينة هذه نحوا من امها في الجمال والنادرة ونظم الشعر ولما أحيط بأبيها ووقع النهب في قصره كانت من جملة من سبي ولم يزل المعتمد والرميكية عليها في وله دائم لا يعلمان ما آل إليه أمرها إلى أن كتبت إليهما بالشعر المشهور المتداول بين الناس بالمغرب وكان احد تجار إشبيلية اشتراها على انها جارية سرية ووهبها لابنه فنظر من شأنها وهيئت له فلما أراد الدخول عليها امتنعت وأظهرت نسبها وقالت لا أحل لك إلا بعقد النكاح إن رضي أبي بذلك وأشارت عليهم بتوجيه كتاب من قبلها لأبيها وانتظار جوابه فكان الذي كتبته بخطها من نظمها ما صورته
( اسمع كلامي واستمع لمقالتي ... فهي السلوك بدت من الأجياد )
( لا تنكروا أني سبيت وأنني ... بنت لملك من بني عباد )
( ملك عظيم قد تولى عصره ... وكذا الزمان يؤول للإفساد )
( لما أراد الله فرقة شملنا ... وأذاقنا طعم الأسى عن زاد )
( قام النفاق على أبي في ملكه ... فدنا الفراق ولم يكن بمراد )
( فخرجت هاربة فحازني امرؤ ... لم يأت في إعجاله بسداد )
( إذ باعني بيع العبيد فضمني ... من صانني إلا من الانكاد )
( وأرادني لنكاح نجل طاهر ... حسن الخلائق من بني الأنجاد )
( ومضى إليك يسوم رأيك في الرضى ... ولأنت تنظر في طريق رشادي )
( فعساك يا أبتي تعرفني به ... إن كان ممن يرتجى لوداد )
( وعسى رميكية الملوك بفضلها ... تدعو لنا باليمن والإسعاد )
فلما وصل شعرها لأبيها وهو بأغمات واقع في شراك الكروب

والأزمات سر هو وامها بحياتها ورأيا ان ذلك للنفس من أحسن أمنياتها إذ علما مآل أمرها وجبر كسرها إذ ذلك اخف الضررين وإن كان الكرب قد ستر القلب منه حجاب رين وأشهد على نفسه بعقد نكاحها من الصبي المذكور وكتب إليها أثناء كتابه مما يدل على حسن صبره المشكور
( بنيتي كوني به برة ... فقد قضى الوقت بإسعافه )
وأخبار المعتمد بن عباد تذيب الأكباد فلنرجع إلى ذكر نساء الأندلس فنقول
13 - ومنهن حفصة بنت حمدون من وادي الحجارة ذكرها في المغرب وقال انها من اهل المائة الرابعة ومن شعرها
( رأى ابن جميل ان يرى الدهر مجملا ... فكل الورى قد عمهم سيب نعمته )
( له خلق كالخمر بعد امتزاجها ... وحسن فما احلاه من حين خلقته )
( بوجه كمثل الشمس يدعو ببشره ... عيونا ويعشيها بإفراط هيبته )
ولها
( لي حبيب لا ينثني لعتاب ... وإذا ما تركته زاد تيها )
( قال لي هل رأيت لي من شبيه ... قلت أيضا وهل ترى لي شبيها )
ولها تذم عبيدها
( يارب أني من عبيدي على ... جمر الغضا ما فيهم من نجيب )
( إما جهول أبله متعب ... أو فطن من كيده لا يجيب )

وقال ابن الأبار إنها كانت أديبة عالمة شاعرة وذكرها ابن فرج صاحب الحدائق وانشد لها أشعارا منها قولها
( يا وحشتي لأحبتي ... يا وحشة متمادية )
( يا ليلة ودعتهم ... يا ليلة هي ما هيه )
14 - ومنهن زينب المرية كانت أديبة شاعرة وهي القائلة
( يا أيها الراكب الغادي لطيته ... عرج أنبئك عن بعض الذي أجد )
( ماعالج الناس من وجد تضمنهم ... إلا ووجدي بهم فوق الذي وجدوا )
( حسبي رضاه وأني في مسرته ... ووده آخر الأيام أجتهد )
15 - ومنهن غاية المنى وهي جارية أندلسية متأدبة قدمت إلى المعتصم بن صمادح فأراد اختبارها فقال لها ما اسمك فقالت غاية المنى فقال لها أجيزي
( اسألوا غاية المنى
فقالت
( من كسا جسمي الضنى ... وأراني مولها سيقول الهوى انا )
هكذا أورد السالمي هذه الحكاية في تاريخه
قال ابن الأبار وقرأت بخط الثقة حاكيا عن القاضي أبي القاسم ابن حبيش قال سيقت لابن صمادح جارية نبيلة تقول الشعر وتحسن المحاضرة فقال

تحمل إلى الأستاذ ابن الفراء الخطيب ليختبرها وكان كفيفا فلما وصلته قال ما اسمك فقالت غاية المنى فقال أجيزي
( سل هوى غاية المنى ... من كسا جسمي الضنى
فقالت تجيزه
( وأراني متيما ... سيقول الهوى أنا )
حكى ذلك لابن صمادح فاشتراها انتهى
16 - ومنهن حمدة ويقال حمدونة بنت زياد المؤدب من وادي آش وهي خنساء المغرب وشاعرة الأندلس ذكرها الملاحي وغيره وممن روى عنها أبو القاسم ابن البراق
ومن عجيب شعرها قولها
( ولما أبى الواشون إلا فراقنا ... ومالهم عندي وعندك من ثار )
( وشنوا على أسماعنا كل غارة ... وقل حماتي عند ذاك وانصاري )
( غزوتهم من مقلتيك وأدمعي ... ومن نفسي بالسيف والسيل والنار )
وبعض يزعم ان هذه الأبيات لمهجة بنت عبدالرزاق الغرناطية وكونها لحمدة أشهر والله سبحانه وتعالى أعلم
وخرجت حمدة مرة للوادي مع صبية فلما نضت عنها ثيابها وعامت قالت

( أباح الدمع أسراري بوادي ... له للحسن آثار بوادي )
( فمن نهر يطوف بكل روض ... ومن روض يرف بكل وادي )
( ومن بين الظباء مهاة إنس ... لها لبي وقد ملكت فؤادي )
( لها لحظ ترقده لأمر ... وذاك الأمر يمنعني رقادي )
( إذا سدلت ذوائبها عليها ... رأيت البدر في جنح الدآدي )
( كأن الصبح مات له شقيق ... فمن حزن تسربل بالحداد )
وقال ابن البراق في سوق هذه الحكاية انشدتنا حمدة العوفية لنفسها وقد خرجت متنزهة بالرملة من نواحي وادي آش فرأت ذات وجه وسيم أعجبها فقالت وبين الروايتين خلاف أباح الدمع إلى آخره ونسب بعضهم إلى حمدة هذه الأبيات الشهيرة بهذه البلاد المشرقية وهي
( وقانا لفحة الرمضاء واد ... سقاه مضاعف الغيث العميم )
( حللنا دوحة فحنا علينا ... حنو المرضعات على الفطيم )
( وأرشفنا على ظمإ زلالا ... ألذ من المدامة للنديم )
( يصد الشمس أنى واجهتنا ... فيحجبها ويأذن للنسيم )
( يروع حصاه حالية العذارى ... فتلمس جانب العقد النظيم )
وممن جزم بذلك الرعيني وقال إن مؤرخي بلادنا نسبوها لحمدة من من قبل أن يوجد المنازي الذي ينسبها له أهل المشرق وقد رأيت أن أذكر كلامه برمته ونصه كانت من ذوي الألباب وفحول أهل الآداب حتى إن بعض المنتحلين تعلق بهذه الأهداب وادعى نظم هذين البيتين يعني ولما أبى الواشون إلى آخره لما فيهما من المعاني والألفاظ العذاب وماغره في ذلك

إلا بعد دارها وخلو هذه البلاد المشرقية من أخبارها وقد تلبس بعضهم أيضا بشعهارها وادعى غير هذا من أشعارها وهو قولها وقانا لفحة الرمضاء واد وإلى آخره وإن هذه الأبيات نسبها أهل البلاد للمنازي من شعرائهم وركبوا التعصب في جادة ادعائهم وهي أبيات لم يخلبها غير لسانها ولا رقم برديها غير إحسانها ولقد رأيت المؤرخين من أهل بلادنا وهي الأندلس أثبتوها لها قبل أن يخرج المنازي من العدم إلى الوجود ويتصف بلفظة الموجود انتهى
وهو أبو جعفر الأندلسي الغرناطي نزيل حلب
وحكى ابن العديم في تاريخ حلب ما نصه وبلغني ان المنازي عمل هذه الأبيات ليعرضها على أبي العلاء المعري فلما وصل إليه أنشده الأبيات فجعل المنازي كلما أنشد المصراع الأول من كل بيت سبقه أبو العلاء إلى المصراع الثاني الذي هو تمام البيت كما نظمه ولما أنشده قوله
( نزلنا دوحه فحنا علينا )
فقال أبو العلاء
( حنو الوالدات على الفطيم )
فقال المنازي إنما قلت على اليتيم فقال أبو العلاء الفطيم أحسن انتهى
وهذا يدل على ان الرواية عنده حنو الوالدات وقد تقدم المرضعات والله تعالى اعلم
وقال ابن سعيد يقال لنساء غرناطة المشهورات بالحسب والجلالة العربيات لمحافظتهن على المعاني العربية ومن أشهرهن زينب بنت زياد الوادي آشي واختها حمدة وحمدة هذه هي القائلة وقد خرجت إلى نهر منقسم الجداول بين الرياض مع نسائها فسبحن في الماء وتلاعبن

( أباح الدمع أسراري بوادي ) الأبيات انتهى
17 - ومنهن عائشة بنت احمد القرطبية
قال ابن حيان في المقتبس لم يكن في زمانها من حرائر الأندلس من يعدلها علما وفهما وأدبا وشعرا وفصاحة تمدح ملوك الأندلس وتخاطبهم بما يعرض لها من حاجة وكانت حسنة الخط تكتب المصاحف وماتت عذراء لم تنكح سنة أربعمائة
وقال في المغرب إنها من عجائب زمانها وغرائب أوانها وأبو عبدالله الطبيب عمها ولو قيل إنها أشعر منه لجاز ودخلت على المظفر ابن المنصور بن أبي عامر وبين يديه ولد فارتجلت
( أراك الله فيه ما تريد ... ولا برحت معاليه تزيد )
( فقد دلت مخايله على ما ... تؤمله وطالعه السعيد )
( تشوقت الجياد له وهز الحسام ... هوى وأشرقت البنود )
( فسوف تراه بدرا في سماء ... من العليا كواكبه الجنود )
( وكيف يخيب شبل قد نمته ... إلى العليا ضراغمة أسود )
( فأنتم آل عامر خير آل ... زكا الأبناء منكم والجدود )
( وليدكم لدى رأي كشيخ ... وشيخكم لدى حرب وليد )
وخطبها بعض الشعراء ممن لم ترضه فكتبت إليه
( انا لبوة لكنني لا أرتضي ... نفسي مناخا طول دهري من احد )
( ولو أنني اختار ذلك لم أجب ... كلبا وكم غلقت سمعي عن أسد )

18 - ومنهن مريم بنت أبي يعقوب الأنصاري
سكنت إشبيلية و أصلها والله اعلم من شلب
وذكرها ابن دحية في المطرب وقال إنها أديبة شاعرة جزلة مشهورة وكانت تعلم النساء الأدب وتحتشم لدينها وفضلها وعمرت عمرا طويلا سكنت إشبيلية واشتهرت بها بعد الأربعمائة وذكرها الحميدي وأنشد لها جوابها لما بعث المهدي إليها بدنانير وكتب إليها
( مالي بشكر الذي اوليت من قبل ... لو أنني حزت نطق اللسن في الحلل )
( يافذة الظرف في هذا الزمان ويا ... وحيدة العصر في الإخلاص في العمل )
( أشبهت مريما العذراء في ورع ... وفقت خنساء في الأشعار والمثل )
ونص الجواب منها
( من ذا يجاريك في قول وفي عمل ... وقد بدرت إلى فضل ولم تسل )
( مالي بشكر الذى نظمت في عنقي ... من اللآلي وما اوليت من قبل )
( حليتني بحلى أصبحت زاهية ... بها على كل أنثى من حلى عطل )
( لله أخلاقك الغر التي سقيت ... ماء الفرات فرقت رقة الغزل )
( أشبهت مروان من غارت بدائعه ... وأنجدت وغدت من أحسن المثل )
( من كان والده العضب المهند لم ... يلد من النسل غيرالبيض والأسل )
ومن شعرها وقد كبرت
( وما يرتجى من بنت سبعين حجة ... وسبع كنسج العنكبوت المهلهل )
( تدب دبيب الطفل تسعى إلى العصا ... وتمشي بها مشي الأسير المكبل )

19 - ومنهن أسماء العامرية من اهل إشبيلية كتبت إلى عبدالمؤمن ابن على رسالة نمت فيها إليه بنسبها العامري وتسأله في رفع الانزال عن دارها والاعتقال عن مالها وفي آخرها قصيدة اولها
( عرفنا النصر والفتح المبينا ... لسيدنا أمير المؤمنينا )
( إذا كان الحديث عن المعالي ... رأيت حديثكم فينا شجونا )
ومنها
( رويتم علمه فعلمتموه ... وصنتم عهده فغدا مصونا )
20 - ومنهن ام الهناء بنت القاضي أبي محمد عبدالحق بن عطية سمعت أباها وكانت حاضرة النادرة سريعة التمثل من اهل العلم والفهم والعقل ولها تأليف في القبور ولما ولي أبوها قضاء المرية دخل داره وعيناه تذرفان وجدا لمفارقة وطنه فأنشدته متمثلة
( ياعين صار الدمع عندك عادة ... تبكين في فرح وفي أحزان )
وهذا البيت من جملة أبيات هي
( جاء الكتاب من الحبيب بأنه ... سيزورني فاستعبرت أجفاني )
( غلب السرور علي حتى إنه ... من عظم فرط مسرتي أبكاني )
وبعده البيت وبعده
( فاستقبلي بالبشر يوم لقائه ... ودعي الدموع لليلة الهجران )

21 - ومنهن مهجة القرطبية صاحبة ولادة رحمهما الله تعالى وكانت من أجل نساء زمانها وعلقت بها ولادة ولازمت تأديبها وكانت من أخف الناس روحا ووقع بينها وبين ولادة ما اقتضى ان قالت
( ولادة قد صرت ولادة ... من غير بعل فضح الكاتم )
( حكت لنا مريم لكنه ... نخلة هذي ذكر قائم )
قال بعض الأكابر لو سمع ابن الرومي هذا لأقر لها بالتقديم
ومن شعرها
( لئن قد حمى عن ثغرها كل حائم ... فما زال يحمى عن مطالبه الثغر )
( فذلك تحميه القواضب والقنا ... وهذا حماه من لواحظها السحر )
وأهدى إليها من كان يهيم بها خوخا فكتبت إليه
( يا متحفا بالخوخ أحبابه ... أهلا به من مثلج للصدور )
( حكى ثدي الغيد تفليكه ... لكنه أخزى رؤوس الأيور )
22 - ومنهن هند جارية أبي محمد عبدالله بن مسلمة الشاطبي وكانت أديبة شاعرة كتب إليها أبو عامر ابن ينق يدعوها للحضور عنده بعودها
( ياهند هل لك في زيارة فتية ... نبذوا المحارم غير شرب السلسل )
( سمعوا البلابل قد شدوا فتذكروا ... نغمات عودك في الثقيل الأول )
فكتبت إليه في ظهر رقعته
( ياسيدا حاز العلا عن سادة ... شم الأنوف من الطراز الأول )

( حسبي من الإسراع نحوك انني ... كنت الجواب مع الرسول المقبل )
23 - ومنهن الشلبية قال ابن الأبار ولم أقف على اسمها وكتبت إلى السلطان يعقوب المنصور تتظلم من ولاة بلدها وصاحب خراجه
( قد آن ان تبكي العيون الآبيه ... ولقد أرى أن الحجارة باكيه )
( ياقاصد المصر الذي يرجى به ... إن قدر الرحمن رفع كراهيه )
( ناد الأمير إذا وقفت ببابه ... ياراعيا إن الرعية فانيه )
( أرسلتها هملا ولا مرعى لها ... وتركتها نهب السباع العاديه )
( شلب كلا شلب وكانت جنة ... فأعادها الطاغون نارا حاميه )
( حافوا وماخافوا عقوبة ربهم ... والله لا تخفى عليه خافيه )
فيقال إنها ألقيت يوم الجمعة على مصلى المنصور فلما قضى الصلاة وتصفحها بحث عن القصة فوقف على حقيقتها وأمر للمرأة بصلة
وحكي أن بعض قضاة لوشة كانت له زوجة فاقت العلماء في معرفة الأحكام والنوازل وكان قبل أن يتزوجها ذكر له وصفها فتزوجها وكان في مجلس قضائه تنزل به النوازل فيقوم إليها فتشير عليه بما يحكم به فكتب إليه بعض أصحابه مداعبا بقوله
( بلوشة قاض له زوجة ... وأحكامها في الورى ماضيه )
( فيا ليته لم يكن قاضيا ... وياليتها كانت القاضيه )
فأطلع زوجته عليه حين قرأه فقالت ناولني القلم فناولها فكتبت بديهة
( هو شيخ سوء مزدرى ... له شيوب عاصيه )
( كلا لئن لم ينته ... لنسفعا بالناصيه )

وسمعت بعض أشياخنا يحكي القضية عن لسان الدين بن الخطيب وأنه هو الذي كتب يداعب زوج المرأة فكتبت إليه
( إن الإمام ابن الخطيب ... له شيوب عاصيه )
إلى آخره فالله أعلم
24 - ومنهن نزهون الغرناطية
قال في المغرب من أهل المائة الخامسة ذكرها الحجاري في المسهب ووصفها بخفة الروح والانطباع الزائد والحلاوة وحفظ الشعر والمعرفة بضرب الأمثال مع جمال فائق وحسن رائق وكان الوزير أبو بكر ابن سعيد أولع الناس بمحاضرتها ومذاكرتها ومراسلتها فكتب لها مرة
( يامن له ألف خل ... من عاشق وصديق )
( أراك خليت للناس ... منزلا في الطريق )
فأجابته
( حللت أبا بكر محلا منعته ... سواك وهل غير الحبيب له صدري )
( وإن كان لي كم من حبيب فإنما ... يقدم أهل الحق حب أبي بكر )
قيل لو قالت وإن كان خلاني كثيرا إلخ لكان أجود
ولما قال فيها المخزومي

( على وجه نزهون من الحسن مسحة ... وتحت الثياب العار لو كان باديا )
( قواصد نزهون توارك غيرها ... ومن قصد البحر استقل السواقيا )
قالت
( إن كان ما قلت حقا ... من بعض عهد كريم )
( فصار ذكري ذميما ... يعزى إلى كل لوم )
( وصرت أقبح شيء ... في صورة المخزومي )
وقد تقدمت حكايتها في الباب الأول من هذا فلتراجع
وقال لها بعض الثقلاء ماعلى من أكل معك خمسمائة سوط فقالت
( وذي شقوة لما رآني رأى له ... تمنيه أن يصلى معي جاحم الضرب )
( فقلت له كلها هنيئا فإنما ... خلقت إلى لبس المطارف والشرب )
679 - ابن قزمان
وقال ابن سعيد في طالعه لما وصف وصول ابن قزمان إلى غرناطه واجتماعه بجنته بقرية الزاوية من خارجها بنزهون القلاعية الأديبة وماجرى بينهما وانها قالت له بعقب ارتجال بديع وكان يلبس غفارة صفراء على زي الفقهاء حينئذ أحسنت يابقرة بني اسرائيل إلا أنك لا تسر الناظرين فقال لها إن لم أسر الناظرين فانا أسر السامعين وإنما يطلب سرور الناظرين منك يافاعلة ياصانعة وتمكن السكر من ابن قزمان وآل الأمر إلى أن تدافعوا معه حتى رموه في البركة فما خرج إلا وهو قد شرب كثيرا من الماء وثيابه تهطل فقال اسمع يا وزير ثم أنشد

( إيه أبا بكر ولا حول لي ... بدفع أعيان وأنذال )
( وذات فرج واسع دافق ... بالماء يحكي حال أذيالي )
( غرقتني في الماء ياسيدي ... كفرة بالتغريق في المال )
فأمر بتجريد ثيابه وخلع عليه ما يليق به ومر لهم يوم بعد عهدهم بمثله ولم ينتقل ابن قزمان من غرناطة إلا من بعد ما أجزل له الإحسان ومدحه بماهو ثابت له في ديوان أزجاله وحكي عنه فيما أظن أعني ابن قزمان ويحتمل أنه غيره أنه تبع إحدى الماجنات وكان أحول فأطمعته في نفسها وأشارت إليه أن يتبعها فاتبعها حتى أتت به سوق الصاغة بإشبيلية فوقفت على صائغ من صياغها وقالت له يامعلم مثل هذا يكون فص الخاتم الذي قلت لك عنه تشير إلى عين ذلك الأحول الذي تبعها وكانت قد كلفت ذلك الصائغ أن يعمل لها خاتما يكون فصه عين إبليس فقال لها الصائغ جيئيني بالمثال فإني لم أر هذا ولا سمعته قط فجاءته به عن مثال وحكاها بعضهم على وجه آخر وأنها ذهبت إلى الصائغ وقالت له صور لي صورة الشيطان فقال لها ائتيني بمثال فلما تبعها ابن قزمان جاءته به وقالت له مثل هذا فسأل ابن قزمان الصائغ فأعلمه فخجل ولعنها وكتب أبو بكر ابن قزمان على باب جنته
( وقائل ياحسنها جنة ... لا يدخل الحزن على بابها )
( فقلت والحق له صولة ... أحسن منها مجد أربابها )
وله
( كثير المال تمكسه فيفنى ... وقد يبقى مع الجود القليل )
( ومن غرست يداه ثمار جود ... ففي ظل الثناء له مقيل )
رجع إلى أخبار نزهون بنت القليعي
حكي أنها كانت تقرأ على أبي بكر المخزومي الأعمى فدخل عليهما أبو

بكر الكتندي فقال يخاطب المخزومي
( لو كنت تبصر من تجالسه ) فأفحم وأطال الفكر فما وجد شيئا فقالت نزهون
( لغدوت أخرس من خلاخله )
( البدر يطلع من أزرته ... والغصن يمرح في غلائله )
وكانت ماجنة ومن شعرها قولها
( لله در الليالي ما أحيسنها ... وما أحسن منها ليلة الأحد )
( لو كنت حاضرنا فيها وقد غفلت ... عين الرقيب فلم تنظر إلى احد )
( أبصرت شمس الضحى في ساعدي قمر ... بل ريم خازمة في ساعدي أسد )
680 - مقطعات لابن الزقاق
وهذا المعنى متفق مع قول ابن الزقاق
( ومرتجة الأرداف اما قوامها ... فلدن وأما ردفها فرداح )
( ألمت فبات الليل من قصر بها ... يطير ولا غير السرور جناح )
( فبت وقد زارت بأنعم ليلة ... يعانقني حتى الصباح صباح )
( على عاتقي من ساعديها حمائل ... وفي خصرها من ساعدي وشاح )
وابن الزقاق هذا له في النظم والغوص على المعاني الباع المديد ومن نظمه قوله

( رئيس الشرق محمود السجايا ... يقصر عن مدائحه البليغ )
( نسميه بيحيى وهو ميت ... كما ان السليم هو اللديغ )
( يعاف الورد إن ظمئت حشاه ... وفي مال اليتيم له ولوغ )
وقوله
( كتبت ولو أنني أستطيع ... لإجلال قدرك بين البشر )
( قددت اليراعة من انملي ... وكان المداد سواد البصر )
وقوله
( غرير يباري الصبح إشراق خده ... وفي مفرق الظلماء منه نصيب )
( ترف بفيه ضاحكا أقحوانه ... ويهتز في برديه منه قضيب )
وقوله
( ومهفهف نبت الشقيق بخده ... واهتز أملود النقا في برده )
( ماء الشبيبة والغرام أرق من ... صقل الحسام المنتقى وفرنده )
( يحيي الورى بتحية من وصله ... من بعدما وردوا الحمام بصده )
( إن كنت أهديت الفؤاد له فقل ... أي الجوى بجوانح لم يهده )
وقوله
( أرق نسيم الصبا عرفه ... وراق قضيب النقا عطفه )
( ومر بنا يتهادى وقد ... نضا سيف أجفانه طرفه )
( ومد لمبسمه راحة ... فخلت الأقاح دنا قطفه )
( أشارت بتقبيلها للسلام ... فقال فمي ليتني كفه )
وقوله
( بأبي من لم يدع لي لحظه ... في الهوى من رمق حين رمق )

( جمعت نكهته في ثغره ... عبقا في نسق يسبي الحدق )
( وبدت خجلته في خده ... شفقا في فلق تحت غسق )
وقال
( وعشية لبست ملاء شقيق ... تزهى بلون للخدود أنيق )
( أبقت بها الشمس المنيرة مثل ما ... أبقى الحياء بوجنتي معشوق )
( لو أستطيع شربتها كلفا بها ... وعدلت فيها عن كؤوس رحيق )
وقال في مسامرة كتاب زعماء
( لله ليلتنا التي استخذى بها ... فلق الصباح لسدفة الإظلام )
( طرأت علي مع النجوم بأنجم ... من فتية بيض الوجوه كرام )
( إن حوربوا فزعوا إلى بيض الظبى ... أو خوطبوا فزعوا إلى الأقلام )
( فترى البلاغة إن نظرت إليهم ... والبأس بين يراعة وحسام )
وقال
( ومجدين في السرى قد تعاطوا ... غفوات الهوى بغير كؤوس )
( جنحوا وانحنوا على العيس حتى ... خلتهم يعتبون أيدي العيس )
( نبذوا الغمض وهو حلو إلى أن ... وجدوه سلافة في الرؤوس )
وقال
( وحبب يوم السبت عندي أنني ... ينادمني فيه الذي انا أحببت )
( ومن أعجب الأشياء أني مسلم ... حنيف ولكن خير أيامي السبت )
ولنقتصر من نساء الأندلس على هذا المقدار ونعد إلى ماكنا فيه من جلب كلام بلغاء الأندلس ذوي الأقدار فنقول

681 - قال الخفاجي رحمه الله تعالى
( وهاتفة في البان تملي غرامها ... علينا وتتلو من صبابتها صحفا )
( عجبت لها تشكو الفراق جهالة ... وقد جاوبت من كل ناحية إلفا )
( ويشجى قلوب العاشقين أنينها ... وما فهموا مما تغنت به حرفا )
( ولو صدقت فيما تقول من الأسى ... لما لبست طوقا ولا خضبت كفا )
682 - وقال الأستاذ أبو محمد ابن صارة
( متى تلتقي عيناي بدر مكارم ... تود الثريا أنها من مواطئه )
( ولما أهل المدلجون بذكره ... وفاح تراب البيد مسكا لواطئه )
( عرفنا بحسن الذكر حسن صنيعه ... كما عرف الوادي بخضرة شاطئه )
وقال يتغزل
( يامن تعرض دونه شحط النوى ... فاستشرفت لحديثه أسماعي )
( إني لمن يحظى بقربك حاسد ... ونواظري يحسدن فيك رقاعي )
( لم تطوك الأيام عني إنما ... نقلتك من عيني إلى أضلاعي )
683 - مقطعات لابن العطار
وقال الأديب أبو القاسم ابن العطار
( عبرنا سماء الجو والنهر مشرق ... وليس لنا إلا الحباب نجوم )
( وقد ألبسته الأيك برد ظلالها ... وللشمس في تلك البرود رقوم )

وله أيضا
( لله بهجة نزهة ضربت به ... فوق الغدير رواقها الأنشام )
( فمع الأصيل النهر درع سابغ ... ومع الضحى يلتاح فيه حسام )
وقال أيضا
( هبت الريح بالعشي فحاكت ... زردا للغدير ناهيك جنه )
( وانجلى البدر بعد هدء فحاكت ... كفه للقتال منه أسنه )
وقال أيضا
( لله حسن حديقة بسطت لنا ... منها النفوس سوالف ومعاطف )
( تختال في حلل الربيع وحليه ... ومن الربيع قلائد ومطارف )
وله
( وسنان ما إن يزال عارضه ... يعطف قلبي بعطفة اللام )
( أسلمني للهوى فواحزني ... أن بزني عفتي وإسلامي )
( لحاظه أسهم وحاجبه ... قوس وإنسان عينه رامي )
684 - وارتجل أبو جعفر ابن خاتمة رحمه الله تعالى لما بات في قرية بيش

( لله منزلنا بقرية بيش ... كاد الهوى فيها ادكارا بي يشي )
( رحنا إليها والبطاح كأنها ... صحف مذهبة بإبريز العشي )
فأجازه الوزير ابن جزي بقوله
( في فتية هزت حميا الأنس من ... أعطافهم فالكل منها منتشي )
( يأتي علاهم بالصحيح ولفظهم ... بالمنتقى وجمالهم بالمدهش )
685 - وقال السلطان أبو الحجاج النصري مرتجلا أيام مقامه بظاهر جبل الفتح سنة 815
( ولم يتركوا أوطانهم بمرادهم ... ولكن الأحوال أشابت مفارقي )
( أقام بها ليل التهاني تقلبا ... وقد سكنت جهلا نفوس الخلائق )
( فعوضتها ليل الصبابة بالسرى ... وأنس التلاقي بالحبيب المفارق )
( ولم يثنني طرف من النور ناعس ... ولا معطف للبان وسط الحدائق )
( ولا منهض الأشبال في عقر غيرهم ... ولا ملعب الغزلان فوق النمارق )
( وعاطيتها صبح الدياجي مدامة ... تميل بها الركبان فوق الأيانق )
( إذا ما قطعنا بالمطي تنوفة ... دلجنا لأخرى بالجياد السوابق )
( بحيث التقى موسى مع الخضر آية ... عسى ترجع العقبى كموسى وطارق )
وله
( من عاذري من غزال زانه حور ... قد هام لما بدا في حسنه البشر )
( ألحاظه كسيوف الهند ماضية ... لها بقلبي وإن سالمتها أثر )
686 - وقال القاضي أبو القاسم ابن حاتم
( شكوت بما دهاك وكان سرا ... لمن ليست مودته صحيحة )
( فتلك مصيبة عادت ثلاثا ... لصحبتها الشماته والفضيحه )

687 - وقال الفقيه محمد بن سعيد الأندلسي مخاطبا للفقيه الفخار
( خفف علينا قليلا أيها العلم ... فربما كان فينا من به ألم )
( لا يستطيع نهوضا من تألمه ... وإن تمادى قليلا خانت القدم )
( كفى وصية مولانا وسيدنا ... محمد فاسمعوا ماقال والتزموا )
688 - وقال ابن جبير اليحصبي فيمن أهدى إليه تفاحا
( خليل لم يزل قلبي قديما ... يميل بفرط صاغية إليه )
( أتاني مقبلا والبشر يبدي ... وسائل برة كرمت لديه )
( وجاء بعرف تفاح ذكي ... فقلت أتى الخليل بسيبويه )
( فأهدى من جناه بكل شكل ... يلوح جمال مهديها عليه )
689 - وقال قاضي مالقة سيدي ابراهيم البدوي
( قطعت يأسي فصنت نفسي ... عن الوقوف لذي وجاهة )
( قصدت ربي فكان حسبي ... ألبسني فضله وجاهه )
( فلا يرى ينثني عناني ... مدى حياتي إلا تجاهه )
690 - وقال ابن خليل السكوني في فهرسته شاهدت بجامع العدبس بإشبيلية ربعة مصحف في أسفار ينحى به لنحو خطوط الكوفة إلا انه أحسن خطا وأبينه وأبرعه وأتقنه فقال لي الشيخ الأستاذ أبو الحسن ابن الطفيل بن عظيمة هذا خط ابن مقلة وأنشد
( خط ابن مقلة من أرعاه مقلته ... ودت جوارحه لو أنها مقل )
ثم قسنا حروفه بالضابط فوجدنا انواعها تتماثل في القدر والوضع فالألفات على قدر واحد واللامات كذلك والكافات والواوات وغيرها بهذه النسبة انتهى

قلت رأيت بالمدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام مصحفا بخط ياقوت المستعصمي بهذه المثابة وهو من الأوقاف الرستمية ورأيت بالحجرة الشريفة على صاحبها الصلاة والسلام مصحفا مكتوبا في آخره ما صورته كتبته بقلم واحد فقط ماقط قط إلا مرة فقط انتهى
رجع
691 - وقال ابن عبدون رحمه الله تعالى
( أذهبن من فرق الفراق نفوسا ... ونثرن من در الدموع نفيسا )
( فتبعتها نظر الشجي فحدقت ... رقباؤها نحوي عيونا شوسا )
( وحللن عقد الصبر إذ ودعنني ... فحللن أفلاك الخدور شموسا )
( حلته إذ حلته حتى خلته ... عرشا لها وحسبتها بلقيسا )
( فازور جانبها وكان جوابها ... لو كنت تهوانا صحبت العيسا ) وهي طويلة
قلت ما أظن لسان الدين نسج قصيدته من هذا البحر والروي إلا على منوال هذه وإن كان الحافظ التنسي قال إنه نسجها على قصيدة أبي تمام حسبما ذكر ذلك في محله فليراجع
692 - وقال أبو عبدالله ابن المناصف قاضي بلنسية ومرسية رحمه الله تعالى
( ألزمت نفسي خمولا ... عن رتبة الأعلام )
( لا يخسف البدر إلا ... ظهوره في تمام )
وتذكرت به قول غيره
( ليس الخمول بعار ... على امرىء ذي جلال )
( فليلة القدر تخفى ... وتلك خير الليالي )

693 - وقال الوزير ابن عمار وقد كتب له أبو المطرف ابن الدباغ شافعا لغلام طر له عذار
( أتاني كتابك مستشفعا ... بوجه أبى الحسن من رده )
( ومن قبل فضي ختم الكتاب ... قرأت الشفاعة في خده )
694 - وقال القاضي الأديب والفيلسوف الأريب أبو الوليد الوقشي قاضي طليطلة
( برح بي ان علوم الورى ... قسمان ما إن فيهما من مزيد )
( حقيقة يعجز تحصيلها ... وباطل تحصيله لا يفيد )
695 - وقال أبو عبدالله ابن الصفار وهو من بيت القضاء والعلم بقرطبة
( لا تحسب الناس سواء متى ... ما اشتبهوا فالناس أطوار )
( وانظر إلى الأحجار في بعضها ... ماء وبعض ضمنه نار )
وهذا مثل قول غيره
( الناس كالأرض ومنها هم ... من خشن الطبع ومن لين )
( مرو تشكى الرجل منه الوجى ... وإثمد يجعل في الأعين )
ومن نظم ابن الصفار المذكور
( إذا نويت انقطاعا ... فاعمل حساب الرجوع )
696 - وقال أبو مروان الجزيري
( ومن العجائب والعجائب جمة ... أن يلهج الأعمى بعيب الأعور )

697 - وقال حسان بن المصيصي كاتب الظافر بن عباد ملك قرطبة
( لا تأمنن من العدولبعده ... إن امرأ القيس اشتكى الطماحا )
698 - وقال الشيخ الأكبر سيدي محيي الدين بن عربي في كتابه الإسفار عن نتائج الأسفار أنشدني الكاتب الأديب أبو عمرو ابن مهيب بإشبيلية أبياتا عملها في حمود بن إبراهيم بن أبي بكر الهرغي وكان أجمل أهل زمانه رآه عندنا زائرا وقد خط عذاره فقلت يا أبا عمرو ماتنظر إلى حسن هذا الوجه فعمل الأبيات في ذلك وهي
( وقالوا العذار جناح الهوى ... إذا ما استوى طار عن وكره )
( وليس كذاك فخبرهم ... قياما بعذري أو عذره )
( إذا كمل الحسن في وجنة ... فخاتمه ويك من شعره )
قال بعضهم رأيت آخر الكتاب المذكور بعد فراغه شعرا نسبه إليه وهو
( ياحاضرا بجماله في خاطري ... ومحجبا بجلاله عن ناظري )
( إن غبت عن عيني فإنك نورها ... وضمير سرك سائر في سائري )
( ومن العجائب أنني أبدا إلى ... رؤياك ذو شوق مديد وافر )
( مع أنني ماكنت قط بمجلس ... إلا وكنت منادمي ومسامري )
699 - وأنشد في الإحاطة لعبدالله الجذامي
( أيا سيدي أشكو لمجدك أنني ... صددت مرارا عن مثولي بساحتك )
( شكاة اشتياق أنت حقا طبيبها ... وماراحتي إلا بتقبيل راحتك )
قال وهو عبدالله بن عبدالله بن أحمد بن محمد الجذامي فاضل ملازم

للقراءة عاكف على الخير مشارك في العربية خاطب للرياسة الأدبية اختص بالأمير أبي علي المنصور ابن السلطان أيام مقامه بالأندلس ومما خاطبه به معتذرا
( أيا سيدي 00البيتين ) انتهى
700 - وقال في ترجمة عبدالله بن أحمد المالقي قاضي غرناطة وكان فقيها بارع الأدب إنه كتب إلى أبي نصر صاحب القلائد والمطمح أثناء رسالة بقوله
( تفتحت الكتابة عن نسيم ... نسيم المسك في خلق كريم )
( أبا نصر رسمت لها رسوما ... تخال رسومها وضح النجوم )
( وقد كانت عفت فأنرت منها ... سراجا لاح في الليل البهيم )
( فتحت من الصناعة كل باب ... فصارت في طريق مستقيم )
( فكتاب الزمان ولست منهم ... إذا راموا مرامك في هموم )
( فما قس بأبدع منك لفظا ... ولا سحبان مثلك في العلوم )
701 - وقال الذهبي وقد جرى ذكر محمد بن الحسن المذحجي الأندلسي ابن الكتاني إنه أديب شاعر متفنن ذو تصانيف حمل عنه ابن حزم ومن شعره
( ألا قد هجرنا الهجر واتصل الوصل ... وبانت ليالي البين واجتمع الشمل )
( فسعدي نديمي والمدامة ريقها ... ووجنتها روضي وتقبيلها النقل )
702 - وقال العلامة محمد بن عبدالرحمن الغرناطي
( الشعب ثم قبيلة وعمارة ... بطن وفخذ والفصيلة تابعه )

( فالشعب مجتمع القبيلة كلها ... ثم القبيلة للعمارة جامعه )
( والبطن تجمعه العمائر فاعلمن ... والفخذ تجمعه البطون الواسعه )
( والفخذ يجمع للفصائل هاكها ... جاءت على نسق لها متتابعه )
( فخزيمة شعب وإن كنانة ... لقبيلة منها الفصائل شائعه )
( وقريشها تسمى العمارة يافتى ... وقصي بطن للأعادي قامعه )
( ذا هاشم فخذ وذا عباسها ... أثر الفصيلة لا تناط بسابعه )
وكتبت هذه الأبيات وإن لم تشتمل على البلاغة لما فيها من الفائدة ولأن بعض الناس سألني فيها لغرابتها والأعمال بالنيات
703 - ولما دخل أبو محمد الكلاعي الجياني على القاضي ابن رشد قام له فأنشده أبو محمد بديهة
( قام لي السيد الهمام ... قاضي قضاة الورى الإمام )
( فقلت قم بي ولا تقم لي ... فقلما يؤكل القيام )
704 - وقال أبو عبدالرحمن ابن جحاف البلنسي
( لئن كان الزمان أراد حطي ... وحاربني بأنياب وظفر )
( كفاني أن تصافيني المعالي ... وإن عاديتني يا أم دفر )
( فما اعتز اللئيم وإن تسامى ... ولا هان الكريم بغير وفر )
705 - وقال أبو محمد ابن برطله
( ألا إنما سيف الفتى صنو نفسه ... فنافس بأوفى ذمة وإخاء )
( يزينك مرأى أو يعينك حاجة ... فيحسن حالي شدة ورخاء )

وقال أيضا
( أنفسي صبرا لا يروعك حادث ... بإرتاجه واستشعري عاجل الفتح )
( فرب اشتداد في الخطوب لفرجة ... كما انشق ليل طال عن فلق الصبح )
وقال أيضا
( متى يدنو لوعدكم انتجاز ... ويبعد من حقيقته المجاز )
( أيجمل أن يؤمكم رجائي ... فيوقف لا يرد ولا يجاز )
( وجدكم كفيل بالأماني ... ومطلوبي قريب مستجاز )
( إذا ما امكنت فرص المساعي ... فعجز ان يطاولها انتهاز )
( وها انا قد هززتكم حساما ... ويحسن للمهندة اهتزاز )
( فما الإنصاف أن ينضى كهام ... ويودع غمده العضب الجراز )
( كما نعم العراق بعذب بحر ... ويشقى بالظما البرح الحجاز )
( فأعيى الناس في المقدار حكم ... تجاذبه خمول واعتزاز )
706 - وأنشد الشيخ أبو بكر ابن حبيش لابن وضاح البيت المشهور وهو
( أسرى وأسير في الآفاق من قمر ... ومن نسيم ومن طيف ومن مثل )

وابن حبيش المذكور هو أبو بكر محمد بن الحسن بن يوسف بن حبيش بفتح الحاء وقد عرف به تلميذه ابن رشيد الفهري في رحلته فقال بعد كلام أما النظم فبيده عنانه واما النثر فإن مال إليه توكف له بنانه مع تواضع زائد على صلة مخبره عائد لقيته بمنزله ليوم او يومين من مقدمي على تونس فتلقى بكل فن يونس وصادفته لحالة مرض من وثء في رجله عرض وعنده جملة من العواد من الصدور الأمجاد فأدنى وقرب وسهل ورحب وتفاوض اولئك الصدور في فنون من الأدب كانها الشذور إلى أن خاضوا في الأحاجي واستضاءوا بانوار أفكارهم في تلك الدياجي فخضت معهم في الحديث وأنشدتهم بيتين كنت صنعتهما وأنا حديث لقصة بلغتني عن أبي الحسن سهل بن مالك وهي انه كان يسائل أصحابه وهو في المكتب ويقول لهم أخرجوا اسمي فكل ينطق على تقديره فيقول لهم إنكم لم تصيبوه مع أنه سهل فنظمت هذا المعنى فقلت
( وما اسم فكه سهل يسير ... يكون مصغرا نجما يسير )
( مصحفه له في العين حسن ... وقلبي عند صاحبه أسير )
وكان الشيخ أبو بكر على فراشه فزحف مع ما به من ألم إلى محبرة وطرس وقلم وكتب البيتين بخطه وقال للحاضرين ارووا هذين البيتين عن قائلهما
ومن شيوخ ابن حبيش المذكور أبو عبدالله ابن عسكر المالقي كتب له ولأخيه أبي الحسين بخطه إجازة جميع مايجوز له وعنه وضمن آخرها هذه الأبيات

( أجبتكما لكن مقرا بانني ... أقصر فيما رمتما عن مداكما )
( فإنكما بدران في العلم أشرقا ... فسلم إذعانا وقسرا عداكما )
( فسيروا على حكم الوداد فإنني ... اجود بنفسي أن تكون فداكما )
قال ابن رشيد وقد جمع صاحبنا أبو العباس الأشعري لابن حبيش فهرسة جامعة ولما وقف عليها ابن حبيش كتب في أولها مانصه الحمد لله حق حمده أحسن هذا الفاضل فيما صنع أحسن الله إليه وبالغ فيما جمع بلغ الله تعالى به أشرف المراتب لديه غير أني أقول واحدة ما سريرتي لها بجاحدة وأصرح بمقال لا يسعني كتمه بحال والله ما انا للإجازة بأهل ولا مرامها لدي بسهل إذ من شرط المجيز ان يعد فيمن كمل ويعد العلم والعمل اللهم غفرا كيف ينيل من عدم وفرا أو يجيز من أصبح صدره من المعارف قفرا وصحيفته من الصالحات صفرا وكيف يرتسم في ديوان الجلة من يتسم بالأفعال المخلة ومتى يقترن الشبه بالإبريز او يوصف السكيت بالتبريز ومن ضعف النهى مجانسة الأقمار بالسها ومن اعظم التوبيخ تشييخ من لا يصلح للتشييخ وإن هذا المجموع ليروق ويعجب ولكنه جمع لمن لا يستوجب وإن القراءة قد تحصلت ولكن القواعد ما تأصلت وإن القارىء علم ولكن المقروء عليه عدم ولقد شكرت لهذا السري ما جلب وكتبت مسعفا له بما طلب وقرنت إلى دره هذا المخشلب قلت وحليي عطل ونطقي خطل مكره اخاك لا بطل والله سبحانه وتعالى ينفع بما اخلص له عند الاعتقاد ويسمح للبهرج عند الانتقاد كتبه العبد المذنب المستغفر محمد بن الحسن بن يوسف بن حبيش اللخمي حامدا لله تعالى

ومصليا على نبيه الكريم المصطفى وعلى آله أعلام الطهارة والهدى ومسلما تسليما
وكتب أيضا رحمه الله تعالى في جواب استجازه المسؤول مبذول إن شاء الله تعالى على التنجيز ولكن شروط الإجازة موجودة في المجاز معدومة في المجيز والله تعالى يصفح بكرمه ومنه ويشكر كل فاضل على تحصيل ظنه وهو المسؤول سبحانه أن يحفظ بعنايته مهجاتهم ويرفع بالعلم والعمل درجاتهم ويمتعهم بالكمال الرائق المعجب ويقر بالنجيبين عين المنجب وكتبه ابن حبيش انتهى
707 - وقال الوزير الكاتب أبو بكر ابن القبطرنة يستجدي بازيا من المنصور بن الأفطس صاحب بطليوس
( يا أيها الملك الذي آباؤه ... شم الأنوف من الطراز الأول )
( حليت بالنعم الجسام جسيمة ... عنقي فحل يدي كذاك بأجدل )
( وامنن به ضافي الجناح كانما ... حذيت قوائمه بريح شمأل )
( متلفتا والطل ينثر برده ... منه على مثل اليماني المحمل )
( أغدو به عجبا أصرف في يدي ... ريحا وآخذ مطلقا بمكبل )
708 - وأدخلت على المعتمد يوما باكورة نرجس فكتب إلى ابن عمار يستدعيه
( قد زارنا النرجس الذكي ... وآن من يومنا العشي )
( ونحن في مجلس أنيق ... وقد ظمئنا وفيه ري )
( ولي خليل غدا سميي ... ياليته ساعد السمي )
فأجابه ابن عمار
( لبيك لبيك من مناد ... له الندى الرحب والندي )

( ها انا بالباب عبد قن ... قبلته وجهك السني )
( شرفه والداه باسم ... شرفته أنت والنبي )
واصطبح المعتمد يوم غيم مع أم الربيع واحتجب عن الندماء فكتب إليه ابن عمار
( تجهم وجه الأفق واعتلت النفس ... لأن لم تلح للعين أنت ولا شمس )
( فإن كان هذا منكما من توافق ... وضمكما أنس فيهنيكما الأنس )
فأجابه المعتمد بقوله
( خليلي قولا هل علي ملامة ... إذا لم أغب إلا لتحضرني الشمس )
( وأهدي بأكواس المدام كواكبا ... إذا أبصرتها العين هشت لها النفس )
( سلام سلام أنتما الأنس كله ... وإن غبتما أم الربيع هي الأنس )
واستدعي جماعة من إخوان ابن عمار منه شرابا في موضع هو فيه مفقود فبعث لهم به وبرمانتين وتفاحتين وكتب لهم مع ذلك
( خذاها مثلما استدعيتماها ... عروسا لا تزف إلى اللئام )
( ودونكما بها ثديي فتاة ... أضفت إليهما خدي غلام )
709 - وشرب ذو الوزارتين القائد أبو عيسى ابن لبون مع الوزراء والكتاب ببطحاء لورقة عند أخيه وابن اليسع غائب فكتب إليه
( لو كنت تشهد ياهذا عشيتنا ... والمزن يسكن أحيانا وينحدر )
( والأرض مصفرة بالمزن طافية ... أبصرت درا عليه التبر ينتثر )
710 - وقال الحجاري من القصيدة المشهورة
( عليك أحالني الذكر الجميل )

في وصف زيه البدوي المستثقل ومافي طيه
( ومثلني بدن فيه خمر ... يخف به ومنظره ثقيل )
ولما انصرف عن ابن سعيد إلى ابن هود عذله ابن سعيد على تحوله عنه فقال النفس تواقة وما لي بغير التغرب طاقة ثم قال
( يقولون لي ماذا الملال تقيم في ... محل فعند الأنس تذهب راحلا )
( فقلت لهم مثل الحمام إذا شدا ... على غصن أمسى بآخر نازلا )
711 - وقد رأيت أن اكفر ماتقدم ذكره من الهزل الذي أتينا به على سبيل الإحماض بما لابد منه من الحكم والمواعظ وما يناسبها فنقول
1 - قال أبو العباس ابن خليل
( فهموا إشارات الحبيب فهاموا ... وأقام أمرهم الرشاد فقاموا )
( وتوسموا بمدامع منهلة ... تحت الدياجي والأنام نيام )
( وتلوا من الذكر الحكيم جوامعا ... جمعت لها الألباب والأفهام )
( ياصاح لو أبصرت ليلهم وقد ... صفت القلوب وصفت الأقدام )
( لرأيت نور هداية قد حفهم ... فسرى السرور وأشرق الإظلام )
( فهم العبيد الخادمون مليكهم ... نعم العبيد وأفلح الخدام )
( سلموا من الآفات لما استسلموا ... فعليهم حتى الممات سلام )
2 - وقال العالم الكبير الشهير صاحب التآليف أبو محمد عبدالحق الإشبيلي رحمه الله تعالى
( قالوا صف الموت يا هذا وشدته ... فقلت وامتد مني عندها الصوت )

( يكفيكم منه ان الناس إن وصفوا ... أمرا يروعهم قالوا هو الموت )
3 - وقال الخطيب الأستاذ أبو عبدالله محمد بن صالح الكناني الشاطبي نزيل بجاية
( جعلت كتاب ربي لي بضاعه ... فكيف أخاف فقرا او إضاعه )
( وأعددت القناعه رأس مال ... وهل شيء أعز من القناعه )
4 - وقال القاضي الكبير الأستاذ الشهير أبو العباس أحمد بن الغماز البلنسي نزيل افريقية
( هو الموت فاحذر ان يجيئك بغتة ... وأنت على سوء من الفعل عاكف )
( وإياك ان تمضي من الدهر ساعة ... ولا لحظة إلا وقلبك واجف )
( وبادر بأعمال تسرك أن ترى ... إذا نشرت يوم الحساب الصحائف )
( ولا تيأسن من رحمة الله إنه ... لرب العباد بالعباد لطائف )
وقال رحمه الله تعالى
( اما آن للنفس ان تخشعا ... أما آن للقلب أن يقلعا )
( أليس الثمانون قد أقبلت ... فلم تبق في لذة مطمعا )
( تقضى الزمان ولا مطمع ... لما قد مضى منه ان يرجعا )
( تقضى الزمان فواحسرتي ... لما فات منه وما ضيعا )
( ويا ويلتاه لذي شيبة ... يطيع هوى النفس فيما دعا )
( وبعدا وسحقا له إذ غدا ... يسمع وعظا ولن يسمعا )

5 - وقال الأستاذ الزاهد أبو إسحاق الإلبيري الغرناطي رحمه الله تعالى
( كل امرىء فيما يدين يدان ... سبحان من لم يخل منه مكان )
( ياعامر الدنيا ليسكنها وما ... هي بالتي يبقى بها سكان )
( تفنى وتبقى الأرض بعدك مثلما ... يبقى المناخ وترحل الركبان )
( أأسر في الدنيا بكل زيادة ... وزيادتي فيها هي النقصان )
وقال أيضا رحمه الله تعالى
( وذي غنى أوهمته همته ... أن الغنى عنه غير منفصل )

( يجر أذيال عجبه بطرا ... واختال للكبرياء في الحلل )
( بزته أيدي الخطوب بزته ... فاعتاض بعد الجديد بالسمل )
( فلا تثق بالغنى فآفته الفقر ... وصرف الزمان ذو دول )
( كفى بنيل الكفاف عنه غنى ... فكن به فيه غير محتفل )
وقال رحمه الله تعالى
( لا شيء أخسر صفقة من عالم ... لعبت به الدنيا مع الجهال )
( فغدا يفرق دينه أيدي سبا ... ويديله حرصا لجمع المال )
( لا خير في كسب الحرام وقلما ... يرجى الخلاص لكاسب الحلال )
( فخذ الكفاف ولا تكن ذا فضلة ... فالفضل تسأل عنه أي سؤال )
وقال رحمه الله تعالى
( الشيب نبه ذا النهى فتنبها ... ونهى الجهول فما استفاق ولا انتهى )
( فإلى متى ألهو وأخدع بالمنى ... والشيخ أقبح ما يكون إذا لها )
( ما حسنه إلا التقى لا أن يرى ... صبا بألحاظ الجآذر والمها )
( أنى يقاتل وهو مفلول الشبا ... كابى الجواد إذا استقل تأوها )
( محق الزمان هلاله فكأنما ... أبقى له منه على قدر السها )
( فغدا حسيرا يشتهي أن يشتهى ... ولكم جرى طلق الجموح كما اشتهى )
( إن أن اواه وأجهش بالبكا ... لذنوبه ضحك الجهول وقهقها )
( ليست تنبهه العظات ومثله ... في سنة قد آن أن يتنهنها )
( فقد اللدات وزاد غيا بعدهم ... هلا تيقظ بعدهم وتنبها )
( يا ويحه ما باله لا ينتهي ... عن غيه والعمر منه قد انتهى )

6 - وقال الأستاذ ولي الله سيدي أبو العباس ابن العريف
( من لم يشافه عالما بأصوله ... فيقينه في المشكلات ظنون )
( من أنكر الأشياء دون تيقن ... وتثبت فمعاند مفتون )
( الكتب تذكرة لمن هو عالم ... وصوابها بمحالها معجون )
( والفكر غواص عليها مخرج ... والحق فيها لؤلؤ مكنون )
7 - وقال أبو القاسم ابن الأبرش
( أيأسوني لما تعاظم ذنبي ... اتراهم هم الغفور الرحيم )
( فذروني وما تعاظم منه ... إنما يغفر العظيم العظيم )
8 - وقال أبو العباس ابن صقر الغرناطي أو المري وأصله من سرقسطة
( أرض العدو بظاهر متصنع ... إن كنت مضطرا إلى استرضائه )
( كم من فتى ألقى بوجه باسم ... وجوانحي تنقد من بغضائه )
9 - وقال الكاتب الشهير الشهيد أبو عبدالله محمد بن الأبار القضاعي البلنسي رحمه الله تعالى من أبيات

( يا شقيق النفس أوصيك وإن ... شق في الإخلاص ما تنتهجه )
( لا تبت في كمد من كبد ... رب ضيق عاد رحبا مخرجه )
( وبلطف الله أصبح واثقا ... كل كرب فعليه فرجه )
ولابن الأبار المذكور ترجمة طويلة استوفيت منها ما امكنني في ازهار الرياض في أخبار عياض وما يناسبها مما يحصل به للنفس ارتياح وللعقل ارتياض
قال الغبريني في عنوان الدراية لو لم يكن له من الشعر إلا قصيدته السينية التى رفعها للأمير أبي زكريا رحمه الله تعالى يستنجده ويستصرخه لنصرة الأندلس لكان فيه كفاية وإن كان قد نقدها ناقد وطعن عليه فيها طاعن ولكن كما قال أبو العلاء المعري
( تكلم بالقول المضلل حاسد ... وكل كلام الحاسدين هراء )
ولو لم يكن له من التآليف إلا كتابة المسمى معادن اللجين في مراثي الحسين لكفاه في ارتفاع درجته وعلو منصبه وسمو رتبته
ثم قال توفي بتونس ضحوة يوم الثلاثاء الموفي عشرين لمحرم سنة 658 ومولده آخر شهر ربيع سنة 595 ببلنسية رحمه الله تعالى وسامحه انتهى
وقال ابن علوان إنه يتصل سنده به من طرق منها من طريق الراوية أبي عبدالله محمد بن جابر القيسي الوادي آشي عن الشيخ المقرىء المحدث المتبحر أبي عبدالله محمد بن حيان الأوسي الأندلسي نزيل تونس عنه ومن طريق والدي صاحب عنوان الدراية عن الخطيب أبي عبدالله ابن صالح عنه انتهى
قلت وسندي إليه عن العم عن التنسي عن أبيه عن ابن مرزوق عن جده

الخطيب عن ابن جابر الوادي آشي به كما مر
10 - وقال ابن عبد ربه
( بادر الى التوبة الخلصاء مجتهدا ... والموت ويحك لم يمدد إليك يدا )
( وارقب من الله وعدا ليس يخلفه ... لابد لله من إنجاز ما وعدا )
11 - وقال الصدر أبو العلاء ابن قاسم القيسي
( ياواقف الباب في رزق يؤمله ... لا تقنطن فإن الله فاتحه )
( إن قدر الله رزقا أنت طالبه ... لا تيأسن فإن الله مانحه )
12 - وقال الأعمى التطيلي
( تنافس الناس في الدنيا وقد علموا ... أن سوف تقتلهم لذاتها بددا )
( قل للمحدث عن لقمان أو لبد ... لم يترك الدهر لقمانا ولا لبدا )
( وللذي همه البنيان يرفعه ... إن الردى لم يغادر في الثرى أحدا )
( ما لابن آدم لا تفنى مطامعه ... يرجو غدا وعسى أن لا يعيش غدا )
وقال أبو العباس التطيلي
( والناس كالناس إلا أن تجربهم ... وللبصيرة حكم ليس للبصر )
( كالأيك مشتبهات في منابتها ... وإنما يقع التفضيل في الثمر )
13 - وقال القاضي أبو العباس ابن الغماز البلنسي

( من كان يعلم لا محالة انه ... لابد ان يودي وإن طال المدى )
( هلا استعد لمشهد يجزي به ... من قد أعد من اهتدى ومن اعتدى )
وقال أيضا
( هو الموت فاحذر أن يجيئك بغتة ... وأنت على سوء من الفعل عاكف )
( وإياك أن تمضي من الدهر ساعة ... ولا لحظة إلا وقلبك واجف )
( فبادر بأعمال يسرك أن ترى ... إذا طويت يوم الحساب الصحائف )
( ولا تيأسن من رحمة الله إنه ... لرب العباد بالعباد لطائف )
14 - ولما استوزر باديس صاحب غرناطة اليهودي الشهير بابن نغدلة وأعضل داؤه المسلمين قال زاهد إلبيرة وغرناطة أبو إسحاق الإلبيري قصيدته النونية المشهورة التى منها في إغراء صنهاجة باليهود
( ألا قل لصنهاجة أجمعين ... بدور الزمان وأسد العرين )
( مقالة ذي مقة مشفق ... صحيح النصيحة دنيا ودين )
( لقد زل سيدكم زلة ... أقر بها أعين الشامتين )
( تخير كاتبه كافرا ... ولو شاء كان من المؤمنين )
( فعز اليهود به وانتموا ... وسادوا وتاهوا على المسلمين )
وهي قصيدة طويلة فثارت إذ ذاك صنهاجة على اليهود وقتلوا منهم مقتلة عظيمة وفيهم الوزير المذكور وعادة أهل الأندلس ان الوزير هو الكاتب فأراح الله البلاد والعباد ببركة هذا الشيخ الذي نور الحق على كلامه باد

15 - وقال أبو الطاهر الجياني المشهور بابن أبي ركب بفتح الراء وسكون الكاف
( يقول الناس في مثل ... تذكر غائبا تره )
( فما لي لا أرى وطني ... ولا أنسى تذكره )
وكان أبو الطاهر هذا في جمله من الطلبة فمر بهم رجل معه محبرة آبنوس تأنق في حليتها واحتفل في عملها فأراهم إياها وقال أريد أن أقصد بها بعض الأكابر وأريد أن تتمموا احتفالي بأن تصنعوا لي بينكم أبيات شعر أقدمها معها فأطرق الجماعة وقال أبو الطاهر
( وافتك من عدد العلا زنجية ... في حلة من حلية تتبختر )
( صفراء سوداء الحلي كأنها ... ليل تطرزه نجوم تزهر )
فلم يغب الرجل عنهم إلا يسيرا وإذا به قد عاد إليهم وفي يده قلم نحاس مذهب فقال لهم وهذا مما أعددته للدفع مع هذه المحبرة فتفضلوا بإكمال الصنيعة عندي بذكره فبدر أبو الطاهر وقال
( حملت بأصفر من نجار حليها ... تخفيه أحيانا وحينا يظهر )
( خرسان إلا حين يرضع ثديها ... فتراه ينطق ما يشاء ويذكر )
قال ابن الأبار في تحفة القادم وحضر يوما في جماعة من أصحابه وفيهم أبو عبدالله ابن زرقون في عقب شعبان في مكان فلما تملأوا من الطعام قال أبو الطاهر لابن زرقون أجز يا أبا عبدالله وأنشد
( حمدت لشعبان المبارك شبعة ... تسهل عندي الجوع في رمضان )

( كما حمد الصب المتيم زورة ... تحمل فيه الهجر طول زمان )
فقال
( دعوها بشعبانية ولو انهم ... دعوها بشبعانية لكفاني )
16 - وقال أبو عبدالله ابن خميس الجزائري
( تحفظ من لسانك ليس شيء ... أحق بطول سجن من لسان )
( وكن للصمت ملتزما إذا ما ... أردت سلامة في ذا الزمان )
وقال أيضا
( كن حلس بيتك مهما فتنة ظهرت ... تخلص بدينك وافعل دائما حسنا )
( وإن ظلمت فلا تحقد على احد ... إن الضغائن فاعلم تنشىء الفتنا )
وقال
( بدا لي أن خير الناس عيشا ... من آمنه الإله من الأنام )
( فليس لخائف عيش لذيذ ... ولو ملك العراق مع الشآم )
وله
( جانب جميع الناس تسلم منهم ... إن السلامة في مجانبة الورى )
( وإذا رأيت من امرىء يوما أذى ... لا تجزه أبدا بما منه ترى )
وله

( من أدب ابنا له صغيرا ... قرت به عينه كبيرا )
( وأرغم الأنف من عدو ... يحسد نعماءه كثيرا )
17 - وقال أبومحمد ابن هرون القرطبي
( بيد الإله مفاتح الرزق الذي ... أبوابه مفتوحة لم تغلق )
( عجبا لذي فقر يكلف مثله ... في الوقت شيئا عنده لم يخلق )
وقال أيضا
( لعمرك ما الإنسان يرزق نفسه ... ولكنما الرب الكريم يسخره )
( وما بيد المخلوق في الرزق حيلة ... تقدمه عن وقته او تؤخره )
18 - وقال الأديب الأستاذ أبو محمد ابن صارة رحمه الله تعالى
( يا من يصيخ إلى داعي السفاه وقد ... نادى به الناعيان الشيب والكبر )
( إن كنت لا تسمع الذكرى ففيم ثوى ... في رأسك الواعيان السمع والبصر )
( ليس الأصم ولا الأعمى سوى رجل ... لم يهده الهاديان العين والأثر )
( لا الدهر يبقى ولا الدنيا ولا الفلك الأعلى ... ولا النيران الشمس والقمر )
( ليرحلن عن الدنيا وإن كرها ... فراقها الثاويان البدو والحضر )
وقال رحمه الله تعالى في ابنة ماتت له
( ألا يا موت كنت بنا رؤوفا ... فجددت الحياة لنا بزوره )
( حماد لفعلك المشكور لما ... كفيت مؤونة وسترت عوره )
( فأنكحنا الضريح بلا صداق ... وجهزنا الفتاة بغير شوره )

19 - وانشد أبو عبدالله ابن الحاج البكري الغرناطي
( يا غاديا في غفلة ورائحا ... إلى متى تستحسن القبائحا )
( وكم إلى كم لا تخاف موقفا ... يستنطق الله به الجوارحا )
( ياعجبا منك وكنت مبصرا ... كيف تجنبت الطريق الواضحا )
( كيف تكون حين تقرا في غد ... صحيفة قد ملئت فضائحا )
( أم كيف ترضى ان تكون خاسرا ... يوم يفوز من يكون رابحا )
وممن روى عنه هذه الأبيات الكاتب الرئيس أبو الحسن ابن الجياب وتوفي ابن الحاج المذكور سنة 715 رحمه الله تعالى
20 - وقال حافظ الأندلس ومحدثها أبو الربيع سليمان بن موسى بن سالم الكلاعي رحمه الله تعالى
( إلهي مضت للعمر سبعون حجة ... ولي حركات بعدها وسكون )
( فيا ليت شعري أين أو كيف أو متى ... يكون الذي لا بد أن سيكون )
والصواب أنهما لغيره كما ذكرته في غير هذا الموضع وبالجملة فهما من كلام الأندلسيين وإن لم يحقق ناظمهما بالتعيين
21 - وقال أبو بكر يحيي التطيلي رحمه الله تعالى
( إليك بسطت الكف في فحمة الدجى ... نداء غريق في الذنوب عريق )
( رجاك ضميري كي تخلص جملتي ... وكم من فريق شافع لفريق )
22 - وحكي ان بعض المغاربة كتب إلى الملك الكامل بن العادل بن أيوب رقعة في ورقة بيضاء إن قرئت في ضوء السراج كانت فضية وإن قرئت في

الشمس كانت ذهبية وإن قرئت في الظل كانت حبرا أسود وفيها هذه الأبيات
( لئن صدني البحر عن موطني ... وعيني بأشواقها زاهره )
( فقد زخرف الله لي مكة ... بانوار كعبته الزاهره )
( وزخرف لي بالنبي يثربا ... وبالملك الكامل القاهره )
فقال الملك الكامل قل
( وطيب لي بالنبي طيبة ... وبالملك الكامل القاهره )
وأظن أن المغربي أندلسي لقوله لئن صدني البحر عن موطني فلذلك ادخلته في أخبار الأندلسيين ولست على تحقيق ويقين والله أعلم
23 - وأنشد ابن الوليد المعروف بابن الخليع قال أنشدنا أبو عمر ابن عبدالبر النمري الحافظ
( تذكرت من يبكي علي مداوما ... فلم ألف إلا العلم بالدين والخبر )
( علوم كتاب الله والسنن التي ... أتت عن رسول الله مع صحة الأثر )
( وعلم الألى من ناقديه وفهم ما ... له اختلفوا في العلم بالرأي والنظر )
وأنشد له أيضا
( مقالة ذي نصح وذات فوائد ... إذا من ذوي الألباب كان استماعها )
( عليكم بآثار النبي فإنه ... من آفضل أعمال الرشاد اتباعها )
24 - وقال أبو الحسن عبدالملك بن عياش الكاتب الأزدي اليابري وسكن أبوه قرطبة
( عصيت هوى نفسي صغيرا وعندما ... رمتني الليالي بالمشيب وبالكبر )

( أطعت الهوى عكس القضية ليتني ... خلقت كبيرا وانتقلت الى الصغر )
وقيل إن ابنه أبا الحسن علي بن عبدالملك قال بيتا مفردا في معني ذلك وهو
( هنيئا له إذ لم يكن كابنه الذي ... أطاع الهوى في حالتيه وما اعتبر )
وقيل إن هذا البيت رابع أربعة أبيات
25 - وقال أبو `إسحاق ابن خفاجه لما اجتمع به أبو العرب وسأله عن حاله وقد بلغ في عمره إحدى وثمانين سنة فأنشده لنفسه
( أي عيش او غذاء او سنه ... لابن إحدى وثمانين سنه )
( قلص الشيب به ظل امرىء ... طالما جر صباه رسنه )
( تارة تسطو به سيئة ... تسخن العين وأخرى حسنه )
26 - وقال أبو محمد عبدالوهاب بن محمد القيسي المالقي
( الموت حصاد بلا منجل ... يسطو على القاطن والمنجلي )
( لا يقبل العذر على حالة ... ماكان من مشكل آو من جلي )
27 - وقال الشيخ عبدالحق الإشبيلي الأزدي صاحب كتاب العاقية

والإحكام وغيرهما
( إن في الموت والمعاد لشغلا ... وادكارا لذي النهى وبلاغا )
( فاغتنم خطتين قبل المنايا ... صحة الجسم يا أخي والفراغا )
28 - وقال أبو الفضل عبدالمنعم بن عمر بن عبدالله بن حسان الغساني من اهل جليانة من عمل وادي آش
( ألا إنما الدنيا بحار تلاطمت ... فما أكثر الغرقى على الجنبات )
( وأكثر من صاحبت يغرق إلفه ... وقل فتى ينجى من الغمرات )
وكان المذكور من أهل العلم والأدب رحل وحج وتجول في البلاد ونزل القاهرة المعزية وكان أحد السياحين في الأرض وله تآليف منها جامع أنماط الوسائل في القريض والخطب والرسائل وأكثره من نظمه ونثره رحمه الله تعالى
29 - وقال عبدالعليم بن عبدالملك بن حبيب القضاعي الطرطوشي
( وما الناس إلا كالصحائف غيرت ... وألسنهم إلا كمثل التراجم )
( إذا اشتجر الخصمان في فطنة الفتى ... فمقوله في ذاك أعدل حاكم )
30 - وقال أبو الحكم عبدالمحسن البلنسي
( من كان للدهر خدنا في تصرفه ... أبدت له صفحة الدهر الأعاجيبا )
( من كان خلوا من الآداب سربله ... مر الليالي على الأيام تأديبا )
31 - وقال أبو حاتم عمر بن محمد بن فرج من أهل ميرتلة مدينة بغرب الأندلس يمدح شهاب القضاعي

( شهب السماء ضياؤها مستور ... عنا إذا أفلت توارى النور )
( فانزع هديت إلى شهاب نوره ... متألق آماله تبصير )
( تشفي جواهره القلوب من العمى ... ولطالما انشرحت بهن صدور )
( فإذا اتى فيه حديث محمد ... خذ في الصلاة عليه يا مغرور )
( وترحمن على القضاعي الذي ... وضع الشهاب فسعيه مشكور )
32 - وقال الأستاذ أبو محمد غانم بن وليد المخزومي المالقي
( ثلاثة يجهل مقدارها ... الأمن والصحة والقوت )
( فلا تثق بالمال من غيرها ... لو أنه در وياقوت )
وتذكرت بهذا قول الآخر
( إذا القوت تأتى لك ... والصحة والأمن )
( وأصبحت أخا حزن ... فلا فارقك الحزن )
وكل ذلك أصله الحديث النبوي على صاحبه فإنه قال من أصبح آمنا في سربه معافى في بدنه معه قوت يومه فكأنما سيقت له الدنيا بحذافيرها
وأخبرنا شيخنا القصار ابو عبدالله محمد بن قاسم القيسي مفتى مدينة فاس وخطيبها سنةة عشر وألف قال حدثنا شيخنا ابو عبدالله محمد بن أبي الفضل التونسي نزيل فاس الشهير بخروف قال حدثنا الإمام سيدي فرج الشريف

الطحطاوي قال سمعت النبي في النوم يقول من أصبح آمنا في سربه 000 الحديث
رجع
33 - وقال الأستاذ العارف بالله سيدي أبو العباس أحمد بن العريف الأندلسي دفين مراكش وقد زرت قبره بها سنة 1010
( إذا نزلت بساحتك الرزايا ... فلا تجزع لها جزع الصبي )
( فإن لكل نازلة عزاء ... بما قد كان من فقد النبي )
وقال رحمه الله تعالى
( شدوا الرحال وقد نالوا المنى بمنى ... ولكلهم بأليم الشوق قد باحا )
( راحت ركائبهم تندى روائحها ... طيبا بما طاب ذاك الوفد أشباحا )
( نسيم قبر النبي المصطفى لهم ... راح إذا سكروا من أجله فاحا )
( ياراحلين إلى المختار من مضر ... زرتم جسوما وزرنا نحن أرواحا )
( إنا أقمنا على شوق وعن قدر ... ومن أقام على عذر كمن راحا )
34 - وقال أبو محمد المحاربي
( داء الزمان واهله ... داء يعز له العلاج )
( أطلعت في ظلمائه ... رأيا كما سطع السراج )
( لمعاشر أعيا ثقا ... في من قناتهم اعوجاج )
( كالدر مالم تختبر ... فإذا اختبرت فهم زجاج )

35 - وقال أبو عبدالله غريب الثقفي القرطبي
( يهددني بمخلوق ضعيف ... يهاب من المنية ما اهاب )
( له أجل ولي أجل وكل ... سيبلغ حيث يبلغه الكتاب )
( ومايدري لعل الموت منه ... قريب أينا قبل المصاب )
وله
( أيها الآمل ماليس له ... طالما غر جهولا أمله )
( رب من بات يمني نفسه ... خانه دون مناه أجله )
( وفتى بكر في حاجاته ... عاجلا أعقب ريثا عجله )
( قل لمن مثل في أشعاره ... يذهب المرء ويبقى مثله )
( نافس المحسن في إحسانه ... فسيكفيك مسيئا عمله )
قال ابن الأبار وهذا البيت الأخير في برنامج الظبني
36 - وقال أبو الحسين سليمان بن الطراوة النحوي المالقي
( وقائلة أتصبو للغواني ... وقد أضحى بمفرقك النهار )
( فقلت لها حثثت على التصابي ... أحق الخيل بالركض المعار )
37 - وقال الحافظ أبو الربيع ابن سالم
( إذا برمت نفسي بحال أحلتها ... على أمل ناء فقرت به النفس )

( وأنزل أرجاء الرجاء ركائبي ... إذا رام إلماما بساحتي اليأس )
( وإن أوحشتني من اماني نبوة ... فلي في الرضى بالله والقدر الأنس )
38 - وقال أبو الحسن سلام بن عبدالله بن سلام الباهلي الإشبيلي مما أنشده لنفسه في كتابه الذي سماه ب الذخائر والأعلاق في أدب النفوس ومكارم الأخلاق
( إذا تم عقل المرء تمت فضائله ... وقامت على الإحسان منه دلائله )
( فلا تنكر الأبصار ماهو فاعله ... ولا تنكر الأسماع ماهو قائله )
وكان أبو المذكور من وزراء المعتمد بن عباد رحم الله تعالى الجميع
39 - وقال أبو بكر الزبيدي اللغوي
( اترك الهم إذا ما طرقك ... وكل الأمر إلى من خلقك )
( وإذا أمل قوم أحدا ... فإلى ربك فامدد عنقك )
40 - وقال القاضي أبو الوليد هشام بن محمد القيسي الشلبي المعروف بابن الطلاء فاوضت القاضي أبا عبدالله ابن شبرين ما يحذر من فتنة النظر إلى الوجوه الحسان فقلت
( لا تنظرن إلى ذي رونق أبدا ... واحذر عقوبة ما يأتي به النظر )
( فكم صريع رأيناه صريع هوى ... من نظرة قادها يوما له القدر )
فأجابني في المعنى الذي انتحيته

( إذا نظرت فلا تولع بتقليب ... فربما نظرة عادت بتعذيب ) ورب هنا للتكثير
41 - وقال الأستاذ ابن حوط الله
( أتدري أنك الخطاء حقا ... وأنك بالذي تاتي رهين )
( وتغتاب الألى فعلوا وقالوا ... وذاك الظن والإفك المبين )
قال في الإحاطة أبو محمد عبدالله بن سليمان بن داود بن عمر بن حوط الله الأنصاري الحارثي كان فقيها جليلا أصوليا كاتبا أديبا شاعرا متفننا في العلوم ورعا دينا حافظا ثبتا فاضلا درس كتاب سيبويه ومستصفى أبي حامد الغزالي وكان رحمه الله تعالى مشهورا بالعقل والفضل معظما عند الملوك معلوم القدر لديهم يخطب في مجالس الأمراء والمحافل الجمهورية مقدما في ذلك بلاغة وفصاحة إلى أبعد مضمار ولي قضاء إشبيلية وقرطبة ومرسية وسبتة وسلا وميورقة فتظاهر بالعدل وعرف بما أبطن من الدين والفضل وكان من العلماء العاملين مجانبا لأهل البدع والأهواء بارع الخط حسن التقييد وسمع الحديث فحصل له سماع لم يشاركه فيه أحد من أهل الغرب وسمع على الجهابذة كابن بشكوال وغيره وقرأ أكثر من ستين تأليفا بين كبار وصغار وكمل له على أبي محمد بن عبدالله بين قراءة وسماع نحو من ستة وثلاثين تأليفا منها الصحيحان وأكثر عن ابن حبيش وابن الفخار والسهيلي وغيرهم ومولده في محرم سنة 541 ومات بغرناطة سحر يوم الخميس ثاني ربيع الأول سنة 612 ونقل منها في تابوته الذي ألحد فيه يوم السبت تاسع عشر شعبان من السنة المذكورة إلى مالقة فدفن بها رحمه الله تعالى انتهى وبعضه بالمعنى مختصرا

وللمذكور ترجمة واسعة جدا وألمعت بما ذكر على وجه التبرك بذكره رحمه الله تعالى ورضي عنه
42 - وقال أبو المتوكل الهيثم بن أحمد السكوني الإشبيلي
( يجفى الفقير ويغشى الناس قاطبة ... باب الغني كذا حكم المقادير )
( وإنما الناس أمثال الفراش فهم ... يرون حيث مصابيح الدنانير )
وقال تلميذه ابن الأبار أنشدني بعض أصحابنا عنه هذين البيتين ولم أسمعهما منه انتهى
قلت وبهذا تعرف وهم من نسب البيتين إلى عبدالمهيمن الحضرمي فإن هذا كان قبل أن يخلق والد عبدالمهيمن الحضرمي وقد أنشدهما أيضا ابن الجلاب الفهري في روح الشعر وروح الشحر
43 - وقال أبو محمد القاسم بن الفتح الحجاري المعروف بابن افريولة
( ركابي بأرجاء الرجاء مناخة ... ورائدها علمي بأنك لي رب )
( وأنك علام بما أنا قائل ... كما أنت علام بما أضمر القلب )
( لئن آدها ذنب تولت بعبئه ... لقد قرعت بابا به يغفر الذنب )
وقال أيضا
( عجبا لحبر قد تيقن انه ... سيرى اقتراف يديه في ميزانه )
( ثم امتطى ظهر المعاصي جهرة ... لم يثنه التأنيب عن عصيانه )
( أنى عصى ولكل جزء نعمة ... من نفسه وزمانه ومكانه )
44 - وقال الشاعر الكبير الشهير ابو بكر يحيي بن عبدالجليل بن مجبر الفهري

( إن الشدائد قد تغشى الكريم لأن ... تبين فضل سجاياه وتوضحه )
( كمبرد القين إذ يعلو الحديد به ... وليس يأكله إلا ليصلحه )
وقال
( لا تغبط المجدب في علمه ... وإن رأيت الخصب في حاله )
( إن الذي ضيع من نفسه ... فوق الذي ثمر من ماله )
45 - وقال أبو الحجاج يوسف بن أحمد الأنصاري المنصفي البلنسي
( قالت لي النفس اتاك الردى ... وأنت في بحر الخطايا مقيم )
( هلا اتخذت الزاد قلت اقصري ... هل يحمل الزاد لدار الكريم )
وكان المنصفي المذكور صالحا وله رحلة حج فيها ومال إلى علم التصوف رحمه الله تعالى وله فيه أشعار حملت عنه
46 - وقال أبو عبدالله محمد بن عبدالله بن محمد بن الصائغ القرشي الأموي الأندلسي مخمسا أبيات عزالدين بن جماعة قاضي القضاة رحمه الله تعالى
( هم الأبي على مقدار منصبه ... وبسط راحته في طي منصبه )
( ما انت والدهر تشكو من تقلبه ... يا مبتلى بقضاء قد بليت به )
( عليك بالصبر واحذر يا أخي جزعك )
( صبرا فللصبر في حرب العدا عدد ... ذر العدو يمته الغيظ والحسد )
( ولا يكن لك إلا الله معتمد ... واعلم بأن جميع الخلق لو قصدوا )
( أذاك لم يقدروا والله قد رفعك )

( أعلاك في رتب غر معظمة ... بالعرف معروفة بالعلم معلمة )
( ومن يناويك في بهماء مظلمة ... فاصرف هواك وجانب كل مظلمة )
( واصحب فديتك من بالنصح قد نفعك )
( قد اجتلبت من الأيام تبصرة )
( وقد كفاك الهدى والذكر تذكرة )
( فاشكر وقدم مع الإخلاص معذرة ... واسأل إلهك في الإسحار مغفرة )
( منه وكن معه حتى يكون معك )
وتوفي المذكور بالقاهرة في الطاعون العام سنة 749
47 - وقال أبو عبدالله الحميدي
( الناس نبت وأرباب القلوب لهم ... روض وأهل الحديث الماء والزهر )
( من كان قول رسول الله حاكمه ... فلا شهود له إلا الألى ذكروا )
وقال أيضا
( من لم يكن للعلم عند فنائه ... أرج فإن بقاءه كفنائه )
( بالعلم يحيا المرء طول حياته ... فإذا انقضى أحياه حسن ثنائه )
وقال أ يضا
( دين الفقيه حديث يستضيء به ... عند الحجاج وإلا كان في الظلم )
( إن تاه ذو مذهب في قفر مشكلة ... لاح الحديث له في الوقت كالعلم )
ولما تعرض بعض من لا يبالي بما ارتكب إلى أصحابه الحديث بقوله
( أرى الخيرفي الدنيا يقل كثيره ... وينقص نقصا والحديث يزيد )

( فلو كان خيرا كان الخير كله ... ولكن شيطان الحديث مريد )
( ولابن معين في الرجال مقالة ... سيسأل عنها والمليك شهيد )
( فإن يك حقا قوله فهي غيبة ... وإن يك زورا فالقصاص شديد )
اجابه الإمام أبو عبدالله الحميدي بقصيدة طويلة منها
( وإني ألي إبطال قولك قاصد ... ولي من شهادات النصوص جنود )
( إذا لم يكن خيرا كلام نبينا ... لديك فإن الخير منك بعيد )
( وأقبح شيء أن جعلت لما اتى ... عن الله شيطانا وذاك شديد )
( وما زلت في ذكر الزيادة معجبا ... بها تبدىء التلبيس ثم تعيد )
( كلام رسول الله وحي ومن يرم ... زيادة شيء فهو فيه عنيد )
ومنها في ابن معين
( وماهو إلا واحد من جماعة ... وكلهم فيما حكوه شهود )
( فإن صد عن حكم الشهادة جاهل ... فإن كتاب الله فيه عتيد )
( ولولا رواة الدين ضاع وأصبحت ... معالمه في الآخرين تبيد )
( هم حفظوا الآثار من كل شبهة ... وغيرهم عما اقتنوه رقود )
( وهم هاجروا في جمعها وتبادروا ... إلى كل أفق والمرام كؤود )
( وقاموا بتعديل الرواة وجرحهم ... فدام صحيح النقل وهو جديد )
( بتبليغهم صحت شرائع ديننا ... حدود تحروا حفظها وعهود )
( وصح لأهل النقل منها احتجاجهم ... فلم يبق إلا عاند وحقود )
( وحسبهم أن الصحابة بلغوا ... وعنهم رووا لا يستطاع جحود )
( فمن حاد عن هذا اليقين فمارق ... مريد لإظهار الشكوك مريد )

( ولكن إذا جاء الهدى ودليله ... فليس لموجود الضلال وجود )
( وإن رام أعداء الديانة كيدها ... فكيدهم بالمخزيات مكيد )
48 - وقال أبو بكر محمد بن محرز الزهري البلنسي والتزم الراء في كل كلمة
( اشكر لربك وانتظر ... في إثر عسر الأمر يسرا )
( واصبر لربك وادخر ... في ستر ضر الفقر أجرا )
( فالدهر يعثر بالورى ... والصبر بالأحرار أحرى )
( والوفر أظهر معشرا ... والفقر بالأخيار يغرى )
وقال أيضا
( اقنع بما أوتيته تنل الغنى ... وإذا دهتك ملمة فتصبر )
( واعلم بأن الرزق مقسوم فلو ... رمنا زيادة ذرة لم نقدر )
( والله أرحم بالعباد فلا تسل ... بشرا تعش عيش الكرام وتؤجر )
( وإذا سخطت لضر حالك مرة ... ورأيت نفسك قد عدت فاستبصر )
( وانظر إلى من كان دونك تدكر ... لعظيم نعمته عليك فتشكر )
49 - وقال الحافظ أبو محمد ابن حزم انشدني والدي أحمد بن سعيد ابن حزم
( إذا شئت أن تحيا غنيا فلا تكن ... على حالة إلا رضيت بدونها )
50 - وقال القاضي أبو العباس أحمد بن الغماز البلنسي نزيل تونس
( وقالوا اما تخشى ذنوبا أتيتها ... ولم تك ذا جهل فتعذر بالجهل )

( فقلت لهم هبني كما قد ذكرتم ... تجاوزت في قولي وأسرفت في فعلي )
( اما في رضى مولى الموالي وصفحه ... رجاء ومسلاة لمقترف مثلي )
وأنشد رحمه الله تعالى لنفسه في اليوم الذي مات فيه وهو آخر ما سمع منه ليلة عاشوراء سنة 693
( أدعوك يارب مضطرا على ثقة ... بما وعدت كما المضطر يدعوكا )
( دارك بعفوك عبدا لم يزل أبدا ... في كل حال من الأحوال يرجوكا )
( طالت حياتي ولما اتخذ عملا ... إلا محبة أقوام أحبوكا )
51 - وقال ابن الزقاق ويقال إنها مكتوبة على قبره
( أإخواننا والموت قد حال دوننا ... وللموت حكم نافذ في الخلائق )
( سبقتكم للموت والعمر طية ... وأعلم أن الكل لا بد لاحقي )
( بعيشكم أو باضطجاعي في الثرى ... ألم نك في صفو من العيش رائق )
( فمن مر بي فليمض لي مترحما ... ولا يك منسيا وفاء الأصادق )
52 - وقال الخطيب أبو عبدالله محمد بن صالح الكتاني الشاطبي ومولده سنة 614
( أرى العمر يفنى والرجاء طويل ... وليس إلى قرب الحبيب سبيل )
( حباه إله الخلق أحسن سيرة ... فما الصبر عن ذاك الجمال جميل )
( متى يشتفي قلبي بلثم ترابه ... ويسمح دهر بالمزار بخيل )
( دللت عليه في أوائل أسطري ... فذاك نبي مصطفى ورسول )

53 - وقال أيمن بن محمد الغرناطي نزيل طيبة على ساكنها
( أرى حجرات قد احاطت عراصها ... ببحر محيط حصره غير ممكن )
( بحار المعالي والمعاني وإن طمت ... لدى لجة تفنى وعن هوله تني )
( محمد المحمود في كل موطن ... أبو القاسم المختار من خير معدن )
( نبي إذا أبصرت غرة وجهه ... تيقنت أن العز عز المهيمن )
( لك الله من بدر إذا الشمس قابلت ... محياه قالت إن ذا طالع سني )
وله
( كل القلوب مطيعة له في الهوى ... جانب فديتك من تشاء ووال )
( الحسن وال والقلوب رعية ... وعلى الرعية أن تطيع الوالي )
وقال أيضا
( ألا أيها الباكي على ما يفوته ... من الحظ في الدنيا جهلت وماتدري )
( على فوت حظ من جوار محمد ... حقيق بأن تبكي إلى آخر العمر )
( ستدري إذا قمنا وقد رفع اللوا ... وأحمدها دينا إلى موقف الحشر )
( من الفائز المغبوط في يوم عرضه ... أجار النبي المصطفى أم اخو الوفر )
وله
( فررت من الدنيا إلى ساكن الحمى ... فرار محب لائذ بحبيب )
( لجأت إلى هذا الجناب وإنما ... لجأت إلى سامي العماد رحيب )
( وناديت مولاي الذي عنده الغنى ... نداء عليل في الزمان غريب )

( أمولاي إني قد أتيتك لائذا ... وأنت طبيبي يا أجل طبيبي )
( فقال لك البشرى ظفرت من الرضى ... بأوفر حظ مجزل ونصيب )
( تناومت في أطلال ليل شبيبتي ... فأدركني بالفجر صبح مشيبي )
54 - وقال أبو بكر الزبيدي اللغوي
( لو لم تكن نار ولا جنة ... للمرء إلا أنه يقبر )
( لكان فيه واعظ زاجر ... ناه لمن يسمع أو يبصر )
ولقد صدق رحمه الله تعالى ورضي عنه
55 - ولبعض فقهاء طلبيرة
( رأيت الانقباض أجل شيء ... وأدعى في الأمور إلى السلامه )
( فهذا الخلق سالمهم ودعهم ... فرؤيتهم تؤول إلى الندامه )
( ولا تعنى بشيء غير شيء ... يقود إلى خلاصك في القيامه )
56 - وأمر الكاتب أبو بكر ابن مغاور بكتب هذه الأبيات على قبره وهي له
( أيها الواقف اعتبارا بقبري ... استمع فيه قول عظمي الرميم )
( أودعوني بطن الضريح وخافوا ... من ذنوب كلومها بأديمي )
( قلت لا تجزعوا علي فإني ... حسن الظن بالرؤوف الرحيم )
( ودعوني بما اكتسبت رهينا ... غلق الرهن عند مولى كريم )
57 - وقال الخطيب ابن صفوان

( رأيتك يدنيني إليك تباعدي ... فأبعدت نفسي لابتغائي في القرب )
( هربت له مني إليه فلم يكن ... بي البعد في قربي فصح به قربي )
( فيا رب هل نعمى على العبد بالرضى ... ينال بها فوزا من القرب بالقرب )
وقال الوادي آشي
وهذا النظم معناه جليل وتكرار القرب وإن قبح عند العروضي فهو عند المحب جميل وهم القوم يسلم لهم في الأفعال والأقوال وترتجى بركتهم في كل الأحوال انتهى
58 - وقال بعض قدماء الأندلس
( سئمت الحياة على حبها ... وحق لذي السقم أن يسأما )
( فلا عيش إلا لذي صحة ... تكون له للتقى سلما )
وذيله آخر منهم فقال
( ولا داء إلا لمن لم يزل ... يقارب في دينه مأثما )
( فلست تعالج جرح الهوى ... هديت بمثل التقى مرهما )
59 - وقال أبو جعفر أحمد السياسي القيسي المري
( إذا ما جنى يوما عليك جناية ... ظلوم يدق السمر بأسا ويقصف )
( فلا تنتقم يوما عليه بما جنى ... وكل امره للدهر فالدهر منصف )
وقال أيضا
( ليس حلم الضعيف حلما ولكن ... حلم من لو يشاء صال اقتدارا )

( من تغاضى عن السفيه بحلم ... أصبح الناس دونه أنصارا )
( من يزوج كريمة الهمة العليا ... علوا فقد أجاد الخيارا )
( ستريه عند الولاد بينها العلم ... والحلم والأناة كبارا )
60 - وقال الخطيب الصالح أبو إسحاق ابن أبي العاصي
( اعمل بعلمك تؤت علما إنما ... جدوى علوم المرء نهج الأقوم )
( وإذا الفتى قد نال علما ثم لم ... يعمل به فكأنه لم يعلم )
وقال موطئا على البيت الأخير
( أمولاي أنت العفو الكريم ... لبذل النوال وللمعذره )
( على ذنوب وتصحيفها ... ومن عندك الجود والمغفره )
61 - وقال الخطيب المتصوف الشهير أبو جعفر أحمد بن الزيات من بلش مالقة
( يقال خصال أهل العلم ألف ... ومن جمع الخصال الألف سادا )
( ويجمعها الصلاح فمن تعدى ... مذاهبه فقد جمع الفسادا )
وقال أيضا
( إن شئت فوزا بمطلوب الكرام غدا ... فاسلك من العمل المرضي منهاجا )
( واغلب هوى النفس لا يغررك خادعه ... فكل شيء يحط القدر منها جا )
62 - وقال الأديب الكبير الشهير أبو محمد عبدالله بن محمد بن صارة البكري الشنتريني رحمه الله تعالى

( بنو الدنيا بجهل عظموها ... فجلت عندهم وهي الحقيره )
( يهارش بعضهم بعضا عليها ... مهارشة الكلاب على العقيره )
وقال
( أي عذر يكون لا أي عذر ... لابن سبعين مولع بالصبابه )
( وهو ماء لم تبق منه الليالي ... في إناء الحياة إلا صبابه )
وقال أيضا
( ولقد طلبت رضى البرية جاهدا ... فإذا رضاهم غاية لا تدرك )
( وأرى القناعة للفتى كنزا له ... والبر أفضل مابه يتمسك )
63 - وقال أبو محمد ابن صاحب الصلاة الداني ويعرف بعبدون
( وعجل شيبي أن ذا الفضل مبتلى ... بدهر غدا ذو النقص فيه مؤملا )
( ومن نكد الدنيا على المرء أن يرى ... بها الحر يشقى واللئيم ممولا )
( متى ينعم المعتر عينا إذا اعتفى ... جوادا مقلا أو غنيا مبخلا )
64 - وقال أبو الحكم عبيدالله الأموي مولاهم الأندلسي
( إذا كان إصلاحي لجسمي واجبا ... فإصلاح نفسي لا محالة أوجب )
( وإن كان ما يفنى إلى النفس معجبا ... فإن الذي يبقى إلى العقل أعجب )
65 - وقال الفقيه الزاهد أبو إسحاق ابراهيم بن مسعود الإلبيري رحمه الله تعالى
( لله أكياس جفوا أوطانهم ... فالأرض أجمعها لهم أوطان )

( جالت عقولهم مجال تفكر ... وجلالة فبدا لها الكتمان )
( ركبت بحار الفهم في فلك النهى ... وجرى بها الإخلاص والإيمان )
( فرست بهم لما انتهوا بجفونهم ... مرسى لهم فيه غنى وأمان )
66 - وقال أبو جعفر ابن خاتمة رحمه الله تعالى
( يامن يغيث الورى من بعد ما قنطوا ... ارحم عبادا أكف الفقر قد بسطوا )
( عودتهم بسط أرزاق بلا سبب ... سوى جميل رجاء نحوه انبسطوا )
( وعدت بالفضل في ورد وفي صدر ... بالجود إن أقسطوا والحلم إن قسطوا )
( عوارف ارتبطت شم الأنوف لها ... وكل صعب بقيد الجود يرتبط )
( يامن تعرف بالمعروف فاعترفت ... بجم إنعامه الأطراف والوسط )
( وعالما بخفيات الأمور فلا ... وهم يجوز عليه لا ولا غلط )
( عبد فقير بباب الجود منكسر ... من شأنه ان يوافي حين ينضغط )
( مهما أتى ليمد الكف أخجله ... قبائح وخطايا أمرها فرط )
( يا واسعا ضاق خطو الخلق عن نعم ... منه إذا خطبوا في شكرها خبطوا )
( وناشرا بيد الإجمال رحمته ... فليس يلحق منه مسرفا قنط )
( ارحم عبادا بضنك العيش قد قنعوا ... فأينما سقطوا بين الورى لقطوا )
( إذا توزعت الدنيا فما لهم ... غير الدجنة لحف والثرى بسط )
( لكنهم من ذرا علياك في نمط ... سام رفيع الذرى ما فوقه نمط )
( ومن يكن بالذي يهواه مجتمعا ... فما يبالي أقام الحي أم شحطوا )

( نحن العبيد وأنت الملك ليس سوى ... وكل شيء يرجى بعد ذا شطط )
وقال رحمه الله تعالى
( ملاك الأمر تقوى الله فاجعل ... تقاه عدة لصلاح أمرك )
( وبادر نحو طاعته بعزم ... فما تدري متى يمضي بعمرك )
وقال أيضا
( إذا كنت تعلم أن الأمور ... بحكم الاله كما قد قضى )
( فغيم التفكر والحكم ماض ... ولا رد للحكم مهما مضى )
( فخل الوجود كما شاءه ... مدبره وابغ منه الرضى )
وقال
( إذا ما الدهر نابك منه خطب ... وشد عليك من حنق عقاله )
( فكل لله أمرك لا تفكر ... ففكرك فيه خبط في حباله )
وقال
( عدوك داره ما اسطعت حتى ... يعود لديك كالخل الشفيق )
( فما في الأرض أردى من عدو ... ومافي الأرض أجدى من صديق )
وقال
( إن أعرضت دنياك عنك بوجهها ... وغدت ومنها في رضاك نزاع )
( فاحذر بنيها واحتفظ من شرهم ... إن البنين لأمهم أتباع )

وقال
( يا مجيب المضطر عند الدعاء ... منك دائي وفي يديك دوائي )
( جذبتني الدنيا إليها بضبعي ... ودعتني لمحنتي وشقائي )
( يا إلهي وأنت تعلم حالي ... لا تذرني شماتة الأعداء )
67 - وقال الحافظ الكبير الشهير أبو عبدالله الحميدي صاحب الجمع بين الصحيحين رحمه الله تعالى
( كتاب الله عز و جل قولي ... وما صحت به الآثار ديني )
( وما اتفق الجميع عليه بدءا ... وعودا فهو عن حق مبين )
( فدع ماصد عن هذي وخذها ... تكن منها على عين اليقين )
وقال
( طريق الزهد أفضل ما طريق ... وتقوى الله بادية الحقوق )
( فثق بالله يكفك واستعنه ... يعنك وذر بنيات الطريق )
68 - وقال أبو بكر مالك بن جبير رحمه الله تعالى
( رحلت وإنني من غير زاد ... وما قدمت شيئا للمعاد )
( ولكني وثقت بجود ربي ... وهل يشقى المقل مع الجواد )
وتوفي المذكور بأريولة أعادها الله تعالى إلى الإسلام سنة 561
69 - وقال ابن جبير اليحصبي وهو الكاتب أبو عبدالله محمد
( كلما رمت أن أقدم خيرا ... لمعادي ورمت أني أتوب )

( صرفتني بواعث النفس قسرا ... فتقاعست والذنوب ذنوب )
( رب قلب قلبي لعزمة خير ... لمتاب ففي يديك القلوب )
ولتعلم أن كلام أهل الأندلس بحر لا ساحل له ويرحم الله تعالى لسان الدين بن الخطيب حيث قال في صدر الإحاطة وهذا الغرض الذي وضعنا له هذا التأليف يطلبنا فيه ما قصدنا به من المباهاة والافتخار بالإكثار واستيعاب النظام والنثار ويحملنا فيه خوف السآمة على الاختصار والاقتصاد وكفى بهذا جلاء في الأعذار والله تعالى مقيل العثار وساتر العيب المثار بفضله انتهى
70 - ولنختم هذا الباب بقول أبي زكريا يحيى بن سعد بن مسعود القلني
( عفوك اللهم عنا ... خير شيء نتمنى )
( رب إنا قد جهلنا ... في الذي قد كان منا )
( وخطينا وخلطنا ... ولهونا ومجنا )
( إن نكن رب أسأنا ... ما أسأنا بك ظنا )
وذيلته بقولي
( فأنلنا الختم بالحسنى ... وإنعاما ومنا آمين )

الباب الثامن
في ذكر تغلب العدو الكافر على الجزيرة بعد صرفه وجوه الكيد إليها وتضريبه بين ملوكها ورؤسائها بمكره واستعماله في أمرها حيل فكره حتى استولى دمره الله تعالى عليها ومحا منها التوحيد واسمه وكتب على مشاهدها ومعاهدها وسمه وقرر مذهب التثليث والرأي الخبيث لديها واستغاث أهلها استغاثة أضرابها بالنظم والنثر أهل ذلك العصر من سائر الأقطار حين تعذرت بحصارها مع قلة حماتها وأنصارها المآرب والأوطار وجاءها الأعداء من خلفها ومن بين يديها اعاد الله تعالى إليها كلمة الإسلام وأقام فيها شريعة سيد الأنام عليه أفضل ورفع يد الكفر عنها وعما حواليها آمين
ظهور بلاي وخلفائه
قال غير واحد من المؤرخين أول من جمع فل النصارى بالأندلس بعد غلبة العرب لهم علج يقال له بلاي من أهل أشتوريش من جليقية كان رهينة عن طاعة أهل بلده فهرب من قرطبة أيام الحر بن عبدالرحمن الثقفي الثاني من أمراء العرب بالأندلس وذلك في السنة السادسة من افتتاحها وهي سنة ثمان وتسعين من الهجرة وثار النصارى معه على نائب الحر بن عبدالرحمن فطردوه وملكوا البلاد وبقي الملك فيهم إلى الآن وكان عدة من ملك منهم إلى آخر أيام الناصر لدين الله اثنين وعشرين ملكا انتهى
وقال عيسى بن أحمد الرازي في أيام عنبسة بن سحيم الكلبي قام بأرض

جليقية علج خبيث يقال له بلاي من وقعة أخذ النصارى بالأندلس وجد الفرنج في مدافعة المسلمين عما بقي بأيديهم وقد كانوا لا يطمعون في ذلك ولقد استولى المسلمون بالأندلس على النصرانية وأجلوهم وافتتحوا بلادهم حتى بلغوا أريولة من أرض الفرنجة وافتتحوا بلبونة من جليقية ولم يبق إلا الصخرة فإنه لاذ بها ملك يقال له بلاي فدخلها في ثلاثمائة رجل ولم يزل المسلمون يقاتلونه حتى مات أصحابه جوعا وبقي في ثلاثين رجلا وعشر نسوة ولا طعام لهم إلا العسل يشتارونه من خروق بالصخرة فيتقوتون به حتى أعيا المسلمين أمرهم واحتقروا بهم وقالوا ثلاثون علجا ما عسى أن يجيء منهم فبلغ أمرهم بعد ذلك من القوة والكثرة ما لاخفاء به وفي سنة 133 هلك بلاي المذكور وملك ابنه فافله بعده وكان ملك بلاي تسع عشرة سنة وابنه سنتين فملك بعدهما أذفونش بن بيطر جد بني أذفونش هؤلاء الذين اتصل ملكهم إلى اليوم فأخذوا ما كان المسلمون أخذوه من بلادهم انتهى باختصار
وقال المسعودي بعد ذكره غزوة سمورة أيام الناصر ماصورته وأخذ ماكان بأيدي المسلمين من ثغور الأندلس مما يلى الفرنجة ومدينة أربونة خرجت عن أيدي المسلمين سنة 330 مع غيرها مما كان بأيديهم من المدن والحصون وبقي ثغر المسلمين في هذا الوقت وهو سنة 336 من شرق الأندلس طرطوشة وعلى سائر بحر الروم مما يلى طرطوشة آخذا في الشمال إفراغه على نهر عظيم ثم لاردة انتهى

الاستيلاء على طليطلة
ومن اول ما استرد الإفرنج من مدن الأندلس العظيمة مدينة طليطلة من يد ابن ذي النون سنة 475 وفي ذلك يقول عبدالله بن فرج اليحصبي المشهور بابن العسال
( يا أهل أندلس حثوا مطيكم ... فما المقام بها إلا من الغلط )
( الثوب ينسل من أطرافه وأرى ... ثوب الجزيرة منسولا من الوسط )
( ونحن بين عدو لا يفارقنا ... كيف الحياة مع الحيات في سفط )
ويروى صدر البيت الثالث هكذا
( من جاور الشر لا يأمن بوائقه ... كيف الحياة مع الحيات في سفط )
وتروى الأبيات هكذا
( حثوا رواحلكم يا أهل أندلس ... فما المقام بها إلا من الغلط )
( السلك ينثر من أطرافه وأرى ... سلك الجزيرة منثورا من الوسط )
( من جاور الشر لا يأمن عواقبه ... كيف الحياة مع الحيات في سفط )
وقال آخر
( يا أهل أندلس ردوا المعار فما ... في العرف عارية إلا مردات )
( ألم تروا بيدق الكفار فرزنه ... وشاهنا آخر الأبيات شهمات )
وقال بعض المؤرخين أخذ الأذفونش طليطلة من صاحبها القادر بالله بن المأمون يحيى بن ذي النون بعد أن حاصرها سبع سنين وكان أخذه لها في منتصف محرم سنة 478 انتهى وفيه بعض مخالفة لما قبله في وقت أخذها وسيأتى قريبا بعض ما يؤيده

قال وهي مدينة حصينة قديمة ازلية من بناء العمالقة على ضفة النهر الكبير ولها قصبة حصينة في غاية المنعة ولها قنطرة واحدة عجيبة البنيان على قوس واحد والماء يدخل تحته بعنف وشدة جري ومع آخر النهر ناعورة ارتفاعها في الجو تسعون ذراعا وهي تصعد الماء إلى أعلى القنطرة ويجرى الماء على ظهرها فيدخل المدينة وطليطلة هذه دار مملكة الروم وبها كان البيت المغلق الذي كانوا يتحامون فتحه حتى فتحه لذريق فوجد فيه صورة العرب انتهى
وقد تقدم شيء من هذا فيما مر من هذا الكتاب
وقد حكى ابن بدرون في شرح العبدونية أن المأمون يحيى بن ذي النون صاحب طليطلة بنى بها قصرا تأنق في بنائه وأنفق فيه مالا كثيرا وصنع فيه بحيرة وبنى في وسطها قبة وسيق الماء إلى رأس القبة على تدبير أحكمه المهندسون فكان الماء ينزل من أعلى القبة حواليها محيطا بها متصلا بعضه ببعض فكانت القبة في غلالة من ماء سكب لا يفتر والمأمون بن ذي النون قاعد فيها لا يمسه من الماء شيء ولو شاء أن يوقد فيها الشمع لفعل فبينما هو فيها إذ سمع منشدا ينشد
( أتبني بناء الخالدين وإنما ... بقاؤك فيها لو علمت قليل )
( لقد كان في ظل الأراك كفاية ... لمن كل يوم يعتريه رحيل )
فلم يلبث إلا يسيرا حتى قضى نحبه انتهى
وقال ابن خلكان إن طليطلة أخذت يوم الثلاثاء مستهل صفر سنة 478 بعد حصار شديد انتهى

وقال ابن علقمة إن طليطلة اخذت يوم الأربعاء لعشر خلون من المحرم سنة 478 وكانت وقعة الزلاقة فى السنة بعدها انتهى
وقعة الزلاقة نقلا عن الروض المعطار وغيره
ورأيت أن أذكر هنا وقعة الزلاقة التى نشأت عن أخذ طليطلة وما يتبع ذلك من كلام صاحب الروض المعطار وغيره فنقول إنه لما ملك يوسف ابن تاشفين اللمتوني المغرب وبني مدينتي مراكش وتلمسان الجديدة وأطاعته البربر مع شكيمتها الشديدة وتمهدت له الأقطار الطويلة المديدة تاقت نفسه إلى العبور لجزيرة الأندلس فهم بذلك وأخذ في إنشاء المراكب والسفن ليعبر فيها فلما علم بذلك ملوك الأندلس كرهوا إلمامه بجزيرتهم وأعدوا له العدة والعدد وصعبت عليهم مدافعته وكرهوا أن يكونوا بين عدوين الفرنج من شمالهم والمسلمين من جنوبهم وكانت الفرنج تشتد وطأتها عليهم وتغير تنهب وربما يقع بينهم صلح على شيء معلوم كل سنة يأخذونه من المسلمين والفرنج ترهب ملك المغرب يوسف بن تاشفين إذ كان له اسم كبير وصيت عظيم لنفاذ أمره وسرعة تملكه بلاد المغرب وانتقال الأمر إليه في أسرع وقت مع ما ظهر لأبطال الملثمين ومشايخ صنهاجة في المعارك من ضربات السيوف التى تقد الفارس والطعنات التى تنظم الكلى فكان له بسبب ذلك ناموس ورعب في قلوب المنتدبين لقتاله وكان ملوك الأندلس يفيئون إلى ظله ويحذرونه خوفا على ملكهم مهما عبر إليهم وعاين بلادهم فلما رأوا ما دلهم على عبوره إليهم وعلموا ذلك راسل بعضهم بعضا يستنجدون آراءهم في أمره وكان مفزعهم في ذلك إلى المعتمد بن عباد لأنه أشجع القوم وأكبرهم مملكة فوقع اتفاقهم

على مكاتبته لما تحققوا انه يقصدهم يسألونه الإعراض عنهم وانهم تحت طاعته فكتب عنهم كاتب من أهل الأندلس كتابا وهو أما بعد فإنك إن أعرضت عنا نسبت إلى كرم ولم تنسب إلى عجز وإن أجبنا داعيك نسبنا إلى عقل ولم ننسب إلى وهن وقد اخترنا لأنفسنا أجمل نسبتينا فاختر لنفسك أكرم نسبتيك فإنك بالمحل الذى لا يجب أن تسبق فيه الى مكرمة وإن في استبقائك ذوي البيوت ما شئت من دوام لأمرك وثبوت والسلام فلما وصله الكتاب مع تحف وهدايا وكان يوسف بن تاشفين لا يعرف باللسان العربي لكنه ذكي الطبع يجيد فهم المقاصد وكان له كاتب يعرف اللغتين العربية والمرابطية فقال له أيها الملك هذا الكتاب من ملوك الأندلس يعظمونك فيه ويعرفونك أنهم أهل دعوتك وتحت طاعتك ويلتمسون منك أن لا تجعلهم في منزلة الأعادي فانهم مسلمون وذوو بيوتات فلا تغير بهم وكفى بهم من وراءهم من الأعداء الكفار وبلدهم ضيق لا يحتمل العساكر فأعرض عنهم إعراضك عمن أطاعك من أهل الغرب فقال يوسف بن تاشفين لكاتبه فما ترى أنت فقال أيها الملك أعلم أن تاج الملك وبهجته شاهده الذي لا يرد فإنه خليق بما حصل في يده من الملك والمال أن يعفو إذا استعفي وأن يهب إذا استوهب وكلما وهب جليلا جزيلا كان لقدره أعظم فإذا عظم قدره تأصل ملكه وإذا تأصل ملكه تشرف الناس بطاعته وإذا كانت طاعته شرفا جاءه الناس ولم يتجشم المشقة إليهم وكان وارث الملك من غير إهلاك لآخرته واعلم أن بعض الملوك الحكماء الأكابر البصراء بطريق تحصيل الملك قال من جاد ساد ومن ساد قاد ومن قاد ملك البلاد فلما ألقى الكاتب هذا الكلام على السلطان يوسف بلغته فهمه وعلم صحته فقال للكاتب أجب القوم واكتب بما يجب في ذلك واقرأ علي كتابك فكتب الكاتب بسم الله الرحمن الرحيم من يوسف بن تاشفين سلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته تحية من سالمكم وسلم عليكم وإنكم مما في أيديكم من الملك في أوسع إباحة مخصوصين منا بأكرم إيثار

وسماحة فاستديموا وفاءنا بوفائكم واستصلحوا إخاءنا بإصلاح إخائكم والله ولي التوفيق لنا ولكم والسلام فلما فرغ من كتابه قرأه على يوسف بن تاشفين بلسانه فاستحسنه وقرن به ما يصلح لهم من التحف ودرق اللمط التى لا توجد إلا ببلاده وأنفذ ذلك إليهم فلما وصلهم ذلك وقرأوا كتابه فرحوا به وعظموه وسروا بولايته وتقوت نفوسهم على دفع الفرنج عنهم وازمعوا إن راوا من الفرنج ما يريبهم أنهم يرسلون إلى يوسف بن تاشفين ليعبر إليهم أو يمدهم بإعانة منه
وكان ملك الإفرنج الأذفونش لما وقعت الفتنة بالأندلس وثار الخلاف وكان كل من حاز بلدا وتقوى فيه ملكه وادعى الملك وصار مثل ملوك الطوائف فطمع فيهم الأذفونش بسبب ذلك وأخذ كثيرا من ثغورهم فقوي شأنه وعظم سلطانه وكثرت عساكره وأخذ طليطلة من صاحبها القادر بالله بن المأمون يحيى بن ذي النون بعد أن حاصرها سبع سنين وكان أخذه لها في منتصف محرم سنة ثمان وسبعين وأربعمائة فزاد لعنه الله تعالى بملكه طليطلة قوة إلى قوته وأخذ يجوس خلال الديار ويستفتح المعاقل والحصون
قال ابن الأثير في الكامل وكان المعتمد بن عباد أعظم ملوك الأندلس ومتملك أكثر بلادها مثل قرطبة وإشبيلية وكان مع ذلك يؤدي الضريبة إلى الأذفونش كل سنة فلما تملك الأذفونش طليطلة أرسل إليه المعتمد الضريبة المعتادة فلم يقبلها منه وأرسل إليه يهدده ويتوعده بالمسير إلى قرطبة ليفتحها إلا أن يسلم إليه جميع الحصون المنيعة ويبقى السهل للمسلمين وكان الرسول في جمع كثير نحو خمسمائة فارس فأنزله المعتمد وفرق أصحابه على قواد

عسكره ثم أمر قواده أن يقتل كل منهم من عنده من الكفرة وأحضر الرسول وصفعه حتى خرجت عيناه وسلم من الجماعة ثلاثة نفر فعادوا إلى الأذفونش وأخبروه الخبر وكان متوجها إلى قرطبة ليحاصرها فرجع إلى طليطلة ليجمع آلات الحصار ويكثر العدد والعدة انتهى
وقال الفقيه أبو عبدالله محمد بن عبدالله بن عبدالمنعم الحميري في كتابه الروض المعطار في ذكر المدن والأقطار ما ملخصه إنه لما اشتغل المعتمد بغزو ابن صمادح صاحب المرية حتى تأخر الوقت الذي كان يدفع فيه الضريبة للأذفونش وأرسلها إليه بعد ذلك استشاط الطاغية غضبا وتشطط وطلب بعض الحصون زيادة على الضريبة وامعن في التجني وسأل في دخول امرأته القمجيطة إلى جامع قرطبة لتلد فيه إذ كانت حاملا لما أشار عليه بذلك القسيسون والأساقفة لمكان كنيسة كانت في الجانب الغربي منه معظمة عندهم عمل عليها المسلمون الجامع الأعظم وسأل أن تنزل امرأته المذكورة بالمدينة الزهراء غربي مدينة قرطبة وهي التى أنشأ بناءها الناصر لدين الله وأمعن في بنائها وأغرب في حسنها وجلب إليها الرخام الملون والمرمر الصافي والحوض المشهور من البلاد والأقطار وكان يثيب على السارية بكذا وكذا غير الثمن وأجرة الحمل وأنفق فيها الأموال العظيمة واشتغل بها وكان يباشر الصناع بنفسه حتى تخلف عن حضور الجمعة ثلاث مرات متواليات وحضر في الرابعة وكان الخطيب يومئذ الفقيه الزاهد منذر بن سعيد البلوطي فعرض به في الخطبة ووبخه على رؤوس الملأ وقصته في ذلك مشهورة وبناء الزهراء أيضا من أغرب مباني الإسلام فمن أراد الوقوف على ذلك فعليه بتاريخ ابن حيان

ولنرجع إلى الأذفونش فإن الأطباء والقسوس لما أشاروا أن تكون المرأة المذكورة ساكنة بالزهراء وتتردد إلى الجامع المذكور حتى تكون ولادتها بين طيب نسيم الزهراء وفضيلة موضع الكنيسة من الجامع المذكور وكان السفير في ذلك يهوديا كان وزير الأذفونش فامتنع ابن عباد من ذلك فراجعه فأباه وأيأسه من ذلك فراجعه اليهودي في ذلك وأغلظ له في القول وواجهه بما لم يحتمله ابن عباد فأخذ ابن عباد محبرة كانت بين يديه وضرب بها رأس اليهودي فأنزل دماغه في حلقه وامر به فصلب منكوسا بقرطبة واستفتى لما سكن غضبه الفقهاء عن حكم ما فعله اليهودي فبادره الفقيه محمد بن الطلاع بالرخصة في ذلك لتعدي الرسول حدود الرسالة إلى ما استوجب به القتل إذ ليس له ذلك وقال للفقهاء إنما بادرت بالفتوى خوفا أن يكسل الرجل عما عزم عليه من منابذة العدو وعسى الله أن يجعل في عزيمته للمسلمين فرجا
وبلغ الأذفونش ما صنعه ابن عباد فأقسم بآلهته ليغزونه بإشبيلية ويحاصره في قصره فجرد جيشين جعل احدهما كلبا من مساعير كلابه وأمره أن يسير على كورة باجة من غرب الأندلس ويغير على تلك التخوم والجهات ثم يمر على لبلة إلى إشبيلية وجعل موعده إياه طريانة للاجتماع معه ثم زحف الأذفونش بنفسه في جيش آخر عرمرم فسلك طريقا غير الطريق التى سلكها الآخر وكلاهما عاث في البلاد وخرب ودمر حتى اجتمعا لموعدهما بضفة النهر الأعظم قبالة قصر ابن عباد وفي أيام مقامه هنالك كتب الى ابن عباد زاريا عليه كثر بطول مقامي في مجلسي الذبان واشتد علي الحر فأتحفني من قصرك بمروحة أروح بها على نفسي وأطرد بها الذباب عن وجهي فوقع له ابن عباد بخط يده في ظهر الرقعة قرأت كتابك وفهمت خيلاءك وإعجابك وسأنظر لك في مراوح من الجلود اللمطية تروح منك لا تروح عليك إن شاء الله

تعالى فلما وصلت الأذفونش رسالة ابن عباد وقرئت عليه وعلم مقتضاها أطرق إطراق من لم يخطر له ذلك ببال
وفشا في الأندلس توقيع ابن عباد وما أظهر من العزيمة على جواز يوسف بن تاشفين والاستظهار به على العدو فاستبشر الناس وفرحوا بذلك وفتحت لهم أبواب الآمال واما ملوك طوائف الأندلس فلما تحققوا عزم ابن عباد وانفراده برأيه في ذلك اهتموا منه ومنهم من كاتبه ومنهم من كلمه مواجهة وحذروه عاقبة ذلك وقالوا له الملك عقيم والسيفان لا يجتمعان في غمد واحد فاجابهم ابن عباد بكلمته السائرة مثلا رعي الجمال خير من رعي الخنازير ومعناه أن كونه مأكولا ليوسف بن تاشفين أسيرا يرعى جماله في الصحراء خير من كونه ممزقا للأذفونش أسيرا له يرعى خنازيره في قشتالة وقال لعذاله ولوامه ياقوم إني من أمري على حالتين حالة يقين وحالة شك ولابد لي من إحداهما أما حالة الشك فإني إن استندت إلى ابن تاشفين أو إلى الأذفونش ففي الممكن أن يفي لي ويبقي على وفائه ويمكن أن لا يفعل فهذه حالة شك واما حالة اليقين فإني إن استندت إلى ابن تاشفين فانا أرضي الله وإن استندت إلى الأذفونش أسخطت الله تعالى فإذا كانت حالة الشك فيها عارضة فلأي شيء أدع ما يرضي الله وآتي ما يسخطه فحينئذ قصر أصحابه عن لومه
ولما عزم أمر صاحب بطليوس المتوكل عمر بن محمد وعبدالله بن حبوس الصنهاجي صاحب غرناطة أن يبعث إليه كل منهما قاضي حضرته ففعلا واستحضر قاضي الجماعة بقرطبة أبا بكر عبيدالله بن أدهم وكان أعقل أهل زمانه فلما اجتمع عنده القضاة بإشبيلية أضاف إليهم وزيره أبا بكر ابن زيدون وعرفهم أربعتهم أنهم رسله إلى يوسف بن تاشفين وأسند إلى القضاة ما يليق بهم من وعظ يوسف بن تاشفين وترغيبه في الجهاد وأسند إلى وزيره ما لا بد منه في تلك السفارة من إبرام العقود السلطانية وكان يوسف بن تاشفين لا تزال

تفد عليه وفود ثغور الأندلس مستعطفين مجهشين بالبكاء ناشدين الله والإسلام مستنجدين بفقهاء حضرته ووزراء دولته فيسمع إليهم ويصغي لقولهم وترق نفسه لهم
فما عبرت رسل ابن عباد البحر الا ورسل يوسف بالمرصاد ولما انتهت الرسل إلى ابن تاشفين أقبل عليهم واكرم مثواهم واتصل ذلك بابن عباد فوجه من إشبيلية أسطولا نحو صاحب سبتة فانتظمت في سلك يوسف ثم جرت بينه وبين الرسل مراوضات ثم انصرفت إلى مرسلها ثم عبر يوسف البحر عبورا سهلا حتى اتى الجزيرة الخضراء ففتحوا له وخرج إليه أهلها بما عندهم من الأقوات والضيافات وأقاموا له سوقا جلبوا إليه ما عندهم من سائر المرافق وأذنوا للغزاة في دخول البلد والتصرف فيه فامتلأت المساجد والرحبات بالمطوعين وتواصوا بهم خيرا هذا مساق صاحب الروض المعطار
واما ابن الأثير فإنه لما ذكر وقعة الزلاقة ذكر ما تقدم من فعل المعتمد بالأرسال وقتلهم وتخوف اكابر الأندلس من الأذفونش وأنه اجتمع منهم رؤساء وساروا إلى القاضي عبيد الله بن محمد بن أدهم وقالوا له ألا تنظر إلى ما فيه المسلمون من الصغار والذلة وإعطائهم الجزية بعد أن كانوا يأخذونها وقالوا قد غلب على البلاد الفرنج ولم يبق إلا القليل وإن طال هذا الأمر عادت نصرانية كما كانت أولا وقد رأينا رأيا نعرضه عليك قال وماهو قالوا نكتب إلى عرب إفريقية ونبذل لهم إذا وصلوا إلينا شطر اموالنا ونخرج معهم مجاهدين في سبيل الله فقال لهم إ`نا نخشى إن وصلوا إلينا أن يخربوا بلادنا كما فعلوا بإفريقية ويتركوا الإفرنج ويبدأوا بنا والمرابطون أصلح منهم وأقرب إلينا فقالوا له فكاتب أمير المسلمين واسأله العبور إلينا أو إعانتنا بما تيسر من الجند فبينما هم في ذلك يتراوضون إذ قدم عليهم المعتمد بن عباد

قرطبة فعرض عليه القاضي ابن أدهم ماكانوا فيه فقال له ابن عباد أنت رسولي إليه في ذلك فامتنع وإنما أراد أن يبرىء نفسه من ذلك فألح عليه المعتمد فسار إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين فوجده بسبتة وأبلغه الرسالة وأعلمه بما فيه المسلمون من الخوف من الأذفونش ففي الحال أمر بعبور العساكر إلى الأندلس وأرسل إلى مراكش في طلب من بقي من العساكر فأقبلت إليه يتلو بعضها بعضا فلما تكاملت عنده عبر البحر واجتمع بالمعتمد بن عباد بإشبيلية وكان المعتمد قد جمع عساكره أيضا وخرج من أهل قرطبة عسكر كثير وقصده المطوعة من سائر بلاد الأندلس ووصلت الأخبار إلى الأذفونش فجمع عساكره وحشد جنوده وسار من طليطلة وكتب إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين كتابا كتبه له بعض غواة أدباء المسلمين يغلظ له في القول ويصف ما معه من القوة والعدد والعدد وبالغ في ذلك فلما وصله وقرأه يوسف أمر كاتبه أبا بكر ابن القصيرة أن يجيبه وكان كاتبا مفلقا فكتب وأجاد فلما قرأه على أمير المسلمين قال هذا كتاب طويل أحضر كتاب الأذفونش واكتب في ظهره الذي يكون ستراه وأرسله إليه فلما وقف عليه الأذفونش ارتاع له وعلم أنه بلي برجل لا طاقة له به
وذكر ابن خلكان ان يوسف بن تاشفين امر بعبور الجمال فعبر منها ما أغص الجزيرة وارتفع رغاؤها إلى عنان السماء ولم يكن أهل الجزيرة رأوا جملا قط ولا خيلهم فصارت الخيل تجمح من رؤية الجمال ومن رغائها وكان ليوسف في عبور الجمال رأي مصيب فكان يحدق بها عسكره ويحضرها للحرب فكانت خيل الفرنج تجمح منها وقدم يوسف بين يديه كتابا للأذفونش يعرض عليه فيه الدخول في الإسلام أو الجزية أو الحرب كما هي السنة ومن جملة مافي الكتاب بلغنا يا أذفونش أنك دعوت إلى الاجتماع بنا وتمنيت أن

تكون لك سفن تعبر بها البحر إلينا فقد عبرنا إليك وقد جمع الله تعالى في هذه الساحة بيننا وبينك وسترى عاقبة دعائك ( وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ) غافر 50 انتهى بمعناه وأكثره بلفظه
ولنرجع إلى كلام صاحب الروض المعطار فإنه أقعد بتاريخ الأندلس إذ هو منهم وصاحب البيت أدرى بالذي فيه قال رحمه الله تعالى فلما عبر يوسف وجميع جيوشه إلى الجزيرة الخضراء انزعج إلى إشبيلية على أحسن الهيئات جيشا بعد جيش وأميرا بعد أمير وقبيلا بعد قبيل وبعث المعتمد ابنه إلى لقاء يوسف وأمر عمال البلاد بجلب الأقوات والضيافات ورأى يوسف من ذلك ماسره ونشطه وتواردت الجيوش مع امرائها إلى إشبيلية وخرج المعتمد إلى لقاء يوسف من إشبيلية في مائة فارس ووجوه أصحابه فلما اتى محله يوسف ركض نحو القوم وركضوا نحوه فبرز إليه يوسف وحده والتقيا منفردين وتصافحا وتعانقا وأظهر كل منهما لصاحبه المودة والخلوص وشكرا نعم الله تعالى وتواصيا بالصبر والرحمة وبشرا أنفسهما بما استقبلاه من غزو أهل الكفر وتضرعا إلى الله تعالى في أن يجعل ذلك خالصا لوجهه مقربا إليه وافترقا فعاد يوسف لمحلته وابن عباد إلى جهته وألحق ابن عباد ماكان أعده من هدايا وتحف وضيافات أوسع بها على محلة يوسف بن تاشفين وباتوا تلك الليلة فلما أصبحوا وصلوا الصبح ركب الجميع وأشار ابن عباد على يوسف بالتقدم نحو إشبيلية ففعل ورأى الناس من عزه سلطانه ما سرهم ولم يبق من ملوك الطوائف بالأندلس إلا من بادر أو أعان وخرج أو أخرج وكذلك فعل الصحراويون مع يوسف كل صقع من أصقاعه رابطوا وصابروا وكان الأذفونش لما تحقق الحركة والحرب استنفر جميع اهل بلاده وما يليها وما ==

6.   مجلد6. نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب
المؤلف : أحمد بن محمد المقري التلمساني


وراءها ورفع القسيسون والرهبان والأساقفة صلبانهم ونشروا اناجيلهم فاجتمع له من الجلالقة والإفرنجة ما لا يحصى عدده وجواسيس كل فريق تتردد بين الجميع وبعث الأذفونش إلى ابن عباد إن صاحبكم يوسف قد تعنى من بلاده وخاض البحور وانا اكفيه العناء فيما بقي ولا اكلفكم تعبا أمضي إليكم وألقاكم في بلادكم رفقا بكم وتوفيرا عليكم وقال لخاصته واهل مشورته إني رأيت أني إن مكنتهم من الدخول إلى بلادي فناجزوني فيها وبين جدرها وربما كانت الدائرة علي يستحكمون البلاد ويحصدون من فيها غداة واحدة ولكني أجعل يومهم معي في حوز بلادهم فإن كانت علي اكتفوا بما نالوه ولم يجعلوا الدروب وراءهم إلا بعد أهبة أخرى فيكون في ذلك صون لبلادي وجبر لمكاسري وإن كانت الدائرة عليهم كان مني فيهم وفي بلادهم ما خفت أنا أن يكون في وفي بلادي إذا ناجزوني في وسطها ثم برز بالمختار من جنوده وأنجاد جموعه على باب دربه وترك بقية جموعه خلفه وقال حين نظر إلى ما اختاره منهم بهؤلاء أقاتل الجن والإنس وملائكة السماء فالمقلل يقول المختارون أربعون ألف دارع ولكل واحد أتباع واما النصارى فيعجبون ممن يزعم ذلك ويرون أنهم أكثر من ذلك كله واتفق الكل أن عدد المسلمين أقل من الكفرة ورأى الأذفونش في نومه كانه راكب فيل يضرب نقيره طبل فهالته الرؤيا وسأل عنها القسوس والرهبان فلم يجبه أحد فدس يهوديا عمن يعلم تأويلها من المسلمين فدل على معبر فقصها عليه ونسبها لنفسه فقال له المعبر كذبت ماهذه الرؤيا لك ولا أعبرها له إلا إن صدقتني بصاحب الرؤيا فقال له اكتم علي الرؤيا للأذفونش فقال المعبر صدقت ولا يراها غيره والرؤيا تدل على بلاء عظيم ومصيبة فادحة فيه وفي عسكره وتفسيرها قوله تعالى ( ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ) الفيل 1 واما ضربة النقيرة فتأويلها ( فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير ) المدثر 8 - 9 فانصرف اليهودي وذكر للأذفونش

ماوافق خاطره
ثم خرج الأذفونش ووقف على الدروب ومال بجيوشه إلى الجهة الغربية من بلاد الأندلس وتقدم السلطان يوسف فقصده وتأخر ابن عباد لبعض مهماته ثم انزعج يقفو أثره بجيش فيه حماة الثغور ورؤساء الأندلس وجعل ابنه عبدالله على مقدمته وسار وهو ينشد لنفسه متفائلا مكملا البيت المشهور
( لابد من فرج قريب ... يأتيك بالعجب العجيب )
( غزو عليك مبارك ... سيعود بالفتح القريب )
( لله سعدك إنه ... نكس على دين الصليب )
( لابد من يوم يكون ... له أخا يوم القليب )
ووافت الجيوش كلها بطليوس فاناخوا بظاهرها وخرج إليهم صاحبها المتوكل عمر بن محمد بن الأفطس فلقيهم بما يجب من الضيافات والأقوات وبذل المجهود وجاءهم الخبر بشخوص الأذفونش ولما ازدلف بعضهم إلى بعض أذكى المعتمد عيونه في محلات الصحراويين خوفا عليهم من مكايد الأذفونش إذ هم غرباء لاعلم لهم بالبلاد وجعل يتولى ذلك بنفسه حتى قيل إن الرجل من الصحراويين لا يخرج على طرف المحلة لقضاء أمر أو حاجة إلا ويجد ابن عباد بنفسه مطيفا بالمحلة بعد ترتيب الخيل والرجال على أبواب المحلات وقد تقدم كتاب السلطان يوسف إلى الأذفونش يدعوه إلى إحدى الثلاث المأمور بها شرعا فامتلأ الكافر غيظا وعتا وطغى وراجعه بما يدل على شقائه وقامت الأساقفة والرهبان فرفعوا صلبانهم ونشروا اناجيلهم وتبايعوا على الموت ووعظ يوسف وابن عباد أصحابهما وقام الفقهاء والصالحون مقام الوعظ وحضوهم على الصبر والثبات وحذروهم من الفشل والفرار

وجاءت الطلائع تخبر ان العدو مشرف عليهم صبيحة يومهم وهو يوم الأربعاء فأصبح المسلمون وقد أخذوا مصافهم فكع الأذفونش ورجع إلى إعمال المكر والخديعة فعاد الناس إلى محلاتهم وباتوا ليلتهم ثم أصبح يوم الخميس فبعث الأذفونش إلى ابن عباد يقول غدا يوم الجمعة وهو عيدكم والأحد عيدنا فليكن لقاؤنا بينهما وهو يوم السبت فعرف المعتمد بذلك السلطان يوسف واعلمه أنها حيلة منه وخديعة وإنما قصده الفتك بنا يوم الجمعة فليكن الناس على استعداد له يوم الجمعه كل النهار وبات الناس ليلتهم على أهبة واحتراس وبعد مضي جزء من الليل انتبه الفقيه الناسك أبو العباس أحمد ابن رميلة القرطبي وكان في محلة ابن عباد فرحا مسرورا يقول إنه رأى النبي تلك الليلة في النوم فبشره بالفتح والموت على الشهادة في صبيحة تلك الليلة فتأهب ودعا وتضرع ودهن رأسه وتطيب وانتهى ذلك إلى ابن عباد فبعث إلى يوسف يخبره بها تحقيقا لما توقعه من غدر الكافر بالله تعالى
ثم جاء بالليل فارسان من طلائع المعتمد يخبران أنهما أشرفا على محلة الأذفونش وسمعا ضوضاء الجيوش واضطراب الأسلحة ثم تلاحق بقية الطلائع متحققين بتحرك الأذفونش ثم جاءت الجواسيس من داخل محلتهم تقول استرقنا السمع فسمعنا الأذفونش يقول لأصحابه ابن عباد مسعر هذه الحروب وهؤلاء الصحراويون وإن كانوا اهل حفاظ وذوي بصائر في الحروب فهم غير عارفين بهذه البلاد وإنما قادهم ابن عباد فاقصدوه واهجموا عليه واصبروا فإن انكشف لكم هان عليكم الصحراويون بعده ولا أرى ابن عباد يصبر لكم إن صدقتموه الحملة فعند ذلك بعث ابن عباد الكاتب أبا بكر ابن القصيرة إلى السلطان يوسف يعرفه بإقبال الأذفونش ويستحث نصرته فمضى ابن القصيرة يطوى المحلات حتى جاء يوسف بن تاشفين فعرفه بجلية الأمر فقال له قل له إني سأقرب منه إن شاء الله تعالى وأمر يوسف بعض قواده أن يمضي

بكتيبة رسمها له حتى يدخل محلة النصارى فيضرمها نارا مادام الأذفونش مشتغلا مع ابن عباد
وانصرف ابن القصيرة إلى المعتمد فلم يصله إلا وقد غشيه جنود الطاغية فصدم ابن عباد صدمة قطعت آماله ومال الأذفونش عليه بجموعه واحاطوا به من كل جهة فهاجت الحرب وحمي الوطيس واستحر القتل في أصحاب ابن عباد وصبر ابن عباد صبرا لم يعهد مثله لأحد واستبطأ السلطان يوسف وهو يلاحظ طريقه وعضته الحرب واشتد عليه وعلى من معه البلاء وأبطأ عليه الصحراويون وساءت الظنون وانكشف بعض أصحاب ابن عباد وفيهم ابنه عبدالله وأثخن ابن عباد جراحات وضرب على رأسه ضربة فلقت هامته حتى وصلت إلى صدغه وجرحت يمنى يديه وطعن في أحد جانبيه وعقرت تحته ثلاثة أفراس كلما هلك واحد قدم له آخر وهو يقاسي حياض الموت ويضرب يمينا وشمالا وتذكر في تلك الحالة ابنا له صغيرا كان مغرما به تركه في إشبيلية عليلا وكنيته أبو هاشم فقال
( أبا هاشم هشمتني الشفار ... فلله صبري لذاك الأوار )
( ذكرت شخيصك تحت العجاج ... فلم يثنني ذكره للفرار )
ثم كان أول من وافى ابن عباد من قواد ابن تاشفين داود بن عائشة وكان بطلا شجاعا شهما فنفس بمجيئه عن ابن عباد ثم أقبل يوسف بعد ذلك وطبوله تصعد أصواتها إلى الجو فلما أبصره الأذفونش وجه حملته إليه وقصده بمعظم جنوده فبادر إليهم السلطان يوسف وصدمهم بجمعه فردهم إلى مركزهم وانتظم به شمل ابن عباد واستنشق ريح الظفر وتباشر بالنصر ثم صدقوا جميعا الحملة فتزلزلت الأرض بحوافر خيولهم وأظلم النهار بالعجاج والغبار وخاضت الخيل في الدماء وصبر الفريقان صبرا عظيما ثم تراجع ابن عباد إلى يوسف وحمل معه حملة جاء معها النصر وتراجع

المنهزمون من أصحاب ابن عباد حين علموا بالتحام الفئتين وصدقوا الحملة فانكشف الطاغية ومر هاربا منهزما وقد طعن في إحدى ركبتيه طعنة بقي يخمع بها بقية عمره
وعلى سياق ابن خلكان أن ابن تاشفين نزل على أقل من فرسخ من عسكر العدو في يوم الأربعاء وكان الموعد في المناجزة في يوم السبت فعذر الأذفونش ومكر فلما كان سحر يوم الجمعة منتصف رجب أقبلت طلائع ابن عباد والروم في أثرها والناس على طمأنينة فبادر ابن عباد للركوب وبث الخبر في العساكر فماجت بأهلها ووقع البهت ورجفت الأرض وصار الناس فوضى على غير تعبية ولا اهبة ودهمتهم خيل العدو فأحاطت بابن عباد وحطمت ما تعرض لها وتركت الأرض حصيدا خلفها وجرح ابن عباد جرحا أشواه وفر رؤساء الأندلس وتركوا محلاتهم وأسلموها وظنوا انه وهي لا يرقع ونازلة لا تدفع وظن الأذفونش أن السلطان يوسف في المنهزمين ولم يعلم أن العاقبة للمتقين فركب أمير المسلمين واحدق به أنجاد خيله ورجله من صنهاجة رؤساء القبائل وقصدوا محلة الأذفونش فاقتحموها ودخلوها وفتكوا فيها وقتلوا وضربت الطبول وزعقت البوقات فاهتزت الأرض وتجاوبت الجبال والآفاق وتراجع الروم إلى محلاتهم بعد أن علموا أن أمير المسلمين فيها فصدموا امير المسلمين فأفرج لهم عنها ثم كر عليهم فأخرجهم منها ثم كروا عليه فخرج لهم عنها ولم تزل الكرات بينهم تتوالى إلى أن أمر أمير المسلمين حشمه السودان فترجل منهم زهاء أربعة آلاف

ودخلوا المعترك بدرق اللمط وسيوف الهند ومزاريق الران فطعنوا الخيل فرمحت بفرسانها واجحمت عن أقرانها وتلاحق الأذفونش بأسود نفدت مزاريقه فأهوى ليضربه بالسيف فلصق به الأسود وقبض على عنانه وانتضى خنجرا كان متمنطقا به فأثبته في فخذه فهتك حلق درعه ونفذ من فخذه مع بداد سرجه وكان وقت الزوال وهبت ريح النصر فأنزل الله سكينته على المسلمين ونصر دينه القويم وصدقوا الحملة على الأذفونش وأصحابه فأخرجوهم عن محلتهم فولوا ظهورهم وأعطوا أعناقهم والسيوف تصفعهم والرماح تطعنهم إلى ان لحقوا ربوة لجأوا إليها واعتصموا بها وأحدقت بهم الخيل فلما أظلم الليل انساب الأذفونش وأصحابه من الربوة وأفلتوا بعدما تشبثت بهم أظفار المنية واستولى المسلمون على ماكان في محلتهم من الآلات والسلاح والمضارب والأواني وغير ذلك وامر ابن عباد بضم رؤوس قتلى المشركين فاجتمع من ذلك تل عظيم انتهى وبعضه بالمعنى
رجع إلى كلام صاحب الروض المعطار
قال
ولجأ الأذفونش إلى تل كان يلي محلته في نحو خمسمائة فارس كل واحد منهم مكلوم وأباد القتل والأسر من عداهم من أصحابهم وعمل المسلمون من رؤوسهم مآذن يؤذنون عليها والمخذول ينظر إلى موضع الوقيعة ومكان الهزيمة فلا يرى إلا نكالا محيطا به وبأصحابه وأقبل ابن عباد على السلطان يوسف وصافحه وهنأه وشكره وأثنى عليه وشكر يوسف صبر ابن عباد ومقامه وحسن

بلائه وجميل صبره وسأله عن حاله عندما أسلمته رجاله بانهزامهم عنه فقال له هم هؤلاء قد حضروا بين يديك فليخبروك
وكتب ابن عباد إلى إبنه بإشبيلية كتابا مضمونه كتابي هذا من المحلة المنصورة يوم الجمعة الموفي عشرين من رجب وقد أعز الله الدين ونصر المسلمين وفتح لهم الفتح المبين وهزم الكفرة والمشركين وأذاقهم العذاب الأليم والخطب الجسيم فالحمدلله على مايسره وسناه من هذه المسرة العظيمة والنعمة الجسيمة في تشتيت شمل الأذفونش والاحتواء على جميع عساكره أصلاه الله نكال الجحيم ولا اعدمه الوبال العظيم المليم بعد إتيان النهب على محلاته واستئصال القتل في جميع أبطاله وحماته حتى اتخذ المسلمون من هاماتهم صوامع يؤذنون عليها فلله الحمد على جميل صنعه ولم يصبني والحمد لله إلا جراحات يسيرة آلمت لكنها فرجت بعد ذلك فلله الحمد والمنة والسلام
واستشهد في ذلك اليوم جماعة من الفضلاء والعلماء وأعيان الناس مثل ابن رميلة صاحب الرؤيا المذكورة وقاضي مراكش أبي مروان عبدالملك المصمودي وغيرهما رحمهم الله تعالى
وحكي ان موضع المعترك كان على اتساعه ماكان فيه موضع قدم إلا على ميت أو دم وأقامت العساكر بالموضع أربعة أيام حتى جمعت الغنائم واستؤذن في ذلك السلطان يوسف فعف عنها وآثر بها ملوك الأندلس وعرفهم أن مقصده الجهاد والأجر العظيم وماعند الله في ذلك من الثواب المقيم فلما رأت ملوك الأندلس إيثار يوسف لهم بالغنائم استكرموه وأحبوه وشكروا له ذلك
ولما بلغ الأذفونش إلى بلاده وسأل عن أبطاله وشجعانه وأصحابه ففقدهم ولم يسمع إلا نواح الثكلى عليهم اهتم ولم يأكل ولم يشرب حتى هلك غما وهما وراح إلى أمه الهاوية ولم يخلف إلا بنتا واحدة جعل الأمر إليها فتحصنت بطليطلة
ورحل المعتمد إلى إشبيلية ومعه السلطان يوسف بن تاشفين فأقام السلطان

يوسف بن تاشفين بظاهر إشبيلية ثلاثة أيام ووردت عليه من المغرب أخبار تقتضي العزم فسافر وذهب معه ابن عباد يوما وليلة فحلف ابن تاشفين وعزم عليه في الرجوع وكانت جراحاته تورمت عليه فسير معه ولده عبدالله إلى أن وصل البحر وعبر إلى المغرب
ولما رجع ابن عباد إلى إشبيلية جلس للناس وهنىء بالفتح وقرأت القراء وقام على رأسه الشعراء فأنشدوه قال عبدالجليل بن وهبون حضرت ذلك اليوم وأعددت قصيدة أنشدها بين يديه فقرأ القارىء ( إلا تنصروه فقد نصره الله ) التوبة 40 فقلت بعدا لي ولشعري والله ما أبقت لي هذه الآية معنى أحضره وأقوم به
ولما عزم السلطان يوسف بن تاشفين إلى بلاده ترك الأمير سير بن أبي بكر أحد قواده المشاهير وترك معه جيشا برسم غزو الفرنج فاستراح الأمير المذكور أياما قلائل ودخل بلاد الأذفونش وأطلق الغارة ونهب وسبى وفتح الحصون المنيعة والمعاقل الصعبة العويصة وتوغل في البلاد وحصل أموالا وذخائر عظيمة ورتب رجالا وفرسانا في جميع ما أخذه وأرسل للسلطان يوسف جميع ما حصله وكتب له يعرفه أن الجيوش بالثغور مقيمة على مكابدة العدو وملازمة الحرب والقتال في أضيق العيش وانكده وملوك الأندلس في بلادهم وأهليهم فى أرغد العيش وأطيبه وسأله مرسومه فكتب إليه أن يأمرهم بالنقلة والرحيل إلى أرض العدوة فمن فعل فذاك ومن أبى فحاصره وقاتله ولا تنفس عليه ولتبدأ بمن والى الثغور ولا تتعرض للمعتمد بن عباد إلا بعد استيلائك على البلاد وكل بلد أخذته فول فيه أميرا من عساكرك فأول من ابتدأ به من ملوك الأندلس بنوهود وكانوا بروطة بضم الراء المهماة وبعدها واو ساكنة وطاء مهملة مفتوحة وبعدها هاء ساكنة وهي قلعة منيعة من

عاصمات الذرا وماؤها ينبع من أعلاها وفيها من الأقوات والذخائر المختلفات ما لا تفنيه الأزمان فحاصرها فلم يقدر عليها ورحل عنها وجند أجنادا على هيئة الفرنج وزيهم وأمرهم أن يقصدوها ويغيروا عليها وكمن هو وأصحابه بقرب منها فلما رآهم أهل القلعة استضعفوهم فنزلوا إليهم ومعهم صاحب القلعة فخرج عليه سير المذكور وقبضه باليد وتسلم الحصن ثم نازل بني طاهر بشرق الأندلس فأسلموا له البلاد ولحقوا ببر العدوة ثم نازل بني صمادح بالمرية ولها قلعة حصينة فحاصرهم وضيق بهم ولما علم ابن صمادح الغلب أسف ومات غبنا فأخذ القلعة واستولى على المرية وجميع أعمالها ثم قصد بطليوس وكان بها المتوكل عمر بن محمد بن الأفطس المتقدم ذكره فحاصره واخذه واستولى على جميع أعماله وماله ولم يبق له إلا المعتمد بن عباد فكتب للسلطان يوسف يعرفه بما فعل ويسأله مرسومه في ابن عباد فكتب إليه يأمره أنه يعرض عليه النقلة لبر العدوة وبجميع الأهل والعشيرة فإن رضي وإلا فحاصره وخذه وأرسل به كسائر أصحابه فواجهه وعرفه بما رسم به السلطان يوسف وسأله الجواب فلم يجب بنفي ولا إثبات ثم إنه نازل إشبيلية وحاصره بها وألح عليه فأقام الحصار شهرا ودخل البلد قهرا واستخرجه من قصره فحمل وجميع أهله وولده إلى العدوة فأنزل بأغمات وأقام بها إلى أن مات رحمه الله تعالى وعفا عنه
واما إبن الأثير ففي كلامه تقديم وتأخير وبعض خلاف لما مر
واخبار المعتمد بن عباد وما رآه من الملك والعز على كل حاضر وباد وما قاساه في الأسر من الضيق والعسر وسوء العيش أمر عجيب يتعظ به العاقل الأريب واما ما مدحته به الشعراء وأجوبته لهم في حالي يسره وعسره وملكه وأسره وطيه ونشره وتجهمه وبشره فهو كثير وفي كتب التواريخ منه نظيم ونثير وقد قدمنا منه في هذا الكتاب ما يبعث الاعتبار ويثير وخصوصا في الباب السابع من هذا التأليف الذي هو عند المنصف أثير وفي المعتمد وأبيه

المعتضد يقول بعض الشعراء
( من بني منذر وذاك انتساب ... زاد في فخرهم بنو عباد )
( فتية لم تلد سواها المعالي ... والمعالي قليلة الأولاد )
وقال ابن القطاع في كتابه لمح الملح في حق المعتمد إنه اندى ملوك الأندلس راحة وأرحبهم ساحة واعظمهم ثمادا وأرفعهم عمادا ولذلك كانت حضرته ملقى الرحال وموسم الشعراء وقبلة الامال ومألف الفضلاء حتى إنه لم يجتمع بباب أحد من الملوك من أعيان الشعراء وأفاضل الأدباء ما كان يجتمع ببابه وتشتمل عليه حاشيتا جنابه
وقال ابن بسام في الذخيرة للمعتمد شعر كما انشق الكمام عن الزهر لو صار مثله ممن جعل الشعر صناعة واتخذه بضاعة لكان رائقا معجبا ونادرا مستغربا فمن ذلك قوله
( أكثرت هجرك غير أنك ربما ... عطفتك أحيانا على أمور )
( فكأنما زمن التهاجر بيننا ... ليل وساعات الوصال بدور )
قال وهذا المعنى ينظر إلى قول بعضهم من أبيات
( أسفر ضوء الصبح عن وجهه ... فقام ذاك الخال فيه بلال )
( كأنما الخال على خده ... ساعات هجر في زمان الوصال )

وعزم على إرسال حظاياه من قرطبة إلى إشبيلية فخرج معهن يشيعهن فسايرهن من اول الليل إلى الصبح فودعهن ورجع وانشد أبياتا منها
( سايرتهم والليل عقد ثوبه ... حتى تبدى للنواظر معلما )
( فوقفت ثم مودعا وتسلمت ... مني يد الإصباح تلك الأنجما )
وهذا المعنى في نهاية الحسن ثم ذكر من كلامه جملة
عود وانعطاف
ولما جاء أمير المسلمين يوسف بن تاشفين إلى ناحية غرناطة بعدما حصر بعض حصون الفرنج فلم يقدر عليه خرج إلى لقائه صاحب غرناطة عبد الله بن بلكين فسلم عليه ثم عاد إلى بلده ليخرج له التقادم فغدر به ودخل البلد وأخرج عبدالله ودخل قصره فوجد فيه من الذخائر والأموال ما لايحد ولا يحصى ثم رجع إلى مراكش وقد أعجبه حسن بلاد الأندلس وبهجتها وما بها من المباني والبساتين والمطاعم وسائر الأصناف التى لا توجد في بلاد العدوة إذ هي بلاد بربر وأجلاف عربان فجعل خواص يوسف يعظمون عنده بلاد الأندلس ويحسنون له أخذها ويوغرون قلبه على المعتمد بأشياء نقلوها عنه فتغير على المعتمد وقصد مشارفة الأندلس
وحكى ابن خلدون أن علماء الأندلس أفتوا ابن تاشفين بجواز خلع المعتمد وغيره من ملوك الطوائف وبقتالهم إن امتنعوا فجهز يوسف العساكر إلى الأندلس وحاصر سير بن أبي بكر أحد عظماء دولة يوسف إشبيلية وبها المعتمد فكان من دفاعه وشدة ثباته ما هو معلوم ثم أخذ أسيرا وصارف طرف الملك بعده حسيرا

وفي وصف ذلك يقول صاحب القلائد بعد كلام ثم جمع هو وأهله وحملتهم الجواري المنشآت وضمتهم جوانحها كانهم أموات بعدما ضاق عنهم القصر وراق منهم المصر والناس قد حشروا بضفتي الوادي يبكون بدموع كالغوادي فساروا والنوح يحدوهم والبوح باللوعة لا يعدوهم انتهى
ولما فرغ أمير المسلمين يوسف بن تاشفين من أمر غزوة الزلاقة المتقدم ذكرها ورجع تكرم له ابن عباد وسأله أن ينزل عنده فعرج إلى بلاده إذ أجابه إلى ما طلب فلما انتهى ابن تاشفين إلى إشبيلية مدينة المعتمد وهي من أحسن المدن وأجلها منظرا أمعن يوسف النظر فيها وفي محلها وهي على نهر عظيم مستبحر تجري فيه السفن بالبضائع جالبة من بر المغرب وحاملة إليه وفي غربيها رستاق عظيم مسيرة عشرين فرسخا يشتمل على آلاف من الضياع كلها تين وعنب وزيتون وهذا هو المسمى بشرف إشبيلية وتمتار بلاد المغرب كلها بهذه الأصناف منه وفي جانب المدينة قصور المعتمد وأبيه المعتضد في غاية الحسن والبهاء وفيها انواع ما يحتاج إليه من المطعوم والمشروب والملبوس والمفروش وغير ذلك فانزل المعتمد يوسف بن تاشفين في احدها وتولى من إكرامه وخدمته ما أوسع شكر ابن تاشفين له وكان مع ابن تاشفين أصحاب له ينبهونه على حسن تلك الحال وتاملها وماهي عليه من النعمة والإتراف ويغرونه باتخاذ مثلها ويقولون له إن فائدة الملك قطع العيش فيه بالتنعم واللذة كما هو المعتمد وأصحابه وكان ابن تاشفين داهية عاقلا مقتصدا

في اموره غير متطاول ولا مبذر غير سالك نهج الترف والتأنق في اللذة والنعيم إذ ذهب صدر عمره في بلاده بالصحراء في شظف العيش فأنكر على من أغراه بذلك الإسراف وقال له الذي يلوح لي من أمر هذا الرجل يعنى المعتمد انه مضيع لما في يده من الملك لأن هذه الأموال الكثيرة التى تصرف في هذه الأحوال لابد أن يكون لها أرباب لا يمكن أخذ هذا القدر منهم على وجه العدل أبدا فأخذه بالظلم وإخراجه في هذه الترهات من أفحش استهتار ومن كانت همته في هذا الحد من التصرف فيما لا يعدو الأجوفين متى تستنجد همته في ضبط بلاده وحفظها وصون رعينه والتوقير لمصالحها ولعمري لقد صدق في كل ذلك
ثم إن يوسف بن تاشفين سأل عن أحوال المعتمد في لذاته هل تختلف فتنقص عما عليه في بعض الأوقات فقيل له بل كل زمانه على هذا فقال أفكل أصحابه وأنصاره على عدوه ومنجديه على الملك ينال حظا من ذلك فقالوا لا قال فكيف ترون رضاهم عنه فقالوا لا رضى لهم عنه فأطرق وسكت وأقام عند المعتمد على تلك الحال أياما
وفي أثنائها استأذن رجل على المعتمد فدخل وهو ذو هيئة رثة وكان من أهل البصائر فلما مثل بين يديه قال أصلحك الله أيها السلطان وإن من اوجب الواجبات شكر النعمة وإن من شكر النعمة إهداء النصائح وإني رجل من رعيتك حالي في دولتك إلى الإختلال أقرب منها إلى الإعتدال ولكنني مع ذلك مستوجب لك من النصيحة ما للملك على رعيته فمن ذلك خبر وقع في أذني من بعض أصحاب ضيفك هذا يوسف بن تاشفين يدل على انهم يرون انفسهم وملكهم أحق بهذه النعمة منك وقد رأيت رأيا فإن آثرت الإصغاء

إليه قلته فقال المعتمد له قله فقال له رأيت ان هذا الرجل الذى أطلعته على ملكك مستأسد على الملوك قد حطم على زناتة ببر العدوة واخذ الملك من أيديهم ولم يبق على واحد منهم ولا يؤمن أن يطمح إلى الطمع في ملكك بل في ملك جزيرة الأندلس كلها لما قد عاينه من هناءة عيشك وإنه لمتخيل في مثل حالك سائر ملوك الأندلس وإن له من الولد والأقارب وغيرهم من يود له الحلول بما انت فيه من خصب الجناب وقد أردى الأذفونش وجيشه واستأصل شأفتهم وأعدمك منه أقوى ناصر عليه لو احتجت إليه فقد كان لك منه أقوى عضد وأوقى مجن وبعد فإنه إن فات الأمر في الأذفونش فلا يفتك الحزم فيما هو ممكن اليوم فقال له المعتمد وماهو الحزم اليوم فقال أن تجمع امرك على قبض ضيفك هذا واعتقاله في قصرك وتجزم انك لا تطلقه حتى يأمر كل من بجزيرة الأندلس من عسكره أن يرجع من حيث جاء حتى لا يبقى منهم أحد بالجزيرة طفل فمن فوقه ثم تتفق أنت وملوك الجزيرة على حراسة هذا البحر من سفينة تجري فيه له ثم بعد ذلك تستحلفه بأغلظ الأيمان ألا يضمر في نفسه عودا إلى هذه الجزيرة إلا باتفاق منكم ومنه وتأخذ منه على ذلك رهائن فإنه يعطيك من ذلك ما تشاء فنفسه أعز عليه من جميع ما يلتمس منه فعند ذلك يقتنع هذا الرجل ببلاده التى لا تصلح إلا له وتكون قد استرحت منه بعدما استرحت من الأذفونش وتقيم في موضعك على خير حال ويرتفع ذكرك عند ملوك الجزيرة ويتسع ملكك وينسب هذا الاتفاق لك إلى سعادة وحزم وتهابك الملوك ثم اعمل بعد هذا ما يقتضيه حزمك في مجاورة من عاملته هذه المعاملة واعلم أنه قد تهيأ لك من هذا أمر سماوي تتفانى الأمم وتجري بحار الدم دون حصول مثله فلما سمع المعتمد كلام

الرجل استصوبه وجعل يفكر في انتهاز الفرصة
وكان للمعتمد ندماء قد انهمكوا معه في اللذات فقال أحدهم لهذا الرجل الناصح ماكان المعتمد على الله وهو إمام أهل المكرمات ممن يعامل بالحيف ويغدر بالضيف فقال الرجل إنما الغدر أخذ الحق من يد صاحبه لا دفع الرجل عن نفسه المحذور إذا ضاق به فقال ذلك النديم ضيم مع وفاء خير من حزم مع جفاء ثم إن ذلك الناصح استدرك الأمر وتلافاه فشكر له المعتمد ووصله بصلة واتصل هذا الخبر بيوسف فأصبح غاديا فقدم له المعتمد الهدايا السنية والتحف الفاخرة فقبلها ثم رحل
انتهى خبر وقعة الزلاقة وما يتبعه ملخصا من كتب التاريخ
ولما انقرض بالأندلس ملك ملوك الطوائف بني عباد وبني ذي النون وبني الأفطس وبني صمادح وغيرهم انتظمت في سلك اللمتونيين وكانت لهم فيها وقعات بالأعداء مشهورة في كتب التواريخ
دخول الأندلس في طاعة الموحدين
ولما مات يوسف بن تاشفين سنة خمسمائة قام بالملك بعده ابنه أمير المسلمين على بن يوسف وسلك سنن أبيه وإن قصر عنه في بعض الأمور ودفع العدو عن الأندلس مدة إلى أن قيض الله تعالى للثورة عليه محمد بن تومرت الملقب بالمهدي الذي أسس دولة الموحدين فلم يزل يسعى في هدم بنيان لمتونة إلى أن مات ولم يملك حضرة سلطنتهم مراكش ولكنه ملك كثيرا من البلاد فاستخلف عبدالمؤمن بن علي فكان من استيلائه على مملكة اللمتونيين ماهو معروف ثم جاز إلى الأندلس وملك كثيرا منها ثم أخرج الإفرنج من مهدية إفريقية وملك بلادإفريقية وضخم ملكه وتسمى بأمير المسلمين

عبدالمؤمن بن علي
ولما كانت سنة 545 سار الأذفونش صاحب طليطلة وبلاد الجلالقة إلى قرطبة ومعه أربعون ألف فارس فحاصرها وكان أهلها في غلاء شديد فبلغ الخبر عبدالمؤمن فجهز إليهم جيشا يحتوي على اثني عشر ألف فارس فلما أشرفوا على الأذفونش رحل عنها وكان فيها القائد أبو الغمر السائب فسلمها إلى صاحب جيش عبدالمؤمن يحيى بن ميمون فبات فيها فلما أصبح رأى الفرنج عادوا إلى مكانهم ونزلوا في المكان الذي كانوا فيه فلما عاين ذلك رتب هنالك ناسا وعاد إلى عبدالمؤمن ثم رحل الفرنج إلى ديارهم
وفي السنة بعدها دخل جيش عبدالمؤمن إلى الأندلس في عشرين ألفا عليهم الهنتاتي فصار إليه صاحب غرناطة ميمون وابن همشك وغيرهما فدخلوا تحت طاعة الموحدين وحرصوا على قصد ابن مردنيش ملك شرق الأندلس وبلغ ذلك ابن مردنيش فخاف وأرسل إلى صاحب برشلونة من الإفرنج يستنجده فتجهز إليه في عشرة آلاف من الإفرنج عليهم فارس وسار صاحب جيش عبدالمؤمن إلى أن قارب ابن مردنيش فبلغه أمر البرشلوني الإفرنجي فرجع ونازل مدينة المرية وهي بأيدي الروم فحاصرها فاشتد الغلاء في عسكره فرجع إلى إشبيلية فأقام فيها وسار عبدالمؤمن إلى سبتة فجهز الأساطيل وجمع العساكر
ثم سار عبدالمؤمن سنة 547 إلى المهدية فملكها وملك إفريقية وضخم ملكه كما قدمناه
يوسف بن عبدالمؤمن
ولما مات بويع بعده ولده يوسف بن عبدالمؤمن ولما تمهدت له الأمور

واستقرت قواعد ملكه دخل إلىجزيرة الأندلس لكشف مصالح دولته وتفقد أحوالها وكان ذلك سنة ست وستين وخمسمائة وفي صحبته مائة ألف فارس من الموحدين والعرب فنزل بحضرة إشبيلية وخافه ملك شرق الأندلس مرسية وما انضاف إليها الأمير الشهير أبو عبدالله محمد بن سعد المعروف بابن مردنيش وحمل على قلب ابن مردنيش فمرض مرضا شديدا ومات وقيل إنه سم ولما مات جاء أولاده وأهله إلى أمير المؤمنين يوسف بن عبدالمؤمن وهو بإشبيلية فدخلوا تحت حكمه وسلموا لأحكامه البلاد فصاهرهم وأحسن إليهم وأصبحوا عنده في أعز مكان ثم شرع في استرجاع البلاد التي استولى عليها الإفرنج فاتسعت مملكته بالأندلس وصارت سراياه تغير إلى باب طليطلة وقيل إنه حاصرها فاجتمع الفرنج كافة عليه واشتد الغلاء في عسكره فرجع عنها إلى مراكش حضرة ملكه ثم ذهب إلى إفريقية فمهدها ثم رجع إلى حضرته مراكش ثم جاز البحر إلى الأندلس سنة ثمانين وخمسمائة ومعه جمع كثيف وقصد غربي بلادها فحاصر مدينة شنترين وهي من أعظم بلاد العدو وبقي محاصرا لها شهرا فأصابه المرض فمات في السنة المذكورة وحمل في تابوت إلى إشبيلية وقيل أصابه سهم من قبل الإفرنج والله سبحانه وتعالى أعلم بحقيقة الحال
وفي ابنه السيد أبي إسحاق يقول مطرف التجيبي رحمه الله تعالى
( سعد كما شاء العلا والفخار ... تصرف الليل به والنهار )
( مادانت الأرض لكم عنوة ... وإنما دانت لأمر كبار )
( مهدتموها فصفا عيشها ... واتصل الأمن فنعم القرار )

ومنها
( فالشاة لا يختلها ذئبها ... وإن أقامت معه في وجار )
يعقوب المنصور
ولما مات يوسف قام بالأمر بعده ابنه الشهير أمير المؤمنين يعقوب المنصور ابن يوسف بن عبدالمؤمن فقام بالأمر أحسن قيام ولما مات يوسف المذكور رثاه أديب الأندلس أبو بكر يحيى بن مجبر بقصيدة طويلة أجاد فيها وأولها
( جل الأسى فأسل دم الأجفان ... ماء الشؤون لغير هذا الشان )
ويعقوب المنصور هو الذي أظهر أبهة ملك الموحدين ورفع راية الجهاد ونصب ميزان العدل وبسط الأحكام الشرعية وأظهر الدين وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر وأقام الحدود على القريب والبعيد وله في ذلك أخبار وفيه يقول الأديب أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الكانمي الأسود الشاعر المشهور
( أزال حجابه عني وعيني ... تراه من المهابة في حجاب )
( وقربني تفضله ولكن ... بعدت مهابة عند اقترابي )
وكثرت الفتوحات في أيامه واول ما نظر فيه عند صيرورة الأمر إليه بلاد الأندلس فنظر في شأنها ورتب مصالحها وقرر المقاتلين في مراكزهم ورجع إلى كرسي مملكته مراكش المحروسة وفي سنة 586 بلغه أن الإفرنج ملكوا مدينة شلب وهي من غرب الأندلس فتوجه إليها بنفسه وحاصرها وأخذها وانفذ في الوقت جيشا من الموحدين والعرب ففتح أربع مدن مما بأيدي الإفرنج من البلاد التى كانوا أخذوها من المسلمين قبل ذلك بأربعين سنة وخافه صاحب طليطلة وسأله الهدنة والصلح فهادنه خمس سنين وعاد إلى مراكش

وأنشد القائد أبو بكر بن عبدالله بن وزير الشلبي وهو من أمراء كتائب إشبيلية قصيدة يخاطب بها يعقوب المنصور فيما جرى في وقعة مع الفرنج كان الشلبي المذكور مقدما فيها
( ولما تلاقينا جرى الطعن بيننا ... فمنا ومنهم طائحون عديد )
( وجال غرار الهند فينا وفيهم ... فمنا ومنهم قائم وحصيد )
( فلا صدر إلا فيه صدر مثقف ... وحول الوريد للحسام ورود )
( صبرنا ولا كهف سوى البيض والقنا ... كلانا على حر الجلاد جليد )
( ولكن شددنا شدة فتبلدوا ... ومن يتبلد لا يزال يجيد )
( فولوا وللسمر الطوال بهامهم ... ركوع وللبيض الرقاق سجود )
رجع إلى أخبار المنصور بعد هدنة الإفرنج
ولما انقضت مدة الهدنة ولم يبق منها إلا القليل خرج طائفة من الإفرنج في جيش كثيف إلى بلاد المسلمين فنهبوا وسعوا وعاثوا عيثا فظيعا فانتهى الخبر إليه فتجهز لقصدهم في جيوش موفرة وعساكر مكتبة واحتفل في ذلك وجاز إلى الأندلس سنة 591 فعلم به الإفرنج فجمعوا جمعا كثيرا من أقاصي بلادهم وأدانيها وأقبلوا نحوه وقيل إنه لما أراد الجواز من مدينة سلا مرض مرضا شديدا ويئس منه أطباؤه فعاث الأذفونش في بلاد المسلمين بالأندلس وانتهز الفرصة وتفرقت جيوش المسلمين بسبب مرض السلطان فأرسل

الأذفونش يتهدد ويتوعد ويرعد ويبرق ويطلب بعض الحصون المتاخمة له من بلاد الأندلس وخلاصة الأمر ان المنصور توجه بعد ذلك إلى لقاء النصارى وتزاحف الفريقان فكان المصاف شمالي قرطبة على قرب قلعة رباح في يوم الخميس تاسع شعبان سنة 591 فكانت بينهم وقعة عظيمة استشهد فيها جمع كبير من المسلمين
وحكي ان يعقوب المنصور جعل مكانه تحت الأعلام السلطانية الشيخ أبا يحيى ابن أبي حفص عم السلطان أبي زكريا الحفصي الذى ملك بعد ذلك إفريقية وخطب له ببعض الأندلس فقصد الإفرنج الأعلام ظنا أن السلطان تحتها فأثروا في المسلمين أثرا قبيحا فلم يرعهم إلا والسلطان يعقوب قد أشرف عليهم بعد كسر شوكتهم فهزمهم شر هزيمة وهرب الأذفونش في طائفة يسيرة وهذه وقعة الأرك الشهيرة الذكر
وحكي أن الذي حصل لبيت المال من دروع الإفرنج ستون ألفا وأما الدواب على اختلاف أنواعها فلم يحصر لها عدد ولم يسمع بعد وقعة الزلاقة بمثل وقعة الأرك هذه وربما صرح بعض المؤرخين بأنها أعظم من وقعة الزلاقة
وقيل ان فل الإفرنج هربوا إلى قلعة رباح فتحصنوا بها فحاصرها السلطان يعقوب حتى أخذها وكانت قبل للمسلمين فأخذها العدو فردت في هذه المرة ثم حاصر طليطلة وقاتلها أشد قتال وقطع أشجارها وشن الغارات على أرجائها وأخذ من أعمالها حصونا وقتل رجالها وسبى حريمها وخرب منازلها وهدم أسوارها وترك الإفرنج في أسوأ حال ولم يبرز إليه أحد من المقاتلة ثم رجع إلى إشبيلية وأقام إلى سنة 593 فعاد إلى بلاد الفرنج وفعل فيها الأفاعيل فلم يقدر العدو على لقائه وضاقت على الإفرنج الأرض بما رحبت فطلبوا الصلح فأجابهم إليه لما بلغه من ثورة الميرقي عليه بإفريقية مع قراقوش مملوك بني أيوب سلاطين مصر والشام
ثم توفي السلطان يعقوب سنة 595 وما يقال إنه ساح في الأرض

وتخلى عن الملك ووصل الى الشام ودفن بالبقاع لا أصل له وإن حكى ابن خلكان بعضه وممن صرح ببطلان هذا القول الشريف الغرناطي في شرح مقصورة حازم وقال إن ذلك من هذيان العامة لولوعهم بالسلطان المذكور
محمد الناصر ووقعة العقاب
وولي بعده والده محمد الناصر المشؤوم على المسلمين وعلى جزيرة الأندلس بالخصوص فإنه جمع جموعا اشتملت على ستمائة ألف مقاتل فيما حكاه صاحب الذخيرة السنية في تاريخ الدولة المرينية ودخله الإعجاب بكثرة من معه من الجيوش فصاف الإفرنج فكانت عليه وعلى المسلمين وقعة العقاب المشهورة التى خلا بسببها أكثر المغرب واستولى الإفرنج على أكثر الأندلس بعدها ولم ينج من الستمائة ألف مقاتل غير عدد يسير جدا لم يبلغ الأف فيما قيل وهذه الوقعة هي الطامة على الأندلس بل والمغرب جميعا وماذاك إلا لسوء التدبير فإن رجال الأندلس العارفين بقتال الإفرنج استخف بهم الناصر ووزيره فشنق بعضهم ففسدت النيات فكان ذلك من بخت الإفرنج والله غالب على أمره وكانت وقعة العقاب هذه المشؤومة سنة 609 ولم تقم بعدها للمسلمين قائمة تحمد
نهاية الموحدين
ولما مات الناصر سنة عشرين وستمائة ولي بعده ابنه يوسف المستنصر وكان مولعا بالراحة فضعفت الدولة في أيامه وتوفي سنة 620

فتولى عم أبيه عبدالواحد بن يوسف بن عبدالمؤمن فلم يحسن التدبير وكان إذ ذاك بالأندلس العادل بن المنصور فرأى أنه أحق بالأمر فاستولى على ما بقي في أيدي المسلمين من الأندلس بغير كلفة ولما خلع عبدالواحد وخنق بمراكش ثارت الإفرنج على العادل بالأندلس وتصاف معهم فانهزم ومن معه من المسلمين هزيمة شنعاء فكانت الأندلس قرحا على قرح فهرب العادل وركب البحر يروم مراكش وترك بإشبيلية اخاه أبا العلاء إدريس ودخل العادل مراكش بعد خطوب ثم قبض عليه الموحدون وقدموا يحيى بن الناصر صغير السن غير مجرب للأمور فادعى حينئذ الخلافة أبو العلاء إدريس بإشبيلية وبايعه أهل الأندلس ثم بايعه أهل مراكش وهو مقيم بالأندلس فثار على أبي العلاء بالأندلس الأمير المتوكل محمد بن يوسف الجذامي ودعا إلى بني العباس فمال الناس إليه ورجعوا عن أبي العلاء فخرج عن الأندلس أعنى أبا العلاء وترك ماوراء البحر لابن هود ولم يزل أبو العلاء يتحارب مع يحيى ابن الناصر إلى أن قتل يحيى وصفا الأمر لأبي العلاء بالمغرب دون الأندلس ثم مات سنة 630
وبويع ابنه الرشيد وبايعه بعض أهل الأندلس ثم توفي سنة 640
وولي بعده اخوه السعيد وقتل على حصن بينه وبين تلمسان سنة 646
وولي بعده المرتضى عمر بن ابراهيم بن يوسف بن عبدالمؤمن وفي سنة 665 دخل عليه الواثق المعروف بأبي دبوس ففر ثم قبض وسيق إلى الواثق فقتله ثم قتل الواثق بنو مرين سنة 668 وبه انقرضت دولة بني عبدالمؤمن وكانت من أعظم الدول الإسلامية فاستولى بنو مرين على المغرب
ظهور ابن هود وابن الأحمر
وأما المتوكل بن هود فملك معظم الأندلس ثم كثرت عليه الخوارج قريب موته وقتله غدرا وزيره ابن الرميمي بالمرية واغتنم الإفرنج الفرصة بافتراق

الكلمة فاستولوا على كثير مما بقي بأيدي المسلمين من البلاد والحصون
ثم آل الأمر إلى ان ملك بنو الأحمر وخطب بعض أهل الأندلس لأبي زكريا الحفصي صاحب إفريقية وقد سبق الكلام على أكثر المذكور هنا وأعدناه لتناسق الحديث ولما في بعضه من زيادة الفائدة على البعض الآخر وذلك لايخفى على المتأمل وقد بسطنا في الباب الثالث احوال ابن هود وابن الأحمر وغيرهما رحم الله تعالى الجميع
الدولة المرينية
ثم استفحل ملك يعقوب بن عبدالحق صاحب المغرب وحضرة ملك فاس فانتصر به أهل الأندلس على الإفرنج الذين تكالبوا عليهم فاجتاز إلى الأندلس وهزم الإفرنج أشد هزيمة حتى قال بعضهم ما نصر المسلمون من العقاب حتى دخل يعقوب المريني وفتك في بعض غزواته بملك من النصارى يقال له ذوننه ويقال إنه قتل من جيشه أربعين ألفا وهزمهم أشد هزيمة ثم تتابعت غزواته بالأندلس وجوازه للجهاد وكان له من بلاد الأندلس رندة والجزيرة الخضراء وطريف وجبل طارق وغير ذلك وأعز الله تعالى به الدين بعد تمرد الفرنج المعتدين ولما مات ولي بعده ابنه يوسف بن يعقوب ففر إليه الأذفونش ملك النصارى لائذا به وقبل يده ورهن عنده تاجه فاعانه على استرجاع ملكه
ولم يزل ملوك بني مرين يعينون أهل الأندلس بالمال والرجال وتركوا منهم حصة معتبرة من أقارب السلطان بالأندلس غزاة فكانت لهم وقائع في العدو مذكورة ومواقف مشكورة وكان عند ابن الأحمر منهم جماعة بغرناطة وعليهم رئيس من بيت ملك بني مرين يسمونه شيخ الغزاة
ولما أفضى الملك إلى السلطان الكبير الشهير أبي الحسن المريني وخلص له المغرب وبعض بلاد الأندلس أمر بإنشاء الأساطيل الكثيرة برسم الجهاد بالأندلس

واهتم بذلك غاية الاهتمام فقضى الله تعالى أن استولى الإفرنج على كثير من تلك المراكب بعد أخذهم الجزيرة الخضراء وكان الإفرنج جمعوا جموعا كثيرة برسم الاستيلاء على مابقي للمسلمين بالأندلس فاستنفر أهل الأندلس السلطان أبا الحسن المذكور فجاء بنفسه إلى سبتة فرضة المجاز ومحل أساطيل المسلمين فإذا بالإفرنج جاءوا بالسفن التي لا تحصى ومنعوه العبور وإغاثة أهل الأندلس حتى استولوا على الجزيرة الخضراء وأنكوه في مراكبه أعظم نكاية ولله الأمر وقد أفصح عن ذلك كتاب صدر من السلطان أبي الحسن المذكور إلى سلطان مصر والشام والحجاز الملك الصالح ابن الملك الناصر محمد ابن الملك المنصور قلاوون الصالحي الألفي رحم الله تعالى الجميع
رسالة من أبي الحسن المريني إلى الملك الصالح 745ه
وهذه نسخة الكتاب المذكور الذي خاطب به أمير المسلمين السلطان أبو الحسن المريني المذكور ملك المغرب رحمه الله تعالى السلطان الملك الصالح ابن السلطان الملك الشهير الكبير الناصر محمد بن قلاوون ووصل إلى مصر في النصف وقيل في العشر الأواخر من شعبان المكرم سنة 745 بعد البسملة والصلاة من عند عبدالله أمير المسلمين المجاهد في سبيل الله رب العالمين المنصور بفضل الله المتوكل عليه المعتمد في جميع اموره لديه سلطان البرين حامي العدوتين مؤثر المرابطة والمثاغرة مؤازر حزب الإسلام حق المؤازرة ناصر الاسلام مظاهر دين الملك العلام ابن مولانا أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين فخر السلاطين حامي حوزة الدين ملك البرين إمام العدوتين ممهد البلاد مبدد شمل الأعاد مجند الجنود المنصور الرايات والبنود محط الرحال مبلغ الآمال أبي سعيد ابن مولانا أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين حسنة الأيام حسام الإسلام أبي الأملاك شجا أهل العناد والإشراك مانع البلاد رافع علم الجهاد

مدوخ أقطار الكفار مصرخ من ناداه للانتصار القائم لله باعلاء دين الحق أبي يوسف يعقوب بن عبدالحق أخلص الله لوجهه جهاده ويسر في قهر عداة الدين مراده
إلى محل ولدنا الذي طلع في أفق العلاء بدرا تما وصدع بانواع الفخار فجلا ظلاما وظلما وجمع شمل المملكة الناصرية فأعلى منها علما وأحيا لها رسما حائط الحرمين القائم بحفظ القبلتين باسط الأمان قابض كف العدوان الجزيل النوال الكفيل تامينه بحياطة النفوس والأموال قطب المجد وسماكه حب الحمد وملاكه السلطان الجليل الرفيع الأصيل الحافل العادل الفاضل الكامل الشهير الخطير الأضخم الأفخم المعان المؤزر المؤيد المظفر الملك الصالح ابو الوليد إسماعيل ابن محل أخينا الشهير علاؤه المستطير في الآفاق ثناؤه زين الأيام والليال كمال عين إنسان المجد وإنسان عين الكمال وارث الدول النافث بصحيح رأيه في عقود اهل الملل والنحل حامي القبلتين بعدله وحسامه النامي في حفظ الحرمين أجر اضطلاعه بذلك وقيامه هازم أحزاب المعاندين وجيوشها هادم الكنائس والبيع فهي خاوية على عروشها السلطان الأجل الهمام الأحفل الأفخم الأضخم الفاضل العادل الشهير الكبير الرفيع الخطير المجاهد المرابط المقسط عدله في الجائر والقاسط المؤيد المظفر المنعم المقدس المطهر زين السلاطين ناصر الدنيا والدين أبي المعالي محمد ابن الملك الأرضى الهمام الأمضى والد السلاطين الأخيار عاقد لواء النصر في قهر الأرمن والفرنج والتتار ومحيي رسوم الجهاد معلي كلمة الإسلام في البلاد جمال الأيام ثمال الأعلام فاتح الأقالم صالح ملوك عصره المتقادم الإمام المؤيد المنصور المسدد قسيم أمير المؤمنين فيما تقلد الملك المنصور سيف الدنيا والدين قلاوون مكن الله له تمكين اوليائه ونمى دولته التى أطلعها السعد شمسا في سمائه وأحسن إيزاغه للشكر أن جعله وارث آبائه

سلام كريم يفوح زهر الربى مسراه وينافح نسيم الصبا مجراه يصحبه رضوان يدوم مادامت تقل الفلك حركاته ويتولاه روح وريحان تحييه به رحمة الله وبركاته اما بعد حمد الله مالك الملك جاعل العاقبة للتقوى صدعا باليقين ودفعا للشك وخاذل من أسر في النفاق النجوى فأصر على الدخن والإفك على سيدنا محمد رسوله الذي محا بانوار الهدى ظلم الشرك ونبيه الذي ختم به الأنبياء وهو واسطة ذلك السلك ودحا به حجة الحق فمادت بالكفرة محمولة الأفلاك وماجت بهم حاملة الفلك والرضى عن آله وصحبه الذين سلكوا سبيل هداه فسلك في قلوبهم أجمل السلك وملكوا أعنة هواهم فلزموا من محجة الصواب أنجح السلك وصابروا في جهاد الأعداء فزاد خلوصهم مع الابتلاء والذهب يزيد خلوصا على السبك والدعاء لأولياء الإسلام وحماته الأعلام بنصر لمضائه في العدا أعظم الفتك ويسر بقضائه درك آمال الظهور وأحفل بذلك الدرك فكتبناه إليكم كتب الله لكم رسوخ القدم وسبوغ النعم من حضرتنا بمدينة فاس المحروسة وصنع الله سبحانه يعرف مذاهب الألطاف ويكيف مواهب تلهج الألسنة في القصور عن شكرها بالاعتراف ويصرف من أمره العظيم وقضائه المتلقى بالتسليم ما يتكون بين النون والكاف ومكانكم العتيد سلطانه وسلطانكم المجيد مكانه وولاؤكم الصحيح برهانه وعلاؤكم الفسيح في مجال الجلال ميدانه وإلى هذا زاد الله سلطانكم تمكينا وأفاد مقامكم تحصينا وتحسينا وسلك بكم من سنن من خلفتموه سبيلا مبينا فلا خفاء بما كانت عقدته أيدي التقوى ومهدته الرسائل التى على الصفاء تطوى بيننا وبين والدكم نعم الله روحه وقدسه وبقربه مع الأبرار في عليين آنسه من مواخاة احكمت منها العهود تالية الكتب والفاتحة وحفظ عليها محكم الإخلاص معوذتاها المحبة والنية الصالحة فانعقدت على التقوى والرضوان واعتضدت بتعارف الأرواح عند تنازح الأبدان حتى استحكمت وصلة الولاء والتأمت كلحمة النسب لحمة

الإخاء فما كان إلا وشيكا من الزمان ولا عجب قصر زمن الوصلة أن يشكوه الخلان ورد وارد رنق المشارب وحقق قول ومن يسأل الركبان عن كل غائب أنبأ باستئثار الله تعالى بنفسه الزكية وإكنان درته السنية وانقلابه إلى ما أعد له من المنازل الرضوانية بجليل ما وقر لفقده في الصدور وعظيم ما تأثرت له النفوس لوقوع ذلك المقدور حنانا للإسلام بتلك الأقطار وإشفاقا من أن يعتور قاصدي بيت الله الحرام من جراء الفتن عارض الإضرار ومساهمة في مصاب الملك الكريم والولي الحميم ثم عميت الأخبار وطويت طي السجل الآثارفلم نر مخبرا صدقا ولا معلما بمن استقر له ذلكم الملك حقا
وفي أثناء ذلك أحفزنا للحركة عن حضرتنا استصراخ اهل الأندلس وسلطانها وتواتر الأخبار بأن النصارى اجمعوا على خراب أوطانها ونحن أثناء ذلكم الشان نستخبر الوراد من تلكم البلدان عما اجلى عنه ليل الفتن بتلكم الأوطان فبعد لأي وقعنا منها على الخبير وجاءنا بوقاية حرم الله بكم البشير وتعرفنا أن الملك استقر منكم في نصابه وتداركه الله تعالى منكم بفاتح الخير من أبوابه فأطفأ بكم نار الفتنة واخمدها وأبرأ من أدواء النفاق ما أعل البلاد وأفسدها فقام سبيل الحج سابلا وتعبد طريقه لمن جاء قاصدا وقافلا ولما احتفت بهذا الخبر القرائن وتواتر بنقل الحاضر له والمعاين أثار حفظ الاعتقاد البواعث والود الصحيح تجره حقا الموارث فأصدرنا لكم هذه المخاطبة المتفننة الأطوار الجامعة بين الخبر والاستخبار الملبسة من العزاء والهناء ثوبي الشعار والدثار ومثل ذلكم الملك رضوان الله عليه من تجل المصائب لفقدانه وتحل عرى الاصطبار بموته ولات حين اوانه لكن الصبر أجمل ما ارتداه ذو عقل حصين والأجر أولى ما اقتناه ذو دين متين ومثلكم من لايخف وقاره ولا يشف عن ظهور الجزع الحادث اصطباره ومن خلفكم فما مات ذكره ومن

قمتم بأمره فما زال بل زاد فخره وقد طالت والحمد لله العيشة الراضية بالحقب وطاب بين مبداه ومحتضره هنيئا بما من الأجر اكتسب وصار حميدا إلى خير المنقلب ووفد من كرم الله على أفضل ما منح موقنا ووهب فقد ارتضاكم الله بعده لحياطة أرضه المقدسة وحماية زوار بيته مقيلة أو معرسة ونحن بعد بسط هذه التعزية نهنيكم بما يخولكم الله أجمل التهنية وفي ذات الله الإيراد والإصدار وفي مرضاته سبحانه الإضمار والإظهار فاستقبلوا دولة ألقى العز عليها رواقه وعقد الظهور عليها نطاقه وأعطاها أمان الزمان عقده وميثاقه ونحن على ما عاهدنا عليه الملك الناصر رضوان الله عليه من عهود موثقة وموالاة محققة وثناء كمائمه عن أذكى من الزهر غب القطر مفتقة
ولم يغب عنكم ماكان من بعثنا المصحفين الأكرمين اللذين خطتهما منا اليمين وأوت بهما الرغبة من الحرمين الشريفين إلى قرار مكين وإنه كان لوالدكم الملك الناصر تولاه الله برضوانه واورده موارد إحسانه في ذلكم من الفعل الجميل والصنع الجليل ما ناسب مكانه الرفيع وشاكله فضله من البر الذي لا يضيع حتى طبق فعله الآفاق ذكرا وطوق أعناق الوراد والقصاد برا وكان من اجمل ما به تحفى واتحف وأعظم ما بعرفه إلى رضى الملك العلام في ذلك تعرف إذنه للمتوجهين إذ ذاك في شراء رباع توقف على المصحفين ورسم المراسم المباركة بتحرير ذلك الوقف مع اختلاف الجديدين فجرت أحوال القراء فيهما بذلك الخراج المستفاد ريثما يصلحهم من خراج ما وقفناه عليهم بهذه البلاد على ما رسمه رحمة الله عليه من عناية بهم متصلة واحترام في تلك الأوقاف فوائدها به متوفرة متحصلة وقد أمرنا مؤدي هذا لكمالكم وموفده على جلالكم كاتبنا الأسني الفقيه الأجل الأحظى الأكمل أبا المجد ابن كاتبنا الشيخ الفقيه الأجل الحاج الأتقى الأرضى الأفضل الأحظى الأكمل المرحوم أبي عبدالله ابن أبي مدين حفظ الله عليه رتبته ويسر في قصد

البيت الحرام بغيته بان يتفقد أحوال تلك الأوقاف ويتعرف تصرف الناظر عليها وما فعله من سداد وإسراف وأن يتخير لها من يرتضى لذلك ويحمد تصرفه فيما هنالك وخاطبنا سلطانكم في هذا الشأن جريا على الود الثابت الأركان وإعلاما بما لوالدكم رحمه الله تعالى في ذلك من الأفعال الحسان وكمالكم يقتضي تخليد ذلكم البر الجميل وتجديد عمل ذلكم الملك الجليل وتشييد ما اشتمل عليه من الشكر الأصيل والأجر الجزيل والتقدم بالإذن السلطاني في إعانة هذا الوفد بهذا الكتاب على ما يتوخاه في ذلك الشأن من طرق الصواب وثناؤنا عليكم الثناء الذي يفاوح زهر الربى ويطارح نغم حمام الأيك مطربا
وبحسب المصافاة ومقتضى الموالاة نشرح لكم المتزايدات بهذه الجهات وننبئكم بموجب إبطاء هذا الخطاب على ذلكم الجناب وذلك انه لما وصلنا من الأندلس الصريخ ونادى مناد للجهاد عزما لمثل ندائه يصيخ أنبأنا أن الكفار قد جمعوا أحزابهم من كل صوب وحتم عليهم باباهم اللعين التناصر من كل أوب وان تقصد طوائفهم البلاد الأندلسية بإيجافها وتنقص بالمنازلة أرضها من أطرافها ليمحوا كلمة الإسلام منها ويقلصوا ظل الإيمان عنها فقدمنا من يشتغل بالأساطيل من القواد وسرنا على إثرهم إلى سبتة منتهى المغرب الأقصى وباب الجهاد فما وصلناها إلا وقد أخذ أخذه العدو الكفور وسدت أجفان الطواغيت على التعاون مجاز العبور واتوا من أجفانهم بما لا يحصى عددا وأرصدوها بمجمع البحر حيث المجاز إلى دفع العدا وتقلصوا عن الانبساط في البلاد واجتمعوا إلى الجزيرة الخضراء أعادها الله بكل من جمعوه من الأعاد لكنا مع انسداد تلك السبيل وعدم أمور نستعين بها في ذلكم العمل الجليل حاولنا إمداد تلكم البلاد بحسب الجهد وأصرخناهم بمن أمكن من الجند وجهزنا أجفانا مختلسين فرصة الإجازة تتردد على خطر بمن جهز للجهاد جهازه وأمرنا لصاحب الأندلس من المال بما يجهز به حركته

لمداناة محلة حزب الضلال وأجرينا له و لجيشه العطاء الجزل مشاهرة وأرضخنا لهم في النوال ما نرجو به ثواب الآخرة وجعلت أجفاننا تتردد في ميناء السواحل وتلج أبواب الخوف العاجل لإحراز الأمن الآجل مشحونة بالعدد الموفورة والأبطال المشهورة والخيل المسومة والأقوات المقومة فمن ناج حارب دونه الأجل وشهيد مضى لما عند الله عز و جل ومازالت الأجفان تتردد على ذلك الخطر حتى تلف منها سبع وستون قطعة غزوية أجرها عند الله يدخر ثم لم نقنع بهذا العمل في الأمداد فبعثنا أحد أولادنا أسعدهم الله تعالى مساهمة به لأهل تلك البلاد فلقي من هول البحر وارتجاجه وإلحاح العدو ولجاجه مابه الأمثال تضرب وبمثله يتحدث ويستغرب ولما خلص لتلك العدوة بمن أبقته الشدائد نزل بإزاء الكافر الجاحد حتى كان منه بفرسخين أو أدنى وقد ضرب بعطن يصابح العدو ويماسيه بحرب بها يمنى
وقد كان من مددنا بالجزيرة جيش شريت شرارته وقويت في الحرب إدارته يبلون البلاد الأصدق ولا يبالون بالعدو وهم منه كالشامة البيضاء في البعير الأورق إلا أن المطاولة بحصرها في البحر مدة ثلاثة أعوام ونصف ومنازلتها في البر نحو عامين معقودا عليها الصف بالصف أدى إلى فناء الأقوات بالبلد حتى لم يبق لأهله قوت نصف شهر مع انقطاع المدد وبه من الخلق مايربي على عشرة آلاف دون الحرم والولد فكتب إلينا سلطان الأندلس يرغب في الإذن له في عقد الصلح ووقع الاتفاق على انه لاستخلاص المسلمين من وجوه النجح فأذنا له فيه الإذن العام إذ في إصراخه وإصراخ من بقطره من المسلمين توخينا ذلك المرام هنالك دعي النصارى إلى السلم فاستجابوا وقد كانوا علموا فناء القوت وما استرابوا فتم الصلح إلى عشر سنين وخرج من بها من فرسان ورجال وأهل وبنين ولم يرزأوا مالا ولا عدة ولا لقوا في خروجهم غير النزوع عن أول أرض مس الجلد ترابها شدة ووصلوا إلينا فأجزلنا لهم العطاء وأسليناهم عما جرى بالحباء فمن خيل تزيد على الألف

عتاقها وخلع تربي على عشرة آلاف أطواقها واموال عمت الغني والفقير ورعاية شملت الجميع بالعيش النضير وكف الله ضر الطواغيت عما عداها وما انقلبوا بغير مدرة عفا رسمها وصم صداها
وقد كان من لطف الله حين قضى باخذ هذا الثغر ان قدر لنا فتح جبل طارق من أيدي الكفر وهو المطل على هذه المدرة والفرصة منها إن شاء الله متيسرة حتى يفرق عقد الكفار ويفرج بهذه الجهة منهم مجاورو هذه الأقطار فلولا إجلابهم من كل جانب وكونهم سدوا مسلك العبور بما لجميعهم من الأجفان والمراكب لما بالينا بإصعاقهم ولحللنا بعون الله عقد اتفاقهم ولكن للموانع أحكام ولاراد لما جرت به الأقلام وقد أمرنا لذلك الثغر بمزيد المدد وتخيرنا له ولسائر تلك البلاد العدد والعدد وعدنا لحضرتنا فاس لتستريح الجيوش من وعثاء السفر وترتبط الجياد وتنتخب العدد لوقت الظهور المنتظر وتكون على أهبة الجهاد وعلى مرقبة الفرصة عند تمكنها في الأعاد
وعند عودنا من تلك المحاولة تيسر الركب الحجازي موجها إلى هنالكم رواحله فأصدرنا إليكم هذا الخطاب إصدار الود الخالص والحب اللباب وعندنا لكم ماعند أحنى الآباء واعتقادنا فيكم في ذات الله لا يخشى جديده من البلاء وما لكم من غرض بهذه الأنحاء فموفى قصده على أكمل الأهواء موالى تتميمه على أجمل الآراء والبلاد باتحاد الود متحدة والقلوب والأيدي على ما فيه مرضاة الله عز و جل منعقدة جعل الله ذلكم خالصا لرب العباد مدخورا ليوم التناد مسطورا في الأعمال الصالحة يوم المعاد بمنه وفضله وهو سبحانه وتعالى يصل إليكم سعدا تتفاخر به سعود الكواكب

وتتضافر على الانقياد له صدور المواكب وتتقاصر عن نيل مجده متطاولات المناكب والسلام الأتم يخصكم كثيرا أثيرا ورحمة الله وبركاته وكتب في يوم الخميس السادس والعشرين لشهر صفر المبارك من عام خمسة وأربعين وسبعمائة وصورة العلامة وكتب في التاريخ المؤرخ
جواب الملك الصالح من إنشاء الصفدي
ونسخة الجواب عن ذلك من إنشاء خليل الصفدي شارح لامية العجم في سادس شهر رمضان سنة خمس وأربعين وسبعمائة بعد البسملة في قطع النصف بقلم الثلث عبدالله ووليه صورة العلامة ولده إسماعيل بن محمد السلطان الممالك الصالح السيد العالم العادل المؤيد المجاهد المرابط المثاغر المظفر المنصور عماد الدنيا والدين سلطان الإسلام والمسلمين محيي العدل في العالمين منصف المظلومين من الظالمين وارث الملك ملك العرب والعجم والترك فاتح الأقطار واهب الملك والأمصار إسكندر الزمان مملك أصحاب المنابر والأسرة والتخوت والتيجان ظل الله في أرضه القائم بسنته وفرضه مالك البحرين خادم الحرمين الشريفين سيد الملوك والسلاطين جامع كلمة الموحدين ولي أمير المؤمنين أبو الفداء إسماعيل ابن السلطان الشهيد السعيد الملك الناصر ناصر الدنيا والدين أبي الفتح محمد ابن السلطان الشهيد السعيد الملك المنصور سيف الدنيا والدين قلاوون خلد الله تعالى سلطانه وجعل الملائكة أنصاره وأعوانه يخص المقام العالي الملك الأجل الكبير المجاهد المؤيد المرابط المثاغر المعظم المكرم المظفر المعمر الأسعد الأصعد الأوحد الأمجد الأنجد السني السري المنصور أبا الحسن على ابن أمير المسلمين أبي سعيد ابن أمير المسلمين أبي يوسف

يعقوب بن عبدالحق أمده الله بالظفر وقرن عزمه بالتأييد في الآصال والبكر
سلام وشت البروق وشائعه وادخرت الكواكب ودائعه واستوعب الزمان ماضيه ومستقبله ومضارعه وثناء اتخذ النفحات المسكية طلائعه ونبه للتغريد في الروض سواجعه وجلى في كأسه من الشفق المحمر مدامه ومن النجوم فواقعه بعد حمد الله على نعم أدت لنا الأمانة في عود سلطنة والدنا الموروثة وأجلستنا على سرير مملكة زرابيها بين النجوم مبثوثة وأحسنت بنا الخلف عن سلف عهوده في الأعناق غير منكورة ولا منكوثة وصلاته على سيدنا محمد عبده ورسوله وعلى آله وصحبه الذين بلغ بجهادهم في الكفرة غاية أمله وسوله صلاة تحط بالرضوان سيولها وتجر بالغفران ذيولها ما تراسل أصحاب وتواصل أحباب ويوضح للعلم الكريم ورود كتابكم العظيم وخطابكم الفائق على الدر النظيم تفاخر الخمائل سطوره ويصبغ خد الورد بالخجل منثوره ويحكي الرياض اليانعة فالألفات غصونه والهمزات عليها طيوره ويخلع على الآفاق حلل الأيام والليالي فالطرس صباحه والنفس ديجوره لفظه يطرب ومعناه يعرب فيغرب وبلاغته تدل على أنه آية لأن شمس بيانها طلعت من المغرب فاتخذنا سطوره ريحانا ورجعنا ألفاته ألحانا ورجعنا إلى الجد فشبهنا ألفاظه بظلال الرماح وورقه بصقال الصفاح وحروفه المفرقة بأفواه الجراح وسطوره المنتظمة بالفرسان المزدحمة في يوم الكفاح وانتهينا إلى ما أودعتموه من اللفظ المسجوع والمعنى الذي يطرب طائره المسموع والبلاغة التى فضح المتطبع بيانها المطبوع
فأما العزاء بأخيكم الوالد قدس الله روحه وسقى عهده وأحسن لسلفه خلفنا بعده فلنا برسول الله أسوة حسنة ولولا الوثوق بأنه في عدة الشهداء ما رأى القلب قراره ولا الطرف وسنه عاش سعيدا يملك الأرض ومات

شهيدا يفوز بالجنة يوم العرض قد خلد الله ذكره يسير مسير الشمس في الآفاق ويوقف على نضارة حدائقه نظرات الأحداق وورثنا منه حسن الإخاء لكم والوفاء بعهود مودة تشبه في اللطف شمائلكم واما الهناء بوراثة ملكه والانخراط مع الملوك في سلكه فقد شكرنا لكم منحى هذه المنحه وقابلناها بثناء يعطر النسيم في كل نفحه ووقفنا عليها حمدا جعل الود علينا إيراده وعلى أنفاس سرحه الروض شرحه وتحققنا به حسن ودكم الجميل وكريم إخائكم الذي لا يميد طود رسوخه ولا يميل
واما ما ذكرتموه من امر المصحفين الشريفين اللذين وقفتموهما على الحرمين المنيفين وانكم جهزتم كاتبكم الفقيه الأجل الأسنى الأسمى أبا المجد ابن كاتبكم أبي عبدالله ابن أبي مدين أعزه الله تعالى لتفقد احوالهما والنظر في امر أوقافهما فقد وصل المذكور بمن معه في حرز السلامة وأكرمنا نزلهم وسهلنا بالترحيب سبلهم وجمعنا على بذل الإحسان إليهم شملهم وحضر المذكور بين أيدينا وقربناه وسمعنا كلامه وخاطبناه وأمرنا في أمر المصحفين الشريفين بما أشرتم ورسمنا لنوابنا في نواحي أوقافهما بما ذكرتم وهذا الوقف المبرور جار على أحسن عادة الفها وأثبت قاعدة عرفها مرعي الجوانب محمي المنازل والمضارب آمن من إزالة رسمه أو إزالة حكمه بدره أبدا في مطالع تمه وزهره دائما يرقص في كمه لا يزداد إلا تخليدا ولا إطلاق ثبوته إلا تقييدا ولا عنق اجتهاده إلا تقليدا جريا على عادة أوقاف ممالكنا وقاعدة تصرفاتنا في مسالكنا وله مزيد من الرعاية وإفادة الحماية ووفادة العناية
وأما ما وصفتموه من أمر الجزيرة الخضراء ومالاقاه أهلها ومني به من

الكفار حزنها وسهلها فإنه شق علينا سماعه الذي أنكى أهل الإيمان وعدد به ذنوب الزمان كل قلب بأنامل الخفقان وطالما فزتم بالظفر ورزقتم النصر على عدوكم فجر ذيل الهزيمة وفر ولكن الحروب سجال وكل زمان لدوائه دولة ولرجائه رجال ولو أمكنت المساعدة لطارت بنا إليكم عقبان الجياد المسومة وسالت على عدوكم أباطحهم بقسينا المعوجة وسهامنا المقومة وكحلنا عيون النجوم بمراود الرماح وجعلنا ليل العجاج ممزقا ببروق الصفاح واتخذنا رؤوسهم لصوالج القوائم كرات وفرجنا مضايق الحرب بتوالي الكرات وعطفنا إليهم الأعنة وخضنا جداول السيوف ودسنا شوك الأسنة وفلقنا الصخرات بالصرخات وأسلنا العبرات بالرعبات ولكن أين الغاية من هذا المدى المتطاول وأين الثريا من يد المتناول وما لنا غير إمدادكم بجنود الدعاء الذي نرفعه نحن ورعايانا والتوجه الصادق الذي تعرفه ملائكة القبول من سجايانا
وأما ما فقدتموه من الأجفان التي طرقها طيف التلاف وأم حرم فنائها الفناء وطاف به بعد الإلطاف فقد روع هذا الخبر قلب الإسلام ونوع له الحزن على اختلاف الإصباح والإظلام وهذه الدار ما يخلو صفوها من كدر القدر وطالما أنامت بالأمن أول الليل وخاطبت بالخطب في السحر ولكن في بقائكم ما يسلي من خطب العطب ومع سلامة نفسكم الكريمة فالأمر هين لأن الدر يفدى بالذهب
وأما ما رأيتموه من الصلح فرأي عقده مبارك وامر ما فيه فارط عزم وإن كان فيتدارك والأمر يجيء كما يحب لا كما نحب والحروب يزورها نصرها تارة ويغب ومع اليوم غدا وقد يرد الله الردى ويعيد الظفر بالعدا
وأما عودكم إلى فاس المحروسة طلبا لإراحة من عندكم من الجنود

وتجهيزا لمن يصل من عندكم إلى الحجاز الشريف من الوفود فهذا أمر ضروري التدبير سروري التثمير لأن النفوس تمل وثير المهاد فكيف ملازمة صهوات الجياد وتسأم من مجالسة الشرب فكيف بممارسة الحرب وتعرض عن دوام اللذة فكيف بمباشرة المنايا الفذة وهذا جبل طارق الذي فتح الله به عليكم وساق هدي هديته إليكم لعله يكون سببا إلى ارتجاع ما شرد وحسما لهذا الطاغية الذي مرد وردا لهذا النازل الذي قدم ورد الصبر لما ورد فعادة الألطاف الإلهية بكم معروفة وعزماتكم إلى جهات الجهاد مصروفة وقد تفاءلنا لكم من هذا الجبل بأنه طارق خير من الرحمن يطرق وجبل يعصم من سهم يمر من قسي الكفار ويمرق
واما ما منحتموه من الخيل العتاق والملابس التى تطلع بدور الوجوه من مشارق الأطواق والأموال التي زكت عند الله تعالى ونمت على الإنفاق فعلى الله عز و جل خلفها ولكم في منازل الدنيا والآخرة شرفها وإليكم تساق هدايا أثنيتها وتحفكم تحفها وإذا وصل وفدكم الحاج وأنار له بوجه إقبالنا عليهم ليلهم الداج كانوا مقيمين تحت ظل إكرامنا وشمول إسعافنا لهم وإنعامنا يتخولون تحفا أنتم سببها ويتناولون طرفا في كؤوس الاعتناء بهم تنضد حببها وإذا كان أوان الرحيل إلى الحج فسحنا لهم الطريق وسهلنا لهم الرفيق وبلغناهم بحول الله تعالى مناهم من منى وسولهم ممن إذا زاروا حجرته الشريفة حازوا الراحة من العنا وفازوا بالغنى وإذا عادوا عاملناهم بكل جميل ينسيهم مشقة ذلك الدرب ويخيل إليهم أن لا مسافة لمسافر بين الشرق والغرب وغمرناهم بالإحسان في العود إليكم وأمرناهم بما ينهونه شفاها لديكم وعناية الله تعالى تحوط ذاتكم وتوفر لأخذ الثأر حماتكم وتخصكم بتأييد تنزلون روضة الأنضر وتجنون به ثمر النصر اليانع من ورق الحديد الأخضر وتتحفكم بسعد لا يبلى قشيبه وعز لا يمحو شبابه مشيبه وتحيته المباركة تغاديكم وتراوحكم وتفاوحكم انفاسها المعنبرة وتنافحكم بمنه وكرمه انتهى

إجازة من الصفدي رواية الرسالتين
ورأيت بخط منشىء هذا الجواب الصلاح الصفدي رحمه الله تعالى إثر ذكره ما نصه أما بعد حمد لله تعالى على نعمائه محمد عبده ورسوله خاتم أنبيائه فقد قرأ الشيخ الإمام العالم العامل العلامة المفيد القدوة عزالدين أبو يعلى حمزة ابن الرئيس الكبير الفاضل القاضي قطب الدين موسى بن أحمد ابن شيخ السلامية الأحمدي امتع الله بفوائده الكتاب الوارد من سلطان المغرب الملك المجاهد المرابط أبي الحسن المريني صاحب مراكش تغمده الله تعالى برحمته والجواب عنه عن السلطان الشهيد الملك الصالح عماد الدين إسماعيل ابن السلطان الشهيد الملك الناصر محمد قدس الله تعالى روحهما من إنشائي وانا أسمع ذلك جميعا من أولهما إلى آخرهما قراءة أطربت السمع لفصاحتها وامالت العطف لرجاحتها
( وأخجلت ورق الحمى باللوى ... إن صدحت في ذروة الغصن )
( تكاد من لطف ومن رقة ... تدخل في الأذن بلا إذن )
وذلك في مجلس واحد في ذي القعدة سنة 756 بالجامع الأموي بدمشق المحروسة فإن رأى رواية ذلك عني فله علو الرأي في تشريفي بذلك وكتبه خليل ابن أبيك الصفدي الشافعي عفا الله عنه انتهى
أبو الحسن يكتب ثلاثة مصاحف
وكان السلطان ابو الحسن المريني المذكور كتب ثلاثة مصاحف شريفة بخطه وأرسلها إلى المساجد الثلاثة التى تشد إليها الرحال وأوقف عليها أوقافا جليلة كتب توقيعه سلطان مصر والشام بمسامحتها من إنشاء الأديب الشهير جمال الدين ابن نباتة المصري ونص ما يتعلق به الغرض منه هنا قوله وهو

400 - الذي مد يمينه بالسيف والقلم فكتب في أصحابها وسطر الختمات الشريفة فأيد الله حزبه بما سطر من أحزابها واتصلت اخبار ملائكة النصر بلوائه تغدو وتروح وكثرت فتوحه لأملياء الغرب فقالت أوقاف الشرق لا بد للفقراء من فتوح ثم وصلت ختمات شريفة كتبها بقلمه المجيد المجدي وخط سطورها بالعربي وطالما خط في صفوف الأعداء بالهندي ورتب عليها اوقافا تجري أقلام الحسنات في إطلاقها وطلقها وحبس املاكا شامية تحدث بنعم الأملاك التى سرت من مغرب الأرض إلى مشرقها والله تعالى يمتع من وقف هذه الختمات بما سطر له في أكرم الصحائف وينفع الجالس من ولاة الأمور في تقريرها ويتقبل من الواقف انتهى
قلت وقد رأيت احد المصاحف المذكورة وهو الذي ببيت المقدس وربعته في غاية الصنعة
نبذة من أخبار أبي الحسن
وقال بعض المشارقة في حق السلطان أبي الحسن ما صورته ملك أضاء المغرب بانوار هلاله وجرت إلى المشرق انواء نواله وطابت نسماته واشتهرت عزماته كان حسن الكتابة كثير الإنابة ذا بلاغة وبراعة وشهامة وشجاعة كتب بخطه ثلاثة مصاحف ووقفها على المساجد الثلاثة أقام في الملك عشر سنين وسبعة أيام ثم صرف بولده أبي عنان بعد حروب يطول شرحها انتهى من كتاب نزهة الأنام
ولما ذكر الإمام الخطيب أبو عبدالله ابن مرزوق في كتابه المسند الصحيح الحسن من أخبار للسلطان أبي الحسن أمر الربعة التى أرسلها السلطان ابو الحسن بخطه قال ما ملخصه وأرسل معها السلطان الملك الناصر بن قلاوون صاحب الديار المصرية من احجار الياقوت العظيم القدر والثمن ثمانمائة وخمسة وعشرين ومن الزمرذ مائة وثمانية وعشرين ومن الزبرجد مائة وثمانية وعشرين

ومن الجوهر النفيس الملوكي ثلاثمائة وأربعة وستين وأرسل حللا كثيرة منها مذهبة ثلاثة عشر ومن الإناق عشرين مذهبة ومن الخلادي ستة وأربعين ومن القنوع ستة وعشرين مذهبة ومن المحررات المختمة ثمانمائة ومن الرصان عشرين شقة والأكسية المحررة أربعة وعشرين والبرانس المحررة ثمانية عشر والمشففات مائة وخمسين واحارم الصوف المحررة عشرين ومن شقق الملف الرفيع ستة عشر ومن الفضالي المنوعة والفرش والمخاد المنبوق والحلل ثمانمائة واوجه اللحف المذهبة عشرين وحائطان حلة وحنابل مائة واثني عشر كلها حرير وفرش جلد مخروز بالذهب والفضة ومن السيوف المحلاة بالذهب المنظم بالجوهر عشرة والسروج عشرة بركب ذهب ومهاميز ذهب كذلك وثلاثة ركب فضة وست مزججة ومذهبة ومضمتان من ذهب مما يليق بالملوك وشاشية حرير مطوقة بذهب مكلل بالجوهر ومن لزمات الفضة عشرة وسرج مخروزة بالفضة عشرة وعشر علامات معششة مذهبة وعشر رايات مذهبة وعشر براقع مذهبة وعشر أمثلة مرقومة وثلاثين جلد أشرك وأربعة آلاف درقة لمط منها مائتان بنهود الذهب وثمانية عشر بنهود الفضة وخباء قبه كبيرة من مائة بنيقة لها أربعة أبواب وقبة أخرى مضربة من ست وثلاثين بنيقة مبطنة بحلة مذهبة وهي حرير أبيض ومرابطها حرير ملون وعمودها عاج وآبنوس واكبارها من فضة مذهبة ومن البزاة الأحرار المنتقاة أربعة وثلاثين ومن عتاق الخيل العراب ثلاثمائة وخمسة وثلاثين ومن البغال الذكور والإناث مائة وعشرين ومن الجمال سبعمائة وتوجهت مع هذه الهدية أمم برسم الحج مع الربعة المكرمة وأعطى الحرة أم أخته أم

ولد أبيه مريم ثلاثة آلاف وخمسمائة ذهبا ولقاضي الركب ثلاثمائة وكسوة ولقائد الركب أربعمائة وكساوى متعددة وبغلات وللرسول المعين للهدية ألفا ولشيخ الركب احمد بن يوسف بن أبي محمد صالح خمسمائة ولجماعة الضعفاء من الحجاج ستمائة وبرسم العطاء للعرب ثلاثة آلاف وثمانمائة ولشراء ربع ستة عشر ألفا وخمسمائة ذهبا انتهى
وذكر في الكتاب المذكور أن السلطان أبا الحسن الموصوف أهدى هدايا غير هذه لكثير من الملوك ومنها لصاحب الأندلس صلة وصدقة في مرات ومنها لملوك النصارى بعد هداياهم ومنها لسلاطين السودان كصاحب مالي ومنها لصاحب إفريقية ومنها لصاحب تلمسان انتهى
وقال مؤرخ مصر المقريزي في كتاب السلوك في سنة 738 ما نصه وفي ثاني عشرين من رمضان قدمت الحرة من عند السلطان أبي الحسن علي بن عثمان بن يعقوب المريني صاحب فاس تريد الحج ومعها هدية جليلة إلى الغاية نزل لحملها من الإصطبل السلطاني ثلاثون قطارا من بغال النقل سوى الجمال كان من جملتها أربعمائة فرس منها مائة حجرة ومائة فحل ومائتا بغل وجميعها بسرج ولجم مسقطة بالذهب والفضة وبعضها سرجها وركبها كلها ذهب وكذلك لجمها وعدتها اثنان وأربعون رأسا منها سرجان من ذهب مرصع بجوهر وفيها إثنان وثلاثون بازا وفيها سيف قرابه ذهب مرصع وحياصته ذهب مرلاصع وفيها مائة كساء وغير ذلك من القماش العال وكان قد خرج المهمندار إلى لقائهم وانزلهم بالقرافة قريب مسجد الفتح وهم جمع كبير جدا وكان يوم طلوع الهدية من الأيام المذكورة ففرق السلطان الهدية على الأمراء بأسرهم على قدر مراتبهم حتى نفدت كلها سوى الجواهر واللؤلؤ فإنه اختص به فقدرت قيمة هذه الهدية بما يزيد على مائة ألف دينار ثم نقلت الحرة إلى الميدان بمن معها ورتب لها من الغنم والدجاج والسكر والحلوى والفاكهة في كل يوم بكرة وعشية ما عمهم وفضل عنهم فكان

مرتبهم كل يوم عدة ثلاثين رأسا من الغنم ونصف إردب أرز وقنطار حب رمان وربع قنطار سكر وثماني فانوسيات شمع وتوابل الطعام وحمل إليها برسم النفقة مبلغ خمسة وسبعين ألف درهم وأجرة حمل أثقالهم مبلغ ستين ألف درهم ثم خلع على جميع من قدم مع الحرة فكانت عدة الخلع مائتين وعشرين خلعة على قدر طبقاتهم حتى خلع على الرجال الذين قادوا الخيول وحمل إلى الحرة من الكسوة ما يجل قدره وقيل لها أن تملي ما تحتاج إليه ولا يعوزها شيء وإنما تريد عناية السلطان بإكرامها وإكرام من معها حيث كانوا فتقدم السلطان إلى النشو وإلى الأمير أحمد أقبغا بتجهيزها اللائق بها فقاما بذلك واستخدما لها السقائين والضوية وهيئا كل ما تحتاج إليه في سفرها من أصناف الحلاوات والسكر والدقيق والبقسماط وطلبا الحمالة لحمل جهازها وأزودتها وندب السلطان للسفر معها جمال الدين متولي الجيزة وأمره أن يرحل بها في مركب لها بمفردها قدام المحمل ويمتثل كل ما تأمر به وكتب لأميري مكة والمدينة بخدمتها اتم خدمة
وقال في سنة خمس وأربعين وسبعمائة ما نصه وفي نصف شعبان قدمت الحرة أخت صاحب المغرب في جماعة كثيرة وعلى يدها كتاب السلطان أبي الحسن يتضمن السلام وأن يدعو له الخطباء يوم الجمعة وخطبها ومشايخ الصلاح وأهل الخير بالنصر على عدوهم ويكتب إلى أهل الحرمين بذلك وذلك أن في السنة الخالية كانت بينه وبين الفرنج وقعة عظيمة قتل فيها ولده ونصره الله تعالى بمنه على العدو وقتل كثيرا منهم وملكوا منهم الجزيرة الخضراء فعمر الفرنج مائتي شيني وجمعوا طوائفهم وقصدوا المسلمين وأوقعوا بهم على حين غفلة فأستشهد عالم كثير ونجا أبو الحسن في طائفة من ألزامه بعد شدائد وملك الفرنج الجزيرة وأسروا وسبوا وغنموا شيئا يجل وصفه ثم مضوا إلى جهة غرناطة ونصبوا عليها مائة منجنيق حتى صالحهم أهلها على قطيعة يقومون بها وتهادنوا مدة عشر سنين انتهى كلامه

وقد تقدم نص هذا الكتاب الموجه من السلطان أبي الحسن فليراجع قريبا
وقال ابن مرزوق في المسند الصحيح الحسن بعد كلام ما ملخصه وكان يعني السلطان أبا الحسن مجتهدا في الجهاد بنفسه وحرمه وجاز للأندلس برسم ذلك بنفسه وأظهر آثاره الجميلة ومنها ارتجاع جبل الفتح ليد المسلمين بعد ان أنفق عليه الأموال وصرف إليه الجنود والحشود إذ كان من عمالته هو والجزيرة ورندة ونازلته جيوشه مع ولده وخواصه وضيقوا به إلى أن استرجعوه ليد المسلمين وأنفق على بنائه أحمال مال واعتنى بتحصينه وبنى حصنه وأبراجه وسوره وجامعه ودوره ومخازنه ولما كاد يتم ذلك نازله العدو برا وبحرا فصبر المسلمون صبر الكرام فخيب الله تعالى أمل العدو وعاد خاسرا والمنة لله فرأى أن يحصن سفح الحبل بسور يحيط به من جميع جهاته حتى لا يطمع عدو في منازلته ولا يجد سبيلا للتضييق عند محاصرته ورأى الناس ذلك من المحال فأنفق الأموال وانصف العمال فأحاط بمجموعه إحاطة الهالة بالهلال واما بناؤه للمحاسن والطوالع فامر غير مجهول انتهى
رسائل للسان الدين ابن الخطيب
1 - رسالة إلى أحد سلاطين بني مرين
وقد رأيت أن أذكر هنا بعض إنشاء لسان الدين ابن الخطيب في شأن ما يتعلق بجبل الفتح وغيره من بلاد الأندلس وحال العدو الكافر وما ينخرط في هذا السلك فمن ذلك على لسان سلطانه يخاطب به أحد السلاطين من أولاد السلطان أبي الحسن المريني ونصه
المقام الذي يصرخ وينجد ويتهم في الفضل وينجد ويسعف

ويسعد ويبرق في سبيل الله ويرعد فيأخذ الكفر من عزماته المقيم المقعد حتى ينجز من نصر الله تعالى الموعد مقام محل أخينا الذي حسن الظن بمجده جميل وحد الكفر بسعده كليل وللإسلام فيه رجاء وتأميل ليس للقلوب عنه مميل السلطان الكذا ابن السلطان الكذا أبقاه الله تعالى وعزمه الماضي لصولة الكفر قامعا وتدبيره الناجح لشمل الإسلام جامعا وملكه الموفق لنداء الله مطيعا سامعا ومعظم مقداره وملتزم إجلاله وإكباره المعتد في الله بكرم شيمته وطيب نجاره المستظهر على عدو الله بإسراعه إلى تدمير الكافر وبداره
سلام كريم عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد حمد الله مجيب دعوة السائل ومتقبل الوسائل ومتيح النعم الجلائل مربح من عامله في هذا الوجود الزائف الزائل والأيام القلائل بالمتاع الدائم الطائل والنعيم غير الحائل ومقيم اود الإسلام المائل بأولي المكارم من اوليائه والفضائل محمد رسوله المنقذ من الغوائل المنجي من الروع الهائل الصادع بدعوة الحق الصائل بين العشائر والفصائل الذي ختم به وبرسالته ديوان الرسل والرسائل وجعله في الأواخر شرف الأوائل فحبه كنز العائل والصلاة عليه زكاة القائل والرضى عن آله وصحبه وعترته وحزبه تيجان الأحياء والقبائل المتميزين بكرم السجايا وطيب الشمائل والدعاء لمقام أخوتكم في البكر والأصائل بالسعد الصادق المخايل والصنع الذي تتبرج مواهبه تبرج العقائل والنصر الذي تهز له الصعاد الملد عطف المترانح المتخايل فإنا كتبناه إليكم كتب الله لكم عزا يانع الخمائل ونصرا يكفل للكتائب المدونة في الجهاد ومرضاة رب العباد بسرد المسائل وإقناع السائل من حمراء غرناطة حرسها الله تعالى ولا زائد بفضل اله سبحانه إلا استبصار في التوكل على من بيده الأمور وتسبب مشروع تتعلق به بإذن الله تعالى أحكام القدر

المقدور ورجاء فيما وعد به من الظهور يتضاعف على توالي الأيام وترادف الشهور والحمدلله كثيرا كما هو اهله فلا فضل إلا فضله ومقامكم المعروف محله الكفيل بالإرواء نهله وعله وإلى هذا وصل الله تعالى سعدكم وحرس مجدكم ووالى النعم عندنا وعندكم فإننا في هذه الأيام أهمنا من أمر الإسلام مارنق الشراب ونغص الطعام وذاد المنام لما تحققنا من عمل الكفر على مكايدته وسعي الضلال والله الواقي في استئصال بقيته وعقد النوادي للاستشارة في شأنه وشروع الحيل في هد أركانه ومن يؤمل من المسلمين لدفع الردى وكشف البلوى وبث الشكوى وأهله حاطهم الله تعالى وتولاهم وتمم عوائد لطفه الذي اولاهم فهو مولاهم في غفلة ساهون وعن المغبة فيه لاهون قد شغلتهم دنياهم عن دينهم وعاجلهم عن آجلهم وطول الأمل عن نافع العمل إلا من نور الله تعالى قلبه بنور الإيمان وتململ بمناصحة الله تعالى والإسلام تململ السليم واستدل بالشاهد على الغائب وصرف الكفر إلى مطالب الأمم النوائب فلما رأينا ان الدولة المرينية التي هي على مر الأيام شجا العدا ومتوعد من يكيد الهدى وفئة الإسلام التي إليها يتحيز وكهفه الذي إليه يلجأ قد أذن الله تعالى في صلاح امورها ولم شعثها وإقامة صغاها بأن صرف الله تعالى عنها هنات الغدر وأراحها من مس الضر ورد قوسها إلى يد باريها وصير حقها إلى وارثها وأقام لرعي مصالحها من حسن الظن بحسبه ودينه ورجي الخير من ثمرات نصحه ومن لم يعلم إلا الخير من سعيه والسداد من سيرته ومن لا يستريب المسلمون بصحة عقده واستقامة قصده أردنا ان نخرج لكم عن العهدة في هذا

الدين الحنيف الذي وسمت دعوته وجوه احبابكم شملهم الله تعالى بالعافية وتشبثت به انفس من صار إلى الله تعالى من السلف تغمدهم الله بالرحمة والمغفرة وفي هذا القطر الذي بلاده ما بين مكفول يجب رعيه طبعا وشرعا وجار يلزم حقه دينا ودنيا وحمية وفضلا وعلى الحالين فعليكم بعد الله المعول وفيكم المؤمل فأرعونا أسماعكم المباركة نقص عليكم ما فيه رضى الله والمنجاة من نكيره والفخر والأجر وحفظ النعم والخلف في الذرية بهذا وعدت الكتب المنزلة والرسل المرسلة وهو أن هذا القطر الذي تعددت فيه المحارب والمنابر والراكع والساجد والذاكر والعابد والعالم واللفيف والأرملة والضعيف قد انقطع عنه إرفاد الإسلام وشحت الأيدي به منذ أعوام وسلم إلى عبدة الأصنام وقوبلت ضرائره بالأعذار والمواعيد المستغرقة للأعمار وإن عرضت شواغل وفتن وشواغب وإحن فقد كانت بحيث لا يقطع السبب بجملته ولا يذهب المعروف بكليته
( ولابد من شكوى إلى ذي مروءة ... يواسيك أو يسليك أو يتوجع )
ولو كانت الأشغاب تقطع المعروف وتصرف عن الواجب لم يفتح المقدس والدكم جبل الفتح وهو منازل أخاه بسجلماسة ولا امده ولده السلطان أبو عنان وهو بمراكش وبالأمس بعثنا إلى الجبل وشمانة في جملة ما اهمنا مبلغ جهد وسداد من عوز وقد فضلت عن ضرائرنا اموال فرضت من اجل الله على عباده وطعام سمحنا به على الاحتياج إليه في سبيل جهاده فلم يسهم المتغلب منها لجانب الله بحبة ولا أقطعه منها ذرة مستخفا به جل وعلا متهاونا بنكيره الذي هو أحق أن يخشى فضاعت الأمور واختلت الثغور وتشذبت الحامية وتبددت العدد وخلت المخازن وهلكت بها الجرذان وعظمت

بها حسرة الإسلام أضعاف ما عظمت حبرته أيام ما كانت تكفلها همم الملوك الكرام والخلفاء العظام والوزراء والنصحاء والأشياخ الأمجاد قدس الله تعالى أرواحهم وضاعف انوارهم ولا كالحسرة في الجبل باب الأندلس وركاب الجهاد وحسنة بني مرين ومآثر آل يعقوب وكرامة الله للسلطان المقدس أبي الحسن والد الملوك وكبير الخلفاء والمجاهدين والدكم الذى ترد على قبره مع الساعات والأنفاس وفود الرحمة وهدايا الزلفة وريحان الجنة فلولا أنكم على علم من أحواله لشرحنا المجمل وشكلنا المهمل إنما هو اليوم شبح ماثل وطلل بائد لولا ان الله تعالى شغل العدا عنه بفتنة لم يصرف وجهه إلا إليه ولا حوم طيره إلا عليه ولكان بصدد أن يتخذه الصليب دارا وان يقر به عينا والعدوة فضلا عن الأندلس قد أوسعها شرا وأرهق ما يجاوره عسرا نسأل الله تعالى بنور وجهه أن لا يسود الوجوه بالفجع فيه ولا يسمع المسلمين الثكلة وما دونه فهو وإن أنعش بالتعليل عليله ووقع بالجهد خلقه لحم على وضم إلا أن يصل الله تعالى وقايته ويوالي دفاعه وعصمته لا إله إلا هو الولي النصير وما زلنا نشكو إلى غير المصمت ونمد اليد إليه إلى المدبر عن الله المعرض ونخطب له زكاة الأموال من المباني الضخمة والخزائن الثرة والأهراء الطامية والحظ التافه من المفترض برسمه فتمضي الأيام لا تزيد الضرائر فيها إلا ضيقا ولا الأحوال إلا شدة ولا الثغر إلا ضعة ولا نعلم أن نظرا وقع له ولا فكرا أعمل فيه إلا ما كان من تسخير رعيته الضعيفة وبلالة مجباه السخيفة في بناء قصر بمنت ميور من جباله
( شاده مرمرا وجلله كلسا ... فللطير في ذراه وكور )
جلب إليه الزليج واختلفت فيه الأوضاع في رأس نيق لأمل نزوة

وسوء فكرة فلما تم أقطع الهجران فهو اليوم ممتنع البوم وحظ الخراب فلا حول ولا قوة إلا بالله حتى جاء أمر الله خالي الصحيفة من البر صفر اليد من العمل الصالح نعوذ بالله من نكيره ونسأله الإلهام والسداد والتوفيق والرشاد وقد بذلنا جهدنا قولا وفعلا وموعظة ونصحا واستدعينا لتلك الجهة صدقة المسلمين محمولة على أكتاد العباد الضعفاء الذين كانت صدقات فاتحيه رضي الله تعالى عنهم ترفدهم ونوافله تتعهدهم فما حرك ذلك الجؤار حلوبا ولا استدعى مطلوبا ولا رفدا مجلوبا فإلى متى تنضى ركاب الصبر وقد بلغ الغاية واستنفد البلالة بعد أن اعاد الله تعالى العهد وجبر المال وأصلح السعي وأجرى ينابيع الخير وانشق رياح الإقالة وجملة ما نريد أن نقرره فهو الباب الجامع والقصد الشامل والداعي والباعث ان صاحب قشتالة لما عاد إلى ملكه ورجع إلى قطره جرت بيننا وبينه المراسلة التى أسفرت بعدم رضاه عن كدحنا لنصره ومظاهرتنا إياه على أمره وإن كنا قد بلغنا جهدا وأبعدنا وسعا واجلت عن شروط ثقيلة لم نقبلها وأغراض صعبة لم نكملها ونحن نتحقق انه غما إما تهيج حفيظته وتثور إحنته فيكشف وجه المطالبة مستكثرا بالأمة التى داس بها أهل قشتالة فراجع أمره غلابا وحقه ابتزازا واستلابا أو يصرفها ويهادن المسلمين بخلال ما لايدع جهة من جهات دينه الغريب إلا عقد معها صلحا وأخذ عليها بإعانتها إياه عهدا ثم تفرغ إلى شفاء غليله وبلوغ جهده ولا شك انها تجيبه صرف لبأسه عن نحورها ومقارضة كما وقع باطريرة من مضيق صدورها ومؤسف جمهورها وكل من له دين ما فهو يحرص على التقرب إلى من دانه به وكلفه وظائف تكليف رجاء لوعده وخوفا من وعيده وبالله ندفع ما لانطيق من جموع تداعت من الجزر ووراء البحور والبر المتصل الذي لا تقطعه الرفاق ولا تحصي ذرعه الحذاق وقد أصبحنا بدار غربة ومحل روعة ومفترس نبوة ومظنة فتنة والإسلام عدده قليل ومنتجعه في هذه البقعة جديب وعهده بالإرفاد والإمداد

من المسلمين بعيد ( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا - إلى اخر السورة ) البقرة 286
وإذا تداعت أمم الكفر نصرة لدينها المكذوب وحمية لصليبها المنصوب فمن يستدعى لنصر دين الله وحفظ امانة نبيه إلا أهل ذلك الوطن حيث المآذن بذكر الله تعالى تملأ الآفاق وكلمة الإسلام قد عمت الربى والوهاد إنما الإسلام غريق قد تشبث باهدابكم يناشدكم الله في بقية الرمق وقبل الرمي تراش السهام وهذا اوان الاعتناء واختيار الحماة وإعداد الأقوات قبل أن يضيق المجال وتمنع الموانع وقد وجهنا هذا الوفد المبارك للحضور بين يديكم مقررا الضرورة منهيا الرغبة مذكرا بما يقرب عند الله مذكرا لذمام الإسلام جالبا على من وراءهم بحول الله تعالى من المسلمين البشرى التى تشرح الصدور وتسني الآمال وتستدعي الدعاء والثناء فالمؤمن كثير بأخيه ويد الله مع الجماعة والمسلمون يد على من سواهم والمؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا والتعاون على البر والتقوى مشروع وفي الذكر الحكيم مذكور وحق الجار مشهور وما كان جبريل يوصي به في الصحيح مكتوب وكما راع المسلمين اجتماع كلمة الكفر فنرجو ان يروع الكفر من العز بالله وشد الحيازيم في سبيل الله ونفير النفرة لدين الله والشعور في حماية الثغور وعمرانها وإزاحة عللها وجلب الأقوات إليها وإنشاء الأساطيل وجبر ما تلف من عدة البحر امور تدل على ما وراءها وتخبر بمشيئة الله تعالى عما بعدها ( وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ) البقرة 197 ومن خطب على رضي الله تعالى عنه اما بعد فإن الجهاد باب من أبواب الجنة فمن تركه رهبة ألبسه الله تعالى سيما الخسف ووسمه بالصغار وما بعد الدنيا إلا الآخرة وما بعد الآخرة إلا إحدى داري البقاء أفي الله شك ( ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ) : 9

والاعتناء بالجبل عنوان هذا الكتاب ومقدمة هذا الباب والغفلة عنه منذ اعوام قد صيرتنا لا نقنع باليسير وقد أبرمته المواعيد وغير رسومه الانتظار ومن المنقول ارحموا السائل ولو جاء على فرس والإسراف في الخير أرجح في هذا المحل من عكسه وكان بعض الأجواد يقول وقد أقتر اللهم هب لي الكثير فإن حالي لا تقوم على القليل وعسى ان يكون النظر له بنسبة الغفلة عنه والامتعاض له مكافئا للإزراء به وخلو البحر يغتنم لإمداده وإرفاده قبل أن يثوب نظر الكفر إلى قطع المدد وسد البحر ومن ضيع الحزم ندم ولا عذر لمن علم والله عز و جل يطلع من قبلكم على ما فيه شفاء الصدور وجبر القلوب وشعب الصدور وما نقص مال من صدقة وطعام الواحد كاف لاثنين والدين دينكم والبلاد بلادكم ومحل رباطكم وجهادكم وسوق حسناتكم ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) وقد قلدنا العهد الحفيظ علينا المصروف العناية بفضل الله تعالى إلينا والله المستعان وعليه التكلان والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته انتهى
وفي اعتقادي أن هذا المكتوب للسلطان أبي فارس عبدالعزيز ابن السلطان أبي الحسن المريني وأن المراد بالمتغلب الوزير عمر بن عبدالله الذي ظفر به أبو فارس المذكور واستقل بالملك بعد محو أثره حسبما ذكرناه في غير هذا المحل والله سبحانه أعلم
2 - رسالة أخرى في استنهاض السلطان المريني
ومن إنشاء لسان الدين على لسان سلطانه في استنهاض عزم صاحب فاس السلطان المريني لنصرة الأندلس مانصه المقام الذي يؤثر حظ الله إذا اختلفت الحظوظ وتعددت المقاصد ويشرع الأدنى منه إذا تفاضلت المشارع وتمايزت

الموارد وتشمل عادة حلمه وفضله الشارد ويسع وارف ظله الصادر والوارد والغائب والشاهد ويعيد من نصر الله للإسلام العوائد ويسد الذرائع ويدر الفوائد مقام محل أخينا الذي حسنت في الملك سيره وتعاضد في الفضل خبره وخبره ودلت شواهد مداركه للحقوق وتغمده للعقوق على أن الله تعالى لا يهمله ولا يذره فسلك فخره متسقة درره ووجه ملكه شادخة غرره السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ابن السلطان الكذا أبقاه الله رفيعا علاؤه هامية لديه منن الله تعالى وآلاؤه مزدانة بكواكب السعد سماؤه محروسة بعز النصر أرجاؤه مكملا من فضل الله تعالى في نصر الإسلام وكبت عبدة الأصنام امله ورجاؤه معظم قدره الذي يحق له التعظيم وموقر سلطانه الذي له الحسب الأصيل والمجد الصميم الداعي إلى الله تعالى باتصال سعادته حتى ينتصف من عدو الإسلام الغريم ويتاح على يد سلطانه الفتح الجسيم فلان سلام كريم طيب عميم ورحمة الله وبركاته
اما بعد حمد الله الذي لا يضيع أجر من أحسن عملا ولا يخيب لمن أخلص الرغبة إليه أملا وموفي من ترك له حقه أجره المكتوب متمما مكملا وجاعل الجنة لمن اتقاه حق تقاته نزلا ملك الملوك الذي جل وعلا وجبار الجبابرة الذي لا يجدون عن قدره محيصا ولا من دونه موئلا ومولانا محمد الذي أنزل الله تعالى عليه الكتاب مفصلا وأوضح طريق الرشد وكان مغفلا وفتح باب السعادة ولولاه كان مقفلا والرضى عن آله وأصحابه وعترته وأحزابه الذين ساهموه فيما مر وما حلا وخلفوه من بعد بالسير التى راقت مجتلى ورفعوا عماد دينه فاستقام لا يعرف ميلا وكانوا في الحلم والعفو مثلا والدعاء لمقامكم الأسمى بالنصر الذي يلفى نصه صريحا لا متأولا والصنع الذي يبهر حالا ومستقبلا والعز الذي يرسو جبلا والسعد الذي لا يبلغ أمدا ولا أجلا فإنا كتبناه إليكم أصحب الله تعالى ركابكم حليف التوفيق حلا ومرتحلا وعرفكم عوارف

اليمن الذي يثير جذلا ويدعو وافد الفتح المبين فيرد مستعجلا من حمراء غرناطة حرسها الله تعالى ولا زائد بفضل الله سبحانه ثم بما عندنا من التشيع لمقامكم حرس الله تعالى سلطانه ومهد اوطانه إلا الخبر الذي نسأل بعده تحسين العقبى وتوالي عادة الرحمى والحمد لله على التي هي أزكى وسدل جناح الستر الأضفى وصلة اللطائف التي هي اكفل واكفى وأبر وأوفى ومقامكم عندنا العدة التى بها نصول ونرهب والعمدة التى نطيل في ذكرها ونسهب وقد اوفدنا عليكم كل مازاد لدينا أو فتح الله تعالى به علينا ونحن مهما شد المخنق بكم نستنصر أو تراخى ففي ودكم نستبصر أو فتح الله تعالى فأبوابكم نهني ونبشر وقررنا عندكم ان العدو في هذه الأيام توقف عن بلاد المسلمين فلم تصل منه إليها سرية ولا بطشت له يد جرية ولا افترعت من تلقائه ثنية ولا ندري ألمكيدة تدبر أم آراء تنقض بحول الله وتتبر أو لشاغل في الباطن لا يظهر وبعد ذلك وردت على بابنا من بعض كبارهم وزعماء أقطارهم مخاطبات يندبون فيها إلى جنوحها للسلم في سبيل النصح لأياد سلفت منا لهم قررها ووسائل ذكرها فلم يخف عنا أنه أمر دبر بليل وخبية تحت ذيل فظهر لنا أن نسبر الغور ونستفسر الأمر فوجهنا إليه على عادتنا مع سلفه لنعتبر ما لديه وننظر إلى بواطن أمره ونبحث عن زيد قومه وعمره فتأتى ذلك وجر مفاوضة في الصلح أعدنا لأجلها الرسالة واستشعرنا البسالة ووازنا الأحوال واختبرنا واعتززنا في الشروط ماقدرنا ونحن نرتقب ما يخلق الله تعالى من مهادنة تحصل بها الأقوات المهيأة للأنتساف وتسكن ما ساء البلاد المسلمة من هذا الإرجاف

ونفرغ الوقت لمطاردة هذه الآمال العجاف أو حرب يبلغ الاستبصار فيه غايته حتى يظهر الله تعالى في نصر الفئة القليلة آيته ولم نجعل سبب الاعتزاز فيما أدرنا وشموخ الأنف فيما أصدرنا إلا ما أشعنا من عزمكم على نصرة الإسلام وارتقاب خفوق الأعلام والخفوف إلى دعوة الرسول وأن الأرض حمية لله تعالى قد اهتزت والنفرة قد غلبت النفوس واستفزت واستظهرنا بكتبكم التى تضمنت ضرب المواعد وشمرت عن السواعد وأن الخيل قد أطلقت إلى الجهاد في سبيل الله الأعنة والثنايا سدتها بروق الأسنة وفرض الجهاد قد قام به المؤمنون والأموال قد سمح بها المسلمون وهذه الأمور التى تمشت بقريبها او بعيدها أحوال الإسلام والأماني المعدة لتزجية الأيام ثم اتصل بنا الخبر الكارث بما كان من حور العزائم المؤمنة بعد كورها وتسويف مواعد النصرة بعد استشعار فورها وأن الحركة معملة إلى مراكش الجهة التى في يديكم زمامها وإليكم وإن تراخى الطول ترجع أحكامها والقطر الذي لا يفوتكم مع الغفلة ولا يعجزكم عن الصولة ولا يطلبكم إن تركتموه ولا يمنعكم إن طرقتموه وعركتموه فسقط في الأيدي الممدودة واختلفت المواعد المحدودة وخسئت الأبصار المرتقبة ورجفت المعاقل الأشبة وساءت الظنون وذرفت العيون وأكذب الفضلاء الخبر ونفوا أن يعتبر وقالوا هذا لا يمكن حيث الدين الحنيف والملك المنيف والعلماء الذين أخذ الله تعالى ميثاقهم وحمل النصيحة أعناقهم هذا المفترض الذي يبعد والقائم الذي يقعد يأباه الله تعالى والإسلام وتأباه العلماء والأعلام وتأباه المآذن والمنابر وتأباه الهمم والأكابر فبادرنا نستطلع طلع هذا النبأ الذي إن كان باطلا فهو الظن ولله المن وإن كان خلافه لرأي ترجح وتنفق بقرب الملك وتبجح فنحن نوفد كل من

يقدم إلى الله تعالى بهذا القطر في شفاعة ويمد إليه كف ضراعة ومن يوسم بصلاح وعبادة ويقصد في الدين بث إفادة يتطارحون عليكم في نقض ما أبرم ونسخ ما أحكم فإنكم تجنون به على من استنصركم عكس ما قصد وتحلون عليه ماعقد وهب العذر يقبل في عدم الإعانة وضرورة الاستعانة والاستكانة أي عذر يقبل في الاطراح والاعراض الصراح كأن الدين غير واحد كأن هذا القطر لكلمةالإسلام جاحد كأن ذمام الإسلام غير جامع كان الله غير راء ولا سامع فنحن نسألكم بالله الذي تساءلون به والأرحام ونأنف لكم من هذا الاحجام ونتطارح عليكم أن تتركوا حظكم في أهل تلك الجهة حتى يحكم الله بيننا وبين العدو الذي يتكالب علينا بإدباركم بعدما تضاءل لاستنفاركم ولا نكلفكم غير اقتراب داركم وما سامكم المسلمون بها شططا وما حملوكم إلا قصدا وسطا وما ذهبتم إليه لا يفوت ولايبعد وقد تجاورت البيوت إنما الفائت ما وراءكم من حديث تأنف من سماعه أوداؤكم ودين يشمت به أعداؤكم فأسعفوا بالشفاعة فيمن بتلك الجهة المراكشية قصدنا وحاشا إحسانكم أن يرضى فيه ردنا وانتم بعد بالخيار فيما يجريه الله على يديكم من قدره أو يلهمكم إليه من نصره وجوابكم مرتقب بما يليق بكم ويجمل بحسبكم والله سبحانه يصل سعدكم ويحرس مجدكم والسلام الكريم عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
3 - رسالة على لسان يوسف بن نصر إلى سلطان فاس
ومن إنشاء لسان الدين أيضا في مخاطبة سلطان فاس والمغرب على لسان

سلطان غرناطة فيما يقرب من الأنحاء السابقة مانصه
المقام الذي أقمار سعده في انتظام واتساق وجياد عزه إلى الغاية القصوى ذات استباق والقلوب على حبه ذات اتفاق وعناية الله تعالى عليه مديدة الرواق وأياديه الجمة في الأعناق ألزم من الأطواق وأحاديث مجدة سمر النوادي وحديث الرفاق مقام محل أبينا الذي شأن قلوبنا الاهتمام بشأنه وأعظم مطلوبنا من الله تعالى سعادة سلطانه السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ابن السلطان الكذا أبقاه الله تعالى والصنائع الإلهية تحط ببابه والألطاف الخفية تعرس في جنابه والنصر العزيز يحف بركابه وأسباب التوفيق متصلة بأسبابه والقلوب الشجية لفراقه مسرورة بإيابه معظم سلطانه الذي له الحقوق المحتومة والفواضل المشهورة المعلومة والمكارم المسطورة المرسومة والمفاخر المنسوقة المنظومة الداعي إلى الله تعالى في وقاية ذاته المعصومة وحفظها على هذه الأمة المرحومة الأمير عبدالله يوسف ابن أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل ابن فرج بن نصر سلام كريم طيب بر عميم كما سطعت في غيهب الشدة أنوار الفرج وهبت نواسم ألطاف الله عاطرة الأرج يخص مقامكم الأعلى ورحمة الله وبركاته
أما بعد حمد الله جالي الظلم بعد اعتكارها ومقيل الأيام من عثارها ومزين سماء الملك بشموسها المحتجبة وأقمارها ومريح القلوب من وحشة أفكارها ومنشىء سحاب الرحمة على هذه الأمة بعد افتقارها وشدة اضطرابها واضطرارها ومتداركها باللطف الكفيل بتمهيد أوطانها وتيسير أوطارها والصلاة ومولانا محمد رسوله صفوة النبوة ومختارها ولباب مجدها السامي ونجارها نبي الملاحم وخائض تيارها ومذهب رسوم الفتن ومطفىء نارها الذي لم ترعه الشدائد باضطراب بحارها حتى بلغت

كلمة الله ماشاءت من سطوع انوارها ووضوح آثارها والرضى عن آله وأصحابه الذين تمسكوا بعهده على احلاء الحوادث وإمرارها وباعوا نفوسهم في إعلاء دعوته الحنيفية وإظهارها والدعاء لمقامكم الأعلى باتصال السعادة واستمرارها وانسحاب العناية الإلهية وإسدال أستارها حتى تقف الأيام ببابكم موقف اعتذارها وتعرض على مثابتكم ذنوبها راغبة في اغتفارها فإنا كتبناه إليكم كتب الله لكم أو في ما كتب لصالحي الملوك من مواهب إسعاده وعرفكم عوارف الآلاء في اصدار أمركم الرفيع وإيراده وأجرى الفلك الدوار بحكم مراده وجعل العاقبة الحسنى كما وعد به في محكم كتابه المبين للصالحين من عباده من حمراء غرناطة حرسها الله تعالى وليس بفضل الله الذي عليه في الشدائد الاعتماد وإلى كنف فضله الاستناد ثم ببركة جاه نبينا الذي وضح بهدايته الرشاد إلا الصنائع التى تشام بوارق اللطف من خلالها وتخبر سيماها بطلوع السعود واستقبالها وتدل مخايل يمنها على حسن مآلها لله الحمد على نعمه التى نرغب في كمالها ونستدر عذب زلالها وعندنا من الاستبشار باتساق أمركم وانتظامه والسرور بسعادة أيامه والدعاء إلى الله تعالى في إظهاره وإتمامه ما لا تفي العبارة بأحكامه ولا تتعاطى حصر أحكامه وإلى هذا أيد الله تعالى أمركم وعلاه وصان سلطانكم وتولاه فقد علم الحاضر والغائب وخلص الخلوص الذي لا تغيره الشوائب ما عندنا من الحب الذي وضحت منه المذاهب وأننا لما اتصل بنا ما جرت به الأحكام من الأمور التى صحبت مقامكم فيها العناية من الله والعصمة وجعل على العباد والبلاد الوقاية والنعمة لا يستقر بقلوبنا القرار ولا تتأتى بأوطاننا الأوطار تشوفا لما تتيحه لكم الأقدار ويبرزه من سعادتكم الليل والنهار

ورجاؤنا في استئناف سعادتكم يشتد على الأوقات ويقوى علما بأن العاقبة للتقوى وفي هذه الأيام عميت الأنباء وتكالبت في البر والبحر الأعداء واختلفت الفصول والأهواء وعاقت الوراد الأنواء وعلى ذلك من فضل الله الرجاء ولو كنا نجد للاتصال بكم سببا أو نلفى لاعانتكم مذهبا لما شغلنا البعد الذي بيننا اعترض والعدو بساحتنا في هذه الأيام ربض وكان خديمكم الذي رفع من الوفاء راية خافقة واقتنى منه في سوف الكساد بضاعة نافقة الشيخ الأجل الأوفى الأود الأخلص الأصفى أبو محمد ابن أحبانا سنى الله ماموله وبلغه من سعادة أمركم سوله وقد ورد على بابنا وتحيز إلى اللحاق بجنابنا ليتيسر له من جهتنا القدوم ويتأتى له بإعانتنا الغرض المروم فبينما نحن ننظر في تتميم غرضه وإعانته على الوفاء الذي قام بمفترضه إذ اتصل بنا خبر قرقورتين من الأجفان التى استعنتم بها على الحركة والعزيمة المقترنة بالبركة حطت إحداهما بمرسى المنكب والأخرى بمرسى المرية في كنف العناية الإلهية فتلقينا من الواصلين فيها الأنباء المحققة بعد التباسها والأخبار التى يغني نصها عن قياسها وتعرفنا ماكان من عزمكم على السفر وحركتكم المعروفة باليمن والظفر وانكم استخرتم الله تعالى في اللحاق بالأوطان التى يؤمن قدومكم خائفها ويؤلف طوائفها ويسكن راجفها ويصلح أحوالها ويسكن أهوالها وأنكم سبقتم حركتها بعشرة أيام مستظهرين بالعزم المبرور والسعد الموفور واليمن الرائق السفور والأسطول المنصور فلا تسألوا عن انبعاث الآمال بعد سكونها ونهوض طيور الرجاء من وكونها واستبشار الأمة المحمدية منكم بقرة عيونها وتحقق ظنونها وارتياح البلاد إلى دعوتكم التى ألبستها ملابس العدل والإحسان وقلدتها قلائد السير الحسان وما منها إلا من باح بما يخفيه من وجده وجهر

بشكر الله تعالى وحمده وابتهل إليه في تيسير غرض مقامكم الشهير وتتميم قصده واستئناس نور سعده وكم مطل الانتظار بديون آمالها والمطاولة من اعتلالها واما نحن فلا تسألوا عمن استشعر دنو حبيبه بعد طول مغيبة إنما هو صدر راجعه فؤاده وطرف ألفه رقاده وفكر ساعده مراده فلما بلغنا هذا الخبر بادرنا إلى انجاز ما بذلنا لخديمكم المذكور من الوعد واغتنمنا ميقات هذا السعد ليصل سببه بأسبابكم ويسرع لحاقه بجنابكم فعنده خدم نرجو أن ييسر الله تعالى أسبابها ويفتح بنيتكم الصالحة أبوابها وقد شاهد من امتعاضنا لذلك المقام الذي ندين له بالتشيع الكريم الوداد ونصل له على بعد المزار ونزوح الأقطار سبب الاعتداد ما يغني عن القلم والمداد وقد ألقينا إليه من ذلك كله ما يلقيه إلى مقامكم الرفيع العماد وكتبنا إلى من بالسواحل من ولاتنا نحد لهم ما يكون عليه عملهم في بر من يرد عليهم من جهة أبوتكم الكريمة ذات الحقوق العظيمة والأيادي الحديثة والقديمة وهم يعملون في ذلك بحسب المراد وعلة شاكلة جميل الاعتقاد ويعلم الله تعالى أننا لو لم تعق العوائق الكبيرة والموانع الكثيرة والأعداء الذين دهيت بهم في الوقت هذه الجزيرة ماقدمنا عملا على اللحاق بكم والاتصال بسببكم حتى نوفي لأبوتكم الكريمة حقها ونوضح من المسرة طرقها لكن الأعذار واضحة وضوح المثل السائر والله العالم بالسرائر وإلى الله تعالى نبتهل في أن يوضح لكم من التيسير طريقا ويجعل السعد لكم مصاحبا ورفيقا ولايعدمكم عناية منه وتوفيقا ويتم سرورنا عن قريب بتعرف أنبائكم السارة وسعودكم الدارة فذلك منه سبحانه غاية آمالنا وفيه إعمال ضراعتنا وسؤالنا هذا ماعندنا بادرنا لإعلامكم به أسرع البدار والله تعالى يوفد علينا أكرم الأخبار بسعادة ملككم السامي المقدار وييسر ما له من الأوطار ويصل سعدكم

ويحرس مجدكم والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته انتهى
وكان طاغية النصارى الملعون لكثرة ما مارس من امور ملوك الأندلس وسلاطين فاس كثيرا ما يدس لأقارب الملوك القيام على صاحب الأمر ويزين له الثورة ويعده بالإمداد بالمال والعدة وقصده بذلك كله توهين المسلمين وإفساد تدبيرهم ونسخ الدول بعضها ببعض لما له في ذلك من المصلحة حتى بلغ أبعده الله تعالى من أمله الغاية
4 - رسالة إلى السلطان المريني في الاعتذار عن فرار أبي الفضل المريني من غرناطة
ومن إنشاء لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى عن سلطان الأندلس إلى سلطان فاس المريني يعتذر عن فرار الأمير أبي الفضل المريني الذي كان معتقلا بغرناطة فتحيل الطاغية في أمره حتى خرج طالبا للملك مانصه
المقام الذي شهد الليل والنهار بأصالة سعادته وجرى الفلك الدوار بحكم إرادته وتعود الظفر بمن يناوئه فاطرد والحمد لله جريان عادته فوليه متحقق لإفادته وعدوه مرتقب لإبادته وحلل الصنائع الإلهية تضفو على أعطاف مجادته مقام محل أخينا الذي سهم سعده صائب وأمل من كاده خاسر خائب وسير الفلك المدار في مرضاته دائب وصنائع الله تعالى له تصحبها الألطاف العجائب فسيان شاهد منه في عصمة وغائب السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ابن السلطان الكذا أبقاه الله تعالى مسدد السهم ماضي العزم تجل سعوده عن تصور الوهم ولا زال مرهوب الحد ممتثل الرسم موفور الحظ من نعمة الله تعالى عند تعدد القسم فائزا بفلج الخصام عند لدد الخصم معظم قدره وملتزم بره المبتهج بما يسببه الله تعالى له من إعزاز نصره وإظهار أمره فلان سلام كريم طيب بر عميم يخص مقامكم الأعلى ومثابتكم الفضلى التى حازت في الفخر الأمد البعيد وفازت من التأييد والنصر بالحظ السعيد ورحمة الله تعالى وبركاته

اما بعد حمدالله الذي فسح لملككم الرفيع في العز مدى وعرفه عوارف آلائه وعوائد النصر على اعدائه يوما وغدا وحرس سماء علائه بشهب من قدره وقضائه ( فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا ) ( الجن : 9 ) وجعل نجح اعماله وحسن مآله قياسا مطردا فرب مريد ضره ضر نفسه وهاد إليه أهدى وماهدى ومولانا محمد نبيه ورسوله الذي ملأ الكون نورا وهدى وأحيا مراسم الحق وقد صارت طرائق قددا أعلى الألنام يدا وأشرفهم محتدا الذي بجاهه نلبس أثواب السعادة جددا ونظفر بالنعيم الذي لا ينقطع أبدا والرضى عن آله وأصحابه الذين رفعوا لسماء سنته عمدا واوضحوا من سبيل اتباعه مقصدا وتقبلوا شيمه الطاهرة ركعا وسجدا سيوفا على من اعتدى ونجوما لمن اهتدى حتى علت فروع ملته صعدا وأصبح بناؤها مديدا مخلدا والدعاء لمقامكم الأسمى بالنصر الذي يتوالى مثنى وموحدا كما جمع لملككم ما تفرق من الألقاب على توالى الأحقاب فجعل سيفكم سفاحا وعلمكم منصورا ورأيكم رشيدا وعزمكم مؤيدا فإنا كتبناه إليكم كتب الله تعالى لكم صنعا يشرح للإسلام خلدا ونصرا يقيم للدين الحنيف أودا وعزما يملأ أفئدة الكفر كمدا وجعلكم ممن هيأ له من أمره رشدا ويسر لكم العاقبة الحسنى كما وعد في كتابه العزيز والله أصدق موعدا من حمراء غرناطة حرسها الله ولا زائد بفضل الله سبحانه إلا استطلاع سعودكم في آفاق العناية واعتقاد جميل صنع الله في البداية والنهاية والعلم بأن ملككم تحدى من الظهور على أعدائه بآية وأجرى جياد السعد في ميدان لا يحد بغاية وخرق حجاب المعتاد بما لم يظهر إلا لأصحاب الكرامة والولاية ونحن على ما علمتم من السرور بما يهز لملككم المنصور عطفا ويسدل عليه من العصمة سجفا نقاسمه الارتياح لمواقع نعم الله تعالى نصفا ونصفا ونعقد بين أنباء مسرته وبين الشكر لله حلفا ونعد التشيع له مما يقربنا إلى الله زلفى ونؤمل

من امداده ونرتقب من جهاده وقتا يكفل به الدين ويكفى وتروى غلل النفوس وتشفى
وإلى هذا وصل الله سعدكم ووالى نصركم وعضدكم فإنا من لدن صدر عن أخيكم أبي الفضل ماصدر من الانقياد لخدع الآمال والاغترار بموارد الآل وفال رأيه في اقتحام الأهوال وتورط في هفوة حار فيها حيرة أهل الكلام في الأحوال وناصب من أمركم السعيد جبلا قضى الله له بالاستقرار والاستقبال ومن ذا يزاحم الأطواد ويزحزح الجبال وأخلف الظن منا في وفائه وأضمر عملا استأثر عنا بإخفائه واستعان من عدو االدين بمعين فلما يري لمن استنصر به زند ولا خفق لمن تولاه بالنصر بند وإن الطاغية اعانه وأنجده ورأى انه سهم على المسلمين سدده وعضب للفتنة جرده فسخر له الفلك وامل أن يستخدمه بسبب ذلك الملك فاورده الهلك والظلم الحلك علمنا أن طرف سعادته كاب وسحاب آماله غير ذات انسكاب وقدم غرته لم يستقر من السداد في غرز ركاب فإن نجاح اعمال النفوس مرتبط بنياتها وغايات الأمور تظهر في بداياتها وعوائد الله تعالى فيمن نازع قدرته لا تجهل ومن غالب أمر الله خاب منه المعول
فبينما نحن نرتقب خسار تلك الصفقة المعقودة وخمود تلك الشعلة الموقودة وصلنا كتابكم يشرح الصدور ويشرح الأخبار ويهدي طرف المسرات على أكف الاستبشار ويعرب بلسان حال المسارعة والابتدار عن الود الواضح وضوح النهار والتحقق بخلوصنا الذي يعلمه عالم الأسرار فأعاد في الافادة وأبدى وأسدى من الفضائل الجلائل ما أسدى فعلم منه مآل من رام أن يقدح زند الشتات من بعد الالتئام ويثير عجاجة المنازعة من بعد ركود القتام هيهات تلك قلادة الله تعالى التى ماكان يتركها بغير نظام ولم يدر

أنكم نصبتم له من الحزم حباله لا يفلتها قنيص وسددتم له من السعد سهما ما له عنه من محيص بما كان من ارسال جوارح الأسطول السعيد في مطاره حائلا بينه وبين اوطاره فما كان إلا التسمية والإرسال ثم الإمساك والقتال ثم الاقتيات والاستعمال فيا له من زجر استنطق لسان الوجود فجدله واستنصر البحر فخذله وصارع القدر فجد له لما جد له وإن خدامكم استولوا على ماكان فيه من مؤمل غاية بعيدة ومنتسب إلى نصبة غير سعيدة وشانىء غمرته من الكفار خدام الماء وأولياء النار تحكمت فيهم أطراف العوالي وصدور الشفار وتحصل منهم من تخطاه الحمام في قبضة الإسار فعجبنا من تيسير هذا المرام وإخماد الله لهذا الضرام وقلنا تكييف لا يحصل في الأوهام وتسديد لا تستطيع إصابته السهام كلما قدح الخلاف زندا أطفأ سعدكم شعلته أو أظهر الشتات ألما أبرأ يمن طائركم علته ماذاك إلا لنية صدقت معاملتها في جنب الله تعالى وصحت واسترسلت بركتها وسحت وجهاد نذرتموه إذا فرغت شواغلكم وتمت واهتمام بالإسلام يكفيه الخطوب التى أهمت فنحن نهنيكم بمنح الله ومننه ونسأله أن يلبسكم من عنايته أوقى جننه فأملنا أن تطرد آمالكم وتنجح في مرضاة الله أعمالكم فمقامكم هو العمدة التي يدفع العدو بسلاحها وتنبلج ظلمات صفاحها وكيف لا نهنيكم بصنع على جهتنا يعود وبآفاقنا تطلع منه السعود فتيقنوا ما عندنا من الاعتقاد الذي رسومه قد استقلت واكتفت وديمه بساحة الود قد وكفت والله عز و جل يجعل لكم الفتوح عادة ولا يعدمكم عناية وسعادة وهو سبحانه يعلى مقامكم وينصر أعلامكم ويهني الإسلام أيامكم والسلام الكريم

يخصكم ورحمة الله وبركاته انتهى
وكان سلطان الأندلس في الأزمان المتأخرة كثيرا ما يشم أرج الفرج في سلم الكفار ومهادنتهم حيث لم يقدر في الغالب على مقاومتهم ولذلك لما قتل السلطان أبو الحجاج الذي كان لسان الدين كاتبه ووزيره وقام بالأمر بعده ابنه محمد الغني بالله الذي ألقى مقاليده للسان الدين اكد أمر السلم وانتظر ما يبرمه القضاء الجزم والقدر الحتم
5 - رسالة على لسان الغني إلى ابي عنان
ومن إنشاء لسان الدين في ذلك على لسان الغني مخاطبا لسلطان فاس والمغرب أبي عنان ماصورته
المقام الذي يغني عن كل مفقود بوجوده ويهز إلى جميل العوائد أعطاف بأسه وجوده ونستضيىء عند إظلام الخطوب بنور سعوده ونرث من الاعتماد عليه أسنى ذخر يرثه الولد عن آبائه وجدوده مقام محل أبينا الذي رعي الأذمة شانه وصلة الرعي سجية انفرد بها سلطانه ومواعد النصر ينجزها زمانه والقول والفعل في ذات الله تعالى تكفلت بهما يده الكريمة ولسانه وتطابق فيهما إسراره وإعلانه السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ابن السلطان الكذا أبقاه الله تعالى محروسا من غير الأيام جنابه موصولة بالوقاية الإلهية أسبابه مسدولا على ذاته الكريمة ستر الله تعالى وحجابه مصروفا عنه من صرف القدر ما يعجز عن رده بوابه ولا زال ملجأ تنفق لديه الوسائل التى تدخرها لأولادها أولياؤه وأحبابه ويسطر في صحف الفخر ثوابه وتشتمل على مكارم الدين والدنيا أثوابه وتتكفل بنصر الاسلام وجبر القلوب عند طوارق الأيام كتائبه وكتابه معظم ما عظم من حقه السائر من إجلاله وشكر خلاله على لاحب طرقه المستضيء في ظلمة الخطب بنور أفقه الأمير عبدالله محمد ابن أمير

المسلمين أبي الحجاج ابن أمير المسلمين أبي الوليد ابن فرج بن نصر سلام كريم طيب بر عميم يخص مقامكم الأعلى ورحمة الله تعالى وبركاته
اما بعد حمد الله الذي لا راد لأمره ولا معارض لفعله مصرف الأمر بحكمته وقدرته وعدله الملك الحق الذي بيده ملاك الأمر كله مقدر الآجال والأعمار فلا يتأخر شيء عن ميقاته ولا يبرح عن محله جاعل الدنيا مناخ قلعة لا يغتبط العاقل بمائه ولا بظله وسبيل رحلة فما أكثب ظغنه من حله ومولانا محمد صفوة خلقه وخيرة أنبيائه وسيد رسله الذي نعتصم بسببه الأقوى ونتمسك بحبله ونمد يد الافتقار إلى فضله ونجاهد في سبيله من كذب به أو حاد عن سبله ونصل إليه ابتغاء مرضاته ومن أجله والرضى عن آله وأحزابه وانصاره وأهله المستولين من ميدان الكمال على خصله والدعاء الأعلى بعز نصره ومضاء فصله فإنا كتبناه إليكم كتب الله تعالى لكم وقاية لا تطرق الخطوب حماها وعصمه ترجع عنها سهام النوائب كلما فوقها الدهر ورماها وعناية لا تغير الحوادث اسمها ولا مسماها وعزا يزاحم اجرام الكواكب منتماها من حمراء غرناطة حرسها الله تعالى ونعم الله سبحانه تتواتر لدينا دفعا ونفعا وألطافه نتعرفها وترا وشفعا ومقامكم الأبوي هو المستند الأقوى والمورد الذي ترده آمال الإسلام فتروى وتهوي إليه أفئدتهم فتجد ما تهوى ومثابتكم العدة التي تأسست مبانيها على البر والتقوى
وإلى هذا وصل الله تعالى سعدكم وأبقى مجدكم فإننا لما نعلم من مساهمة مجدكم التى تقتضيها كرام الطباع وطباع الكرم وتدعو إليها ذمم الرعي ورعي الذمم نعرفكم بعد الدعاء لملككم بدفاع الله تعالى عن ارتقائه وإمتاع المسلمين ببقائه بما كان من وفاة مولانا الوالد نفعه الله تعالى بالشهادة التى ألبسه حلتها والشهادة التى في اعماله الزكية كتبها والدرجة العالية التى حتمها له وأوجبها وبما تصير إلينا من أمره وضم بنا من نشره وسدل على من

خلفه من ستره وإنها لعبرة لمن ألقى السمع وموعظة تهز الجمع وترسل الدمع وحادثة اجمل الله سبحانه فيها الدفع وشرح مجملها وإن أخرس اللسان هولها وأسلم العبارة قوتها وحولها انه رضي الله تعالى عنه لما برز لإقامة سنة هذا العيد مستشعرا شعار كلمة التوحيد مظهرا سمة الخضوع للمولى الذي تضرع بين يديه رقاب العبيد آمنا بين قومه واهله متسربلا في حلل نعم الله تعالى وفضله قرير العين باكتمال عزه واجتماع شمله قد احترس بأقصى استطاعته واستظهر بخلصان طاعته والأجل المكتوب قد حضر والإرادة الإلهية قد أنفذت القضاء والقدر وسجد بعد الركعة الثانية من صلاته أتاه امر الله لميقاته على حين الشباب غض جلبابه والسلاح زاخر عبابه والدين بهذا القطر قد أينع بالأمن جنابه وأمر من يقول للشيء كن فيكون قد بلغ كتابه ولم يرعه وقد اطمانت بذكر الله تعالى القلوب وخلصت الرغبات إلى فضله المطلوب إلا شقي قيضه الله لسعادته غير معروف ولا منسوب وخبيث لم يكن بمعتبر ولا محسوب تخلل الصفوف المعقودة وتجاوز الأبواب المسدودة وخاض الجموع المشهودة والأمم المحشورة إلى طاعة الله المحشودة لاتدل العين عليه شارة ولا بزة ولا تحمل على الحذر من مثله انفة ولا عزة وإنما هو خبيث ممرور وكلب عقور وحية سمها وحي محذور وآلة مصرفة لينفذ بها قدر مقدور فلما طعنه وأثبته وأعلق به شرك الحين فما أفلته قبض عليه من الخلصان الأولياء من خبر ضميره واحكم تقريره فلم يجب عند الاستفهام جوابا يعقل ولا عثر منه على شيء عنه ينقل لطفا من الله افاد براءة الذمم وتعاورته للحين أيدي التمزيق وأتبع شلوه بالتحريق واحتمل مولانا الوالد العزيز رحمه الله تعالى إلى القصر وبه ذماء لم يلبث بعد الفتكة العمرية إلا أيسر من اليسير وتخلف الملك ينظر من الطرف الحسير وينهض بالجناح الكسير وقد عاد جمع السلامة الى التكسير إلا أن الله تعالى تدارك هذا القطر الغريب بأن أقامنا مقامه

لوقته وحينه ورفع بناء عماد ملكه ولم شعث دينه وكان جميع من حضر المشهد من شريف الناس ومشروفهم واعلامهم ولفيفهم قد جمعه ذلك الميقات وحضر الأولياء الثقات فلم تختلف علينا كلمة ولا شذت منهم عن بيعتنا نفس مسلمة ولا اخيف بري ولا حذر جري ولا فري فري ولا وقع لبس ولا استوحشت نفس ولا نبض للفتنة عرق ولا أغفل للدين حق فاستند النقل إلى نصه ولم يعدم من فقيدنا غير شخصه وبادرنا إلى مخاطبة البلاد نمهدها ونسكنها ونقررالطاعة في النفوس ونمكنها وامرنا الناس بها بكف الأيدي ورفع التعدي والعمل من حفظ شروط المسالمة المعقودة بما يجدي ومن شره منهم للفرار عاجلناه بالإنكار وصرفنا على النصارى ما اوصاه مصحبا بالاعتذار وخاطبنا صاحب قشتالة نرى ما عنده في صلة السلم إلى أمدها من الأخبار واتصلت بنا البيعات من جميع الأقطار وعفى على حزن المسلمين بوالدنا ما ظهر عليهم بولايتنا من الاستبشار واستبقوا تطير بهم أجنحة الابتدار جعلنا الله تعالى ممن قابل الحوادث بالاعتبار وكان على حذر من تصاريف الأقدار واختلاف الليل والنهار وأعاننا على إقامة دينه في هذا الوطن الغريب المنقطع بين العدو الطاغي والبحر الزخار وألهمنا من شكره لما يتكفل بالمزيد من نعمه ولا قطع عنا عوائد كرمه
وإن فقدنا والدنا فانتم لنا من بعده الوالد والذخر الذي تكرم منه العوائد والحب يتوارث كما ورد في الأخبار التى صحت منها الشواهد ومن اعد مثلكم لبنيه فقد تيسرت من بعد الممات امانيه وتأسست قواعد ملكه وتشيدت مبانيه فالاعتقاد الجميل موصول والفروع لها في التشيع إليكم أصول وفي تقرير فخركم محصول وانتم ردء المسلمين بهذه البلاد المسلمة الذي يعينهم

بإرفاده وينصرهم بإنجاده ويعامل الله تعالى فيها بصدق جهاده
وعندما استقر هذا الأمر الذي تبعت المحنة فيه المنحة وراقت من فضل الله تعالى ولطفه فيه الصفحة واخذنا من اهل حضرتنا بعد استدعاء خواصهم وأعيانهم وتزاحمت على رقها المنشور خطوط أيمانهم وتأصلت قواعد ألفاظها ومعانيها في قلوبهم وآذانهم وضمنوا الوفاء بما عاهدوا الله عليه وقد خبر سلفنا والحمد لله وفاء ضمانهم بادرنا تعريف مقامكم الذي نعلم مساهمته فيما ساء وسر وأحلى وأمر عملا بمقتضى الخلوص الذي ثبت واستقر والحب الذي ما مال يوما ولا أزور وما أحق تعريف مقامكم بوقوع هذا الأمر المحذور وانجلاء ليله عن صبح الصنع البادي السفور وإن كنا قد خاطبنا من خدامكم من يبادر إعلامكم بالأمور إلا أنه أمر له ما بعده وحادث يأخذ حده ونبعث إلى بابكم من شاهد الحال مابين وقوعها إلى استقرارها رأي العيان وتولى تسديد الأمور باعماله الكريمة ومقاصده الحسان ليكون أبلغ في البر وأشرح للصدر وأوعب للبيان فوجهنا إليكم وزير أمرنا وكاتب سرنا الكذا أبا فلان وألقينا إليه من تقرير تعويلنا على ذلك المقام الأسنى واستنادنا من التشيع إليه إلى الركن الوثيق المبنى مانرجو أن يكون له فيه المقام الأعنى والثمرة العذبة المجنى فلاهتمامه بهذا الغرض الأكيد الذي هو أساس بنائنا وقامع أعدائنا آثرنا توجيهه على توفر الاحتياج إليه ومدار الحال عليه والمرغوب من أبوتكم المؤملة أن يتلقاه قبولها بما يليق بالملك العالي والخلافة السامية المعالي والله عز و جل يديم أيامكم لصلة الفضل المتوالي ويحفظ مجدكم من غير الأيام والليالي وهو سبحانه يصل سعدكم ويحرس مجدكم ويوالي نصركم وعضدكم والسلام الكريم يخصكم ورحمة الله وبركاته انتهى

وقوله في هذه الرسالة فوجهنا إليكم وزير امرنا إلى آخره هو لسان الدين رحمه الله تعالى إذ هو كان الوزير إذ ذاك والسفير في هذه القضية ومن صفحات هذا الكلام يتضح لك مانال لسان الدين رحمه الله تعالى من الرياسة والجاه ونفوذ الكلمة بالأندلس وبالمغرب رحمه الله تعالى وقد أكرمه السلطان أبو عنان في هذه الوفادة وغيرها غاية الإكرام وكان المقصود الأعظم من هذه الوقادة استعانة سلطان الأندلس الغني بالله بالسلطان أبي عنان على طاغية النصارى كما ألمعنا بذلك في الباب الثاني من القسم الثاني الذي يتعلق بلسان الدين وكان لسلطان أبو عنان ابن السلطان أبي الحسن معتنيا بالأندلس غاية الاعتناء وخصوصا بجبل الفتح حتى إنه بلغ من اهتمامه به أن أمرعليه ولده أبا بكر السعيد وهو الذي تولى الملك بعده
6 - رسالة عن الغني إلى الأمير السعيد
ومن إنشاء لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى على لسان سلطانه ماخاطب به الأمير السعيد المذكور إذ قلده والده جبل الفتح وهو
الإمارة التى أشرق في سماء الملك شهابها واتصلت بأسباب العز أسبابها واشتملت على الفضل والطهارة أثوابها وأجيلت قداح المفاخر فكان إلى جهة الله تعالى انتدابها إمارة محل أخينا الذي تأسس على مرضاة الله تعالى أصيل فخره واتسم بالمرابط المجاهد على اقتبال سنه وجدة عمره وبدأ بفضل الجهاد صحيفة أجره وافتتح بالرباط والصلاح ديوان نهيه وامره لما يسره من سعادة نصبته وحباه من عز نصره الأمير الأجل الأعز الأرفع الأسنى الأطهر الأظهر الأمنع الأصعد الأسمى الموفق الأرضى محل أخينا العزيز علينا المهداة أنباء مامول جواره إلينا أبي بكر السعيد ابن محل والدنا الذي مقاصده للإسلام واهله على مرضاة الله تعالى جارية وعزائمه على نصر الملة الحنيفية

متبارية السلطان الكذا أبو عنان ابن السلطان الكذا أبي الحسن ابن السلطان الكذا أبي سعيد ابن السلطان يعقوب بن عبدالحق أبقاه الله تعالى سديده آراؤه ناجحة أعماله ميسرة أغراضه من فضل الله تعالى متممة آماله رحيبا في السعد مجاله يكنفه من الله تعالى ومحل أبينا غمام وارفة ظلاله هامر نواله حتى يرضي الله تعالى مصاعه بين يديه ومصاله وتمضي في الأعداء امام رايته المنصورة نصاله أخوه المسرور بقربه المنطوي على مضمر حبه أمير المسلمين محمد ابن أمير المسلمين أبي اللحجاج ابن أمير المسلمين أبي الوليد ابن فرج بن نصر سلام كريم طيب برعميم يخص أخوختكم الفضلى وإمارتكم التى آثار فضلها بحول الله تتلى ورحمة الله تعالى وبركاته
اما بعد حمد الله على ما كيف من ألطافه المشرقة الأنوار ويسره لهذه الأوطان بنصرته من الأوطار فكلما دجت بها شدة طلع الفرج عليها طلوع النهار وكلما اضطرب منها جانب أعاده بفضل الله تعالى من أقامه لذلك واختاره إلى حال السكون والقرار على سيدنا ومولانا محمد رسوله المصطفى المختار الذي أكد عليه جبريل صلوات الله عليه حق الجوار حتى كاد يلحقه بالوسائل والقرب الكبار الذي وصانا بالالتئام واتصال اليد في نصرة الإسلام فنحن نقابل وصاته بالبدار ونجري على نهجه الواضح الآثار ونرتجي باتباعه الجمع بين سعادة هذه الدار وتلك الدار والرضى عن آله وأصحابه وأنصاره وأحزابه أكرم الآل والأصحاب والأحزاب والأنصار الذين كانوا كما أخبر الله تعالى عنهم على لسان الصادق الأخبار رحماء بينهم أشداء على الكفار والدعاء لإمارتكم السعيدة السعيدية بالتوفيق الذي تجري به الأمور على حسب الاختيار والعز المنيع الذمار والسعد القويم المدار والوقاية التى يامن بها أهلها من السرار فإنا كتبناه إليكم كتب الله تعالى لكم أسنى ما كتب للأمراء الأرضياء الأخيار ومتعكم من بقاء والدكم بالعدة العظمى والسيرة الرحمى والجلال الرفيع المقدار من حمراء

غرناطة حرسها الله تعالى ولا زائد بفضل الله سبحانه ثم ببركة سيدنا ومولانا محمد رسوله الذي أوضح برهانه إلا ألطاف باهرة وعناية من الله تعالى باطنة وظاهرة وبشارة بالقبول واردة وبالشكر صادرة والله تعالى يصل لدينا نعمه ويوالي فضله وكرمه
وإلى هذا فإننا اتصل بنا في هذه الأيام ماكان من عناية والدكم محل أبينا أبقاه الله تعالى بهذه البلاد المستندة إلى تأميل مجده وإقطاعها الغاية التى لا فوقها من حسن نظره وجميل قصده وتعيينكم إلى المقام بجبل الفتح إبلاغا في اجتهاده الديني وجده فقلنا هذا خبر إن صدق مخبره وتحصل منتظره فهو فخر تجددت أثوابه واعتناء تفتحت أبوابه وعمل عند الله تعالى ثوابه فإن الأندلس عصمها الله تعالى وإن أنجدته عدده وأمواله ونجحت في نصرها مقاصده الكريمة وأعماله لا تدري موقع النظر لها من نفسه وزيادة يومه في العناية على أمسه حتى يسمح لها بولده ويخصها بقرة عينه وفلذة كبده فلما ورد منه الخبر الذي راقت منه الحبر ووضحت من سعادته الغرر بإجازتكم البحر واختياركم في حال الشبيبة الفخر وصدق مخيلة الدين فيكم واستقراركم في الثغر الشهير الذي افتتحه سيف جدكم واستنقذه سعد أبيكم سررنا بقرب المزار ودنو الدار وقابلنا صنع الله تعالى بالاستبشار ووثقنا وإن لم نزل على ثقة من عناية الله تعالى وعناية محل والدنا بهذه الأقطار وحمدنا الله تعالى على هذه الآلاء المشرقة والنعم المغدقة والصنائع المتألقة بادرنا نهني أخوتكم اولا بما يسره الله تعالى لكم من سلامة المجاز ثم بما منحكم الله تعالى من فضل الاختصاص بهذا الغرض والامتياز فإمارتكم الإمارة التى أخذت بأسباب السماء وركبت إلى الجهاد في سبيل الله تعالى جياد الخيل والماء وأصبحت على حال الشبيبة شجا في حلوق الأعداء ونحن أحق بهذا

الهناء ولكنها عادة الود وسنة الإخاء فالله عز و جل يجعله مقدما ميمون الطائر متهلل البشائر تهلل بصنع الله بعده وجوه القبائل والعشائر ويجري خبر سعادتكم مجرى المثل السائر ويشكر محل والدنا فيما كان من اختياره ومزيد إيثاره ويجازيه جزاء من سمح في ذاته بمظنة ادخاره ومذ رأينا ان هذا الغرض لا يجتزى فيه بالكتابة دون الاستنابة وجهنا لكم من يقوم بحقه ويجري من تقرير ما لدينا على أوضح طرقه وهو القائد الكذا ومجدكم يصغي لما يلقيه ويقابل بالقبول ما من ذلك يؤديه والله تعالى يصل سعدكم ويحرس مجدكم والسلام انتهى
وكان الطاغية الملعون أيام السلطان أبي عنان رحمه الله تعالى نازل جبل الفتح ثم كفى الله تعالى شره في ذلك التاريخ
7 - من أبي الحجاج إلى أبي عنان
ومن إنشاء لسان الدين على لسان سلطانه أبي الحجاج يخاطب أبا عنان سلطان فاس والمغرب وذلك بما نصه
المقام الذي رمى له الملك الأصيل بأفلاذه وأدى منه الإسلام إلى ملجئه الأحمى وملاذه وكفلت السعود بإمضاء أمره المطاع وإنفاذه وشأى حلبه الكرم فكان وحيد آحاده وفذ أفذاذه وابتدع غرائب الجود فقال لسان الوجود نعمت البدعه هذه مقام محل أخينا الذي أركان مجده راسية راسخة وغرر عزه بادية باذخة وأعلام فخره سامية شامخة وآيات سعده محكمة ناسخة السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ابن السلطان الكذا أبقاه الله تعالى يجري بسعده الفلك ويجلى بنور هديه الحلك ويسطر حسنات ملكه الملك ويشهد بفضل بأسه

ونداه النادي والمعترك معظم حقوقه التى تأكد فرضها المثني على مكارمه التى أعيا الأوصاف البليغة بعضها أمير المسلمين عبدالله يوسف ابن أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر سلام كريم طيب بر عميم يخص أخوتكم الفضلى ورحمة الله وبركاته
اما بعد حمد الله الذي هيأ لملة الإسلام بمظاهرة ملككم المنصور الأعلام إظهارا وإعزازا وجعل لها العاقبة الحسنى بيمن مقامكم الأسنى تصديقا لدعوة الحق وإنجازا وسهل لها بسعدكم كل صعب المرام وقد سامتها صروف الأيام ليا وإعوازا واتاح لها منكم وليا يسوم أعداءها استلاما وابتزازا ويسكن آمالها وقد استشعرت انحفازا حمدا يكون على حلل النعم العميمة والآلاء الكريمة طرازا ومولانا محمد رسوله الذي بهرت آياته وضوحا وإعجازا واستحقت الكمال صفاته حقيقة لا مجازا ونبيه الذي بين للخلق أحكام دينه الحق امتناعا وجوازا ويسر لهم وقد ضلوا في مفاوز الشك مفازا والرضى عن آله وأصحابه المستولين على ميادين فضائل الدنيا والدين اختصاصا بها وامتيازا فكانوا غيوثا إن وجدوا محلا وليوثا إن شهدوا برازا والدعاء لمقام أخوتكم الأسمى بنصر على أعدائه تبدي له الجياد الجرد ارتياحا والرماح الملد اهتزازا وعز يطأ من أكناف البسيطة وأرجائها المحيطة سهلا وعزازا ويمن يشمل من بلاد الإيمان أقطارا نازحة ويعم أحوازا وسعد تجول في ميدان ذكره المذاع أطراف ألسنة اليراع إسهابا وإيجازا وفخر يجوب جيوب الأقطار جوب المثل السيار عراقا وحجازا ولا زالت كتائب سعده تنتهز فرص الدهر انتهازا وتوسع مملكات الكفر انتهابا واحتيازا فإنا كتبناه إلى مقامكم كتب الله تعالى لكم سعدا ثابت المراكز وعزا لا تلين قناته في يد الغامز وثناء لا يثني عنان سراه عرض المفاوز وصنعا رحيب الجوانب

رغيب الحوائز من حمراء غرناطة حرسها الله تعالى وفضله عز و جل قد أدال العسر يسرا واحال القبض بسطا وقرب نوازح الآمال بعد أن تناءت ديارها شحطا وراض مركب الدهر الذي كان لا يلين لمن استمطى وقرب غريم الرجاء في هذه الأرجاء وكان مشتطا والتوكل عليه سبحانه وتعالى قد أحكم منه اليقين والاستبصار المبين ربطا ومشروط المزيد من نعمه قد لزم من الشكر شرطا ومقامكم هو عدة الإسلام إذا جد حفاظه وظله الظليل إذا لفح للكفر شواظه وملجؤه الذي تنام في كنف امنه أيقاظه ووزره الذي إلى نصره تمد أيديه وتشير ألحاظه ففي أرجاء ثنائه تسرح معانيه وألفاظه ولخطب تمجيده وتحميده يقول قسه وتحتفل عكاظه وتشيعنا إلى ذلك الجناب الكريم طويل عريض ومقدمات ودنا إياه لا يعترضها نقيض وأفلاك تعظيمنا له ليس لأوجها الرفيع حضيض وانوار اعتقادنا الجميل فيه يشف سواد الحبر على أوجهها البيض
وإلى هذا ألبسكم الله تعالى ثوب السعادة المعادة فضفاضا كما صرف ببركة إيالتكم الكريمة على ربوع الإسلام وجوه الليالي والأيام وقد ازورت إعراضا وبسطت آمالها وقد استشعرت انقباضا فإننا ورد علينا كتابكم الذي كرم أنحاء وأغراضا وجالت البلاغة من طرسه الفصيح المقال رياضا ووردت الأفكار من معانيه الغرائب وألفاظه المزرية بدرر النحور والترائب بحورا صافية وحياضا فاجتلينا منه حلة من حلل الود سابغة وحجة من حجج المجد بالغة وشمسا في فلك السعد بازغة الذي بين المقاصد الكريمة وشرحها وجلا الفضائل العميمة وأوضحها فما أكرم شيم ذلك الجلال وأسمحها وأفضل خلال ذلك الكمال وأرجحها خثتم فيه على إحكام السلم التى تحوط النفس والحريم بسياج ويداوى القطر العليل منها بأنجع علاج والحال ذات احتياج وساحة الجبل عصمه الله تعالى ميدان هياج ومتبوأ أعلاج ومظنة اختلاف الظنون الموحشة واختلاج فحضر لدينا محتمله وزيركم الشيخ

الأجل الأعظم الموقر الأسمى الخاصة الأحظى أبو علي ابن الشيخ الوزير الأجل الحافل الفاضل المجاهد الكامل أبي عبدالله ابن محلى والشيخ الفقيه الأستاذ الأعرف الفاضل الكامل أبو عبدالله ابن الشيخ الفقيه الأجل العارف الفاضل الصالح المبارك المبرور المرحوم أبي عبدالله الغشتالي وصل الله سبحانه سعادتهما وحرس مجادتهما حالين من مراتب ترفيعنا أعلى محل الإعزاز وواردين على أحلى القبول الذي لا تشاب حقيقته بالمجاز عملا بما يجب علينا لمن يصل إلينا من تلك الأنحاء الكريمة والأحواز فتلقينا ما اشتملت عليه الإحالة السلطانية من الود الذي كرم مفهوما ونصا والبر الذي ذهب من مذاهب الفضل والكمال الأمد الأقصى وقد كان سبقهما صنع الله جل جلاله بما أخلف الظنون وشرح الصدور وأقر العيون فلم يصلا إلينا إلا وقد أهلك الله تعالى الطاغية ومزق أحزابه الباغية نعمة منه سبحانه وتعالى ومنة ملأت الصدور انشراحا وعمت الأرجاء أفراحا وعنوانا على سعد مقامكم الذي راق غررا في المكرمات وأوضاحا ومد يده إلى سهام المواهب الإلهية فحاز أعلاها قداحا فتشوفت نفوس المسلمين إلى ما كانت تؤمله من فضل الله تعالى وترجوه وبدت في القضية التى أشرتم بأعمالها الوجوه وانبعثت الآمال بما آلت إليه هذه الحال انبعاثا والتاثت امور العدو قصمه الله تعالى التياثا وانتقض غزله من بعد قوته بفضل الله تعالى انكاثا واحتملت المسألة التى تفضلتم بعرضها وأشرتم إلى فرضها مأخذا وأبحاثا فألقينا في هذه الحال إلى رسوليكم أعزهما الله تعالى ما يلقيانه إلى مقامكم الأعلى ومثابتكم الفضلى وما يتزيد عندنا من الأمور فركائب التعريف بها إليكم محثوثة وجزئياتها بين يدي مقامكم الرفيع مبثوثة وقد اضطربت أحوال الكفر وفالت آراؤه واستحكم بالشتات داؤه وارتجت بزلزال الفتن

أرجاؤه وتيسرت آمال الإسلام بفضل الله تعالى ورجاؤه وما هو إلا السعد يذلل لكم صعب العدو ويروضه والله سبحانه يهيىء لكم فضل الجهاد حتى تقضى بكم فروضه
واما الذي لكم عندنا من الخلوص الصافية شرائعه والثناء الذي هو الروض تأرج ذائعه فأوضح من فلق الصبح إذا أشرقت طلائعه جعله الله تعالى في ذاته ووسيلة إلى مرضاته ورسولاكم يشرحان لكم الحال بجزئياته ويقرران ماعندنا من الود الذي سطع نور آياته وهو سبحانه وتعالى يصل لكم سعدا سامي المراتب والمراقي ويجمع لكم بعد بعد المدى وتمهيد دين الهدى بين نعيم الدنيا والنعيم الباقي والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته انتهى
8 - رسالة عن يوسف النصري
وأبين من هذا في القضية كتاب آخر من إنشاء لسان الدين رحمه الله تعالى صورته
من أمير المسلمين عبدالله يوسف ابن أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر إلى محل أخينا الذي نثني على مجادته أكرم الثناء ونجدد له ما سلف بين الأسلاف الكرام من الولاء ونتحفه من سعادة الإسلام واهله بالأخبار السارة والأنباء السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ابن السلطان الكذا أبقاه الله تعالى رفيع المقدار كريم المآثر والآثار وعرفه من عوارف فضله كل مشرق الأنوار كفيل بالحسنى وعقبى الدار سلام كريم بر عميم يخص جلالكم الأرفع ورحمة الله وبركاته
اما بعد حمدالله على عميم آلائه وجزيل نعمائه ميسر الصعب بعد إبائه والكفيل بتقريب الفرج وإدنائه له الحمد والشكر ملء أرضه وسمائه ومولانا محمد خاتم رسله الكرام وأنبيائه الهادي إلى سبيل الرشد وسوائه مطلع نور الحق يجلو ظلم الشك بضيائه والرضى

عن آله وأصحابه وانصاره وأحزابه وخلفائه السائرين في الدنيا والآخرة تحت لوائه الباذلين نفوسهم في إظهار دينه القويم وإعلائه والدعاء لمقامكم بتيسير أمله من فضل الله سبحانه ورجائه واختصاصه بأوفر الحظوظ من اعتنائه فإنا كتبناه إليكم كتبكم الله تعالى فيمن ارتضى قوله وعمله من أوليائه وعرفكم عوارف السعادة المعادة في نهاية كل امر وابتدائه من حمراء غرناطة حرسها الله تعالى ولا زائد بفضل الله سبحانه ثم ببركة سيدنا ومولانا محمد رسوله الكريم الذي اوضح برهانه وعظم أمره ورفع شانه ثم بما عندنا من الود الكريم وتجديد العهد القديم لمقامكم اعلى الله تعالى سلطانه إلا الخير الهامي السحاب واليسر المتين الأسباب واليمن المفتح الأبواب والسعد الجديد الأثواب ومقامكم معتمد بترفيع الجناب متعهد بالود الخالص والاعتقاد اللباب معلوم له من فضل الدين وأصالة الأحساب
وإلى هذا وصل الله تعالى سعدكم مديد الأطناب ثاقب الشهاب وأطلع عليكم وجوه البشائر سافرة النقاب فإنه قد كان بلغكم ما آلت الحال إليه بطاغية قشتالة الذي كلب على هذه الأقطار الغربية من وراء البحار وما سامها من الإرهاق والأضرار وأنه جري في ميدان الأملاء والاغترار ومحص المسلمون على يده بالوقائع العظيمة الكبار وأنه نكث العهد الذي عقده وحل الميثاق الذي أكده وحمله الطمع الفاضح على أن أجلب على بلاد المسلمين بخيله ورجله ودهمها بتيار سيله وقطع ليله وأمل أن يستولي على جبل الفتح الذي يدعى منه فتحها وطلع للملة المحمدية صبحها فضيقه حصارا واتخذه دارا وعندما عظم الإشفاق وأظلمت الآفاق ظهر فينا لقدرة الله تعالى الصنع العجيب ونزل الفرج القريب وقبل الدعاء السميع المجيب وطرق الطاغية جند من جنود الله تعالى أخذه أخذة رابية ولم يبق له من باقية فهلك على الجبل حتف أنفه وغالته غوائل حتفه فتفرقت جموعه وأحزابه وانقطعت أسبابه وتعجل لنار الله تعالى مآبه وأصبحت البلاد

مستبشرة ورحمة الله منتشرة ورأينا ان هذه البشارة التى يأخذ منها كل مسلم بالنصيب الموفور ويشارك فيما جلبته من السرور انتم اولى من نتحفه بطيب رياها ونطلع عليه جميل محياها لما تقرر عندنا من دينكم المتين وفضلكم المبين وعملكم من المساهمة على شاكلة صالحي السلاطين فما ذلك إلا فضل نيتكم للمسلمين في هذه البلاد وأثر ما عندكم من جميل الاعتقاد
وقد ورد رسولنا إليكم القائد أبو عبدالله محمد بن أبي الفتح أعزه الله تعالى مقررا ما لديكم من الود الراسخ القواعد والخلوص الصافي الموارد الواضح الشواهد وأثنى على مكارمكم الأصيلة وألقى ما عندكم من المذاهب الجميلة فقابلنا ذلك بالشكر الذي يتصل سببه ويتضح مذهبه وسألنا الله أن يجعله ودا في ذاته ووسيلة إلى مرضاته وتعرفنا ماكان من تفضلكم بالطريدة المفتوحة المؤخر وما صدر عن الرئيس المعروف بالناظر من خدام دار الصنعة بالمرية من قبح محاولته وسوء معاملته فامرنا بقطع جرايته وثقافه بمطمورة القصبة جزاء لجنايته ولولا أننا توقفنا ان يكون عظيم عقابه مما لايقع من مقامكم بوفقه لمشهور عفافه ورفقه لجعلناه نكالا لأمثاله وعبرة لأشكاله وقد وجهنا جفنا سفريا لإيساق الخيل التى ذكرتم وإيصال ما إليه من ذلك أشرتم ويكمل القصد إن شاء الله تعالى تحت لحظ اعتنائكم وفضل ولائكم هذا ما تزيد عندنا عرفناكم به عملا على شاكلة الود الجميل والولاء الكريم الجملة والتفصيل فعرفونا بما يتزيد عندكم يكن من جملة أعمالكم الفاضلة ومكارمكم الحافلة والله تعالى يصل سعدكم ويحرس مجدكم والسلام الكريم عليكم ورحمة الله وبركاته انتهى
9 - رسالة في حاجة الأندلس إلى بر العدوة
ومن إنشاء لسان الدين فيما يتعلق بالأندلس وانقطاعها وأنها لا غنى لها عن العدوة وغير ذلك ما صورته

المقام الذي بنور سعادته تنجلي الغماء وتتصل النعماء من نيته قد حصل منها لجانب الله تعالى الانتماء واتفقت منها المسميات والأسماء مقام محل أبينا الذي تتفيأ هذه الجزيرة الغربية أفياء نيته الصالحة وعمله وتثق بحسن العاقبة اعتمادا على وعد الله تعالى المنزل على خيرة رسله وتجتني ثمار النجح من أفنان آرائه المتألقة تألق الصبح حالي ريثه وعجله وتتعرف حالي المودود والمكروه عارفة الخير والخيرة من قبله أبقاه الله تعالى يحسم الأدواء كلما استشرت ويحلي موارد العافية كلما امرت ويعفي على آثار الأطماع الكاذبة مهما خدعت بخلبها وغرت ويضمن سعده عودة الأمور إلى أفضل ما عليه استقرت معظم مقامه الذي هو بالتعظيم حقيق وموقر ملكه الذي لا يلتبس منه في الفخر والعز طريق ولا يختلف في فضله العميم ومجده الكريم فريق
اما بعد حمد الله المثيب المعاقب الكفيل لأهل التقوى بحسن العواقب المشيد بالعمل الصالح إلى أرفع المراقي والمراقب يهدي من يشاء ويضل من يشاء فبقضائه وقدره اختلاف المسالك والمذاهب رسوله الحاشر العاقب ونبيه الكريم الرؤوف الرحيم ذي المفاخر السامية والمناقب والرضى عن آله وأصحابه وانصاره وأحزابه الذين ظاهروه في حياته بإعمال السمر العوالي والبيض القواضب وخلفوه في امته بخلوص الضمائر عند شوب الشوائب فكانوا في سماء ملته كالنجوم الثواقب والدعاء لمقامكم الأسمى بالسعادة المعادة في الشاهد من الزمن والغائب والنصر الذي يقضي بعز الكتائب والصنع الذي تطلع من ثناياه غرر الصنائع العجائب من حمراء غرناطة حرسها الله تعالى ولا زائد بفضل الله سبحانه ثم بما عندنا من الاعتداد بمقامكم أعلى الله تعالى سلطانه وشمل بالتمهيد اوطانه إلا تشيع ثابت ويزيد وإخلاص ماعليه في ميدان الاستطاعة مزيد وتعظيم أشرف منه جيد وثناء راق فوق رياضة تحميد وتمجيد
وإلى هذا وصل الله تعالى سعدكم وحرس الطاهر الكريم مجدكم فقد

وصلنا كتابكم الذي هو على الخلوص والاعتقاد عنوان وفي الاحتجاج على الرضى والقبول برهان تنطق بالفضل فصوله وتشير إلى كرم العقد فروعه الزكية وأصوله ويحق أن ينسب إلى ذلك الفخر الأصيل محصوله عرفتمونا بما ذهب إليه عيسى بن الحسين من الخلاف الذي ارتكبه وسبيل الصواب الذي انتكبه وتنبهون على ماحده الحق في مثل ذلك وأوجبه حتى لا يصل أحد من جهتنا سببه ولا يظاهره مهما ندبه ولا يسعف في الإيواء طلبه فاستوفينا ما استدعاه ذلك البيان الصريح وجلبه وخطه القلم الفصيح وكتبه وليعلم مقامكم وهو من أصالة النظر غني عن الإعلام ولكن لا بد من الاستراحة بالكلام والتنفس بنفثات الأقلام أننا إنما نجري امورنا مع هذا العدو الكافر الذي رمينا بجواره وبلينا والحمد لله بمصادمة تياره على تعداد أقطاره وإتساع براريه وبحاره بأن تكون الأمة المحمدية بالعدوتين تحت وفاق وأسواق النفاق غير ذات اتفاق والجماهير تحت عهد الله تعالى وميثاق فمهما تعرفنا أن اثنين اختلف منهما بالعدوتين عقد ووقع بينهما في قبول الطاعة رد ساءنا واقعه وعظمت لدينا مواقعه وسألنا أن يتدارك الخرق راقعه لما نتوقعه من التشاغل عن نصرنا وتفرغ العدو إلى ضرنا فكيف إذا وقعت الفتنة في صقعنا وقطرنا إنما هي شعلة في بعض بيوتنا وقعت وحادثة إلى جهتنا أشرعت وإن كان لسوانا لفظها فلنا معناها وعلى وطننا يعود جناها فنحن أحرص الناس على إطفائها وإخمادها وأسعى في اصلاح فسادها والمثابرة على كفها واستئسادها وما الظن بدار فسد بابها وآمال رثت أسبابها وجزيرة لا تستقيم أحوال من بها إلا بالسكون وسلم العدو المغرور المفتون حتى تقضى منه بإعانتكم الديون وإن اضطرابها إنما هو داء

نستنصر من رأيكم فيه بطبيب وهدف خطب نرميه من عزمكم بسهم مصيب وامر نضرع في تداركه إلى سميع للدعاء مجيب ونحن فيه يد امام يدكم ومقصدنا فيه تبع لقصدكم وتصرفنا على حد إشارتكم جار وعزمنا إلى منتهى مرضاتكم متبار وعقدنا في مشايعة أمركم غير متوار
وقد كنا لأول اتصال هذا الخبر القبيح العين والأثر بادرنا تعريفكم بجميع ما اتصل بنا في شأنه ولم نطو عنكم شيئا من إسراره ولا إعلانه وبعثنا رسولنا إلى بابكم العلي نعتد بسلطانه ونرتجي تمهيد هذا الوطن بتمهيد أوطانه وبادرنا بالمخاطبة من وجبت مخاطبته من أهل مربلة وأسطبونة نثبت بصائرهم في الطاعة ونقويها ونعدهم بتوجيه من يحفظ جهاتهم ويحميها وعجلنا إلى بعضها مددا من الرماة والسلاح ليكون ذلك عدة فيها وعلمنا ما اوجب الله تعالى من الأعمال التي يزلف بها ويرتضيها وكيف لا نظاهر أمركم الذي هو العدة المذخورة والفئة الناصرة المنصورة والباطل سراب يخدع والحق إليه يرجع والبغي يردي ويصرع وكم تقدم في الدهر منتز شذ عن الطاعة وخرج عن الجماعة ومخالف على الدول في العصور الأول بهرج الحق زائفه ورجمت شهب الأسنة طائفه وأخذت عليه الضيقة وهاده وتنائفه فتقلص ظله ونبا به محله وكما قال يذهب الباطل وأهله لا سيما وسعادة ملككم قد وطأت المسالك ومهدتها وقهرت الأعداء وتعبدتها وأطفأت جداول سيوفكم النار التى اوقدتها وكان بالأمور إذا أعملتم فيها رأيكم السديد وقد عادت إلى خير أحوالها والبلاد بيمن تدبيركم قد شفى ما ظهر من اعتلالها وعلى كل حال فإنما نحن على تكمبل مرضاتكم مبادرون وفي أغراضكم الدينية واردون وصادرون ولإشارتكم التى تتضمن الخير والخيرة منتظرون عندنا من ذلك عقائد لا يحتمل نصها التأويل ولا يقبل صحيحها التعليل فلتكن أبوتكم من ذلك على أوضح سبيل فشمس النهار لا تحتاج إلى دليل واله تعالى يسني لكم عوائد الصنع الجميل حتى لا يدع عزمكم

مغصوبا إلا رده ولا ثلما في ثغر الدين إلا سده ولا هدفا متعاصيا إلا هده ولا عرقا من الخلاف إلا جده وهو سبحانه يبقي ملككم ويصل سعده ويعلي امره ويحرس مجده والسلام الكريم يخصكم ورحمة الله وبركاته انتهى
10 - رسالة عن أبي الحجاج إلى الرعايا
ومن إنشائه رحمه الله تعالى من جملة رسالة على لسان سلطانه أبي الحجاج يخاطب الرعايا ما نص محل الحاجة منه
وإلى هذا فقد علمتم ما كانت الحال آلت إليه من ضيقة البلاد والعباد بهذا الطاغية الذي جرى في ميدان الأمل جري الجموح ودارت عليه خمرة النخوة والخيلاء مع الغبوق والصبوح حتى طمح بسكر اغتراره ومحص المسلمون على يده بالوقائع التى تجاوز منتهى مقداره وتوجهت إلى استئصال الكلمة مطامع أفكاره ووثق بانه يطفىء نور الله بناره ونازل جبل الفتح فشد مخنق حصاره وأدار أشياعه في البر والبحر دور السوار على أسواره وانتهز الفرصة بانقطاع الأسباب وانبهام الأبواب والأمور التى لم تجر للمسلمين بالعدوتين على مألوف الحساب وتكالب التثليث على التوحيد وساءت الظنون في هذا القطر الوحيد المنقطع بين الأمة الكافرة والبحور الزاخرة والمرام البعيد وإننا صابرنا بالله تعالى تيار سيله واستضأنا بنور التوكل عليه في جنح هذا الخطب ودجنة ليله ولجأنا إلى من بيده نواصي الخلائق واعتقلنا من حبله المتين باوثق العلائق وفسحنا مجال الأمل في ذلك الميدان المتضايق واخلصنا لله مقيل العثار ومؤوي أولي الاضطرار قلوبنا ورفعنا إليه أمرنا ووقفنا عليه مطلوبنا ولم نقصر مع ذلك في ابرام العزم واستشعار الحزم وإمداد الثغور بأقصى الإمكان وبعث الجيوش إلى ما يلينا من بلاد على الأحيان فرحم الله تعالى انقطاعنا إلى كرمه والتجاءنا إلى حرمه فجلى بفضله

سبحانه ظلم الشدة ومد على الحريم والأطفال ظلال رحمته الممتدة وعرفنا عوارف الصنع الذي قدم به العهد على طول المدة ورماه بجيش من جيوش قدرته أغنى عن إيجاف الركاب واحتشاد الأحزاب وأظهر فينا قدرة ملكه عند إنقطاع الأسباب واستخلاص العباد والبلاد من بين الظفر والناب فقد كان جعجع على الحق بأباطيله وسد المجاز بأساطيله ورمى الجزيرة الأندلسية بشؤبوب شره وصيرها فريسة بين غربان بحره وعقبان بره فلم يخلص إلى المسلمين من إخوانهم مرقبة إلا على الخطر الشديد والإفلات من يد العدو العنيد مع توفر العزائم والحمدلله على العمل الحميد والسعي فيما يعود على الدين بالتأييد
وبينما شفقتنا على جبل الفتح تقيم وتقعد وكلب الأعداء عليه يبرق ويرعد واليأس والرجاء خصمان هذا يقرب وهذا يبعد إذ طلع علينا البشير بانفراج الأزمة وحل تلك العزمة وموت شاه تلك الوقعة وإبقاء الله تعالى على تلك البقعة وأنه سبحانه أخذ الطاغية أكمل ما كان اغترارا وأعظم أنصارا وزلزل أرض عزه وقد أصابت قرارا وأن شهاب سعده قد أصبح آفلا وعلم كبره انقلب سافلا وأن من بيده ملكوت السموات والأرض طرقه بحتفه وأهلكه برغم أنفه وأن محلته عاجلها التباب والتبار وعاثت في منازلها النار وتمخض عن سوء عاقبتها الليل والنهار وان حماتها يخربون بيوتهم بأيديهم وينادي بشتات الشمل لسان مناديهم وتلاحق الفرسان من جبل الفتح المعقل الذي عليه من عناية الله تعالى رواق مضروب والرباط الذي من حاربه فهو المحروب فأخبرت بانفراج الضيق وارتفاع العائق لها عن الطريق وبرء الداء الذي أشرق بالريق وأن النصارى دمرها الله تعالى جدت في ارتحالها وأسرعت بجيفة طاغيتها إلى سوء مآلها وحالها وسمحت للنار والنهب بأسلابها واموالها فبهرنا هذا الصنع الإلهي الذي مهد الأقطار بعد رجفانها وانام العيون بعد سهاد أجفانها وسألنا الله تعالى أن يعيننا على

شكر هذه النعمة التى إن سلطت عليها قوى البشر فضحتها ورجحتها ورأينا سر اللطائف الخفية كيف سريانه في الوجود وشاهدنا بالعيان أنوار اللطائف الإلهية والجود وقلنا إنما هو الفتح الأول شفع بثان وقواعد الدين الحنيف أيدت من صنع الله تعالى ببنيان اللهم لك الحمد على نعمك الباطنة والظاهرة ومننك الوافرة إنك ولينا في الدنيا والآخرة انتهى
11 - رسالة توضح ضيق حال الأندلس
ومن إنشاء لسان الدين رحمه الله تعالى من أخرى مما يتعلق بضيق حال المسلمين بالأندلس ما صورته
وإن تشوفتم إلى أحوال هذا القطر ومن به من المسلمين بمقتضى الدين المتين والفضل المبين فاعلموا أننا في هذه الأيام ندافع من العدو تيارا ونكابر بحرا زخارا ونتوقع إلا إن وقى الله تعالى خطوبا كبارا ونمد اليد إلى الله تعالى انتصارا ونلجأ إليه اضطرارا ونستمد دعاء المسلمين بكل قطر استعدادا به واستظهارا ونستشير من خواطر الفضلاء ما يحفظ أخطارا وينشىء ريح روح الله طيبة معطارا فإن القومس الأعظم قيوم دين النصرانية الذي يأمرها فتطيع ومخالفته لا تستطيع رمى هذه الأمة الغريبة المنقطعة منهم بجراد لا يسد طريقها ولا يحصى فريقها التفت على أخي صاحب قشتالة وعزمها أن تملكه بدله وتبلغه أمله ويكون الكل يدا واحدة على المسلمين ومناصبة هذا الدين واستئصال شأفة المؤمنين وهي شدة ليس لأهل هذا الوطن بها عهد ولا عرفها نجد ولا وهد وقد اقتحموا الحدود القريبة والله تعالى ولي هذه الأمة الغريبة وقد جعلنا مقاليد أمورنا بيد من يقوي الضعيف ويدرأ الخطب المخيف ورجونا أن نكون ممن قال الله تعالى فيهم ( الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ) آل عمران 173

وهو سبحانه المرجو في حسن العقبى والمآل ونصر فئة الهدي على فئة الضلال وما قل من كان الحق كنزه ولا ذل من استمد من الله عزه ( قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين - الآية ) التوبة 52 ودعاء من قبلكم من المسلمين مدد موفور والله سبحانه على كل حال محمود مشكور انتهى
12 - من رسالة طويلة
ومن أخرى طويلة من جملتها ما صورته
وقد اتصل بنا الخبر الذي يوجب نصح الإسلام ورعي الجوار والذمام وماجعل الله تعالى للماموم على الإمام وإيقاظكم من مراقدكم المستغرقة وجمع أهوائكم المتفرقة وتهييئكم إلى مصادمة الشدائد المرعدة المبرقة وهو أن كبير دين النصرانية الذي إليه ينقادون وفي مرضاته يصادقون ويعادون وعند رؤية صليبه يكبرون ويسجدون لما رأى الفتن قد اكلتهم خضما وقضما وأوسعتهم هضما فلم تبق عصبا ولا عظما ونثرت ماكان نظما أعمل نظره فيما يجمع منهم ما افترق ويرفع ما طرق ويرفو ما مزق الشتات وخرق فرمى الإسلام بامة عددها القطر المنثال وأمرهم وشأنهم الامتثال أن يدمثوا لمن ارتضاه من امته الطاعة ويجمعوا في ملته الجماعة ويطلع الكل على هذه الفئة القليلة الغريبة بغتة كقيام الساعة وأقطعهم قطع الله تعالى بهم العباد والبلاد والطارف والتلاد وسوغهم الحريم والأولاد وبالله تعالى نستدفع ما لا نطيقه ومنه نسأل عادة الفرج فما سدت طريقه إلا أنا رأينا غفلة الناس مؤذنة البوار وأشفقنا للدين المنقطع من وراء البحار وقد أصبح مضغة في لهوات الكفار وأردنا أن نهزكم بالموعظة التى تكحل البصائر بميل الاستبصار فإن جبر اله تعالى الخواطر بالضراعة إليه والانكسار ونسخ الإعسار بالإيسار وأنجد اليمين بأختها اليسار وإلا فقد تعين في الدنيا والآخرة حظ الحسار فإن من ظهر عليه عدو دين الله تعالى وهو من الله مصروف

وبالباطل مشغوف وبغير العرف معروف وعلى الحطام المسلوب عنه ملهوف فقد تله الشيطان للجبين وقد خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين ومن نفذ فيه أو له قدر اللله عن اداء الواجب وبذل المجهود وأفرد بالعبودية وجه الواحد الأحد المعبود ووطن النفس على الشهادة المبوئة دار الخلود العائدة بالحياة الدائمة والوجود أو الظهور على عدوه المحشور إليه المحشود صبرا على المقام المحمود وبيعا من الله تعالى تكون الملائكة فيه الشهود حتى تعين يد الله في ذلك البناء المهدود والسواد الأعظم الممدود كان على أمريه بالخيار المردود ( قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين - الآية ) انتهى
ضياع المدن الأندلسية
وقال صاحب مناهج الفكر بعد وصفه لجزيرة الأندلس وأقطارها ما صورته
ولم تزل هذه الجزيرة منتظمة لمالكها في سلك الانقياد والوفاق إلى أن طما بمترفيها سيل العناد والنفاق فامتاز كل رئيس منهم بصقع كان مسقط راسه وجعله معقلا يعتصم فيه من المخاوف بأفراسه فصار كل منهم يشن الغارة على جاره ويحاربه في عقر داره إلى أن ضعفوا عن لقاء عدو في الدين يعادي ويراوح معاقلهم بالعيث ويغادي حتى لم يبق في أيديهم منها إلا ما هو في ضمان هدنة مقدرة وإتاوة في كل عام على الكبير والصغير مقررة كان ذلك في الكتاب مسطورا وقدرا في سابق علم الله مقدورا انتهى
وهذا قاله قبل أن يستولي العدو على جميعها والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين

حذف

طليطلة - 478
ولنرجع إلى ما كنا بصدده من أخذ النصارى قواعد الأندلس فنقول قد قدمنا أوائل هذا الباب ان طليطلة أعادها الله تعالى من أول ما أخذ الكفار من المدن العظام بالأندلس قال ابن بسام لما توالت على اهل طليطلة الفتن المظلمة والحوادث المصطلمة وترادف عليهم البلاء والجلاء واستباح الفرنج لعنهم الله تعالى أموالهم وأرواحهم كان من أعجب ماجرى من النوادر الدالة على الخذلان ان الحنطة كانت تقيم عندهم مخزونة خمسين سنة لا تتغير ولا يؤثر فيها طول المدة بما يمنع من اكلها فلما كانت السنة التى استولى عليها العدو فيها لم ترفع الغلة من الأندر حتى أسرع فيها الفساد فعلم الناس أن ذلك بمشيئة الله تعالى لأمر أراده من شمول البلوى وعموم الضراء فاستولى العدو على طليطلة وأنزل من بها على حكمه وخرج ابن ذي النون منها على أقبح صورة وأفظع سيرة ورآه الناس وبيده إصطرلاب يأخذ به وقتا يرحل فيه فتعجب منه المسلمون وضحك عليه الكافرون وبسط الكافر العدل على أهل المدينة وحبب التنصر إلى عامة طغامها فوجد المسلمون من ذلك ما لا يطاق حمله وشرع في تغيير الجامع كنيسة فى ربيع الأول سنة ست وتسعين وأربعمائة
ومما جرى في ذلك اليوم أن الشيخ الأستاذ المغامي رحمه الله تعالى صار إلى الجامع وصلى فيه وأمر مريدا له بالقراءة ووافاه الفرنج لعنهم الله تعالى وتكاثروا لتغيير القبلة فما جسر أحد منهم على إزعاج الشيخ ولا معارضته وعصمه الله تعالى منهم إلى أن أكمل القراءة وسجد سجدة ورفع رأسه وبكى على الجامع بكاء شديدا وخرج ولم يعرض أحد له بمكروه وقيل لملك

النصارى ينبغي أن تلبس التاج كمن كان قبلك في هذا الملك فقال حتى نأخذ قرطبتهم واعد لذلك ناقوسا تأنق فيه وفيما رصع به من الجواهر فأكذبه الله وأزعجه وورد أمير المسلمين وناصر الدين يوسف بن تاشفين فما قصر فيما أثر من إذلال المشركين وإرغام الكافرين واستدراك أمور المسلمين انتهى ملخصا وقد مر مطولا
وقعة بطرنة - 456
وكانت قبلها وقعة بطرنة سنة ست وخمسين وأربعمائة وذلك أن الفرنج خذلهم الله تعالى انتدبت منهم قطعة كثيفة ونزلت على بلنسية في السنة المذكورة وأهلها جاهلون بالحرب مغترون بأمر الطعن والضرب مقبلون على اللذات من الأكل والشرب وأظهر الفرنج الندم على منازلتها والضعف عن مقاومة من فيها وخدعوهم بذلك فانخدعوا وأطمعوهم فطمعوا وكمنوا في عدة أماكن جماعة من الفرسان وخرج أهل البلد بثياب زينتهم وخرج معهم أميرهم عبدالعزيز بن أبي عامر فاستدرجهم العدو لعنهم الله تعالى ثم عطفوا عليهم فاستأصلوهم بالقتل والأسر وما نجا منهم إلا من حصنه أجله وخلص الأمير نفسه ومما حفظ عنه أنه أنشد لما أعياه الأمر
( خليلي ليس الرأي في صدر واحد ... أشيرا علي اليوم ما تريان )
وفي أهل بلنسية يقول بعض الشعراء حين خرجوا في ثياب الزينة والترفه
( لبسوا الحديد إلى الوغى ولبستم ... حلل الحرير عليكم ألوانا )
( ماكان أقبحهم وأحسنكم بها ... لو لم يكن ببطرنة ماكانا )

قال ابن بسام وهكذا جرى لأهل طليطلة فإن العدو خذله الله تعالى استظهر عليهم وقتل جماهيرهم وكان من جملة ما غنمه الفرنج من أهلها لما خرجوا إليهم في ثياب الترفه ألف غفارة خارجا عما سواها
بربشتر
وقال ابن حيان وكان تغلب العدو خذله الله تعالى على بربشتر قصبة بلد برطانية وهي تقرب من سرقسطة سنة ست وخمسين وأربعمائة وذلك أن جيش الأردمليس نازلها وحاصرها وقصر يوسف بن سليمان بن هود في حمايتها ووكل أهلها إلى نفوسهم فأقام العدو عليها أربعين يوما ووقع فيما بين أهلها تنازع في القوت لقلته واتصل ذلك بالعدو فشدد القتال عليها والحصر لها حتى دخل المدينة الأولى في خمسة آلاف مدرع فدهش الناس وتحصنوا بالمدينة الداخلة وجرت بينهم حروب شديدة قتل فيها خمسمائة إفرنجي ثم اتفق أن القناة التى كان الماء يجري فيها من النهر إلى المدينة تحت الأرض في سرب موزون انهارت وفسدت ووقعت فيها صخرة عظيمة سدت السرب بأسره فانقطع الماء عن المدينة ويئس من بها من الحياة فلاذوا بطلب الأمان على أنفسهم خاصة دون مال وعيال فأعطاهم العدو الأمان فلما خرجوا نكث بهم وغدر وقتل الجميع إلا القائد ابن الطويل والقاضي ابن عيسى في نفر من الوجوه وحصل للعدو من الأموال والأمتعة ما لايحصى حتى إن الذي خص بعض مقدمي العدو لحصنه وهو قائد خيل رومة نحو ألف وخمسمائة جارية أبكارا ومن أوقار الأمتعة والحلى

والكسوة خمسمائة جمل وقدر من قتل وأسر بمائة ألف نفس وقيل خمسون ألف نفس ومن نوادر ماجرى على هذه المدينة لما فسدت القناة وانقطعت المياه أن المرأة كانت تقف على السور وتنادي من يقرب منها أن يعطيها جرعة ماء لنفسها او ولدها فيقول لها أعطيني ما معك فتعطيه ما معها من كسوة وحلي وغيره
قال وكان السبب في قتلهم أنه خاف من يصل لنجدتهم وشاهد من كثرتهم ما هاله فشرع في القتل لعنه الله تعالى حتى قتل منهم نيفا وستة آلاف قتيل ثم نادى الملك بتامين من بقي وامر أن يخرجوا فازدحموا في الباب إلى ان مات منهم خلق عظيم ونزلوا من الأسوار في الحبال للخشية من الازدحام في الأبواب ومبادرة إلى شرب الماء وكان قد تحيز في وسط المدينة قدر سبعمائة نفس من الوجوه وحاروا في نفوسهم وانتظروا ما ينزل بهم فلما خلت ممن أسر وقتل وأخرج من الأبواب والأسوار وهلك في الزحمة نودي في تلك البقية بأن يبادر كل منهم إلى داره بأهله وله الأمان وأرهقوا وأزعجوا فلما حصل كل واحد بمن معه من أهله في منزله اقتسمهم الافرنج لعنهم الله تعالى بأمر الملك وأخذ كل واحد دارا بمن فيها من أهلها نعوذ بالله تعالى
وكان من أهل المدينة جماعة قد عاذوا برؤوس الجبال وتحصنوا بمواضع منيعة وكادوا يهلكون من العطش فأمنهم الملك على نفوسهم وبرزوا في صور الهلكى من العطش فأطلق سبيلهم فبينما هم في الطريق إذ لقيتهم خيل الكفر ممن لم يشهد الحادثة فقتلوهم إلا القليل ممن نجا بأجله
قال وكان الفرنج لعنهم الله تعالى لما استولوا على أهل المدينة يفتضون البكر بحضرة أبيها والثيب بعين زوجها وأهلها وجرى من هذه الأحوال مالم يشهد المسلمون مثله قط فيما مضى من الزمان ومن لم يرض منهم أن يفعل ذلك في خادم أو ذات مهنة أو وخش أعطاهن خوله وغلمانه يعيثون فيهن عيثة وبلغ الكفرة منهم يومئذ ما لا تلحقه الصفة على الحقيقة ولما عزم ملك الروم

على القفول إلى بلده تخير من بنات المسلمين الجواري الأبكار والثيبات ذوات الجمال ومن صبيانهم الحسان الوفا عدة حملهم معه ليهديهم إلى من فوقه وترك من رابطة خيله ببربشتر ألفا وخمسمائة ومن الرجالة ألفين انتهى
قال ابن حيان واختم هذه الأخبار الموقظة لقلوب اولي الألباب بنادرة منها يكتفى باعتبارها عما سواها وهي أن بعض تجار اليهود جاء بربشتر بعد الحادثة ملتمسا فدية بنات بعض الوجوه ممن نجا من أهلها حصلن في سهم قومس من الرابطة فيها كان يعرفه قال فهديت إلى منزله فيها واستأذنت عليه فوجدته جالسا مكان رب الدار مستويا على فراشه رافلا في نفيس ثيابه والمجلس والسرير كما تخلفهما ربهما يوم محنته لم يغير شيئا من رياشهما وزينتهما ووصائفه مضمومات الشعور قائمات على رأسه ساعيات في خدمته فرحب بي وسألني عن قصدي فعرفته وجهه وأشرت الى وفور ما أبذله في بعض اللواتي على رأسه وفيهن كانت حاجتي فتبسم وقال بلسانه ما أسرع ما طمعت فيمن عرضناه لك أعرض عمن هنا وتعرض لمن شئت ممن صيرته لحصني من سبيي وأسراي أقاربك فيمن شئت منهن فقلت له اما الدخول إلى الحصن فلا رأي لي فيه وبقربك أنست وفي كنفك اطمأننت فسمني ببعض من هنا فإني أصير إلى رغبتك فقال وماعندك قلت العين الكثير الطيب والبز الرفيع الغريب فقال كأنك تشميني ما ليس عندي يامجة ينادي بعض اولئك الوصائف يريد يا بهجة فغيره بعجمته قومي فاعرضي عليه ما في الصندوق فقامت إليه وأقبلت ببدر الدنانير وأكياس الدراهم وأسفاط الحلى فكشف وجعل بين يدي العلج حتى كادت تواري شخصه ثم قال لها أدني إلينا من تلك التخوت فأدنت منه عدة من قطع الوشي والخز والديباج الفاخر مما حار له ناظري وبهت

واسترذلت ما عندي ثم قال لي لقد كثر هذا عندي حتى ما ألذ به ثم حلف بإلهه انه لو لم يكن عنده شيء من هذا ثم بذل له بأجمعه في ثمن تلك ما سخت بها يدي فهي ابنة صاحب المنزل وله حسب في قومه اصطفيتها لمزيد جمالها لولادتي حسبما كان قومها يصنعون بنسائنا نحن أيام دولتهم وقد رد لنا الكرة عليهم فصرنا فيما تراه وازيدك بأن تلك الخودة الناعمة وأشار إلى جارية اخرى قائمة ألى ناحية أخرى مغنية والدها التى كانت تشدو له على نشواته إلى أن أيقظناه من نوماته يافلانة يناديها بلكنته خذي عودك تغني زائرنا بشجوك قال فأخذت العود وقعدت تسويه وإني لأتأمل دمعها يقطر على خدها فتسارق العلج مسحه واندفعت تغني بشعر ما فهمته أنا فضلا عن العلج فصار من الغريب أن حث شربه هو عليه وأظهر الطرب منه فلما يئست مما عنده قمت منطلقا عنه وارتدت لتجارتي سواه واطلعت لكثرة مالدى القوم من السبي والمغنم على ما طال عجبي به فهذا فيه مقنع لمن تدبره وتذكر لمن تذكره
قال ابن حيان قد أشفينا بشرح هذه الحادثة الفادحة مصائب جليلة مؤذنة بوشك القلعة طالما حذر أسلافنا لحاقها بما احتملوه عمن قبلهم من أثارة ولا شك عند ذوي الألباب أن ذلك مما دهانا من داء التقاطع وقد أمرنا بالتواصل والألفة فأصبحنا من استشعار ذلك والتمادي عليه على شفا جرف يؤدي إلى الهلكة لا محالة انتهى ببعض اختصار
وذكر بعده كلاما في ذم اهل ذلك الزمان من أهل الأندلس وانهم يعللون أنفسهم بالباطل وان من أول الدلائل على جهلهم اغترارهم بزمانهم وبعدهم عن طاعة خالقهم ورفضهم وصية نبيهم وغفلتهم عن سد ثغورهم حتى أطل عدوهم الساعي لإطفاء نورهم يجوس من خلال ديارهم ويستقري بسائط بقاعهم ويقطع كل يوم طرفا ويبيد أمة ومن لدينا وحوالينا من أهل كلمتنا صموت عن ذكرهم لهاة عن بثهم ما إن سمع عندنا بمسجد من

مساجدنا او محفل من محافلنا مذكر لهم او داع فضلا عن نافر إليهم أو ماش لهم حتى كأنهم ليسوا منا او كأن بثقهم ليس بمفض إلينا وقد بخلنا عليهم بالدعاء بخلنا عليهم بالغناء عجائب فاتت التقدير وعرضت للتغيير ولله عاقبة الأمور وإليه المصير
ولقد صدق رحمه الله تعالى فإن البثق سرى إليهم جميعا كما ستراه ولا حول ولا قوة إلا بالله
وقال قبله إن بربشتر هذه تناسختها قرون المسلمين منذ ثلاثمائة وثلاث وستين سنة من عهد الفتوح الإسلامية بجزيرة الأندلس فرسخ فيها الإيمان وتدورس القرآن إلى أن طرق الناعي بها قرطبتنا صدر رمضان من العام فصك الأسماع وأطار الأفئدة وزلزل أرض الأندلس قاطبة وصير لكل شغلا يشغل الناس في التحدث به والتساؤل عنه والتصور لحلول مثله أياما لم يفارقوا فيها عادتهم من استبعاد الوجل والاغترار بالأمل والاستناد إلى امرأة الفرقة الهمل الذين هم منهم مابين فشل ووكل يصدونهم عن سواء السبيل ويلبسون عليهم وضوح الدليل ولم تزل آفة الناس منذ خلقوا في صنفين هم كالملح فيهم الأمراء والفقهاء بصلاحهم يصلحون وبفسادهم يفسدون فقد خص الله تعالى هذا القرن الذي نحن فيه من اعوجاج صنفيهم لدينا بما لا كفاية له ولا مخلص منه فالأمراء القاسطون قد نكبوا عن نهج الطريق ذيادا عن الجماعة وجريا إلى الفرقة والفقهاء أئمتهم صموت عنهم صدوف عما أكده الله تعالى عليهم من التبيين لهم قد أصبحوا ما بين آكل من حلوائهم وخابط في اهوائهم وبين مستشعر مخافتهم آخذ في التقية في صدقهم واولئك هم الأقلون فيهم فما القول في أرض فسد ملحها الذي هو المصلح لجميع أغذيتها وماهي إلا مشفية من بوارها ولقد طما العجب من أفعال هؤلاء الأمراء لم يكن عندهم لهذه الحادثة إلا الفزع لحفر الخنادق وتعلية الأسوار وشد الأركان وتوثيق البنيان كاشفين لعدوهم عن السوأة

السوأى من إلقائهم يومئذ بأيديهم إليه امور قبيحات الصور مؤذنات الصدور بأعجاز الغير
( أمور لو تدبرها حكيم ... إذا لنهى وهيب ما استطاعا )
استرجاع بربشتر
ثم قال ابن حيان فلما كان عقب جمادى الأولى سنة 457 شاع الخبر بقرطبة برجوع المسلمين إليها وذلك أن أحمد المقتدر بن هود المفرط فيها والمتهم على أهلها لانحرافهم إلى أخيه صمد لها مع إمداد لحليفه عباد وسعى لإصمات سوء المقالة عنه وقد كتب الله تعالى عليه منها ما لا يمحوه إلا عفوه فتأهب لقصد بربشتر في جموع من المسلمين فجالدوا الكفار بها جلادا ارتاب منه كل جبان وأعز الله سبحانه أهل الحفيظة والشجعان وحمي الوطيس بينهم إلى أن نصر الله تعالى اولياءه وخذل أعداءه وولوا الأدبار مقتحمين أبواب المدينة فاقتحمها المسلمون عليهم وملكوهم أجمعين إلا من فر من مكان الوقعة ولم يدخل المدينة فأجيل السيف في الكافرين واستؤصلوا أجمعين إلا من استرق من أصاغرهم وفدي من أعاظمهم وسبوا جميع من كان فيها من عيالهم وأبنائهم وملكوا المدينة بقدرة الخالق البارىء وأصيب على منحة النصر المتاح طائفة من حماة المسلمين الجادين في نصر الدين نحو الخمسين كتب الله تعالى شهادتهم وقتل فيه من أعداء الله الكافرين نحو ألف فارس وخمسة آلاف راجل فغسلها المسلمون من رجس الشرك وجلوها من صدا الإفك انتهى
وليت طليطلة البائسة استرجعت كهذه ومع هذا فقد غلب العدو بعد على الكل والله سبحانه المرجو في الإدالة

تطيلة وطرسونة
وقال ابن اليسع أخذ العدو مدينة تطيلة وأختها طرسونة سنة أربع وعشرين وخمسمائة
بلنسية والقنبيطور
ولما صار أمر بلنسية إلى الفقيه القاضي أبي أحمد ابن جحاف قاضيها صيرها لأمير المسلمين يوسف بن تاشفين فحصره بها القادر بن ذي النون الذي مكن الأذفونش من طليطلة فهجم عليه القاضي في لمة من المرابطين وقتله ودفع ابن جحاف لما لم يعهد من تدبير السلطان ورجعت عنه طائفة الملثمين الذين كان يعتد بهم وجعل يستصرخ إلى أمير المسلمين فيبطىء عليه وفي أثناء ذلك أنهض يوسف بن أحمد بن هود صاحب سرقسطة ردريق الطاغية للاستيلاء على بلنسية فدخلها وعاهده القاضي ابن جحاف واشترط عليه إحضار ذخيرة كانت للقادر بن ذي النون فأقسم انها ليست عنده فاشترط عليه أنه إن وجدها عنده قتله فاتفق أنه وجدها عنده فأحرقه بالنار وعاث في بلنسية وفيها يقول ابن خفاجة حينئذ
( عاثت بساحتك الظبا يادار ... ومحا محاسنك البلى والنار )
( فان تردد في جنابك ناظر ... طال اعتبار فيك واستعبار )
( أرض تقاذفت الخطوب بأهلها ... وتمخضت بخرابها الأقدار )
( كتبت يد الحدثان في عرصاتها ... لا أنت أنت ولا الديار ديار )
وكان استيلاء القنبيطور لعنه الله تعالى عليها سنة ثمان وثمانين وأربعمائة وقيل في التي قبلها وبه جزم ابن الأبار قائلا فتم حصار القنبيطور إياها

عشرين شهرا وذكر أنه دخلها صلحا وقال غيره إنه دخلهاعنوة وأحرقها وعاث فيها وممن أحرق فيها الأديب أبو جعفر ابن البني الشاعر المشهور رحمه الله تعالى وعفا عنه فوجه أمير المؤمنين يوسف بن تاشفين الأمير أبا محمد مزدلي ففتحها الله تعالى على يديه سنه خمس وتسعين وأربعمائة وتوالى عليها أمراء الملثمين ثم صارت ليحيى بن غانية الملثم حين ولي جميع شرق الأندلس فقدم عليها أخاه عبدالله بن غانية ولما ثارت الفتنة في المائة السادسة أخرجه منها مروان بن عبدالعزيز إلى أن قام عليه جيش بلنسية سنة تسع وثلاثين وخمسمائة وبايعوا لابن عياض ملك شرق الأندلس ففر مروان إلى المرية ثم رجعت بلنسية إلى أبي عبدالله ابن مردنيش ملك شرق الأندلس بعد ابن عياض وقدم عليه أخاه أبا الحجاج يوسف بن سعد بن مردنيش إلى أن رجع أبو الحجاج إلى جهة بني عبدالمؤمن إلى أن ولي عليها السيد أبوزيد عبدالرحمن ابن السيد أبي عبدالله ابن أبي حفص ابن أمير المسلمين عبدالمؤمن بن علي فلما ثار العادل بمرسية تمنع واعتز وأظهر طاعة في باطنها معصية ودام على ذلك مع أبي العلاء المأمون وكان قائد الأعنة المشار إليه في الدفاع عن بلنسية الأمير زيان بن أبي الحملات ابن أبي الحجاج ابن مردنيش فأخرجه من بلنسية وملكها وفر السيد إلى النصارى
نهاية بلنسية
ولم يزل أمر بلنسية يضعف باستيلاء العدو على أعمالها إلى أن حصرها ملك برشلونة النصراني فاستغاث زيان بصاحب إفريقية أبي زكريا ابن أبي حفص

وأوفد عليه في هذه الرسالة كاتبه الشهير أبا عبدالله ابن الأبار القضاعي صاحب كتاب التكملة واعتاب الكتاب وغيرهما فقام بين يدي السلطان منشدا قصيدته السينية الفريدة التى فضحت من باراها وكبا دونها من جاراها وهي
( أدرك بخيلك خيل الله أندلسا ... إن السبيل إلى منجاتها درسا )
( وهب لها من عزيز النصر ما التمست ... فلم يزل منك عز النصر ملتمسا )
( وحاش مما تعانيه حشاشتها ... فطالما ذاقت البلوى صباح مسا )
( يا للجزيرة أضحى أهلها جزرا ... للحادثات وأمسى جدها تعسا )
( في كل شارقة إلمام بائقة ... يعود مأتمها عند العدا عرسا )
( وكل غاربة اجحاف نائبة ... تثني الأمان حذارا والسرور أسى )
( تقاسم الروم لا نالت مقاسمهم ... إلا عقائلها المحجوبة الأنسا )
( وفي بلنسية منها وقرطبة ... ما ينسف النفس أو ما ينزف النفسا )
( مدائن حلها الإشراك مبتسما ... جذلان وارتحل الإيمان مبتئسا )
( وصيرتها العوادي العائثات بها ... يستوحش الطرف منها ضعف ما أنسا )
( فمن دساكر كانت دونها حرسا ... ومن كنائس كانت قبلها كنسا )
( يا للمساجد عادت للعدا بيعا ... وللنداء غدا أثناءها جرسا )
( لهفي عليها إلى استرجاع فائتها ... مدارسا للمثاني أصبحت درسا )
( وأربعا نمنمت أيدي الربيع لها ... ما شئت من خلع موشية وكسا )
( كانت حدائق للأحداق مونقة ... فصوح النضر من أدواحها وعسا )
( وحال ما حولها من منظر عجب ... يستجلس الركب أو يستركب الجلسا )
( سرعان ما عاث جيش الكفر واحربا ... عيث الدبا في مغانيها التي كبسا )

( وابتز بزتها مما تحيفها ... تحيف الأسد الضاري لما افترسا )
( فأين عيش جنيناه بها خضرا ... وأين عصر جليناه بها سلسا )
( محا محاسنها طاغ أتيح لها ... مانام عن هضمها حينا ولا نعسا )
( ورج أرجاءها لما أحاط بها ... فغادر الشم من أعلامها خنسا )
( خلا له الجو فامتدت يداه إلى ... إدراك مالم تطأ رجلاه مختلسا )
( وأكثر الزعم بالتثليث منفردا ... ولو رأى راية التوحيد ما نبسا )
( صل حبلها أيها المولى الرحيم فما ... أبقى المراس لها حبلا ولا مرسا )
( وأحي ما طمست منها العداة كما ... أحييت من دعوة المهدي ما طمسا )
( أيام صرت لنصر الحق مستبقا ... وبت من نور ذاك الهدي مقتبسا )
( وقمت فيها بأمر الله منتصرا ... كالصارم اهتز أو كالعارض انبجسا )
( تمحو الذي كتب التجسيم من ظلم ... والصبح ماحية أنواره الغلسا )
( وتقتضي الملك الجبار مهجته ... يوم الوغى جهرة لا ترقب الخلسا )
( هذي رسائلها تدعوك من كثب ... وأنت أفضل مرجو لمن يئسا )
( وافتك جارية بالنجح راجية ... منك الأمير الرضى والسيد الندسا )
( خاضت خضارة يعليها ويخفضها ... عبابه فتعاني اللين والشرسا )
( وربما سبحت والريح عاتبة ... كما طلبت بأقصى شدة الفرسا )
( تؤم يحيى بن عبد الواحد بن أبي ... حفص مقبلة من تربه القدسا )
( ملك تقلدت الأملاك طاعته ... دينا ودنيا فغشاها الرضى لبسا )
( من كل غاد على يمناه مستلما ... وكل صاد إلى نعماه ملتمسا )
( مؤيد لو رمى نجما لأثبته ... ولو دعا أفقا لبى وما احتبسا )
( تا لله إن الذي ترجى السعود له ... ماجال في خلد يوما ولا هجسا )
( إمارة يحمل المقدار رايتها ... ودولة عزها يستصحب القعسا )

( يبدي النهار بها من ضوئه شنبا ... ويطلع الليل من ظلمائه لعسا )
( ماضى العزيمة والأيام قد نكلت ... طلق المحيا ووجه الدهر قد عبسا )
( كأنه البدر والعلياء هالته ... تحف من حوله شهب القنا حرسا )
( تدبيره وسع الدنيا وما وسعت ... وعرف معروفه واسى الورى وأسا )
( قامت على العدل والإحسان دولته ... وأنشرت من وجود الجود ما رمسا )
( مبارك هديه باد سكينته ... ماقام إلا إلى حسنى وما جلسا )
( قد نور الله بالتقوى بصيرته ... فما يبالي طروق الخطب ملتبسا )
( برى العصاة وراش الطائعين فقل ... في الليث مفترسا والغيث مرتجسا )
( ولم يغادر على سهل ولا جبل ... حيا لقاحا إذا وافيته بخسا )
( فرب أصيد لا تلفي به صيدا ... ورب أشوس لا تلقى له شوسا )
( إلى الملائك ينمى والملوك معا ... في نبعة أثمرت للمجد ما غرسا )
( من ساطع النور صاغ الله جوهره ... وصان صيقله أن يقرب الدنسا )
( له الثرى والثريا خطتان فلا ... أعز من خطتيه ما سما ورسا )
( حسب الذي باع في الأخطار يركبها ... إليه محياه أن البيع ما وكسا )
( إن السعيد امرؤ ألقى بحضرته ... عصاه محتزما بالعدل محترسا )
( فظل يوطن من أرجائها حرما ... وبات يوقد من أضوائها قبسا )
( بشرى لعبد إلى الباب الكريم حدا ... آماله ومن العذب المعين حسا )
( كأنما يمتطي واليمن يصحبه ... من البحار طريقا نحوه يبسا )
( فاستقبل السعد وضاحا أسرته ... من صفحة فاض منها النور وانعكسا )
( وقبل الجود طفاحا غواربه ... من راحة غاص فيها البحروانغمسا )
( يا أيها الملك المنصور أنت لها ... علياء توسع أعداء الهدى تعسا )
( وقد تواترت الأنباء أنك من ... يحيي بقتل ملوك الصفر أندلسا )

( طهر بلادك منهم إنهم نجس ... ولا طهارة مالم تغسل النجسا )
( واوطىء الفيلق الجرار أرضهم ... حتى يطأطىء رأسا كل من رأسا )
( وانصر عبيدا بأقصى شرقها شرقت ... عيونهم أدمعا تهمي زكا وخسا )
( هم شيعة الأمر وهي الدار قد نهكت ... داء متى لم تباشر حسمه انتكسا )
( فاملأ هنيئا لك التأييد ساحتها ... جردا سلاهب أو خطية دعسا )
( واضرب لها موعدا بالفتح ترقبه ... لعل يوم الأعادي قد أتي وعسى )
فبادر السلطان بإعانتهم وشحن الأساطيل بالمداد إليهم من المال والأقوات والكسى فوجدوهم في هوة الحصار إلى أن تغلب الطاغية على بلنسية ورجع ابن الأبار بأهله إلى تونس وكان تغلب العدو على بلنسية صلحا يوم الثلاثاء السابع عشر لصفر من سنة ست وثلاثين وستمائة فهزت هذه القصيدة من الملك عطف ارتياح وحركت من جنانه أخفض جناح ولشغفه بها وحسن موقعها منه أمر شعراء حضرته بمجاوبتها فجاوبها غير واحد وحال العدو بين بلنسية وبينه وتعاهد أهلها مع النصراني على أن يسلمهم في أنفسهم وذلك سنة سبع وثلاثين وستمائة أعادها الله تعالى للإسلام
كتندة - 514
وقد كانت وقعة كتندة على المسلمين قبل هذا التاريخ بمدة وكتندة ويقال قتندة بالقاف من حيز دورقة من عمل سرقسطة من الثغر الأعلى وكانت

الهزيمة على المسلمين جبرهم الله تعالى قتل فيها من المطوعة نحو من عشرين ألفا ولم يقتل فيها من العسكر أحد وكان على المسلمين الأمير إبراهيم بن يوسف ابن تاشفين الذي ألف الفتح باسمه قلائد العقيان وكانت سنة أربع عشرة وخمسمائة وممن حضرها الشيخ أبو علي الصدفي السابق الذكر وقرينه في الفضل أبو عبدالله ابن الفراء خرجا غازيين فكانا ممن فقد فيها
وقال غير واحد إن العسكر انصرف مفلولا إلى بلنسية وإن القاضي أبا بكر ابن العربي كان ممن حضرها وسئل مخلصه منه عن حاله فقال حال من ترك الخباء والعباء وهذا مثل عند المغاربة معروف يقال لمن ذهبت ثيابه وخيامه بمعنى انه ذهب جميع ما لديه
لوشة 622
ودخل العدو لوشة سنة اثنتين وعشرين وستمائة مع السيد أبي محمد البياسي في الفتنة التي كانت بينه وبين العادل فعاثوا فيها أشد العيث ثم ردها المسلمون إلى أن أخذت بعد ذلك كما يأتي
المرية - 542
ودخل العدو مدينة المرية يوم الجمعة السابع عشر من جمادي الأولى سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة عنوة وحكي أبو زكريا الجعيدي عن أبي عبدالله ابن سعادة الشاطبي المعمر أن أبا مروان ابن ورد اتاه في النوم شيخ عظيم الهيئة فرمى يديه في عضديه من خلفه وهزه هزا عنيفا حتى أرعبه وقال له قل

( ألا أيها المغرور ويحك لا تنم ... فالله في ذا الخلق أمر قد انبهم )
( فلا بد أن يرزوا بأمر يسوءهم ... فقد أحدثوا جرما على حاكم الأمم )
قال وكان هذا في سنة أربعين وخمسمائة فلم يمض إلا يسير حتى تغلب الروم على المرية في سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة بعد تلك الرؤيا بعامين أو نحوهما وهو مما حكاه ابن الأبار الحافظ في كتاب التكملة له
ترجمة الرشاطي
وفي وقعة المرية هذه استشهد الرشاطي الإمام المشهور وهو أبو محمد عبدالله بن علي بن عبدالله بن علي بن خلف بن أحمد بن عمر اللخمي الرشاطي المريي وكانت له عناية كبيرة بالحديث والرجال والرواة والتواريخ وهو صاحب كتاب اقتباس الأنوار والتماس الأزهار في أنساب الصحابة ورواة الآثار أخذه الناس عنه وأحسن فيه وجمع وما قصر وهو على أسلوب كتاب أبي سعد ابن السمعاني الحافظ المسمى بالأنساب وولد الرشاطي سنة 466 بقرية من أعمال مرسية يقال لها أوريواله بفتح الهمزة وسكون الواو وكسر الراء وضم المثناة التحتية وبعد الألف لام مفتوحة وبعدها هاء وتوفي شهيدا بالمرية عند تغلب العدو عليها صبيحة الجمعة العشرين من جمادى الأولى سنة 542 والرشاطي بضم الراء وفتح الشين المخففة وذكر هو أن أحد أجداده كان في جسمه شامة كبيرة وكانت حاضنته عجمية فإذا لاعبته قالت رشاطة وكثر ذلك منها فقيل له الرشاطي انتهى ملخصا من وفيات الأعيان وبعضه بالمعنى

استرداد المرية وضياعها نهائيا
وبعد أخذ النصارى المرية هذه المرة رجعت إلى ملك المسلمين واستنفذها الله تعالى على يد الموحدين وبقيت بأيدي أهل الإسلام سنين وكان أول الولاة عليها حين استولى عليها أمير المسلمين عبدالمؤمن بن علي رجلا يقال له يوسف ابن مخلوف فثار عليه أهل المرية وقتلوه وقدموا على أنفسهم الرميمي فأخذها النصارى منه عنوة كما ذكرنا وأحصي عدد من سبي من أبكارها فكان أربعة عشر ألفا
وقال ابن حبيش آخر الحفاظ بالأندلس كنت في قلعة المرية لما وقع الاستيلاء عليها أعادها الله تعالى للإسلام فتقدمت إلى زعيم الروم السليطين وهو ابن بنت الأذفونش وقلت له إني أحفظ نسبك منك إلى هرقل فقال لي قل فذكرته له فقال لي اخرج أنت وأهلك ومن معك طلقاء بلا شيء
وابن حبيش شيخ ابن دحية وابن حوط الله وأبي الربيع الكلاعي رحمهم الله تعالى
ولما أخذت المرية أقبل إليها السيدان أبو حفض وأبو سعيد ابنا أمير المؤمنين فحصرا النصارى بها وزحف إليهما أبو عبدالله ابن مردنيش ملك شرف الأندلس محاربا لهما فكانا يقاتلان النصارى والمسلمين داخلا وخارجا ثم رأى ابن مردنيش العار على نفسه في قتالهم مع كونهم يقاتلون النصارى فارتحل فقال النصارى مارحل ابن مردنيش إلا وقد جاءهم مدد فاصطلحوا ودخل الموحدون المدينة وقد خربت وضعفت إلى أن أحيا رمقها الرئيس أبو العباس أحمد بن كمال وذلك أن أخته أخذت سبية في دخلة عبدالمؤمن

لبجانة فاحتلت بقصره واعتنت بأخيها فولاه بلده فصلح به حالها وكان جوادا حسن المحاولة كثير الرفق واشتهر من ولاتها في مدة بني عبد المؤمن في المائة السابعة الأمير أبو عمران ابن أبي حفص عم ملك إفريقية أبي زكريا
ولما كانت سنة خمس وعشرين وستمائة وثارت الأندلس على مأمون بني عبد المؤمن بسبب قيام ابن هود بمرسية قام في المرية بدعوة ابن هود أبو عبد الله محمد بن عبدالله بن أبي يحيى ابن الرميمي وجده أبو يحيى هو الذي أخذها النصارى من يده ولما قام بدعوة ابن هود وفد عليه بمرسية وولاه وزارته وصرف إليه سياسته وآل أمره معه إلى أن أغراه بأن يحصن قلعة المرية ويجعلها له عدة وهو يبغي ذلك عدة لنفسه وترك ابن هود فيها جارية تعلق ابن الرميمي بها واجتمع معها فبلغ ذلك ابن هود فبادر الى المرية وهو مضمر الإيقاع بابن الرميمي فتغدى به قبل أن يتعشى به وأخرج من قصره ميتا ووجهه في تابوت إلى مرسية في البحر واستبد ابن الرميمي بملك المرية ثم ثار عليه ولده وآل الأمر بعد أحوال إلى أن تملكها ابن الأحمر صاحب غرناطة وبقيت في يد أولاده بعده إلى أن أخذها العدو الكافر عندما طوي بساط بلاد الأندلس كما سننبه عليه والله غالب على أمره
شعر في العقاب
وما أحسن قول أبي إسحاق ابراهيم بن الدباغ الإشبيلي في هزيمة العقاب بإشبيلية
( وقائلة أراك تطيل فكرا ... كأنك قد وقفت لدى الحساب )
( فقلت لها أفكر في عقاب ... غذا سببا لمعركة العقاب )
( فما في أرض أندلس مقام ... وقد دخل البلا من كل باب )

ابن وزير
وقول القائد أبي بكر ابن الأمير ملك شلب أبي محمد عبدالله بن وزير يخاطب منصور بني عبدالمؤمن وقد التقى هو وأصحابه مع جماعة من الفرنج فتناصفوا ثم كان الظفر للمسلمين
( ولما تلاقينا جرى الطعن بيننا ... فمنا ومنهم طائحون عديد )
( وجال غرار الهند فينا وفيهم ... فمنا ومنهم قائم وحصيد )
( فلا صدر إلا فيه صدر مثقف ... وحول الوريد للحسام ورود )
( صبرنا ولا كهف سوى البيض والقنا ... كلانا على حر الجلاد جليد )
( ولكن شددنا شدة فتبلدوا ... ومن يتبلد لا يزال يحيد )
( فولوا وللسمر الطوال بهامهم ... ركوع وللبيض والرقاق سجود )
وكان المذكور من فرسان الأندلس وكان ابنه الفاضل أبو محمد غير مقصر عنه فروسية وقدرا وأدبا وشعرا وولاه ناصر بني عبدالمؤمن مدينة قصر أبي دانس في الجهة الغربية وقتله ابن هود بإشبيلية وزعم انه يروم القيام عليه ومن شعره قوله في ابن عمرو صاحب أعمال إشبيلية
( لا تيأسن من الخلافة بعدما ... ولى ابن عمرو خطة الأشراف )
( تبا لدهر هذه أفعاله ... يضع النوافج في يدي كناف )
ضياع ماردة
رجع - ودخل العدو كورة ماردة من محمد بن هود سنة ست وعشرين

وستمائة وكانت مفتتح المصائب على يده اعادها الله تعالى للإسلام وهي قاعدة بلاد الجوف في مدة العرب والعجم والحضرة المستجدة بعدها هي مدينة بطليوس وبين ماردة وقرطبة خمسة أيام
المظفر ابن الأفطس وابنه المتوكل
وملك بطليوس وماردة وما إليها المظفر محمد بن المنصور بن الأفطس مشهور وهو من رجال القلائد والذخيرة وهو أديب ملوك عصره بلا مدافع ولا منازع وله التصنيف الرائق والتأليف الفائق المترجم ب التذكر المظفري خمسون مجلدا اشتمل على فنون وعلوم من مغاز وسير ومثل وخبر وجميع علوم الأدب وقال يوما والله ما يمنعني من إظهار الشعر إلا كوني لا أقول مثل قول أبي العشائر ابن حمدان
( أقرأت منه ما تخط يد الوغى ... والبيض تشكل والأسنة تنقط )
وقول ابي فراس ابن عمه
( وجررنا العوالي في مقام ... تحدث عنه ربات الحجال )
( كأن الخيل تعلم من عليها ... ففي بعض على بعض تعالي )
فأين هذا من قولي
( أنفت من المدام لأن عقلي ... أعز علي من أنس المدام )
( ولم أرتح إلى روض وزهر ... ولكن للحمائل والحسام )

( إذا لم املك الشهوات قهرا ... فلم أبغي الشفوف على الأنام )
وله رحمه الله تعالى
( يا لحظه زد فتورا ... تزد علي اقتدارا )
( فاللحظ كالسيف امضاه ... ما يرق غرارا )
وابنه المتوكل من رجال القلائد والمسهب وكان في حضرة بطليوس كالمعتمد بن عباد بإشبيلية قد اناخت الآمال بحضرتهما وشدت رحال الآداب إلى ساحتهما يتردد أهل الفضائل بينهما كتردد النواسم بين جنتين وينظر الأدب منهما عن مقلتين والمعتمد أشعر والمتوكل أكتب
شعر لأبي عبدالله الفازازي
رجع - وقال الفاضل الكاتب أبو عبدالله محمد الفازازي وقيل إنها وجدت برقعة في جيبه يوم موته
( الروم تضرب في البلاد وتغنم ... والجور يأخذ ما بقي والمغرم )
( والمال يورد كله قشتالة ... والجند تسقط والرعية تسلم )
( وذوو التعين ليس فيهم مسلم ... إلا معين في الفساد مسلم )
( أسفي على تلك البلاد وأهلها ... الله يلطف بالجميع ويرحم )
وقيل إن هذه الأبيات رفعت إلى سلطان بلده فلما وقف عليها قال بعدما بكى صدق رحمه الله تعالى ولو كان حيا ضربت عنقه

ترجمة أبي زيد الفازازي
وهذا الفازازي اخو الشاعر الشهير الكاتب الكبير أبي زيد عبدالرحمن الفازازي صاحب الأمداح في سيد الوجود وهو كما قال فيه بعضهم صاحب القلم الأعلى والقدح المعلى أبرع من ألف وصنف وأبدع من قرط وشنف فقد طاع القلم لبنانه والنظم والنثر لبيانه كان نسيج وحده رواية وأخبارا ووحيد نسجه روية وابتكارا وفريد وقته خبرا وإخبارا وصدر عصره إيرادا وإصدارا صاحب فهوم ورافع ألوية علوم اما الأدب فلا يسبق فيه مضماره ولا يشق غباره إن شاء إنشاء أنشى ووشى سائل الطبع عذب النبع له في مدح النبي قد خضع لها البيان وسلم أعجز بتلك المعجزات نظما ونثرا وأوجز في تحبير تلك الآيات البينات فجلا سحرا ورفع للقوافي راية استظهار تخير فيها الأظهر فعجم وعشر وشفع وأوتر وأما الأصول فهي من فروعه في متفرق منظومه ومنثور مجموعه وأما النسب فإلى حفظه انتسب واما الأيام والدول ففي تاريخه الأواخر والأول وقد سبك من هذه العلوم في منثوره وموزونه ما يشهد بإضافتها إلى فنونه وله سماع في الحديث ورواية وفهم بقوانينه ودراية سمع من أبي الوليد اليزيد بن عبدالرحمن بن بقي القاضي ومن أبي الحسن جابر بن احمد القرشي التاريخي وهو آخر من حدث عنه ومن أبي عبدالله التجيبي كثيرا وهو اول من سمع عنه في حياة الحافظ أبي الطاهر السلفي إذ قدم عليهم تلمسان وأجازه الحافظ السهيلي وابن خلف

الحافظ وغيرهما وولد بعد الخمسين والخمسمائة وتوفي بمراكش سنة 637 رحمه الله تعالى انتهى ملخصا
سقوط ميورقة عن ابن عميرة
رجع ولما ثارت الأندلس على طائفة عبدالمؤمن كان الوالي بجزيرة ميورقة ابو يحيى ابن أبي عمران التينمللي فأخذها الفرنج منه كذا قال ابن سعيد وقال ابن الأبار إنها أخذت يوم الاثنين الرابع عشر من صفر سنة سبع وعشرين وستمائة
وقال المخزومي في تاريخ ميورقة إن سبب أخذها من المسلمين ان أميرها في ذلك الوقت محمد بن علي بن موسى كان في الدولة الماضية أحد أعيانها ووليها سنة ست وستمائة واحتاج إلى الخشب المجلوب من يابسة فأنفذ طريدة بحرية وقطعة حربية فعلم بها والى طرطوشة فجهز إليها من أخذها فعظم ذلك على الوالي وحدث نفسه بالغزو لبلاد الروم وكان ذلك رأيا مشؤوما ووقع بينه وبين الروم وفي آخر ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين وستمائة بلغه ان مسطحا من برشلونة ظهر على يابسة ومركبا آخر من طرطوشة انضم إليه فبعث ولده في عدة قطع إليه حتى نزل مرسى يابسة ووجد فيه لأهل جنوة مركبا كبيرا فأخذه وسار حتى أشرف على المسطح فقاتله واخذه وظن أنه غالب الملوك وغاب عنه انه أشأم من عاقر الناقة وان الروم لما بلغهم الخبر

قالوا لملكهم وهو من ذرية أذفونش كيف يرضى الملك بهذا الأمر ونحن نقاتل بنفوسنا واموالنا فأخذ عليهم العهد بذلك وجمع عشرين ألفا من اهل البلاد وجهز في البحر ستة عشر ألفا وشرط عليهم حمل السلاح وفي سنة ست وعشرين وستمائة اشتهر امر هذه الغزوة فاستعد لها الوالي وميز نيفا على ألف فارس من فرسان الحضر والرعية مثلهم ومن الرجالة ثمانية عشر ألفا وذلك في شهر ربيع الأول من السنة ومن سوء الاتفاق ان الوالي أمر صاحب شرطته أن يأتيه بأربعة من كبراء المصر فساقهم وضرب أعناقهم وكان فيهم ابن خاله وخالهما أبو حفص ابن سيري ذو المكانة الوجيهة فاجتمعت الرعية إلى ابن سيرى فأخبروه بما نزل وعزوه فيمن قتل وقالوا هذا أمر لا يطاق ونحن كل يوم إلى الموت نساق وعاهدوه على طلب الثأر وأصبح الوالي يوم الجمعة منتصف شوال والناس من خوفه في أهوال ومن أمر العدو في إهمال فأمر صاحب شرطته بإحضار خمسين من أهل الوجاهة والنعمة فأحضرهم وإذا بفارس على هيئة النذير دخل إلى الوالي وأخبره بأن الروم قد أقبلت وأنه عد فوق الأربعين من القلوع وما فرغ من إعلامه حتى ورد آخر من جانب آخر وقال إن اسطول العدو قد تظاهر وقال إنه عد سبعين شراعا فصح الأمر عنده فسمح لهم بالصفح والعفو وعرفهم بخبر العدو وأمرهم بالتجهز فخرجوا إلى دورهم كأنما نشروا من قبورهم ثم ورد الخبر بأن العدو قرب من البلد فإنهم عدوا مائة وخمسين قلعا ولما عبر وقصد المرسى أخرج الوالي جماعة تمنعهم النزول فباتوا على المرسى في الرجل والخيل وفي الثامن عشر من شوال وهو يوم الاثنين وقع المصاف وانهزم المسلمون وارتحل النصارى إلى المدينة ونزلوا منها على الحريبة الحزينة من جهة باب الكحل ولم يزل الأمر في شدة وقد أشرفوا على أخذ البلد ولما رأى ابن سيري ان العدو قد استولى على البلد خرج

إلى البادية ولما كان يوم الجمعة الحادي عشر من صفر قاتلوا البلد قتالا شديدا ولما كان يوم الأحد أخذ البلد واخذ منه أربعة وعشرون ألفا قتلوا على دم واحد وأخذ الوالي وعذب وعاش بعد ذلك خمسة وأربعين يوما ومات تحت العذاب واما ابن سيري فإنه صعد إلى الجبل وهو منيع لا ينال من تحصن فيه وجمع عنده ستة عشر ألف مقاتل ومازال يقاتل إلى أن قتل يوم الجمعة عاشر ربيع الآخر سنة ثمان وعشرين وستمائة وجده من آل جبلة بن الأيهم الغساني واما الحصون فأخذت في آخر رجب سنة ثمان وعشرين وستمائة وفي شهر شعبان لحق من نجا من المسلمين إلى بلاد الإسلام انتهى ما ذكره ابن عميرة المخزومي ملخصا
وكان بميورقة جماعة أعلام وشعراء ومن شعر ابن عبد الولي الميورقي
( هل أمان من لحظك الفتان ... وقوام يميل كالخيزران )
( مهجتي منك في جحيم ولكن ... جفوني قد متعت في جنان )
( فتنتني لواحظ ساحرات ... لست أخشى من فتنة الشيطان )
سعيد بن حكم في منورقة
ولما استولى النصارى على ميورقة في التاريخ المتقدم ثار بجزيرة منورقة وهي قريبة منها الجواد العادل العالم أبو عثمان سعيد بن حكم القرشي وكان وليها من قبل الوالي أبي يحيى المقتول وتصالح مع النصارى على ضريبة معلومة واشترط أن لا يدخل جزيرته أحد من النصارى وضبطها أحسن ضبط قال أبو الحسن على بن سعيد أخبرني أحد من اجتمع به أنه لقي منه برا حبب اليه الإقامة في تلك الجزيرة المنقطعة وذكر أنه ركب معه فنظر إلى حمالة سيف

ضيقة وقد أثرت في عنقه فأمر له بإحسان وغنباز وكتب معه
( حمالة السيف توهي جيد حاملها ... لا سيما يوم إسراع وإنجاز )
( وخير ما استعمل الإنسان يومئذ ... لحسم علتها إلباس غنباز )
والغنباز عند أهل المغرب صنف من الملبوس غليظ يستر العنق
وأصل أبي عثمان من مدينة طبيرة من غرب الأندلس وقد ألفت باسمه التآليف المشهورة بالمغرب ككتاب روح الشحر وروح الشعر وغيره وأخذ العدو منورقة بعد مدة
سقوط عدة مدن
واخذ العدو جزيرة شقر صلحا سنة تسع وثلاثين وستمائة في آخرها
وأخذ العدو دمره الله تعالى مدينة سرقسطة يوم الأربعاء لأربع خلون من رمضان سنة اثنتي عشرة وخمسمائة
وكان إستيلاء الإفرنج على شرق الأندلس شاطبة وغيرها واجلاؤهم من يشاركهم من المسلمين فيما تغلبوا عليه منها في شهر رمضان سنة خمس وأربعين وستمائة
وكان استيلاء العدو دمره الله تعالى على مدينة قرطبة يوم الأحد الثالث والعشرين لشوال من سنة ست وثلاثين وستمائة
وكان تملك العدو مرسية صلحا ظهر يوم الخميس العاشر من شوال قدم أحمد بن محمد بن هود ولد والي مرسية بجماعة من وجوه النصارى فملكهم إياها صلحا ولا حول ولا قوة إلا بالله
وحصر العدو إشبيلية سنة خمس وأربعين وستمائة وفي يوم الاثنين الخامس من شعبان للسنة بعدها ملكها الطاغية صاحب قشتالة صلحا بعد منازلتها حولا كاملا وخمسة أشهر أو نحوها وقال ابن الأبار في ترجمة أبي علي الشلوبين من التكملة

ماصورته وتوفي بين يدي منازلة الروم إشبيلية ليلة الخميس منتصف صفر سنة خمس وأربعين وستمائة وفي العام القابل ملكها الروم
موقعة أنيشة - 634 وترجمة أبي الربيع ابن سالم
وكانت وقعة أنيجة التى قتل بها الحافظ أبو الربيع الكلاعي رحمه الله تعالى يوم الخميس لعشر بقين من ذي الحجة سنة أربع وثلاثين وستمائة ولم يزل رحمه الله تعالى متقدما أمام الصفوف زحفا إلى الكفار مقبلا على العدو ينادي بالمنهزمين أعن الجنة تفرون حتى قتل صابرا محتسبا برد الله تعالى مضجعه وكان دائما يقول إن منتهى عمره سبعون سنة لرؤيا رآها في صغره فكان كذلك ورثاه تلميذه الحافظ أبو عبدالله ابن الأبار بقصيدته الميمية الشهيرة التى اولها
( ألما بأشلاء العلا والمكارم ... تقد بأطراف القنا والصوارم )
( وعوجا عليها مأربا وحفاوة ... مصارع خصت بالطلى والجماجم ) نحيي وجوها في الجنان وجيهة ... بما لقيت حمرا وجوه الملاحم )
( وأجساد إيمان كساها نجيعها ... مجاسد من نسج الظبى واللهاذم )
وهي طويلة
ومن شعر الحافظ أبي الربيع المذكور

( تولت ليال للغواية جون ... ووافى صباح للرشاد مبين )
( ركاب شباب أزمعت عنك رحلة ... وجيش مشيب جهزته منون )
( ولا أكذب الرحمن فيما أجنه ... وكيف ولا يخفى عليه جنين )
( ومن لم يخل أن الرياء يشينه ... فمن مذهبي أن الرياء يشين )
( لقد ريع قلبي للشباب وفقده ... كما ريع بالعلق الفقيد ضنين )
( وآلمني وخط المشيب بلمتي ... فخطت بقلبي للشجون فنون )
( وليل شبابي كان أنضر منظرا ... وآنق مهما لا حظته عيون )
( فآها على عيش تكدر صفوه ... وأنس خلا منه صفا وحجون )
( ويا ويح فودي او فؤادي كلما ... تزيد شيبي كيف بعد يكون )
( حرام على قلبي سكون بغرة ... وكيف مع الشيب الممض سكون )
( وقالوا شباب المرء شعبة جنة ... فما لي عراني للمشيب جنون )
( وقالوا شجاك الشيب حدثان ما اتي ... ولم يعلموا أن الحديث شجون )
وقوله
( أمولي الموالي ليس غيرك لي مولى ... وما أحد يارب منك بذا أولى )
( تبارك وجه وجهت نحوه المنى ... فأوزعها شكرا وأوسعها طولا )
( وما هو إلا وجهك الدائم الذي ... أقل حلى عليائه يخرس القولا )
( تبرأت من حولي إليك وقوتي ... فكن قوتي في مطلبي وكن الحولا )
( وهب لي الرضى ما لي سوى ذاك مبتغى ... ولو لقيت نفسي على نيله الهولا )
وكان رحمه الله تعالى حافظا للحديث مبرزا في نقده تام المعرفة

بطرقه ضابطا لأحكام أسانيده ذاكرا لرجاله ريان من الأدب خطب ببلنسية واستقضى وكان مع ذلك من أولي الحزم والبسالة والإقدام والجزالة حضر الغزوات وباشر القتال بنفسه وأبلى بلاء حسنا وروى عن أبي القاسم ابن حبيش وطبقته وصنف كتبا منها مصباح الظلم في الحديث والأربعون عن أربعين شيخا لأربعين من الصحابة والأربعون السباعية والسباعيات من حديث الصدفي وحلية الأمالي في الموافقات والعوالي وتحفة الوراد ونجعة الرواد والمسلسلات والإنشادات وكتاب الاكتفاء في مغازي رسول الله الثلاثة الخلفاء وميدان السابقين وحلبة الصادقين المصدقين في غرض كتاب الاستيعاب ولم يكمله والمعجم فيمن وافقت كنيته كنية زوجه من الصحابة والإعلام بأخبار البخاري الإمام والمعجم في مشيخة أبي القاسم ابن حبيش وبرنامج رواياته وجني الرطب في سني الخطب ونكتة الأمثال ونفثة السحر الحلال وجهد النصيح في معارضة المعري في خطبة الفصيح والامتثال لمثال المبهج في ابتداع الحكم واختراع الأمثال ومفاوضة القلب العليل ومنابذة الأمل الطويل بطريقة المعري في ملقي السبيل ومجاز فتيا اللحن للاحن الممتحن مائة مسألة ملغزة ونتيجة الحب الصميم وزكاة المنثور والمنظوم في مثال النعل النبوية على لابسها أفضل قال ابن رشيد لو قال وزكاة النثير والنظيم لكان أحسن وله كتاب الصحف المنشرة في القطع المعشرة وديوان رسائله سفر وديوان شعره سفر وكتب إلى الأديب الشهير أبي بحر صفوان بن إدريس المرسي عقب انفصاله من

بلنسية سنة 587
( أحن الى نجد ومن حل في نجد ... وماذا الذي يغني حنيني أو يجدي )
( وقد أوطنوها وادعين وخلفوا ... محبهم رهن الصبابة والوجد )
( تبين بالبين اشتياقي إليهم ... ووجدي فساوى ما أجن الذي أبدي )
( وضاقت علي الأرض حتى كأنها ... وشاح بخصر أو سوار على زند )
( إلى الله أشكو ما ألاقي من الجوى ... وبعض الذي لاقيته من جوى يردي )
( فراق أخلاء وصد أحبة ... كأن صروف الدهر كانت على وعد )
( فيا سرحتي نجد نداء متيم ... له أبدا شوق إلى سرحتي نجد )
( ظمئت فهل طل يبرد لوعتي ... ضحيت فهل ظل يسكن من وجدي )
( ويا زمنا قد بان غير مذمم ... لعل الأنس قد تصرم من رد )
( ليالي نجني الأنس من شجر المنى ... ونقطف زهر الوصل من شجر الصد )
( وسقيا لاخوان بأكناف حاجر ... كرام السجايا لا يحولون عنه عهد )
( وكم لي بنجد من سري ممجد ... ولا كابن إدريس أخي البشر والمجد )
( اخو همة كالزهر في بعد نيلها ... وذو خلق كالزهر غب الحيا العد )
( تجمعت الأضداد فيه حميدة ... فمن خلق سبط ومن حسب جعد )
( أيا راحلا أودى بصبري رحيله ... وفلل من عزمي وثلم من حدي )
( أتعلم ما يلقى الفؤاد لبعدكم ... ألا مذ نأيتم ما يعيد ولا يبدي )
( فيا ليت شعري هل تعود لنا المنى ... وعيش كما نمنمت حاشيتي برد )
( عسى الله أن يدني السرور بقربكم ... فيبدو ومنا الشمل منتظم العقد )
ابن العربي ومعركة 527
وقال الحافظ القاضي أبو بكر ابن العربي في أحكام القرآن عند تفسير

قوله تعالى ( انفروا خفافا وثقالا ) التوبة 41 ما صورته ولقد نزل بنا العدو قصمه الله تعالى سنة سبع وعشرين وخمسمائة فجاس ديارنا وأسر جيرتنا وتوسط بلادنا في عدد حدد الناس عدده فكان كثيرا وإن لم يبلغ ما حددوه فقلت للوالي والمولى عليه هذا عدو الله قد حصل في الشرك والشبكة فلتكن عندكم بركة ولتكن منكم إلى نصرة الدين المتعينة عليكم حركة فليخرج إليه جميع الناس حتى لا يبقى منهم أحد في جميع الأقطار فيحاط به فإنه هالك لا محالة إن يسركم الله له فغلبت الذنوب ورجفت بالمعاصي القلوب وصار كل أحد من الناس ثعلبا يأوي إلى وجاره وإن رأى المكيدة بجاره فإنا لله وإنا إليه راجعون وحسبنا الله ونعم الوكيل انتهى
ولا خفاء أن هذا كان قبل أخذ العدو شرق الأندلس وسرقسطة وميورقة وغيرها مما قدمنا ذكره والبدايات عنوان على النهايات
قصيدة الوقشي في مدح أبي يعقوب
وقال أبو جعفر الوقشي البلنسي نزيل مالقة يمدح أمير المؤمنين يوسف ابن أمير المؤمنين عبدالمؤمن بن علي
( أبت غير ماء بالنخيل ورودا ... وهامت به عذب الجمام برودا )
( وقالت لحاديها أثم زيادة ... على العشر في وردي له فأزيدا )
( غلبتك ما هذا القنوع وما انا ... عهدتك لا تثنين عنه وريدا )
( أنونا إذا ما كنت منه قريبة ... وضبا إذا ماكان عنك بعيدا )
( ردي حضرة الملك الظليل رواقه ... لعمري ففيها تحمدين ورودا )
( بحيث إمام الدين يوسع فضله ... جميع البرايا مبدئا ومعيدا )

( أعاد إليها الأنس بعد شروده ... وأحيا لنا ماكان منه أبيدا )
( ولين أيام الزمان بعدله ... وكانت حديدا في الخطوب حديدا )
( فلا ليلة إلا يروقك حسنها ... ولا يوم إلا عاد يفضل عيدا )
ومنها يصف حال الأندلس ويبعث على الجهاد
( ألا ليت شعري هل يمد لي المدى ... فأبصر شمل المشركين طريدا )
( وهل بعد يقضى في النصارى بنصرة ... تغادرهم للمرهفات حصيدا )
( ويغزو أبو يعقوب في شنت ياقب ... يعيد عميد الكافرين عميدا )
( ويلقي على إفرنجهم عبء كلكل ... فيتركهم فوق الصعيد هجودا )
( يغادرهم جرحى وقتلى مبرحا ... ركوعا على وجه الفلا وسجودا )
( ويفتك من أيدي الطغاة نواعما ... تبدلن من نظم الحجول قيودا )
( وأقبلن في خشن المسوح وطالما ... سحبن من الوشي الرقيق برودا )
( وغبر منهن التراب ترائبا ... وخدد منهن الهجير خدودا )
( فحق لدمعي أن يفيض لأزرق ... تملكها دعج المدامع سودا )
( ويا لهف نفسي من معاصم طفلة ... تجاوز بالقد الأليم نهودا )
( ويا أسفا ما إن يزال مرددا ... على شمل أعياد أعيد بديدا )
( وآها تمد الصوت منتحبا على ... خلو ديار لو يكون مفيدا )
وقال في آخرها وهو مما استحسنه الناس
( حملت إليه من نظامي قلادة ... يلقبها أهل الكلام قصيدا )
( غدت يوم إنشاد القريض وحيدة ... كما قصدت في المعلوات وحيدا )
ولما تمهدت الأندلس لعبدالمؤمن وبنيه كان لهم فيها وقائع مع عدو الدين واجتاز إليها عبدالؤمن ثم لما ولي بعده ملكه ابنه يوسف دخل الأندلس سنة 566 وفي صحبته مائة ألف فارس من العرب والموحدين فنزل بإشبيلية

فخافه الأمير أبو عبدالله محمد بن سعد بن مردنيش صاحب شرق الأندلس مرسية وأعمالها وما انضاف إليها فحمل على قلبه فمرض فمات وشرع السلطان يوسف في استرجاع بلاد المسلمين من أيدي الفرنج فاتسعت مملكته بالأندلس وأغارت سراياه على طليطلة إذ هي قاعدة ملكهم ثم إنه حاصرها فاجتمعت طائفة الفرنج عليه واشتد الغلاء في عسكره فرحل عنها وعاد إلى حضرة ملكه مراكش المحروسة
قصيدة في استنهاض الحفصي بعد سقوط بلنسية
ولم يزل أهل الأندلس بعد ظهور النصارى دمرهم الله تعالى على كثير منها يستنهضون عزائم الملوك والسوقة لأخذ الثار بالنظم والنثار فلم ينفعهم ذلك حتى اتسع الخرق وأعضل الداء أهل الغرب والشرق فمن القصائد الموجهة في ذلك قول بعضهم لما أخذت بلنسية يخاطب صاحب إفريقية أبا زكريا ابن عبدالواحد بن أبي حفص
( نادتك أندلس فلب نداءها ... واجعل طواغيت الصليب فداءها )
( صرخت بدعوتك العلية فاحبها ... من عاطفاتك ما يقي حوباءها )
( واشدد بجلبك جرد خيلك أزرها ... تردد على أعقابها أرزاءها )
( هي دارك القصوى أوت لإيالة ... ضمنت لها مع نصرها إيواءها )
( وبها عبيدك لا بقاء لهم سوى ... سبل الضراعة يسلكون سواءها )
( خلعت قلوبهم هناك عزاءها ... لما رأت أبصارهم ما ساءها )
( دفعوا الأبكار الخطوب وعونها ... فهم الغداة يصابرون عناءها )
( وتنكرت لهم الليالي فاقتضت ... سراءها وقضتهم ضراءها )
( تلك الجزيرة لا بقاء لها إذا ... لم يضمن الفتح القريب بقاءها )
( رش أيها المولى الرحيم جناحها ... واعقد بأرشية النجاة رشاءها )

( أشفى على طرف الحياة ذماؤها ... فاستبق للدين الحنيف ذماءها )
( حاشاك أن تفنى حشاشتها وقد ... قصرت عليك نداءها ورجاءها )
( طافت بطائفة الهدى آمالها ... ترجو بيحيى المرتضى إحياءها )
( واستشرفت أمصارها لإمارة ... عقدت لنصر المستضام لواءها )
( ياحسرتي لعقائل معقولة ... سئم الهدى نحو الضلال هداءها )
( إيه بلنسية وفي ذكراك ما ... يمري الشؤون دماءها لا ماءها )
( كيف السبيل الى احتلال معاهد ... شب الأعاجم دونها هيجاءها )
( وإلى ربى وأباطح لم تعر من ... حلل الربيع مصيفها وشتاءها )
( طاب المعرس والمقيل خلالها ... وتطلعت غرر المنى أثناءها )
( بأبي مدارس كالطول دوارس ... نسخت نواقيس الصليب نداءها )
( ومصانع كسف الضلال صباحها ... فيخاله الرائي إليه مساءها )
( راحت بها الورقاء تسمع شدوها ... وغدت ترجع نوحها وبكاءها )
( عجبا لأهل النار حلوا جنة ... منها تمد عليهم أفياءها )
( أملت لهم فتعجلوا ما املوا ... أيامهم لا سوغوا إملاءها )
( بعدا لنفس أبصرت إسلامها ... فتوكفت عن حزبها إسلاءها )
( أما العلوج فقد أحالوا حالها ... فمن المطيق علاجها وشفاءها )
( أهدى إليها بالمكاره جارح ... للكفر كره ماءها وهواءها )
( وكفى أسى أن الفواجع جمة ... فمتى يقاوم أسوها أسواءها )
( هيهات في نظر الإمارة كف ما ... تخشاه ليت الشكر كان كفاءها )
( مولاي هاك معادة أنباءها ... لتنيل منك سعادة أبناءها )
( جرد ظباك لمحو آثار العدا ... تقتل ضراغمها وتسب ظباءها )
( واستدع طائفة الإمام لغزوها ... تسبق إلى أمثالها استدعاءها )
( لا غرو أن يعزى الظهور لملة ... لم يبرحوا دون الورى ظهراءها )
( إن الأعاجم للأعارب نهبة ... مهما أمرت بغزوها أحياءها )

( تالله لو دبت لها دبابها ... لطوت عليها أرضها وسماءها )
( ولو استقلت عوفها لقتالها ... لاستقبلت بالمقربات عفاءها )
( أرسل جوارحها تجئك بصيدها ... صيدا وناد لطحنها أرحاءها )
( هبوا لها يامعشر التوحيد قد ... آن الهبوب وأحرزوا علياءها )
( إن الحفائظ من خلالكم التى ... لا يرهب الداعي بهن خلاءها )
( هي نكتة المحيا فحيهلا بها ... تجدوا سناها في غد وسناءها )
( أولوا الجزيرة نصرة إن العدا ... تبغى على أقطارها استيلاءها )
( نقصت بأهل الشرك من أطرفها ... فاستحفظوا بالمؤمنين نماءها )
( حاشاكم أن تضمروا إلغاءها ... في أزمة أو تضمروا إقصاءها )
( خوضوا إليها بحرها يصبح لكم ... رهوا وجوبوا نحوها بيداءها )
( وافى الصريخ مثوبا يدعو لها ... فلتجملوا قصد الثواب ثواءها )
( دار الجهاد فلا تفتكم ساحة ... ساوت بها أحياؤها شهداءها )
( هذي رسائلها تناجي بالتي ... وقفت عليها ريثها ونجاءها )
( ولربما أنهت سوالب للنهى ... من كائنات حملت أنهاءها )
( وفدت على الدار العزيزة تجتني ... آلاءها أو تجتلي آراءها )
( مستسقيات من غيوث غياثها ... ما وقعه يتقدم استسقاءها )
( قد أمنت في سبلها أهواءها ... إذ سوغت في ظلها أهواءها )
( وبحسبها أن الأمير المرتضى ... مترقب بفتوحها آناءها )
( في الله ما ينويه من إدراكها ... بكلاءة يفدي أبي أكلاءها )
( بشرى لأندلس تحب لقاءه ... ويحب في ذات الإله لقاءها )
( صدق الرواة المخبرون بأنه ... يشفي ضناها أو يعيد رواءها )
( إن دوخ العرب الصعاب مقادة ... وأبى عليها أن تطيع إباءها )
( فكأن بفيلقه العرمرم فالقا ... هام الأعاجم ناسفا أرجاءها )
( أنذرهم بالبطشة الكبرى فقد ... نذرت صوارمه الرقاق دماءها )

( لايعدم الزمن انتصار مؤيد ... تتسوغ الدنيا به سراءها )
( ملك أمد النيرين بنوره ... وأفاده لألاؤه لألاءها )
( خضعت جبابرة الملوك لعزه ... ونضت بكف صغارها خيلاءها )
( أبقى أبو حفص إمارته له ... فسما إليها حاملا أعباءها )
( سل دعوة المهدي عن آثاره ... تنبيك أن ظباه قمن إزاءها )
( فغزا عداها واسترق رقابها ... وحمى حماها واسترد بهاءها )
( قبضت يداه على البسيطة قبضة ... قادت له في قدة أمراءها )
( فعلى المشارق والمغارب ميسم ... لهداه شرف وسمه أسماءها )
( تطمو بتونسها بحار جيوشه ... فيزور زاخر موجها زوراءها )
( وسع الزمان فضاق عنه جلالة ... والأرض طرا ضنكها وفضاءها )
( ما أزمع الإيغال في أكنافها ... إلا تصيد عزمه زعماءها )
( دانت له الدنيا وشم ملوكها ... فاحتل من رتب العلا شماءها )
( ردت سعادته على أدراجها ... ليل الزمان ونهنهت غلواءها )
( إن يعتم الدول العزيزة بأسه ... فالآن يولي جوده إعطاءها )
( تقع الجلائل وهو راس راسخ ... فيها يوقع للسعود جلاءها )
( كالطود في عصف الرياح وقصفها ... لا رهوها يخشى ولا هوجاءها )
( سامي الذوائب في أعز ذؤابة ... أعلت على قمم النجوم بناءها )
( بركت بكل محلة بركاته ... شفعا يبادر بذلها شفعاءها )
( كالغيث صب على البسيطة صوبه ... فسقى عمائرها وجاد قواءها )
( ينميه عبدالواحد الأرضى إلى ... عليا فتمنح بأسها وسخاءها )
( في نبعة كرمت وطابت مغرسا ... وسمت وطالت نضرة نظراءها )
( ظهرت لمحتدها السماء وجاوزت ... لسرادقات فخارها جوزاءها )
( فئة كرام لا تكف عن الوغى ... حتى تصرع حولها أكفاءها ) وتكب في نار القري فوق الذرا ... من عزة ألويها وكباءها )

( قد خلقوا الأيام طيب خلائق ... فثنت إليهم حمدها وثناءها )
( ينضون في طلب النفائس انفسا ... حبسوا على احرازها إمضاءها )
( وإذا انتضوا يوم الكريهة بيضهم ... أبصرت فيهم قطعها ومضاءها )
( لاعذر عند المكرمات لهم متى ... لم تستبن لعفاتهم عذراءها )
( قوم الأمير فمن يقوم بما لهم ... من صالحات أفحمت شعراءها )
( صفحا جميلا أيها الملك الرضى ... عن محكمات لم نطق إحصاءها )
( تقف القوافي دونهن حسيرة ... لا عيها تخفي ولا إعياءها )
( فلعل علياكم تسامح راجيا ... إصغاءها ومؤملا إغضاءها )
في رثاء طليطلة
ومن ذلك قول بعضهم يندب طليطلة أعادها الله تعالى للإسلام
( لثكلك كيف تبتسم الثغور ... سرورا بعدما سبيت ثغور )
( أما وأبي مصاب هد منه ... ثبير الدين فاتصل الثبور )
( لقد قصمت ظهور حين قالوا ... أمير الكافرين له ظهور )
( ترى في لدهر مسرورا بعيش ... مضى عنا لطيته السرور )
( أليس بها أبي النفس شهم ... يدير على الدوائر إذ تدور )
( لقد خضعت رقاب كن غلبا ... وزال عتوها ومضى النفور )
( وهان على عزيز القوم ذل ... وسامح في الحريم فتى غيور )
( طليطلة أباح الكفر منها ... حماها إن ذا نبأ كبير )
( فليس مثالها إيوان كسرى ... ولا منها الخورنق والسدير )
( محصنة محسنة بعيد ... تناولها ومطلبها عسير )
( ألم تك معقلا للدين صعبا ... فذلله كما شاء القدير )
( وأخرج أهلها منها جميعا ... فصاروا حيث شاء بهم مصير )

( وكانت دار ايمان وعلم ... معالمها التى طمست تنير )
( فعادت دار كفر مصطفاة ... قد اضطربت بأهليها الأمور )
( مساجدها كنائس أي قلب ... على هذا يقر ولا يطير )
( فيا أسفاه يا أسفاه حزنا ... يكرر ما تكررت الدهور )
( وينشر كل حسن ليس يطوى ... إلى يوم يكون به النشور )
( أديلت قاصرات الطرف كانت ... مصونات مساكنها القصور )
( وأدركها فتور في انتظار ... لسرب في لواحظه فتور )
( وكان بنا وبالقينات أولى ... لو انضمت على الكل القبور )
( لقد سخنت بحالتهن عين ... وكيف يصح مغلوب قرير )
( لئن غبنا عن الاخوان إنا ... بأحزان وأشجان حضور )
( نذور كان للأيام فيهم ... بمهلكهم فقد وفت النذور )
( فإن قلنا العقوبة أدركتهم ... وجاءهم من الله النكير )
( فإنا مثلهم وأشد منهم ... نجور وكيف يسلم من يجور )
( أنأمن أن يحل بنا انتقام ... وفينا الفسق أجمع والفجور )
( وأكل للحرام ولا اضطرار ... إليه فيسهل الأمر العسير )
( ولكن جرأة في عقر دار ... كذلك يفعل الكلب العقور )
( يزول الستر عن قوم إذا ما ... على العصيان أرخيت الستور )
( يطول علي ليلي رب خطب ... يطول لهوله الليل القصير )
( خذوا ثأر الديانة وانصروها ... فقد حامت على القتلى النسور )
( ولا تهنوا وسلوا كل عضب ... تهاب مضاربا منه النحور )
( وموتوا كلكم فالموت أولى ... بكم من ان تجاروا أو تجوروا )
( أصبرا بعد سبي وامتحان ... يلام عليها القلب الصبور )

( فأم الثكل مذكار ولود ... وأم الصقر مقلات نزور )
( نخور إذا دهينا بالرزايا ... وليس بمعجب بقر يخور )
( ونجبن ليس نزأر لو شجعنا ... ولم نجبن لكان لنا زئير )
( لقد ساءت بنا الأخبار حتى ... أمات المخبرين بها الخبير )
( أتتنا الكتب فيها كل شر ... وبشرنا بأنحسنا البشير )
( وقيل تجمعوا لفراق شمل ... طليطلة تملكها الكفور )
( فقل في خطة فيها صغار ... يشيب لكربها الطفل الصغير )
( لقد صم السميع فلم يعول ... على نبإ كما عمي البصير )
( تجاذبنا الأعادي باصطناع ... فينجذب المخول والفقير )
( فباق في الديانة تحت خزي ... تثبطه الشويهة والبعير )
( وآخر مارق هانت عليه ... مصائب دينه فله السعير )
( كفى حزنا بأن الناس قالوا ... إلى أين التحول والمسير )
( أنترك دورنا ونفر عنها ... وليس لنا وراء البحر دور )
( ولا ثم الضياع تروق حسنا ... نباكرها فيعجبنا البكور )
( وظل وارف وخرير ماء ... فلا قر هناك ولا حرور )
( ويؤكل من فواكهها طري ... ويشرب من جداولها نمير )
( يؤدى مغرم في كل شهر ... ويؤخذ كل صائفة عشور )
( فهم أحمى لحوزتنا وأولى ... بنا وهم الموالي والعشير )
( لقد ذهب اليقين فلا يقين ... وغر القوم بالله الغرور )
( فلا دين ولا دنيا ولكن ... غرور بالمعيشة ما غرور )
( رضوا بالرق يا لله ماذا ... رآه وما أشار به مشير )
( مضى الإسلام فابك دما عليه ... فما ينفي الجوى الدمع الغزير )
( ونح واندب رفاقا في فلاة ... حيارى لا تحط ولا تسير )
( ولا تجنح إلى سلم وحارب ... عسى أن يجبر العظم الكسير )

( أنعمى عن مراشدنا جميعا ... وما إن منهم إلا بصير )
( ونلقى واحدا ويفر جمع ... كما عن قانص فرت حمير )
( ولو أنا ثبتنا كان خيرا ... ولكن ما لنا كرم وخير )
( إذا ما لم يكن صبر جميل )
( فليس بنافع عدد كثير )
( ألا رجل له رأي أصيل ... به مما نحاذر نستجير )
( يكر إذا السيوف تناولته ... وأين بنا إذا ولت كرور )
( ويطعن بالقنا الخطار حتى ... يقول الرمح ما هذا الخطير )
( عظيم أن يكون الناس طرا ... بأندلس قتيل أو أسير )
( أذكر بالقراع الليث حرصا ... على أن يقرع البيض الذكور )
( يبادر خرقها قبل اتساع ... لخطب منه تنخسف البدور )
( يوسع للذي يلقاه صدرا ... فقد ضاقت بما تلقى صدور )
( تنغصت الحياة فلا حياة ... وودع جيرة إذ لا مجير )
( فليل فيه هم مستكن ... ويوم فيه شر مستطير )
( ونرجو أن يتيح الله نصرا ... عليهم إنه نعم النصير )
نونية الرندي وشيء من شعره
ومن مشهور ما قيل في ذلك قول الأديب الشهير أبي البقاء صالح بن شريف الرندي رحمه الله تعالى

( لكل شيء إذا ما تم نقصان ... فلا يغر بطيب العيش انسان )
( هي الأمور كما شاهدتها دول ... من سره زمن ساءته ازمان )
( وهذه الدار لا تبقي على أحد ... ولا يدوم على حال لها شان )
( يمزق الدهر حتما كل سابغة ... إذا نبت مشرفيات وخرصان )
( وينتضي كل سيف للفناء ولو ... كان ابن ذي يزن والغمد غمدان )
( أين الملوك ذوو التيجان من يمن ... وأين منهم أكاليل وتيجان )
( وأين ما شاده شداد في إرم ... وأين ما ساسه في الفرس ساسان )
( وأين ما حازه قارون من ذهب ... وأين عاد وشداد وقحطان )
( أتى على الكل أمر لا مرد له ... حتى قضوا فكأن القوم ما كانوا )
( وصار ماكان من ملك ومن ملك ... كما حكى عن خيال الطيف وسنان )
( دار الزمان على دارا وقاتله ... وأم كسرى فما آواه إيوان )
( كأنما الصعب لم يسهل له سبب ... يوما ولا ملك الدنيا سليمان )
( فجائع الدهر أنواع منوعة ... وللزمان مسرات وأحزان )
( وللحوادث سلوان يسهلها ... وما لما حل بالإسلام سلوان )
( دهى الجزيرة أمر لا عزاء له ... هوى له أحد وانهد ثهلان )
( أصابها العين في الإسلام فامتحنت ... حتى خلت منه أقطار وبلدان )
( فاسأل بلنسية ما شأن مرسية ... وأين شاطبة أم أين جيان )
( وأين قرطبة دار العلوم فكم ... من عالم قد سما فيها له شان )
( وأين حمص وما تحويه من نزه ... ونهرها العذب فياض وملآن )
( قواعد كن أركان البلاد فما ... عسى البقاء إذا لم تبق أركان )
( تبكي الحنيفية البيضاء من أسف ... كما بكى لفراق الإلف هيمان )
( على ديار من الإسلام خالية ... قد أقفرت ولها بالكفر عمران )
( حيث المساجد قد صارت كنائس ما ... فيهن إلا نواقيس وصلبان )
( حتى المحاريب تبكي وهي جامدة ... حتى المنابر ترثي وهي عيدان )

( ياغافلا وله في الدهر موعظة ... إن كنت في سنة فالدهر يقظان )
( وماشيا مرحا يلهيه موطنه ... أبعد حمص تغر المرء أوطان )
( تلك المصيبة أنست ما تقدمها ... وما لها من طول الدهر نسيان )
( يا راكبين عتاق الخيل ضامرة ... كأنها في مجال السبق عقبان )
( وحاملين سيوف الهند مرهفة ... كأنها في ظلام النقع نيران )
( وراتعين وراء البحر في دعة ... لهم بأوطانهم عز وسلطان )
( أعندكم نبأ من أهل أندلس ... فقد سرى بحديث القوم ركبان )
( كم يستغيث بنا المستضعفون وهم ... قتلى وأسرى فما يهتز إنسان )
( ماذا التقاطع في الإسلام بينكم ... وأنتم يا عباد الله إخوان )
( ألا نفوس أبيات لها همم ... اما على الخير أنصار وأعوان )
( يامن لذلة قوم بعد عزهم ... أحال حالهم كفر وطغيان )
( بالأمس كانوا ملوكا في منازلهم ... واليوم هم في بلاد الكفر عبدان )
( فلو تراهم حيارى لا دليل لهم ... عليهم من ثياب الذل ألوان )
( ولو رأيت بكاهم عند بيعهم ... لهالك الأمر واستهوتك أحزان )
( يا رب أم وطفل حيل بينهما ... كما تفرق أرواح وأبدان )
( وطفلة مثل حسن الشمس إذ طلعت ... كانما هي ياقوت ومرجان )
( يقودها العلج للمكروه مكرهة ... والعين باكية والقلب حيران )
( لمثل هذا يذوب القلب من كمد ... إن كان في القلب إسلام وإيمان )
انتهت القصيدة الفريدة ويوجد بأيدي الناس زيادات فيها ذكر غرناطة وبسطة وغيرهما مما أخذ من البلاد بعد موت صالح بن شريف وما اعتمدته منها نقلته من خط من يوثق به على ما كتبته ومن له أدنى ذوق علم أن ما يزيدون فيها من الأبيات ليست تقاربها في البلاغة وغالب ظني أن تلك الزيادة لما أخذت غرناطة وجميع بلاد الأندلس إذ كان أهلها يستنهضون همم الملوك

بالمشرق والمغرب فكأن بعضهم لما أعجبته قصيدة صالح بن شريف زاد فيها تلك الزيادات وقد بينت ذلك في أزهار الرياض فليراجع
وصالح بن شريف الرندي صاحب القصيدة من أشهر أدباء الأندلس ومن بديع نظمه قوله
( سلم على الحي بذات العرار ... وحي من أجل الحبيب الديار )
( وخل من لام على حبهم ... فما على العشاق في الذل عار )
( ولا تقصر في اغتنام المنى ... فما ليالي الأنس إلا قصار )
( وإنما العيش لمن رامه ... نفس تدارى وكؤوس تدار )
( وروحه الراح ريحانه ... في طيبه بالوصل أو بالعقار )
( لا صبر للشيء على ضده ... والخمر والهم كماء ونار )
( مدامه مدنية للمنى ... في رقة الدمع ولون النضار )
( مما أبو ريق أباريقها ... تنافست فيها النفوس الكبار )
( معلتي والبرء من علتي ... ما أطيب الخمرة لولا الخمار )
( ما أحسن النار التى شكله ... كالماء لو كف شرار الشرار )
( وبي وإن عذبت في حبه ... ببعده على اقتراب المزار )
( ظبي غرير نام عن لوعتي ... ولا أذوق النوم إلا غرار )
( ذو وجنة كأنها روضة ... قد بهر الورد بها والبهار )
( رجعت للصبوة في حبه ... وطاعة اللهو وخلع العذار )
( ياقوم قولوا بذمام الهوى ... أهكذا يفعل حب الصغار )
( وليلة نبهت أجفانها ... والفجر قد فجر نهر النهار )
( والليل كالمهزوم يوم الوغى ... والشهب مثل الشهب عند الفرار )

( كأنما استخفى السها خيفة ... وطولب النجم بثار فثار )
( لذاك ما شابت نواصي الدجى ... وطارح النسر أخاه فطار )
( وفي الثريا قمر سافر ... عن غرة غير منها السفار )
( كأن عنقودا تثنى به ... إذ صار كالعرجون عند السرار )
( كأنها تسبك ديناره ... وكفها يفتل منه السوار )
( كأنما الظلماء مظلومة ... تحكم الفجر عليها فجار )
( كأنما الصبح لمشتاقه ... عز غنى من بعد ذل افتقار )
( كأنما الشمس وقد أشرقت ... وجه أبي عبدالإله استنار )
( محمد محمد كاسمه ... شخص له في كل معنى يشار )
( أما المعالى فهو قطب لها ... والقطب لا شك عليه المدار )
( مؤثل المجد صريح العلا ... مهذب الطبع كريم النجار )
( تزهى به لخم وساداتها ... وتنتمى قيس له في الفخار )
( يفيض من جود يديه على ... عافيه ما منه تحار البحار )
( اليمن من يمناه حكم جرى ... واليسر من شيمة تلك اليسار )
( أخ صفا منه لنا واحد ... فالدهر مما قد جنى في اعتذار )
( فإن شكرنا فضله مرة ... فقد سكرنا من نداه مرار )
( ونحن منه في جوار العلا ... تدور للسعد بنا منه دار )
( الحافظ الله وأسماؤه ... لذلك الجار وذاك الجوار )
رسالة ابن عميرة إلى ابن الأبار في سقوط بلنسية
رجع - وقد رأيت أن أثبت هنا رسالة خاطب بها الكاتب البارع القاضي أبو المطرف ابن عميرة المخزومي الشيخ الحافظ أبا عبدالله ابن الأبار يذكر له

أخذ العدو مدينة بلنسية وهي
( ألا فيئة للدهر تدنو بمن نأى ... وبقيا يرى منها خلاف الذي رأى )
( ويا من عذيري منه يغدر من أوى ... إليه ولا يدري سوى خلف من وأى )
( ذخائر مافي البر والبحر صيده ... فلا لؤلؤا أبقى عليه ولا وأى )
أيها الأخ الذي دهش ناظري لكتابه بعد أن أدهش خاطري من إغبابه وسرني من بشره إيماض بعد أن ساءني من جهته إعراض جرت على ذكره الصلة فقوم قدح نبعتها وروى أكناف تلعتها وأحدث ذكرا من عهدنا الماضي فنقط وجه عروسه وشعشع خمر كؤوسه وسقى بماء الشبيبة ثراه وأبرز مثل مرآة الغريبة مرآه فبورك فيه أحوذيا وصل رحمه وكسا منظره من البهجة ماكان حرمه وحيا الله تعالى منه وليا على سالف عهدي تمادى وبشعار ودي نادى وبين الإحسان شيمته وأبان والبيان لا تنجاب عنه ديمته ولا تغلو بغير قلمه قيمته واعتذر عن كلمة تمنى تبديلها ودعوة ذكر وجوم النادي لها ثم أرسلها ترجف بوادرها من خيفة وتوغر بوغم صدر قلم وصحيفة وتنذر من ريحانه قريش أن تمنعه عرفها وتحدق إليه طرفها واتقى غارة على غره من الناجي برأس طمرة ولم يأمن هجران المهاجر بعد وصله وعكر عكرمة المغطي بحلمه على أبي جهله وعند ذكر كتيبة خالد أجحم وذكر يوم أحاطت به فارس فاستلحم فاعتذر عما قال وأضمر الحذر إلا أن يقال فمهلا أيها الموفي على علمه النافث بسحر قلمه أتظن منزلتك في البلاغة ومهيعها لاحب ومنزعها بالعقول لاعب تسفل وقد ترفعت أو تخفى وإن تلفعت عرفناك ياسودة وشهرت حلة

عطارد الملاحة والجودة فلم حين تهيب الأخ الأوحد من قصي غطاريفها ولو استثار من حفائظها تالدها وطريفها لم يذكر يد قومه عند أبيها وقد رام خطة أشرف على تأبيها حين أهاب بكم لمهمة ودعا منكم أخاه لأمه ولولا ذلك لما خلا له وجه الكعبة ولا خلص من تلك المضايق الصعبة وبأن أعرتموه نجدتكم الموصوفة غلب على ماكان بأيدي صوفه فكيف نجحد اليد عند عمنا او نشحذ أسنة الألسنة لذمنا أو كيف نلقاكم بجدنا وأبوكم أبو بكر معدنا وما تيامنكم إلى سبأ بن يشجب وإن أطلنا فيه التعجب بالذي يقطع أرحامنا ويمنع اشتباكنا والتحامنا بعد أن شددنا فعالنا بفعالكم ورأينا أقدامنا في نعالكم ولو شئتم توعدتم بأسود سؤددكم عند الإقدام وإلحاح إلحافكم في ضرب الهام لكن نقول إن قومنا لكرام ولو شاءوا كان لنا منهم شرة وعرام
واعود من حيث بدا الأخ الذي أبثه شوقي وأتطعم حلاوة عشرته بقية في حاسة ذوقي طارحني حديث مورد جف وقطين خف فيا لله لأتراب درجوا وأصحاب عن الأوطان خرجوا قصت الأجنحة وقيل طيروا وانما هو القتل او الأسر أو تسيروا فتفرقوا أيدي سبا وانتشروا ملء الوهاد والربى ففي كل جانب عويل وزفرة وبكل صدر غليل وحسرة ولكل عين عبرة لا ترقأ من أجلها عبرة داء خامر بلادنا حين اتاها وما زال بها حتى سجى على موتاها وشجا ليومها الأطول كهلها وفتاها وأنذر بها في القوم بحران أنيجة يوم أثاروا أسدها المهيجة فكانت تلك الحطمة طل الشؤبوب وباكورة البلاء المصبوب أثكلتنا إخوانا أبكانا نعيهم ولله أحوذيهم

وألمعيهم ذاك أبو ربيعنا وشيخ جميعنا سعد بشهادة يومه ولم ير ما يسوءه في اهله وقومه وبعد ذلك أخذ من الأم بالمخنق وهي بلنسية ذات الحسن والبهجة والرونق وما لبث أن أخرس من مسجدها لسان الأذان وأخرج من جسدها روح الايمان فبرح الخفاء وقيل على آثار من ذهب العفاء وانعطفت النوائب مفردة ومركبة كما تعطف الفاء فأودت الخفة والحصافة وذهب الجسر والرصافة ومزقت الحلة والشملة وأوحشت الجرف والرملة ونزلت بالحارة وقعة الحرة وحصلت الكنيسة من جآذرها وظبائها على طول الحسرة فأين تلك الخمائل ونضرتها والجداول وخضرتها والأندية وأرجها والأودية ومنعرجها والنواسم وهبوب مبتلها والأصائل وشحوب معتلها دار ضاحكت الشمس بحرها وبحيرتها وأزهار ترى من أدمع الطل في أعينها ترددها وحيرتها ثم زحفت كتيبة الكفر بزرقها وشقرها حتى أحاطت بجزيرة شقرها فآها لمسقط الرأس هو نجمه ولفادح الخطب سرى كلمه ويالجنة أجرى الله تعالى النهر تحتها وروضة أجاد أبو إسحاق نعتها وإنما كانت داره التى فيها دب وعلى أوصاف محاسنها أكب وفيها اتته منيته كما شاء وأحب ولم تعدم بعده محبين قشيبهم إليها ساقوه ودمعهم عليها أراقوه وقد أثبت من النظم ما يليق بهذا الموضع وإن لم يكن له ذلك الموقع
( أقلوا ملامي أو فقولوا وأكثروا ... ملومكم عما به ليس يقصر )
( وهل غير صب ما تني عبراته ... إذا صعدت أنفاسه تتحدر )
( يحن وما يجدي عليه حنينه ... إلى أربع معروفها متنكر )

( ويندب عهدا بالمشقر فاللوى ... وأين اللوى منه وأين المشقر )
( تغير ذاك العهد بعدي وأهله ... ومن ذا على الأيام لا يتغير )
( وأقفر رسم الدار إلا بقية ... لسائلها عن مثل حالي تخبر )
( فلم تبق إلا زفرة إثر زفرة ... ضلوعي لها تنقد أو تتفطر )
( وإلا اشتياق لا يزال يهزني ... فلا غاية تدنو ولا هو يفتر )
( أقول لساري البرق في جنح ليلة ... كلانا بها قد بات يبكي ويسهر )
( تعرض مجتازا فكان مذكرا ... بعهد اللوى والشيء بالشيء يذكر )
( أتأوي لقلب مثل قلبك خافق ... ودمع سفوح مثل قطرك يقطر )
( وتحمل انفاسا كومضك نارها ... إذا رفعت تبدو لمن يتنور )
( يقر بعيني أن أعاين من نأى ... لما أبصرته منك عيناي تبصر )
( وأن يتراءاك الخليط الذين هم ... بقلبي وإن غابوا عن العين حضر )
( كفى حزنا أنا كأهل محصب ... بكل طريق قد نفرنا وننفر )
( وأن كلينا من مشوق وشائق ... بنار اغتراب في حشاه تسعر )
( ألا ليت شعري والأماني ضلة ... وقولي ألا يا ليت شعري تحير )
( هل النهر عقد للجزيرة مثلما ... عهدنا وهل حصباؤه وهي جوهر )
( وهل للصبا ذيل عليه تجره ... فيزور عنه موجه المتكسر )
( وتلك المغاني هل عليها طلاوة ... بما راق منها أو بما رق تسحر )
( ملاعب أفراس الصبابة والصبا ... تروح إليها تارة وتبكر )
( وقبلي ذاك النهر كانت معاهد ... بها العيش مطلول الخميلة أخضر )
( بحيث بياض الصبح أزرار جيبه ... تطيب وأردان النسيم تعطر )
( ليال بماء الورد ينضح ثوبها ... وطيب هواء فيه مسك وعنبر )
( وبالجبل الأدنى هناك خطى لنا ... إلى اللهو لا تكبو ولا تتعثر )
( جناب بأعلاه بهار ونرجس ... فأبيض مفتر الثنايا وأصفر )
( وموردنا في قلب قلت كمقلة ... حذارا علينا من قذى العين تستر )

( وكم قد هبطنا القاع نذعر وحشه ... وياحسنه مستقبلا حين يذعر )
( نقود إليه طائعا كل جارح ... له منخر رحب وخصر مضمر )
( إذا ما رميناه به عبثت به ... مؤللة الأطراف عنهن تكشر )
( تضم لأروى النيق حزان سهلها ... وقد فقدت فيها مهاة وجؤذر )
( كذاك إلى ان صاح بالقوم صائح ... وأنذر بالبين المشتت منذر )
( وفرقهم أيدي سبا وأصابهم ... على غرة منهم قضاء مقدر )
ونعود إلى حيث كنا من تبدد شمل الجيرة وطي بساط الجزيرة اما شاطبة فكانت من قصبتها شوساء الطرف وببطحائها عروسا في نهاية الظرف فتخلى عن الذروة من أخلاها وقيل للكافر شأنك وأعلاها فقبل أن تضع الحرب أوزارها كشط عنها إزارها فاستحل الحرمة أو تاولها وما انتظر أقصر المدة ولا أطولها واما تدميره فجاد عودها على الهصر وامكنت عدوها من القصر فداجى الكفر الايمان وناجى الناقوس الأذان وما وراءها من الأصقاع التى باض الكفر فيها وفرخ وانزل بها ما أنسى التاريخ ومن أرخ فوصفكم على الحادثة فيها أتى وفي ضمان القدرة الانتصاف من عدو عثا وعتا وإنا لنرجوها كرة تفك البلاد من أسرها وتجبرها بعد كسرها وإن كانت الدولة العامرية منعت بالقراع ذمارها ورفعت على اليفاع نارها فهذه العمرية بتلك المنقبة أخلق والعدو لها أهيب ومنها أفرق وما يستوي نسب مع البقل نبت وبالمستفيض من النقل ما ثبت وآخر علت سماؤه على اللمس ورسا ركنه في الإسلام رسو قواعده الخمس وكان كما قال أبو حنيفة في خبر المسح جاءنا مثل الشمس والأيام العمرية هي أم الوقائع المحكية ومن شاء عدها من اليرموكية إلى الأركية وهذه الأيام الزاهرة هي زبدة حلاوتها وسجدة تلاوتها وإمامتها العظمى أيدها الله تعالى تمهل الكافر مدة إملائه ثم تشفي الإسلام من دائه وتطهر الأرض بنجس دمائه بفضل الله تعالى المرجو

زيادة نعمه قبلها وآلائه
راجعت سيدي مؤديا ما يجب أداؤه ومقتديا وما كل أحد يحسن اقتداؤه وإنما ناضلت ثعليا وعهدي بالنضال قديم وناظرت جدليا وما عندي للمقال تقديم وأطعته في الجواب ولقريحتي يعلم الله تعالى نكول ورويتي لولا حق المسألة بطير الحوادث المرسلة عصف مأكول أتم الله تعالى عليه آلاءه وحفظ مودته وولاءه ومتع بخلته الكريمة أخلاءه بمنه والسلام انتهت الرسالة
ورأيت في رحلة ابن رشيد لما ذكر أبا المطرف ما صورته واما الكتابة فقد كان حامل لوائها كما قال بعض أصحابنا ألان الله تعالى له الكلام كما ألان الحديد لداود عليه السلام وأخبرني شيخنا أبو بكر أن شيخه أبا المطرف رأى رسول الله في النوم فأعطاه حزمة أقلام وقال استعن بهذه على كتابتك أو كما قال انتهى
رسالة ابن الأبار التى أجاب أبو المطرف عنها
وبعد كتبي لهذه الرسالة رأيت ان أذكر رسالة الحافظ ابن الأبار التى هذه جواب عنها وهي من غرض ما نحن فيه فلنقتبس نور البلاغة منها وهي
سيدي وإن وجم لها النادي وجمجم بها المنادي ذلك لصغرها عن كبره في المعارف الأعلام وصدرها يوغر صدور الصحائف والأقلام وأعيذ ريحانة قريش ان تروح من حفيظتها في جيش قد هابتها مغاوير كل حي وأجابتها الغطاريف من قصي تدلف بين يديها كتيبة خالد وتحلف لا قدحت نار الهيجاء بزند صالد او تنصف من غامطها وتقذف به وسط غطامطها

لا جرم أني من جريمتي حذر وعما وضحت به قيمتي للمجد معتذر إلا أن يصوح من الروض نبته وجناته ويصرح بالقبول حلمه واناته الحديث عن القديم شجون والشأن بتقاضي الغريم شؤون فلا غرو أن أطارحه إياه وأفاتحه الأمل في لقياه ومن لي بمقالة مستقلة أو إخالة غير مخلة أبت البلاغة إلا عمادها وعلى ذلك فاستنبىء عمادها درجت اللدات والأتراب وخرجت الروم بنا إلى حيث الأعراب أيام دفعنا لأعظم الأخطار وفجعنا بالأوطان والأوطار فالإم نداري برح الألم وحتام نساري النجم في الظلم جمع أوصاب ما له من انقضاض ومضض اغتراب شذ عن ابن مضاض فلو سمع الأول بهذا الحادث ماضرب المثل بالحارث يالله من جلاء ليس به يدان وثناء قلما يسفر عن تدان وعد الجد العاثر لقاءه فأنجز ورام الجلد الصابر انقضاءه فأعجز هؤلاء الاخوان مكثهم لا يمتع به أوان وبينهم كنبت الأرض ألوان بين هائم بالسرى ونائم في الثرى من كل صنديد بطل أو منطيق غير ذي خطأ ولا خطل قامت عليه النوادب لما قعدت النوائب وهجمت بيوتها لمنعاه الجماجم والذوائب وأما الأوطان المحبب عهدها بحكم الشباب المشبب فيها بمحاسن الأحباب فقد ودعنا معاهدها وداع الأبد وأخنى عليها الذي أخنى على لبد أسلمها الإسلام وانتظمها الانتثار والاصطلام حين وقعت أنسرها الطائرة وطلعت أنحسها الغائرة فغلب على الجذل الحزن وذهب مع المسكن السكن
( كزعزع الريح صك الدوح عاصفها ... فلم يدع من جنى فيها ولا غصن )
( واها واها يموت الصبر بينهما ... موت المحامد بين البخل والجبن )
أين بلنسية ومغانيها وأغاريد ورقها وأغانيها أين حلى رصافتها

وجسرها ومنزلا عطائها ونصرها أين أفياؤها تندى غضارة وذكاؤها تبدو من خضارة أين جداولها الطفاحة وخمائلها أين جنائبها النفاحة وشمائلها شد ما عطل من قلائد أزهارها نحرها وخلعت شعشعانية ضحاها بحيرتها وبحرها فأية حلية لا حيلة في صرفها مع صرف الزمان وهل كانت حتى بانت إلا رونق الحق وبشاشة الإيمان ثم لم يلبث داء عقرها أن دب إلى جزيرة شقرها فأمر عذبها النمير وذوى غصنها النضير وخرست حمائم أدواحها وركدت نواسم أرواحها ومع ذلك اقتحمت من الأيام دانية فنزحت قطوفها وهي دانية ويا لشاطبة وبطحائها من حيف الأيام وإنحائها والهفاه ثم لهفاه على تدمير وتلاعها وجيان وقلاعها وقرطبة ونواديها وحمص وواديها كلها رعي كلؤها ودهي بالتفريق والتمزيق ملؤها عض الحصار أكثرها وطمس الكفر عينها وأثرها وتلك إلبيرة بصدد البوار ورية في مثل حلقة السوار ولا مرية في المرية وخفضها على الجوار إلى بنيات لواحق بالأمهات ونواطق بهاك لأول هاتف بهات
ما هذا النفخ بالمعمور اهو النفخ في الصور أم النفر عاريا من الحج المبرور وما لأندلس أصيبت بأشرافها ونقصت من أطرافها قوض عن صوامعها الأذان وصمت بالنواقيس فيها الآذان أجنت ما لم تجن الأصقاع أعقت الحق فحاق بها الإيقاع كلا بل دانت للسنة وكانت من البدع في أحصن جنة هذه المروانية مع اشتداد أركانها وامتداد سلطانها ألقت حب آل النبوة في حبات القلوب وألوت ما ظفرت من خلعه ولا قلعه بمطلوب إلى المرابطة بأقاصي الثغور والمحافظة على معالي الأمور والركون إلى الهضبة المنيعة والروضة المريعة من معاداة الشيعة وموالاة الشريعة فليت شعري بم استوثق تمحيصها ولم تعلق بعموم البلوى تخصيصها اللهم غفرا طالما ضر ضجر ومن الأنباء ما فيه مزدجر جرى بما لم نقدره المقدور فما عسى أن ينفث به المصدور وربنا الحكيم العليم فحسبنا

التفويض له والتسليم وياعجبا لبني الأصفر أنسيت مرج الصفر ورميها يوم اليرموك بكل أغلب غضنفر دع ذا فالعهد به بعيد ومن اتعظ بغيره فهو سعيد هلا تذكرت العامرية وغزواتها وهابت العمرية وهبواتها أما الجزيرة بخيلها محدقة وبأحاديث فتحها مصدقة هذا الوقت المرتقب والزمان الذي زجيت له الشهور والحقب وهذه الإمامة أيدها الله تعالى هى المنقذة من أسرها والمنفذة لسلطانها مراسم نصرها فيتاح الأخذ بالثار ويزاح عن الجنة أهل النار ويعلم الكافر لمن عقبى الدار
حاورت سيدي بمثار الفاجي الفاجع وحاولت برء الجوى من جوابه بالعلاج الناجع وبودي لو تقع في الأرجاء مصاقبة فترفع من الأرزاء معاقبة أليس لديه أسو المكلوم وتدارك المظلوم وبيديه أزمة المنثور والمنظوم خيال يختر في اقناع إياد وصوغ ما لم يخطر على قلب زيد ولا بخاطر زياد بست الجبال الطوامح فما بست وأبو فتحها وغيضت البحار الطوافح فمن يعبأ بالركايا ومتحها أين أبو الفضل ابن العميد من العماد الفاضل وصمصامة عمرو من قلمه الفاصل هذا مدرهها الذي فعل الأفاعيل وأحمدها الذي سما على ابراهيم وإسماعيل وهما اماما الصناعة وهماما البراعة واليراعة بهما فخر من نطق بالضاد وبسببهما حسدت الحروف الصاد لكن دفعهم بالراح وأعرى مدرعهم من المراح وشرف دونهم ضعيف القصب على صم الرماح أبقاه الله تعالى وبيانه صادق الأنواء وزمانه كاذب الأسواء ولا زال مكانه مجاوزا ذؤابة الجوزاء وإحسانه مكافأ بأحسن الجزاء والسلام

فصول من درر السمط لابن الأبار
وقد عرفت بابن الأبار في أزهار الرياض بما لا مزيد عليه غير أني رأيت هنا أن أذكر فصولا مجموعة من كلامه في كتابه المسمى بدر السمط في خبر السبط
قال رحمه الله تعالى رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت فروع النبوة والرسالة وينابيع السماحة والبسالة صفوة آل أبي طالب وسراة بني لؤي بن غالب الذين حباهم الروح الأمين وحلاهم الكتاب المبين فقل في قوم شرعوا الدين القيم ومنعوا اليتيم ان يقهر والأيم ماقد من أديم آدم أطيب من أبيهم طينة ولا أخذت الأرض أجمل من مساعيهم زينة لولاهم ماعبد الرحمن ولا عهد الإيمان وعقد الأمان ذؤابة غير أشابة فضلهم ما شانه نقص ولا شابه سرارة محلتهم سر المطلوب وقرارة محبتهم حبات القلوب أذهب الله عنهم الرجس وشرف بخلقهم الجنس فان تميزوا فبشريعتهم البيضاء او تحيزوا فلعشيرتهم الحمراء من كل يعسوب الكتيبة منسوب لنجيب ونجيبة نجاره الكرم وداره الحرم نمته العرانين من هاشم إلى النسب الأصرح الأوضح إلى نبعة فرعها في السماء ومغرسها سرة الأبطح اولئك السادة أحيي وأفدي والشهادة بحبهم أوفي وأؤدي ومن يكتمها فإنه آثم قلبه
فصل - ما كانت خديجة لتأتي بخداج ولا الزهراء لتلد إلا ازاهر

كالسراج مثل النحلة لا تأكل إلا طيبا ولا تضع إلا طيبا خلدت بنت خويلد ليزكو عقبها من الحاشر العاقب ويسمو مرقبها على النجم الثاقب لم تخد بمثلها المهارى ولم يلد له غيرها من المهارى آمت من بعولتها قبله لتصل السعادة بحبلها حبله ملاك العمل خواتمه رب ربات حجال أنفذ من فحول رجال
( وما التأنيث لاسم الشمس عيب ... ولا التذكير فخر للهلال )
هذه خديجة من أخيها حزام أحزم ولشعار الصدق من شعارات القص ألزم ركنت إلى الركن الشديد وسددت للهدى كما هديت للتسديد يوم نبىء خاتم الأنبياء وأنبىء بالنور المنزل عليه والضياء
فصل - وكان قبيل المبعث وبين يدي لم الشعث يثابر على كل حسنى وحسنة ويجاور شهرا من كل سنة يتحرى حراء بالتعهد ويزجي تلك المدة في التعبد وذلك الشهر المقصور على التبرر المقدور فيه رفع التضرر شهر رمضان المنزل فيه القرآن فبيناه لا ينام قلبه وإن نامت عيناه جاءه الملك مبشرا بالنجح وقد كان لا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح فغمره بالكلاءة وأمره بالقراءة وكلما تحبس له غطه ثم أرسله وإذا أراد الله بعبد خيرا عسله
( تريدين إدراك المعالي رخيصة ... ولا بد دون الشهد من ابر النحل )
كذلك حتى عاذ بالأرق من الفرق وقد علق فاتحة العلق فلا يجري

غيرها على لسانه وكانما كتبت كتابا في جنانه
فصل ولما أصبح يؤم الأهل وتوسط الجبل يريد السهل وقد قضى الأجل وما نضا الوجل نوجي بما في الكتاب المسطور ونودي كما نودي موسى من جانب الطور فعرض له في طريقه ما شغله عن فريقه فرفع رأسه متاملا فأبصر الملك في صورة رجل متمثلا يشرفه بالنداء ويعرفه بالاجتباء وإنما عضد خبر الليلة بعيان اليوم وأري في اليقظة مصداق ما أسمع في النوم ليحق الله الحق بكلماته وعلى ما ورد في الأثر وسرد رواة السير فذلك اليوم كان عيد فطرنا الان وغير بدع ولا بعيد ان يبدأ الوحي بعيد كما ختم بعيد ( اليوم أكملت لكم دينكم ) المائدة 3 فبهت لما سمعه وراءه وثبت لا يتقدم امامه ولا يرجع وراءه
( وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متقدم عنه ولا متأخر )
ثم جعل في الخوف والرجاء لا يقلب وجهه في السماء إلا تعرض له في تلك الصورة وعرض عليه ما أعطاه الله سبحانه من السورة فيقف موقف التوكل ويمسك حتى عن التامل
( تتوق إليك النفس ثم أردها ... حياء ومثلي بالحياء حقيق )
( أذود سوام الطرف عنك وماله ... إلى أحد إلا إليك طريق )
فصل - وفطنت خديجة لاحتباسه فأمعنت في التماسه تزوجوا الودود

الولود ولفورها بل لفوزها بعثت في طلبه رسلها وانبعثت تأخذ عليه شعاب مكة وسبلها
( إن المحب إذا لم يستزر زارا )
طال عليها الأمد فطار إليها الكمد والمحب حقيقة من لا يفيق فيقه بالنفس النفيسة سماحه وجوده وفي وجود المحبوب الأشرف وجوده
( كأن بلاد الله مالم تكن بها ... وإن كان فيها الخلق طرا بلاقع )
( أقضي نهاري بالحديث وبالمنى ... ويجمعني والهم بالليل جامع ) ( نهاري نهار الناس حتى إذا دجا ... لي الليل هزتني إليك المضاجع )
( لقد ثبتت في القلب منك محبة ... كما ثبتت في الراحتين الأصابع )
فصل وبعد لأي ماورد عليها وقعد مضيفا إليها فطفقت بحكم الإجلال تمسح أركانه وتفسح مجال السؤال عما خلف له مكانه فباح له بالسرالمغيب وقد لاح وسم الكرامة على الطيب المطيب فعلمت انه الصادق المصدوق وحكمت بانه السابق لا المسبوق اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله وما زالت حتى أزالت ما به من الغمة وقالت إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة
( إني تفرست فيك الخير أعرفه ... والله يعلم أن ما خانني البصر )
( أنت النبي ومن يحرم شفاعته ... يوم الحساب فقد أزرى به القدر )
لا ترهب فسوف تبهر وسيبدو أمر الله تعالى ويظهر أنت الذي سجعت به الكهان ونزلت له من صوامعها الرهبان وسارت بخير كرامته الركبان انت الذي ما حملت أخف منه حامل ودرت ببركته الشاة فإذا هي حافل

( وأنت لما ولدت أشرقت الأرض ... وضاءت بنورك الأفق )
( فنحن في ذلك الضياء وفي النور ... وسبل الرشاد نخترق )
فصل - وما لبثت أن أغلقت أبوابها وجمعت عليها أثوابها وانطلقت إلى ورقة بن نوفل تطلبه بتفسير ذلك المجمل وكان يرجع إلى عقل حصيف ويبحث عمن يبعث بالدين الحنيف فاستبشر به ناموسا وأخبر انه الذي كان يأتي موسى فازدادت إيمانا وأقامت على ذلك زمانا ثم رأت أن خبر الواحد قد يلحقه التفنيد ودرت أن المجتهد لا يجوز له التقليد طلب العلم فريضة على كل مسلم فرجعت أدراجها في ارتياد الإقناع وألقي فى روعها إلقاء الخمار والقناع فهناك وضح لها البرهان وصح لها أن الآني ملك لا شيطان
( تدلى عليه الروح من عند ربه ... ينزل من جو السماء ويرفع )
( تشاوره فيما نريد وقصدنا ... إذا ما اشتهى أنا نطيع ونسمع )
فصل - سبقت لها من الله تعالى الحسنى فصنعت حسنا وقالت حسنا ومن يؤمن بالله يهد قلبه ما فتر الوحي بعدها ولا مطل الحق الحي وعدها وعد الله لا يخلف الله وعده دانت لحب ذي الإسلام فحياها الملك بالسلام من الملك السلام من كان لله كان الله له أغنت غناء الأبطال فغناها لسان الحال
( هل تذكرين فدتك النفس مجلسنا ... يوم التقينا فلم أنطق من الحصر )

( لا أرفع الطرف حولي من مراقبة ... بقيا علي وبعض الحزم في الحذر )
يسرت لاحتمال الأذى والنصب فبشرت ببيت في الجنة من قصب هل أمنت إذ آمنت من الرعب حتى غنيت عن الشبع بما في الشعب
( لا تحسب المجد تمرا أنت آكله ... لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا ) واها لها احتملت عض الحصار وما أطاقت فقد المختار
( يطول اليوم لا ألقاك فيه ... وشهر نلتقي فيه قصير ) والحبيب سمع المحب وبصره وله طول محياه وقصره
( أنت كل الناس عندي فإذا ... غبت عن عيني لم ألق أحدا )
مكثت للرياسة مواسية وآسية فثلثت في بحبوحة الجنة مريم وآسية ثم ربعت البتول فبرعت نطقت بذلك الآثار وصدعت خير نساء العالمين أربع فصل - إلى البتول سير بالشرف التالد وسيق الفخر بالأم الكريمة والوالد حلت في الجيل الجليل وتحلت بالمجد الأثيل ثم تولت إلى الظل الظليل
( وليس يصح في الأفهام شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل ) وأبيها إن أم أبيها لا تجد لها شبيها نثره النبي وطله الوصي وذات

الشرف المستولي على الأمد القصي كل ولد الرسول درج في حياته وحملت هي ما حملت من آياته ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء لا فرع للشجرة المباركة من سواها فهل جدوى أوفر من جدواها والله أعلم حيث يجعل رسالاته حفت بالتطهير والتكريم وزفت إلى الكفؤ الكريم فوردا صفو العارفة والمنة وولدا سيدي شباب أهل الجنة عوضت من الأمتعة الفاخرة بسيدي الدنيا والآخرة ما أثقل نحوها ظهرا ولا بذل غير درعه مهرا كان صفر اليدين من البيضاء والصفراء وبحالة لا حيلة معها في اهداء الحلة السيراء فصاهره الشارع وخالله وقال في بعض صعلوك لا مال له نرفع درجات من نشاء
فصل
( أتنتهب الأيام أفلاذ أحمد ... وأفلاذ من عاداهم تتعدد )
( ويضحى ويظما أحمد وبناته ... وبنت زياد وردها لا يصرد )
( أفي دينه في أمنه في بلاده ... تضيق عليهم فسحة تتورد )
( وما الدين إلا دين جدهم الذي ... به أصدروا في العالمين واوردوا )
انتهى ما سنح لي ذكره من درر السمط وهو كتاب غاية في بابه ولم اورد منه غير ما ذكرته لأن في الباقي ما تشم منه رائحة التشيع والله سبحانه يسامحه بمنه وكرمه
رجع إلى ما كنا بسبيله فنقول قد ذكرنا في الباب الثاني رسالة أبي المطرف ابن عميرة إلى أبي جعفر ابن أمية وهي مشتملة على التلهف على الجزيرة الأندلسية حين أخذ العدو بلنسية وظهرت له مخايل الاستيلاء على ما بقي

من الأندلس فراجعها فيما سبق وإن كان التناسب التام في ذكرها هنا فالمناسبة هناك حاصلة أيضا والله سبحانه الموفق وذكرنا هنالك أيضا جملة غيرها من كلامه رحمه الله تعالى تتعلق بهذا المعنى وغيره فلتراجع ثمة
نهاية الأندلس كما يصورها كتاب جنة الرضى لابن عاصم
ورأيت أن أثبت هنا ما رأيته بخط الأديب الكاتب الحافظ المؤرخ أبي عبد الله محمد بن الحداد الوادي آشي نزيل تلمسان رحمه الله تعالى ما صورته
حدثني الفقيه العدل سيدي حسن ابن القائد الزعيم الأفضل سيدي إبراهيم العراف أنه حضر مرة لإنزال الطلسم المعروف بفروج الرواح من العلية بالقصبة القديمة من غرناطة بسبب البناء والإصلاح وأنه عاينه من سبعة معادن مكتوبا فيه
( إيوان غرناطة الغراء معتبر ... طلسمه بولاة الحال دوار )
( وفارس روحه ريح تدبره ... من الجماد ولكن فيه أسرار )
( فسوف يبقى قليلا ثم تطرقه ... دهياء يخرب منها الملك والدار )
وقد صدق قائل هذه الأبيات فإنه طرقت الدهياء ذلك القطر الذي ليس له في الحسن مثال ونسل الخطب إليه من كل حدب وانثال وكل ذلك من اختلاف رؤسائه وكبرائه ومقدميه وقضاته وامرائه ووزرائه فكل يروم الرياسة لنفسه ويجر نارها لقرصه والنصارى لعنهم الله تعالى يضربون بينهم بالخداع والمكر والكيد ويضربون عمرا منهم بزيد حتى تمكنوا من أخذ البلاد والاستيلاء على الطارف والتلاد قال الرائس القاضي العلامة الكاتب الوزير أبو يحيى ابن عاصم رحمه الله تعالى في كتابه جنة الرضى في التسليم

لما قدر الله تعالى وقضى ما صورة محل الحاجة منه ومن استقرأ التواريخ المنصوصة وأخبار الملوك المقصوصة علم أن النصارى دمرهم الله تعالى لم يدركوا في المسلمين ثارا ولم يرحضوا عن أنفسهم عارا ولم يخربوا من الجزيرة منازل وديارا ولم يستولوا عليها بلادا جامعة وأمصارا إلا بعد تمكينهم لأسباب الخلاف واجتهادهم في وقوع الافتراق بين المسلمين والاختلاف وتضريبهم بالمكر والخديعة بين ملوك الجزيرة وتحريشهم بالكيد والخلابة بين حماتها في الفتن المبيرة ومهما كانت الكلمة مؤتلفة والآراء لا مفترقة ولا مختلفة والعلماء بمعاناة اتفاق القلوب إلى الله مزدلفة فالحرب إذ ذاك سجال ولله تعالى في إقامة الجهاد في سبيله رجال وللممانعة في غرض المدافعة ميدان رحب ومجال وروية وارتجال
إلى أن قال وتطاولت الأيام ما بين مهادنة ومقاطعة ومضاربة ومقارعة ومنازلة ومنازعة وموافقة وممانعة ومحاربة وموادعة ولا أمل للطاغية إلا في التمرس بالإسلام والمسلمين وإعمال الحيلة على المؤمنين وإضمار المكيدة للموحدين واستبطان الخديعة للمجاهدين وهو يظهر أنه ساع للوطن في العاقبة الحسنى وأنه منطو لأهله على المقصد الأسنى ومهتم بمراعاة امورهم وناظر بنظر المصلحة لخاصتهم وجمهورهم وهو يسر حسوا في ارتغائه ويعمل الحيلة في التماس هلك الوطن وابتغائه فتبا لعقول تقبل مثل هذا المحال وتصدق هذا الكذب بوجه أو بحال وليت المغرور الذي يقبل هذا لو فكر في نفسه وعرض هذا المسموع على مدركات حسه وراجع أوليات عقله وتجربيات حدسه وقاس عدوه الذي لا ترجى مودته على أبناء جنسه فأنا أناشده الله هل بات قط بمصالح النصارى وسلطانهم مهتما وأصبح من خطب طرقهم مغتما ونظر لهم نظر المفكر في العاقبة الحسنة أو قصد لهم قصد المدبر

في المعيشة المستحسنة او خطر على قلبه أن يحفظ في سبيل القربة أربابهم وصلبانهم أو عمر ضميره من تمكين عزهم بما ترضاه احبارهم ورهبانهم فإن لم يكن ممن يدين بدينهم الخبيث ولم يشرب قلبه حب التثليث ويكون صادق اللهجة منصفا عند قيام الحجة فسيعترف أن ذلك لم يخطر له قط على خاطر ولا مر له ببال وأن عكس ذلك هو الذي كان به ذا اغتباط وبفعله ذا اهتبال وإن نسب لذلك المعنى فهو عليه أثقل من الجبال وأشد على قلبه من وقع النبال هذا وعقده التوحيد وصلاته التحميد وملته الغراء وشريعته البيضاء ودينه الحنيف القويم ونبيه الرؤوف الرحيم وكتابه القرآن الحكيم ومطلوبه بالهداية الصراط المستقيم فكيف نعتقد هذه المريبة الكبرى والمنقبة الشهرى لمن عقده التثليث ودينه المليث ومعبوده الصليب وتسميته التصليب وملته المنسوخة وقضيته المفسوخة وختانه التغطيس وغافر ذنبه القسيس وربه عيسى المسيح ونظره ليس البين ولا الصحيح وان ذلك الرب قد ضرج بالدماء وسقي الخل عوض الماء وأن اليهود قتلته مصلوبا وأدركته مطلوبا وقهرته مغلوبا وأنه جزع من الموت وخاف إلى سوى ذلك مما يناسب هذه الأقاويل السخاف فكيف يرجى من هؤلاء الكفرة من الخير مقدار الذرة أو يطمع منهم في جلب المنفعة أو دفع المضرة اللهم احفظ علينا العقل والدين واسلك بنا سبيل المهتدين
ثم قال بعد كلام ما صورته كانت خزانة هذه الدار النصرية مشتملة على كل نفيسة من الياقوت ويتيمة من الجوهر وفريدة من الزمرد وثمينة من الفيروزج وعلى كل واق من الدروع وحام من العدة وماض من الأسلحة وفاخر من الآلة ونادر من الأمتعة فمن عقود فذة وسلوك جمة وأقراط تفضل على قرطي مارية نفاسة فائقة وحسنا رائقا ومن سيوف شواذ في الإبداع غرائب في الإعجاب منسوبات الصفائح في الطبع خالصات الحلى من التبر ومن دروع مقدرة السرد متلاحمة النسج واقية للناس في يوم

الحرب مشهورة النسبة إلى داود نبي الله ومن جواشن سابغة اللبسة ذهبية الحلية هندية الضرب ديباجية الثوب ومن بيضات عسجدية الطرق جوهرية التنضيد زبرجدية التقسيم ياقوتية المركز ومن مناطق لجينية الصوغ عريضة الشكل مزججة الصفح ومن درق لمطية مصمتة المسام لينة المجسة معروفة المنعة صافية الأديم ومن قسي ناصعة الصبغة هلالية الخلقة منعطفة الجوانب زارية بالحواجب إلى آلات فاخرة من أتوار نحاسية ومنابر بلورية وطيافير دمشقية وسبحات زجاجية وصحاف صينية واكواب عراقية وأقداح طباشيرية وسوى ذلك مما لا يحيط به الوصف ولا يستوفيه العد وكل ذلك التهبه شواظ الفتنة والتقمه تيار الخلاف والفرقة فرزئت الدار منه بما يتعذر إتيان الدهور بمثله وتقصر ديار الملوك المؤثلة النعمة عن بعضه فضلا عن كله انتهى كلامه رحمه الله تعالى
رجع - ولما أخذت قواعد الأندلس مثل قرطبة وإشبيلية وطليطلة ومرسية وغيرها انحاز أهل الإسلام إلى غرناطة والمرية ومالقة ونحوها وضاق الملوك بعد اتساعه وصار تنين العدو يلتقم كل وقت بلدا او حصنا ويهصر من دوح تلك البلاد غصنا وملك هذا النزر اليسير الباقي من الجزيرة ملوك بني الأحمر فلم يزالوا مع العدو في تعب وممارسة كما ذكره ابن عاصم قريبا وربما أثخنوا في الكفار كما علم في أخبارهم وانتصروا بملوك فاس بني مرين في بعض الأحايين
ولما قصد ملوك الإفرنج السبعة في المائة الثامنة غرناطة ليأخذوها اتفق أهلها على أن يبعثوا لصاحب المغرب من بني مرين يستنجدونه وعينوا للرسالة الشيخ

أبا اسحاق ابن أبي العاصي والشيخ أبا عبدالله الطنجالي والشيخ ابن الزيات البلشي نفع الله تعالى بهم ثم بعد سفرهم نازل الإفرنج غرناطة بخمسة وثلاثين ألف فارس ونحو مائة الف راجل مقاتل ولم يوافقهم سلطان المغرب فقضى الله تعالى ببركة المشايخ الثلاثة أن كسر النصارى في الساعة التى كسر خواطرهم فيها صاحب المغرب وظهرت في ذلك كرامة لسيدي أبي عبدالله الطنجالي رحمه الله تعالى
ثم إن بني الأحمر ملوك الأندلس الباقية بعد استيلاء الكفار على الجل كانوا في جهاد وجلاد في غالب أوقاتهم ولم يزل ذلك شأنهم حتى أدرك دولتهم الهرم الذي يلحق الدول فلما كان زمان السلطان أبي الحسن على بن سعد النصري الغالبي الأحمري واجتمعت الكلمة عليه بعد أن كان أخوه أبو عبدالله محمد ابن سعد المدعو بالزغل قد بويع بمالقة بعد ان جاء به القواد من عند النصارى وبقي بمالقة برهة من الزمان ثم ذهب إلى أخيه وبقي من بمالقة من القواد والرؤساء فوضى وآل الحال إلى أن قامت مالقة بدعوة السلطان أبي الحسن وانقضت الفتنة واستقل السلطان أبو الحسن بملك ما بقي بيد المسلمين من بلاد الأندلس وجاهد المشركين وافتتح عدة اماكن ولاحت له بارقة الكرة على العدو الكافر وخافوه وطلبوا هدنته وكثرت جيوشه فأجمع على عرضها كلها بين يديه وأعد لذلك مجلسا أقيم له بناؤه خارج الحمراء قلعة غرناطة وكان ابتداء هذا العرض يوم الثلاثاء تاسع عشر ذي الحجة عام اثنين وثمانين وثمانمائة ولم تزل الجنود تعرض عليه كل يوم إلى الثاني والعشرين من محرم السنة التى تليها وهو يوم ختام العرض وكان معظم المتنزهين والمتفرجين بالسبيكة وماقارب ذلك فبعث الله تعالى سيلا عرما على وادي حدره بحجارة وماء غزير كأفواه القرب عقابا من الله سبحانه وتأديبا لهم لمجاهرتهم بالفسق والمنكر واحتمل الوادي ماعلى حافتيه من المدينة من حوانيت ودور ومعاصر وفنادق وأسواق وقناطر وحدائق وبلغ تيار السيل إلى رحبة الجامع الأعظم

ولم يسمع بمثل هذا السيل في تلك البلاد وكان بين رؤساء الإفرنج في ذلك الوقت اختلاف فبعضهم استقل بملك قرطبة وبعض بإشبيلية وبعض بشريش وعلى ذلك كان صاحب غرناطة السلطان أبو الحسن قد استرسل في اللذات وركن الى الراحات وأضاع الأجناد وأسند الأمر إلى بعض وزرائه واحتجب عن الناس ورفض الجهاد والنظر في الملك ليقضي الله تعالى ما شاء وكثرت المغارم والمظالم فأنكر الخاصة والعامة ذلك منه وكان أيضا قد قتل كبار القواد وهو يظن ان النصارى لا يغزون بعد البلاد ولا تنقضي بينهم الفتنة ولا ينقطع الفساد واتفق ان صاحب قشتالة تغلب على بلادها بعد حروب وانقاد له رؤساء الشرك المخالفون ووجدت النصارى السبيل إلى الإفساد والطريق إلى الإستيلاء على البلاد وذلك أنه كان للسلطان أبي الحسن ولدان محمد ويوسف وهما من بنت عمه السلطان أبي عبدالله الأيسر وكان قد اصطفى على أمهما رومية كان لها منه بعض ذرية وكانت حظية عنده مقدمة في كل قضية فخيق ان يقدم أولاد الرومية على أولاد بنت عمه السنية وحدث بين خدام الدولة التنافر والتعصب لميل بعضهم إلى أولاد الحرة وبعض إلى أولاد الرومية وكان النصارى أيام الفتنة بينهم هادنوا السلطان لأمد حددوه وضربوه ولما تم امد الصلح وافق وقته هذا الشان بين أولياء الدولة بسبب الأولاد وتشكى الناس مع ذلك بالوزير والعمال لسوء ما عاملوا به الناس من الحيف والجور فلم يصغ إليهم وكثر الخلاف واشتد الخطب وطلب الناس تأخير الوزير وتفاقم الأمر وصح عند النصارى لعنهم الله تعالى ضعف الدولة واختلاف القلوب فبادروا إلى الحامة فأخذوها غدرا آخر أيام الصلح على يد صاحب قادس سنة سبع وثمانين وثمانمائة وغدوا للقلعة وتحصنوا بها ثم شرعوا في أخذ البلد فملأوا الطرق خيلا ورجالا وبذلوا السيف فيمن ظهر من المسلمين ونهبوا

الحريم والناس في غفلة نيام من غير استعداد كالسكارى فقتل من قضي الله تعالى بتمام أجله وهرب البعض وترك اولاده وحريمه واحتوى العدو على البلد بما فيه وخرج العامة والخاصة من أهل غرناطة عندما بلغهم العلم وكان النصارى عشرة آلاف بين ماش وفارس وكانوا عازمين على الخروج بما غنموه وإذا بالسرعان من أهل غرناطة وصلوا فرجع العدو الى البلد فحاصرهم المسلمون وشددوا في ذلك ثم تكاثر المسلمون خيلا ورجالا من جميع بلاد الأندلس ونازلوا الحامة وطمعوا في منع الماء عن العدو وتبين للعامة ان الجند لم ينصحوا فأطلقوا ألسنتهم بأقبح الكلام فيهم وفي الوزير وبينما هم كذلك إذا بالنذير جاء ان النصارى أقبلوا في جمع عظيم لإغاثة من بالحامة من النصارى فأقلع جند المسلمين من الحامة وقصدوا ملاقاة الواردين من بلاد العدو ولما علم بهم العدو ولوا الأدبار من غير ملاقاة محتجين بقلتهم وكان رئيسهم صاحب قرطبة
ثم إن صاحب إشبيلية جمع جندا عظيما من جيش النصارى الفرسان والرجالة واتى لنصرة من في الحامة من النصارى وعندما صح هذا عند العسكر اجتمعوا وأشاعوا عند الناس انهم خرجوا بغير زاد ولا استعداد والصلاح الرجوع إلى غرناطة ليستعد الناس ويأخذوا ما يحتاج إليه الحصار من العدة والعدد فعندما أقلع المسلمون عنها دخلتها النصارى والواردون وتشاوروا في اخلائها أو سكناها واتفقوا على الاقامة بها وحصنوها وجعلوا فيها جميع ما يحتاج إليه وانصرف صاحب إشبيلية وترك أجناده وفرق فيهم الأموال ثم عاد المسلمون لحصارها وضيقوا عليها وطمعوا فيها من جهة موضع كان النصارى في غفلة عنه ودخل على النصارى جملة وافرة من المسلمين وخاب السعد بذلك بأن شعر بهم النصارى فعادوا عليهم وتردى بعضهم من أعلى الجبل وقتل أكثرهم وكانوا من أهل بسطة ووادي آش فانقطع أمل الناس من الحامة ووقع الإياس من ردها

وفي جمادى الأولى من السنة تواترت الأخبار أن صاحب قشتالة أتى في جنود لا تحصى ولا تحصر فاجتمع الناس بغرناطة وتكلموا في ذلك وإذا به قد قصد لوشة ونازلها قصدا ان يضيفها إلى الحامة وجاء بالعدة والعدد واغارت على النصارى جملة من المسلمين فقتلوا من لحقوه وأخذوا جملة من المدافع الكبار ثم جاءت جماعة أخرى من أهل غرناطة وناوشوا النصارى فألجؤوهم إلى الخروج عن الخيام وأخذوها وغيرها فهرب النصارى وتركوا طعاما كثيرا وآلة ثقيلة وذلك في السابع والعشرين من جمادى الأولى من السنة المذكورة
وفي هذا اليوم بعينه هرب الأميران أبو عبدالله محمد وأبو الحجاج يوسف خوفا من أبيهما أن يفتك بهما بإشاره حظيته الرومية ثريا واستقرا بوادي آش وقامت بدعوتهما ثم بايعتهما تلك البلاد المرية وبسطة وغرناطة وهرب أبوهما السلطان أبو الحسن إلى مالقة
وفي صفر سنة ثمان وثمانين وثمانمائة اجتمع جميع رؤساء النصارى وقصدوا قرى مالقة وبلش في نحو الثمانية آلاف وفيهم صاحب إشبيلية وصاحب شريش وصاحب إستجة وصاحب أنتقيرة وغيرهم فلم يتمكنوا من اخذ حصن ونشبوا في اوعار ومضايق وخنادق وجبال واجتمع عليهم أهل بلش ومالقة وصار المسلمون ينالون منهم في كل محل حتى بلغوا مالقة ففر كبيرهم ومن بقي أسر أو قتل وكان السلطان ابو الحسن في ذلك الوقت قد تحرك لنواحي المنكب وبقي أخوه أبو عبدالله بمالقة ومعه بعض الجند وقتل من النصارى في هذه الوقعة نحو ثلاثة آلاف وأسر نحو ألفين من جملتها خال السلطان وصاحب إشبيلية وصاحب شريش وصاحب انتقيرة وغيرهم وهم نحو الثلاثين من الأكابر وغنم المسلمون غنيمة وافرة من الأنفس والأموال والعدة والذهب والفضة وبعقب ذلك سافر أهل مالقة لبلاد النصارى فكسروا هنالك كسرة شنيعة قتل فيها أكثر قواد غرب الأندلس

ولما استقر السلطان ابو عبدالله ابن السلطان أبي الحسن بغرناطة وطاعت له البلاد غير مالقة والغربية تحرك السلطان أبو الحسن على المنكب ونواحيها وأتى ابنه السلطان أبو عبدالله في جند غرناطة والجهة الشرقية والتقوا في موضع يعرف بالدب فكسر السلطان أبو عبدالله
ولما سمع السلطان أبو عبدالله صاحب غرناطة بان عمه بمالقة غنم من النصارى أعمل السفر للغزو بأهل بلاده من غرناطة والشرقية وذلك في ربيع الأول من السنة إلى ان بلغ نواحي لشانة وقتل وأسر وغنم فتجمعت عليه النصارى من جميع تلك النواحي ومعه كبير قبرة وحالوا بين المسلمين وبلادهم في جبال وأوعار فانكسر الجند وأسر من الناس كثير وقتل آخرون وكان في جملة من أسر السلطان ابو عبدالله ولم يعرف ثم علم به صاحب لشانة وأراد صاحب قبرة أن يأخذه منه فهرب به ليلا وبلغه الى صاحب قشتالة ونال بذلك عنده رفعة على جميع القواد وتفاءل به فقلما توجه لجهة او بعث سرية إلا وبعثه فيها
ولما أسر السلطان أبو عبدالله اجتمع كبراء غرناطة وأعيان الأندلس وذهبوا لمالقة للسلطان أبي الحسن وذهبوا به لغرناطة وبايعوه مع انه كان أصابه مثل الصرع إلى أن ذهب بصره وأصابه ضرر ولما تعذر أمره قدم أخاه أبا عبدالله وخلع له نفسه ونزل بالمنكب فأقام بها إلى أن مات واستقل اخوه أبو عبدالله المعروف بالزغل بالملك بعده
واما أبو عبدالله ابن السلطان أبي الحسن فهو في أسر العدو
وفي شهر ربيع الآخر من سنة تسعين وثمانمائة خرج العدو في قوة إلى نواحي مالقة بعد ان كان في السنة قبلها استولى على حصون فاستولى هذه السنة على بعض الحصون وقصد ذكوان فهد أسوارها وكان بها جملة من اهل الغربية ورندة ودخل ألف مدرع ذكوان عنوة فأظفر الله تعالى بهم أهل ذكوان فقتلوهم جميعا ثم طلبوا الأمان وخرجوا

ثم انتقل في جمادى الأولى إلى رندة وحاصرها وكان اهلها خرجوا إلى نصرة ذكوان وسواها فحاصر رندة وهد أسوارها وخرج اهلها على الأمان وطاعت له جميع تلك البلاد ولم يبق بغربي مالقة إلا من دخل في طاعة الكافر وتحت ذمته وضيق بمالقة وفرق حصصه على بعض الحصون ليحاصروا مالقة وعاد إلى بلاده
وفي تاسع عشر شعبان من العام سافر صاحب غرناطة لتحصين بعض البلاد وبينما هو كذلك إذا بالخبر جاءه ان محلة العدو خارجة لذلك الحصن
وفي صبيحة الثاني والعشرين من شعبان أصبحت جنودالنصارى على الحصن كانوا قد سروا إليه ليلا وأصبحوا عند الفجر مع جند المسلمين فقاتلهم المسلمون من غير تعبية فاختل نظام المسلمين ووصل النصارى إلى خباء السلطان ثم التحم القتال واشتد وقوى الله تعالى المسلمين فهزموا النصارى شر هزيمة وقتل منهم خلائق وقصر المسلمون خوفا من محلة سلطان النصارى إذ كانت قادمة في أثر هذه ولما رجعت إليهم الفلول رجعوا القهقرى واستولى المسلمون على غنائم كثيرة وآلات وجعلوا ذلك كله بالحصن ولم يحدث شيء بعد إلى رمضان فتوجه الكافر لحصن قنبيل ونازله وهد أسواره ولما رأى المسلمون ان الحصن قد دخل طلبوا الأمان وخرجوا بأموالهم واولادهم مؤمنين وفر الناس من تلك المواضع من البراجلة هاربين واستولى العدو على عدة حصون مثل مشاقر وحصن اللوز وضيق العدو بجميع بلاد المسلمين ولم يتوجه لناحية إلا استأصلها ولا قصد جهة إلا اطاعته وحصلها ثم إن العدو دبر الحيلة مع ما هو عليه من القوة فبعث إلى السلطان أبي عبدالله الذي تحت أسره وكساه ووعده بكل ما يتمناه وصرفه لشرقي بسطة واعطاه امال والرجال ووعده ان من دخل تحت حكمه من المسلمين وبايعه من أهل البلاد فإنه في الهدنة والصلح والعهد والميثاق الواقع بين السلطانين وخرج لبلش فأطاعه اهلها ودخلت بلش في طاعته ونودي بالصلح في الأسواق وصرخت

به في تلك البلاد الشياطين وسرى هذا الأمر حتى بلغ أرض البيازين من غرناطة وكانوا من التعصب وحمية الجاهلية والجهل بالمقام الذي لا يخفى وتبعهم بعض المفسدين المحبين في تفريق كلمة المسلمين وممن مال الى الصلح عامة غرناطة لضعف الدولة ووسوس للناس شياطين الفتنة وسماسرتها بتقبيح وتحسين إلى أن قام ربض البيازين بدعوة السلطان الذي كان مأسورا عند المشركين ووقعت فتنة عظيمة في غرناطة نفسها بين المسلمين لما أراده الله تعالى من استيلاء العدو على تلك الأقطار ورجموا البيازين بالحجارة من القلعة وعظم الخطب وكانت الثورة ثالث شهر ربيع لأول عام احد وتسعين وثمانمائة ودامت الفتنة إلى منتصف جمادى الأولى من العام وبلغ الخبر ان السلطان الذي قاموا بدعوته قدم على لوشة ودخلها على وجه رجاء الصلح بينه وبين عمه الزغل صاحب قلعة غرناطة بان العم يكون له الملك وابن أخيه تحت إيالته بلوشة او بأي المواضع أحب ويكونون يدا واحدة على عدو الدين وبينما هم في هذا إذا بصاحب قشتالة قد خرج بجند عظيم ومحلة قوية وعدد وعدد ونازل لوشة حيث السلطان أبو عبدالله الذي كان أسيرا وضيق بها الحصار وقد كان دخلها جماعة من اهل البيازين بنية الجهاد والمعاضدة وليهم وخاف اهل غرناطة وسواها من أن يكون ذلك حيلة فلم يأت لنصرتهم غير البيازين واشتد عليهم الحصار وكثرت الأقاويل وصرحت الألسن بان ذلك باتفاق بين السلطان المأسور وصاحب قشتالة ودخل على أهل لوشة في ربضهم وخافوا من الاستئصال فطلبوا الأمان في اموالهم وأنفسهم وأهليهم فوفى لهم صاحب قشتالة بذلك واخذ البلد في السادس والعشرين لجمادى الأولى سنة احدى وتسعين وثمانمائة وهي أعني لوشة كانت بلد سلف الوزير لسان الدين ابن الخطيب كما ذكرناه مستوفى في غير هذا الموضع وهاجر أهل لوشة الى غرناطة وبقي السلطان أبو عبدالله الذي كان مأسورا مع النصراني بلوشة فصرح عند ذلك أهل غرناطة بانه ماجاء للوشة إلا ليدخل إليها العدو الكافر

ويجعلها فداء له وقيل إنه سرح له حينئذ ابنه إذ كان مرهونا في الفداء وكثر القيل والقال بينهم وبين اهل البيازين في ذلك وظهر بذلك ما كان كامنا في القلوب ثم رجع صاحب قشتالة إلى بلاده ومعه السلطان المذكور
وفي نصف جمادى الثانية خرج إلى إلبيرة فهد بعض الأسوار وتوعد الناس فأعطاه اهله الحصن على الأمان فخرجوا وقدموا على غرناطة ثم فعل بحص المتلين مثل ذلك وقاتلوا قتالا شديدا ولما ضاقوا ذرعا اعطوه بالمقادة على الأمان فخرجوا الى غرناطة وأطاع أهل قلنبيرة من غير قتال فخرجوا إلى غرناطة ثم وصل العدو إلى منت فريد فرمى عليهم بالمحرقات وغيرها وأحرق دار العدة فطلبوا الأمان وخرجوا إلى غرناطة وانتقل للصخرة فاخذها وحصن هذه الحصون كلها وشحنها بالرجال والعدة ورتب فيها الخيل لمحاصرة غرناطة ثم عاد الكافر لبلاده وتعاهد مع السلطان الذي في أسره بأن من دخل في حكمه وتحت امره فهو في الأمان التام وأشعاعوا ان ذلك بسبب فتنة وقعت بينه وبين صاحب إفرنسية فخرج لبلش واطاعته ثم بعث لمن والاه من البلاد انه اتى بصلح صحيح وعقد وثيق وان من دخل تحت أمره أمن من حركة النصارى عليه وأن معه وثائق بخطوط السلاطين فلم يقبل الناس ذلك إلا القليل منهم مثل اهل البيازين فلهجوا بهذا الصلح وأقاموا على صحته الدلائل وتكلموا في اهل غرناطة بالكلام القبيح مع تمكن الفتنة والعداوة في القلوب فبعث له اهل البيازين انه إذا قدم بهذه الحجج لتلك الجهات اتبعه الناس وقاموا بدعوته من غير التباس فأتى على حين غفلة ولم يكن يظن إتيانه بنفسه فاتى البيازين ودخلها ونادى في أسواقها بالصلح التام الصحيح فلم يقبل ذلك منه أهل غرناطة وقالو ما بعهد لوشة من قدم ودخل ربض البيازين سادس شوال سنة احدى وتسعين وثمانمائة وعمه بالحمراء

انتقل للقلعة واشتد امر الفتنة ثم إن صاحب قشتالة أمد صاحب البيازين بالرجال والعدة والمال والقمح والبارود وغيرها واشتد أمره بذلك وعظمت أسباب الفتنة وفشا في الناس القتل والنهب ولم يزل الامر كذلك إلى السابع والعشرين من محرم سنة اثنتين وتسعين وثمانمائة فعزم اهل غرناطة مع سلطانهم على الدخول على البيازين عنوة وتكلم أهل العلم فيمن انتصر بالنصارى ووجوب مدافعته ومن أطاعه عصى الله ورسوله ودخلوا على اهل البيازين دخول فشل ثم إن صاحب غرناطة بعث إلى الأجناد والقواد من أهل بسطة ووادي آش والمرية والمنكب وبلش ومالقة وجميع الاقطار وتجمعوا بغرناطة وتعاهدوا وتحالفوا على أن يدهم واحدة على اعداء الدين ونصرة من قصده العدو من المسلمين وخاف صاحب البيازين فبعث لصاحب قشتالة في ذلك فخرج بمحلته قاصدا نواحي بلش وكان صاحب البيازين بعث وزيره إلى ناحية مالقة وإلى حصن المنشأة يذكر ويخوف ومعه النسخة من عقود الصلح فقامت مالقة وحصن المنشأة بدعوته ودخلوا في إيالته خوفا من صاحب قشتالة وصولته وطمعا في الصلح وصحته ثم اجتمع كبار مالقة مع أهل بلش وذكروا لهم سبب دخولهم في هذه الدعوة والسبب الحامل لهم على ذلك فلم يرجع اهل بلش عما عاهدوا عليه اهل غرناطة وسائر الأندلس من العهود والمواثيق
وخرج صاحب قشتالة قاصدا بلش مالقة ونزل عليها في ربيع الثاني سنة اثنتين وتسعين وثمانمائة وحاصرها ولما صح عند صاحب غرناطة ذلك اجتمع بالناس فأشاروا بالمسير لإغاثة بلش للعهد الذي عقدوه واتى اهل وادي آش وغيرها وحشود البشرات وخرج صاحب غرناطة منها في الرابع والعشرين لربيع الثاني من السنة ووصل بلش فوجد العدو نازلا عليها برا وبحرا فنزل بجبل هنالك وكثر لغط الناس وحملوا على النصارى من غير تعبية وحين حركتهم للحملة بلغ السلطان الزغل ان غرناطة بايعت صاحب البيازين فالتقوا مع النصارى فشلين وقبل الالتحام انهزموا وتبددت جموعهم مع كون

النصارى خائفين وجلين منهم ولا حول ولا قوة إلا بالله فرجعوا منهزمين وقد شاع عند الخواص ثورة غرناطة على السلطان فقصدوا وادى آش وعاد النصارى الى بلش بعد ان كانوا رتبوا جيوشهم للقاء السلطان واهل غرناطة فلما عادوا إلى بلش دخلوا عنوة ربضها وضيقوا بها وكانت ثورة غرناطة خامس جمادى الأولى
ولما رأى اهل بلش تكالب العدو عليهم وادبار جيوش المسلمين عنهم طلبوا الأمان فخرجوا يوم الجمعة عاشر جمادى الأولى من السنة واطاعت النصارى جميع البلاد التى بشرقي مالقة وحصن قمارش
ثم انتقل العدو الى حصار مالقة وكان أهل مالقة قد دخلوا في الصلح وأطاعوا صاحب البيازين وأتى إليها النصارى بالميرة ولما نزل بلش بعثوا هدية لصاحب قشتالة مع قائدهم وزير صاحب البيازين وقائد شريش الذي كان مأسورا عندهم فلم يلتفت إليهم صاحب قشتاله لقيام جبل فاره وهو حصن مالقة بدعوة صاحب وادي آش وارتحل صاحب قشتالة إلى مالقة ونازلها برا وبحرا وقاتله أهلها قتالا عظيما بمدافعهم وعدتهم وخيلهم ورجلهم وطال الحصار حتى اداروا على مالقة من البر الخنادق والسور والأجفان من البحر ومنع الداخل إليها ولم يدخلها غير جماعة من المرابطين حال الحصار وحاربوا حربا شديدا وقربوا المدافع ودخلوا الأرباض وضيقوا عليهم بالحصار إلى أن فني ما عندهم من الطعام فأكلوا المواشي والخيل والحمير وبعثوا الكتب للعدوتين وهم طامعون في الإغاثة فلم يأت إليهم احد وأثر فيهم الجوع وفشا في أهل نجدتهم القتل ولم يظهروا مع ذلك هلعا ولا ضعفا إلى أن ضعف حالهم ويئسوا من ناصر او مغيث من البر والبحر فتكلموا مع النصارى في الأمان كما وقع ممن سواهم فعوتبوا على ماصدر منهم وما وقع من الجفاء وقيل لهم

لما تحقق العدو التجاءهم تؤمنون من الموت وتعطون مفتاح القلعة والحصن والسلطان ما يعاملكم إلا بالخير اذا فعلتم وهذا خداع من الكفار فلما تمكن العدو منهم أخذهم أسرى وذلك اواخر شعبان سنة اثنتين وتسعين وثمانمائة ولم يبق في تلك النواحي موضع إلا وملكه النصارى
وفي عام ثلاثة وتسعين وثمانمائة خرج العدو الكافر إلى الشرقية وبلش التى كانت في الصلح فاستولى عليها واحتجوا بالصلح فلم يلتفت إليهم وأخذ تلك البلاد كلها صلحا ثم رجع لبلاده
وفي عام أربعة وتسعين وثمانمائة خرج لبعض حصون بسطة فأخذها بعد حرب واستولى على ما هنالك من الحصون ثم نازل بسطة وكان صاحب وادي آش لما تعين العدو بمحلته بعث جميع جنده وقواده وحشد اهل نجدة تلك البلاد من وادي آش والمرية والمنكب والبشرات فلما نزل العدو بسطة اتت الحشود المذكورة ودخلوها ووقعت بين المسلمين والنصارى حروب عظيمة حتى تقهقر العدو عن قرب بسطة ولم يقدر على منع الداخل والخارج وبقي الأمر كذلك رجبا وشعبان ورمضان ومحلات المسلمين نازلة خارج البلد ثم ان العدو شد الحصار وجد في القتال وقرب المدافع والآلات من الأسوار حتى منع الداخل والخارج بعض منع واشتد الحال في ذي القعدة وذي الحجة وقل الطعام وفي آخر ذي الحجة اختبروا الطعام في خفية فلم يجدوا الا القليل وكانوا طامعين في اقلاع العدو عند دخول فصل الشتاء وإذا بالعدو بنى وعزم على الإقامة وقوي اليأس على المسلمين فتكلموا في الصلح على ما فعل غيرهم من الأماكن وظن العدو أن الطعام لم يبق منه شيء وان ذلك هو الملجىء لهم للكلام وفهموا عنه ذلك فاحتالوا في إظهار جميع انواع الطعام بالأسواق وأبدوا للعدو القوة مع كونهم في غاية الضعف والحرب خدعة فدخل بعض كبار النصارى للتكلم معهم وهو عين ليرى ما عليه البلد وما صفة الناس وعند تحققهم بقاء الطعام والقوة أعطوهم الأمان على أنفسهم دون من اعانهم من أهل

وادي آش والمنكب والمرية والبشرات فإن دفعوا هؤلاء عنهم صح لهم الأمان وإلا فلا فلم يوافق أهل البلد على هذا وطال الكلام وخاف أهل البلد من كشف الستر فاتفقوا على ان تكون العقدة على بسطة ووادي آش والمرية والمنكب والبشرات ففعلوا ذلك ودخل جميع هؤلاء فى طاعة العدو على شروط شرطوها وأمور أظهروا بعضها للناس وبعضها مكتوم وقبض الخواص مالا وحصلت لهم فوائد
وفي يوم الجمعة عاشر محرم سنة خمس وتسعين وثمانمائة دخل النصارى قلعة بسطة وملكوها ولم يعلم القوام كيفية ما وقع عليه الشرط والالتزام وقالوا لهم من بقي بموضعه فهو آمن ومن انصرف خرج بماله وسلاحه سالما ثم أخرج العدو المسلمين من البلد وأسكنهم بالربض خوف الثورة ثم ارتحل العدو للمرية وأطاعته جميع تلك البلاد ونزل صاحب وادي آش للمرية ليلقاه بها فلقيه وأخذ الحصون والقلاع والبروج وبايع له السلطان أبو عبدالله على أن يبقى تحت طاعته في البلاد التى تحت حكمه كما أحب فوعده بذلك وانصرف معه إلى وادي آش ومكنه من قلعتها أوائل صفر من العام المذكور وأطاعته جميع البلاد ولم يبق غير غرناطة وقراها وجميع ماكان في حكم صاحب وادي آش صار للنصارى في طرفة عين وجعل في كل قلعة قائدا نصرانيا وكان قائد من المسلمين أصحاب هذه البلاد دفع لهم الكفار مالا من عند صاحب قشتالة إكراما منه لهم بزعمهم فتبا لعقولهم وما ذلك منه إلا توفير لرجاله وعدته ودفع بالتى هي أحسن ثم أخذ برج الملاحة وغيره وبناه وحصنه وشحن الجميع بالرجال والذخيرة وأظهر الصحبة والصلح مع صاحب وادي آش وأباح الكلام بالسوء في حق صاحب غرناطة مكرا منه وخداعا ودهاء ثم بعث في السنة نفسها رسلا لصاحب غرناطة أن يمكنه من الحمراء كما مكنه عمه من القلاع والحصون ويكون تحت إيالته ويعطيه مالا جزيلا على ذلك وأي بلاد شاء من الأندلس يكون فيها تحت حكمه قالوا

وأطمعه صاحب غرناطة في ذلك فخرج العدو في محلاته لقبض الحمراء والاستيلاء على غرناطة وهذا في سر بين السلطانين فجمع صاحب غرناطة الأعيان والكبراء والأجناد والفقهاء والخاصة والعامة وأخبرهم بما طلب منه العدو وأن عمه أفسد عليه الصلح الذي كان بينه وبين صاحب قشتالة بدخوله تحت حكمه وليس لنا إلا احدى خصلتين الدخول تحته أو القتال فاتفق الرأي على الجهاد والوفاء بما عقده من صلح وخرج بمحلته ثم إن صاحب قشتالة نزل على مرج غرناطة وطلب من أهل غرناطة الدخول في طاعته وإلا أفسد عليهم زروعهم فأعلنوا بالمخالفة فأفسد الزرع وذلك في رجب سنة خمس وتسعين وثمانمائة ووقعت بين المسلمين والعدو حروب كثيرة ثم ارتحل العدو عند الإياس منهم ذلك الوقت وهدم بعض الحصون وأصلح برج همدان والملاحة وشحنهما بما ينبغي ثم رجع إلى بلاده وعند انصرافه نزل صاحب غرناطة بمن معه إلى بعض الحصون التى في يد النصارى ففتحها عنوة وقتل من فيها من النصارى وأسكنها المسلمين ورجع لغرناطة ثم أعمل الرحلة الى البشرات في رجب المذكور فأخذ بعض القرى وهرب من بها من النصارى والمرتدين أصحابهم ثم أتى حصن أندرش فتمكن منه وأطاعته البشرات وقامت دعوة الإسلام بها وخرجوا عن ذمة النصارى وهنالك عمه أبو عبدالله محمد بن سعد بجملة وافرة فقصدهم في شعبان من غرناطة واستقر عمه بالمرية واطاعت صاحب غرناطة جميع البشرات إلى برجة ثم تحرك عمه مع النصارى إلى أندرش فأخذها لرمضان وخرج صاحب غرناطة لقرية همدان وكان برجها العظيم مشحونا بالرجال والعدة والطعام فحاصره أهل غرناطة ونصبوا عليه انواعا من الحرب ومات فيه خلق كثير منهم ونقبوا البرج الأول والثاني والثالث وألجؤوهم للبرج الكبير وهو القلعة فنقبوها ثم أسروا من كان بها وهم ثمانون ومائة واحتووا على ما هنالك من عدة وآلات حرب

وفي آخر رمضان خرج صاحب غرناطة بقصد المنكب فلما وصل حصن شلوبانية نزله وأخذه عنوة بعد حصاره وامتنعت القلعة وجاءتهم الأمداد من مالقة بحرا فلم تقدر على شيء وضيقوا بالقلعة فوصلهم الخبر أن صاحب قشتالة خرج بمحلته لمرج غرناطة فارتحل صاحب غرناطة عن قلعة شلوبانية وجاء غرناطة ثالث شوال وبعد وصولهم غرناطة وصل العدو إلى المرج ومعه المرتدون والمدجنون وبعد ثمانية أيام ارتحل العدو لبلاده بعد هدم برج الملاحة وإخلائه وبرج آخر وتوجه إلى وادي آش فأخرج المسلمين منها ولم يبق بها مسلم في المدينة ولا الربض وهدم قلعة أندرش وحاف على البلاد ولما رأى ذلك السلطان الزغل وهو أبو عبداله محمد بن سعد عم سلطان غرناطة بادر بالجواز لبر العدوة فجاز لوهران ثم لتلمسان واستقر بها وبها نسله إلى الآن يعرفون ببني سلطان الأندلس ودخل صاحب قشتالة لأقاصي مملكته بسبب فتنة بينه وبين الإفرنج ثم تحرك صاحب غرناطة على برشانة وحاصرها وأخذها وأسر من كان بها من النصارى وأرادت فتيانه القيام على النصارى فجاء صاحب وادي آش ففتك فيهم
وفي ذي القعدة من السنة رفع صاحب غرناطة من السند وخلت تلك الأوطان من الانس
وفي ثاني عشري جمادى الآخرة سنة ست وتسعين وثمانمائة خرج العدو بمحلاته إلى مرج غرناطة وأفسد الزرع ودوخ الأرض وهدم القرى وأمر ببناء موضع بالسور والحفير وأحكم بناءه وكانوا يذكرون أنه عزم على الانصراف فإذا به صرف الهمة إلى الحصار والإقامة وصار يضيق على غرناطة كل يوم ودام القتال سبعة أشهر واشتد الحصار بالمسلمين غير ان النصارى على بعد والطريق بين غرناطة والبشرات متصلة بالمرافق والطعام من ناحية

جبل شلير إلى أن تمكن فصل الشتاء وكلب البرد ونزل الثلج فانسد باب المرافق وقطع الجالب وقل الطعام واشتد الغلاء وعظم البلاء واستولى العدو على أكثر الأماكن خارج البلد ومنع المسلمين من الحرث والسبب وضاق الحال وبان الاختلال وعظم الخطب وذلك اول عام سبعة وتسعين وثمانمائة وطمع العدو في الاستيلاء على غرناطة بسبب الجوع والغلاء دون الحرب ففر ناس كثيرون من الجوع الى البشرات ثم اشتد الأمر في شهر صفر من السنة وقل الطعام ثم تفاقم الخطب فاجتمع ناس مع من يشار اليه من أهل العلم وقالوا انظروا في أنفسكم وتكلموا مع سلطانكم فأحضر السلطان أهل الدولة وأرباب المشورة وتكلموا في هذا المعنى وأن العدو يزداد مدده كل يوم ونحن لا مدد لنا وكان ظننا انه يقلع عنا في فصل الشتاء فخاب الظن وبنى وأسس وأقام وقرب منا فانظروا لأنفسكم وأولادكم فاتفق الرأي على ارتكاب أخف الضررين وشاع أن الكلام وقع بين النصارى ورؤساء الأجناد قبل ذلك في اسلام البلد خوفا على نفوسهم وعلى الناس ثم عددوا مطالب وشروطا أرادوها وزادوا أشياء على ما كان في صلح وادي آش منها أن صاحب رومة يوافق على الالتزام والوفاء بالشرط إذا امكنوه من حمراء غرناطة والمعاقل والحصون ويحلف على عادة النصارى في العهود وتكلم الناس في ذلك وذكروا أن رؤساء أجناد المسلمين لما خرجوا للكلام في ذلك امتن عليهم النصارى بمال جزيل وذخائر ثم عقدت بينهم الوثائق على شروط قرئت على أهل غرناطة فانقادوا إليها ووافقوا عليها وكتبوا البيعة لصاحب قشتالة فقبلها منهم ونزل سلطان غرناطة من الحمراء
وفي ثاني ربيع الأول من السنة أعني سنة سبع وتسعين وثمانمائة استولى النصارى على الحمراء ودخلوها بعد أن استوثقوا من أهل غرناطة بنحو خمسمائة من الأعيان رهنا خوف الغدر وكانت الشروط سبعة وستين منها تأمين الصغير والكبير في النفس والأهل والمال وإبقاء الناس في أماكنهم ودورهم ورباعهم

وعقارهم ومنها إقامة شريعتهم على ماكانت ولا يحكم احد عليهم إلا بشريعتهم وأن تبقى المساجد كما كانت والأوقاف كذلك وأن لا يدخل النصارى دار مسلم ولا يغصبوا أحدا وأن لا يولى على المسلمين إلا مسلم أو يهودي ممن يتولى عليهم من قبل سلطانهم قبل وأن يفتك جميع من أسر في غرناطة من حيث كانوا وخصوصا أعيانا نص عليهم ومن هرب من أسارى المسلمين ودخل غرناطة لا سبيل عليه لمالكه ولا سواه والسلطان يدفع ثمنه لمالكه ومن أراد الجواز للعدوة لا يمنع ويجوزون في مدة عينت في مراكب السلطان لا يلزمهم الا الكراء ثم بعد تلك المدة يعطون عشر مالهم والكراء وان لا يؤخذ أحد بذنب غيره وأن لا يقهر من أسلم على الرجوع للنصارى ودينهم وأن من تنصر من المسلمين يوقف أياما حتى يظهر حاله ويحضر له حاكم من المسلمين وآخر من النصارى فإن أبى الرجوع إلى الإسلام تمادى على ما أراد ولا يعاتب على من قتل نصرانيا أيام الحرب ولا يؤخذ منه ما سلب من النصارى أيام العداوة ولا يكلف المسلم بضيافة أجناد النصارى ولا يسفر لجهة من الجهات ولا يزيدون على المغارم المعتادة وترفع عنهم جميع المظالم والمغارم المحدثة ولا يطلع نصراني للسور ولا يتطلع على دور المسلمين ولا يدخل مسجدا من مساجدهم ويسير المسلم في بلاد النصارى آمنا في نفسه وماله ولا يجعل علامة كما يجعل اليهود وأهل الدجن ولا يمنع مؤذن ولا مصل ولا صائم ولا غيره من امور دينه ومن ضحك منه يعاقب ويتركون من المغارم سنين معلومة وان يوافق على كل الشروط صاحب رومة ويضع خط يده وامثال هذا مما تركنا ذكره
وبعد انبرام ذلك ودخول النصارى للحمراء والمدينة جعلوا قائدا بالحمراء وحكاما ومقدمين بالبلد ولما علم ذلك أهل البشرات دخلوا في هذا الصلح وشملهم حكمه على هذه لشروط ثم امر العدو الكافر ببناء ما يحتاج إليه في

الحمراء وتحصينها وتجديد بناء قصورها وإصلاح سورها وصار الطاغية يختلف إلى الحمراء نهارا ويبيت بمحلته ليلا إلى أن اطمأن من خوف الغدر فدخل المدينة وتطوف بها وأحاط خبرا بما يرومه ثم أمر سلطان المسلمين أن ينتقل لسكنى البشرات وانها تكون له وسكناه بأندرش فانصرف إليها وأخرج الأجناد منها ثم احتال في ارتحاله لبر العدوة وأظهر أن ذلك طلبه منه المذكور فكتب لصاحب المرية أنه ساعة وصول كتابي هذا لا سبيل لأحد ان يمنع مولاي أبا عبدالله من السفر حيث أراد من بر العدوة ومن وقف على هذا الكتاب فليصرفه ويقف معه وفاء بما عهد له فصرف في الحين بنص هذا الكتاب وركب البحر ونزل بمليلة واستوطن فاسا وكان قبل طلب الجواز لناحية مراكش فلم يسعف بذلك وحين جوازه لبر العدوة لقي شدة وغلاء ووباء
ثم إن النصارى نكثوا العهد ونقضوا الشروط عروة عروة إلى ان آل الحال لحملهم على المسلمين على التنصر سنة أربع وتسعمائة بعد امور وأسباب أعظمها وأقواها عليهم أنهم قالوا إن القسيسين كتبوا على جميع من كان أسلم من النصارى ان يرجعوا قهرا للكفر ففعلوا ذلك وتكلم الناس ولا جهد لهم ولا قوة ثم تعدوا إلى أمر آخر وهو ان يقولوا للرجل المسلم إن جدك كان نصرانيا فأسلم فترجع نصرانيا ولما فحش هذا الأمر قام أهل البيازين على الحكام وقتلوهم وهذا كان السبب للتنصر قالوا لأن الحكم خرج من السلطان أن من قام على الحاكم فليس إلا الموت إلا أن يتنصر فينجو من الموت وبالجملة فإنهم تنصروا عن آخرهم بادية وحاضرة وامتنع قوم من التنصر واعتزلوا الناس فلم ينفعهم ذلك وامتنعت قرى واماكن كذلك منها بلفيق واندرش وغيرهما فجمع لهم العدو الجموع واستأصلهم عن آخرهم قتلا وسبيا إلا ما كان من جبل بللنقة فإن الله تعالى اعانهم على عدوهم وقتلوا منهم مقتلة عظيمة مات فيها صاحب قرطبة وأخرجوا على الأمان إلى فاس بعيالهم وما خف من مالهم دون الذخائر ثم بعد هذا كله كان من أظهر التنصر من المسلمين

يعبد الله في خفية ويصلي فشدد عليهم النصارى في البحث حتى انهم أحرقوا منهم كثيرا بسبب ذلك ومنعوهم من حمل السكين الصغيرة فضلا عن غيرها من الحديد وقاموا في بعض الجبال على النصارى مرارا ولم يقيض الله لهم ناصرا إلى ان كان إخراج النصارى إياهم بهذا العصر القريب اعوام سبعة عشر وألف فخرجت ألوف بفاس وألوف أخر بتلمسان من وهران وجمهورهم خرج بتونس فتسلط عليهم الأعراب ومن لا يخشى الله تعالى في الطرقات ونهبوا اموالهم وهذا ببلاد تلمسان وفاس ونجا القليل من هذه المعرة واما الذين خرجوا بنواحي تونس فسلم أكثرهم وهم لهذا العهد عمروا قراها الخالية وبلادها وكذلك بتطاوين وسلا ومتيجة الجزائر ولما استخدم سلطان المغرب الأقصى منهم عسكرا جرارا وسكنوا سلا كان منهم من الجهاد في البحر ماهو مشهور الآن وحصنوا قلعة سلا وبنوا بها القصور والدور والحمامات وهم الآن بهذا الحال ووصل جماعة إلى القسطنطينية العظمى وإلى مصر والشام وغيرها من بلاد الإسلام وهم لهذا العهد على ما وصف والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين
والسلطان المذكور الذي أخذت على يده غرناطة هو أبو عبدالله محمد الذي انقرضت بدولته مملكة الإسلام بالأندلس ومحيت رسومها ابن السلطان أبي الحسن ابن السلطان سعد ابن الأمير على ابن السلطان يوسف ابن السلطان محمد الغني بالله واسطة عقدهم ومشيد مبانيهم الأنيقة وسلطان دولتهم على الحقيقة وهو المخلوع الوافد على الأصقاع المرينية بفاس العائد منها لملكه في أرفع الصنائع الرحمانية العاطرة الأنفاس وهو سلطان لسان الدين ابن الخطيب وقد ذكرنا جملة من أخباره في غير هذا الموضع ابن السلطان أبي الحجاج يوسف ابن السلطان إسماعيل قاتل سلطان النصارى دون بطره بمرج غرناطة ابن فرج

ابن اسماعيل بن يوسف بن نصر بن قيس الأنصاري الخزرجي رحمهم الله تعالى جميعا
وانتهى السلطان المذكور بعد نزوله بمليلة إلى مدينة فاس بأهله وأولاده معتذرا عما أسلفه متلهفا على ما خلفه وبنى بفاس بعض قصور على طريق بنيان الأندلس رأيتها ودخلتها وتوفي رحمه الله تعالى بفاس عام أربعين وتسعمائة ودفن بإزاء المصلى خارج باب الشريعة وخلف ولدين اسم احدهما يوسف والآخر أحمد وعقب هذا السلطان بفاس إلى الآن وعهدي بذريته بفاس سنة 1027 يأخذون من أوقاف الفقراء والمساكين ويعدون من جملة الشحاذين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
رسالة المخلوع أبي عبدالله إلى الشيخ الوطاسي
وقد رأيت ان أذكر هنا الرسالة التى كتب بها المخلوع المذكور الى سلطان فاس الشيخ الوطاسي وهي من انشاء الكاتب المجيد البارع البليغ ابي عبدالله محمد بن عبدالله العربي العقيلي رحمه الله تعالى وسماها بالروض العاطر الأنفاس في التوسل إلى المولى الإمام سلطان فاس ونصها بعد الافتتاح
( مولى الملوك ملوك العرب والعجم ... رعيا لما مثله يرعى من الذمم )
( بك استجرنا ونعم الجار أنت لمن ... جار الزمان عليه جور منتقم )
( حتى غدا ملكه بالرغم مستلبا ... وأفظع الخطب ما يأتي على الرغم )
( حكم من الله حتم لا مرد له ... وهل مرد لحكم منه منحتم )
( وهي الليالي وقاك الله صولتها ... تصول حتى على الآساد في الأجم )
( كنا ملوكا لنا في ارضنا دول ... نمنا بها تحت أفنان من النعم )

( فأيقظتنا سهام للردى صيب ... يرمى بأفجع حتف من بهن رمي )
( فلا تنم تحت ظل الملك نومتنا ... وأي ملك بظل الملك لم ينم )
( يبكي عليه الذي قد كان يعرفه ... بأدمع مزجت أمواهها بدم )
( كذلك الدهر لم يبرح كما زعموا ... يشم بو الصغار الأنف ذا الشمم )
( وصل اواصر قد كانت لنا اشتبكت ... فالملك بين ملوك الأرض كالرحم )
( وابسط لنا الخلق المرجو باسطه ... واعطف ولا تنحرف واعذر ولا تلم )
( لا تأخذنا بأقوال الوشاة ولم ... نذنب ولو كثرت أقوال ذي الوخم )
( فما أطقنا دفاعا للقضاء ولا ... أرادت انفسنا ماحل من نقم )
( ولا ركوبا بازعاج لسابحة ... في زاخر باكف الموج ملتطم )
( والمرء ما لم يعنه الله أضيع من ... طفل تشكى بفقد الام في اليتم )
( وكل ماكان غير الله يحرسه ... فإن محروسة لحم على وضم )
( كن كالسموأل إذ سار الهمام له ... في حجفل كسواد الليل مرتكم )
( فلم يبح أدرع الكندي وهو يرى ... أن ابنه البر قد أشفى على الرجم )
( أو كالمعلى مع الضليل الاروع إذ ... أجاره من أعاريب ومن عجم )
( وصار يشكره شكرا يكافىء ما ... أسدى إليه من الآلاء والنعم )
( ولا تعاتب على أشياء قد قدرت ... وخط مسطورها في اللوح بالقلم )
( وعد عما مضى إذ لا ارتجاع له ... وعد أحرارنا في جملة الخدم )
( إيه حنانيك يا ابن الأكرمين على ... ضيف ألم بفاس غير محتشم )

( فأنت أنت ولولا أنت ما نهضت ... بنا اليها خطا الوخادة الرسم )
( رحماك ياراحما ينمى إلى رحما ... في النفس والأهل والأتباع والحشم )
( فكم مواقف صدق في الجهاد لنا ... والخيل عالكة الأشداق وللجم )
( والسيف يخضب بالمحمر من علق ... ما ابيض من سبل واسود من لمم )
( ولا ترى صدر عضب غير منقصف ... ولا ترى متن لدن غير منحطم )
( حتى دهينا بدهيا لا اقتدار بها ... سوى على الصون للأطفال والحرم )
( فقل من لم يشاهدها فربتما ... يخال جامحها يقتاد بالخطم )
( هيهات لو زبنته الحرب كان بها ... أعيى يدا من يد جالت على رحم )
( تا لله ما أضمرت غشا ضمائرنا ... ولا طوت صحة منها على سقم )
( لكن طلبنا من الأمر الذي طلبت ... ولاتنا قبلنا في الأعصر الدهم )
( فخاننا عنده الجد الخؤون ومن ... تقعد به نكبات الدهر لم يقم )
( فاسود ما اخضر من عيش دهته عدا ... بالأسمر اللدن او بالأبيض الخذم )
( وشتت البين شملا كان منتظما ... والبين أقطع للموصول من جلم )
( فرب مبنى شديد قد أناخ به ... ركب البلا فقرته أدمع الديم )
( قمنا لديه أصيلانا نسائله ... أعيا جوابا وما بالربع من ارم )
( وما ظننا بان نبقى إلى زمن ... نرى به غرر الأحباب كالحمم )
( لكن رضى بالقضا الجاري وإن طويت ... منا الضلوع على برح من الألم )
( لبيك يامن دعانا نحو حضرته ... دعاء ابراهم الحجاج للحرم )
( واعط الأمان الذي رصت قواعده ... على أساس وفاء غير منهدم )
( خليفة الله وافاك العبيد فكن ... في كل فضل وطول عند ظنهم )
( وبين اسلافنا ماقد علمت به ... من اعتقاد بحكم الإرث مقتسم )

( وأنت منهم كأصل مطلع غصنا ... أو كالشراك الذي قد قد من أدم )
( وقد خطوت خطاهم في مآثرهم ... فلم يذموا إذن فيها ولم تذم )
( وصيت مولى الورى الشيخ الامام غدا ... في الناس أشهر من نار على علم )
( سلالة الأمراء الجلة الكبراء ... العلية الظهراء القادة البهم )
( بنو مرين ليوث في عرين ابوا ... رؤيا قرين لهم في البأس والكرم )
( النازلين من البيضاء وسط حمى ... أحمى من الأبلق السامي ومن إرم )
( والجائسين بدهم الخيل كل ذرا ... والداعسين بسمر الخط كل كمي )
( يريك فارسهم إن هز عامله ... في مارق بلظى الهيجاء مضطرم )
( ليثا على أجدل عار من أجنحة ... يسطو بأرقم لداغ بغير فم )
( في اللام يدغم من عساله ألفا ... ولم نجد ألفا أصلا بمدغم )
( أهل الحفيظة يوم الروع يحفظهم ... من عصمة الله ما يربي على العصم )
( يا من تطير شرار منه محرقة ... لكل مدرع بالحزم محتزم )
( هم بطائفة التثليث قد فتكوا ... كمثل ما يفتك السرحان بالغنم )
( وإن يلثمهم يوم الوغى رهج ... أنسوك ما ذكروه عن ذوي اللثم )
( تضىء آراؤهم في كل معضلة ... إضاءة السرج في داج من الظلم )
( هذا ولو من حياء ذاب محتشم ... لذاب منهم حياء كل محتشم )
( طابت مدائحهم إذ طابت أنفسهم ... فاشتقت النسمات اسما من النسم )
( لله درهم والسحب باخلة ... بدرهن على الأنعام والنعم )
( بحيث آلافق يرى من لون حمرته ... كالشيب يخضب بالحناء والكتم )
( هناك تنهل أيديهم بصوب حيا ... يحيي بالاجداث ما فيها من الرمم )
( وأن بيتي زياد طالما ذكرا ... إذ ألمت أحاديث بذكرهم )
( أحلام عاد وأجسام مطهرة ... من لمعقة والآفات والأثم )

( يرون حقا عليهم حفظ جارهم ... فلم يضر نازل فيهم ولم يضم )
( فروعه بالدواهي لا يراع ولا ... يغم منها بما يعرو من الغمم )
( هم البحار سماحا غير ان بها ... ماقد أناف على الأطواد من همم )
( وليس يسلم من حتف محاربهم ... حتى يكون إليهم ملقي السلم )
( كم فيهم من أمير اوحد ندس ... يقرطس الغرض المقصود بالفهم )
( ولا كسبط أبي حسون من حسنت ... امداحه حسن ما فيه من الشيم )
( هذاكم ابن أبي ذكرى الهمام فقل ... في أصله المنتقى من مجده العمم )
( خليفة الله حقا في خليقته ... كنائب ناب في حكم عن الحكم )
( مهما تنر قسمات منه نيرة ... تنل بنازله ماجل من نعم )
( فوجهه بدجى أو كفه بجدى ... أبهى من الزهر او أندى من الديم )
( وفضله وله الفضل المبين جرى ... كجري الامثال في الأقطار والأمم )
( وجوده المتوالي للبرية ما ... وجوده بينها طرا بمنهدم )
( إذا ابتغت نعما منه العفاة له ... لم يسمعوا كلمة منه سوى نعم )
( وإن يعبس زمان في وجوههم ... لم يبصروا غير وجه منه مبتسم )
( وجه تبين سمات المكرمات به ... كما تبين سمات الصدق في الكلم )
( وراحة لم تزل في كل آونة ... في نيلها راحة الشاكي من العدم )
( لله ما التزمته من نوافله ... أيام لا فرض مفروض بملتزم )
( أنسى الخلائف في حلم وفي شرف ... وفي سخاء وفي علم وفي فهم )
( فجاز معتمدا منهم ومعتضدا ... وامتاز عن واثق منهم ومعتصم )
( وناصر الدين في الإقبال فاق وفي ... محبة العلم أزرى بابنه الحكم )
( أفعال أعدائه معتلة أبدا ... متى يرم جزمها بالحذف تنجزم )

( فويل أهل القلى من حية ذكر ... للمتلئب اللهام المجر ملتقم )
( رموا عداوة من إن شاء غادرهم ... مثل الأحاديث عن عاد وعن إرم )
( فسوف يأكلهم من جيشه لجب ... بكل قرم إلى لحمانهم قرم )
( وإن الأعراب إذ ساروا لغايته ... لسائرون إلى لقم على لقم )
( وهم كما قاله ماض أرى قدمي ... بسعيه نحو حتفي قد اراق دمي )
( فقل إذن للمناوي الناو لان أذى ... ياغر غرك ما أبصرت في الحلم )
( له صوارم لو ناجتك ألسنها ... لبشرتك بعمر منك منصرم )
( وأن روحك عن قرب سيقبضه ... قبض المسلم ماقد حاز من سلم )
( فهو الذي ما له ند يشابهه ... من كل متصف بالدهي متسم )
( يدبر الأمر تدبيرا يخلصه ... مما عسى أن يرى فيه من الوهم )
( ويبصر الغيب لحظ الذهن منه إذا ... تعمى عن ادراكه ألحاظ كل عمي )
( وينعم النظر المفضي بناظره ... لصوب وجه صواب واضح اللقم )
( ذو منطق لم تزل تجلو نتائجه ... عن مبطل بخصام المبطل الخصم )
( ومسمع ليس يصغى للوشاة فلم ... ينفق لديه الذي عنهم إليه نمي )
( فعقله لا توازيه العقول وهل ... يوازن الطود ماقد طال من أكم )
( ايه جميع الورى من بدو أو حضر ... نداء مرتبط بالنصر مرتسم )
( شدوا وجدوا ولا تعنوا ولا تهنوا ... قد لفها الليل بالسواقة الحطم )
( هذا الإمام المريني السعيد له ... سعد يؤيده في كل مصطدم )
( قد أقسمت انه المنصور ألسنة ... من نخبة الأوليا مبرورة القسم )
( فشيعوه ووالوه تروا عجبا ... وتظفروا معه بالأجر والغنم )
( والحمد لله إذ أبقى خلافته ... كهفا لنا من يخيم فيه لم يرم )
( حرز حريز وعز قائم وندى ... غمر دراك بلا من ولا سام )
( دامت ودام لها سعد يساعدها ... في كل مبتدإ منه ومختتم )
( فالله عز اسمه قد زانها بحلى ... من غر امداحه كالدر في النظم )

( الواهب الألف بعد الألف من ذهب ... كالجمر يلمع في مستوقد الضرم )
( والفاعل الفعل لم يهمم به احد ... والقائل القول فيه حكمة الحكم )
( ذاكم هو الشيخ فاعجب إنه هرم ... جودا وحاشاه ان يعزى إلى هرم )
( وحسبنا ان أيدينا به اعتصمت ... من حبله بوثيق غير منفصم )
( فما محالفه يوما بمضطهد ... ولا مؤالفه يوما بمهتضم )
( ولا موافيه في جهد بمطرح ... ولا مصافيه في ود بمتهم )
( ولا محيا محييه بمنكسف ... ولا رجاء مرجيه بمنخرم )
( وما تكرمه سرا بمنكشف ... ولا تنكره جهرا بمكتتم )
( وليس لامح مرآه بمكتئب ... وليس راضع جدواه بمنفطم )
( ولا مقبل يمناه الكريمة في ... محل ممتهن بل دست محترم )
( وما وسيلتنا العظمى إليه سوى ... ما ليس ينكر ما فيها من العظم )
( وإنما هي وما أدراك ماهي من ... وسيلة ردها أدهى من الوخم )
( نبينا المصطفى الهادى بخير هدى ... محمد خير خلق الله كلهم )
( داعي الورى من اولي خيم وأهل قرى ... إلى طريق رشاد لاحب أمم )
( عليه منا ما ذكرت ... امن تذكر جيران بذي سلم )
( وما تشفع فيها بالشفيع له ... دخيل حرمته العلياء في الحرم )
ربنا ظلمنا انفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين انت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وانت خير الغافرين ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم نعم المولى ونعم النصير
اما بعد حمد الله الذي لا يحمد على السراء والضراء سواه محمد الذي طلع طلوع الفجر بل البدر فلاح يدعو إلى سبيل

كل فلاح أولي قلوب غافلة ونفوس سواه والرضى عن آله وأصحابه وعترته الأكرمين وأحزابه الذين تلقوا بالقبول ما اورده عليهم من اوامر ونواه وعزروه ونصروه في حال قربه ونواه فيا مولانا الذي أولانا من النعم ما اولانا لا حط الله تعالى لكم من العزة رواقا ولا أذوى لدوحة دولتكم أغصانا ولا اوراقا ولا زالت مخضرة العود مبتسمة عن زهرات البشائر متحفة بثمرات السعود ممطورة بسحائب البركات المتداركات دون بروق ولا رعود هذا مقام العائذ بمقامكم المتعلق بأسباب زمامكم المترجى لعواطف قلوبكم وعوارف إنعامكم المقبل الأرض تحت أقدامكم المتلجلج اللسان عند محاولة مفاتحة كلامكم وما الذي يقول من وجهه خجل وفؤاده وجل وقضيته المقضية عن التنصل والاعتذار تجل بيد اني أقول لكم ما أقوله لربي واجترائي عليه أكثر واحترامي اليه اكبر اللهم لا بريء فأعتذر ولا قوي فأنتصر لكني مستقيل مستنيل مستعتب مستغفر ( وما أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء ) هذا على طريق التنزل والإنصاف بما تقتضيه الحال ممن يتحيز إلى حيز الإنصاف واما على جهة التحقيق فأقول ما قالته الأم ابنة الصديق والله إني لأعلم أني إن أقررت بما يقوله الناس والله يعلم أني منه بريئة لأقول ما لم يكن ولئن أنكرت ما تقولون لا تصدقوني فأقول ما قاله أبو يوسف صبر جميل والله المستعان على ما تصفون على اني لا انكر عيوبى فأنا معدن العيوب ولا أجحد ذنوبي فأنا جبل الذنوب إلى الله أشكو عجري وبجري وسقطاتي وغلطاتي نعم كل شيء ولا ما يقوله المتقول المشنع المهول الناطق بفم الشيطان المسول ومن أمثالهم سبني واصدق ولا تفتر ولا تخلق أفمثلي كان يفعل امثالها ويحتمل من الأوزار المضاعفة أحمالها ويهلك نفسه ويحبط أعمالها عياذا بالله

من خسران الدين وإيثار الجاحدين والمعتدين قد ضللت إذا وما انا من المهتدين وايم الله لو علمت شعرة في فودي تميل إلى تلك الجهة لقطعتها بل لقطفت ماتحت عمامتي من هامتي وقطعتها غير ان الرعاع في كل وقت واوان للملك أعداء وعليه أحزاب وأعوان كان أحمق أو أجهل من أبي ثروان أو أعقل أو أعلم من أشج بني مروان رب متهم بري ومسربل بسربال وهو منه عري وفي الأحاديث صحيح وسقيم ومن التراكيب المنطقية منتج وعقيم ولكن ثم ميزان عقل تعتبر به أوزان النقل وعلى الراجح الاعتماد ثم إشاعة الأحماد المتصل المتماد وللمرجوح الاطرح ثم التزام الصراح بعد النفض من الراح وأكثر ما تسمعه الكذب وطبع جمهور الخلق إلا من عصمه الله تعالى إليه منجذب ولقد قذفنا من الأباطيل بأحجار ورمينا بما لا يرمى به الكفار فضلا عن الفجار وجرى من الأمر المنقول على لسان زيد وعمرو ما لديكم منه حفظ الجار وإذا عظم الإنكاء فعلى تكاءة التجلد الاتكاء أكثر المكثرون وجهد في تعثيرنا المتعثرون ورمونا عن قوس واحدة ونظمونا في سلك الملاحدة اكفرا أيضا كفرا غفرا اللهم غفرا اعد نظرا ياعبد قيس فليس الأمر على ما خيل لك ليس وهل زدنا على أن طلبنا حقنا ممن رام محقه ومحقنا فطاردنا في سبيله عداة كانوا لنا غائظين فانفتق علينا فتق لم يمكنا له رتق وما كنا للغيب حافظين وبعد فاسأل أهل الحل والعقد والتمييز والنقد فعند جهينتهم تلقى الخبر يقينا وقد رضينا بحكمهم يؤثمنا فيوبقنا أو يبرئنا فيقينا إيه يا من اشرأب إلى ملامنا وقدح حتى في اسلامنا رويدا رويدا فقد وجدت قوة وأيدا ويحك إنما طال لسانك علينا وامتد بالسوء

إلينا لأن الزمان لنا مصغر ولك مكبر والأمر عليك مقبل وعنا مدبر كما قال كاتب الحجاج الموبر وعلى الجملة فهبنا صرنا إلى تسليم مقالك جدلا وذهبنا فأقررنا بالخطإ في كل ورد وصدر فلله در القائل
( إن كنت أخطأت فما أخطا القدر )
وكأنما بمعتسف إذا وصل إلى هنا وعدم انصافه يعلمه إلهنا وقد ازور متجانفا ثم افتر متهانفا وجعل يتمثل بقولهم إذا عيروا قالوا مقادير قدرت وبقولهم المرء يعجزه المحال فيعارض الحق بالباطل والحالي بالعاطل ومنزع بقول القائل رب مسمع هائل وليس تحته من طائل وقد فرغنا أول أمس من جوابه وتركنا الضغن يلصق حرارة الجوى به وسنلم الان بما يوسعه تسكيتا ويقطعه تبكيتا فنقول له ناشدناك الله تعالى هل اتفق لك قط وعرض خروج أمر ما عن القصد منك فيه والغرض مع اجتهادك أثناءه في اصدارك وإيرادك في وقوعه على وفق اقتراحك ومرادك او جميع ما تزاوله بإدارتك لايقع الا مطابقا لإرادتك او كل ما تقصده وتنويه تحرزه كما تشاء وتحويه فلا بد أن يقر اضطرارا بأن مطلوبه يشذ عنه مرارا بل كثيرا ما يفلت صيده من أشراكه ويطلبه فيعجز عن ادراكه فنقول ومسألتنا من هذا القبيل أيها النبيه النبيل ثم نسرد له من الأحاديث النبوية ما شينا مما يسايرنا في غرضنا منه ويماشينا كقوله كل شيء بقضاء وقدر حتى العجز والكيس وقوله أيضا لو اجتمع أهل السموات والأرض على أن ينفعوك بشيء لم يقضه الله لك لم يقدروا عليه ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يقضه الله لك لم يقدروا عليه أو كما قال

فأخلق به أن يلوذ باكناف الإحجام ويزم على نفثه فيه كأنما ألجم بلجام حينئذ نقول له والحق قد أبان وجهه وجلاه وقهره بحجته وعلاه ليس لك من الأمر شيء قل إن الأمر كله لله وفي محاجة آدم وموسى ما يقطع لسان الخصم ويرخص عن أثواب أعراضنا ما عسى ان يعلق بها من درن الوصم وكيفما كانت الحال وإن ساء الرأي والانتحال ووقعنا في اوجال وأوحال فثل عرشنا وطويت فرشنا ونكس لوانا وملك مثوانا فنحن أمثل من سوانا وفي الشر خيار ويد اللطائف تكسر من صولة الأغيار فحتى الآن لم نفقد من اللطيف تعالى لطفا ولا عدمنا أدوات أدعية تعطف بلا مهلة على جملتنا المقطوعة جمل النعم الموصولة عطفا وإلا فتك بغداد دار السلام ومتبوأ الاسلام المحفوف بفرسان السيوف والأقلام مثابة الخلافة العباسية ومقر العلماء والفضلاء أولي السير الأويسية والعقول الإياسية قد نوزلت بالجيوش ونزلت وزوولت بالزحوف وزلزلت وتحيف جوانبها الحيف ودخلها كفار التتار عنوة بالسيف ولا تسل إذ ذاك عن كيف أيام تجلت عروس المنية كاشفة عن ساقها مبدية وجرت الدماء في الشوارع والطرق كالأنهار والأودية وقيد الأئمة والقضاة تحت ظلال السيوف المنتضاة بالعمائم في رقابهم والأردية وللنجيع سيول تخوضها الخيول فتخضبها الى أرساغها وتهم ظماؤها بوردها فتنكل عن تجرعها ومساغها فطاح عاصمها ومستعصمها وراح ولم يعد ظالمها ومتظلمها وخربت مساجدها وديارها واصطلم بالحسام أشرارها وخيارها فلم يبق من جمهور أهلها عين تطرف حسبما عرفت أو حسبما تعرف فلا تك متشككا متوقفا فحديث تلك الواقعة الشنعاء أشهر عند المؤرخين من قفا فأين تلك الجحافل والآراء المدارة في المحافل حين أراد الله تعالى

بإدالة الكفر لم تجد ولا قلامة ظفر إذن فمن سلمت له نفسه التى هي رأس ماله وعياله واطفاله اللذان هما من أعظم آماله وكل أو جل أو أقل رياشه وأسباب معاشه الكفيلة بانتهاضه وانتعاشه ثم وجد مع ذلك سبيلا الى الخلاص في حال مياسرة ومساهلة دون تصعب واعتياص بعدما ظن كل الظن أن لا محيد ولا مناص فما أحقه حينئذ وأولاه أن يحمد خالقه ورازقه ومولاه على ما أسداه إليه من رفده وخيره ومعافاته مما ابتلي به كثير من غيره ويرضى بكل ايراد وإصدار تتصرف فيهما الأحكام الإلهية والأقدار فالدهر غدار والدنيا دار مشحونة بالأكدار والقضاء لا يرد ولا يصد ولا يغالب ولا يطالب والدائرات تدور ولا بد من نقص وكمال للبدور والعبد مطيع لا مطاع وليس يطاع إلا المستطاع وللخالق القدير جلت قدرته في خليقته علم غيب للأذهان عن مداه انقطاع
ومالي والتكلف لما لا أحتاج إليه من هذا القول بين يدي ذي الجلال والمجادة والفضل والطول فله من العقل الارجح ومن الخلق الأسجح مال ا تلتاط معه تهمتي بصفرة ولا تنفق عنده وشاية الواشي لا عد من نفره ولا فاز قدحه بظفره والمولى يعلم ان الدنيا تلعب باللاعب وتجر براحتها إلى المتاعب وقديما للأكياس من الناس خدعت وانحرفت عن وصالهم أعقل ماكانوا وقطعت وفعلت بهم ما فعلت بيسار الكواعب تلك التي جبت وجدعت ولئن رهصت وهصرت فقد نبهت وبصرت ولئن قرعت وامعضت لقد أرشدت ووعظت ويا ويلنا من تنكرها لنا بمرة ورميها لنا في غمرة أي غمرة أيام قلبت لنا ظهر المجن وغيم أفقها المصحي وأدجن فسرعان ما عاينا حبالها منبتة ورأينا منها مالم نحتسب كما تقوم الساعة بغتة فمن استعاذ من شيء

فليستعذ مما صرنا إليه من الحور بعد الكور والانحطاط من النجد إلى الغور
( فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا ... إذا نحن فيهم سوقة نتنصف )
( فأف لدنيا لا يدوم نعيمها ... تقلب تارات بنا وتصرف )
وأبيها لقد أرهقتنا ارهاقا وجرعتنا من صاب الأوصاب كأسا دهاقا ولم نفزع الى غير بابكم المنيع الجناب المنفتح حين سدت الأبواب ولم نلبس غيرلباس نعمائكم حين خلعنا ما ألبسنا الملك من الأثواب وإلى أمه يلجأ الطفل لجأ اللهفان وعند الشدائد تمتاز السيوف في الأجفان من الأجفان ووجه الله تعالى يبقى وكل من عليه فان وإلى هنا ينتهي القائل ثم يقول حسبي هذا وكفان
ولا ريب في اشتمال العلم الكريم على ما تعارفته الملوك بينها في الحديث والقديم من الأخذ باليد عند زلة القدم وقرع الأسنان وعض البنان من الندم دينا تدينت حتى مع اختلاف الأديان وعادة اطردت فيهم على تعاقب الأزمان والأحيان
ولقد عرض علينا صاحب قشتالة مواضع معتبرة خير فيها وأعطى من امانه المؤكد فيه خطه بأيمانه ما يقنع النفوس ويكفيها فلم نر ونحن من سلالة الأحمر مجاورة الصفر ولا سوغ لنا الايمان الإقامة بين ظهراني الكفر وما وجدنا عن ذلك مندوحة ولو شاسعة وأمنا من المطالب المشاغب حمة شر لنا لاسعة وادكرنا أي ادكار قول الله تعالى المنكر لذلك غايى الإنكار ( ألم تكن أرض الله واسعة ) وقول الرسول عليه المبالغ في ذلك بأبلغ الكلام انا بريء من مؤمن مع كافر لا تتراءى ناراهما وقول الشاعر الحاث على

حث المطية المتثاقلة عن السير في طريق منجاتها البطية
( وما انا والتلدد نحو نجد ... وقد غصت تهامة بالرجال )
ووصلت أيضا من الشرق إلينا كتب كريمة المقاصد لدينا تستدعي الانحياز الى تلك الجنبات وتتضمن مالا مزيد عليه من الرغبات فلم نختر إلا دارنا التى كانت دار آبائنا من قبلنا ولم نرتض الانضواء إلا لمن بحبله وصل حبلنا وبريش نبله ريش نبلنا إدلالا على محل إخاء متوارث لا عن كلالة وامتثالا لوصاة أجداد لأنظارهم وأقدارهم أصالة وجلالة إذ قد روينا عمن سلف من أسلافنا في الايصاء لمن يخلف بعدهم من أخلافنا ان لا يبتغوا إذا دهمهم داهم بالحضرة المرينية بدلا ولا يجدوا عن طريقها في التوجه إلى فريقها معدلا فاخترقنا الى الرياض الأريضة الفجاج وركبنا إلى البحر الفرات ظهر البحر الأجاج فلا غرو أن نرد منه على ما يقر العين ويشفى النفس الشاكية من ألم البين ومن توصل هذا التوصل وتوسل بمثل ذلك التوسل تطارحا على سدة أمير المؤمنين المحارب للمحاربين والمؤمن للمستأمنين فهو الخليق الحقيق بأن يسوغ أصفى مشاربه ويبلغ أوفى مآربه على توالي الأيام والشهور والسنين ويخلص من الثبور إلى الحبور ويخرج من الظلمات الى النور خروج الجنين ولعل شعاع سعادته يفيض عينا ونفحة قبول إقباله تسري إلينا فتخامرنا أريحية تحملنا على أن نبادر لإنشاد قول الشريف الرضي في الخليفة القادر
( عطفا أمير المؤمنين فإننا ... في دوحة العلياء لا نتفرق )
( ما بيننا يوم الفخار تفاوت ... أبدا كلانا في المعالي معرق )
( إلا الخلافة ميزتك فإنني ... أنا عاطل منها وانت مطوق )

لا بل الاحرى بنا والأحجى والأنجح لسعينا والأرجى ان نعدل عن هذا المنهاج ويقوم وافدنا بين يدي علاه مقام الخاضع المتواضع الضعيف المحتاج وينشد ماقال في الشيرازي ابن حجاج
( الناس يفدونك اضطرارا ... منهم وأفديك باختياري )
( وبعضهم في جوار بعض ... وأنت حتى أموت جاري )
( فعش لخبزي وعش لمائي ... وعش لداري وأهل داري )
ونستوهب من الوهاب تعالى جلت أسماؤه وتعاظمت نعماؤه رحمة تجعل في يد الهداية أعنتنا وعصمة تكون في مواقف المخاوف جنتنا وقبولا يعطف علينا نوافر القلوب وصنعا يسني لنا كل مرغوب ومطلوب ونسأله وطالما بلغ السائل سؤلا ومأمولا متابا صادقا على موضوع الندم محمولا ثم عزاء حسنا وصبرا جميلا عن أرض أورثها من شاء من عباده معقبا لهم ومديلا وسادلا وسادلا عليهم من ستور الإملاء الطويلة سدولا ( سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ) الفتح 23 فليطر طائر الوسواس المرفرف مطيرا كان ذلك في الكتاب مسطورا لم نستطع عن مورده صدورا وكان امر الله قدرا مقدورا ألا وإن لله سبحانه في مقامكم العلي الذي أيده واعانه سرا من النصر يترجم عنه لسان من النصل وترجع فروع البشائر الصادقة بالفتوحات المتلاحقة من قاعدته المتأصلة إلى أصل فبمثله يجب اللياذ والعياذ ولشبهه يحق الالتجاء والارتجاء ولأمر ما آثرناه واخترناه بعد أن استرشدنا الله سبحانه واستخرناه ومنه جل جلاله نرغب ان يخير لنا ولجميع المسلمين ويؤوينا من حمايته ووقايته إلى معقل منيع وجناب رفيع أمين آمين آمين ونرجو ان يكون ربنا الذي هو في جميع الأمور حسبنا قد خار لنا حيث أرشدنا وهدانا

وساقنا توفيقه وحدانا إلى الاستجارة بملك حفي كريم وفي أعز جارا من أبي دواد وأحمى انفا من الحارث بن عباد يشهد بذلك الداني والقاصي والحاضر والباد إن أغاث ملهوفا فما الأسود بن قنان يذكر وإن انعش حشاشة هالك فما كعب بن مامة على فعله وحده يشكر جليسه كجليس القعقاع بن شور ومذاكره كمذاكر سفيان المنتسب من الرباب إلى ثور إلى التحلي بامهات الفضائل التى أضدادها امهات الرذائل وهي الثلاث الحكمة والعدل والعفة التى تشملها الثلاثة الأقوال والأفعال والشمائل وينشأ منها ما شئت من عزم وحزم وعلم وحلم وتيقظ وتحفظ واتقاء وارتقاء وصول وطول وسماح ونائل فبنور حلاه المشرق يفتخر المغرب على المشرق وبمحتده السامي خطره في الأخطار وبيته الذي ذكره في النباهة والنجابة قد طار يباهي جميع ملوك الجهات والأقطار وكيف لا وهو الرفيع المنتمى والنجار الراضع من الطهارة صفو ألبان الناشىء من السراوة وسط أحجار في ضئضىء المجد وبحبوح الكرم وسراوة أسرة المملكة التى أكنافها حرم وذؤابة الشرف التى مجاذبتها لم ترم من معشر بخلوا إن وهبوا ما دون اعمارهم وجبنوا إن لم يحموا سوى ذمارهم بنومرين وما أدراك ما بنو مرين
( سم العداة وآفة الجزر )
( النازلون بكل معترك ... والطيبون معاقد الأزر )
لهم من الهفوات انتفاء وعندهم من السير النبوية اكتفاء انتسبوا إلى بر

ابن قيس فخرجوا في البر عن القيس مالهم القديم المعروف قد نفذ في سبيل المعروف وحديثهم الذي نقلته رجال الزحوف من طرق القنا والسيوف على الحسن من المقاصد موقوف تحمد من صغيرهم وكبيرهم ذابلهم ولدنهم فلله آباء أنجبوهم وامهات ولدنهم
( شم الأنوف من الطراز الأول )
إليهم في الشدائد الاستناد وعليهم في الأزمات المعول ولهم في الوفاء والصفاء والاحتفاء والعناية والحماية والرعاية الخطو الواسع والباع الأطول كانما عناهم بقوله جرول
( أولئك قوم ان بنوا أحسنوا البنا ... وإن عاهدوا اوفوا وإن عقدوا شدوا )
( وإن كانت النعماء فيهم جزوا بها ... وإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا )
( وتعذلني أبناء سعد عليهم ... وما قلت إلا بالتي علمت سعد )
وبقوله الوثيق مبناه البليغ معناه
( قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم ... شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا )
يزيحون عن التنزيل كل نازح قاصم وليس له منهم عائب ولا واصم فهم أحق بما قاله في منقر قيس بن عاصم

( لا يفطنون لعيب جارهم ... وهم لحفظ جوارهم فطن )
حلاهم هذه الغريزة التى ليست باستكراه ولا جعل وامير المؤمنين دام نصره قسيمهم فيها حذو النعل بالنعل ثم هو عليهم وعلى من سواهم بالأوصاف الملوكية مستعل ارفض مزنهم منه عن غيث ملث يمحو آثار اللزبة وانشق غيلهم منه عن ليث ضار متقبض على براثنه للوثبة فقل لسكان الفلا لا تغرنكم أعدادكم وأمدادكم فلا يبالي السرحان المواشي سواء مشى إليها النقرى أو الجفلى بل يصدمهم صدمة تحطم منهم كل عرنين ثم يبتلع بعد أشلاءهم المعفرة ابتلاع التنين فهو هو كما عرفوه وعهدوه وألفوه أخو المنايا وابن جلا وطلاع الثنايا مجتمع أشده قد احتنكت سنه وبان رشده جاد مجد محتزم بحزام الحزم مشمر عن ساعد الجد
( لا يشرب الماء إلا من قليب دم ... ولا يبيت له جار على وجل )
أسدي القلب آدمي الرواء لابس جلد النمر يزوي العناد والنواء
( وليس بشاوي عليه دمامة ... إذا ما سعى يسعى بقوس وأسهم )
( ولكنه يسعى عليه مفاضة ... دلاص كأعيان الجراد المنظم )
فالنجاء النجاء سامعين له طائعين والوحى الوحى لاحقين به خاضعين قبل أن تساقوا إليه مقرنين في الأصفاد ويعيا الفداء بنفائس النفوس والأموال على الفاد حينئذ يعض ذو الجهل والفدامة على يديه حسرة وندامة إذا رأى

أبطال الجنود تحت خوافق الرايات والبنود قد لفحتهم نار ليست بذات خمود وأخذتهم صاعقة مثل صاعقة الذين من قبلهم عاد وثمود زعقات تؤز الكتائب أزا وهمزا محققا للخيل بعد المد المشبع للأعنة همزا وسلا للهندية سلا وهزا للخطية هزا حتى يقول النسر للذئب ( هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا ) ثق خليفة الله بذاك في كل من رام أذى رعيتك أو ذاك فتلك عادة الله سبحانه وتعالى في ذوي الشقاق والنفاق الذين يشقون عصا المسلمين ويقطعون طريق الرفاق وينصبون حبائل البغي والفساد في جميع النواحي والآفاق فلن يجعلهم الله عز و جل من الآمنين أنى وكيف وقد أفسدوا وخانوا وهو سبحانه لا يصلح عمل المفسدين ولا يهدي كيد الخائنين وها نحن قد وجهنا إلى كعبة مجدكم وجوه صلوات التقديس والتعظيم بعدما زينا معاطفها باستعطافكم بدر ثناء أبهى من در العقد النظيم منتظمين في سلك أوليائكم متشرفين بخدمة عليائكم ولا فقد عزه ولا عدمها من قصد مثابتكم العزيزة وخدمها وإن المترامي على سنائكم لجدير بحرمتكم واعتنائكم وكل ملهوف تبوأ من كنفكم حصنا حصينا عاش بقية عمره محروسا من الضيم مصونا وقد قيل في بعض الكلام من قعدت به نكاية الأيام أقامته إغاثة الكرام ومولانا أيده الله تعالى ولي ما يزفه إلينا من مكرمة بكر ويصنعه لنا من صنيع حافل يخلد في صحائف حسن الذكر ويروي معنعن حديث حمده وشكره طرس عن قلم عن بنان عن لسان عن فكر وغيره من ينام عن ذلك فيوقظ ويسترسل مع الغفلة حتى يذكر ويوعظ وما عهد منذ وجد إلا سريعا إلى داعي الندي والتكرم بريئا من الضجر بالمطال والتبرم حافظا للجار الذي أوصى النبي بحفظه مستفرغا وسعه في رعيه المستمر ولحظه آخذا من حسن الثناء في جميع الأوقات والآناء بحظه

( فهو من دوحة السنا فرع عز ... ليس يحتاج مجتنيه لهز )
( كفه في الأمحال أغزر وبل ... وذراه في الخوف امنع حرز )
( حلمه يسفر اسمه لك عنه ... فتفهم يامدعي الفهم لغزي )
( لا تسله شيئا ولا تستنله ... نظرة منه فيك تغني وتجزي )
( فنداه هو الفرات الذي قد ... عام فيه الأنام عوم الإوز )
( وحماه هو المنيع الذي ترجع ... عنه الخطوب مرجع عجز )
( فدعوا ذهنه يزاول قولي ... فهو أدرى بما تضمن رمزي )
( دام يحيا بكل صنع ومن ... ويعافى من كل بؤس ورجز )
وكانا به قد عمل على شاكلة جلاله من مد ظلاله وتمهيد حلاله وتلقى ورودنا بحسن تهلله واستهلاله وتأنيسنا بجميل قبوله وإقباله وإيرادنا على حوض كوثره المترع بزلاله والله سبحانه يسعد مقامه العلي ويسعدنا به في حله وارتحاله ومآله وحاله ويؤيد جنده المظفر ويؤيدنا بتأييده على نزال عدوه واستنزاله وهز الذوابل لإطفاء ذباله وهو سبحانه وتعالى المسؤول ان يريه قرة العين في نفسه وأهله وخدامه وامواله وأنظاره وأعماله وكافة شؤونه واحواله وأحق ما نصل بالسلام وأولى على المقام الجليل مقام الخليفة المولى أزكى على خاتمة انبيائه وأرساله سيدنا ومولانا محمد وعلى جميع أصحابه وآله صلاة وسلاما دائمين أبدا موصولين بدوام الأبد واتصاله ضامنين لمجددهما ومرددهما صلاح فاسد أعماله وبلوغ غاية آماله وذلك بمشيئة الله تعالى وإذنه وفضله وإفضاله انتهى
ترجمة محمد العربي كاتب الرسالة عن الوادي آشي
وكاتب هذه الرسالة على لسان السلطان المخلوع قال الوادي آشي في حقه

إنه إمام الصناعة وفارس حلبة القرطاس واليراعة وواسطة عقد البلاغة واليراعة الذي قطف الكمال لما نور ورتب محاسن البديع في درر فقره وطور وغرف من بحر عجاج واقتطف من خاطر وهاج أبو عبدالله محمد بن عبدالله العربي العقيلي وما احسن قوله فيمن قد ظفر به المسلمون
( ألا رب مغرور تنصر ضلة ... فحاق به شؤم الضلال وشره )
( فإن يرتفع عند النصارى بالابتدا ... فكم عندنا من حرف حبل يجره )
وقال الوادي آشي أيضا في موضع آخر ما نصه ولشاعر العصر ومالك زمامي النظم والنثر والفقيه العالم المتقن التمفنن العارف الأوحد النبيه النبيل سيدي محمد العربي وصل الله تعالى رفعة قدره وحرس من غير الأيام أشعة بدره
( الحب في جمهور انواره ... فأين الاخوان والأحباب )
( وأين أين الاجتماعات قد ... تهيأت لهن الاسباب )
( وأين بنت لجبن مهما بدت ... طارت إليها شوقا الباب )
( وأين الألبان لأكوابها ... في برم الأرز تسكاب )
( واللحم بالبسباس قد ألفت ... لطبخه في القدر الاحطاب )
( والعوذ ذو دندنة يطبي ... آثارها للطار دبداب )
( وملح الاصوات قد طورحت ... وجاء معبد وزرياب )
( وفض للهو ختام ولم ... يسد في وجه الهوى باب )
( وقيل للوقار قم قبل أن ... تسلب عنك الآن الاثواب )
( وكل انسان وما يشتهي ... ليس على مناه حجاب )

( مسترسلا ليس له عذل ... كلا ولا عليه رقاب )
( في راحة خلعت أرسانها ... لمثلها تعصر الاعناب )
( فكل بستان قد استأسدت ... فيه النواوير والاعشاب )
( وأطلع التراب أدواحه ... كأنها العرب الاتراب )
( لما تحلت بحلى زهرها ... داخلها بالحسن الاعجاب )
( عرائس ليس لها في سوى ... ماية او ينية خطاب )
( أيام تبدى ثمرات بدا ... في جنباتهن الارطاب )
( كأنه في العين ياقوت أو ... كأنه في الفم جلاب )
( هيهات هيهات أمان لها ... خلب برق لك خلاب )
( ماحوت الرؤوس امثالها ... فكيف تحويهن الاذناب )
( قد عاق عن ذلك دهر به ... تعدم الافراح والاطراب )
( يروم الانسان غلابا له ... والدهر للانسان غلاب )
وقال رحمه الله تعالى لما نزل النصارى لمحاصرة غرناطة
( بالطبل في كل يوم ... وبالنفيز نراع )
( وليس من بعد هذا ... وذاك إلا القراع )
( يارب جبرك يرجو ... من هيض منه الذراع )
( لا تسلبني صبرا ... منه لقلبي ادراع )
وله رحمه الله تعالى في الموشحات اليد الطولى فمن ذلك قوله
( بدر أهل الزمان ... الرفيع القدر )
( لا تزل في أمان ... من كسوف البدر )
وله من أخرى

( هل يصح الأمان ... من شبيه البدر )
( وهو مثل الزمان ... منتم للغدر )
( لم يغر الأغر ... غير غمر جاهل )
( عيشه الحلو مر ... وهو فيه ناهل )
( والصبا الغض مر ... وهو عنه ذاهل )
( مرشف البهرمان ... فوق ثغر الدر )
( طمع للأمان ... باقتراب الدر )
وعارض رحمه الله تعالى بهاتين الموشحتين الموشحة المشهورة
( ضاحك عن جمان ... سافر عن بدر )
( ضاق عنه الزمان ... وحواه صدري )
وممن عارض هذه الموشحة ابن أرقم إذ قال
( مبسم البهرمان ... في المحيا الدري )
( صاد قلبي وبان ... وأنا لم أدر )
والإنصاف ان معارضة العربي أحسن من هذه
وله أيضا معارضتان غير ما تقدم الأولى قوله
( بان لي ثم بان ... ذا خدود حمر )
( ينثني مثل بان ... في ثياب خضر )
والثانية قوله
( هل لمرآك ثان ... في سناه الدري )
( أو لحوباي ثان ... عن هواها العذري )

( يا مليحا جلا ... عن محيا جميل )
( همت فيه ولا ... هيمان جميل )
( مل قليلا الى ... من إليك يميل )
( عاشق فيك فان ... كاتم للسر )
( لك منه مكان ... في صميم الصدر )
ومن نظم العربي المذكور لما عرض عليه السلطان رياسة كتابه من قصيدة
( أوجه سعدي انحط عنه اللثام ... أم بدر أفق فض عنه الغمام )
( أم انا في حالي لا عقل لي ... أم حلم قد لاح لي في المنام )
( يالك مرأى من رأى حسنه ... هيج للقلب غراما فهام )
( كأنما اقبس نور البها ... من وجه مولانا الامام الهمام )
( ابن أبي الحسن الأسرى الذي ... قد كان للأملاك مسك الختام )
( ضرغام قد أنجب شبها له ... في صدق بأس ومضاء اعتزام )
( حامى وسامى فأفاعيله ... تنقلها أبناء سام وحام )
( دام له النصر الذي جاءه ... والسيف من طلى أعاديه دام )
( فيا أمير المؤمنين الذي ... له بعروة اليقين اعتصام )
( أبشر بجد مقبل لم يؤل ... إلى انصراف لا ولا لانصرام )
( وعزة لم يفض بنيانها ... إلى انهداد لا ولا لانهدام )
( لله منك ملك جنده ... زهر النجوم وهو بدر التمام )
ومنها
( يطرب من مادحه مثلما ... يطرب قلب الصب سجع الحمام )

( فيفعل الشعر بأعطافه ... ماليس تفعل بهن المدام )
( وإن حكى في حسنه يوسفا ... فمدحه يشبه زهر الكمام )
ومنها
( فداره ليست ببغدادهم ... مع انها تدعى بدار السلام )
ومنها
( أسأله الإعفاء من كل ما ... أعجز عن حمل له والتزام )
ومنها
( مستشفعا له بخير الورى ... محمد عليه أزكى السلام )
ومنها
( وكل انسان وما اختاره ... ورب ذي عذر قد أضحى يلام )
وآخرها
( فالحمد لله على ان غدا ... للشمل بعد الانصداع التئام )
ولنختم هذه الترجمة بقوله
( جز بالبساتين والرياض فما ... أبهج مرئيها واحلاه )
( واعجب بها للنبات ولتك في ... أسفله ناظرا وأعلاه )
( وقدس الله عند ذاك وقل ... سبحانه لا إله إلا هو ) سبحان وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين والحمد لله رب العالمين انتهى المجلد الرابع

بسم الله الرحمن الرحيم الباب الأول
في أولية لسان الدين وذكر أسلافه الذين ورث عنهم المجد وارتضع در أخلافه وما يناسب ذلك مما لا يعدل المنصف إلى خلافه
أقول هو الوزير الشهير الكبير لسان الدين الطائر الصيت في المغرب والمشرق المزري عرف الثناء عليه بالعنبر والعبير المثل المضروب في الكتابة والشعر والطب ومعرفة العلوم على اختلاف أنواعها ومصنفاته تخبر عن ذلك ولا ينبئك مثل خبير علم الرؤساء الأعلام الوزير الشهير الذي خدمته السيوف والأقلام وغني بمشهور ذكره عن مسطور التعريف والإعلام واعترف له بالفضل أصحاب العقول الراجحة والأحلام
قال سليل السلاطين الأمير العلامة إسماعيل بن يوسف ابن السلطان القائم بأمر الله محمد الأحمر نزيل فاس رحمه الله في كتابه المسمى بفرائد الجمان فيمن نظمني وإياه الزمان في حق المذكور ما نصه ذو الوزارتين الفقيه الكاتب أبو عبد الله ابن محمد الرئيس الفقيه الكاتب المنتزي ببلدة لوشة عبد الله ابن الفقيه الكاتب القائد سعيد بن عبد الله ابن الفقيه الصالح ولي الله الخطيب سعيد السلماني اللوشي المعروف بابن الخطيب

وقال القاضي ابن خلدون المغربي المالكي رحمه الله في تاريخه الكبير عندما أجرى ذكر لسان الدين ما نصه أصل هذا الرجل من لوشة على مرحلة من غرناطة في الشمال من البسيط الذي في ساحتها المسمى بالمرج وعلى وادي شنجيل ويقال شنيل المخترق في ذلك البسيط من الجنوب إلى الشمال كان له بها سلك معدود في وزرائها وانتقل أبوه عبد الله إلى غرناطة واستخدم لملوك بني الأحمر واستعمل على مخازن الطعام انتهى
وقال غيره إن بيتهم يعرف قديما ببني الوزير وحديثا ببني الخطيب وسعيد جده أول من تلقب بالخطيب وكان من أهل العلم والدين والخير وكذلك سعيد جدهالأقرب كان على خلال حميدة من خط وتلاوة وفقه وحساب وأدب خيرا صدرا توفي عام ثلاثة وثمانين وستمائة وأبوه عبد الله كان من أهل العلم بالأدب والطب وقرأ على أبي الحسن البلوطي وأبي جعفر ابن الزبير وغيرهما وأجازه طائفة من أهل المشرق وتوفي بطريف عام أحد وأربعين وسبعمائة شهيدا يوم الإثنين السابع من جمادى الأولى من العام المذكور مفقودا ثابت الجأش شكر الله فعله
قلت وما ذكره هؤلاء أكثره مأخوذ من كلامه عند تعريفه رحمه الله بنفسه آخر الإحاطة ولنذكر ملخصه إذ صاحب البيت أدرى بالذي فيه مع ما فيه من الزيادة على ما سبق وهي تتم للطالب أمله وتوفيه
قال رحمه الله يقول مؤلف هذا الديوان تغمد الله خطله في ساعات

أضاعها وشهوة من شهوات اللسان أطاعها وأوقات للإشتغال بما لا يعنيه استبدل بها اللهو لما باعها أما بعد حمد الله الذي يغفر الخطية ويحث من النفس اللجوج المطية فتحرك ركائبها البطية والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد ميسر سبل الخير الوطية والرضى عن آله وصحبه منتهى الفضل ومناخ الطية فإنني لما فرغت من تأليف هذا الكتاب الذي حمل عليه فضل النشاط مع الالتزام لمراعاة السياسة السلطانية والارتباط والتفت إليه فراقني منه صوان درر ومطلع غرر قد تخلدت مآثرهم مع ذهاب أعيانهم وانتشرت مفاخرهم بعد انطواء زمانهم نافستهم في اقتحام تلك الأبواب ولباس تلك الأثواب وقنعت باجتماع الشمل بهم ولو في الكتاب وحرصت على أن أنال منهم قربا وأخذت أعقابهم أدبا وحبا وكما قيل ساقي القوم آخرهم شربا فأجريت نفسي مجراهم في التعريف وحذوت بها حذوهم في بابي النسب والتصريف بقصد التشريف والله سبحانه لا يعدمني وإياهم واقفا يترحم وركاب الاستغفار بمنكبه يزحم عندما ارتفعت وظائف الأعمال وانقطعت من التكسبات حبال الآمال ولم يبق إلا رحمة الله تنتاش النفوس وتخلصها وتعينها بميسم السعادة وتخصصها جعلنا اللهممن حسن ذكره ووقف على التماس ما لديه فكره بمنه
محمد بن عبد الله بن سعيد بن عبد الله بن سعيد بن علي بن أحمد السلماني قرطبي الأصل ثم طليطلية ثم لوشية ثم غرناطية يكنى أبا عبد الله

ويلقب من الألقاب المشرقية بلسان الدين
أوليتي يعرف بيتنا في القديم بوزير ثم حديثا بلوشة ببني الخطيب انتقلوا مع أعلام الجالية القرطبية كيحيى بن يحيى الليثي وأمثاله عند وقعة الربض الشهيرة إلى طليطلة ثم تسربوا محومين على وطنهم قبل استيلاء الطاغية عليه فاستقر منهم بالموسطة الأندلسية جملة من النبهاء تضمن منهم ذكر خلق كعبد الرحمن قاضي كورة باغه وسعيد المستوطن بلوشة الخطيب بها المقرون اسمه بالتسويد عند أهلها جاريا مجرى التسمية بالمركب في تاريخ الغافقي وغيره وسكن عقبهم بها وسكن بعضهم منتقرير مملكين إياها مختطين جبل التحصن والمنعة فنسبوا إليها
وكان سعيد هذا من أهل العلم والخير والصلاح والدين والفضل وزكاء الطعمة أوقفني الوزير أبو الحكم ابن محمد المنتقريري وهو بقية هذا البيت وإخباريه على جدار برج ببعض ربى أملاكنا بلوشة تطؤه الطريق المارة من غرناطة إلى إشبيلية وقال كان جدك يذيع بهذا المكان فصولا من العلم ويجهر بتلاوة القرآن فيستوقف الرفاق المدلجة الحنين إلى نغمته والخشوع إلى صدقه فتعرس رحالها لصق جداره وتريح ظهرها موهنا إلى أن يأتي على ورده
وتوفي وقد أصيب بأهله وحرمه عندما تغلب العدو على بلده عنوة في خبر طويل
وقفت على مكتوبات من المتوكل على الله محمد بن يوسف بن هود أمير المسلمين بالأندلس في غرض إعانته والشفاعة إلى الملكة زوج سلطان قشتالة بما يدل على تباهته قديما

ويفيد إثارة عبرة واستقالة عثرة
وتخلف ولده عبد الله جاريا مجراه في التجلد والتمعش من حر النشب والتزيي بالانقباض والتحلي بالنزاهة إلى أن توفي وتخلف ولده سعيدا جدنا الأقرب وكان صدرا خيرا مستوليا على خلال حميدة من خط وتلاوة وفقه وحساب وأدب نافس جيرته بني الطنجالي الهاشميين وتحول إلى غرناطة عندما شعر بعملهم على الثورة واستطلاعهم إلى النزوة التي خضدت الشوكة واستأصلت منهم الشأفة وصاهر بها الأعيان من بني أضحى بن عبد اللطيف الهمداني أشراف جند حمص الداخلين إلى الجزيرة في طليعة بلج بن بشر القشيري ولحقه من جراء منافسيه لما جاهروا السلطان بالخلعان اعتقال أعتبه السلطان بعده وأحظاه على تفئته وولاه الأعمال النبيهة والخطط الرفيعة
حدثني من أثق به قال عزم السلطان على أن يقعد جدك أستاذا لولده فأنفت من ذلك أم الولد إشفاقا عليه من فظاظة كانت فيه
ثم صاهر القواد من بني الجعدالة على أم أبي ومشت إلى زوج السلطان ببنوة الخؤولة فنبه القدر وانفسخت الحظوة وانثال على البيت الرؤساء والقرابة وكان على قوة شكيمته وصلابة مكسره مؤثرا للخمول محبا في الخير حدثني أبي عن أمه قالت قلما تهنأنا نحن وأبوك طعاما حافلا لإيثاره به من كان يكمن بمسجد جواره من أهل الحاجة وأحلاف الضرورة يهجم علينا منهم بكل وارد ويجعل يده مع يده ويشركه في أكيلته ملتذا بموقعها من فؤاده
وتوفي في ربيع الآخر سنة ثلاث وثمانين وستمائة صهرته الشمس مستسقيا في بعض المحول

وقد استغرق في ضراعته فدلت الحتف على نفسه
وتخلف والدي نابتا في الترف نبت العليق يكنفه رعي أم تجر ذيل نعمة وتحنو منه على واحد تحذر عليه النسيم إذا سرى ففاته لترفه حظ كبير من الاجتهاد وعلى ذلك فقرأ على الخطيب أبي الحسن البلوطي والمقرئ أبي عبد الله ابن مسمغور وأبي جعفر ابن الزبير خاتمة الجلة وكان يفضله
وانتقل إلى لوشة بلد سلفه مخصوصا بلقب الوزارة إلى أن قصدها السلطان أبو الوليد متخطيا إلى الحضرة هاويا إلى ملك البيضة فعضد أمره وأدخله بلده لدواع يطول استقصاؤها ولما تم له الأمر صحب ركابه إلى دار ملكه بشقص عريض من دنياه وكان من رجال الكمال طلق الوجه مع الظرف وتضمن كتاب التاج المحلى والإحاطة رائقا من شعره وفقد في الكائنة العظمى بطريف يوم الإثنين سابع جمادى الأولى سنة إحدى وأربعين وسبعمائة ثابت الجأش غير جزوع ولا هيابة حدثني الخطيب بالمسجد الجامع من غرناطة الفقيه أبو عبد الله ابن اللوشي قال كبا بأخيك الطرف وقد غشي العدو وجنحت إلى إردافه فانحدر إليه والدك وصرفني وقال أنا أولى به فكان آخر العهد بهما انتهى
ومما رثي به والد لسان الدين وأخوه ما ذكره في الإحاطة في ترجمة أبي محمد عبد الله الأزدي إذ قال ما نصه ومما كتب إلي فيما أصابني بطريف
( خطب ألم فأذهب الأخ والأبا ... رغما لأنف شاء ذلك أو أبى )
( قدر جرى في الخلق لا يجد امرؤ ... عما به جرت المقادر مهربا )
( إما جزعت له فعذر بين ... قضت الدواهي أن تحل له الحبا )

( لاكان يومهما الكربة فكم وكم ... فيه المجلي والمصلي قد كبا )
( يوم لوى ليانه لم يبق للإسلام ... حد مهند إلا نبا )
( وتجمعت فيه الضلال فقابلت ... فيه الهدى فتفرقت أيدي سبا )
( آها لعز المحتدين صرامة ... لأذل عز المهتدين وأذهبا )
( دهم المصاب فعم إلا أنه ... فيما يخصك ما أمر وأصعبا )
( يا ابن الخطيب خطاب مكترث لما ... قد ألزم البث الألد وأوجبا )
( قاسمتك الشجو المقاسمة التي ... صارت بخالص ما محضتك مذهبا )
( لم لا وأنت لدي سابق حلبة ... تزهى بمن في السابقين تأدبا )
( لا عاد يوم نال منك ولا أتت ... سنة به ما الليل أبدى كوكبا )
( يهني الشهيدين الشهادة إنها ... سبب يزيد من الإله تقربا )
( وردا على دار النعيم وحورها ... كلفا ببرهما يزدن ترحبا )
( فاستغن بالرحمن عمن قد ثوى ... من حزب خير من ارتضى ومن اجتبى )
فأجبته بقولي
( أهلا بمقدمك السني ومرحبا ... فلقد حباني الله منك بما حبا )
( وافيت والدنيا علي كأنها ... سم الخياط وطرف صبري قد كبا )
( والدهر قد كشف القناع ولم يدع ... لي عدة للروع إلا أذهبا )
( صرف العنان إلي غير مدافع ... عني وأثبت دون نصرتي الشبا )
( خطب تأوبني يضيق لهوله ... رحب الفضا وتهي لموقعه الربى )
( لو كان بالورق الصوادح في الدجى ... ما بي لعاق الورق عن أن تندبا )
( فأنرت من ظلماء همي ما دجا ... وقدحت من زند اصطباري ما خبا )

( فكأني لعب الهجير بمهجتي ... وبعثت لي من نفحها نفس الصبا )
( لا كان يومك يا طريف فطالما ... أطلعت للآمال برقا خلبا )
( ورميت دين الله منك بفادح ... عم البسيط مشرقا ومغربا )
( وخصصتني بالرزء والثكل الذي ... أوهى القوى مني وهد المنكبا )
( لا حسن للدنيا لدي ولا أرى ... للعيش بعد أبي وصنوي مأربا )
( لولا التعلل بالرحيل وأننا ... ننضي من الأعمار فيها مركبا )
( فإذا ركضنا للشبيبة أدهما ... حال المشيب به فأصبح أشهبا )
( والملتقى كثب وفي ورد الردى ... نهل الورى من شاء ذلك أو أبى )
( لجريت طوع الحزن دون نهاية ... وذهبت من خلع التصبر مذهبا )
( والصبر أولى ما استكان له الفتى ... رغما وحق العبد أن يتأدبا )
( وإذا اعتمدت الله يوما مفزعا ... لم تلف منه سوى إليه المهربا )
واقعة طريف
وواقعة طريف هذه استشهد فيها جماعة من الأكابر وغيرهم وكان سببها أن سلطان فاس أمير المسلمين أبا الحسن علي بن عثمان بن يعقوب بن عبد الحق المريني أجاز البحر إلى جزيرة الأندلس برسم الجهاد ونصرة أهلها على عدوهم حسبما جرت بذلك عادة سلفه وغيرهم من ملوك العدوة وشمر عن ساعد الاجتهاد وجر من الجيوش الإسلامية نحو ستين ألفا وجاء إليه أهل الأندلس بقصد الإمداد وسلطانهم ابن الأحمر ومن معه من الأجناد فقضى الله الذي لا مرد لما قدره أن صارت تلك الجموع مكسرة ورجع السلطان أبو الحسن مغلولا وأضحى حسام الهزيمة عليه وعلى من معه مسلولا ونجا برأس طمرة

ولجام ولا تسل كيف وقتل جمع من أهل الإسلام ولمة وافرة من الأعلام وأمضى فيهم حكمه السيف وأسر ابن السلطان وحريمه وخدمه ونهبت ذخائره واستولت على الجميع أيدي الكفر والحيف واشرأب العدو الكافر لأخذ ما بقي من الجزيرة ذات الظل الوريف وثبتت قدمه إذ ذاك في بلد طريف وبالجملة فهذه الواقعة من الدواهي المعضلة الداء والأرزاء التي تضعضع لها ركن الدين بالمغرب وقرت بذلك عيون الأعداء ولولا خشية الخروج عن المقصود لأوردت قصتها الطويلة وسردت منها ما يحق لسامعه أن يكثر بكاءه وعويله وقد ألم بها الولي قاضي القضاة ابن خلدون المغربي في كتاب العبر وديوان والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطانالأكبر فليراجعه من أراده في المجلد الثامن من هذا التاريخ الجامع فإنه ذكر حين ساق هذه الكائنة ما يخرس الألسن ويصم المسامع ولله الأمر من قبل ومن بعد
واقعة الربض
وقول لسان الدين رحمه الله في أولية سلفه إنهم انتقلوا مع أعلام الجالية القرطبية إلى آخره أشار بذلك إلى واقعة الربض الشهيرة التي ذكرها ابن حيان في تاريخه الكبير المسمى بالمقتبس في تاريخ الأندلس وقص أمرها غير واحد كابن الفرضي وابن خلدون وملخصها أن أهل ربض قرطبة ثاروا على الأمير الحكم الأموي وفيهم علماء أكابر مثل يحيى بن يحيى الليثي صاحب إمامنا مالك رضي الله عنه وغيره فكانت النصرة للحكم فلما ظفر وقتل من

شاء أجلى من بقي إلى البلاد وبعضم إلى جزيرة إقريطش ببحر الإسكندرية وفي قصتهم طول وليس هذا محلها
والد لسان الدين
وقال لسان الدين رحمه الله أيضا في حق والده ما حاصله عبد الله بن سعيد ابن عبد الله بن سعيد بن أحمد بن علي بن السلماني أبو محمد غرناطي الولادة والاستيطان لوشي الأصل طليطلية قرطبية
وقال في الإكليل إن طال الكلام وجمحت الأقلام كنت كما قيل مادح نفسه يقرئك السلام وإن إجحمت فما سديت في الثناء ولا ألحمت وأضعت الحقوق وخفت ومعاذ الله العقوق هذا ولو أني زجرت طير البيان من أوكاره وجئت بعون الإحسان وأبكاره لما قضيت حقه بعد ولا قلت إلا بالتي علمت سعد فقد كان رحمه الله ذمر عزم ورجل رخاء وأزم تروق أنوار خلاله الباهرة وتضيء مجالس الملوك من صورتيه الباطنة والظاهرة ذكاء يتوقد وطلاقة يحسد نورها الفرقد وكانت له في الأدب فريضة وفي النادرة العذبة منادح عريضة تكلمت يوما بين يديه في مسائل من الطب وأنشدته أبياتا من شعري ورقاعا من إنشائي فتهلل وما برح أن ارتجل
( الطب والشعر والكتابة ... سماتنا في بني النجابة )
( هن ثلاث مبلغات ... مراتبا بعضها الحجابة )

ووقع لي يوما بخطة على ظهر أبيات بعثتها إليه أعرض عليه نمطها
( وردت كما صدر النسيم بسحرة ... عن روضة جاد الغمام رباها )
( وكأنما هاروت أودع سحره ... فيها وآثرها به وحباها )
( مصقولة الألفاظ يبهر حسنها ... فبمثلها افتخر البليغ وباهى )
( فقررت عينا عند رؤية حسنها ... إني أبوك وكنت أنت أباها )
ومن نظمه قوله
( وقالوا قد دنا فاصبر ستشفى ... فترياق الهوى بعد الديار )
( فقلت هبوا بأن الحق هذا ... بقلبي يمموا فبم اصطباري )
وقال
( عليك بالصمت فكم ناطق ... كلامه أدى إلى كلمه )
( إن لسان المرء أهدى إلى ... غرته والله من خصمه )
( يرى صغير الجرم مستضعفا ... وجرمه أكبر من جرمه )
وقال
( أنا بالدهر يا بني خبير ... فإذا شئت علمه فتعالا )
( كم مليك قد ارتعى منه روضا ... لم يدافع عنه الردى ما ارتعى لا )
( كل شيء تراه يفنى ويبقى ... ربنا الله ذو الجلال تعالى )
مولده بغرناطة في جمادى الأولى عام اثنين وسبعين وستمائة وفقد يوم الوقيعة الكبرى بظاهر طريف يوم الإثنين سابع جمادى الأولى عام واحد وأربعين وسبعمائة ورثيته بقصيدة أولها

( سهام المنايا لا تطيش ولا تخطي ... وللدهر كف تسترد الذي تعطي )
( وإنا وإن كنا على ثبج الدنا ... فلا بد يوما أن نحل على الشط )
( تساوى على ورد الردى كل وارد ... فلم يغن رب السيف عن ربة القرط )
( وسيان ذل الفقر أو عزة الغنى ... ومن أسرع السير الحثيث ومن يبطي )
وهي طويلة
قال ورثاه شيخنا أبو زكريا ابن هذيل بقصيدة يقول فيها
( إذا أنا لم أرث الصديق فما عذري ... إذا قلت أبياتا حسانا من الشعر )
( ولو كان شعري لم يكن غير ندبة ... وأجريت دمعي لليراع عن الحبر )
( لما كنت أقضي حق صحبته التي ... توخيتها عونا على نوب الدهر )
( رماني عبد الله يوم وداعه ... بداهية دهياء قاصمة الظهر )
( قطعت رجائي حين صح حديثه ... فإن يوف لي دمعي فقد خانني صبري )
( وهل مؤنس كابن الخطيب لوحشتي ... أبث له همي وأودعه سري )
ومنها
( تولى وأخبار الجلالة بعده ... مؤرجة الأنباء طيبة النشر )
( رضينا بترك الصبر من بعد بعده ... على قدر ما في الصبر من عظم الأجر )
( أتى بفتيت المسك فوق جبينه ... نجيعا يفوق المسك في موقف الحشر )
( لقد لقي الكفار منها بعزمة ... لها لقيته الحور بالبر والبشر )
( تجلت عروسا جنة الخلد في الوغى ... تقول لأهل الفوز لا يغلكم مهري )
( فكان من القوم الذين تبادروا ... إلى العالم الأعلى مع الرفقة الغر )
( تعالوا بنا نسقي الأباطح والربى ... بقطر دموع غالبات على القطر )

( ألا لا تلم عيني لسكب دموعها ... فما سكبت إلا على الماجد الحر )
ومنها
( أإخواننا جدوا فكم جد غيركم ... وسيروا على خف من الحوب والوزر )
( على سفر أنتم لدار تأخرت ... وما الفوز في الأخرى سوى خفة الظهر )
( وما العيش إلا يقظة مثل نومة ... وما العمر إلا كالخيال الذي يسري )
( على الحق أنتم قادمون فشمروا ... فليس لمخذول هنالك من عذر )
وهي طويلة تجاوز الله عنا وعنهم أجمعين انتهى ما لخصته من كلام لسان الدين رحمه الله
ترجمة أبي بكر ابن عاصم
قلت على منوال كلامه في تحلية أبيه النبيه شيخ الوزير الكاتب الشهير القاضي أبو يحيى ابن عاصم القيسي الأندلسي رحمه الله في وصف أبيه القاضي أبي بكر ابن عاصم صاحب التحفة في علم القضاء وهو محمد بن محمد بن محمد بن عاصم الأندلسي الغرناطي قاضي الجماعة الرئيس أبو بكر ونص المحتاج إليه في هذا المحل من كلام ولده قوله رحمه الله إن بسطت القول أو عددت الطول وأحكمت الأوصاف وتوخيت الإنصاف أنفدت الطروس وكنت كما يقول الناس في المثل من مدح العروس وإن أضربت عن ذلك صفحا فلبئسما صنعت ولشر ما أمسكت المعروف ومنعت ولكم من حقوق الأبوة

أضعت ومن ثدي للمعقة رضعت ومن شيطان لغمصة الحق أطعت ولم أرد إلا الإصلاح ما استطعت وإن توسطت واقتصرت وأوجزت واختصرت فلا الحق نصرت ولا أفنان البلاغة هصرت ولا سبيل الرشد أبصرت ولا عن هوى الحسدة أقصرت هذا لو أني أجهدت ألسنة البلاغة فجهدت وأيقظت عيون الإجادة فسهدت واستعرت مواقف عكاظ على ما عهدت لما قررت من الفضل إلا ما به الأعداء قد شهدت ولا استقصيت من المجد إلا ما أوصت به الفئة الشانئة لخلفها الأبتر وعهدت فقد كان رحمه الله علم الكمال ورجل الحقيقة وقارا لا يخف راسيه ولا يعرى كاسيه وسكونا لا يطرق جانبه ولا يرهب غالبه وحلما لا تزل حصاته ولا تهمل وصاته وانقباضها لا يتعدى رسمه ولا يتجاوز حكمه ونزاهة لا ترخص قيمتها ولا تلين عزيمتها وديانة لا تحسر أذيالها ولا يشف سربالها وإدراكا لا يفل نصله ولا يدرك خصله وذهنا لا يخبو نوره ولا ينبو مطروره وفهما لا يخفى فلقه ولا يهزم فيلقه ولا يلحق بحره ولا يعطل نحره وتحصيلا لا يفلت قنيصه ولا يسام حريصه بل لا يحل عقاله ولا يصدأ صقاله وطلبا لا تتحد فنونه ولا تتعين عيونه بل لا تحصر معارفه ولا تقصر مصارفه يقوم أتم قيام على النحو على طريقة متأخري النحاة جمعا بين القياس والسماع وتوجيه الأقوال البصرية واستحضار الشواهد الشعرية واستظهار اللغات والأعربة واستبصار في مذاهب المعربة محليا أجياد تلك الأعاريب من علمي البديع والبيان بجواهر أسلاك ومجليا في آفاق تلك الأساليب من فوائد هذين الفنين زواهر أفلاك إلى ما يتعلق بذلك من قافية للعروض وميزان وما للشعر من بحور وأوزان تضلع بالقراءات أكمل اضطلاع مع التحقيق والاطلاع

فيقنع ابن الباذش من إقناعه ويشرح لابن شريح ما أشكل من أوضاعه ويقصر عن رتبته الداني ويحوز صدر المنصة من حرز الأماني ويشارك في المنطق وأصول الفقه والعدد والفرائض والأحكام مشاركة حسنة ويتقدم في الأدب نظما ونثرا وكتبا وشعرا إلى براعة الخط وإحكام الرسم وإتقان بعض الصنائع العملية كتفسير الكتب وتنزيل الذهب وغيرهما نشأ بالحضرة العلية لا يغيب عن حلقات المشيخة ولا يريم عن مظان الاستفادة ولا يفتر عن المطالعة والتقييد ولا ينسألم من المناظرة والتحصيل مع المحافظة التي لا تنخرم ولا تنكسر والمفاوضة في الأدب ونظم القريض والفكاهة التي لا تقدح في وقار انتهى ملخصا
وقد أطال في تعريفه بأوراق عدة ثم قال مولده في الربع الثالث من يوم الخميس ثاني عشر جمادى الأولى من عام ستين وسبعمائة كما نقلته من خط ابنه ثم قال وله مسائل متعددة في فنون شتى ضمنها كل سديد من البحث وصحيح النظر وأما كتبه فالدر النفيس والياقوت الثمين والروض الأنف والزهر النضير نصاعة لفظ وأصالة غرض وسهولة تركيب ومتانة أسلوب انتهى
ثم ذكر مشيخته وأطال ثم سرد تآليفه الأرجوزة المسماة بتحفة الحكام والأرجوزة المسماة بمهيع الوصول في علم الأصول أصول الفقه والأرجوزة الصغرى المسماة بمرتقى الوصول للأصول كذلك والأرجوزة المسماة بنيل المنى في اختصار الموافقات والقصيدة المسماة بإيضاح المعاني في القراءات الثماني والقصيدة المسماة بالأمل المرقوب في قراءة يعقوب والقصيدة المسماة بكنز المفاوض في علم الفرائض والأرجوزة المسماة بالموجز في النحو حاذى بها رجز ابن مالك في غرض البسط له والمحاذاة لقصده والكتاب المسمى بالحدائق في أغراض شتى من الآداب والحكايات
توفي بين العصر والمغرب يوم الخميس حادي عشر شوال عام تسعة وعشرين

وثمانمائة انتهى كلام الوزير ابن عاصم وإنما ذكرته لأن أهل الأندلس يقولون في حقه إنه ابن الخطيب الثاني ولولا خوف الإطالة لذكرت بعض إنشائه ونظمه فإنه في الذروة العليا وقد ذكرت جملة من ذلك في أزهار الرياض في أخبار عياض ومايناسبها مما يحصل به للنفس ارتياح وللعقل ارتياض
ولنرجع إلى الترجمة المقصودة فنقول والسلماني نسبة إلى سلمان بإسكان اللام على الصحيح قال ابن الأثير والمحدثون يفتحون اللام وسلمان حي من مراد من عرب اليمن القحطانيين دخل الأندلس منهم جماعة من الشأم وسلف لسان الدين رحمه الله تعالى ينتسبون إليهم كما سبق في كلامه وهو مشهور إلى الآن بالمغرب بابن الخطيب السلماني ولذلك خاطبه شيخه شيخ الكتاب الرئيس أبو الحسن ابن الجياب حين حل مالقة بقوله
( أيا كتابي إذا ما جئت مالقة ... دار الكلام من مثنى ووحدان )
( فلا تسلم على ربع لذي سلم ... بها وسلم على ربع لسلمان )
فأجابه لسان الدين رحم الله تعالى الجميع بقوله
( يا ليت شعري هل يقضي تألفنا ... ويثني الشوق عن غاياته الثاني )
( أو هل يحن على نفسي معذبها ... أو هل يرق لقلبي قلبي الثاني )
عبد العزيز الفشتالي ونونيته
وعلى ذكر نسبة ابن الخطيب لسلمان فقد تذكرت هنا بيتا أنشدنيه لنفسه صاحبنا الوزير الشهير الكبير البليغ صاحب القلم الأعلى سيدي أبو فارس عبد العزيز الفشتالي صب الله تعالى عليه شآبيب رحماه من قصيدة نونية مدح

بها سيد الوجود وتخلص إلى مدح مولانا السلطان المنصور بالله أبي العباس أحمد الحسني أمير المؤمنين صاحب المغرب رحمه الله تعالى وهو
( أولئك فخري إن فخرت على الورى ... ونافس بيتي في الولا بيت سلمان )
وأراد كما أخبرني ببيت سلمان القبيلة التي منها لسان الملة والدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى أشار إلى ولاء الكتابة للخلافة كما كان لسان الدين السلماني رحمه الله تعالى كذلك وفيه مع ذلك تورية بسلمان الفارسي رضي الله عنه وأرضاه
وقد رأيت أن أسرد هنا هذه القصيدة الفريدة لبلاغتها التي بذت شعراء اليتيمة والخريدة ولأن شجون الحديث الذي جر إليها شوقني إلى معاهدي المغربية التي أكثر البكاء عليها بحضرة المنصور بالله الإمام سقى الله تعالى عهادها صوب الغمام حيث الشباب غض يانع والمؤمل لم يحجبه مانع والسلطان عارف بالحقوق والزمان وهو أبو الورى لم يشب بره بالعقوق والليالي مسالمة غير رامية من البين بنبال والغربة الجالبة للكربة لم تخطر ببال ورؤساء الدولة الحسنية السنية ساعون فيما يوافق الغرض ويلائم والأيام ثغورها بواسم وأوقاتها أعياد ومواسم وأفراح وولائم فلله فيها عيش ما نسيناه وعز طالما اقتبسنا نور الهدى من طورسيناه
( مضى ما مضى من حلو عيش ومره ... كأن لم يكن إلا كأضغاث أحلام )
وهذا نص القصيدة
( هم سلبوني الصبر والصبر من شاني ... وهم حرموا من لذة الغمض أجفاني )
( وهم أخفروا في مهجتي ذمم الهوى ... فلم يثنهم عن سفكها حبي الجاني )

( لئن أترعوا من قهوة البين أكؤسي ... فشوقهم أضحى سميري وندماني )
( وإن غادرتني بالعراء حمولهم ... لقى إن قلبي جاهد إثر أظعاني )
( قف العيس واسأل ربعهم أية مضوا ... أللجزع ساروا مدلجين أم البان )
( وهل باكروا بالسفح من جانب اللوى ... ملاعب آرام هناك وغزلان )
( وأين استقلوا هل بهضب تهامة ... أناخوا المطايا أم على كثب نعمان )
( وهل سال في بطن المسيل تشوقا ... نفوس ترامت للحمى قبل جثمان )
( وإذ زجروها بالعشي فهل ثنى ... أزمتها الحادي إلى شعب بوان )
( وهل عرسوا في دير عبدون أم سروا ... يؤم بهم رهبانهم دير نجران )
( سروا والدجى صبغ المطارف فانثنى ... بأحداجهم شتى صفات وألوان )
( وأدلج في الأسحار بيض قبابهم ... فلحن نجوما في معارج كثبان )
( لك الله من ركب يرى الأرض خطوة ... إذا زمها بدنا نواعم أبدان )
( أرحها مطايا قد تمشي بها الهوى ... تمشي الحميا في مفاصل نشوان )
( ويمم بها الوادي المقدس بالحمى ... به الماء صدا والكلا نبت سعدان )
( وأهد حلول الحجر منه تحية ... تفاوح عرفا ذاكي الرند والبان )
( لقد نفحت من شيح يثرب نفحة ... فهاجت مع الأسحار شوقي وأشجاني )
( وفتت منها الشرق في الغرب مسكة ... سحبت بها في أرض دارين أرداني )
( وأذكرني نجدا وطيب عراره ... نسيم الصبا من نحو طيبة حياني )
( أحن إلى تلك المعاهد إنها ... معاهد راحاتي وروحي وريحاني )
( وأهفو مع الأشواق للوطن الذي ... به صح لي أنسي الهني وسلواني )
( وأصبوا إلى أعلام مكة شائقا ... إذ لاح برق من شمام وثهلان )
( أهيل الحمى ديني على الدهر زورة ... أحث بها شوقا لكم عزمي الواني )
( متى يشتفي جفني القريح بلحظة ... تزج بها في نوركم عين إنساني )

( ومن لي بأن يدنو لقاكم تعطفا ... ودهري عني دائما عطفة ثاني )
( سقى عهدهم بالخيف عهد تمده ... سوافح دمع من شؤوني هتان )
( وأنعم في شط العقيق أراكة ... بأفيائها ظل المنى والهوى داني )
( وحيا ربوعا بين مروة والصفا ... تحية مشتاق بها الدهر حيران )
( ربوعا بها تتلو الملائكة العلا ... أفانين وحي بين ذكر وقرآن )
( وأول أرض باكرت عرصاتها ... وطرزت البطحا سحائب إيمان )
( وعرس فيها للنبوة موكب ... هو البحر طام فوق هضب وغيطان )
( وأدى بها الروح الأمين رسالة ... أفادت بها البشرى مدائح عنوان )
( هنالك فض ختمها أشرف الورى ... وفخر نزار من معد بن عدنان )
( محمد خير العالمين بأسرها ... وسيد أهل الأرض م الإنس والجان )
( ومن بشرت في بعثه قبل كونه ... نوامس كهان وأخبار رهبان )
( وحكمة هذا الكون لولاه ما سمت ... سماء ولا غاضت طوافح طوفان )
( ولا زخرفت من جنة الخلد أربع ... تسبح فيها أدم حور وولدان )
( ولا طلعت شمس الهدى غب دجية ... تجهم من ديجورها ليل كفران )
( ولا أحدقت بالمذنبين شفاعة ... يذود بها عنهم زباني نيران )
( له معجزات أخرست كل جاحد ... وسلت على المرتاب صارم برهان )
( له انشق قرص البدر شقين وارتوى ... بماء همى من كفه كل ظمآن )
( وأنطقت الأصنام نطقا تبرأت ... إلى الله فيه زخارف ميان )
( دعا سرحة عجما فلبت وأقبلت ... تجر ذيول الزهر ما بين أفنان )

( وضاءت قصور الشام من نوره الذي ... على كل أفق نازح القطر أو داني )
( وقد بهج الأنوا بدعوته التي ... كست أوجه الغبراء بهجة نيسان )
( وإن كتاب الله أعظم آية ... بها افتضح المرتاب وابتأس الشاني )
( وعدي على شأو البليغ بيانه ... فهيهات منه سجع قس وسحبان )
( نبي الهدى من أطلع الحق أنجما ... محا نورها أسداف إفك وبهتان )
( لعزتها ذل الأكاسرة الألى ... هم سلبوا تيجانها آل ساسان )
( وأحرز للدين الحنيفي بالظبى ... تراث الملوك الصيد من عهد يونان )
( ونقع من سمر القنا السم قيصرا ... فجرعه منه مجاجة ثعبان )
( وأضحت ربوع الكفر والشك بلقعا ... يناغي الصدى فيهن هاتف شيطان )
( وأصبحت السمحا ترف نضارة ... ووجه الهدى بادي الصباحة للراني )
( أيا خير أهل الأرض بيتا ومحتدا ... وأكرم كل الخلق عجم وعربان )
( فمن للقوافي أن تحيط بوصفكم ... ولو ساجلت سبقا مدائح حسان )
( إليك بعثناها أماني أجدبت ... لتسقى بمزن من أياديك هتان )
( أجرني إذا أبدى الحساب جرائمي ... وأثقلت الأوزار كفة ميزاني )
( فأنت الذي لولا وسائل عزه ... لما فتحت أبواب عفو وغفران )
( عليك سلام الله ما هبت الصبا ... وماست على كثبانها ملد قضبان )
( وحمل في جيب الجنوب تحية ... يفوح بمسراها شذا كل توقان )
( إلى العمرين صاحبيك كليهما ... وتلوهما في الفضل صهرك عثمان )
( وحيا عليا عرفها وأريجها ... ووالى على سبطيك أوفر رضوان )

( إليك رسول الله صممت عزمة ... إذا أزمعت فالشحط والقرب سيان )
( وخاطبت مني القلب وهو مقلب ... على جمرة الأشواق فيك فلباني )
( فيا ليت شعري هل أزم قلائصي ... إليك بدارا أو أقلقل كيراني )
( وأطوي أديم الأرض نحوك راحلا ... نواجي المهارى في صحاصح قيعان )
( يرنحها فرط الحنين إلى الحمى ... إذا غرد الحادي بهن وغناني )
( وهل تمحون عني خطايا افترفتها ... خطا لي في تلك البقاع وأوطان )
( وماذا عسى يثني عناني وإن لي ... بآلك جاها صهوة العز أمطاني )
( إذا ند عن زوارك البأس والعنا ... فجود ابنك المنصور أحمد أغناني )
( عمادي الذي أوطا السماكين أخمصا ... وأوفى على السبع الطباق فأدناني )
( متوج أملاك الزمان وإن سطا ... أحل سيوفا في معاقد تيجان )
( وقاري أسود الغاب بالصيد مثلها ... إذا اضطرب الخطي من فوق جدران )
( هزبر إذا زار البلاد زئيره ... تضاءل في أخياسها أسد خفان )
( وإن أطلعت غيم القتام جيوشه ... وأرزم في مركومه رعد نيران )
( صببن على أرض العداة صواعقا ... أسلن عليهم بحر خسف ورجفان )
( كتائب لو يعلون رضوى لصدعت ... صفاه الجياد الجرد تعدو بعقبان )
( عديد الحصى من كل أروع معلم ... وكل كمي بالرديني طعان )
( إذا جن ليل الحرب عنهم طلى العدا ... هدتهم إلى أوداجها شهب خرصان )
( من اللاء جرعن العدا غصص الردى ... وعفرن في وجه الثرى وجه بستان )
( وفتحن أقطار البلاد فأصبحت ... تؤدي الخراج الجزل أملاك سودان )

( إمام البرايا من علي نجاره ... ومن عترة سادوا الورى آل زيدان )
( دعائم إيمان وأركان سؤدد ... ذوو همم قد عرست فوق كيوان )
( هم العلويون الذين وجوههم ... بدور إذا ما أحلكت شهب أزمان )
( وهم آل بيت شيد الله سمكه ... على هضبة العلياء ثابت أركان )
( وفيهم فشا الذكر الحكيم وصرحت ... بفضلهم آيات ذكر وفرقان )
( فروع ابن عم المصطفى ووصيه ... فناهيك من فخرين قربى وقربان )
( ودوحة مجد معشب الروض بالعلا ... يجود بأمواه الرسالة ريان )
( بمجدهم الأعلى الصريح تشرفت ... معد على العرباء عاد وقحطان )
( أولئك فخري إن فخرت على الورى ... ونافس بيتي في الولا بيت سلمان )
( إذا اقتسم المداح فضل فخارهم ... فقسمي بالمنصور ظاهر رجحان )
( إمام له في جبهة الدهر ميسم ... ومن عزه في مفرق الملك تاجان )
( سما فوق هامات النجوم بهمة ... يحوم بها فوق السموات نسران )
( وأطلع في أفق المعالي خلافة ... عليها وشاح من علاه وسمطان )
( إذا ما احتبى فوق الأسرة وارتدى ... على كبرياء الملك نخوة سلطان )
( توسمت لقمان الحجي وهو ناطق ... وشاهدت كسرى العدل في صدر إيوان )
( وإن هزه حر الثناء تدفقت ... أنامله عرفا تدفق خلجان )
( أيا ناظر الإسلام شم بارق المنى ... وباكر لروض في ذرا المجد فينان )
( قضى الله في علياك أن تملك الدنا ... وتفتحها ما بين سوس وسودان )
( وأنك تطوي الأرض غير مدافع ... فمن أرض سودان إلى أرض بغدان )
( وتملؤها عدلا يرف لواؤه ... على الهرمين أو على رأس غمدان )
( فكم هنأت أرض العراق بك العلا ... ووافت بك البشرى لأطراف عمان )
( فلو شارفت شرق البلاد سيوفكم ... أتاك استلابا تاج كسرى وخاقان )

( ولو نشر الأملاك دهرك أصبحت ... عيالا على علياك أبناء مروان )
( وشايعك السفاح يقتاد طائعا ... برايته السوداء أهل خراسان )
( فما المجد إلا ما رفعت سماكه ... على عمدي سمر الطوال ومران )
( وهاتيك أبكار القوافي جلبتها ... تغار لهن الحور في دار رضوان )
( أتتك أمير المؤمنين كأنها ... لطائم مسك أو خمائل بستان )
( تعاظمن حسنا أن يقال شبيهها ... فرائد در أو قلائد عقيان )
( فلا زلت للدنيا تحوط جهاتها ... وللدين تحميه بملك سليمان )
( ولا زلت بالنصر العزيز مؤزرا ... تقاد لك الأملاك في زي عبدان )
نونية أبي الفتح التونسي
انتهت القصيدة التي في تغزلها شرح الحال وإعراب عما في ضمير الغربة والارتحال ولنعززها بأختها في البحر والروي قصيدة القاضي الشهير الذكر الأديب الذي سلبت النهى كواعب شعره إذ أبرزها من خدور الفكر الشيخ الإمام سيدي أبو الفتح محمد بن عبد السلام المغربي التونسي نزيل دمشق الشام صب الله على ضريحه سجال الرحمة والإنعام فإنها نفث مصدور غريب وبث معذور أريب فارق مثلي أوطانه وما سلاها وقرأ آيات الشجو وتلاها وتمنى أن يجود له الدهر برؤية مجتلاها وهي قوله رحمه الله وأنشأها بدمشق عام واحد وخمسين وتسعمائة
( سلوا البارق النجدي عن سحب أجفاني ... وعما بقلبي من لواعج نيران )
( ولا تسألوا غير الصبا عن صبابتي ... وشدة أشواقي إليكم وأشجاني )
( فما لي سواها من رسول إليكم ... سريع السرى في سيره ليس بالواني )

( فيا طال بالأسحار ما قد تكلفت ... بإنعاش محزون وإيقاظ وسنان )
( وتنفيس كرب عن كثيب متيم ... يحن إلى أهل ويصبو لأوطان )
( فلله ما أذكى شذا نسمة الصبا ... صباحا إذا مرت على الرند والبان )
( وسارت مسير الشمس وهنا فأصبحت ... من الشرق نحو الغرب تجري بحسبان )
( وقد وقفت بالشام وقفة حامل ... نوافج مسك من ظباء خراسان )
( لترتاض في تلك الرياض هنيئة ... وتزداد من أزهارها طيب أردان )
( وما غربت حتى تضاعف نشرها ... بواسطتي روح هناك وريحان )
( فكم نحوكم حملتها من رسالة ... مدونة في شرح حالي ووجداني )
( وناشدتها بالله إلا تفضلت ... بتبليغ أحبابي السلام وجيراني )
( تحية مشتاق إلى ذلك الحمى ... وسكانه والنازحين بأظعان )
( سقى الله هاتيك الديار وأهلها ... سحائب تحكي صوب مدمعي القاني )
( وحيا ربوع الحي من خير بلدة ... تخيرها قدما أفاضل يونان )
( هي الحضرة العليا مدينة تونس ... أنيسة إنسان رآها بإنسان )
( لها الفخر والفضل المبين بما حوت ... من الأنس والحسن المنوط بإحسان )
( لقد حل منها آل حفص ملوكها ... مراتب تسمو فوق هامة كيوان )
( وسادوا بها كل الملوك وشيدوا ... بها من مباني العز أفخر بنيان )
( وكان لهم فيها بهاء وبهجة ... وحسن نظام لا يعاب بنقصان )
( وكان لهم فيها عساكر جمة ... تصول بأسياف وتسطو بمران )
( وجيوش وفرسان يضيق بها الفضا ... ويحجم عنها الفرس من آل ساسان )
( وكان لأهليها المفاخر والعلا ... وكان بها حصنا أمان وإيمان )
( وكان على الدنيا جمال بحسنها ... وحسن بنيها من ملوك وأعيان )
( وكانت لطلاب المعارف قبلة ... لما في حماها من أئمة عرفان )
( وكان لأهل العلم فيها وجاهة ... وجاه وعز مجده ليس بالفاني )
( وكان بواديها المقدس فتية ... تقدس باريها بذكر وقرآن )

( ومن أدباء النظم والنثر معشر ... تفوق بناديها بلاغة سحبان )
( وكانت على الأعداء في حومة الوغى ... تطول بأبطال وتسطو بشجعان )
( وما برحت فيها محاسن جمة ... وفي كل نوع أهل حذق وإتقان )
( إلى أن رمتها الحادثات بأسهم ... وسلت عليها سيف بغي وعدوان )
( فما لبثت تلك المحاسن أن عفت ... وأقفر ربع الأنس من بعد سكان )
( وشتت ذاك الشمل من بعد جمعه ... كما انتثرت يوما قلائد عقيان )
( فأعظم برزء خص خير مدينة ... وخير أناس بين عجم وعربان )
( لعمري لقد كادت عليها قلوبنا ... تضرم من خطب عراها بنيران )
( وقد عمنا غم بعظم مصابها ... وإن خصني منه المضر بجثماني )
( وما بقيت فيما علمناه بلدة ... من الشرق إلا ألبست ثوب أحزان )
( فصبرا أخي صبرا على المحنة التي ... رمتك بها الأقدار ما بين إخوان )
( فما الدهر إلا هكذا فاصطبر له ... رزية مال أو تفرق خلان )
( أأحبابنا إن فرق الدهر بيننا ... وطال مغيبي عنكم منذ أزمان )
( فإني على حفظ الوداد وحقكم ... مقيم وما هجر الأحبة من شاني )
( ووالله والله العظيم ألية ... على صدقها قامت شواهد برهان )
( لقد زاد وجدي واشتياقي إليكم ... وبرح بي طول البعاد وأضناني )
( فلا تحسبوا أني تسليت بعدكم ... بشيء من الدنيا وزخرفها الفاني )
( ولا أنني يوما تناسيت عهدكم ... بحال ولا أن التكاثر ألهاني )
( ولا راقني روض ولا هش مسمعي ... لنغمة أطيار ورنة عيدان )
( ولا حل في فكري سواكم بخلوة ... ولا جلوة ما بين حور وولدان )
( ولا اختلجت يوما ضمائر مهجتي ... لغيركم في سر سري وإعلاني )
( ولو لم أسل النفس بالقرب واللقا ... لأدرج جسمي في مقاطع أكفاني )

( فما أنا في عودي إليكم بآيس ... فما اليأس إلا من علامة كفران )
( عليكم سلام الله في كل ساعة ... تحية صب لا يدين بسلوان )
( مدى الدهر ما ناحت مطوقة وما ... تعاقب بين الخافقين الجديدان )
نونية ابن الخطيب
ولصاحب الترجمة لسان الدين ابن الخطيب قصيدة طنانة بهذا الوزن والقافية مدح بها السلطان أبا سالم المريني حين فتح تلسمان وقد رأيت إيرادها في هذا الباب لما اشتمل عليه آخرها من شرح أمر الإغتراب الذي حير الألباب وللمناسبة أسباب لا تخفى على من له فكر مصيب وكل غريب للغريب نسيب وهي
( أطاع لساني في مديحك إحساني ... وقد لهجت نفسي بفتح تلمسان )
( فأطلعتها تفتر عن شنب المنى ... وتسفر عن وجه من السعد حياني )
( كما ابتسم النوار عن أدمع الحيا ... وجف بخد الورد عارض نيسان )
( كما صفقت ريح الشمال شمولها ... فبان ارتياح السكر في غصن البان )
( تهنيك بالفتح لذي معجزاته ... خوارق لم تذخر سواك لإنسان )
( خففت إليها والجفون ثقيلة ... كما خف شثن الكف من أسد خفان )
( وقدت إلى الأعداء فيها مبادرا ... ليوث رجال في مناكب عقبان )
( تمد بنود النصر منهم ظلالها ... على كل مطعام العشيات مطعان )
( جحاجحة غر الوجوه كأنما ... عمائمهم فيها معاقد تيجان )
( أمدك فيها الله بالملإ العلا ... فجيشك مهما حقق الأمر جيشان )

( لقد جليت منك البلاد لخاطب ... لقد جنيت منك الغصون إلى جاني )
( لقد كست الإسلام بيعتك الرضى ... وكانت على أهليه بيعة رضوان )
( ولله من ملك سعيد ونصبة ... قضى المشتري فيها بعزلة كيوان )
( وسجل حكم العدل بين بيوتها ... وقوفا مع المشهور من رأي يونان )
( فلم تخش سهم القوس صفحة بدرها ... ولم تشك فيها الشمس من بخس ميزان )
( ولم يعترض مبتزها قطع قاطع ... ولا نازعت نوبهرها كف عدوان )
( تولى اختيار الله حسن اختيارها ... فلم يحتج الفرغان فيها لفرغان )
( ولا صرفت فيها دقائق نسبة ... ولو خفقت فيها طوالع بلدان )
( وجوه القضايا في كمالك شأنها ... وجوب إذا خصت سواك بإمكان )
( ومن قاس منك الجود بالبحر والحيا ... فقد قاس تمويها قياس سفسطاني )
( وطاعتك العظمى بشارة رحمة ... وعصيانك المحذور نزغة شيطان )
( وحبك عنوان السعادة والرضى ... ويعرف مقدار الكتاب بعنوان )
( ودين الهدى جسم وذاتك روحه ... وكم وصلة ما بين روح وجثمان )
( تضن بك الدنيا ويحرسك العلا ... كأنك منها بين لحظ وأجفان )
( بنيت على أساس أسلافك العلا ... فلا هدم المبني ولا عدم الباني )
( وصاحت بك العليا فلم تك غافلا ... ونادت بك الدنيا فلم تك بالواني )
( ولم تك في خوض البحار بهائب ... ولم تك في نيل الفخار بكسلان )
( لقد هز منك العزم لما انتضيته ... ذوائب رضوى أو مناكب ثهلان )
( ولله عينا من رآها محلة ... هي الحشر لا تحصى بعد وحسبان )
( وتنور عزم فار في إثر دعوة ... يعم الأقاصي والأدانى بطوفان )
( عجائب أقطار ومألف شارد ... وأفلاذ آفاق وموعد ركبان )
( إذا ما سرحت اللحظ في عرصاتها ... تبلد منك الذهن في العالم الثاني )
( جنى حان والنصر العزيز اهتصاره ... إذا انتظمت بالقلب منها جناحان )

( فمن سحب لاحت بها شهب القنا ... ومن كثب بيض بدت فوق كثبان )
( مضارب في البطحاء بيض قبابها ... كما قلبت للعين أزهار سوسان )
( وما إن رأى الراءون في الدهر قبلها ... قرارة عز في مدينة كتان )
( تفوت التفات الطرف حال اقتبالها ... كأنك قد سخرت جن سليمان )
( فقد أطرقت من خوفها كل بيعة ... وطأطأ من إجلالها كل إيوان )
( وقد ذعرت خولان بين بيوتها ... غداة بدت منها البيوت بخولان )
( فلو رميت مصر بها وصعيدها ... لأضحت خلاء بلقعا بعد عمران )
( ولو يممت سيف بن ذي يزن لما ... تقرر ذاك السيف في غمد غمدان )
( تراع بها الأوثان في أرض رومة ... إذا خيمت شرقا على طرق أوثان )
( وتجفل إجفال النعامي ببرقة ... ليوث الشرى ما بين ترك وعربان )
( وعرضا كيوم العرض أذهل هوله ... عياني وأعياني تعدد أعيان )
( وجيشا كقطع الليل للخيل تحته ... إذا صهلت مفتنة رجع ألحان )
( فيومض من بيض الظبي ببوارق ... ويقذف من سمر الرماح بشهبان )
( ويمطر من ودق السهام بحاصب ... سحائبه من كل عوجاء مرنان )
( وجردا إذا ما ضمرت يوم غاية ... تعجبت من ريح تقاد بأرسان )
( تسابق ظلمان الفلاة بمثلها ... وتذعر غزلان الرمال بغزلان )
( ودون مهب العزم منك قواضب ... أبي النصر يوما أن تلم بأجفان )
( نظرت إليها والنجيع لباسها ... فقلت سيوف أم شقائق نعمان )
( تفتح وردا خدها حين جردت ... ولا ينكر الأقوام خجلة عريان )
( كأن الوغى نادت بها لوليمة ... قد احتفلت أوضاعها منذ أزمان )
( فإن طعمت بالنصر كان وضوءها ... نجيعا ووافاها الغبار بأشنان )
( لقد خلصت لله منك سجية ... جزاك على الإحسان منك بإحسان )
( فسيفك للفتح المبين مصاحب ... وعزمك والنصر المؤزر إلفان )
( فرح واغد للرحمن تحت كلاءة ... وسرحان في غاب العدا كل سرحان )

( ودم المنى تدني إليك قطافها ... ميسر أوطار ممهد أوطان )
( وكن واثقا بالله مستنصرا به ... فسلطانه يعلو على كل سلطان )
( كفاك العدا كاف لملكك كافل ... فضدك نضو ميت بين أكفان )
( رضى الوالد المولى أبيك عرفته ... وقد أنكر المعروف من بعد عرفان )
( فكم دعوة أولاك عند انتقاله ... إلى العالم الباقي من العالم الفاني )
( فعرفت في السراء نعمة منعم ... وألحفت في الضراء رحمة رحمان )
( عجبت لمن يبغي الفخار بدعوة ... مجردة من غير تحقيق برهان )
( وسنة إبراهيم في الفخر قد أتت ... بكل صحيح عن علي وعثمان )
( ومن مثل إبراهيم في ثبت موقف ... إذا ما التقى في موقف الحرب صفان )
( إذا هم لم يلفت بلحظة هائب ... وإن من لم ينفث بلفظه منان )
( فصاحة قس في سماحة حاتم ... وإقدام عمرو تحت حكمة لقمان )
( شمائل ميمون النقيبة أروع ... له قصبات السبق في كل ميدان )
( محبته فرض على كل مسلم ... وطاعته في الله عقدة إيمان )
( هنيئا أمير المسلمين بنعمة ... حبيت بها من مطلق الجود منان )
( لزينت أجياد المنابر بالتي ... أتاح لها الرحمن في آل زيان )
( قلائد فتح هن لكن قدرها ... ترفع أن يدعى قلائد عقيان )
( أمولاي حبي في علاك وسيلتي ... ولطفك بي دأبا بمدحك أغراني )
( أياديك لا أنسى على بعد المدى ... نعوذ بك اللهم من شر نسيان )
( فلا جحد ما خولتني من سجيتي ... ولا كفر نعماك العميمة من شاني )
( ومهما تعجلت الحقوق لأهلها ... فإنك مولاي الحقيق وسلطاني )
( وركني الذي لما نبا بي منزلي ... أجاب ندائي بالقبول وآواني )
( وعالج أيامي وكانت مريضة ... بحكمة من لم ينتظر يوم بحران )
( فأمنني الدهر الذي قد أخافني ... وجدد لي السعد الذي كان أبلاني )

( وخولني الفضل الذي هو أهله ... وشيكا وأعطاني فأفعم أعطاني )
( تخونني صرف الحوادث فانثنى ... يقبل أرداني ومن بعد أرداني )
( وأزعجني من منشئي ومبوئي ... ومعهد أحبابي ومألف جيراني )
( بلادي التي فيها عقدت تمائمي ... وجم بها وفري وجل بها شاني )
( تحدثني عنها الشمال فتنثني ... وقد عرفت مني شمائل نشوان )
( وآمل أن لا أستفيق من الكرى ... إذا الحلم أوطاني بها تراب أوطاني )
( تلون إخواني علي وقد جنت ... علي خطوب جمة ذات ألوان )
( وما كنت أدري قبل أن يتنكروا ... بأن خواني كان مجمع خواني )
( وكانت وقد حم القضاء صنائعي ... علي بما لا أرتضي شر أعواني )
( فلولاك بعد الله يا ملك العلا ... وقد فت ما ألفيت من يتلافاني )
( تداركت مني بالشفاعة منعما ... بريئا رماه الدهر في موقف الجاني )
( فإن عرف الأقوام حقك وفقوا ... وإن جهلوا باءوا بصفقة خسران )
( وإن خلطوا عرفا بنكر وقصروا ... وزنت بقسطاس قويم وميزان )
( وحرمة هذا اللحد يأبى كمالها ... هضيمة رد أو حطيطة نقصان )
( وقد نمت عن أمري ونبهت همة ... تحدق من علو إلى صرح هامان )
( إذا دانت الله النفوس وأملت ... إقالة ذنب أو إنالة غفران )
( فمولاك يا مولاي قبلة وجهتي ... وعهدة إسراري وحجة إعلاني )
( وقفت على مثواه نفسي قائما ... بترديد ذكر أو تلاوة قرآن )
( ولو كنت أدري فوقها من وسيلة ... إلى ملكك الأرضى لشمرت أرداني )
( وأبلغت نفسي جهدها غير أنني ... طلابي ما بعد النهاية أعياني )
( قرأت كتاب الحمد فيك لعاصم ... فصح أدائي واقتدائي وإتقاني )

( فدونكها من بحر فكري لؤلؤا ... يفصل من حسن النظام بمرجان )
( وكان رسول الله بالشعر يعتني ... وكم حجة في شعر كعب وحسان )
( ووالله ما وفيت قدرك حقه ... ولكنه وسعي ومبلغ إمكاني )
رسالة لسان الدين إلى أبي سالم
وكتب لسان الدين رحمه الله قبل هذه القصيدة نثرا من إنشائه يخاطب به السلطان أبا سالم المذكور وذلك أنه ورد على لسان الدين وهو بشالة سلا كتاب السلطان المذكور بفتح تلمسان وكان وروده يوم الخميس سابع عشر شعبان عام واحد وستين وسبعمائة ونص ما كتب به لسان الدين
مولاي فتاح الأقطار والأمصار فائدة الأزمان والأعصار أثير هبات الله الآمنة من الاعتصار قدوة أولي الأيدي والأبصار ناصر الحق عند قعود الأنصار مستصرخ الملك الغريب من وراء البحار مصداق دعاء الأب المولى في الأصائل والأسحار أبقاكم الله سبحانه لا تقف إيالتكم عند حد ولا تحصى فتوحات الله تعالى عليكم بعد ولا تفيق اعداؤكم من كد ميسرا على مقامكم ما عسر على كل أب كريم وجد عبدكم الذي خلص إبريز عبوديته لملك ملككم المنصور المعترف لأدنى رحمة من رحماتكم بالعجز عن شكرها والقصور الداعي إلى الله سبحانه أن يقصر عليكم سعادة العصور ويذلل بعز طاعتكم أنف الأسد الهصور ويبقى الملك في عقبكم وعقب عقبكم إلى يوم ينفخ فيه الصور فلان من الضريح المقدس بشالة وهو الذي تعددت على المسلمين حقوقه وسطع نوره وتلألأ شروقه وبلغ مجده السماء لما بسقت فروعه ووشجت عروقه وعظم ببيوتكم فخره فما فوق البسيطة فخر يفوقه حيث الجلال قد رست هضابه والملك قد كسيت بأستار الكعبة الشريفة قبابه والبيت العتيق قد ألحفت الملاحف الإمامية أثوابه والقرآن العزيز ترتل أحزابه

والعمل الصالح يرتفع إلى الله ثوابه والمستجير يخفي بالهيبة سؤاله فيجهر بنعرة العز جوابه وقد تفيأ من أوراق الذكر الحكيم حديقة وخميلة أنيقة وحط بجودي الجود نفسا في طوفان العز غريقة والتحف رفرف الهيبة التي لا تهتدي النفس فيها إلا بهداية الله تعالى طريقة واعتز بعزة الله وقد توسط جيش الحرمة المرينية حقيقة إذ جعل المولى المقدس المرحوم أبا الحسن مقدمة وأباه وجده سيقة يرى بركم بهذا اللحد الكريم قد طنب عليه من الرضى فسطاطا وأعلق به يد العناية المرينية اهتماما واغتباطا وحرر له أحكام الحرمة نصا جليا واستنباطا وضمن له حسن العقبى التزاما واشتراطا وقد عقد البصر بطريقة رجمتكم المنتظرة المرتقبة ومد اليد إلى لطائف شفاعتكم التي تتكفل بعتق المال كما تكفلت بعتق الرقبة وشرع في المراح بميدان نعمتكم بعد اقتحام هذه العقبة لما شنفت الأذن البشرى التي لم يبق طائر إلا سجع بها ولا شهاب دجنة إلا اقتبس من نورها واقتدح ولا إلا انشرح ولا غصن عطف إلا مرح بشرى الفتح القريب وخبر النصر الصحيح الحسن الغريب فتح تلمسان الذي قلد المنابر عقود الابتهاج ووهب الإسلام منيحة النصر غنية عن الانتهاج وألحف الخلق ظلا ممدودا وفتح باب الحج وكان مسدودا وأقر عيون أولياء الله الذين يذكرون الله قياما وقعودا وأضرع بسيف الحق جباها أبية وخدودا وملككم حق أبيكم الذي أهان عليه الأموال وخاض من دونه الأهوال وأخلص فيه الضراعة والسؤال من غير كد يغمز عطف المسرة ولا جهد يكدر صفو النعم الثرة ولا حصر ينفض به المنجنيق ذؤابته ويظهر بتكرار الركوع إنابته
فالحمد لله الذي أقال العثار ونظم بدعوتكم الإنتثار وجعل ملككم يجدد الآثار ويأخذ الثار والعبد يهنئ مولاه بما أنعم الله تعالى به عليه وأولاه فإذا أجال العبيد قداح السرور فللعبد المعلى والرقيب إذا استهموا حظوظ الجذل فلي القسم الوافر والنصيب وإذا اقتسموا فريضة شكر الله فلي الحظ

والتعصيب لتضاعف أسباب العبودية قبلي وترادف النعم التي عجز عنها قولي وعملي وتقاصر في ابتغاء مكافأتها وجدي وإن تطاول أملي فمقامكم المقام الذي نفس الكربة وآنس الغربة ورعى الوسيلة والقربة وأنعش الأرماق وفك الوثاق وأدر الأرزاق وأخذ على الدهر بالاستقالة العهد والميثاق
وإن لم يباشر العبد اليد العالية بهذا الهناء ويمثل بين يدي الخلافة العظيمة السنا والسناء ويمد بسبب اليد إلى تلك السماء فقد باشر به اليد التي يحن مولاي لتذكر تقبيلها ويكمل فروض المجد بتوفية حقوقها الأبوية وتكميلها ووقفت بين يدي ملك الملوك الذي أجال عليها القداح ووصل في طلب وصالها بالمساء الصباح وكان فتحه إياها أبا عذرة الافتتاح وقلت يهنيك يا مولاي رد ضالتك المنشودة وجبر لقطعتك المعرفة المشهودة ورد أمتك المودودة فقد استحقها وارثك الأرضى وسيفك الأمضى وقاضي دينك وقرة عينك مستنفذ دارك من يد غاصبها وراد رتبتك إلى مناصبها وعامر المثوى الكريم وساتر الأهل والحريم مولاي هذه تلمسان قد طاعت وأخبار الفتح على ولدك الحبيب إليك قد شاعت والأمم إلى هنائه قد تداعت وعدوك وعدوه قد شردته المخافة وانضاف إلى عرب الصحراء فخفضته الإضافة وعن قريب تتحكم فيه يد احتكامه وتسلمه السلامة إلى حمامه فلتطب يا مولاي نفسك وليستبشر رمسك فقد نمت بركتك وزكا غرسك نسأل الله أن يورد على ضريحك من أنباء نصره ما تفتح له أبواب السماء قبولا ويترادف إليك مددا موصولا وعددا آخرته خير لك من الأولى ويعرفه بركة رضاك ظعنا وحلولا ويضفي عليك منه سترا مسدولا
ولم يقنع العبد بخدمة النثر حتى أجهد القريحة التي ركضها الدهر فأنضاها واستشفها الحادث الجلل فتقضاها فلفق من خدمة المنظوم ما يتغمد حلمكم تقصيره ويكون إغضاؤكم إذا لقي معرة العتب وليه ونصيره وإحالة مولاي

على الله في نفسي جبرها ووسيلة عرفها مجده فما أنكرها وحرمة بضريح مولاي والده شكرها ويطلع العبد منه على كمال أمله ونجح عمله وتسويغ مقترحه وتتميم جذله
( أطاع لساني في مديحك إحساني ... )
إلى آخر القصيدة التي تقدمت
نونية الفقيه عمر الزجال
وحيث اقتضت المناسبة جلب هذه النونيات فلنضف إليها قصيدة أديب الأندلس الفقيه عمر صاحب الأزجال إذ هو من فرسان هذا المجال وقد وطأ لها بنثر وجعل الجميع مقامة ساسانية سماها تسريح النصال إلى مقاتل الفصال ونصها يا عماد السالكين ومحط المستفيدين والمتبركين وثمال الضعفاء والمساكين والمتروكين في طريقك يتنافس المتنافس وعلى أعطافك تزهى العباءات وتروق الدلافس وبكتابك تحيا جوامد الأفهام وبمذبتك تشرد ذباب الأوهام وفي زنبيلك يدس التالد والطارف وبعصاك يهش على بدائع المعارف الله الله في سالك ضاقت عليه المسالك وشاد رمي بإبعاد أدركته متاعب الحرفة وأقيم من صف أهل الصفة فلا يجد نشاطا على ما يتعاطى ولا يلقى اغتباطا إن حل زاوية أو نزل رباطا أقصي عن أهل القرب والتخصيص وابتلى بمثل حالة برصيص فأحيل عليك وتوقفت إقالته على

توبة بين يديك فكاتبك استدعاء واستوهب منك هداية ودعاء ليسير على ما سويت ويتحمل عنك أشتات ما رويت فيلقى الأكفاء الظرفاء عزيزا ويباهي بك كل من خاطبك مستجيزا فاصرف إلي محيا الرضى وعد من إيناسك للعهد الذي مضى ولا تلقى معرضا ولا معرضا وأصخ لي سمعك كما قدر الله تعالى وقضى
( تعال نجددها طريقة ساسان ... نعض عليها ما توالى الجديدان )
( ونصرف إليها من مثار عزائم ... ونحلف عليها من مؤكد أيمان )
( ونعقد على حكم الوفاء هواءنا ... لنأمن من أقوال زور وبهتان )
( ونقسم على أن لا نصدق واشيا ... يروح ويغدو بين إثم وعدوان )
( يطوف حوالينا ليفسد بيننا ... بمنطق إنسان وخدعة شيطان )
( على أننا من عالم كلما بدا ... تعوذ منه عالم الإنس والجان )
( وحاشاك أن تلقي على الصلح معرضا ... إلى الصلح آلت حرب عبس وذبيان )
( وإني أهمتني شؤون كثيرة ... وصلحت أولى ما أقدم من شاني )
( فأنت إمامي إن كلفت بمذهب ... وأنت دليلي إن صدعت ببرهان )
( سأرعاك في أهل العباءات كلما ... رأيتك في أهل الطيالس ترعاني )
( ويا لابسي تلك العباءات إنها ... لباس إمام في الطريقة دهقان )
( تفرقت الألوان منها إشارة ... بأنك تأتي من حلاك بألوان )
( ويا بأبي الفصال شيخ طريقة ... خلوب لألباب لعوب بأذهان )
( إذا جاء في الثوب المحبر خلته ... زنيبيرة قد مد منها جناحان )
( فما تأمن الأبدان آفة لسعها ... وإن أقبلت في سابغات وأبدان )
( سأدعوك في حالات كيدي وكديتي ... بشيخي ساسان وعمي هامان )

( فإن كان في الأنساب منا تباين ... فما تنكر الآداب أنا نسيبان )
( ألا فادع لي في جنح ليلك دعوة ... لتنجح آمالي ويرجح ميزاني )
( لك الطائر الميمون في كل وجهة ... سريت إليها غير نكس ولا واني )
( فكم من فقير بائس قد عرفته ... فرفت عليه نعمة ذات أفنان )
( وكم من رفيع الحياة واليت أنسه ... فعاش قرير العين مرتفع الشان )
( فلو كنت للفتح بن خاقان صاحبا ... لما خانه المقدور في ليلة الخان )
( ولو كنت للصابي صديقا ملاطفا ... لما قبلت فيه مقالة بهتان )
( ولو كنت من عبد الحميد مقربا ... لما هزم السفاح أشياع مروان )
( ولو كنت قد أرسلتها دعوة على ... أبي مسلم ما حاز أرض خراسان )
( ولو كنت في يوم الغبيط مراسلا ... لبسطام لم تهزم به آل شيبان )
( ولو كنت في حرب الأمين لطاهر ... لما هام في يوم اللقاء ابن ماهان )
( ولو كنت في مغزى أبي يوسف لما ... رماه بغدر عبده في تلمسان )
( ولو أن كسرى يزدجرد عرفته ... لما لاح مقتولا على يد طحان )
( ولو أن لذريقا وطئت بساطه ... لما أثرت فيه مكيدة اليان )
( وفيما مضى في فاس أوضح شاهد ... غني لدينا عن بيان وتبيان )
( ولما اعتنى منك السعيد بكاتب ... رأى ما ابتغى من عز ملك وسلطان )
( فلا تنسني من أهل ودك إنني ... أخاف الليالي أن تطول فتنساني )

( ولا خير إن تجعل كفاء قصيدتي ... كفاء ابن دراج على مدح خيران )
( فجد بدنانير ولا تكن التي ... ألم بها الكندي في شعب بوان )
( فجودك فينا الغيث في رمل عالج ... وفضلك فينا الخبز في دار عثمان )
( وما زلت من قبل السؤال مقابلا ... مرادي بإحساب وقصدي بإحسان )
( ولا تنس أياما تقضت كريمة ... بزاوية المحروق أو دار همدان )
( وتأليفنا فيها لقبض إتاوة ... وإغرام مسنون وقسمة حلوان )
( وقد جلس الطرقون بالبعد مطرقا ... يقول نصيبي أو أبوح بكتمان )
( عريفي يلحاني إذا ما أتيته ... ولم أنصرف عنكم بواجب ألحان )
( وقد جمعت تلك الطريقة عندنا ... أئمة حساب وأعلام كهان )
( إذا استنزلوا الأرواح باسم تبادرت ... طوائف ميمون وأشياع برقان )
( وإن بخروا عند الحلول تأرجت ... مباخرهم عن زعفران ولوبان )
( وإن فتحوا الدارات في رد آبق ... ثنت عزمه أوهام خوف وخذلان )
( فيحسب أن الأرض حيث ارتمت به ... ركائبه سرعان رجل وركبان )
( وقد عاشرتنا أسرة كيموية ... أقامت لدينا في مكان وإمكان )
( فلله من أعيان قوم تألفوا ... على عقد سحر أو على قلب أعيان )

( ونحن على ما يغفر الله إنما ... نروح ونغدو من رباط إلى خان )
( مع الصبح نصفيها عباءة صفة ... وبالليل نلويها زنانير رهبان )
( أتذكر في سفح العقاب مبيتكم ... ثمانين شخصا من إناث وذكران )
( لديكم من الألوان ما لم يجئ به ... طهور ابن ذنون ولا عرس بوران )
( وكم شائق منكم إلى عقد تكة ... وكم هائم فيكم على حل هميان )
( فأطفأت قنديل المكان تعمدا ... وأومأت فانقضوا كأمثال عقبان )
( وناديت في القوم الركوب فأسرعوا ... فريق لنسوان وقوم لذكران ) فأقسم بالأيمان لولا تعففي ... عن السوء لانحلت عقيدة إيماني )
( فعد للذي كنا عليه فإن لي ... على الغير إن صاحبته حقد غيران )
( فمن يوم إذا صيرت ودي جانبا ... وأعرضت عني ما تناطح عنزان )
( ولا روت الكتاب بعد نفارنا ... محاورة من ثعلبان لسرحان )
( وما هو قصدي منك إلا إجازة ... تخولني التفضيل ما بين خلاني )
( وإنك إن سخرت لي وأجزتني ... لنعم ولي صان ودي وجازاني )
( ولم لا ترويني وأنت أجل من ... سقاني من قبل الرحيق فرواني )
( ألا فأجزني يا إمام بكل ما ... رويت لمدغليس أو لابن قزمان )
( ولا تنس للدباغ نظما عرفته ... فإنكما في ذلك النظم سيان )
( ومزدوجات ينسبون نظامها ... إلي ابن شجاع في مديح ابن بطان )
( وألم بشيء من خرافات عنتر ... وألمع ببعض من حكايات سوسان )

( وإن كنت طالعت اليتيمة واسني ... بلامية في الفحش من نظم واساني )
( أجزني بكشف الدك أرضى وسيلة ... وخير جليس في بساط ودكان )
( وناولني المصباح فهو لغربتي ... ميسر أغراضي ورائد سلواني )
( وألحق به شمس المعارف إنني ... أسائل عن إسناده كل إنسان )
( وقد كنت قبل اليوم عرفتني به ... ولكنني أنسيته بعد عرفان )
( ولا بد يا أستاذ من أن تجيزني ... ببدء ابن سبعين وفصل ابن رضوان )
( وكتب ابن أحلى كيف كانت فإنها ... لوزن دقيق القوم أكرم ميزان )
( ولا تنس ديوان الصبابة والصفا ... لإخوان صدق في الصبا خير إخوان )
( وزهر رياض في صفوف أضاحك ... وجبذ كساء في مكايد نسوان )
( كذاك فناولني كتاب حبائب ... وزدني تعريفا بها وببرجان )
( ولي أمل في أن أروى رسالة ... مضمنة أخبار حي بن يقظان )
( وحبس على الكوز والكاس والعصا ... فإنك مثر من عصى وكيزان )
( وصير لي الدلفاس أرفع لبسة ... فقد جل قدري عن حرير وكتان )
( وقد رق طبعي واعترتني خشية ... تكاد بها روحي تفارق جثماني )
( وخل مفاتيح الطريقة في يدي ... وسوغ لهم حكمي مزيدي ونقصاني )
( فإني لم أخدمك إلا بنية ... وإني لم أتبعك إلا بإحسان )

( فكن لي بالأسرار أفصح معلن ... فإني قد أخلصت سري وإعلاني )
وليس قصدي علم الله بجلب هذه القصيدة ما فيها من المجون بل ما فيها من التلميحات التي يرغب في مثله أهل الأدب والحديث شجون على أن أمثال هؤلاء الأعلام لا يقصدون بمثل هذا الكلام إلا مجرد الإحماض فينبغي أن ينظر كلامهم الواقف عليه بعين الإغضاء عن النقد والإغماض ولا يبادر بالإعتراض من لم يعلم في الأصول برهان القطع والإفتراض والله سبحانه المسؤول في التجاوز عن الزلات والنجاة من الأمور المضلات فعفوه سبحانه وراء جميع ذلك والله تعالى المطلع على أسرار الضمائر والخبير بما هنالك لا رب غيره ولا خير إلا خيره
نونية ابن زمرك
وحيث ذكرنا هذه القصائد النونية التي اتفق فيها البحر والروي وجرت من البلاغة على النهج السوي فلا بأس أن نعززها بقصيدة الرئيس الوزير أبي عبد الله ابن زمرك سامحه الله تعالى وهي قصيدة ميلادية أنشدها سلطان الأندلس عام خمسة وستين وسبعمائة ونجعلها مكفرة لما مر في قصيدة الفقيه عمر من المجون ومبلغه للناظرين في هذا التأليف ما يرجون والحديث شجون وهي قوله
( لعل الصبا إن صافحت روض نعمان ... تؤدي أمان القلب عن ظبية البان )
( وماذا على الأرواح وهي طليقة ... لو احتملت أنفاسها حاجة العاني )
( وما حال من يستودع الريح سره ... ويطلبها وهي النموم بكتمان )
( وكالطيف أستقريه في سنة الكرى ... وهل تنقع الأحلام غلة ظمآن )

( أسائل عن نجد ومرمى صبابتي ... ملاعب غزلان الصريم بنعمان )
( وأبدي إذا ريح الشمال تنفست ... شمائل مرتاح المعاطف نشوان )
( عرفت بهذا الحب لم أدر سلوة ... وإني لمسلوب الفؤاد بسلوان )
( فيا صاحبي نجواي والحب غاية ... فمن سابق جلى مداه ومن واني )
( وراءكما ما اللوم يثني مقادتي ... فإني عن شأن الملامة في شان )
( وإني وإن كنت الأبي قيادة ... ليأمرني حب الحسان وينهاني )
( وما زلت أرعى العهد فيمن يضيعه ... وأذكر إلفي ما حييت وينساني )
( فلا تنكرا ما سامني مضض الهوى ... فمن قبل ما أودى بقيس وغيلان )
( لي الله إما أومض البرق في الدجى ... أقلب تحت الليل مقلة وسنان )
( وإن سل من غمد الغمام حسامه ... برى كبدي الشوق الملم وأضناني )
( تراءى بأعلام الثنية باسما ... فأذكرني العهد القديم وأبكاني )
( أسامر نجم الأفق حتى كأننا ... وقد سدل الليل الرواق حليفان )
( ومما أناجي الأفق أعديه بالجوى ... فأرعى له سرح النجوم ويرعاني )
( ويرسل صوب القطر من فيض أدمعي ... ويقدح زند البرق من نار أشجاني )
( وضاعف وجدي رسم دار عهدتها ... مطالع شهب أو مراتع غزلان )
( على حين شرب الوصل غير مصرد ... وصفو الليالي لم يكدر بهجران )
( لئن أنكرت عيني الطلول فإنها ... تمت إلى قلبي بذكر وعرفان )
( ولم أر مثل الدمع في عرصاتها ... سقى تربها حين استهل وأظماني )
( ومما شجاني أن سرى الركب موهنا ... تقاد به هوج الرياح بأرسان )
( غوارب في بحر السراب تخالها ... وقد سبحت فيه مواخر غربان )
( على كل نضو مثله فكأنما ... رمى منهما صدر المفازة سهمان )
( ومن زاجر كوماء مخطفة الحشا توسد منها فوق عوجاء مرنان )
( نشاوى غرام يستميل رؤوسهم ... من النوم والشوق المبرح سكران )
( أجابوا نداء البين طوع غرامهم ... وقد تبلغ الأوطار فرقة أوطان )

( يؤمون من قبر الشفيع مثابة ... تطلع منها جنة ذات أفنان )
( إذا نزلوا من طيبة بجواره ... فأكرم مولى ضم أكرم ضيفان )
( بحيث علا الإيمان وامتد ظله ... وزان حلى التوحيد تعطيل أوثان )
( مطالع آيات مثابة رحمة ... معاهد أملاك مظاهر إيمان )
( هنالك تصفو للقبول موارد ... يسقون منها فضل عفو وغفران )
( هناك تؤدي للسلام أمانة ... يحييهم عنها بروح وريحان )
( يناجون عن قرب شفيعهم الذي ... يؤمله القاصي من الخلق والداني )
( لئن بلغوا دوني وخلفت إنه ... قضاء جرى من مالك الأرض ديان )
( وكم عزمة مليت نفسي صدقها ... وقد عرفت مني مواعد ليان )
( إلى الله نشكوها نفوسا أبية ... تحيد عن الباقي وتغتر بالفاني )
( ألا ليت شعري هل تساعدني المنى ... فأترك أهلي في رضاه وجيراني )
( وأقضي لبانات الفؤاد بأن أرى ... أعفر خدي في ثراه وأجفاني )
( إليك رسول الله دعوة نازح ... خفوق الحشا رهن المطامع هيمان )
( غريب بأقصى الغرب قيد خطوة ... شباب تقضى في مراح وخسران )
( يجد اشتياقا للعقيق وبانه ... ويصبو إليها ما استجد الجديدان )
( وإن أومض البرق الحجازي موهنا ... يردد في الظلماء أنه لهفان )
( فيا مولى الرحمى ويا مذهب العمى ... ويا منجي الغرقى ويا منقذ العاني )
( بسطت يد المحتاج يا خير راحم ... وذنبي ألجاني إلى موقف الجاني )
( وسيلتي العظمى شفاعتك التي ... يلوذ بها عيسى وموسى بن عمران )
( فأنت حبيب الله خاتم رسله ... وأكرم مخصوص بزلفى ورضوان )
( وحسبك ان سماك أسماءه العلا ... وذاك كمال لا يشاب بنقصان )
( وأنت لهذا الكون علة كونه ... ولولاك ما امتاز الوجود بأكوان )
( ولولاك للأفلاك لم تجل نيرا ... ولا قلدت لباتهن بشهبان )
( خلاصة صفو المجد من آل هاشم ... ونكتة سر الفخر من آل عدنان )

( وسيد هذا الخلق من نسل آدم ... وأكرم مبعوث إلى الإنس والجان )
( وكم آية أطلعت في أفق الهدى ... يبين صباح الرشد منها ليقظان )
( وما الشمس يجلوها النهار لمبصر ... بأجلى ظهورا أو بأوضح برهان )
( وأكرم بآيات تحديتنا بها ... ولا مثل آيات لمحكم فرقان )
( وماذا عسى يثني البليغ وقد أتى ... ثناؤك في وحي كريم وقرآن )
( فصلى عليك الله ما انسكب الحيا ... وما سجعت ورقاء في غصن البان )
( وأيد مولانا ابن نصر فإنه ... لأشرف من ينمي لملك وسلطان )
( أقام كما يرضيك مولدك الذي ... به سفر الإسلام عن وجه جذلان )
( سمى رسول الله ناصر دينه ... معظمه في حال سر وإعلان )
( ووارث سر المجد من آل خزرج ... وأكرم من تنمي قبائل قحطان )
( ومرسلها ملء الفضاء كتائبا ... تدين لها غلب الملوك بإذعان )
( حدائق خضر والدروع غدائر ... وما أنبتت إلا ذوابل مران )
( تجاوب فيها الصاهلات وترتمي ... جوانبها بالأسد من فوق عقبان )
( فمن كل خوار العنان قد ارتمى ... به كل مطعام العشيات مطعان )
( وموردها ظمأى الكعوب ذوابلا ... ومصدرها من كل أملد ريان )
( ولله منها والربوع مواحل ... غمام ندى كفت بها المحل كفان )
( إذا أخلف الناس الغمام وأمحلوا ... فإن نداه والغمام لسيان )
( إمام أعاد الملك بعد ذهابه ... إعادة لا نابي الحسام ولا واني )
( فغادر أطلال الضلال دوارسا ... وجدد للإسلام أرفع بنيان )
( وشيدها والمجد يشهد دولة ... محافلها تزهى بيمن وإيمان )
( وراق من الثغر الغريب ابتسامة ... وهز له الإسلام أعطاف مزدان )
( لك الخير ما أسنى شمائلك التي ... يقصر عن إدراكها كل إنسان )

( ذكاء إياس في سماحة حاتم ... وإقدام عمرو في بلاغة سحبان )
( أمولاي ما أسنى مناقبك التي ... هي الشهب لا تحصى بعد وحسبان )
( فلا زلت يا غوث البلاد وأهلها ... مبلغ أوطار ممهد أوطان )
ولابن زمرك المذكور ترجمة نأتي بها في هذا التأليف إن شاء الله تعالى في محلها وهو من تلامذة لسان الدين ومن عداد خدامه فحين نبا به الزمان وتعوض الخوف بعد الأمان كان أحد الساعين في قتله كما سنذكره وصرح بذمه وهجوه بعد أن كان ممن يشكره وهكذا عادة بني الدنيا يدورون معها حيث دارت ويسيرون حيث سارت ويشربون من الكأس التي أدارت وقد تولى المذكور الوزارة عوضا عن ابن الخطيب وصدح طير عزه بعده على فنن من الإقبال رطيب ثم آل الأمر به إلى القتل كما سعى في قتل لسان الدين وكان الجزاء له من جنس عمله والمرء يدان بما كان به يدين وعفو الله سبحانه مرجو للجميع في الآخرة وهو سبحانه وتعالى المسؤول أن ينيلنا وإياهم المراتب الفاخرة فإنه لا يتعاظمه ذنب وليس للكل غيره من رب
رجع إلى ما كنا بسبيله وأما لوشة التي ينسب إليها لسان الدين فقد تقدم من كلام ابن خلدون أنها على مرحلة من حضرة غرناطة في الشمال من البسيط الذي في ساحتها المسمى بالمرج وقد أجرى ذكرها لسان الدين في الإحاطة وقال إنها بنت الحضرة يعني غرناطة وقال ذلك في ترجمة ابن مرج الكحل ولنذكر الترجمة بكمالها تتميما للغرض فنقول
ترجمة ابن مرج الكحل
قال رحمه الله ما نصه محمد بن إدريس بن علي بن إبراهيم بن القاسم من

أهل جزيرة شقر يكنى أبا عبد الله ويعرف بابن مرج الكحل
حاله كان شاعرا مفلقا غزلا بارع التوليد رقيق الغزل وقال الأستاذ أبو جعفر شاعر مطبوع حسن الكتابة ذاكر للأدب متصرف فيه قال ابن عبد الملك وكانت بينه وبين طائفة من أدباء عصره مخاطبات ظهرت فيها إجادته وكان مبتذل اللباس على هيئة أهل البادية ويقال إنه كان أميا
من أخذ عنه روى عنه أبو جعفر ابن عثمان الوراد وأبو الربيع ابن سالم وأبو عبد الله ابن الأبار وابن عسكر وابن أبي البقاء وأبو محمد ابن عبد الرحمن ابن برطلة وأبو الحسن الرعيني
شعره ودخوله غرناطة قال في عشية بنهر الغنداق من خارج بلدنا لوشة بنت الحضرة والمحسوب من دخلها أنه دخل إلبيرة وقد قيل إن نهر الغنداق من أحواز برجة وهذا الخلاف داع لذكره
( عرج بمنعرج الكثيب الأعفر ... بين الفرات وبين شط الكوثر )
( ولتغتبقها قهوة ذهبية ... من راحتي أحوى المراشف أحور )
( وعشية كم كنت أرقب وقتها ... سمحت بها الأيام بعد تعذر )
( فلنا بهذا ما لنا في روضة ... تهدي لناشقها شميم العنبر )
( والدهر من ندم يسفه رأيه ... فيما مضى فيه بغير تكدر )
( والورق تشدو والأراكة تنثي ... والشمس ترفل في قميص أصفر )
( والروض بين مفضض ومذهب ... والزهر بين مدرهم ومدنر )
( والنهر مرقوم الأباطح والربى ... بمصندل من زهرة ومعصفر )
( وكأنه وكأن خضرة شطه ... سيف يسل على بساط أخضر )
( وكأنما ذاك الحباب فرندة ... مهما طفا في صفحة كالجوهر )

( وكأنه وجهاته محفوفة ... بالآس والنعمان خد معذر )
( نهر يهيم بحسنه من لم يهم ... ويجيد فيه الشعر من لم يشعر )
( ما اصفر وجه الشمس عند غروبها ... إلا لفرقة حسن ذاك المنظر )
ولا خفاء ببراعة هذا الشعر وقال منها
( أرأت جفونك مثله من منظر ... ظل وشمس مثل خد معذر )
( وجداول كأراقم حصباؤها ... كبطونها وحبابها كالأظهر )
وهذا تتميم عجيب لم يسبق إليه ثم قال منها
( وقرارة كالعشر بين خميلة ... سالت مذانبها بها كالأسطر )
( فكأنها مشكولة بمصندل ... من يانع الأزهار أو بمعصفر )
( أمل بلغناه بهضب حديقة ... قد طرزته يد الغمام الممطر )
( فكأنه والزهر تاج فوقه ... ملك تجلى في بساط أخضر )
( راق النواظر منه رائق منظر ... يصف النضارة عن جنان الكوثر )
( كم قاد خاطر خاطر مستوفز ... وكم استفز جماله من مبصر )
( لو لاح لي فيما تقادم لم أقل ... عرج بمنعرج الكثيب الأعفر )
قال أبو الحسن الرعيني وأنشدني لنفسه
( وعشية كانت قنيصة فتية ... ألفوا من الأدب الصريح شيوخا )
( فكأنما العنقاء قد نصبوا لها ... من الإنحناء إلى الوقوع فخوخا )
( شملتهم آدابهم فتجاذبوا ... سر السرور محدثا ومصيخا )
( والورق قرأ سورة الطرب التي ... ينسيك منها ناسخ منسوخا )

( والنهر قد صفحت به نارنجة ... فتيممت من كان فيه منيخا )
( فتخالهم خلل السماء كواكبا ... قد قارنت بسعودها المريخا )
( خرق العوائد في السرور نهارهم ... فجعلت أبياتي له تاريخا )
ومن أبياته في البديهة قوله
( وعندي من مراشفها حديث ... يخبر أن ريقتها مدام )
( وفي أجفانها السكرى دليل ... وما ذقنا ولا زعم الهمام )
( تعالى الله ما أجرى دموعي ... إذا عنت لمقلتي الخيام )
( وأشجاني إذا لاحت بروق ... وأطربني إذا غنت حمام )
ومن قصيدة
( عذيري من الآمال خابت قصودها ... ونالت جزيل الحظ منها الأخابث )
( وقالوا ذكرنا بالغنى فأجبتهم ... خمولا وما ذكر مع البخل ماكث )
( يهون علينا أن يبيد أثاثنا ... وتبقى علينا المكرمات الأثائث )
( وما ضر أصلا طيبا عدم الغنى ... إذا لم يغيره من الدهر حادث )
وله يتشوق إلى عمرو بن أبي غياث
( أيا عمرو متى تقضي الليالي ... بلقياكم وهن قصصن ريشي )
( أبت نفسي هوى إلا شريشا ... ويا بعد الجزيرة من شريش )
وله من قصيدة
( طفل المساء وللنسيم تضوع ... والأنس يجمع شملنا ويجمع )
( والزهر يضحك من بكاء غمامة ... ريعت لشيم سيوف برق تلمع )

( والنهر من طرب يصفق موجه ... والغصن يرقص والحمامة تسجع )
( فانعم أبا عمران واله بروضة ... حسن المصيف بها وطاب المربع )
( يا شادن البان الذي دون النقا ... حيث التقى وادي الحمى والأجرع )
( الشمس يغرب نورها ولربما ... كسفت ونورك كل حين يسطع )
( إن غاب نور الشمس لسنا نتقي ... بسناك ليل تفرق يتطلع )
( أفلت فناب سناك عن إشراقها ... وجلا من الظلماء ما يتوقع )
( فأمنت يا موسى الغروب ولم أقل ... فوددت يا موسى لو أنك يوشع )
وقال
( ألا بشروا بالصبح من كان باكيا ... أضر به الليل الطويل مع البكا )
( ففي الصبح للصب المتيم راحة ... إذا الليل أجرى دمعه وإذا شكا )
( ولا عجب أن يمسك الصبح عبرتي ... فلم يزل الكافور للدم ممسكا )
ومن بديع مقطوعاته قوله
( مثل الرزق الذي تطلبه ... مثل الظل الذي يمشي معك )
( أنت لا تدركه متبعا ... فإذا وليت عنه تبعك )
وقال
( دخلتم فأفسدتم قلوبا بملكها ... فأنتم على ما جاء في سورة النمل )
( وبالجود والإحسان لم تتخلقوا ... فأنتم على ما جاء في سورة النحل )

وقال أبو بكر محمد بن محمد بن جهور رأيت لابن مرج الكحل مرجا أحمر قد أجهد نفسه في خدمته فلم ينجب فقلت
( يا مرج كحل ومن هذي المروج له ... ما كان أحوج هذا المرج للكحل )
( ما حمرة الأرض من طيب ومن كرم ... فلا تكن طمعا في رزقها العجل )
( فإن من شأنها إخلاف آملها ... فما تفارقها كيفية الخجل )
فقال مجيبا
( يا قائلا إذ رأى مرجي وحمرته ... ما كان أحوج هذا المرج للكحل )
( هو احمرار دماء الروم سيلها ... بالبيض من مر من آبائي الأول )
( أحببته أن حكى من قد فتنت به ... في حمرة الخد أو إخلافه أملي )
وفاته توفي ببلده يوم الإثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول عام أربعة وثلاثين وستمائة ودفن في اليوم بعده
انتهى ما في الإحاطة في شأن ابن مرج الكحل
وكتب أبو الحسن علي بن لسان الدين على أول ترجمته ما نصه شاعر جليل القدر من مشايخ شعراء الأندلس من أهل بلنسية وسكن جزيرة شقر
وكتب على قوله والنهر مرقوم الأباطح ما صورته لم يصف أحد النهر بأرق ديباجة ولا أظرف من هذا الإمام رحمة الله عليه انتهى كلام ابن لسان الدين
رائية شمس الدين الكوفي
قلت وما رأيت رائية تقرب من التي لابن مرج الكحل السابقة التي أولها

عرج بمنعرج الكثيب الأعفر إلا رائية شمس الدين الكوفي الواعظ وهي قوله
( روح الزمان هو الربيع فبكر ... وانهض إلى اللذات غير منكر )
( هذا الربيع يبيع من لذاته ... أصناف ما تهوي فأين المشتري )
( فافرح به فلفرحة بقدومه ... رفل الشقائق في القباء الأحمر )
( والكون مبتهج وخفاق الصبا ... يحيي القلوب بنشره المتعطر )
( والغيم يبكي والأقاحي باسم ... لبكائه كتبسم المستبشر )
( والسرو إن عبث النسيم فهز أعطاف ... الغصون يميس ميس موقر )
( وكأنما القداح فستق فضة ... يهدي إليك أريج مسك أذفر )
( وكأنما المنثور في أثوابه ... ألوان ياقوت أنيق المنظر )
( وترى البهار كعاشق متخوف ... متشوق باد بوجه أصفر )
( وكأنما النارنج في أوراقه القنديل ... والأوراق شبه مسحر )
( وكأنما الخشخاش قوم جاءهم ... خبر يسرهم بطيب المخبر )
( فثنوا ملابسهم لفرط سرورهم ... كي يخلعوا فرحا بقول المخبر )
( فتعلقت أذيالها بأكفهم ... وتعلقت أزياقها بالمنحر )
( والطل من فوق الرياض كأنه ... درر نثرن على بساط أخضر )
( وترى الربى بالنور بين متوج ... ومدملج ومخلخل ومسور )
( ورياضها بالزهر بين مقرطق ... ومطوق وممنطق ومزنر )
( والورد بين مضعف ومشنف ... ومكتف وملطف لم يهصر )
( والزهر بين مفضض ومذهب ... ومرصع ومدرهم ومدنر )
( والنثر بين مطيب وممسك ... ومعطر ومصندل ومعنبر )
( والورق بين مرجع وموجع ... ومفجع ومسجع في منبر )
( ومغرد ومردد ومعدد ... ومبدد في الخد ماء المحجر )

ولكن قصيدة ابن مرج الكحل أعذب مذاقا وكل منهما لم يقصر رحمهما الله تعالى فلقد أجادا فيما قالاه إلى الغاية وليس الخبر كالعيان
عود إلى ابن مرج الكحل
ومن نظم ابن مرج الكحل قوله
( الشمس يغرب نورها ولربما ... كسفت ونورك كل حين يسطع )
( أفلت فناب سناك عن إشراقها ... وجلا من الظلماء ما يتوقع )
( فأمنت يا موسى الغروب ولم أقل ... فوددت يا موسى لو أنك يوشع )
ولمح بهذه الأبيات إلى قول الرصافي الأندلسي البلنسي يخاطب من اسمه موسى بقصيدة أولها
( ما مثل موضعك ابن رزق موضع ... زهر يرف وجدول يتدفع )
ومنها
( وعشية لبست ثياب شحوبها ... والجو بالغيم الرقيق مقنع )
( بلغت بنا أمد السرور تألفا ... والليل نحو فراقنا يتطلع )
( فابلل بها ريق الغبوق فقد أتى ... من دون قرص الشمس ما يتوقع )
( سقطت ولم يملك نديمك ردها ... فوددت يا موسى لو أنك يوشع )
قلت ومن نثر ابن مرج الكحل المذكور ما كتبه إلى أديب الأندلس أبي بحر صفوان بن إدريس مراجعا له بعد نظم ونص الجميع

( يا من تبوأ في العلياء منزلة ... جداه قد أسساها أي تأسيس )
( لم يتركا في العلا حظا لملتمس ... سيان هذا وهذاك ابن إدريس )
( وافى كتابكم فارتد لي جذلي ... واعتضت من فرط أشواقي بتأنيس )
( وللنوى لوعة تطفو فيطفئها ... مسك المداد وكافور القراطيس )
حرس الله سناءك وسناك وأظفر يمناك بمناك ودي الأسلم كما تعلم وعهدي الأقدم لم تزل له قدم وأنا دام عزكم إن اتفق معكم انتسابا فلم أتفق في شأو الأدب باعا ولا قاربتكم طباعا وانطباعا بل بذلك الإتفاق تشرفت وسموت إلى ذروة العلا واستشرفت وأقررت بذلك الفضل واعترفت وكرعت في مناهله واغترفت ولقد وافى كتابكم فقلت لقد نثر الدر من فيه وبلغ نفسي مما كانت تنويه من التنويه
( حديث لو أن الميت نودي ببعضه ... لأصبح حيا بعدما ضمه القبر )
ولولا ما طالعني وجه من رضاكم وسيم وسقاني مزن اهتبالكم ما أروى به وأسيم وحياني منكم روض ونسيم لما ساعدني الفكر بقسيم لا زلتم في ظل من العيش وارف مرتدين رداء المعارف والسلام انتهى
رسالة صفوان إلى ابن مرج الكحل
وكانت مخاطبة صفوان له التي أجاب عنها بما نصه
( يا قاطع البيد يطويها وينشرها ... إلى الجزيرة ينضي بدن العيس )
( الثم بها عن أخي حب وذي كلف ... يد العلا والقوافي وابن إدريس )
وأبلغها إليه تحية كالمسك صدرا ووردا وكالماء الزلال عذوبة وبردا يسري بها إلى دار ابن نسيم ويسفر منها بجزيرة شقر وجه وسيم وهي وإن

كانت تذيب المسك خجلا وتستفز بصوتها وجلا فما هي إلا خائفة تترقب وسافرة تكاد تتنقب تمشي على استحياء وتعثر من التقصير في ذيل إعياء هذا لأنها جلبت إلى هجر تمرا وإلى شبام وبيت رأس خمرا ولكن على المجد أن يبدي في قبول عذرها ويعيد لعلمه أنه يتيمم ممن لم يجد إلا الصعيد فله الفضل أن لا يلفحها بنار النقد ولا يعرضها على ما هنالك من الحل والعقد والله يبقي ذكره في مقلة الأدب حورا وفي قلب الحسود خورا ويديمه والقوافي طوع قريحته والأغراض الجميلة ملء تعريضته وتصريحته وزهر البيان تطلع في سماء جنانه وزهر التبيان يونع في أنداء جنانه وعذرا إليه فإني كتبت والحامل يمسك زمامه ويلتفت في البيداء أمامه والسلام
خطبة نكاح من إنشاء صفوان
ومن إنشاء صفوان خطبة نكاح نصها الحمد لله الذي تطول بالإحسان من غير جزاء ولا ثواب والبس المخلوقات من فواضله سوابغ المطارف وكواسي الأثواب وجاءوا على أقدام الرجاء إلى محال نوافله فوجدوها مفتحة لهم الأبواب وسألوه كفاية المؤنة فكان الفعل بدل القول والإسعاف بدل الجواب خلق البرية من غير افتقار ولا اضطرار ونقلهم من الطفولية إلى غيرها نقل البدر من التمام إلى السرار وشرف هذه الطبقة الإنسانية فرزقها الإدراكات العقلية والإبانات اللسانية فضرب سرادق اعتنائه عليها وأنشأها من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها ومع صنعه الرفيق بهم اللطيف وتنويهه الحاف بأرجائهم المطيف رزقهم أحسن الصور الحيوانية وأجملها وأتاح لهم أتم أقسام الاعتناء وأكملها وبعث إليهم الرسل صلوات الله عليهم صنعا منه جميلا وربا للصنيعة لديهم وتكميلا فبشروا وأنذروا وأمنوا وحذروا وباينوا بين الحرام والحلال مباينة إدراك البصير بين الكدر والزلال ودلوا على السمت الأهدى

ونصبوا أعلام التوفيق والهدى ولم يدعوا شيئا سدى بل توازنت بهم مقادير الأقوال والأعمال وكانت إشاراتهم ثمال الهدايا وأي ثمال فآب كل متسحب إلى الارتباط وشد كل موفق على الاعتلاق بحالهم يد الاغتباط فصلوات الله الزاكية عليهم ونوافح رحمته النامية تغدو وتروح إليهم وأتم الصلاة والسلام على علم أولئك الأعلام الداعي على بصيرة إلى دار السلام السراج المنير المبشر النذير محمد وعلى آله وصحبه صلاة تؤول بهم إلى فسيح رضوانه ورحبه بعثه الله رحمة للعالمين عامة وأرسله نعمة للناس موفورة تامة فأخذ بحجز مصدقيه عن التهافت في مداحض الأقدام والتتابع في مزلات الجرأة على العصيان والإقدام فأقام الحجة وأوضح المحجة ودل على المقامات التي تمحض الأولياء وأفصح عن الكرامات التي تنقذ الأتقياء وقال وأهلا به من قائل تناكحوا فإني مكاثر بكم الأنبياء حرصا منه على الزيادة في أهل الإسلام والنماء ودفعا في صدر الباطل بواضح الحق الصادع غيهب الظلماء وحض على ذات الدين الحصان وأغرى بالإعتصام والإحصان ونصب أعلام النكاح مشيدة المباني وجاء بها سنة عذبة المجاني وقال من تزوج فقد كمل نصف دينه فليتق الله في النصف الثاني وأمر بالنكاح الذي توافقت فيه الطبيعة والشريعة ولبته النفوس وهي سريعة وأخصبت به ربوة التناسل فهي مروضة مريعة وسدت به عن اتباع الهوى وارتكاب المحارم الذريعة وحفظت به الأنسال والأنساب وفاض به نهر الالتئام السلسال المنساب إذ لا سبيل لأن يستغني بذاته من كان أسير هواه ومأمور لذاته وإنما الانفراد والاستغنا لمن له الكمال والغنى ولا يجوز أن يتعاقب عليه الإنى لا إله إلا هو له السناء والسنا وإن فلانا لما ارتقت همته إلى اتباع الصالحات وسمت ووسمته النجابة من أعلامها اللائحة بما وسمت رأى أن الاعتصام بالنكاح أولى ما حمى به

دينه ووقاه وأهم ما رفع إليه اعتناءه ورقاه فخطب إلى فلان ابنته فلانة خطبة تضافر فيها اليمن والقبول ونفحت بها شمال من الجد المصمم وقبول وارتقى بها إلىاللوح المحفوظ والديوان المكنون عمل مقبول فتلقى فلان خطبته بالإجابة لماتوسم فيه من مخايل النجابة حرصا منه على المساعدة والعون واغتباطا بمياسرة أهل الرشد والصون وانعقد النكاح بينهما على بركة الله التي يتضاعف بها العدد القليل ويتزيد ويمنه الذي ينتهض به من اعتمده ويتأيد وحسن توفيقه الذي يرتبط به من أخلص ضميره ويتقيد على أن أصدقها كذا تزوجها بكلمة الله التي علت الكلمات وبهرتها وعلى سنة نبيه التي أحيت الحنيفية وأظهرتها وأنفت الملة من ارجاس الجاهلية وطهرتها وهداية مهدية التي غلبت الأباطل وقهرتها ولتكون عنده بأمانة الله التي هي جنة واعتصام وعهدته للزوجات على أزواجهن التي ليس لعروتها انفصام وعلى إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان وتسلسل في ميدان التناصف وأرسان وله عليها من حسن العشرة التي هي بحقيق الإتفاق عائدة مثل ذلك ودرجة زائدة والله تعالى يمهد لهما مهاد نعمته الوثير ويخلف منهما الطيب الكثير ويرزقهما التوفيق الباعث لطول المرافقة المثير بمنه ونعمته
من رسالة عتاب لصفوان
وله رحمة الله من رسالة عتاب أدام الله سبحانه مدة الأخ الذي أستديم إخاءه وإن واجهتني زعازعه أرتقب رخاءه وتجاوزت عن يومه لأمسه وأغضيت عن ظلامه لشمسه إناء واعتناء وإنذارا وإعذارا ورحم الله من اعتمد على الأفهام وعصى أوامر الأوهام ورأى الخليفة في المعقول لا في المختلق المنقول وبعد فإنه وصل كلامك بل ملامك وكتابك بل عتابك ورسالتك بل بسالتك أسمعتني بألفاظك العذاب سوء العذاب وأريتني لمعان

الحسام من فقرك الوسام
وقال صفوان رحمه الله اجتمعت مع ابن مرج الكحل يوما فاشتكى إلي ما يجد لفراقي وأطال عتب الزمان في إشآمه وإعراقي فقلت إذا تفرقنا والنفوس مجتمعة فما يضر أن الجسوم للرحيل مزمعة ثم قلت له
( أنت مع العين والفؤاد ... دنوت أو كنت ذا بعاد )
فقال وهو من بارع الإجازة
( وأنت في القلب في السويدا ... وأنت في العين في السواد )
وإذ جرى ذكر صفوان فلا حرج أن نترجمه فنقول
ترجمة صفوان
قال في الإحاطة ما ملخصه صفوان بن إدريس بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عيسى بن إدريس التجيبي المرسي أبو بحر كان أديبا حسيبا ممتعا من الظرف ريان من الأدب حافظا سريع البديهة ترف النشأة على تصاون وعفاف جميلا سريا ممن تساوى حظه في النظم والنثر على تباين الناس في ذلك روى عن أبيه وخاله وابن عم أبيه القاضي أبي القاسم ابن إدريس وأبي بكر ابن مغاور وأبي رجال ابن غلبون وأبي العباس ابن مضا سمع عليه صحيح مسلم وأبي القاسم ابن حبيش وابن حوط الله وأبي الوليد ابن رشد وأجاز له ابن بشكوال وروى عنه أبو إسحاق اليابري وأبو الربيع ابن البني وأبو عبد الله ابن أبي البقاء وأبو عمر ابن سالم وابن عيشون وله تواليف أدبية

منها زاد المسافر وكتاب الرحلة وكتاب العجالة سفران يتضمنان من نظمه ونثره أدبا لا كفاء له وانفرد من تأبين الحسين وبكاء أهل البيت بما ظهرت عليه بركته في حكايات كثيرة
ثم سرد لسان الدين جملة من نظمه إلى أن قال وقال في غرض الرصافي من وصف بلده وذكر إخوانه يساجله في الغرض والروي عقب رسالة سماها طراد الجياد في الميدان وتنازع اللدات والأخدان في تقديم مرسية على غيرها من البلدان
( لعل رسول البرق يغتنم الأجرا ... فينثر عني ماء عبرته نثرا )
( معاملة أربي بها غير مذنب ... فأقضيه دمع العين عن نقطة بحرا )
( ليسقي من تدمير قطرا محببا ... يقر بعين القطر أن تشرب القطرا )
( ويرضعه ذوب اللجين وإنما ... توفيه عيني من مدامعها تبرا )
( وما ذاك تقصيرا بها غير أنه ... سجية ماء البحر أن يذوي الزهرا )
( خليلي قوما فاحسبا طرق الصبا ... مخافة أن يحمى بزفرتي الحرى )
( فإن الصبا ريح علي كريمة ... بآية ما تسري من الجنة الصغرى )
( خليلي أعني أرض مرسية المنى ... ولولا توخي الصدق سميتها الكبرى )
( محلي بل جوى الذي عبقت به ... نواسم آدابي معطرة نشرا )
( ووكري الذي منه درجت فليتني ... فجعت بريش العزم كي ألزم الوكرا )
( وما روضة الخضراء قد مثلت بها ... مجرتها نهرا وأنجمها زهرا )
( بأبهج منها والخليج مجرة ... وقد فضحت أزهار ساحتها الزهرا )
( وقد أسكرت أعطاف أغصانها الصبا ... وما كنت أعتد الصبا قبلها خمرا )

( هنالك بين الغصن والقطر والصبا ... وزهر الربى ولدت آدابي الغرا )
( إذا نظم الغصن الحيا قال خاطري ... تعلم نظام النثر من ههنا شعرا )
( وإن نثرت ريح الصبا زهر الربى ... تعلمت حل الشعر أسبكه نثرا )
( فوائد أسحار هناك اقتبستها ... ولم أر روضا غيره يقرئ السحرا )
( كأن هزيز الريح يمدح روضها ... فتملأ فاه من أزاهرها درا )
( أيا زنقات الحسن هل فيك نظرة ... من الجرف الأعلى إلى السكة الغرا )
( فأنظر من هذي لتلك كأنما ... أغير إذ غازلتها أختها الأخرى )
( هي الكاعب الحسناء تمم حسنها ... وقدت لها أوراقها حللا خضرا )
( إذا خطبت أعطت دراهم زهرها ... وما عادة الحسناء أن تنقد المهرا )
( وقامت بعرس الأنس قينة أيكها ... أغاريدها تسترقص الغصن النضرا )
( فقل في خليج يلبس الحوت درعه ... ولكنه لا يستطيع بها نصرا )
( إذا ما بدا فيها الهلال رأيته ... كصفحة سيف وسمها قبعة صفرا )
( وإن لاح فيها البدر شبهت متنه ... بشط لجين ضم من ذهب عشرا )
( وفي جرفي روض هناك تجافيا ... بنهر يود الأفق لو زاره فجرا )
( كأنهما خلا صفاء تعاتبا ... وقد بكيا من رقة ذلك النهرا )
( وكم لي بأبيات الحديد عشية ... من الأنس ما فيه سوى أنه مرا )
( عشايا كأن الدهر غض بحسنها ... فأجلت بساط البرق أفراسها الشقرا )
( عليهن أجري خيل دمعي بوجنتي ... إذا ركبت حمرا ميادينها الصفرا )

( أعهدي بالغرس المنعم دوحة ... سقتك دموعي إنها مزنة شكرا )
( فكم فيك من يوم أغر محجل ... تقضت أمانيه فخلدتها ذكرا )
( على مذنب كالبحر من فرط حسنه ... تود الثريا أن يكون لها نحرا )
( سقت أدمعي والقطر أيهما انبرى ... نقا الرملة البيضاء فالنهر فالجسرا )
( وإخوان صدق لو قضيت حقوقهم ... لما فارقت عيني وجوههم الزهرا )
( ولو كنت أقضي حق نفسي ولم أكن ... لما بت أستحلي فراقهم المرا )
( وما اخترت هذا البعد إلا ضرورة ... وهل تستجيز العين أن تفقد الشفرا )
( قضى الله أن تنأى بي الدار عنهم ... أراد بذاك الله أن أعتب الدهرا )
( ووالله لو نلت المنى ما حمدتها ... وما عادة المشغوف أن يحمد الهجرا )
( أيأنس باللذات قلبي ودونهم ... مرام يجد الكرب في طيها شهرا )
( ويصحب هادي الليل راء حروفه ... وصادا ونونا قد تقوس واصفرا )
( فديتهم بانوا وضنوا بكتبهم ... فلا خبرا منهم لقيت ولا خبرا )
( ولولا علا هماتهم لعتبتهم ... ولكن عراب الخيل ولا تحمل الزجرا )
( ضربت غبار البيد في مهرق السرى ... بحيث جعلت الليل في ضربه حبرا )
( وحققت ذاك الضرب جمعا وعدة ... وطرحا وتجميلا فأخرج لي صفرا )
( كأن زماني حاسب متعسف ... يطارحني كسرا وما يحسن الجبرا )
( فكم عارف بي وهو يحسن رتبتي ... فيمدحني سرا ويشتمني جهرا )
( لذلك ما أعطيت نفسي حقها ... وقلت لسرب الشعر لا ترم الفكرا )
( فما برحت فكري عذارى قصائدي ... ومن خلق العذراء أن تألف الخدرا )
( ولست وإن طاشت سهامي بآيس ... فإن مع العسر الذي يتقى يسرا )

وقال يراجع أبا الربيع ابن سالم عن أبيات مثلها
( سقى مضرب الخيمات من علمي نجد ... أسح غمامي أدمعي والحيا الرغد )
( وقد كان في دمعي كفاء وإنما ... يجففها ما بالضلوع من الوقد )
( فإن فترت نار الضلوع هنيهة ... فسوف ترى تفجيره للحيا العد )
( وإن ضن صوب المزن يوما فأدمعي ... تنوب كما ناب الجميع عن الفرد )
( وإن هطلا يوما بساحتها معا ... فأرواهما ما صاب من منتهى الود )
( أرى زفرتي تذكي ودمعي ينهمي ... نقيضين قاما بالصلاء وبالورد )
( فهل بالذي أبصرتم أم سمعتم ... غمام بلا أفق وبرق بلا رعد )
( لي الله كم أهذي بنجد وأهلها ... وما لي بها إلا التوهم من عهد )
( وما بي إلى نجد نزوع ولا وهدى ... خلا أنهم شنوا القوافي على نجد )
( وجاءوا بدعوى حسن الشعر زورها ... فصارت لهم في مصحف الحب كالحمد )
( شغلنا بأبناء الزمان عن الهوى ... وللدرع وقت ليس يحسن للبرد )
( إلى الله أشكو ريب دهر يغص بي ... نوائبه قد ألجمت ألسن العد )
( لقد صرفت حكم الفؤاد إلى الهوى ... كما فوضت أمر الجفون إلى السهد )
( أما تتوقى ويحها أن أصيبها ... بدعوة مظلوم على جورها يعدي )
( أما راعها أن زحزحت عن أكارم ... فراقهم دل القلوب على حدي )
( أعاتبها فيهم فتزداد قسوة ... أجدك هل عاينت للحجر الصلد )
( أما علمت أن القساوة نافرت ... طباع بني الآداب إلا من الرد )
( إذا وعدت يوما بتأليف شملنا ... فألمم بعرقوب وما سن من وعد )
( وإن عاهدت أن لا تؤلف بيننا ... تذكرت آثار السموأل في العهد )
( خليلي أعني الظم والنثر أرسلا ... جياد كما في حلبة الشكر والحمد )
( قفا ساعداني إنه حق صاحب ... بريء جمام الكتم من كدر الحقد )

( بآية ما قيدتما ألسن الورى ... بذكري فيا ويح الكناني والكندي )
( فأين بياني أو فأين فصاحتي ... إذا لم أعد ذكر الأكارم أو أبدي )
( فيا خاطري وف الثناء حقوقه ... وصغه كما قالوا سوار على زند )
( ولا تلزمني بالتكاسل حجة ... تشببها نار الحياء على خدي )
( ثكلت القوافي وهي أبناء خاطري ... وغيبها الإقحام عني في لحد )
( لئن لم أصغ زهر النجوم قلادة ... وآت ببدر التم واسطة العقد )
( إلى أن يقول السامعون لرفقتي ... نعم طار ذاك السقط عن ذلك الزند )
( أحيي برياها جناب ابن سالم ... فيقرع فيه الباب في زمن الورد )
وهي طويلة
ومن مقطوعات قوله
( يا قمرا مطلعه أضلعي ... له سواد القلب فيها غسق )
( وربما استوقد نار الهوى ... فناب فيها لونها عن شفق )
( ملكتني في دولة من صبا ... وصدتني في شرك من حدق )
( عندي من حبك ما لو سرت ... في البحر منه شعلة لاحترق )
وقال
( قد كان لي قلب فلما فارقوا ... سوى جناحك للغرام وطارا )
( وجرت سحاب للدموع فأوقدت ... بين الجوانح لوعة وأوارا )
( ومن العجائب أن فيض مدامعي ... ماء ويثمر في ضلوعي نارا )
وشعره الرمل والقطر كثرة فلنختمه بقوله
( قالوا وقد طال بي مدى خطئي ... ولم أزل في تجرمي ساهي )

( أعددت شيئا ترجو النجاة به ... فقلت أعددت رحمة الله )
وكتب يهنئ قاضي الجماعة أبا القاسم ابن بقي برسالة منها لأن محله دام عمره وامتثل نهيه الشرعي وأمره أعلى رتبة وأكرم محلا من أن يتحلى بخطة هي به تتحلى كيف يهنأ بالقعود لسماع دعاوي الباطل والمعاناة لإنصاف الممطول من الماطل والتعب في المعادلة بين ذوي المجادلة أما لو علم المتشوفون إلى خطة الأحكام المستشرفون إلى ما لها من التبسط والاحتكام ما يجب لها من اللوازم والشروط الجوازم كبسط الكنف ورفع الجنف والمساواة بين العدو ذي الذنب والصاحب بالجنب وتقديم ابن السبيل على ذي الرحم والقبيل وإيثار الغريب على القريب والتوسع في الأخلاق حتى لمن ليس له من خلاق إلى غير ذلك مما علم قاضي الجماعة أحصاه واستعمل خلقه الفاضل أدناه وأقصاه لجعلوا خمولهم مأمولهم وأضربوا عن ظهورهم فنبذوه وراء ظهورهم اللهم إلا من أوتي بسطة في العلم ورسا طودا في ساحة الحلم وتساوي ميزانه في الحرب والسلم وكان كمولانا في المماثلة بين أجناس الناس فقصاراه أن يتقلد الأحكام للأجر لا للتعنيف والزجر ويتولاها للثواب لا للغلظة في رد الجواب ويأخذها لحسن الجزاء لا لقبيح الاستهزاء ويلتزمها لجزيل الذخر لا للإزراء والسخر فإذا كان كذلك وسلك المتولي هذه المسالك وكان مثل قاضي الجماعة ولا مثل له ونفع الحق به علله ونقع غلله فيومئذ تهنى به خطة القضاء وتعرف ما الله تعالى عليها من اليد البيضاء
ورحل إلى مراكش في جهاز بنت بلغت التزويج وقصد دار الإمارة مادحا

فما تيسر له شيء من أمله ففكر في خيبة قصده وقال لو كنت أملت الله سبحانه ومدحت نبيه وآل بيته الطاهرين لبلغت أملي بمحمود عملي ثم استغفر الله تعالى من اعتماده في توجهه الأول وعلم أن ليس على غير الثاني معول فلم يك إلا أن صرف نحو هذا المقصد همته وأمضى فيه عزمته وإذا به قد وجه إليه فأدخل على الخليفة فسأله عن مقصده فأخبره مفصحا به فأنفذه وزاده عليه وأخبره أن ذلك لرؤيا رسول الله في النوم يأمر بقضاء حاجته فانفصل موفى الأغراض واستمر في مدح أهل البيت عليهم السلام حتى اشتهر بذلك وتوفي سنة ثمان وتسعين وخمسمائة وسنه دون الأربعين وصلى عليه أبوه فإنه كان بمكان من الفضل والدين رحم الله تعالى الجميع انتهى كلام ابن الخطيب في حق المذكور ملخصا
ولا بأس أن نزيد عليه ما حضر فنقول قال ابن سعيد وغيره ولد صفوان سنة ستين وخمسمائة أو في التي بعدها قال وديوان شعره مشهور بالمغرب انتهى
ومن نظمه قوله
( أومض ببرق الأضلع ... واسكب غمام الأدمع )
( واحزن طويلا واجزع ... فهو مكان الجزع )
( وانثر دماء المقلتين ... تألما على الحسين )
( وابك بدمع دون عين ... إن قل فيض الأدمع )
وهذا من قصيدة عارض بها الحريري في قوله
( خل ادكار الأربع ... )
وله أيضا مطلع قصيدة فيه

( يا عين سحي ولا تشحي ... ولو بدمع بحذف عين )
وقال ابن الأبار توفي صفوان بمرسية ليلة الإثنين السادس عشر من شوال سنة ثمان وتسعين وخمسمائة وثكله أبوه وصلى عليه وهو دون الأربعين إذ مولده سنة إحدى وستين وخمسمائة وكان من جلة الكتاب البلغاء ومهرة الأدباء الشعراء ناقدا فصيحا مدركا جليل القدر متقدما في النظم والنثر ممن جمع ذلك وله رسائل بديعة وقصائد جليلة وخصوصا في مراثي الحسين رضي الله تعالى عنه
رثاء ناهض الوادي آشي للحسين
وقد تذكرت هنا قول ناهض بن محمد الأندلسي الوادي آشي في رثاء الحسين رضي الله تعالى عنه
( أمرنة سجعت بعود أراك ... قولي مولهة علام بكاك )
( أجفاك إلفك أم بليت بفرقة ... أم لاح برق بالحمى فشجاك )
( لو كان حقا ما ادعيت من الجوى ... يوما لما طرق الجفون كراك )
( أو كان روعك الفراق إذا لما ... ضنت بماء جفونها عيناك )
( ولما ألفت الروض يأرج عرفه ... وجعلت بين فروعه مغناك )
( ولما اتخذت من الغصون منصة ... ولما بدت مخضوبة كفاك )
( ولما ارتديت الريش بردا معلما ... ونظمت من قزح سلوك طلاك )
( لو كنت مثلي ما أفقت من البكا ... لا تحسبي شكواي من شكواك )
( إيه حمامة خبريني إنني ... أبكي الحسين وأنت ما أبكاك )
( أبكي قتيل الطف فرع نبينا ... أكرم بفرع للنبوة زاكي )
( ويل لقوم غادروه مضرجا ... بدمائه نضوا صريع شكاك )

( متعفرا قد مزقت أشلاؤه ... فريا بكل مهند فتاك )
( أيزيد لو راعيت حرمة جده ... لم تقتنص ليث العرين الشاكي )
( أو كنت تصغي إذ نفرت بثغره ... قرعت صماخك أنه المسواك )
( أتروم ويك شفاعة من جده ... هيهات لا ومدبر الأفلاك )
( ولسوف تنبذ في جهنم خالدا ... ما الله شاء ولات حين فكاك )
وتوفي ناهض المذكور بوادي آش سنة 615
رجع إلى أخبار صفوان بن إدريس رحمه الله تعالى فنقول ومن شعر صفوان قوله
( قلنا وقد شام الحسام مخوفا ... رشأ بعادية الضراغم عابث )
( هل سيفه من طرفه أم طرفه ... من سيفه أم ذاك طرف ثالث )
وقوله
( غيري يروع بسيفه ... رشأ تشاجع ساخرا )
( إن كف عني طرفه ... فالسيف أعف ناصرا )
وقال صفوان المذكور رحمه الله تعالى حييت بعض أصحابنا بزهرة سوسن فقال
( حيا بسوسنة أبو بحر ... ) فقلت مجيزا
( نضراء تفضح يانع الزهر ... )
( عجبا لها لم تذوها يده ... من طول ما مكث على الصدر )

وقال أيضا ماشيت الوزير الكاتب أبا محمد ابن حامد يوما فاتفق أن قال لأمر تذكره
( بين الكثيب ومنبت السدر ... ريم غدا مثواه في صدري )
فقلت أجيزه
( لوشاحه قلم بلا ألم ... ولقرطه خفق بلا ذعر )
( لو كنت قد أنصفت مقتله ... برأت هاروتا من السحر )
( أو كنت أقضي حق مرشفه ... أعرضت لا ورعا عن الخمر )
وناولته يوما وردة مغلقة فقال
( ومحمرة تختال في ثوب سندس ... كوجنة محبوب أطل عذاره )
فقلت أجيزه
( كتطريف كف قد أحاطت بنانها ... بقلب محب ليس يخبو أواره )
وقال رآني الوزير أبو إسحاق وأنا أقيد أشعارا من ظهر دفتر فقال
( ما الذي يكتب الوزير ... )
قلت
( بدائع ما لها نظير ... )
فقال
( در ولكنه نظيم ... من خير أسلاكه السطور )
فقلت
( من أظهر الكتب أقتنيها ... وخل ما تحتوي البحور )
( بتلك تزهو النحور لكن ... بهذه تزدهي الصدور )

ولكن الإنصاف واجب هو قال المعنى الأخير نثرا وأنا سبكته نظما
وقال جلسنا بعض العشايا بالولجة خارج مرسية والنسيم يهب على النهر فقال أبو محمد ابن حامد
( هب النسيم وماء النهر يطرد ... )
فقلت على جهة المداعبة لا الإجازة
( ونار شوقي في الأحشاء تتقد ... )
فقال أبو محمد ما الذي يجمع بين هذا العجز وذاك الصدر فقلت أنا أجمع بينهما ثم قلت
( فصاغ من مائة درعا مفضضة ... وزاد قلبي وقدا للذي يجد )
( وإنما شب أحشائي لحاجته ... إذ ليس دون لهيب يصنع الزرد )
وخطرنا بلقنت على ثمرة تهزها الريح فقال أبو محمد
( وسرحة كاللواء تهفو ... بعطفها هبة الرياح )
فقلت
( كأن أعطافها سقتها ... كف النعامى كؤوس راح )
فقال
( إذا انتحاها النسيم هزت ... أعطافها هزة السماح )
فقلت
( كأن أغصانها كرام ... تقابل الضيف بارتياح )

ولصفوان رحمه الله
( تحية الله وطيب السلام ... على رسول الله خير الأنام )
( على الذي فتح باب الهدى ... وقال للناس ادخلوا بالسلام )
( بدر الهدى غيم الندى والسدى ... وما عسى أن يتناهى الكلام )
( تحية تهزأ أنفاسها ... بالمسك لا أرضى بمسك الختام )
( تخصه مني ولا تنثني ... عن أهله الصيد السراة الكرام )
( وقدرهم أرفع لكنني ... لم ألف أعلى لفظة من كرام )
وقال
( يقولون لي لما ركبت بطالتي ... ركوب فتى جم الغواية معتدي )
( أعندك شيء ترتجي أن تناله ... فقلت نعم عندي شفاعة أحمد )
وشرف وكرم ومجد وعظم وبارك وأنعم ووالي وكمل وأتم

الباب الثاني
في نشأته وترقيه ووزارته وسعادته ومساعدة الدهر له ثم قلبه له ظهر المجن على عادته في مصافاته ومنافاته وارتباكه في شباكه وما لقي من إحن الحاسد ذي المذهب الفاسد ومحن الكائد المستأسد وآفاته وذكر قصوره وأمواله وغير ذلك من أحواله في تقلباته عندما قابله الزمان بأهواله في بدئه وإعادته إلى وفاته
أقول كان مولد الوزير لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله كما في الإحاطة في الخامس والعشرين من شهر رجب عام ثلاثة عشر وسبعمائة وقال الرئيس الأمير أبو الوليد ابن الأحمر رحمه الله نشأ لسان الدين ابن الخطيب على حالة حسنة سالكا سبيل أسلافه فقرأ القرآن على المكتب الصالح أبي عبد الله ابن عبد المولى العواد تكتبا ثم حفظا ثم تجويدا ثم قرأ القرآن أيضا على أستاذ الجماعة أبي الحسن القيجاطي وقرأ عليه العربية وهو أول من انتفع به وقرأ على الخطيب أبي القاسم ابن جزي ولازم قراءة العربية والفقه والتفسير على الشيخ الإمام أبي عبد الله ابن الفخار البيري شيخ النحويين لعهده وقرأ على قاضي الجماعة أبي عبد الله ابن بكر وتأدب بالرئيس أبي الحسن ابن الجياب وروى عن كثير من الأعيان وسرد ابن الأحمر المذكور هنا جملة أعلام من مشايخ لسان الدين سيأتي ذكرهم إن شاء الله تعالى ثم قال وأخذ الطب والتعاليم وصناعة التعديل عن الإمام أبي زكريا يحيى بن هذيل ولازمه انتهى

وقال بعضهم في حق لسان الدين هو الوزير العلامة المتحلي بأجمل الشمائل وأفضل المناقب المتميز في الأندلس بأرفع المراقي وأعلى المراتب علم الأعلام ورئيس أرباب السيوف والأقلام جامع أشتات الفضائل والمربي بحسن سياسته وعظيم رياسته على الأواخر والأوائل حائز رتبة رياسة السيف والقلم والقائم بتدبير الملك على أرسخ قدم صاحب القلم الأعلى الوارد من البراعة المنهل الأحلى صاحب الأحاديث التي لا تمل على كثرة ما تتلى والمحاسن التي صورها على منصة التنويه تجلى انتهى
وقال لسان الدين في الإحاطة بعد ذكر سلفه رحمهم الله تعالى ما ملخصه وخلفني يعني أباه عبد الله عالي الدرجة شهير الخطة مشمولا بالقبول مكنوفا بالعناية فقلدني السلطان سره ولما يستكمل الشباب ويجتمع السن معززة بالقيادة ورسوم الوزارة واستعملني في السفارة إلى الملوك واستناني بدار ملكه ورمى إلي يدي بخاتمه وسيفه وائتمنني على صوان حضرته وبيت ماله وسجوف حرمه ومعقل امتناعه ولما هلك السلطان ضاعف ولده حظوتي وأعلى مجلسي وقصر المشورة على نصحي إلى أن كانت عليه الكائنة فاقتدى في أخوه المتغلب على الأمر به فسجل الاختصاص وعقد القلادة ثم حمله أهل الشحناء من أهل أعوان ثورته على القبض علي فكان ذلك وتقبض علي ونكث ما أبرم من أماني واعتقلت بحال ترفيه وبعدأن كسبت المنازل والدور واستكثر من الحرس وختم على الأعلاق وأبرد إلى ما ناء واستؤصلت نعمة لم تكن بالأندلس من ذوات النظائر ولا ربات

الأمثال في تبحر الغلة وفراهة الحيوان وغبطة العقار ونظافة الآلات ورفعة الثياب واستجادة العدة ووفور الكتب إلى الآنية والفرش والماعون والزجاج والطيب والذخيرة والمضارب والأبنية واكتسحت السائمة وثيران الحرث وظهر الحمولة وقوام الفلاحة والخيل فأخذ ذلك البيع وتناهبتها الأسواق وصاحبها البخس ورزأتها الخونة وشمل الخاصة والأقارب الطلب واستخلصت القرى وأعملت الحيل وطوقت الذنوب وأمد الله تعالى بالعون وأنزل السكينة وانصرف اللسان إلى ذكر الله تعالى وتعلقت الآمال به وطبقت نكبة مصحفية مطلوبها الذات وسببها المال حسبما قلت عند إقالة العثرة والخلاص من الهفوة
( تخلصت منها نكبة مصحفية ... لفقداني المنصور من آل عامر )
ووصلت الشفاعة في مكتتبة بخط ملك المغرب وجعل خلاصي شرطا في العقدة ومسالمة الدولة فانتقلت صحبة سلطاني المكفور الحق إلى المغرب وبالغ ملكه في بري منزلا رحبا وعيشا خفضا وإقطاعا جما وجراية ما وراءها مرمى وجعلني بمجلسه صدرا ثم أسعف قصدي في تهيؤ الخلوة بمدينة سلا منوه الصكوك مهنأ القرار متفقدا باللها والخلع مخول العقار موفور الحاشية مخلي بيني وبين إصلاح معادي إلى أن رد الله تعالى على السلطان أمير المسلمين أبي عبد الله ابن أمير المسلمين أبي الحجاج ملكه وصير إليه حقه فطالبني بوعد ضربته وعمل في القدوم عليه بولده أحكمته ولم يوسعني عذرا ولا فسح في الترك مجالا فقدمت عليه بولده وقد ساءه بإمساكه رهينة ضده ونغص مسرة الفتح بعده على كل حال من التقشف

والزهد فيما بيده وعزف عن الطمع في ملكه وزهد في رفده حسبما قلت من بعض المقطوعات
( قالوا لخدمته دعاك محمد ... فأنفتها وزهدت في التنويه )
( فأجبتهم أنا والمهيمن كاره ... في خدمة المولى محب فيه )
عاهدت الله تعالى على ذلك وشرحت صدري للوفاء به وجنحت إلى الانفصال لبيت الله الحرام نشيدة أملي ومرمى نيتي وعملي فعلق بي وخرج لي عن الضرورة وأراني أن موازرته أبر القرب وراكنني إلى عهد بخطه فسح لعامين أمد الثواء واقتدى بشعيب صلوات الله عليه في طلب الزيادة على تلك النسبة وأشهد من حضر من العلية ثم رمى إلي بعد ذلك بمقاليد رأيه وحكم عقلي في اختيارات عقله وغطى من جفائي بحلمه وحثا في وجوه شهواته تراب زجري ووقف القبول على وعظي وصرف هواي في التحول ثانيا وقصدي واعترف بقبول نصحي فاستعنت الله تعالى وعاملت وجهه فيه من غير تلبس بجراية ولا تشبث بولاية مقتصرا على الكفاية حذرا من النقد خامل المركب معتمدا على المنسأة مستمشيا بخلق النعل راضيا بغير النبيه من الثوب مشفقا من موافقة الغرور هاجرا للزخرف صادعا بالحق في أسواق الباطل كافا عن السخال براثن السباع ثم صرفت الفكر إلى بناء الزاوية والمدرسة والتربة بكر الحسنات بهذه الخطة بل بالجزيرة فيما سلف من المدة فتأتي بمنه الله تعالى من صلاح السلطان وعفاف الحاشية والأمن ورم الثغور وتثمير الجباية وإنصاف الحماة والمقاتلة ومقارعة الملوك المجاورة في إيثار المصلحة الدينية والصدعفوق المنابر ضمانا من السلطان بترياق سم الثورة وإصلاح بواطن الخاصة والعامة ما الله تعالى المجازي عليه والمعوض

من سهر خلعته على أعطافه وخطر اقتحمته من أجله لا للثريد الأعفر ولا للجرد تمرح في الأرسان ولا للبدر تثقل للأكتاد فهو الذي لا يضيع عمل من عمل ذكر أو أنثى سبحانه وتعالى ومع ذلك فلم أعدم الاستهداف للشرور والاستغراض للمحذور والنظر الشزر المنبعث من خزر العيون شيمة من ابتلاه الله تعالى بسياسة الدهماء ورعاية سخطة أرزاق السماء وقتلة الأنبياء وعبدة الأهواء ممن لا يجعل لله تعالى إرادة نافذة ولا مشيئة سابقة ولا يقبل معذرة ولا يجمل في الطلب ولا يتلبس مع الله بأدب ربنا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا والحال إلى هذا العهد وهو منتصف عام وستين وسبعمائة على ما ذكرته أداله الله بحال السلامة وبفيأة العافية والتمتع بالعبادة وربك يخلق ما يشاء ويختار
( وعلي أن أسعى وليس ... علي إدراك النجاح )
ولله سبحانه فينا علم غيب نحن صائرون إليه ألحفنا الله لباس التقوى وختم لنا بالسعادة وجعلنا في الآخرة من الفائزين نفثت عن بث وتأوهت عن حمى ليظهر بعد المنقلب قصدي ويدل مكتتبي على عقدي انتهى وجله بلفظه
وكان رحمه الله تعالى عارفا بأحوال الملوك سريع الجواب حاضر الذهن حاد النادرة ومن حكاياته في حضور الجواب ما حكاه عن نفسه قال حضرت يوما بين يدي السلطان أبي عنان في بعض وفاداتي عليه لغرض الرسالة وجرى ذكر بعض أعدائه فقلت ما أعتقده في إطراء ذلك العدو وما عرفته

من فضله فأنكر علي بعض الحاضرين ممن لا يحطب إلا في حبل السلطان فصرفت وجهي وقلت أيدكم الله تحقير عدو السلطان بين يديه ليس من السياسة في شيء بل غير ذلك أحق وأولى فإن كان السلطان غالب عدوه كان قد غلب غير حقير وهو الأولى بفخره وجلالة قدره وإن غلبه العدو لم يغلبه حقير فيكون أشد للحسرة وآكد للفضيحة فوافق رحمه الله تعالى على ذلك واستحسنه وشكر عليه وخجل المعترض انتهى
وكان رحمه الله تعالى مبتلي بداء الأرق لا ينام من الليل إلا النزر اليسير جدا وقد قال في كتابه الوصول لحفظ الصحة في الفصول العجب مني مع تأليفي لهذا الكتاب الذي لم يؤلف مثله في الطب وعملي ذلك لا أقدر على مداواة داء الأرق الذي بي أو كما قال ولذا يقال له ذو العمرين لأن الناس ينامون في الليل وهو ساهر فيه ومؤلفاته ما كان يصنف غالبها إلا بالليل وقد سمعت بالمغرب بعض الرؤساء يقول لسان الدين ذو الوزارتين وذو العمرين وذو الميتتين وذو القبرين انتهى وسيأتي ما يعلم منه معنى الأخيرين
التعريف بالسلطان أبي الحجاج
وقد عرف رحمه الله تعالى بالسلطان أبي الحجاج في الإحاطة فقال ما حاصله يوسف بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل بن يوسف بن نصر الأنصاري الخزرجي أمير المسلمين بالأندلس أبو الحجاج تولى الملك بعد أخيه بوادي السقائين من ظاهر الخضراء ضحوة يوم الأربعاء ثالث عشر ذي الحجة عام ثلاثة وثلاثين وسبعمائة وسنه خمسة عشر يوما وثمانية أشهر أمه أم ولد وكان له ثلاثة أولاد كبيرهم محمد أمير المسلمين من بعده وتلوه

أخوه إسماعيل محجوره وثالثهم قيس شقيق إسماعيل وذكر لسان الدين أنه وزر له بعد شيخه ابن الجياب وتولى كتابة سره مضافة إلى الوزارة في أخريات شوال عام تسعة وأربعين وسبعمائة انتهى وقد علم أنه وزر بعده لابنه محمد كما تقدم ويأتي وأما إسماعيل بن أبي الحجاج فهو الذي تغلب على الأمر وانتهز الفرصة في ملك أخيه محمد كما تقدم وفيه وفي أخيه قيس حين قتلا يقول لسان الدين
( بإسماعيل ثم أخيه قيس ... )
البيتين
وقد ذكر أيضا رحمه الله تعالى حكاية وفاة السلطان أبي الحجاج ما محصله أنه هجم عليه رجل من عداد الممرورين وهو في الركعة الأخيرة من صلاة عيد الفطر عام خمسة وخمسين وسبعمائة فطعنه بخنجر وقبض عليه واستفهم فتكلم بكلام مخلط واحتمل إلى منزله على فوت لم يستقر به إلا وقد قضى وأخرج قاتله إلى الناس فقتل لحينه وأحرق بالنار ودفن عشية اليوم المذكور في مقبرة قصره ضجيع والده وولي أمره ولده محمد ورثيته في غرض ناء عن الجزالة مختار ولده
( العمر نوم والمنى أحلام ... ماذا عسى أن يستمر مقام )
( وإذا تحققنا لشيء بدأة ... فله بما تقضي العقول تمام )
( والنفس تجمح في مدى آمالها ... ركضا وتأبى ذلك الأيام )
( من لم يصب في نفسه فمصابه ... بحبيبه نفذت بذا الأحكام )
( بعد الشبيبة كبرة ووراءها ... هرم ومن بعد الحياة حمام )
( ولحكمة ما أشرقت شهب الدجى ... وتعاقب الإصباح والإظلام )
( دنياك يا هذا محلة نقلة ... ومناخ ركب ما لديه مقام )
( هذا أمير المسلمين ومن به ... وجد السماح وأعدم الإعدام )

( سر الأمانة والخلافة يوسف ... غيث الملوك وليثها الضرغام )
( قصدته عادية الزمان فأقصدت ... والعز سام والخميس لهام )
( فجعت به الدنيا وكدر شربها ... وشكا العراق مصابه والشام )
( أسفا على الخلق الجميل كأنما ... بدر الدجنة قد جلاه تمام )
( أسفا على العمر الجديد كأنه ... زهو الحديقة زهرة بسام )
( أسفا على الخلق الرضى كأنه ... زهر الرياض هما عليه غمام )
( أسفا على الوجه الذي مهما بدا ... طاشت لنور جماله الأفهام )
( يا ناصر الثغر الغريب وأهله ... والأرض ترجف والسما قتام )
( يا صاحب الصدقات في جنح الدجى ... والناس في فرش النعيم نيام )
( يا حافظ الحرم الذي بظلاله ... ستر الأرامل واكتسى الأيتام )
( مولاي هل لك للقصور زيارة ... بعد انتزاح الدار أو إلمام )
( مولاي هل لك للعبيد تذكر ... حاشاك أن ينسى لديك ذمام )
( يا واحد الآحاد والعلم الذي ... خفقت بعزة نصره الأعلام )
( وافاك أمر الله حين تكاملت ... فيك النهى والجود والإقدام )
( ورحلت عنا الركب خير خليفة ... أثنى عليك الله والإسلام )
( نعم الطريق سلكت كان رفيقه ... والزاد فيه تهجد وصيام )
( وكسفت يا شمس المحاسن ضحوة ... فاليوم ليل والضياء ظلام )
( وسقاك عيد الفطر كأس شهادة ... فيها من الأجل الوحي مدام )
( وختمت عمرك بالصلاة فحبذا ... عمل كريم سعيه وختام )
( مولاي كم هذا الرقاد إلى متى ... بين الصفائح والتراب تنام )
( أعد التحية واحتسبها قربة ... إن كان يمكنك الغداة كلام )
( تبكي عليك مصانع شيدتها ... بيض كما تبكي الهديل حمام )
( تبكي عليك مساجد عمرتها ... فالناس فيها سجد وقيام )

( تبكي عليك خلائق أمنتها ... بالسلم وهي كأنها أنعام )
( عاملت وجه الله فيما رمته ... منها فلم يبعد عليك مرام )
( لو كنت تفدى أو تجار من الردى ... بذلت نفوس من لدنك كرام )
( لو كنت تمنع بالصوارم والقنا ... ما كان ركنك بالغلاب يرام )
( لكنه أمر الإله وما لنا ... إلا رضى بالحكم واستسلام )
( والله قد كتب الفناء على الورى ... وقضاؤه جفت به الأقلام )
( نم في جوار الله مسرورا بما ... قدمت يوم تزلزل الأقدام )
( واعلم بأن سليل ملكك قد غدا ... في مستقر علاك وهو إمام )
( ستر تكنف منه من خلفته ... ظل ظليل فهو ليس يضام )
( كنت الحسام وصرت في غمد الثرى ... ولنصر ملكك سل منه حسام )
( خلفت أمة أحمد لمحمد ... فقضت بسعد الأمة الأحكام )
( فهو الخليفة للورى في عهده ... ترعى العهود وتوصل الأرحام )
( أبقى رسومك كلها محفوظة ... لم ينتثر منها عليك نظام )
( العدل والشيم الكريمة والتقى ... والدار والألقاب والخدام )
( حسبي بأن أغشي ضريحك لاثما ... وأقول والدمع السفوح سجام )
( يا مدفن التقوى ويا مثوى الهدى ... مني عليك تحية وسلام )
( أخفيت من حزني عليك وفي الحشا ... نار لها بين الضلوع ضرام )
( ولو أنني أديت حقك لم يكن ... لي بعد فقدك في الوجود مقام )
( وإذا الفتى أدى الذي في وسعه ... وأتى بجهد ما عليه ملام )
قال لسان الدين وكتبت في بعض معاهده
( غبت فلا عين ولا مخبر ... ولا انتظار منك مرقوب )
( يا يوسف أنت لنا يوسف ... وكلنا في الحزن يعقوب )

انتهى ورحم الله تعالى الجميع بمنه وقد قدمنا ما كتبه لسان الدين على لسان سلطانه إلى السلطان أبي عنان في شأن قتل السلطان أبي الحجاج في الباب الثامن من القسم الأول
الغني ولسان الدين يلجآن للمغرب
وقال لسان الدين في كتابه اللمحة البدرية في الدولة النصرية في ذكر ما يتعلق بخلع سلطانه وقيام أخيه عليه وفي خلال ذلك ما نصه كان السلطان أبو عبد الله عند تصير الأمر إليه قد ألزم أخاه إسماعيل قصرا من قصور أبيه بجوار داره مرفها عليه متممة وظائفه له وأسكن معه أمه وأخواته منها وقد استأثرت يوم وفاة والده بمال جم من خزائنه الكائنة في بيتها فوجدت السبيل إلى السعي لولدها فجعلت تواصل زيارة ابنتها التي عقد لها الوالد مع ابن عمه الرئيس أبي عبد الله ابن الرئيس أبي الوليد ابن الرئيس أبي عبد الله المبايع له بأندرش ابن الرئيس أبي سعيد جدهم الذي تجمعهم جرثومته وشمر الصهر المذكور عن ساعد عزمه وجده وهو ما هو من الإقدام ومداخلة ذؤبان الرجال واستعان بمن آسفته الدولة وهفت به الأطماع فتألف منهم زهاء مائة قصدوا جهة من جهات القلعة متسنمين شفا صعب المرتقى واتخذوا آلة تدرك ذروته لقعود بنية كانت به عن التمام وكبسوا حرسيا بأعلاه بما اقتضى صماته فاستووا به ونزلوا إلى القلعة سحور الليلة الثامنة والعشرين من شهر رمضان عام ستين وسبعمائة فاستظهروا بالمشاعل والصراخ وعالجوا دار الحاجب رضوان ففضوا أغلاقها ودخلوها فقتلوه بين أهله وولده وانتهبوا ما اشتملت عليه داره وأسرعت طائفة مع الرئيس الصهر فاستخرجت الأمير المعتقل إسماعيل وأركبته وقرعت

الطبول ونودي بدعوته وقد كان أخوه السلطان متحولا بولده إلى سكنى الجنة المنسوبة للعريف لصق داره وهي المثل المضروب في الظل الممدود والماء المسكوب والنسيم البليل يفصل بينهما وبين معقل الملك السور المنيع والخندق المصنوع فما راعه إلا النداء والعجيج وأصوات الطبول وهب إلى الدخول إلى القلعة فألفاها قد أخذت دونه شعابها كلها ونقابها وقذفته الحراب ورشقته السهام فرجع أدراجه وسدده الله تعالى في محل الحيرة ودس له عرق الفحول من قومه فامتطى صهوة فرس كان مرتبطا عنده وصار لوجهه فأعيا المتبع وصبح مدينة وادي آش ولم يشعر حافظ قصبتها إلا به وقد تولج عليها فالتف به أهلها وأعطوه صفقتهم بالذب عنه فكان أملك بها وتجهزت الحشود إلى منازلته وقد جدد أخوه المتغلب على ملكه عقد السلم مع طاغية قشتالة باحتياجه إلى سلم المسلمين لجراء فتنة بينه وبين البرجلونيين من أمته واغتبط به أهل المدينة فذبوا عنه ورضوا بهلاك نعمتهم دونه واستمرت الحال إلى يوم عيد النحر من عام التاريخ ووصله رسول صاحب المغرب مستنزلا عنها ومستدعيا إلى حضرته لما عجز عن إمساكها وراسل ملك الروم فلم يجد عنده من معول فانصرف ثاني يوم عيد النحر المذكور وتبعه الجمع الوافر من أهل المدينة خيلا ورجلا إلى مربلة من ساحل إجازته وكان وصوله إلى مدينة فاس مصحوبا من البر والكرامة بما لا يزيد عليه في السادس من شهر محرم فاتح عام أحد وستين وسبعمائة وركب السلطان للقائه ونزل إليه عندما سلم عليه وبالغ في الحفاية به وكنت قد ألحقت به مفلتا من شرك النكبة التي استأصلت المال وأوهمت سوء الحال بشفاعة السلطان أبي سالم قدس الله روحه فقمت بين يديه في الحفل المشهود يومئذ وأنشدته

( سلا هل لديها من مخبره ذكر ... وهل أعشب الوادي ونم به الزهر )
( وهل باكر الوسمي دارا على اللوى ... عفت آيها إلا التوهم والذكر )
( بلادي التي عاطيت مشمولة الهوى ... بأكنافها والعيش فينان مخضر )
( وجوى الذي ربى جناحي وكره ... فها أنا ذا ما لي جناح ولا وكر )
( نبت بي لا عن جفوة وملالة ... ولا نسخ الوصل الهنيء بها هجر )
( ولكنها الدنيا قليل متاعها ... ولذاتها دأبا تزور وتزور )
( فمن لي بقرب العهد منها ودوننا ... مدى طال حتى يومه عندنا شهر )
( ولله عينا من رآنا وللأسى ... ضرام له في كل جانحة جمر )
( وقد بددت در الدموع يد النوى ... وللشوق أشجان يضيق لها الصدر )
( بكينا على النهر الشروب عشية ... فعاد أجاجا بعدنا ذلك النهر )
( أقول لأظعاني وقد غالها السرى ... وآنسها الحادي وأوحشها الزجر )
( رويدك بعد العسر يسر أن أبشري ... بإنجاز وعد الله قد ذهب العسر )
( ولله فينا سر غيب وربما ... أتى النفع من حال أريد بها الضر )
( وإن تخن الأيام لم تخن النهى ... وإن يخذل الأقوام لم يخذل الصبر )
( وإن عركت مني الخطوب مجربا ... نقابا تساوى عنده الحلو والمر )
( فقد عجمت عودا صليبا على الردى ... وعزما كما تمضي المهندة البتر )
( إذا أنت بالبيضاء قررت منزلي ... فلا اللحم حل ما حييت ولا الظهر )
( زجرنا بإبراهيم برء همومنا ... فلما رأينا وجهه صدق الزجر )
( بمنتجب من آل يعقوب كلما ... دجا الخطب لم يكذب لعزمته فجر )
( تناقلت الركبان طيب حديثه ... فلما رأته صدق الخبر الخبر )
( ندى لو حواه البحر لذ مذاقه ... ولم يتعقب مده أبدا جزر )

( وبأس غدا يرتاع من خوفه الردى ... وترفل في أثوابه الفتكة البكر )
( أطاعته حتى العصم في قنن الربى ... وهشمت إلى تأميله الأنجم الزهر )
( قصدناك يا خير الملوك على النوى ... لتنصفنا مما جنى عبدك الدهر )
( كففنا بك الأيام عن غلوائها ... وقد رابنا منها التعسف والكبر )
( وعذنا بذاك المجد فانصرم الردى ... ولذنا بذاك العزم فانهزم الذعر )
( ولما أتينا البحر يرهب موجه ... ذكرنا نداك الغمر فاحتقر البحر )
( خلافتك العظمى ومن لم يدن بها ... فإيمانه لغو وعرفانه نكر )
( ووصفك يهدي المدح قصد صوابه ... إذا ضل في أوصاف من دونك الشعر )
( دعتك قلوب المؤمنين وأخلصت ... وقد طاب منها السر لله والجهر )
( ومدت إلى الله الأكف ضراعة ... فقال لهن الله قد قضي الأمر )
( وألبسها النعمى ببيعتك التي ... لها الطائر الميمون والمحتد الحر )
( فأصبح ثغر الثغر يبسم ضاحكا ... وقد كان مما نابه ليس يفتر )
( وأمنت بالسلم البلاد وأهلها ... فلا ظبة تعرى ولا روعة تعرو )
( وقد كان مولانا أبوك مصرحا ... بأنك في أبنائه الولد البر )
( وكنت حقيقا بالخلافة بعده ... على الفور لكن كل شيء له قدر )
( وأوحشت من دار الخلافة هالة ... أقامت زمانا لا يلوح بها البدر )
( فرد عليك الله حقك إذ قضى ... بأن تشمل النعمى وينسدل الستر )
( وقاد إليك الملك رفقا بخلقه ... وقد عدموا ركن الإمامة واضطروا )
( وزادك بالتمحيص عزا ورفعة ... وأجرا ولولا السبك ما عرف التبر )
( وأنت الذي تدعى إذا دهم الردى ... وأنت الذي ترجى إذا أخلف القطر )
( وأنت إذا جار الزمان محكم ... لك النقض والإبرام والنهي والأمر )
( وهذا ابن نصر قد أتى وجناحه ... مهيض ومن علياك يلتمس الجبر )

( غريب يرجى منك ما أنت أهله ... فإن كنت تبغي الفخر قد جاءك الفخر )
( ففز يا أمير المسلمين ببيعة ... موثقة قد حل عروتها الغدر )
( ومثلك من يرعى الدخيل ومن دعا ... بيا لمرين جاءه العز والنصر )
( وخذ يا إمام الحق بالحق ثأره ... ففي ضمن ما تأتي به العز والأجر )
( وأنت لها يا ناصر الحق فلتقم ... بحق فما زيد يرجى ولا عمرو )
( فإن قيل مال مالك الدثر وافر ... وإن قيل جيش عندك العسكر المجر )
( يكف بك العادي ويحيا بك الهدى ... ويبني بك الإسلام ما هدم الكفر )
( أعده إلى أوطانه عنك راضيا ... وطوقه نعماك التي ما لها حصر )
( وعاجل قلوب الناس فيه بجبرها ... فقد صدهم عنه التغلب والقهر )
( وهم يرقبون الفعل منك وصفقة ... تحاولها يمناك ما بعدها خسر )
( مرامك سهل لا يؤودك كلفة ... سوى عرض ما إن له في العلا خطر )
( وما العمر إلا زينة مستعارة ... ترد ولكن الثناء هو العمر )
( ومن باع ما يفنى بباق مخلد ... فقد أنجح المسعى وقد ربح التجر )
( ومن دون ما تبغيه يا ملك الهدى ... جياد المذاكي والمحجلة الغر )
( وراد وشقر واضحات شياتها ... فأجسامها تبر وأرجلها در )
( وشهب إذا ما ضمرت يوم غارة ... مطهمة غارت بها الأنجم الزهر )
( وأسد رجال من مرين مخيفة ... عمائمها بيض وآسالها سمر )
( عليها من الماذي كل مفاضة ... تدافع في أعطافها اللجج الخضر )
( هم القوم إن هبوا لكشف ملمة ... فلا الملتقى صعب ولا المرتقى وعر )
( إذا سئلوا أعطوا وإن نوزعوا سطوا ... وإن واعدوا وفوا وإن عاهدوا بروا )
( وإن مدحوا اهتزوا ارتياحا كأنهم ... نشاوى تمشت في معاطفهم خمر )
( وإن سمعوا العوراء فروا بأنفس ... حرام على هاماتها في الوغى الفر )

( وتبسم ما بين الوشيج ثغورهم ... وما بين قضب الدوح يبتسم الزهر )
( أمولاي غاضت فكرتي وتبلدت ... طباعي فلا طبع يعين ولا فكر )
( ولولا حنان منك داركتني به ... وأحييتني لم تبق عين ولا أثر )
( فأوجدت مني فائتا أي فائت ... وأنشرت ميتا ضم أشلاءه قبر )
( بدأت بفضل لم أكن لعظيمه ... بأهل فجل اللطف وانفرج الصدر )
( وطوقتني النعمى المضاعفة التي ... يقل عليها مني الحمد والشكر )
( وأنت بتتميم الصنائع كافل ... إلى أن يعود الجاه والعز والوفر )
( جزاك الذي أسنى مقامك عصمة ... يفك بها عان وينعش مضطر )
( إذا نحن أثنينا عليك بمدحة ... فهيهات يحصى الرمل أو يحصر القطر )
( ولكننا نأتي بما نستطيعه ... ومن بذل المجهود حق له العذر )
فلا تسأل عن امتعاض وانتفاض وسداد أنحار في التأثر لنا وأغراض والله غالب على أمره
وفي صبيحة يوم السبت السابع عشر من شهر شوال عام اثنين وستين وسبعمائة كان انصرافه إلى الأندلس وقد ألح صاحب قشتالة في طلبه وترجح الرأي على قصده فقعد السلطان بقبة العرض من جنة المصارة وبرز الناس وقد أسمعهم البريح واستحضرت البنود والطبول والآلة وألبس خلعة الملك وقيدت له مراكبه فاستقل وقد التف عليه كل من جلا عن الأندلس من لدن الكائنة في جملة كثيفة ورأى من رقة الناس وإجهاشهم وعلو أصواتهم بالدعاء ما قدم به العهد إذ كان مظنة ذلك سكونا وعفافا وقربا قد ظلله الله برواق الرحمة وعطف عليه وشائج المحبة إلى كونه مظلوم العقد منتزع الحق فتبعته

الخواطر وحميت عليه الأنفس وانصرف لوجهته وهو الآن برندة مستقل بها وبجهاتها ومتعلل بألقاب ومقتنع برسم وقد قام له برسم الوزارة الشيخ القائد أبو الحسن علي بن يوسف ابن كماشة الحضرمي وبكتابته الفقيه أبو عبد الله ابن زمرك وقد استفاض عنه من الحزم والتدرب والتيقظ للأمور والمعرفة بوجوه المصالح ما لا ينكر كان الله لنا وله بفضله انتهى كلام لسان الدين ابن الخطيب في اللمحة البدرية
رسالة للسان الدين عن الغني إلى المنصور بن قلاوون
وقد علمت أنه بعد هذا التاريخ عاد سلطانه إلى حضرة غرناطة واستبد بملك الأندلس وعاد لسان الدين إليه حسبما أحسن سياق ذلك لسان الدين رحمه الله تعالى في كتاب من إنشائه على لسان سلطانه الغني بالله وخاطب به ملك الحرمين مصر والشام السلطان المنصور بن أحمد بن الناصر بن قلاوون وقد ذكرنا منه ما يتعلق بالأندلس في الباب الثاني من القسم الأول وقال بعد ذلك فيما يتعلق بالخلع المذكور ما نصه ولما صير الله إلينا تراثهم الهني وأمرهم السني وبناءهم العادي وملكهم الجهادي أجرانا وله الطول على سننهم ورفع أعلامنا في هضابهم المشرفة وقننهم وحملنا فيهم خير حمل ونظم بنا لهم أي شمل وألبس أيامنا سلما فسح الدارة وأحكم الإدارة وهنأ الإمارة ومكن العمارة وأمن في البحر والبر السيارة والعبارة لولا ما طرقهم فينا من تمحيص أجلي عن تخصيص وتمحض تبره بعد تخليص ومرام عويص نبثكم بثه ونوالي لديكم حثه ونجمع منبثه فإن في الحوادث ذكرا ومعروف الدهر لا يؤمن أن يعود نكرا وشر الوجود

معاقب بخيره والسعيد من اتعظ بغيره والحزم أفضل ما إليه ينتسب وعقل التجربة بالمرانة يكتسب وهو أن بعضا ممن ينسب إلينا بوشائج الأعراق لا بمكارم الأخلاق ويمت إلينا بالقرابة البعيدة لا بالنصبة السعيدة ممن كفلناه يتيما وصناه ذميما شتيما وبوأناه مبوأ كريما بعد أن نشأ حرشوفا دميما وملعونا لئيما ونوهناه من خموله بالولاية ونسخنا حكم تسحبه بآية العناية داخل أخا لنا كنا ألزمناه الاقتصار على قصره ولم نجعل أداة تدل على حصره وسامحناه في كثير من أمره ولم نرتب بزيده ولا عمره واغتررنا برماد علا على جمره فاستدعى له من الصعاليك شيعته كل درب بفك الأغلاق وتسرب أنفاق النفاق وخارق للإجماع والإصفاق وخبير بمكان الخراب ومذاهب الفساق وتسور بهم القلعة من ثلم شرع في سده بعد هده ولم تكمل الأقدار المميزة في ليلة آثرنا مبيتنا ببعض البساتين خارج قصورنا واستنبنا من يضطلع بأمورنا فاستتم الحيلة التي شرعها واقتحم القلعة وافترعها وجدل حرس النوبة وصرعها وكبس محل النائب عنا وجد له ولم ينشب أن جد له واستخرج الأخ البائس فنصبه وشد به تاج الولاية وعصبه وابتز أمرنا وغصبه
وتوهم الناس أن الحادثة على ذاتنا قد تمت والدائرة بنا قد ألمت ولقد همت فخذل الناصر وانقطعت الأواصر وأقدم المتقاصر واقتحمت الأبهاء والمقاصر وتفرقت الأجزاء وتحللت العناصر وفقد من عين الأعيان النور الباصر فأعطوه طاعة معروفة وأصبحت الوجوه إليه مصروفة وركضنا وسرعان الخيل تقفو أثر منجاتنا والظلام يخفيها وتكفي السماء والله يكفيها إلى أن خلصنا إلى مدينة وادي آش خلوص القمر السرار لا نملك إلا نفسا مسلمة لحكم الأقدار ملقية لله مقادة الاختيار مسلوبة بموجب الإستقرار وناصحنا أهل تلك المدينة فعملوا على الحصار واستبصروا في الدفاع عنا أتم الاستبصار ورضوا لبيوتهم المصحرة وبساتينهم المستبحرة

بفساد الحديد وعياث النار ولم يرضوا لجوارهم بالإخفار ولا لنفوسهم بالعار إلى أن كان الخروج عن الوطن بعد خطوب تسبح فيها الأقلام سبحا طويلا الشجون شرحا وتأويلا وتلقي القصص منها على الآذان قولا وجزنا البحر وضلوع موجه إشفاقا علينا تخفق وأكف رياحه حسرة تصفق ونزلنا من جناب سلطان بني مرين على المثوى الذي رحب بنا ذرعه ودل على كرم الأصول فرعه والكريم الذي وهب فأجزل ونزل لنا عن الصهوة وتنزل وخير وحكم ورد على الدهر الذي تهكم واستعبر وتبسم وآلى وأقسم وبسمل وقدم واستركب لنا واستخدم
ولما بدا لمن وراءنا سيئات ما كسبوا وحققوا ما حسبوا وطفا الغثاء ورسبوا ولم ينشب الشقي الخزي أن قتل البائس الذي موه بزيفه وطوقه بسيفه ودل ركب المخافة على خيفه إذ أمن المضعوف من كيده وجعل ضرغامه بازيا لصيده واستقل على أريكته استقلال الظليم على تريكته حاسر الهامة متنفقا بالشجاعة والشهامة مستظهرا بأول الجهالة والجهامة وساءت في محاولة عدو الدين سيرته ولما حصحص الحق انكشفت سريرته وارتابت لجبنه المستور جيرته وفغر عليه طاغية الروم فمه فالتقمه ومد عليه الصليب ذراعه فراعه وشد الكفر عليه يده فما عضده الله ولا أيده وتخرمت ثغور الإسلام بعد انتظامها وشكت إليه باهتضامها وغصت بأشلاء عباد الله وعظامها ظهور أوضامها ووكلت السنة والجماعة وانقطعت من النجح الطماعة واشتدت المجاعة وطلعت شمس دعوتنا من المغرب فقامت عليها الساعة وأجزنا البحر تكاد جهتاه تتقاربان تيسيرا ورياحه لا تعرف في غير وجهتنا مسيرا وكأن ماءه ذوب لقي إكسيرا ونهضنا يتقدمنا الرعب ويتقد منا الدعاء وتجأجئ بنا الإشارة ويحفزنا الاستدعاء

وأقصر الطاغية عن البلاد بعد أن ترك ثغورها مهتومة والإخافة عليها محتومة وطوابعها مفضوضة وكانت بنا مختومة وأخذت الخائن الصيحة فاختبل وظهر تهوره الذي عليه جبل فجمع أوباشه السفلة وأوشابه وبهرجه الذي غش به المحض وشابه وعمد إلى الذخيرة التي صانتها الأغلاق الحريزة والمعاقل العزيزة فملأ بها المناطق واستوعب الصامت والناطق والوشح والقراطق واحتمل عدد الحرب والزينة وخرج ليلا عن المدينة واقتضت آراؤه الفائلة ونعامته الشائلة ودولة بغيه الزائلة أن يقصد طاغية الروم بقضه وقضيضه وأوجه وحضيضه وطويله وعريضه من غير عهد اقتضى وثيقة ولا أمر عرف حقيقته إلا ما أمل اشتراطه من تبديل الكلمة واستئصال الأمة المسلمة فلم يكن إلا أن تحصل في قبضته ودنا من مضجع ربضته واستشار نصحاءه في أمره وحكم الحيلة في جناية غدره وشهره ببلده وتولى قتله بيده وألحق به جميع من أمده في غيه وظاهره على سوء سعيه وبعث إلينا برؤوسهم فنصبت بمسور غدرها وقلدت لبة تلك البنية بشذرها وأصبحت عبرة للمعتبرين وآية للمستبصرين وأحق الله الحق بكلماته وقطع دابر الكافرين
وعدنا إلى أريكة ملكنا كما رجع القمر إلى بيته بعد كيته وكيته أو العقد إلى جيده بعد انتثار فريده أو الطير إلى وكره مفلتا من غول الشرك ومكره ينظر الناس إلينا بعيون لم ترو مذ غبنا من محيا رحمة ولا طشت عليها بعدنا غمامة رحمة ولا باتت للسياسة في ذمة ولا ركنت لدين ولا همة فطوينا بساط العتاب طي الكتاب وعالجنا سطور بالاضطراب وآنسنا نفوس أولي الاقتراف بالاقتراب وسهلنا إلينا واستغفرنا الله لنفسنا ولمن جنى علينا فلا تسألوا عما أثار ذلك من استدراك ندم ورسوخ قدم واستمتاع بوجود بعد عدم فسبحان الذي يمحص ليثيب ويأمر بالدعاء ليجيب وينبه من الغفلة ويهيب ويجتبي إليه من يشاء ويهدي

إليه من ينيب
ورأينا أن نطالع علومكم الشريفة بهذا الواقع تسبيبا للمفاتحة المعتمدة وتمهيدا للموالاة المجددة فأخبار الأقطار مما تنفقه الملوك على أسمارها وترقم ببدائعه هالات أقمارها وتستفيد منه حسن السير والأمان من الغير وتستعين على الدهر بالتجارب وتستدل بالشاهد على الغائب وبلادكم ينبوع الخير وأهله ورواق الإسلام الذي يأوى قريبه وبعيده إلى ظله ومطلع نور الرسالة وأفق الرحمة المنثالة منه تقدم علينا الكواكب تضرب آباط أفلاكها وتتخلل مداريها المذهبة غدائر أحلاكها وتستعلي البدور ثم يدعوها إلى المغرب الحدور وتطلع الشمس متجردة من كمائم ليلها متهادية في دركات ميلها ثم تسحب إلى الغروب فضل ذيلها ومن تلقائكم ورد العلم والعمل وأرعى الهمل
فنحن نستوهب من مظان الأجابة لديكم دعاء يقوم لنا مقام المدد ويعدل منه الشيء بالمال والعدد ففي دعاء المؤمن بظهر الغيب ما فيه مما ورد وإياه سبحانه نسأل أن يدفع عنا وعنكم دواعي الفتن وغوائل المحن ويحملنا على سنن السنن ويلبسنا من تقواه أوقى الجنن وهو سبحانه يصل لأبوتكم ما تستقل لدى قاضي القضاة رسومه فتكتب حقوقه وتكبت خصومه ولا تكلفه الأيام ولا تسومه بفضل الله وعزته وكرمه ومنته والسلام الكريم الطيب المبارك بدءا بعد عود وجودا إثر جود ورحمة الله تعالى وبركاته انتهى
وللسان الدين ابن الخطيب رحمه الله عن سلطانه المذكور كتاب آخر في هذه الكائنة إلى كبير الموحدين أبي محمد عبد الله بن تفراجين ولعلنا نذكره إن

شاء الله تعالى في الباب الخامس من هذا القسم عند تعرضنا لبعض نثر لسان الدين رحمه الله تعالى
نقل عن ابن خلدون في خلع الغني
وقد ساق هذه القضية قاضي القضاة الشهير الكبير ولي الدين عبد الرحمن ابن خلدون الحضرمي رحمه الله تعالى في تاريخه الكبير في ترجمة السلطان الشهير أبي سالم ابن السلطان أبي الحسن المريني صاحب المغرب مما نصه الخبر عن خلع ابن الأحمر صاحب غرناطة ومقتل رضوان ومقدمه على السلطان لما هلك السلطان أبو الحجاج سنة خمس وخمسين وسبعمائة ونصب ابنه محمد للأمر واستبد عليه رضوان مولى أبيه وكان قد رشح ابنه الأصغر إسماعيل بما ألقى عليه وعلى أمه من محبته فلما عدلوا بالأمر عنه حجبوه ببعض قصورهم وكان له صهر من ابن عمه محمد بن إسماعيل ابن الرئيس أبي سعيد فكان يدعوه سرا إلى القيام بأمره حتى أمكنته فرصة في الدولة بخروج السلطان إلى بعض منتزهاته برياضه فصعدسور الحمراء ليلة سبع وعشرين لرمضان من سنة ستين في أوشاب جمعهم من الطغام لثورته وعمد إلى دار الحاجب رضوان فاقتحم عليه الدار وقتله بين حرمه وبناته وقربوا إلى إسماعيل فرسه وركب فأدخلوه القصر وأعلنوا بيعته وقرعوا طبولهم بسور الحمراء وفر السلطان من مكانه بمنتزهه فلحق بوادي آش وغدا الخاصة والعامة على إسماعيل فبايعوه واستبد عليه هذا الرئيس بن عمه فخلعه لأشهر من بيعته واستقل بسلطان الأندلس ولما لحق السلطان أبو عبد الله محمد بوادي آش بعد مقتل حاجبه رضوان واتصل الخبر بالمولى السلطان أبي سالم امتعض لمهلك رضوان وخلع السلطان رعيا لما سلف له في جوارهم وأزعج لحينه أبا القاسم الشريف

من أهل مجلسه لاستقدامه فوصل إلى الأندلس وعقد مع أهل الدولة على إجازة المخلوع من وادي آش إلى المغرب وأطلق من اعتقالهم الوزير الكاتب أبا عبد الله ابن الخطيب كانوا اعتقلوه لأول أمرهم لما كان رديفا للحاجب رضوان وركنا لدولة المخلوع فأوصى المولى أبو سالم إليهم بإطلاقه فأطلقوه ولحق مع الرسول أبي القاسم الشريف بسلطانه المخلوع بوادي آش للإجازة إلى المغرب وأجاز لذي القعدة من سنته وقدم على السلطان بفاس وأجل قدومه وركب للقائه ودخل به إلى مجلس ملكه وقد احتفل ترتيبه وغص بالمشيخة والعلية ووقف وزيره ابن الخطيب فأنشد السلطان قصيدته الرائية يستصرخه لسلطانه ويستحثه لمظاهرته على أمره واستعطف واسترحم بما أبكى الناس شفقة له ورحمة ثم سرد ابن خلدون القصيدة وقد تقدمت
ثم قال بعد ما صورته ثم انفض المجلس وانصرف ابن الأحمر إلى نزله وقد فرشت له القصور وقربت له الجياد بالمراكب الذهبية وبعث إليه بالكسا الفاخرة ورتبت الجرايات له ولمواليه من المعلوجي وبطانته من الصنائع وحفظ عليه رسم سلطانه في الراكب والراجل ولم يفقد من ألقاب ملكه إلا الآلة أدبا مع السلطان واستقر في جملته إلى أن كان من لحاقه بالأندلس وارتجاع ملكه سنة ثلاث وستين ما نحن نذكره انتهى المقصود جلبة من كلام ابن خلدون في هذه الواقعة وفيه بعض مخالفة لكلام لسان الدين السابق في اللمحة البدرية إذ قال فيها إن الثورة عليهم كانت ليلة ثمان وعشرين من رمضان وابن خلدون جعلها ليلة سبع وعشرين منه والخطب سهل وقال في اللمحة إن انصرف السلطان من وادي آش كان ثاني يوم النحر وقال ابن خلدون في ذي القعدة ولعله غلط من الكاتب حيث جعل مكان الحجة القعدة
ورائيه ابن الخطيب التي ذكرها هي من حر كلامه وغرر شعره على

أنه كله غرر إذ جمع فيها المطلوب في ذلك الوقت بأبدع لفظ وأحسن عبارة في ذلك المحفل العظيم ولم نزل نسمع في المذاكرات بالمغرب أنه لما انتهى فيها إلى قوله فقد أنجح المسعى وقد ربح التجر قال له بعض من حضر ولعله أراد الغض منه أحسنت يا وزير فيما قلت وفي وصف الحال والسلطان غير أنه بقي عليك شيء وهو ذكر قرابة السلطان موالينا بني مرين وهم من هم ولا ينبغي السكوت عنهم فارتجل ابن الخطيب حينئذ قوله ومن دون ما تبغيه إلى آخره حتى تخلص لمدح بني مرين أقارب السلطان بما لا مرمى وراءه ثم قال بعد ذلك معتذرا أمولاي غاضت فكرتي إلى آخره وهذا إن صح أبلغ مما وقع لأبي تمام في سينيته حيث قال لا تنكروا ضربي له البيتين لأن أبا تمام ارتجل بيتين فقط ولسان الدين ارتجل تسعة عشر بيتا مع ما هو عليه من الخروج عن الوطن وذهاب الجاه والمال فأين الحال من الحال
وقد كرر ابن خلدون رحمه الله تعالى في تاريخه قضية اعتقال لسان الدين وخلع سلطانه في موضع آخر ولنذكره وإن سبق بعضه لاشتماله على منشإ الوزير لسان الدين وجملة من أحواله إلى قريب من مهلكه فنقول قال رحمه الله تعالى بعد ذكره عبد الله والد لسان الدين وأنه انتقل من لوشة إلى غرناطة واستخدم لملوك بني الأحمر واستعمل على مخازن الطعام ما محصله ونشأ ابنه محمد هذا يعني لسان الدين ابن الخطيب بغرناطة وقرأ وتأدب على مشيختها واختص بصحبة الحكيم المشهور يحيى بن هذيل وأخذ عنه العلوم الفلسفية وبرز في الطب وانتحل الأدب وأخذ عن أشياخه وامتلأ من حول اللسان نظمه ونثره مع انتقاء الجيد منه ونبغ في الشعر والترسيل بحيث لا يجاري فيهما

وامتدح السلطان أبا الحجاج من ملوك بني الأحمر لعصره وملأ الدنيا بمدائحه وانتشرت في الآفاق فرقاه السلطان إلى خدمته وأثبته في ديوان الكتاب ببابه مرؤوسا بأبي الحسن ابن الجياب شيخ العدوتين في النظم والنثر وسائر العلوم الأدبية وكاتب السلطان بغرناطة من لدن أيام محمد المخلوع من سلفه عندما قتل وزيره محمد بن الحكيم المستبد عليه فاستبد ابن الخطيب برياسة الكتاب ببابه مثناه بالوزارة ولقبه بها فاستقل بذلك وصدرت عنه غرائب من الترسيل في مكاتبات جيرانهم من ملوك العدوة ثم داخله السلطان في تولية العمال على يده بالمشارطت فجمع له بها أموالا وبلغ به في المخالصة إلى حيث لم يبلغ بأحد ممن قبله وسفر عنه إلى السلطان أبي عنان ملك بني مرين بالعدوة معزيا بأبيه السلطان أبي الحسن فجلى في أغراض سفارته ثم هلك السلطان أبو الحجاج سنة خمس وخمسين وسبعمائة عدا عليه بعض الزعانف في سجوده للصلاةوطعنه فأشواه وفاظ لوقته وتعاورت سيوف الموالي المعلوجي هذا القاتل فمزقوه أشلاء وبويع ابنه محمد لوقته وقام بأمره مولاهم رضوان الراسخ القدم في قيادة عساكرهم وكفالة الأصاغر من ملوكهم واستبد بالدولة وأفرد ابن الخطيب بوزارته كما كان لأبيه وجعل ابن الخطيب رديفا لرضوان في أمره ومشاركا في استبداده معه فجرت الدولة على أحسن حال وأقوم طريقة ثم بعثوا الوزير ابن الخطيب سفيرا إلى السلطان أبي عنان منه على عدوهم الطاغية على عادتهم مع سلفه فلما قدم على السلطان بين يديه تقدم الوفد الذين معه من وزراء الأندلس وفقهائها واستأذنه في إنشاد شعر قدمه بين يدي نجواه فأذن له وأنشد وهو قائم
( خليفة الله ساعد القدر ... علاك ما لاح في الدجى قمر )

( ودافعت عنك كف قدرته ... ما ليس يسطيع دفعه البشر )
( وجهك في النائبات بدر دجى ... لنا وفي المحل كفك المطر )
( والناس طرا بأرض أندلس ... لولاك ما أوطنوا ولا عمروا )
( وجملة الأمر أنه وطن ... في غير علياك ما له وطر )
( ومن به مذ وصلت حبلهم ... ما جحدوا نعمة ولا كفروا )
( وقد أهمتهم بأنفسهم ... فوجهوني إليك وانتظروا )
فاهتز السلطان لهذه الأبيات وأذن له في الجلوس وقال له قبل أن يجلس ما ترجع إليهم إلا بجميع طلباتهم ثم أثقل كاهلهم بالإحسان وردهم بجميع ما طلبوه وقال شيخنا القاضي أبو القاسم الشريف وكان معه في ذلك الوفد لم نسمع بسفير قضى سفارته قبل أن يسلم على السلطان إلا هذا ومكثت دولتهم هذه بالأندلس خمس سنين ثم ثار بهم محمد الرئيس ابن عم السلطان شركه في جده الرئيس أبي سعيد وتحين خروج السلطان إلى منتزهه خارج الحمراء وتسور دار الملك المعروفة بالحمراء وكبس رضوان في بيته فقتله ونصب للملك إسماعيل ابن السلطان أبي الحجاج بما كان صهره على شقيقته وكان معتقلا بالحمراء فأخرجه وبايع له وقام بأمره مستبدا عليه وأحس السلطان محمد بقرع الطبول وهو بالبستان فركب ناجيا إلى وادي آش وضبطها وبعث بالخبر إلى السلطان أبي سالم إثر ما استولى على ملك آبائه بالمغرب وقد كان مثواه أيام أخيه أبي عنان عندهم بالأندلس واعتقل الرئيس القائم بالدولة هذا الوزير ابن الخطيب وضيق عليه في محبسه وكانت بينه وبين الخطيب ابن مرزوق مودة استحكمت أيام مقامه بالأندلس وكان غالبا على هوى السلطان أبي سالم فزين له استدعاء هذا السلطان المخلوع من وادي آش يعده زبونا على أهل الأندلس ويكف به عادية القرابة المرشحين هنالك متى طمحوا إلى ملك المغرب فقبل ذلك منه وخاطب أهل الأندلس في تسهيل طريقه من وادي

آش إليه وبعث من أهل مجلسه الشريف أبا القاسم التلمساني وحمله مع ذلك الشفاعة في ابن الخطيب وحل معتقله فأطلق وصحب الشريف أبا القاسم إلى وادي آش وسار في ركاب سلطانه وقدموا على السلطان أبي سالم فاهتز لقدوم ابن الأحمر وركب في الموكب لتلقيه وأجلسه إزاء كرسيه وأنشد ابن الخطيب قصيدته يستصرخ السلطان لنصره فوعده وكان يوما مشهودا ثم أكرم مثواه وأرغد نزله ووفر أرزاق القادمين مع ركابه وأرغد عيش ابن الخطيب في الجراية والإقطاع ثم استيأس واستأذن السلطان في التجوال بجهات مراكش والوقوف على أعمال الملك بها فأذن له وكتب إلى العمال بإتحافه فتبادروا في ذلك وحصل منه على حظ وعندما مر بسلا إثر قفوله من سفره دخل مقبرة الملوك بشالة ووقف على قبر السلطان أبي الحسن وأنشد قصيدة روي الراء يرثيه ويستجير به في استرجاع ضياعه بغرناطة مطلعها
( إن بان منزله وشطت داره ... قامت مقام عيانه أخباره )
( قسم زمانك عبرة أو عبرة ... هذي ثراه وهذه آثاره )
فكتب السلطان أبو سالم في ذلك إلى أهل الأندلس بالشفاعة فشفعوه واستقر هو بسلا منتبذا عن سلطانه طول مقامه بالعدوة ثم عاد السلطان محمد المخلوع إلى مكة بالأندلس سنة ثلاث وستين وسبعمائة وبعث عن مخلفه بفاس من الأهل والولد والقائم بالدولة يومئذ الوزير عمر بن عبد الله بن علي فاستقدم ابن الخطيب من سلا وبعثهم لنظره فسر السلطان لقدومه ورده إلى منزلته كما كان مع رضوان كافله وكان عثمان بن يحيى بن عمر شيخ الغزاة وابن أشياخهم قد لحق بالطاغية ملك النصارى في ركاب أبيه عندما أحسن بالشر

من الرئيس صاحب غرناطة وأجاز يحيى من هنالك إلى العدوة وأقام عثمان بدار الحرب فصحب السلطان في مثوى اغترابه هنالك وتقلب في مذاهب خدمته وانحرفوا عن الطاغية عندما يئسوا من الفتح على يده فتحولوا عنه إلى ثغور بلادهم وخاطبوا الوزير عمر بن عبد الله في أن يمكنهم من بعض الثغور الغريبة التي لطاعتهم بالأندلس يرتقبون منها الفتح وخاطبني السلطان المخلوع في ذلك وكانت بيني وبين عمر بن عبد الله ذمة مرعية وخاصة متأكدة فوفيت للسلطان بذلك من عمر بن عبد الله وحملته على أن يرد عليه مدينة رندة إذ هي من تراث سلفه فقبل إشارتي في ذلك وتسوغها السلطان المخلوع ونزل بها وعثمان بن يحيى في جملته وهو المقدم في بطانته ثم غزوا منها مالقة فكانت ركابا للفتح وملكها السلطان واستولى بعدها على دار ملكه بغرناطة وعثمان بن يحيى متقدم القدم في الدولة عريق في المخالصة وله على السلطان دالة واستبداد على هواه فلما وصل ابن الخطيب بأهل السلطان وولده وأعاده إلى مكانه في الدولة من علو يده وقبول إشارته أدركته الغيرة من عثمان ونكر على السلطان الاستكفاء به وأراه التخوف من هؤلاء الأعياص على ملكه فحذره السلطان وأخذ في التدبير عليه حتى نكبه وأباه وإخوته في رمضان سنة أربع وستين وسبعمائة وأودعهم المطبق ثم غربهم بعد ذلك وخلا لابن الخطيب الجو وغلب على هوى السلطان ودفع إليه تدبير الدولة وخلط بنيه بندمائه وأهل خلوته وانفراد ابن الخطيب بالحل والعقد وانصرفت إليه الوجوه وعلقت به الآمال وغشي بابه الخاصة والكافة وغصت به بطانة السلطان وحاشيته فتفننوا في السعايات فيه وقد هم السلطان

عن قبولها ونمي الخبر بذلك إلى ابن الخطيب فشمر عن ساعده في التفويض واستخدم للسلطان عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن ملك العدوة يومئذ في القبض على ابن عمه عبد الرحمن بن أبي يفلوسن ابن السلطان أبي علي ابن السلطان أبي سعيد ابن السلطان يعقوب بن عبدالحق كانوا قد نصبوه شيخا على الغزاة بالأندلس لما أجاز من العدوة بعدما جاس خلالها لطلب الملك وأضرم بها نار الفتنة في كل ناحية وأحسن دفاعه الوزير عمر بن عبد الله القائم حينئذ بدولة بني مرين فاضطر إلى الإجازة إلى الأندلس فأجاز هو ووزيره مسعود ابن ماساي ونزلوا على السلطان المخلوع أعوام سبعة وستين وسبعمائة فأكرم نزلهم وتوفي علي بن بدر الدين شيخ الغزاة فقدم عبد الرحمن مكانه وكان السلطان عبد العزيز قد استبد بملكه بعد مقتل الوزير عمر بن عبد الله فغص بما فعله السلطان المخلوع من ذلك وتوقع انتقاض أمره منهم ووقف على مخاطبات من عبد الرحمن يسر بها في بني مرين فجزع لذلك وداخله ابن الخطيب في اعتقال ابن أبي يفلوسن وابن ماساي وإراحة نفسه من شغبهم على أن يكون له المكان من دولته متى نزع إليه فأجابه إلى ذلك وكتب له العهد بخطة على يد سفيره إلى الأندلس وكاتبه أبي يحيى ابن أبي مدين وأغرى ابن الخطيب سلطانه بالقبض على ابن أبي يفلوسن وابن ماساي فتقبض عليهما واعتقلهما وفي خلال ذلك استحكمت نفرة ابن الخطيب لما بلغه عن البطانة من القدح فيه والسعاية وربما تخيل أن السلطان مال إلى قبولها وأنهم قد أحفظوه عليه فأجمع التحول عن الأندلس إلى المغرب واستأذن السلطان في تفقد الثغور وسار إليها في لمة من فرسانه وكان معه ابنه علي الذي كان خالصة للسلطان وذهب لطيته فلما حاذى جبل الفتح فرضة المجاز إلى العدوة مال إليه وسرح إذنه بين يديه فخرج قائد الجبل لتلقيه وقد كان السلطان عبد العزيز

اوعز إليه إليه بذلك وجهز له الأسطول من حينه فأجاز إلى سبته وتلقاه ولاتها بأنواع التكرمة وامتثال المراسم ثم سار لقصد السلطان فقدم عليه سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة بمقامه من تلمسان فاهتزت له الدولة وأركب السلطان خاصته لتلقيه وأحله من مجلسه بمحل الأمن والغبطة ومن دولته بمكان التنويه والعزة وأخرج لوقته كاتبه أبا يحيى ابن أبي مدين سفيرا إلى صاحب الأندلس في طلب أهله وولده فجاء بهم على أكمل حالات الأمن والتكرمة ثم أكثر المنافسون له في شأنه وأغروا سلطانه بتتبع عثراته وإبداء ما كان كامنا في نفسه من سقطاته وإحصاء معايبه وشاع على ألسنة أعدائه كلمات منسوبة إلى الزندقة أحصوها عليه ونسبوها ورفعت إلى قاضي الحضرة أبي الحسن ابن الحسن فاسترعاها وسجل عليه بالزندقة وراجع صاحب الأندلس رأيه فيه وبعث القاضي ابن الحسن إلى السلطان عبد العزيز في الإنتقام منه بتلك السجلات وإمضاء حكم الله فيه فصم عن ذلك وأنف لذمته أن تخفر ولجواره أن يرد وقال لهم هلا انتقمتم منه وهو عندكم وأنتم عالمون بما كان عليه وأما أنا فلا يخلص إليه بذلك أحد ما كان في جواري ثم وفر الجراية والاقطاع له ولبنيه ولمن جاء من أهل الأندلس في جملته فلما هلك السلطان عبد العزيز سنة أربع وسبعين وسبعمائة ورجع بنو مرين إلى المغرب وتركوا تلمسان سار هو في ركاب الوزير أبي بكر ابن غازي القائم بالدولة فنزل بفاس واستكثر من شراء الضياع وتأنق في بناء المساكن واغتراس الجنان وحفظ عليه القائم بالدولة الرسوم التي رسمها له السلطان المتوفى واتصلت حاله على ذلك إلى أن كان ما نذكره انتهى

رواية ابن خلدون عن نهاية لسان الدين
وقال ابن خلدون في تاريخه ما صورته كان محمد بن الأحمر المخلوع قد رجع من رندة إلى ملكه بغرناطة في جمادى من سنة ثلاث وستين وقتل له الطاغية عدوة الرئيس المنتزي على ملكهم حين هرب من غرناطة إليه وفاء بعهد المخلوع واستوى على كرسيه واستقل بملكه ولحق به كاتبه وكاتب أبيه محمد بن الخطيب فاستخلصه وعقد له على وزارته وفوض إليه في القيام بملكه فاسولى عليه وملك هواه وكانت عينه ممتدة إلى المغرب وسكناه إلى أن نزلت به آفة في رياسته فكان لذلك يقدم السوابق والوسائل عند ملوكه وكان لأبناء السلطان أبي الحسن كلهم غيرة من ولد عمهم السلطان أبي علي ويخشونهم على أمرهم ولما لحق الأمير عبد الرحمن بن أبي يفلوسن بالأندلس اصطفاه ابن الخطيب واستخلصه لنجواه ورفع في الدولة رتبته وأعلى منزلته وحمل السلطان على أن عقد له على الغزاة المجاهدين من زناتة مكان بني عمه من الأعياص فكانت له آثار في الاضطلاع بها ولما استبد السلطان عبد العزيز بأمره واستقل بملكه وكان ابن الخطيب ساعيا في مرضاته عند سلطانه فدس إليه باعتقال عبد الرحمن بن أبي يفلوسن ووزيره مسعود بن ماساي وأدار ابن الخطيب في ذلك مكره وحمل السلطان عليهما إلى أن سطا بهما ابن الأحمر واعتقلهما سائر أيام السلطان عبد العزيز وتغير الجو بين ابن الأحمر ووزيره ابن الخطيب وأظلم وتنكر له فنزع عنه إلى عبد العزيز سلطان المغرب سنة ثنتين وسبعين وسبعمائة لما قدم من الوسائل ومهد من السوابق فقبله السلطان وأحله من مجلسه محل الإصطفاء والقرب وخاطب ابن الأحمر في أهله وولده فبعثهم إليه واستقر في جملة السلطان ثم تأكدت العداوة بينه

وبين ابن الأحمر فرغب السلطان عبد العزيز في ملك الأندلس وحمله عليه وتواعدوا لذلك عند رجوعه من تلمسان إلى المغرب ونمى ذلك إلى ابن الأحمر فبعث إلى السلطان عبد العزيز بهدية لم يسمع بمثلها انتقى فيها من متاع الأندلس وماعونها وبغالها الفارهة ومعلوجي السبي وجواريه وأوفد بها رسله يطلب إسلام وزيره ابن الخطيب إليه فأبى السلطان من ذلك ونكره ولما هلك السلطان واستبد الوزير ابن غازي بالأمر تحيز إليه ابن الخطيب وداخله وخاطبه ابن الأحمر بمثل ما خاطب به السلطان عبد العزيز فلج واستنكف عن ذلك وأقبح الرد وانصرف رسوله إليه وقد رهب سطوته فأطلق ابن الأحمر لحينه عبد الرحمن بن أبي يفلوسن وأركبه الأسطول وقذف به إلى ساحل بطوية ومعه الوزير مسعود بن ماساي ونهض يعني ابن الأحمر إلى جبل الفتح فنازله بعساكره ونزل عبد الرحمن ببطوية
ثم ذكر ابن خلدون كلاما كثيرا تركته لطوله وملخصه أن الوزير أبا بكر ابن غازي الذي كان تحيز إليه ابن الخطيب ولى ابن عمه محمد بن عثمان مدينة سبتة خوفا عليها من ابن الأحمر ونهض هو أعني الوزير إلى منازلة عبد الرحمن بن أبي يفلوسن ببطوية إذ كانوا قد بايعوه فامتنع عليه وقاتله أياما ثم رجع إلى تازا ثم إلى فاس واستولى عبد الرحمن على تازا وبينما الوزير أبو بكر بفاس يدبر الرأي إذ وصله الخبر بأن ابن عمه محمد بن عثمان بايع السلطان أحمد بن أبي سالم وهو المعروف بذي الدولتين وهذه هي دولته الأولى وذلك أن ابن عم الوزير وهو محمد بن عثمان لما تولى سبتة كان ابن الأحمر قد طاول حصار جبل الفتح وأخذ بمخنقة وتكررت المراسلة بينه وبين محمد بن عثمان والعتاب وفاستعتب له وقبح ما جاء به ابن عمه الوزير أبو بكر ابن غازي من الاستغلاظ له في شأن ابن الخطيب وغيره فوجد ابن

الأحمر في ذلك السبيل إلى غرضه وداخله في البيعة لابن السلطان أبي سالم من الأبناء الذين كانوا بطنجة تحت الحوطة والرقبة وأن يقيمه للمسلمين سلطانا ولا يتركهم فوضى وهملا تحت ولاية الصبي الذي لم يبلغ ولا تصح ولايته شرعا وهو السعيد بن أبي فارس الذي بايعه الوزير أبو بكر ابن غازي بتلمسان حين مات أبوه واستبد عليه واختص ابن الأحمر أحمد بن أبي سالم من بين أولئك الأبناء لما سبق بينه وبين أبيه أبي سالم من الموات وكان ابن الأحمر اشترط على محمد بن عثمان وحزبه شروطا منها أن ينزلوا له عن جبل الفتح الذي هو محاصر له وأن يبعثوا إليه جميع أبناء الملوك من بني مرين ليكونوا تحت حوطته وأن يبعثوا إليه بالوزير ابن الخطيب متى قدروا عليه فانعقد أمرهم على ذلك وتقبل محمد بن عثمان شروطه وركب من سبتة إلى طنجة واستدعى أبا العباس أحمد من مكان اعتقاله فبايعه وحمل الناس على طاعته واستقدم أهل سبتة للبيعة وكتابتها فقدموا وبايعوا وخاطب أهل جبل الفتح فبايعوا وأفرج ابن الأحمر عنهم وبعث إليه محمد بن عثمان عن سلطانه بالنزول له عن جبل الفتح وخاطب أهله بالرجوع إلى طاعته فارتحل ابن الأحمر من مالقة إليه ودخله ومحا دولة بني مرين مما وراء البحر وأهدى للسلطان أبي العباس وأمده بعسكر من غزاة الأندلس وحمل إليه مالا للإعانة على أمره ولما وصل الخبر بهذا كله إلى الوزير أبي بكر ابن غازي قامت عليه القيامة وكان ابن عمه محمد بن عثمان كتب إليه يموه بأن هذا عن أمره فتبرأ من ذلك ولاطف ابن عمه أن ينقض ذلك الأمر فاعتل له بانعقاد البيعة لأبي العباس وبينما الوزير أبو بكر ينتظر إجابة ابن عمه إلى ما رامه منه بلغه الخبر بأنه أشخص الأبناء المعتقلين كلهم للأندلس وحصلوا تحت كفالة ابن الأحمر فوجم وأعرض عن ابن عمه ونهض إلى تازا لمحاصرة عبد الرحمن بن أبي يفلوسن فاهتبل في غيبته ابن عمه محمد بن عثمان ملك المغرب ووصله مدد السلطان ابن الأحمر من رجال الأندلس الناشبة نحو ستمائة وعسكر آخر من

الغزاة وبعث ابن الأحمر رسله إلى الأمير عبد الرحمن باتصال اليد مع ابن عمه السلطان أحمد ومظاهرته واجتماعهما على ملك فاس وعقد بينهما الاتفاق على أن يختص عبد الرحمن بملك سلفه فتراضيا وزحف محمد بن عثمان وسلطانه إلى فاس وبلغ الخبر إلى الوزير أبي بكر بمكانه من تازا فانفض معسكره ورجع إلى فاس ونزل بكدية العرائس وانتهى السلطان أبو العباس أحمد إلى زرهون فصمد إليه الوزيربعساكره فاختل مصافه ورجع على عقبه مفلولا وانتهب عسكره ودخل البلد الجديد وجأجأ بالعرب أولاد حسين فعسكروا بالزيتون ظاهر فاس فنهض إليهم الأمير عبد الرحمن من تازا بمن كان معه من العرب الأجلاف وشردهم إلى الصحراء وشارف السلطان أبو العباس أحمد بجموعه من العرب وزناتة إلى ولي دولتهم ونزمار بن عريف بمكانه من قصره الذي اختطه بملوية وأطلعوه على كامن أسرارهم فأشار عليهم بالإجتماع والإتفاق فاجتمعوا بوادي النجا وتحالفوا ثم ارتحلوا إلى كدية العرائس في ذي القعدة من سنة خمس وسبعين وبرز إليهم الوزير بعساكره فانهزمت جموعه وأحيط به وخلص إلى البلد الجديد بعد غص الريق واضطرب معسكر السلطان أبي العباس بكدية العرائس ونزل الأمير عبد الرحمن بإزائه وضربوا على البلد الجديد سياجا بالبناء للحصار وأنزلوا بها أنواع القتال والإرهاب ووصلهم مدد السلطان ابن الأحمر فأحكموا الحصار وتحكموا في ضياع الوزير ابن الخطيب بفاس فهدموها وعاثوا فيها ولما كان فاتح سنة ست وسبعين داخل محمد بن عثمان ابن عمه الوزير أبا بكر في النزول عن البلد الجديد والبيعة للسلطان لكون الحصار قد اشتد به ويئس وأعجزه المال فأجاب واشترط عليهم الأمير عبد الرحمن التجافي له عن أعمال مراكش بدل سجلماسة فعقدوا له على كره وطووا على المكر وخرج الوزير أبو بكر إلى السلطان وبايعه واقتضى عهده بالأمان وتخلية سبيله من الوزارة ودخل السلطان أبو العباس إلى البلد

الجديد سابع المحرم وارتحل الأمير عبد الرحمن يومئذ إلى مراكش واستولى عليها انتهى
رواية ابن الأحمر
وقال حفيد السلطان ابن الأحمر في تاريخه ما صورته لما لحق الرئيس أبو عبد الله ابن الخطيب بالمغرب عام اثنين وسبعين وسبعمائة وكان من وفاة مجيره والمحامي عنه السلطان عبد العزيز ما ألمعنا بذكره شد الوزير أبو بكر ابن غازي يده على ابن الخطيب بانيا على أشد الأشياء ألا يسلمه لمولانا جدنا مع توقع البغضاء واقتدى هذا الوزير بالسلطان عبد العزيز في إعراضه عن العقود الموجهة من الأندلس بالمقذع من موبقات ابن الخطيب ولج في الغلواء وسجل موجبات الوفاء والبواعث من مولانا جدنا تتزايد والأساطيل تتجهز والآراء بالقصد الخطير ينتقي منها الصواب ويتخير حتى خيم مولانا جدنا بظاهر جبل الفتح وكان إذ ذاك راجعا إلى إيالة المغرب فأناخ عليه ككل الجيش وأهمهم ثقل الوطأة ولم يبال مولانا جدنا بما أرسلت آناء الليل وأطراف النهار من شآبيب الأنفاط والجوار من باب الشطائين قريب والخالصة من الثقات مستريب والنجاة من تلك الأهوال من الأمر الغريب ولم يبق بغرناطة من له خلوص ولا من ترامى به همة إلا وأعمل السير الحثيث ولحق بمولانا جدنا لحاق المحب بالحبيب حتى اهل العلم والرجاحة والحلم ولا كالسيد الإمام الأستاذ أبي سعيد قطب الجملة وعميد الملة وهو الذي بلغنا نظمه في هذه الوجهة وعندما ألقى عصا التسيار في الجهة القريبة من أولي العداوة ومن ذلك قصيدته المشهورة التي أولها
( يا جبل الفتح استلمت نفوسنا ... فلا قلب إلا نحو مغناك قد سبق )
( فأرسلت إذ جئناك فينا صواعقا ... تخال بها جو السماء قد انطبق )

وقوله في إجابة السفهاء من الهاتفين بالسور موطئا معجبا رحمة الله تعالى عليه
( وذموا وما يعنون إلا مذمما ... وأنت بحمد الله تدعى محمدا )
وقول حامل اللواء الآتي ذكره في تضاعيف الأسماء
( أما مرامك في عراض البيد ... فمبلغ ما شئت من مقصود )
( والهجر إن ألقته ألسنة العدا ... يأباه فضل مقامك المحمود )
( سحقا لهم سفهاء كل قبيلة ... شذت مقالتهم عن المعهود )
( قد ضلت الأحلام منهم رشدها ... هذا ومنك الحلم غير بعيد )
( مع عزمة لو شئت هدت كل ما ... قد أحكموا من معلم ومشيد )
إلى أن قال الخبر عن اجتماع الأميرين أبي العباس وأبي زيد متصاحبين ومترافقين على استخلاص مدينة فاس من يد الوزير أبي بكر ابن غازي بن الكاس وكتب الرئيس أبو عبد الله ابن زمرك في مخلص هذه الكائنة حث الوزير محمد ابن عثمان السير في وسط عام خمسة وسبعين وسبعمائة وتلاقى بسلطانه أبي العباس مع الأمير أبي زيد عبد الرحمن واستقلا بالطائلة وحصلا من التضييق على السعيد الطفل الصغير وعلى وزيره أبي بكر ابن غازي في متسع الخطة ورحيب ذرع الخلافة وتصالحا عن رضى وتسليم منهما ومن أشياعهما على تسليم السعيد إلى اللحاق بمن كان في طنجة من الأمراء واتصل السلطان عبد الرحمن بمراكش فكان ملكها وجابي أموالها وتملك السلطان أبو العباس مدينة فاس وما إلى البلاد الساحلة وسواها مما يحتوي عليه ملك المدينة البيضاء برا وبحرا
وعبر كاتب الدولة عن المدينة وعن الطفل متملكها بقوله وإلى هذا فقد ارتفع الالتباس واطرد القياس وغير خفي عن ذي عقل سليم وذي تفويض للحق وتسليم أن دار الملك المريني كمامة بلا زهر ورياض بلا نهر إن لم يقتعد كرسيها من يزين جيدها ويجيد حليها وآن أوان البشرى لمن يمتعض

للدين والآن قلادة التقوى منوطة بقلم اعلام الملوك المهتدين ثم ذكر ما يطول من فصول وربما اشتملت على فضول وملخصه مثل ما ذكر ابن خلدون
تتمة الخبر عن نهاية لسان الدين نقلا عن ابن خلدون
ثم ساق قاضي القضاة ابن خلدون بعد ما تقدم جلبه من تاريخه الكلام على محنة لسان الدين ابن الخطيب ووفاته مقتولا رحمه الله تعالى فقال ما صورته ولما استولى السلطان أبو العباس على البلد الجديد دار ملكه فاتح ست وسبعين استقل بسلطانه والوزير محمد بن عثمان مستبد عليه وسليمان بن داود بن أعراب كبير بني عسكر رديفة وقد كان الشرط وقع بينه وبين السلطان ابن الأحمر عندما بويع بطنجة على نكبة الوزير ابن الخطيب وإسلامه إليه لما نمي إليه عنه أنه كان يغري السلطان عبد العزير بملك الأندلس فلما زحف السلطان أبو العباس من طنجة ولقيه أبو بكر ابن غازي بساحة البلد الجديد فهزمه السلطان ولازمه بالحصار أوى معه ابن الخطيب إلى البلد الجديد خوفا على نفسه فلما استولى السلطان على البلد أقام أياما ثم أغراه سليمان بن داود بالقبض على ابن الخطيب فقبضوا عليه وأودعوه السجن وطيروا بالخبر إلى السلطان ابن الأحمر وكان سليمان بن داود شديد العداوة لابن الخطيب لما كان سليمان قد بايعه السلطان ابن الأحمر على مشيخة الغزاة بالأندلس متى أعاده الله تعالى إلى ملكه فلما استقر إليه سلطانه أجاز إليه سليمان سفيرا عن الوزير عمر بن عبد الله ومقتضيا عهده من السلطان فصده الوزير ابن الخطيب عن ذلك محتجا بأن تلك الرياسة إنما هي لأعياص الملك من بني عبد الحق لأنهم يعسوب زناتة فرجع سليمان وأثار حقد ذلك لابن الخطيب ثم جاوز الأندلس لمحل إمارته من جبل الفتح فكانت تقع بينه وبين ابن الخطيب مكاتبات

ينفث كل واحد منهما لصاحبه بما يحفظه مما كمن في صدورهما وحين بلغ خبر القبض على ابن الخطيب إلى السلطان ابن الأحمر بعث كاتبه ووزيره بعد ابن الخطيب وهو أبو عبد الله ابن زمرك فقدم على السلطان أبي العباس وأحضر ابن الخطيب بالمشور في مجلسه الخاصة وعرض عليه بعض كلمات وقعت له في كتابه في المحبة فعظم النكير فيها فوبخ ونكل وامتحن بالعذاب بمشهد ذلك الملأ ثم تل إلى محبسه واشتوروا في قتله بمقتضى تلك المقالات المسجلة عليه وأفتى بعض الفقهاء فيه ودس سليمان بن داود لبعض الأوغاد من حاشيته بقتله فطرقوا السجن ليلا ومعهم زعانفة جاؤوا في لفيف الخدم مع سفراء السلطان ابن الأحمر وقتلوه خنقا قي محبسه وأخرج شلوه من الغد فدفن بمقبرة باب المحروق ثم أصبح من الغد على سافة قبره طريحا وقد جمعت له أعواد وأضرمت عليه نار فاحترق شعره واسود بشره فأعيد إلى حفرته وكان في ذلك انتهاء محنته وعجب الناس من هذه الشنعاء التي جاء بها سليمان واعتدوها من هناته وعظم النكير فيها عليه وعلى قومه وأهل دولته والله الفعال لما يريد
وكان عفا الله تعالى عنه أيام امتحانه بالسجن يتوقع مصيبة الموت فتجهش هواتفه بالشعر يبكي نفسه ومما قال في ذلك رحمه الله تعالى
( بعدنا وإن جاورتنا البيوت ... وجئنا بوعظ ونحن صموت )
( وأنفاسنا سكنت دفعة ... كجهر الصلاة تلاه القنوت )
( وكنا عظاما فصرنا عظاما ... وكنا نقوت فها نحن قوت )
( وكنا شموس سماء العلا ... غربن فناحت علينا السموت )
( فكم جدلت ذا الحسام الظبي ... وذو البخت كم جدلته البخوت )

( وكم سيق للقبر في خرقة ... فتي ملئت من كساه التخوت )
( فقل للعدا ذهب ابن الخطيب ... وفات ومن ذا الذي لا يفوت )
( ومن كان يفرح منهم له ... فقل يفرح اليوم من لا يموت )
انتهى كلام ابن خلدون في ديوان العبر
عن ابن حجر
وقال الحافظ ابن حجر في أنباء الغمر بعد أن ذكر ما قدمناه على سبيل الاختصار ما نصه واشتهر أنه يعني لسان الدين نظم حين قدم للقتل الأبيات المشهورة التي يقول فيها
( وقل للعداة مضى ابن الخطيب ... وفات فسبحان من لا يفوت )
( فمن كان يشمت منكم به ... فقل يشمت اليوم من لا يموت )
والصحيح في ذلك ما ذكره صديقه شيخنا ولي الدين ابن خلدون أنه نظم الأبيات المذكورة وهو في السجن لما كان يستشعر من التشديد انتهى
ثم حكى ابن حجر عن بعض الأعيان أن ابن الأحمر وجهه إلى ملك الإفرنج في رسالة فلما أراد الرجوع أخرج له رسالة لابن الخطيب تشتمل على نظم ونثر فلما قرأها قال له مثل هذا كان ينبغي أن لا يقتل ثم بكى حتى بل ثيابه انتهى كلام الحافظ وبعضه بالمعنى فانظر سددك الله تعالى العدو الكافر على هذا العلامة وقتل إخوانه في الإسلام له على حظ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم لا رب غيره
تخميس لأبيات لسان الدين
قلت ورأيت بحضرة فاس حاطها الله تعالى تخميسا لهذه الأبيات بديعا

منسوبا إلى بعض بني الصباغ وزاد في الأصل بعض أبيات على ما ذكره ابن خلدون من هذه القطعة والمزيد يشبه نفس لسان الدين ابن الخطيب فلعل ابن خلدون اختصر منها أو لم يقف على الزائد ولنثبت جملته تتميما للمقصود فنقول قال رحمه الله تعالى
( أيا جاهلا غره ما يفوت ... وألهاه حال قليل الثبوت )
( تأمل لمن بعد أنس يقوت ... بعدنا وإن جاورتنا البيوت )
( وجئنا بوعظ ونحن صموت ... )
( لقد نلت من دهرنا رفعة ... تقضت كبرق مضى سرعة )
( فهيهات نرجو لها رجعة ... وأصواتنا سكنت دفعة )
( كجهر الصلاة تلاه القنوت ... )
( بدا لي من العز وجه شباب ... يؤمل سيبي وبأسي يهاب )
( فسرعان مزق ذاك الإهاب ... ومدت وقد أنكرتنا الثياب )
( علينا نسائجها العنكبوت ... )
( فآها لعز تقضى مناما ... منحنا به الجاه قوما كراما )
( وكنا نسوس أمورا عظاما ... وكنا عظاما فصرنا عظاما )
( وكنا نقوت فها نحن قوت ... )

( وكنا لدى الملك حلي الطلى ... فآها عليه زمانا خلا )
( نعوض من جده بالبلى ... وكنا شموس سماء العلا )
( غربنا فناحت علينا السموت ... )
( تعودت بالرغم من صرف الليالي ... وحملت نفسي فوق احتمالي )
( وأيقنت أن سوف يأتي ارتحالي ... ومن كان منتظرا للزوال )
( فكيف يؤمل منه الثبوت ... )
( هو الموت يا ما له من نبا ... يجوز الحجاب إلى من أبى )
( ويألف أخذ سني الحبا ... فكم أسلمت ذا الحسام الظبي )
( وذا البخت كم جدلته البخوت ... )
( هو الموت أفصح عن عجمة ... وأيقظ بالوعظ من خفقة )
( وسلى عن الحزن ذا حرقة ... وكم سيق للقبر في خرقة )
( في ملئت من كساه التخوت ... )
( تقضى زماني بعيش خصيب ... وعندي لذنبي انكسار المنيب )
( وها الموت قد صبت منه نصيبي ... فقل للعدا ذهب ابن الخطيب )
( وفات ومن ذا الذي لا يفوت ... )
( مضى ابن الخطيب كمن قبله ... ومن بعده يقتفي سبله )
( وهذا الردى ناثر شمله ... فمن كان يفرح منهم له )
( فقل يفرح اليوم من لا يموت )

( هو الموت عم فما للعدا ... يسرون بي حين ذقت الردى )
( ومن فاته اليوم يأتي غدا ... سيبلى الجديد إذا ما المدى )
( تتابع آحاده والسبوت ... )
( أخي توخ طريق النجاة ... وقدم لنفسك قبل الممات )
( وشمر بجد لما هو آت ... ولا تغترر بسراب الحياة )
( فإنك عما قريب تموت ... )
وقد ذكرني قوله رحمه الله تعالى فمن كان يفرح منهم له إلى آخره قول بعض العلماء الشاميين
( يا ضاحكا بمن استقل غباره ... سيثور عن قدميك ذاك العثير )
( لا فارس بجنودها منعت حمى ... كسرى ولا للروم خلد قيصر )
( جدد مضت عاد عليه وجرهم ... وتلاه كهلان وعقب حمير )
( وسطا بغسان الملوك وكندة ... فلها دماء عنده لا تثأر )
( لعبت بهم فكأنهم لم يخلقوا ... ونسوا بها فكأنهم لم يذكروا )
فصل في الاعتبار لابن دحية
وما أحسن قول أبي الخطاب ابن دحية الحافظ بعد الكلام ما صورته وأخذت من طريق خوزستان إلى طريق حلوان وقاسيت من الغربة أصناف الألوان ومررت على مدائن كسرى أنوشروان وزرت بها قبر صاحب النبي صلى الله عليه و سلم الزاهد العابد المعمر سلمان وأعملت منها السير والإغذاذ إلى مدينة بغذاذ فنظرت إليها معالم وربوعا وأقمت بها مرة عاما ومرة أسبوعا وأسبوعا وانا أبدي في ندائهم وأعيد والترب قد علا على منازلهم والصعيد وأسأل عن الخلفاء الماضين وأنشد ولسان الحال يجاوبني وينشد

( يا سائل الدار عن أناس ... ليس لهم نحوها معاد )
( مرت كما مرت الليالي ... أين جديس وأين عاد )
بل أين أبو البشر آدم الذي خلقه بيده الكبير المتعال أين الأنبياء من ولده والأرسال أهل النبوة والرسالة والوحي من الله ذي الجلالة أين سيدهم محمد الذي فضله عليهم ذو العزة والجلال وجعله شفيعهم مع أمته والناس في شدائد الأهوال أين القرون الماضية والأجيال أين التبابعة والأقيال أين ملوك همدان أين أولو الأبلق الفرد أو غمدان أين أولو التيجان والأكاليل أين الصيد والبهاليل بل أين النمارذة وأكبرهم نمروذ إبراهيم الخليل أين الفراعنة ومن هو بالسحر عليم الذي منهم فرعون موسى الكليم أين ملك الهدنانية هدد بن بدد الكردي الذي لم يكن غدره بمفيد له ولا مجدي وقد أخبر الحق جل جلاله عنه أنه كان يأخذ كل سفينة غصبا وزعم المؤرخون أنه كان أيضا يملأ القلوب رعبا ويسوم أصحابه قتلا وصلبا مع الطمع في المال وعدم النظر في عقبى المآل أين الفرس وملوكها وعدلها وعدولها أين دارا بن دارا بن بهمان أين اسكندر بن فلبس اليوناني الذي غلبه وملك بلاده في ذلك الزمان وأطاعه جميع ملوك الأقاليم وقدر الله به امتحان الخلق ذلك تقدير العزيز العليم أين كسرى وقيصر غلبهما من الموت الأسد القسور بعد أن أخرجهما من بلادهما أمير المؤمنين أبو حفص عمر لما ظهرت الملة الحنيفية كما ظهرت الشمس وبدا القمر أين أولاد جفنة وملوك غسان أين مماديح زياد وحسان أين هرم بن سنان أين الملاعب بالسنان أين أولاد مضر بن نزار بن معد بن عدنان أين بنو عبد المدان أين أرباب العواصم أين قيس بن عاصم أين العرب العرباء الأمة الفاضلة والجماعة المناضلة أين أولو الباس والحفاظ وذوو الحمية والإحفاظ حيث الوفاء والعهد

والحباء والرفد إلى علو الهمم والوفاء بالذمم والعطاء الجزل والضيف والنزل وهبة الافال والبزل وإنها لا تدين عزا ولا تقاد ولا ترام أنفة ولا تفاد أين قريش المغرورون في الجاهلية بالحي اللقاح والشعب الرقاح أين الماضون من ملوك بني أمية ذوو الألسن الذلق والأوجه الطلق والحمية أين خلفاء بني العباس بن عبد المطلب الذين شرفهم بالأصالة وليس إليهم بالمنجلب ذوو الشرف الشامخ والفخر الباذخ والخلافة السنية الرضية والمملكة العامة المرضية بلغتنا والله وفاتهم ولم يبق ذكرهم وصفاتهم قبض ملك الموت أرواحهم قبضا ولم يترك حراكا ولا نبضا ومزق الدود لحومهم قددا ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا إلا ما كان من أجساد الأنبياء أفضل التسليم فإن الله تعالى حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء تكلمت على هذا الحديث وأثبت أنه من الصحيح لا السقيم وخرجت طرقه في كتابي العلم المشهور بعون العزيز الرحيم فما أبعد المرء عن رشده وما أقصاه كم وعظه الدهر وكم وصاه يخلط الحقيقة بالمحال والعاطل بالحال ولا توبة حتى يشيب الغراب ويألف الدم التراب فيا لهفي لبعد الدار وانقضاض الجدار وأنت هامة ليل أو نهار وقاعد من عمرك على شفا جرف هار تقرأ العلم وتدعيه ولا تفهمه ولا تعيه فهو عليك لا لك فأولى لك ثم أولى لك أما آن لليل الغي أن تنجلي أحلاكه ولنظم البغي أن تنتثر أسلاكه وأن يستفظع الجاني جناه ويأسف على ما اقترفه وجناه وأن يلبس عهاده بتا ويطلق الدنيا بتا ويفر منها فرار الأسد ويتيقن أنه لا بد من مفارقة الروح الجسد نبهنا الله تعالى من سنات غفلاتنا وحسن ما ساء من صنائعنا الذميمة وسلاتنا وجعل التقوى أحصن عددنا وأوثق آلاتنا اللهم إليك المآب وبيدك المتاب قد واقعنا الخطايا

وركبنا الاجرام رواحل ومطايا فتب علينا أجمعين وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين الطائعين وصلى الله على سيد ولد آدم محمد شفيعنا يوم القيامة وصاحب الحوض المورود والمقام المحمود والكرامة وعلى آله الطاهرين وأصحابه أهل الرضوان المنتخبين وسلام الله عليه وعليهم إلى يوم الدين انتهى وهو آخر كتابه النبراس في تاريخ بني العباس وذكرته بطوله لمناسبته
قلت وقد سلكت هذا المنحى نظما في خطبة هذا الكتاب كما مر وللسان الدين رحمه الله تعالى كلام قريب من هذا سيأتي في نثره إن شاء الله تعالى
وأقول إني قد تذكرت هنا قول القائل
( نطوي سبوتا وآحادا وننشرها ... ونحن في الطي بين السبت والأحد )
( فعد ما شئت من سبت ومن أحد ... لا بد أن يدخل المطوي في العدد )
وقول آخر
( ألم تر أن الدهر يوم وليلة ... يكران من سبت عليك إلى سبت )
( فقل لجديد العيش لا بد من بلى ... وقل لاجتماع الشمل لا بد من شت )
نبذة عن أعداء لسان الدين
واعلم أن لسان الدين لما كانت الأيام له مسالمة لم يقدر أحد أن يواجهه بما يدنس معاليه أو يطمس معالمه فلما قلبت الأيام له ظهر مجنها وعاملته بمنعها بعد منحها ومنها أكثر أعداؤه في شأنه الكلام ونسبوه إلى الزندقة والانحلال من ربقة الإسلام بتنقص النبي عليه أفضل الصلاة والسلام والقول بالحلول والإتحاد والإنخراط في سلك أهل الإلحاد وسلوك مذاهب الفلاسفة في الاعتقاد وغير ذلك مما أثاره الحقد والعداوة والانتقاد مقالات نسبوها

إليه خارجة عن السنن السوي وكلمات كدروا بها منهل علمه الروي ولا يدين بها ويفوه إلا الضال الغوي والظن أن مقامه رحمه الله تعالى من لبسها بري وجنابه سامحه الله تعالى عن لبسها عري وكان الذي تولى كبر محنته وقتله تلميذه أبو عبد الله ابن زمرك الذي لم يزل مضمرا لخلته فلقد وقفت على خط ابن لسان الدين على أنه تسبب في قتل لسان الدين ابيه وسيأتي الإلماع والإلمام بابن زمرك المذكور في تلامذة لسان الدين مع أنه أعني لسان الدين حلاه في الإحاطة أحسن الحلى وصدقه فيما انتحله من أوصاف العلا وقد سبق في كلام ولي الدين ابن خلدون أنه قدم على السلطان أبي العباس أحمد المريني في شأن الوزير ابن الخطيب وأخرج إلى مجلس الخاصة وامتحن والمجالس بالأعيان غاصة ولا حول ولا قوة إلى بالله
ومن أعدائه الذين باينوه بعد أن كانوا يسعون في مرضاته سعي العبيد القاضي أبو الحسن ابن الحسن النباهي فكم قبل يده ثم جاهره بعد انتقال الحال وجد في أمره مع ابن زمرك حتى قتل لسان الدين وانقضت دولته فسبحان من لا يتحول ملكه ولا يبيد
وقد سبق فيما جلبناه من كلام ابن خلدون أن القاضي ابن الحسن قدم على السلطان عبد العزيز في شأن لسان الدين والانتقام منه بسبب تلك السجلات وإمضاء حكم الله فيه بمقتضاها فأبى السلطان من ذلك وقال هلا فعلتم أنتم ذلك حين كان عندكم وامتنع لذمته أن يخفره فلما أراد الله بنفوذ الأمر وعدم نفع زيد وعمرو توفي السلطان عبد العزيز واختلت الأحوال واضطربت بالمغرب نيران الأهوال فقدم في شأنه الوزير الكاتب ابن زمرك خادمه الذي رباه وصنيعته فكان ما كان مما سبق به الإلمام

وقد ذكرنا في الباب الأول قول لسان الدين رحمه الله تعالى في قصيدته النونية
( تلون إخواني علي وقد جنت ... علي خطوب جمة ذات ألوان )
( وما كنت أدري قبل أن يتنكروا ... بأن خواني كان مجمع خواني )
( وكانت وقد حم القضاء صنائعي ... علي بما لا أرتضي شر أعوان )
ولقد صدق رحمه الله تعالى على أنه قال هذه القصيدة في النكبة الأولى التي انتقل فيها مع سلطانه إلى المغرب كما مر مفصلا وكأنه عبر عن هذه المحنة الأخيرة التي ذهبت فيها نفسه على يد صنائعه الكاتب ابن زمرك والقاضي ابن الحسن سامح الله الجميع
ويرحم الله أبا إسحاق التلمساني صاحب الرجز في الفرائض حيث يقول
( الغدر في الناس شيمة سلفت ... قد طال بين الورى تصرفها )
( ما كل من قد سرت له نعم ... منك يرى قدرها ويعرفها )
( بل ربما أعقب الجزاء بها ... مضرة عز عنك مصرفها )
( أما ترى الشمس كيف تعطف بالنور ... على البدر وهعو يكسفها )
وقال لسان الدين بعد ذكره أن ملك النصارى دون جانجه بن دون الفنش استنصر على أبيه بالسلطان المجاهد أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق المريني ولاذ به ورهن عنده تاجه ذخيرة النصارى ولقيه بصخرة عباد من أحواز رندة فسلم عليه ويقال إن أمير المسلمين لما فرغ من ذلك طلب بلسان زناتة الماء ليغسل يده به من قبلة الفنش أو مصافحته ما نصه والشيء بالشيء يذكر فأثبت حكاية اتفقت لي بسبب ذلك أستدعي بها الدعاء ممن يحسن عنده موقعها وهي أن اليهودي الحكيم ابن زرزار على عهد ملك النصارى حفيد هذا الفنش

المذكور وصل إلينا بغرناطة في بعض حوائجه ودخل إلي بدار سكناي مجاور القصر السلطاني بحمراء غرناطة وعندي القاضي اليوم بغرناطة وغيره من أهل الدولة وبيده كتاب من سلطان المغرب محمد بن أبي عبد الرحمن ابن السلطان الكبير المولى أبي الحسن وكان محمد هذا قد فر إلى صاحب قشتالة واستدعى من قبله إلى الملك فسهل له ذلك وشرط عليه ما شاء وربما وصله خطابه بما لم يقنعه في إطرائه فقال لي مولاي السلطان دن بطره يسلم عليك ويقول لك انظر مخاطبة هذا الشخص وكان بالأمس كلبا من كلاب بابه حتى ترى خسارة الكرامة فيه فأخذت الكتاب من يده وقرأته وقلت له أبلغه عني أن هذا الكلام ما جرك إليه إلا خلو بابك من الشيوخ الذين يعرفونك بالكلاب وبالأسود وبمن تغسل الأيدي منهم إذا قبلوها فتعلم من الكلب الذي تغسل اليد منه ومن لا وإن جد هذا الولد هو الذي قبل جدك يده واستدعى الماء لغسل يده منه بمحضر النصارى والمسلمين ونسبة الجد إلى الجد كنسبة الحفيد للحفيد وكونه لجأ إلى بلادك ليس بعار عليه وأنت معرض إلى اللجإ إليه فيكافئك بأضعاف ما عاملته به فقال أبو الحسن المستقضي يبكي ويقبل يدي ويصفني بولي الله وكذلك من حضرني وتوجه إلى المغرب رسولا فقص علي بني مرين خبر ما شاهده مني وسمعه وبالحضرة اليوم ممن تلقى منه ذلك كثير جعل الله تعالى ذلك خالصا لوجهه انتهى
وقد أثنى لسان الدين في الإحاطة على القاضي ابن الحسن المذكور كما سيأتي وقال في ترجمة السلطان ابن الأحمر ما نصه ثم قدم للقضاء الفقيه الحسيب أبا الحسن وهو عين الأعيان بمالقة الخصوص برسم التجلة والقيام بالعقد والحل فسدد وقارب وحمل الكل وأحسن مصاحبة الخطبة والخطة وأكرم المشيخة مع النزاهة ولم يقف في التأتي على غاية فاتفق على رجاحته ولم يقف في عند غاية انتهى وحين أظلم الجو بينه وبين لسان الدين ذكره في الكتيبة الكامنة بما يباين ما سبق ولقبه بالجعسوس

ولم يقنعه ذلك حتى ألف فيه خلع الرسن في وصف القاضي ابن الحسن
كتاب من النباهي إلى لسان الدين
وقد وقفت بفاس المحروسة على كتاب مطول كتبه ابن الحسن للسان الدين بعد تحوله عن الأندلس ونص ما تعلق به الغرض هنا
فشرعتم في الشراء وتشييد البناء وتركتم الاستعداد لهاذم اللذات هيهات هيهات تبنون ما لا تسكنون وتدخرون ما لا تأكلون وتؤملون ما لا تدركون ( أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة ) النساء 78 فأين المهرب مما هو كائن ونحن إنما نتقلب في قدرة الطالب شرقتم أو غربتم الأيام تتقاضى الدين وتنادي بالنفس الفرارة إلى أين إلى أين ونترك الكلام مع الناقد فيما ارتكبه من تزكية نفسه وعد ما جلبه من مناقبه ما عدا ما هدد به من حديد لسانه خشية اندراجه في نمط من قال فيه رسول الله ( إن من شر الناس من تركه الناس اتقاء فحشه ) ولا غيبة فيمن ألقى جلباب الحياء عن وجهه ونرحمه على ما أبداه أو أهداه من العيوب التي نسبها لأخيه واستراح على قوله بها فيه ونذكره على طريقة نصيحة الدين بالحديث الثابت في الصحيح عن رسول الله وهو قوله ( أتدرون من المفلس ) قالوا المفلس فينا من لا دراهم له ولا متاع فقال إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا فيعطى هذا حسناته وهذا من حسناته فإذا فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار ) ويعلم الله أن معنى هذا الحديث الثابت

عن النذير الصادق هو الذي حملني على نصحكم ومراجعتكم في كثير من الأمور منها الإشارة عليكم بإذهاب عين ما كتبتم به في التاريخ وأمثاله فإنكم نفعتم بما وقعتم فيه من الغيبة المحرمة أحياء وأمواتا لغير شيء حصل بيدكم وضررتم نفسكم بما رتبتم لهم من المطالبات بنص الكتاب والسنة قبلكم والرضى بهذه الصفقة الخاسرة أمر بعيد من الدين والعقل وقد قلت لكم غير مرة عن أطراسكم المسودة بما دعوتم إليه من البدعة والتلاعب بالشريعة إن حقها التخريق والتحريق وإن من أطراها لكم فقد خدع نفسه وخدعكم والله الشهيد بأني نصحتكم وما غششتكم وليس هذا القول وإن كان ثقيلا عليكم بمخالف كل المخالفة لما ذنبتم به من تقدم المواجهة بالملاطفة والمعاملة بالمكارمة فليست المداراة بقادحة في الدين بل هي محمودة في بعض الأحوال مستحسنة على ما بينه العلماء إذ هي مقاربة في الكلام أم مجاملة بأسباب الدنيا لصلاحها أو صلاح الدين وإنما المذموم المداهنة وهي بذل الدين لمجرد الدنيا والمصانعة به لتحصيلها ومن خالط للضرورة مثلكم وزايله بأخلاقه ونصحه مخاطبة ومكاتبة واستدل له بكتاب الله تعالى وسنة رسول الله على صحة مقالته فقد سلم والحمد لله من مداهنته وقام لله تعالى بما يجب عليه في حقكم من التحذير والإنكار مع الإشفاق والوجل
وأكثرتم في كتابكم من المن بما ذكرتم أنكم صنعتم وعلى تقدير الموافقة لكم ليتكم ما فعلتم فسلمنا من المعرة وسلمتم وجل القائل سبحانه ( قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم ) البقرة 263 وقلما شاركتم أنتم في شيء إلا بأغراض حاصلة في يدكم ولأغراض دنيوية خاصة بكم فالملام إذن في الحقيقة إنما هو متوجه إليكم وأما ما أظهرتم بمقتضى حركاتكم وكلامكم من التندم على فراق محلكم والتعلل بأخبار قطركم وأهلكم فتناقض منكم وإن كنتم فيه بغدركم

( أتبكي علي ليلى وأنت تركتها ... فكنت كآت غيه وهو طائع )
( وما كل ما منتك نفسك مخليا ... تلاقي ولا كل له أنت تابع )
( فلا تبكين في إثر شيء ندامة ... إذا نزعته من يديك النوازع )
وعلى أن تأسفكم لما وقعتم فيه من الغدر لسلطانكم والخروج لا لضرورة غالبة عن أوطانكم من الواجب بكل اعتبار عليكم سيما وقد مددتم إلى التمتع بغيرها عينيكم ولو لم يكن بهذه الجزيرة الفريدة من الفضيلة إلا ما خصت به من بركة الرباط ورحمة الجهاد لكفاها فخرا على ما يجاورها من سائر البلاد قال رسول الله رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه وقال عليه الصلاة و السلام الروحة يروحها العبد في سبيل الله والغدوة خير من الدنيا وما فيها وعلى كل تقدير فإذا لم يكن يا أخي فراركم من الأندلس إلى الله وحده بالتوبة المكملة والاستغفار مع الانقطاع في أحد المواطن المكرمة المعظمة بالإجماع وهي طيبة أو مكة أو بيت المقدس فقد خسرتم صفقة رحلتكم وتبين أن لغير وجه الله العظيم كانت نية هجرتكم اللهم إلا إن كنتم قد لاحظتم مسألة الرجل الذي قتل مائة نفس وسأل أعلم أهل الأرض فأشار عليه بعد إزماع التوبة بمفارقة المواطن التي ارتكب فيها الذنوب واكتسب بها العيوب فأمر آخر مع أن كلام العلماء في هذا الحديث معروف ويقال لكم من الجواب الخاص بكم فعليكم إذا بترك القيل والقال وكسر حبرة الجدال والقتال وقصر ما بقي من مدة العمر على الاشتغال بصالح الأعمال
ووقعت في مكتوبكم كلمات أوردها النقد في قالب الاستهزاء والازدراء والجهالة بمقادير الأشياء ومنها ريح صرصر وهو لغة القرآن وقاع قرقر وهو لفظ سيد العرب والعجم محمد ثبت في الصحيح في باب التغليظ فيمن لا يؤدي زكاة ماله قيل يا رسول الله والبقر والغنم قال ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان

يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها شيئا تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها الحديث الشهير قال صاحب المعلم بطح لها بقاع قرقر أي ألقي على وجهه والقاع المستوي من الأرض والقرقر كذلك هذا ما حضر الجواب وبقي في مكتوبكم حشو كثير من كلام إقذاع وفحش بعيد من والحياء رأيت من الصواب الإعراض عن ذكره وصون اليد عن الاستعمال فيه والظاهر أنه إنما صدر منكم وأنتم بحال مرض فلا حرج فيه عليكم أنسأ الله تعالى أجلكم ومكن أمنكم وسكن وجلكم ومنه جل اسمه نسأل لي ولكم حسن الخاتمة والفوز بالسعادة الدائمة والسلام الأتم يعتمدكم والرحمات والبركات من كاتبه علي بن عبد الله بن الحسن وفقه الله وذلك بتاريخ أخريات جمادى الأولى من عام ثلاثة وسبعين وسبعمائة
وقيد رحمه الله تعالى في مدرج طي هذا الكتاب ما نصه يا أخي أصلحني الله وإياكم بقي من الحديث شيء من الصواب الخروج عنه لكم إذ هذا أوانه وتأخير البيان عن وقت الحاجة فيه ما فيه وليكون البناء بعد أن كان على أصل صحيح بحول الله وحاصله أنكم عددتم ما شاركتكم فيه بحسب الأوقات وقطعتم بنسبة المور كلها إلى أنفسكم وإنها إنما صدرت عن أمركم وبإذنكم من غير مشارك في شيء منها لكم ثم مننتم بها المن القبيح المبطل لعمل بركم على تقدير التسليم في فعله لكم ورميتم غيركم بالتقصير في حاله كله طريقة من يبصر القذى في عين أخيه ويدع الجذع في عينه وأقصى ما تسنى للمحب أيام كونكم بالأندلس تقلد كلفة قضاء الجماعة وما كان إلا أن وليتها بقضاء الله وقدره فقد تبين لكل ذي عقل سليم أنه لا موجد إلا الله وأنه إذا كان كذلك كان الخير والشر والطاعة والمعصية حاصلا بإيجاده سبحانه وتخليقه وتكوينه من غير عاضد له على تحصيل مراده ولا معين ولكنه جلت قدرته وعد فاعل الخير بالثواب فضلا منه واوعد فاعل الشر بالعقاب عدلا منه وكأني بكم تضحكون من تقرير هذه المقدمة وما أحوجكم إلى

تأملها بعين اليقين فكابدت أيام تلك الولاية النكدة من النكاية باستحقاركم للقضايا الشرعية وتهاونكم بالأمور الدينية ما يعظم الله به الأجر وذلك في جملة مسائل منها مسألة ابن الزبير المقتول على الزندقة بعد تقضي موجباته على كره منكم ومنها مسألة ابن أبي العيش المثقف في السجن على آرائه المضلة التي كان منها دخوله على زوجه إثر تطليقه إياها بالثلاث وزعمه أن رسول الله أمره مشافهة بالاستمتاع بها فحملتم أحد ناسكم تناول إخراجه من الثقاف من غير مبالاة بأحد ومنها أن أحد الفتيان المتعلقين بكم توجهت عليه المطالبة بدم قتيل وسيق المدعى عليه للذبح بغير سكين فما وسعني ولي الدم وسرحتم الفتى المطلوب على الفور إلى غير ذلك مما لا يسع الوقت شرحه ولا يجمل بي ولا بكم ذكره والمسألة الأخرى أنتم توليتم كبرها حتى جرى فيها القدر بما جرى به من الانفصال والحمد لله على كل حال وأما الرمي بكذا وكذا مما لا علم لنا بسببه ولا عذر لكم من الحق في التكلم به فشيء قلما يقع مثله من البهتان ممن كان يرجو لقاء ربه وكلامكم في المدح والهجو هو عندي من قبيل اللغو الذي نمر به كراما والحمد لله فكثروا أو قللوا من أي نوع شئتم أنتم وما ترضونه لنفسكم وما فهت لكم بما فهت الكلام إلا على جهة الإعلام لا على جهة الانفعال لما صدر أو يصدر من الأقوال والأفعال فمذهبي غير مذهبكم وعندي ما ليس عندكم
وكذلك رأيتكم تكثرون في مخاطباتكم من لفظ الرقية في معرض الإنكار لوجود نفعها والرمي بالمنقصة والحمق لمستعملها ولو كنتم قد نظرتم في شيء من كتب السنة وسير الأمة المسلمة نظر مصدق لما وسعكم إنكار ما أنكرتم وكتبه بخط يدكم فهو قادح كبير في عقيدة دينكم فقد ثبت بالإجماع في سورة الفلق أنها خطاب للنبي وانه المراد بها هو وآحاد

أمته وفي أمهات الإسلام أن رسول الله كان إذا اشتكى رقاه جبريل فقال بسم الله يبريك من كل داء يشفيك ومن شر حاسد إذا حسد ومن شر كل ذي عين وفي الصحيح أيضا أن ناسا من أصحاب رسول الله كانوا في سفر فمروا بحي من أحياء العرب فاستضافوهم فلم يضيفوهم فقالوا هل فيكم راق فإن سيد الحي لديغ أو مصاب فقال رجل من القوم نعم فأتاه فرقاه بفاتحة الكتاب فبرئ الرجل فأعطى قطيعا من غنم الحديث الشهير قال أهل العلم فيه دليل على جواز أخذ الأجرة على الرقية والطب وتعليم القرآن وهو قول مالك وأحمد والشافعي وأبي ثور وجماعة من السلف وفيه جواز المقارضة وإن كان ضد ذلك أحسن وفي هذا القدر كفاية وما رقيت قط أحدا على الوجه الذي ذكرتم ولا استرقيت والحمد لله وما حملني على تبيين ما بينته الآن لكم في المسألة إلا إرادة الخير التام لجهتكم والطمع في إصلاح باطنكم وظاهركم فإني أخاف عليكم من الإفصاح بالطعن في الشريعة ورمي علمائها بالمنقصة على عادتكم وعادة المستخف ابن هذيل شيخكم منكر علم الجزيئات القائل بعدم قدرة الرب جل اسمه على جميع الممكنات وأنتم قد انتقلتم إلى جوار أناس أعلام قلما تجوز عليهم حفظهم الله المغالطات فتأسركم شهادة العدول التي لا مدفع لكم فيها وتقع الفضيحة والدين النصيحة أعاذنا الله من درك الشقاء وشماتة الأعداء وجهد البلاء
وكذلك أحذركم من الوقوع بما لا ينبغي في الجناب الرفيع جناب سيد المرسلين وقائد الغر المحجلين صلوات الله وسلامه عليه فإنه نقل عنكم في هذا الباب أشياء منكرة يكبر في النفوس بها أنتم تعلمونها وهي التي زرعت في القلوب ما زرعت من بغضكم بعدكم مع استشعار الشفقة والوجل من وجه آخر عليكم ولولا أنكم سافرتم قبل تقلص ظل السلطنة عنكم لكانت الأمة المسلمة امتعاضا لدينها ودنياها قد برزت بهده الجهات

لطلب الحق منكم فليس يعلم أنه صدر عن مثلكم من خدام الدول ما صدر عنكم من العيث في الأبشار والأموال وهتك الأعراض وإفشاء الأسرار وكشف الأستار واستعمال المكر والحيل والغدر في غالب الأحوال للشريف والمشروف والخديم والمخدوم ولو لم يكن في الوجود من الدلائل على صحة ما رضيتم به لنفسكم من الاتسام بسوء العهد والتجاوز المحض وكفران النعم والركون إلى ما تحصل من الحطام الزائل إلا عملكم مع سلطانكم مولاكم وابن مولاكم أيده الله بنصره وما ثبت من مقالاتكم السيئة فيه وفي كثير من أهل قطره لكفاكم وصمة لا يغسل دنسها البحر ولا ينسى عارها الدهر فإنكم تركتموه أولا بالمغرب عند تلون الزمان وذهبتم للكدية والأخذ بمقتضى المقامة الساسانية إلى ان استدعاه الملك وتخلصت له بعد الجهد بالأندلس فسقطتم عليه سقوط الذباب على الحلواء وضربتم وجوه رجاله بعضا ببعض حتى خلا لكم الجو وتمكن الأمر والنهي فهمزتم ولمزتم وجمعتم من المال ما جمعتم ثم وريتم بتفقد ثغر الجزيرة الخضراء مكرا منكم فلما بلغتم أرض الجبل انحرفتم عن الجادة وهربتم بأثقالكم الهروب الذي أنكره عليكم كل من بلغه حديثكم أو يبلغه إلى أخر الدهر في العدوتين من مؤمن وكافر وبر وفاجر فكيف يستقيم لكم بعد المعرفة بتصرفاتكم حازم أو يثق بكم في قول أو فعل صالح أو طالح ولو كان قد بقي لكم من العقل ما تتفكرون به في الكيفية التي ختمتم بها عملكم بالأندلس من الزيادة في المغرم وغير ذلك مما لكم وزره ووزر من عمل به بعدكم إلى يوم القيامة حسبما ثبت في الصحيح لحملكم على مواصلة الحزن وملازمة الأسف والندم عى ما أوقعتم فيه نفسكم الأمارة من التورط والتنشب في أشطان الآمال ودسائس الشيطان ونعوذ بالله من شرور الأنفس وسيئات الأعمال
وأما قولكم عن فلان إنه كان حشرة في قلوب اللوز وإن فلانا كان برغوثا في تراب الخمول فكلام سفساف يقال لكم من الجواب عليه وأنتم يا هذا أين كنتم منذ خمسين سنة مثلا خلق الله الخلق لا استظهارا بهم

ولا استكثارا وأنشأهم كما قدر أحوالا واطوارا واستخلفهم في الأرض بعد أمة أمما وبعد عصر أعصارا وكلفهم شرائعه وأحكامه ولم يتركهم هملا وامرهم ونهاهم ليبلوهم أيهم أحسن عملا ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) الحجرات 13 وبكل اعتبار فلا نعلم في نمط الطلبة تدريجا كان أسمج من تدريجكم ونبدأ من كذا فإنه كان كذا وأكثر أهل زمانه تحملا وتقللا في نفسه بالنسبة إلى منصبه كان الشيخ أبو الحسن ابن الجياب ولكنه حين علم رحمه الله تعالى من نشأتكم وحالتكم ما علم نبذ مصاهرتكم وصرف عليكم صداقكم وكذلك فعلت بنت جزي زوج الرهيصي معكم حسبما هو مشهور في بلدكم وذكرتم أنكم ما زلتم من أهل الغنى حيث نقرتم بذكر العرض وهو بفتح العين والراء حطام الدنيا على ما حكى أبو عبيد وقال أبو زيد هو بسكون الراء المال الذي لا ذهب فيه ولا فضة وأي مال خالص يعلم لكم أو لأبيكم بعد الخروج من الثقاف على ما كان قد تبقى عنده من مجبى قرية مترايل ثم من العدد الذي برز قبلكم أيام كانت أشغال الطعام بيدكم على ما شهد به الجمهور من أصحابكم وأما الفلاحة التي أشرتم إليها فلا حق لكم فيها إذ هي في الحقيقة لبيت مال المسلمين مع ما بيدكم على ما تقرر في الفقهيات والمعدوم شرعا كالمعدوم حسا ولو قبل من أهل المعرفة بكم بعض ما لديكم من سقطاتكم في القال والقيل ولم يصرف إلى دفع معرتها عنكم وجه التأويل لكانت مسألتكم ثانية لمسألة أبي الخير بل أبي الشر الحادثة أيام خلافة الحكم المسطورة في نوازل أبي الأصبغ ابن سهل فاعلموا ذلك ولا تهملوا إشارتي عليكم قديما وحديثا بلزوم وحضور الجماعات وفعل الخيرات والعمل على التخلص من ( إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور ) لقمان 33

وقلم في كتابكم أين الخطط المتوارثة عن الآباء والأجداد وقد أذهب الله عنا ببركة الملة المحمدية عيبة الجاهلية في التفاخر بالآباء ولكني أقول لكم على جهة المقابلة لكلامكم إن كانت الإشارة إلى المجيب بهذا فمن المعلوم المتحقق عند أفاضل الناس أنه من حيث الأصالة أحد أماثل قطره قال القاضي أبو عبد الله ابن عسكر وقد ذكر في كتابه من سلفى فلان بن فلان ما نصه وبيته بيت قضاء وعلم وجلالة لم يزالوا يرثون ذلك كابرا عن كابر استقضى جده المنصور ابن أبي عامر وقاله غيره وغيره وبيدي من عهود الخلفاء وصكوك الأمراء المكتتبة بخطوط أيديهم من لدن فتح جزيرة الأندلس وإلى هذا العهد القريب ما تقوم به الحجة القاطعة للسان الحاسد والجاحد والمنة لله وحده وإن كانت الإشارة للغير من الأصحاب في الوقت حفظهم الله فكل واحد منهم إذا نظر إليه بعين الحق وجد أقرب منكم نسبا للخطط المعتبرة وأولى بميراثها بالفرض والتعصيب او مساويا على فرض المسامحة لكم قال رسول الله المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره حرام دمه وماله وعرضه
ونرجع إلى طريقة أخرى فنقول من كان يا فلان من قومكم في عمود نسبكم نبيها مشهورا أو كاتبا قبلكم معروفا أو شاعرا مطبوعا أو رجلا نبيها مذكورا ولو كان يالوشي وكان لكان من الواجب الرجوع إلى التناصف والتواصل والتواضع وترك التحاسد والتباغض والتقاطع إن الله لا ينظر إلى صوركم وأبدانكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم وكذلك العجب كل العجب من تسميتكم الخربات التي شرعتم في بنائها بدار السلامة وهيهات هيهات المعروف من الدنيا أنها دار بلاء وجلاء وعناء وفناء ولو لم يكن من الموعظة الواقعة بتلك الدار في الوقت إلا موت سعيدكم عند دخولها لأغناكم عن العلم اليقين بمآلها
وأظهرتم سرورا كثيرا بما قلتم إنكم نلتم حيث أنتم من الشهوات التي

ذكرتم أن منها الإكثار من الأكل والخرق والقعود بإزاء جارية الماء على نطع الجلد والإمساك أولى بالجواب على هذا الفصل فلا خفاء بما فيه من الخسة والخبائث والخبث وبالجملة فسرور العاقل إنما ينبغي أن يكون بما يجمل تقدمه من زاد التقوى للدار الباقية فما العيش كما قال رسول الله إلا عيش الآخرة فقدموا إن قبلتم وصاة الحبيب أو البغيض بعضا عسى أن يكون لكم ولا تخلفوا كلا يكون عليكم هذا الذي قلته لكم وإن كان لدى من يقف من نمطه الكثير فهو باعتبار المكان وما مر من الزمان في حيز اليسير في نفسه قول حق وصدق ومستند أكثره كتاب الله وسنة محمد رسول الله وعلى سائر أنبيائه فاحمدوا الله العلي العظيم على تذكيركم به إذ هو جار مجرى النصيحة الصريحة يسرني الله وإياكم لليسرى وجعلنا ممن ذكر فانتفع بالذكرى والسلام انتهى كلام القاضي ابن الحسن النباهي في كتابه الذي خاطب به لسان الدين رحمه الله تعالى
ظهير من إنشاء لسان الدين بتولية النباهي خطة القضاء
وأين هذا الكلام الذي صدر من ابن الحسن في حقه من إنشاء لسان الدين رحمه الله تعالى في تولي ابن الحسن المذكور القضاء وهو
هذا ظهير كريم انتج مطلوب الاختيار قياسه ودل على ما يرضي الله عز و جل التماسه وأطلع نور العناية الذي يجلو الظلام نبراسه واعتمد بمثابة العدل من عرف بافتراع هضبتها ناسه وألقى بيد المعتمد به زمام الاعتقاد الجميل تروق أنواعه وأجناسه وشيد مبنى العز الرفيع في قبة الحسب المنيع وكيف لا والله بانيه والمجد أساسه أمر به وأمضى العمل بمقتضاه وحسبه أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر أيد الله أوامره وخلد مفاخره لقاضي حضرته العليا وخطيب حمرائه السنية المخصوص لديه بترفيع المزية

المصروف إليه خطاب القضاة بإيالته النصرية قاضي الجماعة ومصرف الأحكام الشرعية المطاعة الشيخ الكذا أبي الحسن ابن الشيخ الكذا أبي محمد ابن الحسن وصل الله سعادته وحرس مجادته وسنى من فضله إرادته عصب منه جبين المجد بتاج الولاية واجال قداح الاختيار حتى بلغ الغاية وتجاوز النهاية ما ألقى منه بيمين عرابة الراية وأحله منه محل اللفظ من المعنى والإعجاز من الآية وحشر إلى مدعاة ترفيعه وجوه البر وأعيان العناية وأنطق بتبجيله ألسن أهل جيله بين الإفصاح والكناية ولما كان له الحسب الأصيل الذي شهدت به ورقات الدواوين والأصالة التي قامت عليها صحاح البراهين والآباء الذين اعتد بمضاء قضائهم الدين وطبق مفاصل الحكم بسيوفهم الحق المبين وازدان بمجالسة وزرائهم السلاطين فمن فارس حكم أو حكيم تدبير وقاض في الأمور الشرعية ووزير أو جامع بينهما جمع سلامة لا جمع تكسير تعدد ذلك واطرد ووجد مشرع المجد عذبا فورد وقصرت النظراء عن مداه فانفرد وفرى الفري في يد الشرع فأشبه السيف البرد وجاء في أعقابهم محييا لما درس بما حقق ودرس جانيا لما بذر السلف المبارك واغترس طاهر النشأة وقورها محمود السجية مشكورها متحليا بالسكينة حالا من النزاهة بالمكانة المكينة ساحبا أذيال الصون بعيدا عن الإتصاف بالفساد من لدن الكون فخطبته الخطط العلية واغتبطت به المجادة الأولية واستعملته دولته التي ترتاد أهل الفضائل للرتب واستظهرت على المناصب بأبناء التقى والحسب والفضل والمجد والأدب ممن يجمع بين الطارف والتالد والإرث والمكتسب فكان معدودا من عدول قضاتها وصدور نبهائها وأعيان وزرائها وأولي آرائها فلما زان الله تعالى خلافته بالتمحيص المتحلي من التخصيص وخلص ملكه الأصيل كالذهب الإبريز بعد التخليص كان ممن

صحب ركابه الطالب للحق بسيف الحق وسلك في مظاهرته أوضح الطرق وجادل من حاده بأمضى من الحداد الذلق واشتهر خبر وفائه في الغرب والشرق وصلى به صلاة السفر والحضر والأمن والحذر وخطب به في الأماكن التي بعد بذكر الله عهدها وخاطب عنه أيده الله تعالى المخاطبات التي حمد قصدها حتى استقل ملكه فوق سريره وابتهج منه الإسلام بأميره وابن أميره ونزل الستر على العباد والبلاد ببركة إيالته ويمن تدبيره وكان الجليس المقرب المحل والحظي المشاور في العقد والحل والرسول المؤتمن على الأسرار والأمين على الوظائف الكبار مزين المجلس السلطاني بالوقار ومتحف الملك بغريب الأخبار وخطيب منبره العالي في الجمعات وقارىء الحديث لديه في المجتمعات
ثم رأى أيده الله تعالى أن يشرك رعيته في نفعه ويصرف عوامل الحظوة على مزيد رفعه مجلس الشارع صلوات الله عليه لإيضاح شرعه وأصله الوثيق وفرعه أعلى الله تعالى قدمه وشكر آلاءه ونعمه قاضيا في الأمور الشرعية وفاصلا في القضايا الدينية بحضرة غرناطة العلية تقديم الإختيار والانتقاء وأبقى له فخر السلف على الخلف والله سبحانه يمتعه بطول البقاء فليتول ذلك عادلا في الحكم مهتديا بنور العلم مسويا بين الخصوم حتى في لحظة والتفاته متصفا من الحلم بأفضل صفاته مهيبا في الدين رؤوفا بالمؤمنين جزلا في الأحكام مجتهدا في الفصل بأمضى حسام مراقبا لله عز و جل في النقض والإبرام
وأوصاه بالمشورة التي تقدح زناد التوفيق والتثبت حتى ينتج قياس التحقيق بارا بمشيخة أهل التوثيق عادلا إلى سعة الأقوال عند المضيق سائرا من مشورة المذهب على أهدى طريق وصية أصدرها له مصدر الذكرى التي تنفع ويعلي الله بها الدرجات ويرفع وإلا فهو عن الوصاة غني وقصده قصد سني والله عز و جل ولي إعانته والحارس من التبعات أكناف ديانته

والكفيل بحفظه من الشبهات وصيانته
وأمر أيده الله تعالى أن ينظر في الأحباس على اختلافها والأوقاف على شتى أصنافها واليتامى التي انسدلت كفالة القضاة على إضعافها فيذود عنها طوارق الخلل ويجري أمورها بما يتكفل لها بالأمل وليعلم أن الله عز و جل يراه وأن فلتات الحكم تعاوده المراجعة في أخراه فيدرع جنة تقواه وسبحان من يقول ( إن الهدى هدى الله )
فعلى من يقف عليه أن يعرف أمر هذا الإجلال صائنا منصبه من الإخلال مبادرا أمره الواجب بالامتثال بحول الله وكتب في الثالث من شهر الله المحرم فاتح عام أربعة وستين وسبعمائة عرف الله سبحانه فيه هذا المقام العي عوارف النصر المبين والفتح القريب بمنه وكرمه فهو المستعان لا رب غيره انتهى
ظهير من إنشائه بتولية ابن زمرك كتابه السر
ونظير هذا ما أنشأه لسان الدين على لسان سلطانه للكاتب أبي عبد الله ابن زمرك حين تولى كتابه السر ونصه
هذا ظهير كريم نصب المعتمد به للأمانة الكبرى ببابه فرفعه وأفرد له متلو العز وجمعه وأوتره وشفعه وقربه في بساط الملك تقريبا فتح له باب السعادة وشرعه وأعطاه لواء القلم الأعلى فوجب على من دون رتبته من أولي صنعته أن يتبعه ورعى له وسيلة السابقة عند استخلاص الملك لما ابتزه الله من يد الغاصب وانتزعه وحسبك من زمام لا يحتاج إلى شيء معه أمر به أمير الله تعالى له وجه العناية أبهى من الصبح الوسيم وأقطعه جناب الإنعام الجسيم وأنشقه آراج الحظوة عاطرة النسيم ونقله من كرسي التدريس والتعليم إلى

مرقى التنويه والتكريم والرتبة التي لا يلقاها إلا ذو حظ عظيم وجعل أقلامه جيادا لإجالة أمره العلي وخطابه السني في ميدان الأقاليم ووضع في يده أمانة القلم الأعلى جاريا من الطريقة المثلى على المنهج القويم واختصه بمزية على كتاب بابه والتقديم لما كان ناهض الفكر في طلبة حضرته زمن ولم تزل تظهر عليه لأولي التمييز مخايل هذه العناية فإن حضر في حلق العلم جلي في حلبة الحفاظ إلى الغاية وإن نظم أو نثر أتى بالقصائد المصقولة والمخاطبات المنقولة فاشتهر في بلده وغير بلده وصارت أزمة العناية طوع يده بما أوجب له المزية في يومه وغده
وحين رد الله عليه ملكه الذي جبر به جناح الإسلام وزين وجوه الليالي والأيام وأدال الضياء من الإظلام كان ممن وسمه الوفاء وشهره وعجم الملك عود خلوصه وخبره فحمد أثره وشكر ظاهره ومضمره واستصحب على ركابه الذي صحب اليمن سفره وأخلصت الحقيقة نفره وكفل الله ورده وصدره ميمون النقيبة حسن الضريبة صادقا في الأحوال المريبة ناطقا عن مقامه بالمخاطبات العجيبة واصلا إلى المعاني البعيدة بالعبارة القريبة مبرزا في الخدم الغريبة حتى استقام العماد ونطق بصدق الطاعة الحي والجماد ودخلت في دين الله أفواجا العباد والبلاد لله الحمد على نعمه الثرة العهاد وآلائه المتوالية الترداد رعى له أيده الله هذه الوسائل وهو أحق من يرعاها وشكر له الخدم المشكور مسعاها فنص عليه الرتبة الشماء التي خطبها بوفائه وألبسه أثواب اعتنائه وفسح له مجال آلائه وقدمه أعلى الله قدمه كاتب السر وأمين النهي والأمر تقديم الاختيار بعد الاختبار والاغتباط بخدمته الحسنة الآثار وتيمن باستخدامه قبل الحلول بدار الملك والاستقرار وغير ذلك من موجبات الإكبار

فليتول ذلك عارفا بمقداره مقتفيا لآثاره مستعينا بالكتم لأسراره والاضطلاع بما يحمد من أمانته وعفافه ووقاره معطيا هذا الرسم حقه من الرياسة عارفا بأنه أكبر أركان السياسة حتى يتأكد الاغتباط بتقريبه وإدنائه وتتوفر أسباب الزيادة في إعلائه وهو إن شاء الله غني عن الوصاة فهما ثاقبا يهتدي بضيائه وهو يعمل في ذلك أقصى العمل المتكفل ببلوغ الأمل وعلى من يقف عليه من حملة الأقلام والكتاب الأعلام وغيرهم من الكافة والخدام أن يعرفوا قدر هذه العناية الواضحة الأحكام والتقديم الراسخ الأقدام ويوجبوا ما أوجب من البر والإكرام والإجلال والإعظام بحول الله وكتب في كذا انتهى
فانظر صانني الله وإياك من الأغيار وكفانا شر من كفر الصنيعة التي هي على النقص عنوان ومعيار إلى حال الوزير لسان الدين ابن الخطيب مع هذين الرجلين القاضي ابن الحسن والوزير ابن زمرك اللذين تسببا في هلاكه حتى صار أثرا بعد عين مع تنويهه بهما في هذا الإنشاء وغيره وتفيئهما كما هو معلوم ظلال خيره فقابلاه بالغدر وأظهرا عند الإمكان حقد القلب وغل الصدر وسددا لقتله سهاما وقسيا وصيرا سبيل الوفاء نسيا منسيا ولا حول ولا قوة إلا بالله
ظهير ثالث بإضافة الخطابة إلى القضاء للنباهي
ومن إنشاء لسان الدين في حق القاضي ابن الحسن أيضا حيث أضيفت إليه الخطابة إلى القضاء على لسان سلطانه
هذا ظهير كريم أعلى رتبة الاحتفاء اختيارا واختبارا وأظهر معاني الكرامة والتخصيص انتقاء واصطفاء وإيثارا ورفع لواء الجلالة على من اشتمل عليه حقيقة واعتبارا ورقى في درجات العز من طاولها على بهر أنوارا ودينا

كرم في الصالحات آثارا وزكا في الأصالة نجارا وخلوصا إلى هذا المقام العلي السعيد الذي راق إظهارا وإضمارا أمر به وأمضاه وأنفذ حكمه ومقتضاه أمير المسلمين عبد الله محمد إلى آخره للشيخ الكذا القاضي العدل الأرضي قاضي الجماعة وخطيب الحضرة العلية المخصوص لدى المقام العلي بالحظوة السنية والمكانة الحفية الموقر الفاضل الحافل الكامل المبرور أبي الحسن ابن الشيخ الفقيه الوزير الأجل الأعز الماجد الأسنى المرفع الأحفل الأصلح المبارك الأكمل الموقر المبرور المرحوم أبي محمد ابن الحسن وصل الله عزته ووالى رفعته ومبرته ووهب له من صلة العناية الربانية أمله وبغيته لما أصبح في صدور القضاة العلماء مشارا إلى جلاله مستندا إلى معرفته المخصوصة بكماله مطرزا على الإفادة العلمية والأدبية بمحاسنه البديعة وخصاله محفوفا مقعد الحكم النبوي ببركة عدالته وفضل خلاله وحل في هذه الحضرة العلية المحل الذي لا يرقاه إلا عين الأعيان ولا يثوي مهاده إلا مثله من أبناء المجد الثابت الأركان ومؤملي العلم الواضح البرهان والمبرزين بالمآثر العلية في الحسن والإحسان وتصدر لقضاء الجماعة فصدرت عنه الأحكام الراجحة الميزان والأنظار الحسنة الأثر والعيان والمقاصد التي وفت بالغاية التي لا تستطاع في هذا الميدان فكم من قضية جلا بمعارفه مشكلها ونازلة مبهمة فتح بإدراكه مقفلها ومسألة عرف نكرتها وقرر مهملها حتى قرت بعدالته وجزالته العيون وصدقت فيه الآمال الناجحة والظنون وكان في تصديره لهذه الولاية العظمى من الخير والخيرة ما عسى أن يكون كان أحق بالتشفيع لولايته وأولى وأجدر بمضاعفة النعم التي لا تزال ترادف على قدره الأعلى فلذلك أصدر له أيده الله هذا الظهير الكريم مشيدا بالترفيع والتنويه ومؤكدا للإحتفاء الوجيه وقدمه أعلى الله قدمه وشكر نعمه خطيبا بالجامع الأعظم من حضرته مضافا ذلك إلى ولايته ورفيع منزلته مرافقا لمن بالجامع الأعظم عمره الله بذكره من علية الخطباء وكبار العلماء وخيار النبهاء الصلحاء فليتداول ذلك في جمعاته

مظهرا في الخطة أثر بركاته وحسناته عاملا على ما يقربه عند الله من مرضاته ويظفره بجزيل مثوباته بحول الله وقوته انتهى
فهذا ثناء لسان الدين المرحوم على القاضي ابن الحسن وإشادته بذكره وبإشارته وتدبيره ولي قضاء القضاة وخطابة الجامع الأعظم بغرناطة وهذان المنصبان لم يكن في الأندلس في ذلك الزمان من المناصب الدينية أجل منهما ولما حصل للسان الدين رحمه الله تعالى ما حصل من النفرة عن الأندلس وإعمال الحيلة في الإنفصال عنها لعلمه أن سعايات ابن زمرك وابن الحسن ومن يعضدهما تمكنت فيه عند سلطانه خلص منها على الوجه الذي قدمناه وشمر القاضي ابن الحسن عن ساعد أذايته والتسجيل عليه بما يوجب الزندقة كما سبق جميعه مفصلا فحينئذ أطلق لسان الدين عنان قلمه في سب المذكور وثلبه وأورد في كتابه الكتيبة الكامنة في أبناء المائة الثامنة من مثالبة ما أنسى ما سطره صاحب القلائد في ابن باجة المعروف بابن الصائغ حسبما نقلنا ذلك أعني كلام الفتح في غير هذا الموضع ولم يقتنع بذلك حتى ألف الكتاب الذي سماه بخلع الرسن كما ألمعنا به فيما سبق والله سبحانه يتجاوز عن الجميع بمنه وكرمه
نماذج من براعة لسان الدين في القدح
واعلم أن لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى الغاية في المدح والقدح فتارة على طريق الترسل وطورا على غيرها وقد اقذع وبالغ رحمه الله تعالى في هجو أعدائه بما لا تحتمله الجبال وهو اشد من وقع النبال ومنه ما وصف به الوزير الذي كان استوزره السلطان إسماعيل بن الأحمر الثائر على سلطان ابن الخطيب حسبما سبق الإلمام بذلك والوزير هو إبراهيم بن أبي الفتح الأصلع الغوي إذ قال في المذكور وفي ابن عمه محمد بن إبراهيم بن أبي الفتح العقرب

الردى بعد كلام ما صورته
وما ظنك برجل مجهول الجد موصوم الأبوة إلى أن قال تنور خبز وبركة مرقة وثعبان حلواء وفاكهة مغي في شح النفس متهالك في مسترذل الطبع عليه العذيوط الغبي ابن عمه بسذاجة زعموا مع كونه قبيح الشكل بشيع الطلعة إلى أن قال وفي العشر الأول من رمضان عام واحد وستين وسبعمائة تقبض على الوزير المشؤوم وابن عمه الغوي الغشوم وولد الغوي مرسل الظفيرة أبعد الناس في مهوى الاغترار يختال في السرق والحيلة سم من سم القوارير وابتلاء من الله لذوي الغيرة يروح نشوان العشيات يرقص بين يديه ومن خلفه عدد من الأخلاف يعاقرون النبيذ في السكك الغاصة وولد العقرب الردي بضده قماءة وتقطبا تنبو عنهما العيون ويبكي منهما الخز كأنهما صمتا عند المحاورة وإظلاما عند اللألاء من أذلاء بني النضير ومهتضمي خيبر فثقفا مليا وبودر بهما إلى ساحل المنكب
قال المخبر فما رأيت منكوبين أقبح شكلا ولا أفقد صبرا من ذينك التيسين الحبقين صلع الرؤوس ضخام الكروش مبهوري الأنفاس متلجلجي الألسنة قد ربت بمحل السيف من عنق كل جبار منهما شحمة أترجية كأنها سنام الحوار لا يثيرون دمعا ولا يستنزلون رحمة ولا يمهدون عذرا ولا يتزودون من كتاب الله آية قد طبع الله على قلوبهم وأخذهم ببغيهم وعجل لهم سوء سعيهم وللحين أركبوهم وجراءهم يعني أولادهم في جفن غزوي تحف بهم المساعير من الرجال واقتفى بهم أثر قرقورة تحمل حاجا إلى الإسكندرية تورية بالقصد فلما لججوا قذف بهم في لجة بعد استخلاص

ما ضبثوا به وتلكأ الأصلع الغوي فأثبت بجراحة أشعر بها هديه واختلط العقرب الردي فنال من جناب الله سخطا وضيقا تعالى الله عن نكيره فكان فرعون هذا الزمان جبروتا وعتوا وميتة عجل الله لهم العذاب وأغرقهم في اليم
فانظر كيف كان عاقبة الظالمين فسبحان من لا تضيع الحقوق مع عدله ولا تنفسخ الآماد منازعة رداء كبريائه مرغم الأنوف وقاطع دابر الكافرين وفي ذلك أقول مستريحا وإن لم يكن علم الله تعالى شاني ولا تكرر في ديواني
( وما كنت ممن يدخل العشق قلبه ... ولكن من يبصر جفونك يعشق )
ومن أمثالهم من استغضب فلم يغضب فهو حمار والله سبحانه يقول ومن أصدق من الله قيلا ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) الشورى 40 والعفو أقرب للتقوى والقرب والبعد بيده سبحانه وصدرت هذه الكلمة لحين تعرف إجلائهم في الجفن إلى الإسكندرية وبعد ذلك صح هلاكهم
( كن من صروف الردى على حذر ... لا يقبل الدهر عذر معتذر )
( ولا تعول فيه على دعة ... فأنت في قلعة وفي سفر )
( فكل ري يفضي إلى ظمإ ... وكل أمن يدعو إلى غرر )
( كم شامخ الأنف ينثني فرحا ... بال عليه زمانه وخري )
( قل للوزير البليد قد ركضت ... في ربعك اليوم غارة الغير )
( يا ابن أبي الفتح نسبة عكست ... فلا بفتح أتت ولا ظفر )
( وزارة لم يجد مقلدها ... عن شؤمها في الوجود من وزر )
( في طالع النحس حزت رتبتها ... وكل شيء في قبضة القدر )

( أي اختبار لم تأل نصبته ... في جسد للنحوس أو نظر )
( بات له المشتري على غير ... وأحرقت فيه قرصة القمر )
( يا طللا ما عليه من عمل ... يا شجرا ما لديه من ثمر )
( يا مفرط الجهل والغباوة لا ... يحسب إلا من جملة البقر )
( يا دائم الحقد والفظاظة لا ... يفرق ما بين ظالم وبري )
( يا كمد اللون ينطفي كمدا ... من حسد يستطير بالشرر )
( يا عدل سرج يا دن مقتعد ... ملآن من ريبة ومن قذر )
( يا واصلا للجشاء ناشئة الليل ... ورب الضراط في السحر )
( من غير لب ولا مراقبة ... لله في مورد ولا صدر )
( يا خاملا جاهه الفروج يرى ... صهر أولي الجاه فخر مفتخر )
( كانوا نبيطا في الأصل أو حبشا ... ما عنده عبرة بمعتبر )
( يا ناقص الدين والمروءة والعقل ... ومجري اللسان بالهذر )
( يا ولد السحق غير مكتتم ... حديثه يا ابن فاسد الدبر )
( يا بغل طاحونة يدور بها ... مجتهد السير مغمض البصر )
( في أشهر عشرة طحنتهم ... فيا رحى الشؤم والبوار در )
( والله ما كنت يا مشوم ولا ... أنت سوى عرة من العرر )
( ومن أبو الفتح في الكلاب وهل ... لجاهل في الأنام من خطر )
( قد ستر الدهر منك عورته ... وكان لليوم غير مستتر )
( حانوت بز يمشي على فرش ... وثور عرس يختال في حبر )
( لا منة تتقى لمعترك ... ولا لسان يبين عن خبر )
( ولا يد تنتمي إلى كرم ... ولا صفاء يريح من كدر )
( عهدي بذاك الجبين قد ملئت ... غصونه الغبر بالدم الهدر )

( عهدي بذاك القفا الغليظ وقد ... مد لوقع المهند الذكر )
( أهدتك للبحر كف منتقم ... ألقتك للحوت كف مقتدر )
( يا يتم أولادك الصغار ويا ... حيرتهم بعد ذاك في الكبر )
( يا ثكل تلك الصماء أمهم ... وظاعن الموت غير منتظر )
( والله لا نال من تخلفه ... من أمل بعدها ولا وطر )
( والله يا مسخفان لا انتقلت ... رجلك منها إلا إلى سفر )
( ألحفك الله بالهوان ولا ... رعاك فيمن تركت من عرر )
( ما عوقب الليل بالصباح وما ... تقدم البرق عارض المطر )
انتهى وقال موريا بدم الأخوين في شأن سلطان تلك الدولة الذي أضحى أثرا بعد عين
( بإسماعيل ثم أخيه قيس ... تأذن ليل همي بانبلاج )
( دم الأخوين داوى جرح قلبي ... وعالجني وحسبك من علاج )
وهذه تورية بديعة لأن الأطباء يقولون إن من خاصية دم الأخوين النفع من الجراح
وقال رحمه الله تعالى قلت في رأس الغادر بالدولة حين عرض علي
( في غير حفظ الله من هامة ... هام بها الشيطان في كل واد )
( ما تركت حمدا ولا رحمة ... في فم إنسان ولا في فؤاد )
وقال أيضا في تلك الدولة بعد كلام ما نصه
وانتدب قاضيهم الشيخ المتراخي الدبر والفك المنحل العصب والعقدة

المعرق في العمومية المشهور بقبول الرشوة أبو فلان ابن فلان الغريب الاسم والولاية ومفتيهم معدن الرياء والهوادة والبعد عن التخصص والحشمة والمثل في العماه والطرف في التهالك في الحطام فلان البناء المسخر في بناء الحفيرة المستخدم في دار ابنه أجيرا مختضبا بالطين مضايقا في رمق العيشة وحسبك به دليلا على الحياء وفضل البنوة فلفقوا من خيوط العناكب شبهات تقلدوا بها حل العقد الموثق ديدنهم في معارضة صلب الملة بالآراء الخبيثة يتحكم الوقاح منهم في الحكم الذي نزل به شديد القوى على الذي لا ينطق عن الهوى بحسب شهوته تحكمه في غزل أمه إيثارا للعاجل واسترابة بالوعيد ففسخوا النكاح وحللوا محرم البضع للدائل وقد تأذن الله بفسخه وأجرى دمه نقدا قبل دفع فقده سبحانه حكم الحكام وقاهر الظلام وباء مشيخة السوء بلعنة الله وسوء الأحدوثة ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا انتهى
ومن كلامه في نفاضة الجراب وقد ذكر وزير المغرب محمد بن علي ابن مسعود ما ملخصه وإنه مجنون أحول العين وحش النظرة يظن به الغضب في حال الرضى يهيج به المرار فيكمن زمانا خلف كلة مرقده يدخل إليه وعاء الحاجتين خوفا من إصحاره إلى فضاء منزله وتوحشه من أهله وولده إلى أن تضعف سورة المرة فيخف أمره قد باين زوجه مع انسحاب رواق الشبيبة وتوفر داعية الغبطة لحلف جره الوسواس السوداوي نستدفع بالله شر بلائه فاستعان مستوزره منه برأي الفضل بن سهل ويحيى بن خالد وأمثالهما تدارك الله رمق الإسلام بلطفه انتهى
في عتاب ابن أبي رمانة
ولما دخل لسان الدين رحمه الله تعالى مدينة مكناسة الزيتون تأخر قاضيها الشيخ الفقيه أبو عبد الله محمد بن علي بن أبي رمانة عن لقائه يوم وصوله

فكتب إليه ما نصه
( جفا ابن أبي رمانة وجه مقدمي ... ونكب عني معرضا وتحاماني )
( وحجب عني حبه غير جاهل ... بأني ضيف والمبرة من شاني )
( ولكن رآني مغربيا محققا ... وأن طعامي لم يكن حب رمان )
زيارة القاضي أصلحه الله لمثلي ممن لا يخافه ولا يرجوه تجب من وجوه أولها كوني ضيفا ممن لا يعد على الاختبار زيفا ولا تجر مؤانسته حيفا فضلا عن أن تشرع رمحا أو تسل سيفا وثانيها أني أمت إليه من الطلب بنسب بين موروث ومكتسب وقاعدة الفضل قد قررها الحق وأصلها والرحم كما علم تدعو لمن وصلها وثالثها المبدأ في هذا الغرض ولكن الواو لا ترتب إلا بالعرض وهو اقتفاء سنن المولى ايده الله في تأنيسي ووصفه إياي بمقربي وجليسي ورابعها وهو عدة كيسي وهزبر خيسي وقافية تجنيسي ومقام تلويني وتلبيسي مودة رئيس هذا الصنف العلمي ورئيسي فليت شعري ما الذي عارض هذه الأصول الأربعة ورجح مذاهبها المتبعة إلا أن يكون عمل أهل المدينة ينافيها فهذا بحسب النفس ويكفيها وإن تعذر لقاء أو استدعاء وعدم طعام أو وعاء ولم يقع نكاح ولا استرعاء فلم يتعذر عذر يقتضيه الكرم والمنصب المحترم فالجلة إلى التماس الحمد ذات استباق والعرف بين الله والناس باق والغيرة على لسان مثله مفروضة والأعمال معروضة والله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة وإن كان لدى القاضي في ذلك عذر فليفده وأولى الأعذار به أنه لم يقصده والسلام انتهى
ويعني بالمولى السلطان أبا سالم ابن السلطان أبي الحسن المريني وبرئيس

هذا الصنف العلامة الخطيب أبا عبد الله ابن مرزوق رحم الله الجميع
رسالته إلى ابن مرزوق ينصحه برفض الدنيا
ومن كلام لسان الدين رحمه الله تعالى رسالة في أحوال خدمة الدولة ومصائرهم وتنبيههم على النظر في عواقب الرياسة بعيون بصائرهم عبر فيها عن ذوق ووجدان وليس الخبر كالعيان وخاطب بها الإمام الخطيب عين الأعيان سيدي أبا عبد الله ابن مرزوق وكأنه أعني لسان الدين أشار ببعض فصولها إلى نفسه ونطق بالغيب في نكبته التي قادته إلى رمسه وكان ذلك منه عندما أراد التخلي عن خدمة الملوك والتحلي بزينة أهل التصوف والسلوك فلم يرد الله أن تكون مهجته نائية عن ساحة الظلمة خارجة وأراد سامحه الله وغفر له عمرا وأراد الله خارجة وصورة ما قاله رحمه الله تعالى
وأحسست منه يعني ابن مرزوق في بعض كتبه الواردة إلي صاغية إلي الدنيا وحنينا لما بلاه من غرورها فحملني الطور الذي ارتكبته في هذه الأيام بتوفيق الله على أن أخاطبه بهذه الرسالة وحقها أن يجعلها خدمة الملوك ممن ينسب إلى نبل ويلم بمعرفة مصحفا يدرسه وشعارا يلتزمه وهي
سيدي الذي يده البيضاء لم تذهب بشهرتها المكافاة ولم تختلف في مدحها الأفعال ولا تغايرت الصفات ولا تزال تعترف بها العظام الرفات أطلقك الله من أسر كل الكون كما أطلقك من أسر بعضه وزهدك في سمائه الفانية وفي أرضه وحقر الحظ في عين بصيرتك بما يحملك على رفضه اتصل بي الخبر السار من تركك لشأنك وإجناء الله تعالى إياك ثمرة إحسانك وإنجياب ظلام الشدة الحالك عن أفق حالك فكبرت وفي الفرج من بعد الشدة اعتبرت لا بسوى ذلك من رضى مخلوق يؤمر فيأتمر ويدعوه القضاء فيبتدر إنما هو فيء وظل ليس له من الأمر شيء ونسأله جل وعلا أن يجعلها آخر عهدك بالدنيا

وبنيها وأول معارج نفسك التي تقربها من الحق وتدنيها وكأني والله أحس بثقل هذه الدعوة على سمعك ومضادتها ولا حول ولا قوة إلا بالله لطبعك وأنا أنافرك إلى العقل الذي هو قسطاس الله تعالى في عالم الإنسان والآلة لبث العدل والإحسان والملك الذي يبين عنه ترجمان اللسان فأقول
ليت شعري ما الذي غبط سيدي بالدنيا وإن بلغ من زبرجها الرتبة العليا ونفرض المثال بحال إقبالها ووصل حبالها وخشوع جبالها وضراعة سبالها ألتوقع المكروه صباحا ومساء وارتقاب الحوالة التي تديل من النعيم البأساء ولزوم المنافسة التي تعادي الأشراف والرؤساء الترتب العتب على التقصير في الكتب وضغينة جار الجنب وولوع الصديق بإحصاء الذنب ألنسبة وقائع الدولة إليك وأنت بري وتطويقك الموبقات وأنت منها عري ألاستهدافك للمضار التي تنتجها غيرة الفروج والأحقاد التي تضبطها ركبة السروج وسرحة المروج ونجوم السماء ذات البروج ألتقليدك التقصير فيما ضاقت عنه طاقتك وصحت إليه فاقتك من حاجة لا يقتضي قضاءها الوجود ولا يكفيها الركوع للملك والسجود ألقطع الزمان بين سلطان يعبد وسهام للغيوب تكبد وعجاجة شر تلبد وأقبوحة تخلد وتؤبد ألوزير يصانع ويداري وذي حجة صحيحة يجادل في مرضاة السلطان ويماري وعورة لا توارى ألمباكرة كل قرن حاسد وعدو مستاسد وسوق للإنصاف والشفقة كاسد وحال فاسد ألوفود تتزاحم بسدتك مكلفة لك غير ما في طوقك فإن لم يقع الإسعاف قلبت عليك السماء من فوقك ألجلساء ببابك لا يقطعون زمان رجوعك وإيابك إلا بقبيح اغتيابك فالتصرفات تمقت والقواطع توقت والألاقي تبث والسعايات تحث والمساجد يشتكي في حلقها البث يعتقدون أن السلطان في يدك بمنزلة الحمار المدبور واليتيم المحجور والأسير المأمور ليس له شهوة ولا غضب ولا أمل في الملك

ولا أرب ولا موجدة لأحد كامنه وللشر ضامنة وليس في نفسه عن رأي نفرة ولا بإزاء ما لا يقبله نزوة ولا طفرة إنما هو جارحة لصيدك وعان في قيدك وآلة لتصرف كيدك وأنك علة حيفه ومسلط سيفه
الشرار يسملون عيون الناس باسمك ثم يمزقون بالغيبة مزق جسمك قد تنخلهم الوجود أخبث ما فيه واختارهم السفيه فالسفيه إذ الخير يستره الله تعالى عن الدول ويخفيه ويقنعه بالقليل فيكفيه فهم يمتاحون بك ويولونك الملامة ويفتحون عليك القول ويسدون طرق السلامة وليس لك في أثناء هذه إلا ما يعوزك مع ارتفاعه ولا يفوتك مع انقشاعه وذهاب صداعه من غذاء يشبع وثوب يقنع وفراش ينيم وخديم يقعد ويقيم وما الفائدة في فرش تحتها جمر الغضا ومال من ورائه سوء القضا وجاه يحلق عليه سيف منتضى وإذا بلغت النفس إلى الالتذاذ بما لا تملك واللجاج حول المسقط الذي تعلم أنها فيه تهلك فكيف تنسب إلى نبل أو تسير من السعادة في سبل وإن وجدت في القعود بمجلس التحية بعض الأريحية فليت شعري أي شيء زادها او معنى أفادها إلا مباكرة وجه الحاسد وذي القلب الفاسد ومواجهة العدو المستاسد أو شعرت ببعض الإيناس في الركوب بين الناس ما التذت إلا بحلم أو جذبها غير الغرور جاذب إنما راكبك من يحدق إلى الحلية ويستطيل مدة العزة ويرتاب إذا حدثت بخبرك ويتتبع بالنقد والتجسس مواقع نظرك ويمنعك من مسايرة أنيسك ويحتال على فراغ كيسك ويضمر الشر لك ولرئيسك وأي راحة لمن لا يباشر قصده ويمشي إذا شاء وحده
ولو صح في هذه الحال لله تعالى حظ وهبه زهيدا وعين الرشد عملا حميدا لساغ الصاب وخفت الأوصاب وسهل المصاب لكن الوقت أشغل والفكر أوغل والزمن قد عمرته الحصص الوهمية واستنفدت منه الكمية أما ليله ففكر أو نوم وعتب بجزاء الضرائر ولوم وأما يومه فتدبير

وقبيل ودبير وأمور يعيا بها ثبير وبلاء مبير ولغط لا يدخل فيه حكم كبير وأنا بمثل ذلك خبير ووالله يا سيدي ومن فلق الحب وأخرج الأب وذرأ من مشى ومن دب وسمى نفسه الرب لو تعلق المال الذي يجره هذا القدح ويوري سقيطه هذا القدح بأذيال الكواكب وزاحمت البدر بدره بالمناكب لما ورثه عقب ولا خلص به محتقب ولا فاز به سافر ولا منتقب والشاهد الدول والمشائيم الأول
فأين الرباع المقتناة وأين الديار المبتناة وأين الحوائط المغترسات وأين الذخائر المختلسات وأين الودائع المؤملة وأين الأمانات المحملة تأذن الله بتتبيرها وإدناء نار التبار من دنانيرها فقلما تلقى أعقابهم إلا أعراء الظهور مترمقين لجرايات الشهور متعللين بالهباء المنثور يطردون من الأبواب التي حجب عنها آباؤهم وعرف منها إباؤهم وشم من مقاصيرها عنبرهم وكباؤهم ولم تسامحهم الأيام إلا في إرث محرر أو حلال مقرر وربما محقه الحرام وتعذر منه المرام
هذه أعزك الله حال قبولها مع الترفيه ومالها المرغوب فيه وعلى فرض أن يستوفي العمر في العز مستوفيه وأما ضده من عدو يتحكم وينتقم وحوت بغي يبتلع ويلتقم ومطبق يحجب الهواء ويطيل في الترب الثواء وثعبان قيد بعض الساق وشؤبوب عذاب يمزق الأبشار الرقاق وغيلة يهديها الواقب الغاسق ويجرعها العدو الفاسق فصرف السوق وسلعته المعتادة الطروق مع الأفول والشروق فهل في شيء من هذا مغتبط لنفس حرة أو ما يساوي جرعة حال مرة واحسرتا للأحلام ضلت وللأقدام زلت ويا لها مصيبة جلت
ولسيدي أن يقول حكمت باستثقال الموعظة واستجفائها ومراودة الدنيا بين خلانها وأكفائها وتناسي عدم وفائها فأقول الطبيب بالعلل أدرى والشفيق بسوء الظن مغرى وكيف لا وأنا أقف على السحاءات بخط يد سيدي

من مطارح الاعتقال ومثاقف النوب الثقال وخلوات الاستعداد للقاء الخطوب الشداد ونوشى الأسنة الحداد وحيث يجمل بمثله أن لا يصرف في غير الخضوع لله تعالى بنانا ولا يثني لمخلوق عنانا وأتعرف أنها قد ملأت الجو والدو وقصدت الجماد والبو تقتحم أكف أولي الشمات وحفظة المذمات وأعوان النوب الملمات زيادة في الشقاء وقصدا بريا من الاختيار والانتقاء مشتملة من التجاوز على أغرب من العنقاء ومن النفاق على أشهر من البلقاء فهذا يوصف بالإمامة وهذا يجعل من أهل الكرامة وهذا يكلف الدعاء وليس من أهله وهذا يطلب منه لقاء الصالحين وليسوا من شكله إلى ما أحفظني والله من البحث عن السموم وكتب النجوم والمذموم من العلوم هلا كان من ينظر في ذلك قد قوطع بتاتا وأعتقد أن الله قد جعل لزمان الخير والشر ميقاتا وانا لا نملك موتا ولا نشورا ولا حياتا وأن اللوح قد حصر الأشياء محوا وإثباتا فكيف نرجو لما منع منالا أو نستطيع مما قدر إفلاتا أفيدونا ما يرجح العقيدة المتقررة فنتحول إليه وبينوا لنا الحق ونعول عليه
الله الله يا سيدي في النفس المرشحة والذات المحلاة بالفضائل الموشحة والسلف الشهير الخير والعمر المشرف على الرحلة بعد حث السير ودع الدنيا لبنيها فما أوكس حظوظهم وأخس لحوظهم وأقل متاعهم وأعجل إسراعهم وأكثر عناءهم وأقصر آناءهم
( ما ثم إلا ما رأيت ... وربما تعيي السلامة )
( والناس إما جائر ... أوحائر يشكو ظلامه )
( وإذا أردت العز لا ... ترزأ بني الدنيا قلامه )
( والله ما احتقب الحريص ... سوى الذنوب أو الملامة )
( هل ثم شك في المعاد ... الحق أو يوم القيامة )
( قولوا لنا ما عندكم ... أهل الخطابة والإمامة )

وإن رميت بأحجاري وأوجرت المر من أشجاري فوالله ما تلبست اليوم منها بشيء قديم ولاحديث ولا استأثرت بطيب فضلا عن خبيث وما أنا إلا عابر سبيل وهاجر مرعى وبيل ومرتقب وعدا قدر فيه الإنجاز وعاكف على حقيقة لا تعرف المجاز قد فررت من الدنيا كما يفر من الأسد وحاولت المقاطعة حتى بين روحي والجسد الله قلبي ولله الحمد من الطمع والحسد أبق عادة إلا قطعتها ولا جنة للصبر إلا ادرعتها أما اللباس فالصوف وأما الزهد فيما بأيدي الخلق فمعروف وأما المال الغبيط فعلى الصدقة مصروف ووالله لو علمت أن حالي هذه تتصل وعراها لا تنفصل وأن ترتيبي هذا يدوم ولا يحيرني الوعد المحتوم والوقت المعلوم لمت أسفا وحسبي الله وكفى
ومع هذا يا سيدي فالموعظة تتلقى من لسان الوجود والحكمة ضالة المؤمن يطلبها ببذل المجهود ويأخذها من غير اعتبار بمحلها المذموم ولا المحمود ولقد أعملت نظري فيما يكافىء عني بعض يدك أو ينتهي في الفضل إلى أمدك فلم أر لك اللدنيا كفاء هذا لو كنت صاحب دنيا وألفيت بذل النفس قليلا لك من غير شرط ولا ثنيا فلما ألهمني الله لمخاطبتك بهذه النصيحة المفرغة في قالب الجفاء لمن لا يثبت عين الصفاء ولا يشيم بارقة الوفاء ولا يعرف قاذورة الدنيا معرفة مثلي من المتدنسين بها المنهمكين وينظر عوارها القادح بعين اليقين ويعلم أنها المومسة التي حسنها زور وعاشقها مغرور وسرورها شرور تبين لي أنني قد كافيت صنيعتك المتقدمة وخرجت عن عهدتك الملتزمة وامحضت لك النصح الذي يعز بعز الله ذاتك ويطيب حياتك ويحيي مواتك ويريح جوارحك من الوصب وقلبك من النصب ويحقر الدنيا وأهلها في عينك إذا اعتبرت ويلاشي عظائمها لديك إذا اختبرت
كل ما تقع عينك عليه فهو حقير قليل وفقير ذليل ولا يفضلك

بشيء إلا باقتفاء رشد أو ترك غي أثوابه النبيهة يجردها الغاسل وعروة عزه يفصلها الفاصل وماله الحاضر الحاصل يعيث فيه الحسام القاصل والله ما تعين للخلف إلا ما تعين للسلف ولا مصير المجموع إلا إلى التلف ولا صح من الهياط والمياط والصياح والعياط وجمع القيراط إلى القيراط والاستظهار بالوزعة والأشراط والخبط والخباط والاستكثار والاغتباط والغلو والاشتطاط وبناء الصرح وعمل الساباط ورفع العمد وإدارة الفسطاط إلا أمل يذهب القوة وينسي الآمال المرجوة ثم نفس يصعد وسكرات تتردد وحسرات لفراق الدنيا تتجدد ولسان يثقل وعين تبصر الفراق وتمقل ( قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون ) ص 67 ثم القبر وما بعده والله منجز وعيده ووعده فالإضراب الإضراب والتراب التراب
وإن اعتذر سيدي بقلة الجلد لكثرة الولد فهو ابن مرزوق لا ابن رزاق وبيده من التسبب ما يتكفل بإمساك أرماق أين النسخ الذي يتبلغ الإنسان بأجرته في كن حجرته لا بل السؤال الذي لا عار عند الحاجة بمعرته السؤال والله أقوم طريقا وأكرم رفيقا من يد تمتد إلى حرام لا يقوم بمرام ولا يؤمن من ضرام أحرقت فيه الحلل وقلبت الأديان والملل وضربت الأبشار ونحرت العشار ولم يصل منه على يدي واسطة السوء المعشار ثم طلب عند الشدة ففضح وبان شؤمه ووضح اللهم طهر منها أيدينا وقلوبنا وبلغنا من الإنصراف إليك مطلوبنا وعرفنا بمن لا يعرف غيرك ولا يسترفد إلا خيرك يا ألله
وحقيق على الفضلاء إن جنح سيدي منها إلى إشارة أو أعمل في اجتلابها إضبارة أو لبس منها شارة أو تشوف لخدمة إمارة أن لا يحسنوا ظنونهم بعدها بابن ناس ولا يغتروا بسمة ولا خلق ولا لباس فما عدا عما بدا تقضىالعمر في سجن وقيد وعمرو وزيد وضر وكيد وطراد صيد وسعد وسعيد وعبد وعبيد فمتى تظهر الأفكار ويقر القرار وتلازم

الأذكار وتشام الأنوار وتستجلي الأسرار ثم يقع الشهود الذي يذهب معه الإخبار ثم يحق الوصول الذي إليه من كل ما سواه الفرار وعليه المدار
وحق الحق الذي ما سواه فباطل والفيض الرحماني الذي ربابه الأبد هاطل ما شابت مخاطبتي لك شائبة تريب ولقد محضت لك ما يمحضه الحبيب للحبيب فتحمل جفائي الذي حملت عليه الغيرة ولا تظن بي غيره وإن لم تعذرني مكاشفة سيادتك بهذا النث في الأسلوب الرث فالحق أقدم وبناؤه لايهدم وشأني معروف في مواجهة الجبابرة على حين يدي إلى رفدهم ممدودة ونفسي في النفوس المتهافتة عليهم معدودة وشبابي فاحم وعلى الشهوات مزاحم فكيف بي اليوم مع الشيب ونصح الجيب واستكشاف العيب إنما أنا اليوم على كل من عرفني كل ثقيل وسيف العدل في كفي صقيل أعذل أهل الهوى وليست النفوس في القبول سوا ولا لكل مرض دوا وقد شفيت صدري وإن جهلت قدري فاحملني حملك الله تعالى على الجادة الواضحة وسحب عليك ستر الأبوة الصالحة والسلام
انتهت الرسالة البديعة في بابها الآتية من الموعظة بلبابها ذات النصيحة الصريحة التي يتعين على كل عاقل خصوصا من يريد خدمة الملوك التمسك بأسبابها
تعليقات ابن مرزوق وابن لسان الدين على الرسالة
قلت وقد رأيت بخط الإمام العلامة الخطيب ابن مرزوق على هامش قول لسان الدين أول الكلام وأحسست منه في بعض كتبه إلى آخره ما صورته توهم ما لا يقع بل لما تجلت عني سحب النكبة والامتحان جزمت بالرحلة وعزمت على النقلة ونفرت عن خدمة السلطان وملازمة الأوطان قال ابن

مرزوق والعجب كل العجب أن جميع ما خاطبني به أبقاه الله تعالى تحلى به أجمع وابتلى بما منه حذر كأنه خاطب نفسه وأنذرها بما وقع له فالله تعالى يحسن له الخاتمة والخلاص انتهى
وكتب تحت كلام ابن مرزوق هذا بخطه ابن لسان الدين علي ما نصه صدق والله سيدي أبو عبد الله ابن مرزوق كان الله تعالى له قاله ولده ابن المؤلف انتهى
قلت وهذا الذي قاله ابن مرزوق كان في حياة ابن الخطيب ولذلك دعا له بالبقاء وبحسن الخاتمة والخلاص وقد أسفر الغيب عن محنته ثم قتله على الوجه الذي وصفه أثناء هذه الرسالة إذ قال وأما ضده من عدو يتحكم وينتقم وحوت بغي يبتلع ويلتقم ومطبق يحجب الهواء ويطيل في التراب الثواء وثعبان قيد يعض الساق وشؤبوب عذاب يمزق الأبشار الرقاق وغيلة يهديها الواقب الغاسق ويجرعها العدو الفاسق فصرف السوق وسلعته المعتادة الطروق مع الأفول والشروق فإنه رحمه الله تعالى حصل له ما ذكر ثم اغتاله ليلا وخنقه في محبسه عدوه الفاسق سليمان بن داود كما تقدمت الإشارة إلى ذلك فالله تعالى يثيبه بهذه الشهادة
مرثية المنجنيقي
وقد تذكرت هنا مرثية ابن صابر المنجنيقي وهي
( هل لمن يرتجي البقاء خلود ... وسوى الله كل شيء يبيد )
( والذي كان من تراب وإن عاش ... طويلا إلى التراب يعود )
( فمصير الأنام طرا لما صار ... إليه آباؤهم والجدود )
( أين حوا أن أين آدم إذ فاتهما ... الملك والثوا والخلود )

( أين هابيل أين قابيل إذ هذا ... لهذا معاند وحسود )
( أين نوح ومن نجا معه بالفلك ... والعالمون طرا فقيد )
( أسلمته الأيام كالطفل للموت ... ولم يغن عمره الممدود )
( أين عاد بل أين جنة عاد ... إرم أين صالح وثمود )
( أين إبراهيم الذي شاد بيت الله ... فهو المعظم المقصود )
( أين إسحاق أين يعقوب أم أين ... بنوه وعدهم والعديد )
( حسدوا يوسفا أخاهم فكادوه ... ومات الحساد والمحسود )
( وسليمان في النبوة والملك ... قضى مثلما قضى داود )
( ذهبا بعدما أطاع لذا الخلق ... وهذا له ألين الحديد )
( وابن عمران بعد آياته التسع ... وشق الخضم فهو صعيد )
( والمسيح ابن مريم وهو روح الله ... كادت تقضي عليه اليهود )
( وقضى سيد النبيين والهادي ... إلى الحق أحمد المحمود )
( وبنوه وآله الطاهرون الزهر ... صلى عليهم المعبود )
( ونجوم السماء منتثرات ... بعد حين وللهواء ركود )
( ولنار الدنيا التي توقد الصخر ... خمود وللمياه جمود )
( وكذا للثرى غداة يقوم الناس ... منها تزلزل وهمود )
( هذه الأمهات نار وترب ... وهواء رطب وماء برود )
( سوف تفنى كما فنينا فلا يبقى ... من الخلق والد ووليد )
( لا الشقي الغوي من نوب الأيام ... ينجو ولا السعيد الرشيد )
( ومتى سلت المنايا سيوفا ... فالموالي حصيدها والعبيد )
العبرة من مراث أخرى
وأما قصيدة ابن عبدون الأندلسي التي رثى بها بني الأفطس وذكر فيها

كثيرا من الملوك الذين أبادهم الدهر وطحنهم برحاه وصيرهم أثرا بعد عين ففيها ما يوقظ النوام وأولها
( الدهر يفجع بعد العين بالأثر ... فما البكاء على الأشباح والصور )
وبالجملة فالأمر كما قال ابن الهبارية
( الموت لا يبقي أحد ... ولا والدا ولا ولد )
( مات لبيد ولبد ... وخلد الفرد الصمد )
( كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ) اللهم اختم لنا بالحسنى وردنا إليك ردا جميلا
وتذكرت هنا أيضا مرثية على روي مرثية المنجنيقي السابقة منها
( أين أهل الديار من قوم نوح ... ثم عاد من بعدهم وثمود )
( بينما هم على الأسرة والأنماط ... أفضت إلى التراب الخدود )
( ثم لم ينقض الحديث ولكن ... بعد ذا الوعد كله والوعيد )
( وأطباء بعدهم لحقوهم ... ضل عنهم سعوطهم واللدود )
( وصحيح أضحى يعود مريضا ... وهو أدنى للموت ممن يعود )
وما أحكم قول السلطان أبي علي ابن السلطان أبي سعيد المريني يخاطب أخاه السلطان أبا الحسن وقد حصره بسجلماسة حتى أخذه قسرا
( فلا يغرنك الدهر الخئون فكم ... أباد من كان قبلي يا أبا الحسن )
( الدهر مذ كان لا يبقي على صفة ... لا بد من فرح فيه ومن حزن )
( أين الملوك التي كانت تهابهم ... أسد العرين ثووا في اللحد والكفن )
( بعد الأسرة والتيجان قد محيت ... رسومها وعفت عن كل ذي حسن )
( فاعمل لأخرى وكن بالله مؤتمرا ... واستعن بالله في سر وفي علن )

( واختر لنفسك أمرا أنت آمره ... كأنني لم أكن يوما ولم تكن )
ودخل السلطان أبو الحسن سجلماسة عنوة على أخيه السلطان أبي علي عمر سنة 734 وجاء به في الكبل لفاس ثم قتله بالفصد والخنق في ربيع الأول من السنة وكان القبض عليه في المحرم رحمه الله تعالى
ومما وجد مكتوبا على قصر بعض السلاطين
( قد كان صاحب هذا القصر مغتبطا ... في ظل عيش يخاف الناس من باسه )
( فبينما هو مسرور بلذته ... في مجلس اللهو مغبوط بجلاسة )
( إذ جاءه بغتة ما لا مرد له ... فخر ميتا وزال التاج عن راسه )
رجع إلى أخبار لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى قلت وقد زرت قبره مرارا رحمه الله تعالى بفاس المحروسة فوق باب المدينة الذي يقال له باب الشريعة وهو يسمى الآن باب المحروق وشاهدت موضع دفنه غير مستو مع الأرض بل ينزل إليه بانحدار كثير ويزعم الجل من عوام فاس أن الباب المذكور إنما سمي بباب المحروق لأجل ما وقع من حرق لسان الدين به حين أخرجه بعض أعدائه من حفرته كما مر وليس كذلك وإنما سمي باب المحروق في دولة الموحدين قبل أن يوجد لسان الدين ولا أبوه بسبب ثائر ثار على الدولة فأمسك وأحرق ذلك المحل والله غالب على أمره وحصل لي من الخشوع والحزن زيارة قبره رحمه الله تعالى ما لا مزيد عليه جعل الله له تلك المحن كفارة وطهره فإنه كان آية الله علما وجلالة وحكمة وشهرة
رسالة في العزاء بأبي جعفر ابن جبير
وقد تذكرت عند كتبي هذا المحل رسالة كتبها بعض أئمة المغرب في عزاء

الوزير الشهير أبي جعفر ابن جبير الأندلسي رحمه الله تعالى إلى بنيه وهي مما يصلح أن يوصف بمثلها لسان الدين رحمه الله تعالى وفيها عزاء بمن مضى ونصها
عزاء يا كواكب الهدى في بدركم الذي تحيفه الردى وفجع به الفضل والندى فقل لشهب أن تنكدر على فراقه وللصبح أن يخبو نور إشراقه وللريح أن تمزق صدارا وللأهلة أن لا تعرف إبدارا ولليل أن يشتمل خميصة الحزن وللسماء أن تبكيه بأدمع المزن وللرعد أن ينتحب لوفاته وللبرق أن يحكي برجفاته أفئدة عفاته وللثريا ينفصم سوارها وللشمس أن تنكسف أنوارها وللنثرة تنثر كواكبها وللجوزاء أن تنفض مناكبها وللنيرات أن ترفض مواكبها وللرامح أن يبيت أعزلا وللبدر أن لا يألف منزلا وللمجرة أن يفيض دمعا نهرها وللغميصاء أن يطرد بكاؤها وسهرها وللروض أن يفارق إمراعه وللأوراق أن يهتف بما راعه وللغصون أن تنهصر لهتفه وتتقصف أسفا على حتفه
ولكن هو الحمام يختل ويختر ولا يحفل بمن يتر يعدم ما أوجده الكون ويذيل من أكنفه الصون وأين بنا عن مكافح لا نقاتله ورام أرواحنا مقاتله لا يد به ناصرة وعزمته قاصرة للقياصرة ويمينه كاسرة للأكاسرة لم يبق من رسم لطسم ولا من إحسان لغسان ولا من أياد لإياد ولا من سلطان لقحطان ولا من نجيب لتجيب ولاشرف ضخم للخم لم يكن له عن اليمنيين إقصار ومنهم الأنصار وهم أسماع للنبي وأبصار وعمد إلى المصابيح من مضر يطفيها هذا والوحي يتنزل فيها ولم يصخ في الصديق إلىالتصديق وأصمى الفاروق برداه وحكم فيه أبا لؤلؤة ومداه وأمكن صرف الأقدار من شهيد الدار ولم يرع من علي بالبسالة والذبل العسالة ولا أبقى سبطيه وقد تفقأت عنهما بيضة الرسالة وأذهب الزبير حواري الرسول وحنظلة وهو بأيدي الملائكة مغسول وأفات ابن معاذ ولم

يحفل بفوته على أنه اهتز العرش لموته وأودى بحمزة ومقعده من النبوة مقعد الأبوة وشفى من عمار صدور الأسل وأردى مالكا بشربة من عسل ولم يعبأ بمضاء عمرو ولا بحلم معاوية ودهاء عمرو
فيا له من خطب مود بكل يابس ورطب يشرب ماء الأعمار ويجعل الأحداث منازل الأقمار ويلوك السوقة والأملاك ولا يبالي أيه لاك لا يقبل شفيعا ولا يغادر منحطا ولا رفيعا ها هو اعتمد نور علا فكسفه وطود حلم فنسفه وأعلق المجد في حباله وأقصد الفضل بنباله وفجع كنانة بسهم لم ينثل مثله من كنانة فيا طارق الأعين لقد بؤت بأنفس الأعلاق ويا ناعيه لقد نعيت باسق الأخلاق رويدا أسائلك عمن لم تضع لديه وسائلك أين سماحه وطلاقته أين كلفه بالحمد وعلاقته ما الذي ثنى عطفه من الارتياح أم أين عافيه من ذلك الإمتياح أم من يؤلف أمنية كما ألفت السحب أيدي الرياح
فيا هبة الحمد اطوي عرفك فما تنشق ويا ربة المجد أقصري طرفك فما تعشق ويا معشر عفاته كيف حييتم وقد علمتم بوفاته ويا زمر أماله صفرت أيديكم من إجماله ويا أخاير صحابه أين مواقع سحابه ويا بني ولائه من يتبوأ مقام علائه ويا منافسي شيمه من يجود بمثل ديمه ويا منازعي كرمه من يطيف المعتفين بمثل حرمه ويا حاسدي هممه من له كحفاظه وذممه
سيدي لقد أضاءت مساعيك وأشرقت وأغصت الحاسدين طرا وأشرقت وحسبهم أن لم ينتبهوا إلا إذا نمت ولا نطقوا إلا حين مت وليهن ملاك وصحبك أن أحيتك صنائعك وقد قضيت نحبك وإن حم فناؤك فقد أبقى الحياة الخالدة ثناؤك

( ردت صنائعه عليه حياته ... فكأنه من نشرها منشور )
( والناس مأتمهم عليه واحد ... في كل دار أنه وزفير )
سيدي أما تجيب صرخة لهفان أم عداك عن الجواب أنك فان سيدي من لآملك ببسط أناملك من للمرملات الضرائك بإرشادك من لقربائك بصلتك وحبائك من لأخيك بمواثق أواخيك لأبنائك بلطف أحبائك انفض شملهم وكان جميعا ونادوك لو نادوا منك سميعا هذاكبيرهم يدعوك فلا تجيبه وقد فت الأضلاع وجيبه يبكي عند تلك الرجام بأدمع سجام وقد ألهبت الزفرات حشاه وألح الدمع بجفنه حتى أعشاه والأصاغر ما لهم بعدك مفزع ورضيعهم تسلب به الأنفس رحمة وتنزع لا يدري ما جزع عليك فيجزع لشد ما أذابتهم وقدة الأوار حين عدموا منك كرم النجوى والجوار أف لدهر رماهم بالأجوار وتركهم أنجما مسلوبة الأنوار لا جرم أن يحزنوا عليك ويكترثوا فلقد تسلوا عنك ببعض ما ورثوا وما ورثتهم غير الحزن والبث وأمل في الحياة كالهباء المنبث كما تتلى محاسنك فاسمع طفقت عليك شؤون عيني تدمع أيا ضريحة كيف وجدت ريحه لقد أرج بك ذلك المعفر حتى ما ينافحه المسك الأذفر وكما ظفرت بوجوده فجد كل قبر بجوده ففيه سماء ثرة وغمام ونور انضم عليه منك كمام ولو علمت بمن بين جنبيك راقد لعلوت حتى تلوح في ذراك الفراقد ويا دافنيه كيف هلتم عليه الرغام أولم تنكروا على الشمس أن تغام هيهات لقد سمحتم بإقبار عف الشمائل طيب الأخبار وإلحاد من لا نزاع في فضله ولا إلحاد أي نفس تخذتم له التراب مستودعا فأضحى عرنين المكارم مجدعا
( فتى مثل نصب السيف من حيث جئته ... لنائبة نابتك فهو مضارب )
( فتى همه حمد على النأي رابح ... وإن بات عنه ماله وهو عازب )

أما وإن ازدحمت بمهلكه الأوصاب وفدح الرزء وجل المصاب حتى لا نألف التأساء فلقد سر الموت من حيث ساء خلفنا بدهر ما فيه غير مصائب ولا يبالي من أقصد سهمه الصائب فيا فقيد الندى ما كان أجدرك بالخلود وأخلقك ويا جواد عمره ما كان أقصر طلقك ثوى حين استوى وتوارى إذ ملأ الأفق أنوارا وكسف حين بلغ الكمال فكان كالغصن عندما اعتدل مال أو كالشهاب عندما استقام حار
( وكذاك عمر كواكب الأسحار ... )
هذه اليراعة التحفت بعده الضنى والصحف تطوي على جهالة وتحني وعهدي به إن امتطى راحته اليراع راع أو دبج الأوراق راق أو استدر طبعه السلسال سال وأي روض أراد راد ومتى أراغ الإنشاء أحسن إن شاء فحق للفؤاد أن يستعر بوقده وللمدامع أن تسيل دما على فقده بيد أنه الموت لا بد أن نرد مشرعه ونسيغ على شرق به جرعه فإنا زرع يحصده الذي ازدرعه وصبرا يا ذوي أرحامه وبنيه ومن مر في غلواء الوجد فالسلوان يثنيه وشحا على أجركم لا يذهب به الجزع ويفنيه والله يزلف الفقيد من رحمته ويدنيه ويقطفه زهر رضوانه ويجنيه وييسر لكم العزاء الأجمل برحمته ويسنيه والسلام انتهت
قطع زهدية
ويرحم الله القائل
( كل جمع إلى الشتات يصير ... أي صفو ما شابه تكدير )

( أنت في اللهو والأماني مقيم ... والمنايا في كل وقت تسير )
( والذي غره بلوغ الأماني ... بسراب وخلب مغرور )
( ويك يا نفس أخلصي إن ربي ... بالذي أخفت الصدور بصير )
ولا خفاء على ذوي الأحلام من الأعلام أن الدنيا أضغاث أحلام
( يندم المرء على ما فاته ... من لبانات إذا لم يقضها )
( وتراه فرحا مستبشرا ... بالتي أمضى كأن لم يمضها )
( إنها عندي كأحلام الكرى ... لقريب بعضها من بعضها )
وقال أبو منصور أسعد النحوي
( يجمع المرء ثم يترك ما يجمع ... من كسبه لغير شكور )
( ليس يحظى إلا بذكر جميل ... أو بعلم من بعده مأثور )
شيء من مواعظ ابن الجوزي
وقال الإمام الشهير أبوالفرج ابن الجوزي
( يا ساكن الدنيا تأهب ... وانتظر يوم الفراق )
( وأعد زادا للرحيل ... فسوف يحدى بالرفاق )
( وابك الذنوب بأدمع ... تنهل من سحب المآق )
( يا من أضاع زمانه ... أرضيت ما يفنى بباق )
وكان ابن الجوزي المذكور آية الله في كثرة التأليف والكتابة والوعظ

والحفظ وأقل من كان يحضر مجلسه عشرة آلاف وربما حضر عنده مائة ألف وقال في آخر عمره على المنبر كتبت بإصبعي هاتين ألفي مجلدة وتاب على يدي مائة ألف وأسلم علىيدي عشرون ألف يهودي ونصراني وأسمع رحمه الله تعالى الناس أكثر من أربعين سنة وحدث بمصنفاته مرارا
وقال الحافظ الذهبي في حقه الحافظ الكبير الواعظ المفتن صاحب التصانيف الكثيرة الشهيرة في العلوم المتعددة وعظ من صغره وفاق فيه الأقران ونظم الشعر المليح وكتب بخطه ما لا يوصف ورأى من القبول والإحترام ما لا مزيد عليه وحزر مجلسه غير مرة بمائة ألف وحضر مجلسه المستضيء مرارا من وراء الستر انتهى
ومن كلامه في بعض مجالسه والله ما اجتمع لأحد أمله إلا وسعى في تفريقه أجله وعقارب المنايا تلسع الناس وخدران جسم الأمل يمنع الإحساس
وقال في قوله أعمار أمتي من الستين إلى السبعين إنما طالت أعمار القدماء لطول البادية فلما شارفت الركب بلد الإقامة قيل حثوا المطي
وقال في الذين عبدوا العجل لو أن الله خار لهم ما خار لهم
وقال يوما وقد طرب أهل المجلس فهمتم فهمتم
وقال في خلافة أبي بكر رضي الله عنه بعد أن ذكر أحاديث تدل على خلافته كقوله مروا أبا بكر فليصل بالناس وغيره ما صورته فهذه أحاديث تجري مجرى النص فهمها الخصوص غير أن الرافضة في إخفائها كاللصوص فقال السائل لما قال أقيلوني ما سمعنا مثل جواب علي رضي الله عنه والله لا أقلناك فقال لما غاب علي عن البيعة في الأول أخلف ما فات بالمدح في المستقبل ليعلم السامع والرائي أن بيعة أبي بكر وإن كانت من ورائي فهي رائي ومثل ذلك الصدر لا يرائي
وقال في قول فرعون ( أليس لي ملك مصر ) الزخرف 51 يفتخر

بما أجراه ما أجراه
وتواجد رجل في مجلسه فقل عجبا كلنا في إنشاد الضالة سوا فلم وجدت وحدك ألم الجوى وأنشد
( قد كتمت الحب حتى شفني ... وإذا ما كتم الداء قتل )
( بين عينيك علالات الكرى ... فدع النوم لربات الحجل )
ونظر يوما إلى أقوام يبكون في مجلسه ويتواجدون فأنشد
( ولو لم يهجني الظاعنون لهاجني ... حمائم ورق في الديار وقوع )
( تداعين فاستبكين من كان ذا هوى ... نوائح لم تقطر لهن دموع )
( وكيف أطيق العاذلين وذكرهم ... يؤرقني والعاذلون هجوع )
وقام رجل وتواجد فأنشد
( وما زال يشكو الشوق حتى كأنما ... تنفس من أحشائه وتكلما )
( ويبكي فأبكى رحمة لبكائه ... إذا ما بكى دمعا بكيت له دما )
وأعجبه يوما كلامه فأنشد
( تزدحم الألفاظ والمعاني ... على فؤادي وعلى لساني )
( تجري بي الأفكار في ميدان ... أزاحم النجم على مكان )
ووعظ المستضيء يوما فقال يا أمير المؤمنين إن تكلمت خفت منك وإن سكت خفت عليك فأنا أقدم خوفي عليك على خوفي منك لمحبتي لدوام أيامك وإن قول القائل اتق الله خير من قول القائل أنتم أهل بيت معفور لكم وقال الحسن البصري لأن تصحب أقواما يخوفونك حتى تبلغ المأمن

خير لك من ان تصحب أقواما يؤمنونك حتى تبلغ المخاوف وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول إذا بلغني عن عامل ظالم أنه قد ظلم الرعية ولم أغيره فأنا الظالم يا أمير المؤمنين كان يوسف عليه السلام لا يشبع في زمان القحط لئلا ينسى الجياع وكان عمر رضي الله عنه يصر بطنه عام الرمادة فيقول قرقري إن شئت أو لا تقرقري فوالله لا شبعت والمسلمون جياع فتصدق الخليفة المستضيء بصدقات كثيرة وأطلق من في السجن
وقال رحمه الله تعالى لبعض الولاة اذكر عدل الله فيك وعند العقوبة قدرة الله عليك وإياك أن تشفي غيظك بسقم دينك
وقال الطاعة تبسط اللسان والمعاصي تذل الإنسان
وقال له قائل ما نمت البارحة من شوقي إلى المجلس فقال نعم لأنك تريد أن تتفرج وإنما ينبغي أن لا تنام الليلة لأجل ما سمعت فيه
وقيل له إن فلان أوصى عند الموت فقال طين سطوحه في كانون
وقال له قائل أسبح أم أستغفر فقال الثياب الوسخة أحوج إلى الصابون من البخور
وسأله سائل ما الذي وقر في قلب أبي بكر رضي الله عنه فقال قوله ليلة المعراج إن كان قال فلقد صدق فله السبق
ولما قال له بعضهم سيف علي نزل من السماء فسعفة أبي بكر أين أجابه بقوله إن سعفة هزت يوم الردة فأثمرت سبيا جاء منه مثل ابن الحنفية لأمضى من سيوف الهند ثم قال يا عجبا للروافض إذا مات لهم ميت تركوا معه سعفة من أين ذا المصطلح
وسئل عن معنى قوله من أراد أن ينظر إلى ميت يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى أبي بكر فقال الميت يقسم ماله ويكفن وأبو بكر أخرج ماله كله وتخلل بالعباء
وقال في قوله تعالى ( ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا ) الأعراف 43

قال علي إني والله لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم ثم قال أبو الفرج إذا اصطلح أهل الحرب فما بال النظارة
وقال قال جبريل لرسول الله سلم على عائشة ولم يواجهها بالخطاب احتراما لزوجها وواجه مريم لأنها لم يكن لها زوج فمن يحترمها جبريل كيف يجوز في حقها الأباطيل
قال أبو شامة وكان ابن الجوزي رحمه الله تعالى مبتلى بالكلام في مثل هذه الأشياء لكثرة الروافض ببغداد وتعنتهم بالسؤالات فيها فكان بصيرا بالخروج منها لحسن إشارته
وانقطع القراء يوما عن مجلسه فأنشد
( وما الحلي إلا زينة لنقيصة ... يثمم من حسن إذا الحسن قصرا )
( وأما إذا كان الجمال موفرا ... كحسنك لم يحتج إلى أن يزورا )
وقيل له لم تعلل موسى عليه السلام بسوف تراني فأنشد
( إن لم يكن وصل لديك لنا ... يشفي الصبابة فليكن وعد )
ولما ذكر أن بلالا رضي الله عنه لما منع الطواف بالبيت كان يقف من بعيد وينظر إليه ويبكي أنشد
( أمر على منازلهم وإني ... بمن أضحى بها صب مشرق )
( وأومي بالتحية من بعيد ... كما يومي بإصبعه الغريق )
ومن شعر أبي الفرج رحمه الله تعالى
( لعبت ومثلك لا يلعب ... وقد ذهب الأطيب الأطيب )
( وقد كنت في ظلمات الشباب ... فلما أضاء انجلى الغيهب )
( ألا أين أقرانك الراحلون ... لقد لاح إذ ذهبوا المذهب )

ولنقتصر على هذا المقدار ونرجع إلى أحوال لسان الدين رحمه الله تعالى وارتحاله والاعتبار بحاله فنقول
ومما يناسب أن نذكره في هذا المحل ونثبته فيه ما حكاه العالم العلامة بلدينا سيدي أبو الفضل ابن الإمام التلمساني رحمه الله تعالى جدي الإمام قاضي القضاة سيدي أبي عبد الله المقري التلمساني رحمه الله تعالى أحد أشياخ لسان الدين كما يأتي إن شاء الله ذلك في محله قال كنت مع ذي الوزارتين أبي عبد الله ابن الخطيب في جامع إلبيرة من الأندلس إذ مر بنا الاعتبار في تلك الآثار فأنشد ابن الخطيب ارتجالا
( أقمنا برهة ثم ارتحلنا ... كذاك الدهر حال بعد حال )
( وكل بداية فإلى انتهاء ... وكل إقامة فإلى ارتحال )
( ومن سام الزمان دوام حال ... فقد وقف الرجاء على المحال ) انتهى
وحكى لسان الدين في الإحاطة عن نفسه أنه خطط هذه الأبيات في مرحلة نزلها رحمه الله تعالى حسبما يأتي ذلك في شعره
وما أحسن قوله رحمه الله تعالى
( لبسنا فلم نبل الزمان وابلانا ... يتابع أخرانا على الغي أولانا )
( ونغتر بالآمال والعمر ينقضي ... فما كان بالرجعي إلىالله أولانا )
( وماذا عسى أن ينظر الدهر من عسا ... فما انقاد للزجر الحثيث ولا لانا )
( جزينا صنيع الله شر جزائه ... فلم نرع ما من سابق الفضل أولانا )
( فيا رب عاملنا بما أنت أهله ... من العفو واجبر صدعنا أنت مولانا )

وقد حكى غير واحد أنه رحمه الله تعالى ريء بعد موته في المنام فقال له الرائي ما فعل الله بك فقال غفر لي ببيتين قلتهما وهما
( يا مصطفى من قبل نشأة آدم ... والكون لم تفتح له أغلاق )
( أيروم مخلوق ثناءك بعدما ... أثنى على أخلاقك الخلاق )
وقد كرر رحمه الله تعالى هذا المعنى في قصيدة في حقه وشرف وكرم ومجد وعظم وبارك وأنعم وهو قوله
( مدحتك آيات الكتاب فما عسى ... يثني على علياك نظم مديحي )
( وإذا كتاب الله أثنى مفصحا ... كان القصور قصار كل فصيح )
وستأتي هذه القصيدة في نظمه إن شاء الله تعالى
وقد رأيت بالمغرب تخميسا للبيتين الأولين منسوبا للأديب الشهير الذكر بالمغرب أبي عبد الله محمد بن جابر الغساني المكناسي رحمه الله تعالى ولا بأس أن نورده هنا وهو قوله رحمه الله تعالى
( يا سائلا لضريح خير العالم ... ينهي إليه مقام صب هائم )
( بالله ناد وقل مقالة عالم ... يا مصطفى من قبل نشأة آدم )
( والكون لم تفتح له أغلاق ... )
( بثناك قد شهدت ملائكة السما ... والله قد صلى عليك وسلما )
( يا مجتبى ومعظما ومكرما ... أيروم مخلوق ثناءك بعدما )
( أثنى على أخلاقك الخلاق ... )

وما احسن قول لسان الدين رحمه الله تعالى بعدما عرف بنفسه وسلفه وكأني بالحي ممن ذكر قد التحق بالميت وبالقبر قد استبدل من البيت
وقال رحمه الله تعالى بعد إيراد جملة من نظمه ما صورته وقلت والبقاء لله وحده وبه يختم الهدر
( عد عن كيت وكيت ... ما عليها غير ميت )
( كيف ترجى حالة البقيا ... لمصباح وزيت )
وسيأتي ذلك ولقد صدق رحمه الله تعالى ورقى درجته في الجنة
تحقيق في نسبة بيتين
وأما البيتان الشائعان على ألسنة أهل المشرق والمغرب وأنهما قيلا في لسان الدين رحمه الله تعالى وبعضهم ينسبهما له نفسه فالصحيح خلاف ذلك كما سيأتي وهما
( قف كي ترى مغرب شمس والضحى ... بين صلاة العصر والمغرب )
( واسترحم الله قتيلا بها ... كان إمام العصر في المغرب )
وشرح بعضم البيتين فقال إن قوله قتيلا بها من باب الاستخدام أي قتيلا بشمس الضحى التي هي المنغزل فيها
قد رأيت وأنا بالمغرب بخط الشيخ الأغصاوي أنهما لم يعن بهما قائلهما لسان الدين ابن الخطيب وإنما هما مقولان في غيره ونسبهما ونسيت الآن ذلك لطول العهد والله أعلم
ويدل على ذلك أنه رحمه الله تعالى لم يقتل بين صلاة العصر والمغرب

وإنما قتل في جوف الليل كما علم في محله على أنه يمكن بتكليف تأويل ذلك بأنه قامت لقائلهما قرينة على أنه بصدد الموت في ذلك الوقت وهذا لو ثبت أنهما قيلا فيه وقد علمت أن الأغصاوي نفى ذلك فالله أعلم بحقيقة الأمر في ذلك
ثم رأيت في كتاب إسماعيل بن الأحمر في ترجمة بعض العلماء ما نصه فمن قوله يرثي الأمراء بالمغرب وقد حل رمسه بين صلاة العصر والمغرب
( قف كي ترى مغرب شمس العلا ... بين صلاة العصر والمغرب )
( واسترحم الله دفينا به ... كان مليك العصر في المغرب )
وهذا مما يبعد أنهما في لسان الدين من وجوه لا تخفى على المتأمل منها قوله كان مليك العصر فإن لسان الدين لم يكن كذلك وقد تقدم آنفا كان إمام العصر في المغرب وهو أحسن لما فيه من التورية البديعة والله أعلم
ثلاث قصائد لابن زمرك
رجع إلى أخبار لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى وقد عرض عدوه الرئيس ابن زمرك في بعض قصائده التي مدح بها سلطانه الغني بالله أبا عبد الله ابن نصر بما تسنى له من الظفر بابن الخطيب ومن حماه منه وهو الوزير ابن الكاس على يد من عينه لملك المغرب وأعانه بجند وعضده كما تقدم وهو السلطان أحمد المريني فقال من قصيدة عيدية
( يهني زمانك أعياد مجددة ... من الفتوح مع الأيام تغشاه )
( غضبت للدين والدنيا بحقهما ... يا حبذا غضب في الله أرضاه )
( فوقت للغرب سهما راشه قدر ... وسدد الله للأعداء مرماه )

( سهم أصاب وراميه بذي سلم ... لقد رمى الغرض الأقصى فأصماه )
( من كان بندك يا مولاي يقدمه ... فليس يخلفه فتح ترجاه )
( من كان جندك جند الله ينصره ... أناله الله ما يرجو وسناه )
( ملكته غربه خلدت من ملك ... للغرب والشرق منه ما تمناه )
( وسام أعداءك الأشقين ما كسبوا ... ومن تردى رداء الغدر أرداه )
( قل للذي رمدت جهلا بصيرته ... فلم تر الشمس شمس الهدى عيناه )
( غطى الهوى عقله حتى إذا ظهرت ... له المراشد أعشاه وأعماه )
( هل عنده وذنوب الغدر توبقه ... أن الذي قد كساه العز أعراه )
( لو كان يشكر ما أوليت من نعم ... ما زلت ملجأه الأحمى ومنجاه )
( سل السعود وخل البيض مغمدة ... فالسيف مهما مضى فالسعد أقصاه )
( واشرع من البرق نصلا راع مصلته ... وارفع من الصبح بندا راق مجلاه )
( فالعدوتان وما قد ضم ملكهما ... أنصار ملكك صان الله علياه )
( لا أوحش الله قطرا أنت مالكه ... وآنس الله بالألطاف مغناه )
( لا أظلم الله أفقا أنت نيره ... لا أهمل الله سرحا أنت ترعاه )
( واهنأ بشهر صيام جاء زائره ... مستنزلا من إله العرش رحماه )
( أهل بالسعد فانهلت به منن ... وأوسع الصنع إجمالا ووفاه )
( أما ترى بركات الأرض شاملة ... وأنعم الله قد عمت براياه )
( وعادك العيد تستحلي موارده ... ويجزل الأجر والرحمى مصلاه )
( جهزت جيش دعاء فيه ترفعه ... لذي المعارج والإخلاص رقاه )
( أفضت فيه من النعماء أجزلها ... وأشرف البر بالإحسان زكاه )
( واليت للخلق ما أوليت من نعم ... والى لك الله ما أولى ووالاه )

وأول هذه القصيدة
( هذي العوالم لفظ أنت معناه ... كل يقول إذا استنطقته الله )
( بحر الوجود وفلك الكون جارية ... وباسمك الله مجراه ومرساه )
( من نور وجهك ضاء الكون أجمعه ... حتى تشيد بالأفلاك مبناه )
( عرش وفرش وأملاك مسخرة ... وكلها ساجد لله مولاه )
( سبحان من أوجد الأشياء من عدم ... وأوسع الكون قبل الكون نعماه )
( من ينسب النور للأفلاك قلت له ... من أين أطلعت الأنوار لولاه )
( مولاي مولاي بحر الجود أغرقني ... والخلق أجمع في ذا البحر قد تاهوا )
( فالفلك تجري كما الأفلاك جارية ... بحر السماء وبحر الأرض أشباه )
( وكلهم نعم للخلق شاملة ... تبارك الله لا تحصى عطاياه )
( يا فاتق الرتق من هذا الوجود كما ... في سابق العلم قد خطت قضاياه )
( كن لي كماكنت لي إذ كنت لا عمل ... أرجو ولا ذنب قد أذنبت أخشاه )
( وأنت في حضرات القدس تنقلني ... حتى استقر بهذا الكون مثواه )
( ما أقبح العبد أن ينسى وتذكره ... وأنت باللطف والإحسان ترعاه )
( غفرانك الله من جهل بليت به ... فمن أفاد وجودي كيف أنساه )
( مني علي حجاب لست أرفعه ... إلا بتوفيق هدى منك ترضاه )
( فعد علي بما عودت من كرم ... فأنت أكرم من أملت رحماه )
( ثم الصلاة صلاة الله دائمة ... على الذي باسمه في الذكر سماه )
( المجتبي وزناد النور ما قدحت ... ولا ذكا من نسيم الروض مسراه )
( والمصطفى وكمام الكون ما فتقت ... عن زهر زهر يروق العين مرآه )
( ولا تفجر نهر للنهار على ... در الدراري فغطاه وأخفاه )
( يا فاتح الرسل أو يا ختمها شرفا ... والله قدس في الحالين معناه )

( لم أدخر غير حب فيك أرفعه ... وسيلة لكريم يوم ألقاه )
( صلى عليك إله أنت صفوته ... ما طيبت بلذيذ الذكر أفواه )
( وعم بالروح والريحان صحبته ... وجادهم من نمير العفو أصفاه )
( وخص أنصاره الأعلين صفوته ... وأسكنوا من جوار الله أعلاه )
( أنصار ملته أعلام بيعته ... مناقب شرفت أثنى بها الله )
( وأيد الله من أحيا جهادهم ... وواصل الفخر أخراه بأولاه )
( المنتقى من صميم الفخر جوهره ... ما بين نصر وأنصار تهاداه )
( العلم والحلم والإفضال شيمته ... والبأس والجود بعض من سجاياه ) وهي طويلة ولنقتصر منها على ما ذكر
وقد صرح ابن زمرك المذكور في قصيدة أخرى مدح بها سلطانه الغني بالله وهنأه بفتح المغرب على يد السلطان أحمد وذكر فيها ظفره بالوزير ابن الكاس وهو أعني ابن الكاس كان القائم بنصرة لسان الدين والمانع له والمجير له منهم حين طلبوه منه فلما لم يخفر ذمته تمكنت كما سبق أسباب العداوة وجر ذلك أن أغرى السلطان أحمد على تملك فاس واشترطوا عليه كما مر القبض على لسان الدين وإرساله إليهم وقد نقلت أنا هذه القصيدة من تأليف لحفيد السلطان الغني بالله ونص محل الحاجة منه ومن ذلك أيضا قوله يعني ابن زمرك هناء لمولانا الجد رحمه الله تعالى بالفتح المغربي للسلطان أبي العباس ابن السلطان أبي سالم المريني
( هي نفحة هبت من الأنصار ... أهدتك فتح ممالك الأمصار )
( في بشرها وبشارة الدنيا بها ... مستمتع الأسماع والأبصار )
( هبت على قطر الجهاد فروضت ... أرجاءه بالنفحة المعطار )

( وسرت وأمر الله طي برودها ... يهدي البرية صنع لطف الباري )
( مرت بأدواح المنابر فانبرت ... خطباؤها مفتنة الأطيار )
( حنت معارجها إلى أعشارها ... لما سمعن بها حنين عشار )
( لو أنصفتك لكللت أدواحها ... تلك البشائر يانع الأزهار )
( فتح الفتوح أتاك في حلل الرضى ... بعجائب الأزمان والأعصار )
( فتح الفتوح جنيت من أفنانه ... ما شئت من نصر ومن أنصار )
( كم آية لك في السعود جلية ... خلدت منها عبرة استبصار )
( كم حكمة لك في النفوس خفية ... خفيت مداركها عن الأفكار )
( كم من أمير أم بابك فانثنى ... يدعى الخليفة دعوة الإكبار )
( أعطيت أحمد راية منصورة ... بركاتها تسري من الأنصار )
( أركبته في المنشآت كأنما ... جهزته في وجهه لمزار )
( من كل خافقة الشراع مصفق ... منها الجناح تطير كل مطار )
( ألقت بأيدي الريح فضل عنانها ... فتكاد تسبق لمحة الأبصار )
( مثل الجياد تدافعت وتسابقت ... من طافح الأمواج في مضمار )
( لله منها في المجاز سوابح ... وقفت عليك الفخر وهي جواري )
( لما قصدت بها مراسي سبتة ... عطفت على الأسوار عطف سوار )
( لما رأت من صبح عزمك غرة ... محقوقة بأشعة الأنوار )
( ورأت جبينا دونه شمس الضحى ... لبتك بالإجلال والإكبار )
( فأفضت فيها من نداك مواهبا ... حسنت مواقعها على التكرار )
( ورأيت أهل الغرب عزم مغرب ... قد ساعدته غرائب الأقدار )
( وخطبت من فاس الجديد عقيلة ... لبتك طوع تسرع وبدار )
( ما صدقوا متن الحديث بفتحها ... حتى رأوه في متون شفار )
( وتسمعوا الأخبار باستفتاحها ... والخبر قد أغنى عن الأخبار )
( قولوا لقرد في الوزارة غره ... حلم مننت به على مقدار )

( أسكنته من فاس جنة ملكها ... متنعما منها بدار قرار )
( حتى إذا كفر الصنيعة وازدرى ... بحقوقها ألحقته بالنار )
( جرعت نجل الكأس كأسا مرة ... دست إليه الحتف في الإسكار )
( كفر الذي أوليته من نعمة ... لا تأنس النعماء بالكفار )
( فطرحته طرح النواة فلم يفز ... من عز مغربه بغير فرار )
( لم يتفق لخليفة مثل الذي ... أعطى الإله خليفة الأنصار )
( لم أدر والأيام ذات عجائب ... تردادها يحلو على التذكار )
( ألواء صبح في ثنية مشرق ... أم راية في جحفل جرار )
( وشهاب أفق أم سنان لامع ... ينقض نجما في سماء غبار )
( ومناقب المولى الإمام محمد ... قد أشرقت أم هن زهر دراري )
( فاق الملوك بهمة علوية ... من دونها نجم السماء الساري )
( لو صافح الكف الخضيب بكفه ... فخرت بنهر للمجرة جاري )
( والشهب تطمع في مطالع أفقها ... لو أحرزت منه منيع جوار )
( سل بالمشارق صحبها عن وجهه ... يفتر منه عن جبين نهار )
( سل بالغمائم صوبها عن كفه ... تنبيك عن بحر بها زخار )
( سل بالبروق صفاحها عن عزمه ... تخبرك عن أمضى شبا وغرار )
( قد أحرز الشيم الخطيرة عندما ... أمطى العزائم صهوة الأخطار )
( إن يلق ذو الإجرام صفحة صفحة ... فسح القبول له خطا الأعمار )
( يا من إذا هبت نواسم حمده ... أزرت بعرف الروضة المعطار )
( يا من إذا افترت مباسم بشره ... وهب النفوس وعاث في الإقتار )
( يا من إذا طلعت شموس سعوده ... تعشي أشعتها قوى الأبصار )
( قسما بوجهك في الضياء وإنه ... شمس تمد الشمس بالأنوار )
( قسما بعزمك في المضاء فإنه ... سيف تجرده يد الأقدار )

( لسماح كفك كلما استوهبته ... يزري بغيث الديمة المدرار )
( لله حضرتك العلية لم تزل ... يلقي الغريب بها عصا التسيار )
( كم من طريد نازح قذفت به ... أيدي النوى في القفر رهن سفار )
( بلغته ما شاء من آماله ... فسلا عن الأوطان بالأوطار )
( صيرت بالإحسان دارك داره ... متعت بالحسنى وعقبى الدار )
( والخلق تعلم أنك الغوث الذي ... يضفي عليها وافي الأستار )
( كم دعوة لك في المحول مجابة ... أغرت جفون المزن باستعبار )
( جادت مجاري الدمع من قطر الندى ... فرعى الربيع لها حقوق الجار )
( فأعاد وجه الأرض طلقا مشرقا ... متضاحكا بمباسم النوار )
( يا من مآثره وفضل جهاده ... تحدى القطار بها إلى الأقطار )
( حطت البلاد ومن حوته ثغورها ... وكفى بسعدك حاميا لذمار )
( فلرب بكر للفتوح خطبتها ... بالمشرفية والقنا الخطار )
( وعقيلة للكفر لما رعتها ... أخرست من ناقوسها المهذار )
( أذهبت من صفح الوجود كيانها ... ومحوتها إلا من التذكار )
( عمروا بها جنات عدن زخرفت ... ثم انثنوا عنها ديار بوار )
( صبحت منها روضة مطلولة ... فأعدتها للحين موقد نار )
( واسود وجه الكفر من خزي متى ... ما احمر وجه الأبيض البتار )
( ولرب روض للقنا متأود ... ناب الصهيل به عن الأطيار )
( مهما حكت زهر الأسنة زهره ... حكت السيوف معاطف الأنهار )
( متوقد لهب الحديد بجوه ... تصلى به الأعداء لفح أوار )
( فبكل ملتفت صقال مشهر ... قداح زند للحفيظة واري )
( في كف أروع فوق نهد سابح ... متموج الأعطاف في الإحضار )
( من كل منخفر بلمحة بارق ... حمل السلاح به على طيار )
( من أشهب كالصبح يطلع غرة ... في مستهل العسكر الجرار )

( أو أدهم كالليل إلا انه ... لم يرض بالجوزاء حلي عذار )
( أو أحمر كالجمر يذكي شعلة ... وقد ارتمى من بأسه بشرار )
( أو أشقر حلي الجمال أديمه ... وكساه من زهو جلال نضار )
( أو أشعل راق العيون كأنه ... غلس يخالط سدفة بنهار )
( شهب وشقر في الطراد كأنها ... روض تفتح عن شقيق بهار )
( عودتها أن ليس تقرب منهلا ... حتى يخالط بالدم الموار )
( يا أيها الملك الذي أيامه ... غرر تلوح بأوجه الأعصار )
( يهني لواءك أن جدك زاحف ... بلواء خير الخلق للكفار )
( لا غرو أن فقت الملوك سيادة ... إذ كان جدك سيد الأنصار )
( السابقون الأولون إلى الهدى ... والمصطفون لنصرة المختار )
( متهللون إذا النزيل عراهم ... سفروا له عن أوجه الأقمار )
( من كل وضاح الجبين إذا احتبى ... تلقاه معصوبا بتاج فخار )
( قد لاث صبحا فوق بدر بعدما ... لبس المكارم وارتدى بوقار )
( فاسأل ببدر عن مواقف بأسهم ... فهم تلافوا أمره ببدار )
( لهم العوالي عن معالي فخرها ... نقل الرواة عوالي الأخبار )
( وإذا كتاب الله يتلو حمدهم ... أودى القصور بمنة الأشعار )
( يا ابن الذين إذا تذوكر فخرهم ... فخروا بطيب أرومة ونجار )
( حقا لقد أوضحت من آثارهم ... لما أخذت لدينهم بالثار )
( أصبحت وارث مجدهم وفخارهم ... ومشرف الأعصار والأمصار )
( يا صادرا في الفتح عن ورد المنى ... رد ناجح الإيراد والإصدار )
( واهنأ بفتح جاء يشتمل الرضى ... جذلان يرفل في حلى استبشار )
( وإليكها ملء العيون وسامة ... حيتك بالأبكار من أفكاري )
( تجري حداة العيس طيب حديثها ... يتعللون به عل الأكوار )
( إن مسهم لفح الهجير أبلهم ... منه نسيم ثنائك المعطار )

( وتميل من اصغى لها فكأنني ... عاطيته منها كؤوس عقار )
( قذفت بحور الفكر منها جوهرا ... لما وصفت أناملا ببحار )
( لا زلت للإسلام سترا كلما ... أم الحجيج البيت ذا الأستار )
( وبقيت يا بدر الهدى تجري بما ... شاءت علاك سوابق الأقدار )
انتهت
ولابن زمرك السابق قصيدة أخرى قالها بعد موت لسان الدين ابن الخطيب وخلع السلطان أبي العباس أحمد بن أبي سالم الذي قتل ابن الخطيب في دولته وكان سلطان الأندلس موئلا للسلطان أحمد المذكور ولذلك امتعض لرده لملكه فقال ابن زمرك وزير صاحب الأندلس بعد ابن الخطيب هذه القصيدة يمدح بها سلطانه أثناء وجهته لتجديد الدولة الأحمدية المذكورة صدر عام تسعة وثمانين وسبعمائة
( هب النسيم على الرياض مع السحر ... فاستيقظت في الدوح أجفان الزهر )
( ورمى القضيب دراهما من نوره ... فاعتاض من طل الغمام بها درر )
( نثر الأزاهر بعدما نظم الندى ... يا حسن ما نظم النسيم وما نثر )
( قم هاتها والجو أزهر باسم ... شمسا تحل من الزجاجة في قمر )
( إن شجها بالماء كف مديرها ... ترميه من شهب الحباب بها شرر )
( نارية نورية من ضوئها ... يقد السراج لنا إذا الليل اعتكر )
( لم يبق منها الدهر إلا صبغة ... قد أرعشت في الكأس من ضعف الكبر )
( من عهد كسرى لم يفض ختامها ... إذ كان يدخر كنزها فيما دخر )
( كانت مذاب التبر فيما قد مضى ... فأحالها ذوب اللجين لمن نظر )
( جدد بها عرس الصبوح فإنها ... بكر تحييها الكرام مع البكر )

( وابلل بها رمق الأصيل عشية ... والشمس من وعد الغروب على خطر )
( محمرة مصفرة قد أظهرت ... خجل المريب يشوبه وجل الحذر )
( من كف شفاف تجسد نوره ... من جوهر لألاء بهجته بهر )
( تهوي البدور كماله وتود أن ... لو أوتيت منه المحاسن والغرر )
( قد خط نون عذاره في خده ... قلمان من آس هنالك ومن شعر )
( والى عليك بها الكؤوس وربما ... يسقيك من كأس الفتور إذا فتر )
( سكر الندامى من يديه ولحظه ... متعاقب مهما سقى وإذا نظر )
( حيث الهديل مع الهدير تناغيا ... فالطير تنشد في الغصون بلا وتر )
( والقضب مالت للعناق كأنها ... وفد الأحبة قادمين من السفر )
( متلاعبات في الحلي ينوب في ... وجناتهن الوردحسنا عن خفر )
( والنرجس المطلول يرنو نحوها ... بلواحظ دمع الندى مهما انهمر )
( والنهر مصقول الحسام متى يرد ... درع الغدير مصفقا فيه صدر )
( يجري على الحصباء وهي جواهر ... متكسرا من فوقها مهما عثر )
( هل هذه أم روضة البشرى التي ... فيها لأرباب البصائر معتبر )
( لم أدر من شغف بها وبهذه ... من منهما فتن القلوب ومن سحر )
( جاءت بها الأجفان ملء ضلوعها ... ملء الخواطر والمسامع والبصر )
( ومسافر في البحر ملء عنانه ... وافى مع الفتح المبين على قدر )
( قادته نحوك بالحطام كأنه ... جمل يساق إلى القياد وقد نفر )
( وأراه دين الله عزة أهله ... بك يا أعف القادرين إذا قدر )
( يا فخر أندلس وعصمة أهلها ... للناس سر في اختصاصك قد ظهر )
( كم معضل من دائها عالجته ... فشفيت منه بالبدار وبالبدر )
( ماذا عسى يصف البليغ خليفة ... والله ما أيامه إلا غرر )

( ورثت هذا الفخر يا ملك الهدى ... من كل من آوى النبي ومن نصر )
( من شاء يعرف فخرهم وكمالهم ... فليتل وحي الله فيهم والسير )
( أبناؤهم أبناء نصر بعدهم ... بسيوفهم دين الإله قد انتصر )
( مولاي سعدك والصباح تشابها ... وكلاهما في الخافقين قد اشتهر )
( هذا وزير الغرب عبد آبق ... لم يلف غيرك في الشدائد من وزر )
( كفر الذي أوليته من نعمة ... والله قد حتم العذاب لمن كفر )
( إن لم يمت بالسيف مات بغيظه ... وصلى سعيرا للتأسف والفكر )
( ركب الفرار مطيه ينجو بها ... فجرت به حتى استقر على سقر )
( وكذا أبوه وكان منه حمامه ... قد حم وهو من الحياة على غرر )
( بلغته والله أكبر شاهد ... ما شاء من وطن يعز ومن وطر )
( حتى إذا جحد الذي أوليته ... لم تبق منه الحادثات ولم تذر )
( في حاله والله أعظم عبرة ... لله عبد في القضاء قد اعتبر )
( فاصبر تنل أمثالها في مثله ... إن العواقب في الأمور لمن صبر )
( رد حيث شئت مسوغا ورد المنى ... فالله حسبك في الورود وفي الصدر )
( لا زلت محروسا بعين كلاءة ... ما دام عين الشمس تعشي من نظر )
ومنها وقد أضاف إليه من التغزل طوع بداره وحجة اقتداره فقال
( والعود في كف النديم بسر ما ... تلقي لنا منه الأنامل قد جهر )
( غنى عليه الطير وهو بدوحه ... والآن غنى فوقه ظبي أغر )
( عود ثوى حجر القضيب رعى له ... أيام كانا في الرياض مع الشجر )
( لا سيما لما رأى من ثغره ... زهرا وأين الزهر من تلك الدرر )
( ويظن أن عذاره من آسه ... ويظن تفاح الخدود من الثمر )
( يسبي القلوب بلفظه وبلحظه ... وافتنتي بين التكلم والنظر )
( قد قيدته لأنسنا أوتاره ... كالظبي قيد في الكناس إذا نفر )

( لم يبل قلبي قبل سمع غنائه ... بمعذر سلب العقول وما اعتذر )
( جس القلوب بجسه أوتاره ... حتى كأن قلوبنا بين الوتر )
( نمت لنا ألحانه بجميع ما ... قد أودعت فيه القلوب من الفكر )
( يا صامتا والعود تحت بنانه ... يغنيك نطق الخبر فيه عن الخبر )
( أغنى غناؤك عن مدامك يا ترى ... هل من لحاظك أم بنانك ذا السكر )
( باحت أناملك اللدان بكل ما ... كان المتيم في هواه قد ستر )
( ومقاتل ما سل غير لحاظه ... والرمح هز من القوام إذا خطر )
( دانت له منا القلوب بطاعة ... والسيف يملك ربه مهما قهر )
وسنلم إن شاء الله تعالى بترجمة ابن زمرك هذا في باب التلامذة ونشير هناك إلى كثير من أحواله وكيفية قتله مع أولاده وخدمه بمرأى ومسمع من أهله فكان الجزاء من جنس العمل وخاب منه الأمل إذ لسان الدين قتل غيلة بليل غاسق على يد مختلس في السجن فاسق وأما ابن زمرك فقتل بالسيف جهارا وتناوشته سيوف مخدومه بين بناته إبداء للتشفي وإظهارا وقتل معه من وجد من خدمه وأبناه وأبعده الدهر وطالما أدناه وهكذا الحال في خدام الدول وذوي الملك أنهم أقرب شيء من الهلك ويرحم الله من قال إياك وخدمة الملوك فإنهم يستقلون في العقاب ضرب الرقاب ويستكثرون في الثواب رد الجواب انتهى
رجع إلى ما كنا فيه من أحوال لسان الدين ابن الخطيب وكان رحمه الله تعالى قبيل موته لما توفي السلطان أبو فارس عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن المريني بتلمسان وتغلب على الأمر الوزير أبو بكر ابن غازي بن الكاس مبايعا لابن صغير السن من أولاد السلطان عبد العزيز ألف كتابه المسمى بأعمال الأعلام بمن بويع من ملوك الإسلام قبل الاحتلام ومراده بذلك تثبيت دولة الوزير الذي أبى أن يخفر عهده وذمته وامتنع أن يمكن منه أهل الأندلس فأكثروا

القالة في الوزير بسبب مبايعته للصبي وبنوا ظاهر الأمر على أن ذلك لا يجوز بالشرع وأبدأوا وأعادوا في ذلك وأسروا ما كان من أمرهم حسوا في ارتغاء ومن جملة كلام لسان الدين ابن الخطيب في ذلك الكتاب قوله فمتى نبس أهل الأندلس بإنكار بيعة صبي أو نيابة صاحب أو وزير فقد عموا وصموا بربع الإنصاف فأعرضوا وما ألموا وبما سنوه لغيرهم ذموا انتهى
وكان رحمه الله تعالى ألف للسلطان عبد العزيز حين انحيازه إليه المباخر الطيبية في المفاخر الخطيبية يذكر فيه نباهة سلفه وما لهم من المجد وقصده الرد على أهل الأندلس المجاهرين له بالعداوة القادحين في فخر سلفه ثم ألف للسلطان المذكور كتاب خلع الرسن في التعريف بأحوال ابن الحسن لكونه تولى كبر الحط منه والسعي في هلاكه كما مر وقال في حق هذا الكتاب إنه لا شيء فوقه في الظرف والاستطراف يسلي التكالي ونستغفر الله تعالى انتهى
ومع هذا كله لما أنشبت المنية أظفارها لم تنفعه مما كتب تميمة ونال ما أمل فيه أهل السعاية والنميمة وسجلوا عليه المقالات الذميمة وقد صار الجميع إلى حكم عدل قادر يحيى من العظم رميمه وينصف المظلوم من الظالم ويجازي الجاهل والعالم ويساوي بين المأمور والآمر والشريف والمشروف والعزيز والحقير والمنكر والمعروف وعفوه سبحانه مؤمل بعد وهو لا يخلف الوعد ومن سبقت له العناية لم تضره الجناية
وقد كان لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى محبا في العفو حتى إنه كان إذا جرى لديه ذكر عقوبة الملوك لأتباعهم تشمئز نفسه من ذلك ويقول ما معناه ما ضرهم لو عفوا ورأيت له رحمه الله تعالى في بعض مؤلفاته وقد أجرى ذكر استعطاف ذي الوزارتين أبي بكر ابن عمار للسلطان المعتمد بن عباد حين قبض عليه بقوله

( سجاياك إن عافيت أندى واسمح ... وعذرك إن عاقبت أولى وأوضح )
( وإن كان بين الخطتين مزية ... فأنت من الأدنى إلى الله أجنح )
( وماذا عسى الأعداء أن يتزيدوا ... سوى أن ذنبي ثابت ومصحح )
( وإن رجائي أن عندك غير ما ... يخوض عدوي اليوم فيه ويمرح )
( أقلني بما بيني وبينك من رضى ... له نحو روح الله باب مفتح )
( ولا تلتفت قول الوشاة وزورهم ... فكل إناء بالذي فيه يرشح )
( وقالوا سيجزيه فلان بذنبه ... فقلت وقد يعفو فلان ويصفح )
( ألا إن بطشا للمؤيد يرتمي ... ولكن حلما للمؤيد يرجح )
( وبين ضلوعي من هواه تميمة ... ستشفع لو أن الحمام يجلح )
( سلام عليه كيف دار به الهوى ... إلي فيدنو أو علي فينزح )
( ويهنيه إن رمت السلو فإنني ... أموت ولي شوق إليه مبرح )
ما نصه ولابن عمار كلمات شهيرة تعالج بمراهمها جراح القلوب وتعفي عن هضبات الذنوب لولا ما فرغ عنه من القدر المكتوب والأجل المحسوب إلى أن قال وما كان أجمل بالمعتمد أن يبقي على جان من عبيده قد مكنه الله من عنقه لا يؤمل الحصول على أمره ولا يحذر تعصب قبيله ولا يزيده العفو عنه إلا ترفعا وعزة وجلالة وهمة وذكرا جميلا وأجرا جزيلا فلا شيء أمحى للسيئة من الحسنة ولا أقتل للشر من الخير ورحم الله الشاعر إذ يقول
( وطعنتهم بالمكرمات وباللها ... في حيث لو طعن القنا لتكسرا )
وقد تذكرت هنا قول الأديب أبي عبد الله محمد بن أحمد التجاني رحمه الله تعالى ورضي عنه
( أتعجب أن حطت يد الدهر فاضلا ... عن الرتبة العليا فأصبح تحتها )

( أما هذه الأشجار تحمل أكلها ... وتسقط منه كل ما طاب وانتهى )
نكبة أبي جعفر ابن عطية
وحكى غير واحد من مؤرخي الأندلس أن الكاتب الشهير الوزير أبا جعفر ابن عطية القضاعي لما تغير له عبد المؤمن وتذاكر مع بعض من أهل العلم أبيات ابن عمار السابقة قال ما كان المعتمد إلا قاسي القلب حيث لم تعطفه هذه الأبيات إلى العفو ووقع لابن عطية المذكور مثل قضية ابن عمار واستعطف فما نفع ذلك وقتل رحمه الله تعالى ولنلم بذلك فنقول
كان أبو جعفر هذا من أهل مراكش وأصله القديم من طرطوشة ثم بعد من دانية وهو ممن كتب عن علي بن يوسف بن تاشفين أمير لمتونة وعن ابنيه تاشفين واسحاق ثم استخلصه لنفسه سالب ملكهم عبد المؤمن بن علي وأسند إليه وزارته فنهض بأعبائها وتحبب إلى الناس بإجمال السعي والإحسان فعمت صنائعه وفشا معروفه وكان محمود السيرة مبخت المحاولات ناجح المساعي سعيد المآخذ ميسر المآرب وكانت وزارته زينا للوقت وكمالا للدولة وفي أيام توجهه للأندلس وجد حساده السبيل إلى التدبير عليه والسعي به حتى أوغروا صدر الخليفة عبد المؤمن عليه فاستوزر عبد السلام بن محمد الكومي وانبرى لمطالبة ابن عطية وجد في التماس عورارته وتشنيع سقطاته وطرحت بمجلس السلطان أبيات منها
( قل للإمام أطال الله مدته ... قولا تبين لذي لب حقائقه )
( إن الزراجين قوم قد وترتهم ... وطالب الثأر لم تؤمن بوائقه )

وللوزير إلى آرائهم ميل ... لذاك ما كثرت فيهم علائقه )
( فبادر الحزم في إطفاء نارهم ... فربما عاق عن أمر عوائقه )
( هم العدو ومن والاهم كهم ... فاحذر عدوك واحذر من يصادفه )
( الله يعلم أني ناصح لكم ... والحق أبلج لا تخفى طرائفه )
قالوا ولما وقف عبد المؤمن على هذه الأبيات البليغة في معناها وغر صدره على وزيره أبي جعفر وأسر له في نفسه تغيرا فكان من أقوى الأسباب نكبته
وقيل أفضى إليه بسر فأفشاه وانتهى ذلك كله إلى أبي جعفر وهو بالأندلس فقلق وعجل الانصراف إلى مراكش فحجب عند قدومه ثم قيد إلى المسجد في اليوم بعده حاسر العمامة واستحضر الناس على طبقاتهم وقرروا على ما يعلمون من أمره وما صار إليه منهم فأجاب كل بما اقتضاه هواه وأمر بسجنه ولف معه أخوه أبو عقيل عطية وتوجه في إثر ذلك عبد المؤمن إلى زيارة تربة المهدي محمد بن تومرت فاستصحبهما منكوبين بحال ثقاف وصدرت عن أبي جعفر في هذه الحركة من لطائف الأدب نظما ونثرا في سبيل التوسل بتربة إمامهم المهدي عجائب لم تجد شيئا مع نفوذ قدر الله تعالى فيه ولما انصرف من وجهته أعادهما معه قافلا إلى مراكش فلما حاذى تاقمرت أنفذ الأمر بقتلهما بالشعراء المتصلة بالحصن على مقربة من الملاحة هنالك فمضيا لسبيلهما رحمهما الله تعالى
ومما خاطب به الخليفة عبد المؤمن مستعطفا له من رسالة تغالى فيه فغالته المنية ولم ينل الأمنية وهذه سنة الله تعالى فيمن لم يحترم جناب الألوهية ولم يحرس لسانه من الوقوع فيما يخدش في وجه فضل الأنبياء على غيرهم وعصمتهم قوله سامحه الله
تالله لو أحاطت بي كل خطيئة ولم تنفك نفسي عن الخيرات بطيئة حتى سخرت بمن في الوجود وأنفت لآدم من السجود وقلت إن الله تعالى

لم يوح في الفلك لنوح وبريت لقدار ثمود نبلا وأبرمت لحطب نار الخليل حبلا وحططت عن يونس شجرة اليقطين وأوقدت مع هامان على الطين وقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وافتريت على العذراء البتول فقذفتها وكتبت صحيفة القطيعة بدار الندوة وظاهرت الأحزاب بالقصوى من العدوة وذممت كل قريش وأكرمت لأجل وحشي كل حبشي وقلت إن بيعة السقيفة لا توجب إمامة خليفة وشحذت شفرة غلام المغيرة بن شعبة واعتلقت من حصار الدار وقتل أشمطها بشعبة وقلت تقاتلوا رغبة في الأبيض والأصفر وسفكوا الدماء على الثريد الأعفر وغادرت الوجه من الهامة خضيبا وناولت من قرع سن الحسين قضيبا ثم أتيت حضرة المعلوم لائذا وبقبر الإمام المهدي عائذا لقد آن لمقالتي أن تسمع وتغفر لي هذه الخطيئات أجمع مع أني مقترف وبالذنب معترف
( فعفوا أمير المؤمنين فمن لنا ... برد قلوب هدها الخفقان )
وكتب مع ابن له صغير آخره
( عطفا علينا أمير المؤمنين فقد ... بان العزاء لفرط البث والحزن )
( قد أغرقتنا ذنوب كلها لجج ... وعطفة منكم أنجى من السفن )
( وصادفتنا سهام كلها غرض ... ورحمة منكم أوقى من الجنن )
( هيهات للخطب أن تسطو حوادثه ... بمن أجارته رحماكم من المحن )
( من جاء عندكم يسعى على ثقة ... بنصره لم يخف بطشا من الزمن )
( فالثوب يطهر عند الغسل من درن ... والطرف ينهض بعد الركض في سنن )
( أنتم بذلتم حياة الخلق كلهم ... من دون من عليهم لا ولا ثمن )
( ونحن من بعض من أحيت مكارمكم ... كلتا الحياتين من نفس ومن بدن )
( وصبية كفراخ الورق من صغر ... لم يألفوا النوح في فرع ولا فنن )

( قد أوجدتهم أياد منك سابقة ... والكل لولاك لم يوجد ولم يكن )
فوقع عبد المؤمن على هذه القصيدة ( الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ) يونس91
ومما كتب به من السجن
( أنوح على نفسي أم أنتظر الصفحا ... فقد آن أن تنسى الذنوب وأن تمحى )
( فها أنا في ليل من السخط حائر ... ولاأهتدي حتى أرى للرضى صبحا )
وامتحن عبد المؤمن الشعراء بهجو ابن عطية فلما أسمعوه ما قالوا أعرض عنهم وقال ذهب ابن عطية الأدب معه
وكان لأبي جعفر أخ اسمه عطية قتل معه ولعطية هذا ابن أديب كاتب وهو أبو طالب عقيل ابن عطية ومن نظمه في رجل تعشق قينة كانت ورثت من مولاها مالا فكانت تنفق عليه منه فلما فرغ المال ملها
( لا تلحه أن مل من حبها ... فلم يكن ذلك من ود )
( لما رآها قد صفا مالها ... قال صفا الوجد مع الوجد )
وكان أبو جعفر ابن عطية من أبلغ أهل زمانه وقد حكى أنه مر مع الخليفة عبد المؤمن ببعض طرق مراكش فأطلت من شباك جارية بارعة الجمال فقال عبد المؤمن
( قدت فؤادي من الشباك إذ نظرت ... )
فقال الوزير ابن عطية مجيزا له
( حوراء ترنو إلى العشاق بالمقل ... )
فقال عبد المؤمن
( كأنما لحظها في قلب عاشقها ... )

فقال ابن عطية
( سيف المؤيد عبد المؤمن بن علي ... )
ولا خفاء أن هذه طبقة عالية
ومن فصول رسالته التي كتب بها عن أبي حفص وهي التي أورثته الرتبة العلية السنية والوزارة الموحدية المؤمنية قوله
كتابنا هذا من وادي ماسة بعد ما تجدد من امر الله الكريم ونصر الله تعالى المعهود المعلوم ( وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم ) آل عمران 126 فتح بهر الأنوار إشراقا وأحدق بنفوس المؤمنين إحداقا ونبه للأماني النائمة جفونا وأحداقا واستغرق غاية الشكر استغراقا فلا تطيق الألسن لكنه إدراكا ولا لحاقا جمع أشتات الطلب والأرب وتقلب في النعم أكرم وملأ دلاء الأمل إلى عقد الكرب
( فتح تفتح أبواب السماء له ... وتبرز الأرض في أثوابها القشب )
وتقدمت بشارتنا به جملة حين لم تعط الحال بشرحه مهلة كان أولئك الضالون المرتدون قد بطروا عدوانا وظلما واقتطعوا الكفر معنى واسما وأملى لهم الله تعالى ليزدادوا إثما وكان مقدمهم الشقي قد استمال النفوس بخزعبلاته واستهوى القلوب بمهولاته ونصب له الشيطان من حبالاته فأتته المخاطبات من بعد وكثب ونسلت إليه الرسل من كل حدب واعتقدته الخواطر أعجب عجب وكان الذي قادهم إلى ذلك وأوردهم تلك المهالك وصول من كان بتلك السواحل ممن ارتسم برسم الانقطاع عن الناس فيما سلف من الأعوام واشتغل على زعمه بالقيام والصيام آناء الليالي والأيام لبسوا الناموس أثوابا وتدرعوا الرياء جلبابا فلم يفتح الله تعالى لهم للتوفيق بابا

ومنها في ذكر صاحبهم الماسي المدعي للهداية فصرع بحمد الله تعالى لحينه وبادرت إليه بوادر منونه وأتته وافدات الخطيئات عن يساره ويمينه وقد كان يدعي أنه بشر بأن المنية في هذه الأعوام لا تصيبه والنوائب لا تنوبه ويقول في سواه قولا كثيرا ويختلق على الله تعالى إفكا وزورا فلما رأوا هيئة اضطجاعه وما خطته الأسنة في أعضائه وأضلاعه ونفذ فيه من أمر الله تعالى ما لم يقدروا على استرجاعه هزم من كان لهم من الأحزاب وتساقطوا على وجوههم تساقط الذباب وأعطوا عن بكرة أبيهم صفحات الرقاب ولم تقطر كلومهم إلا على الأعقاب فامتلأت تلك الجهات بأجسادهم وآذنت الآجال بانقراض آمادهم وأخذهم الله تعالى بكفرهم وفسادهم فلم يعاين منهم إلا من خر صريعا وسقى الأرض نجيعا ولقي من أمر الهنديات فظيعا ودعت الضرورة باقيهم إلى الترامي في الوادي فمن كان يؤمل الفرار ويرتجيه ويسح طامعا في الخروج إلى ما ينجيه اختطفته الأسنة اختطافا وأذاقته موتا ذعافا ومن لج في الترامي على لججه ورام البقاء في ثبجه قضى عليه شرقه وألوى بذقنه غرقه ودخل الموحدون إلى البقية الكائنة فيه ينتاولون قتالهم طعنا وضربا ويلقونهم بأمر الله تعالى هولا عظيما وكربا حتى انبسطت مراقات الدماء على صفحات الماء وحكت حمرتها على زرقته حمرة الشفق على زرقة السماء وجرت العبرة للمعتبر في جري ذلك الدم جري الأبحر
وبالجملة فالرجل كان نسيج وحده رحمه الله تعالى وسامحه وقضية لسان الدين تشبه قضيته وكلاهما قد ذاق من الذل بعد العز غصته وبدل الدهر نصيبه من الوزارة وحصته بعد أن اقتعد ذروة الأمر ومنصته رحم الله تعالى الجميع إنه مجيب سميع

الباب الثالث
في ذكر مشايخه الجلة هداة الناس ونجوم الملة وما يتعلق بذلك من الأخبار الشافية من العلة والمواعظ المنجية من الأهواء المضلة والمناسبات الواضحة البراهين والأدلة
أقول لا خفاء أن الشيخ لسان الدين رحمه الله تعالى أخذ عن جماعة من أهل العدوة والأندلس عدة فنون وحدث عنهم ما يصدق الأقوال ويحقق الظنون
1 - فمن أشياخه رحمه الله تعالى الفقيه الجليل الشريف النبيه الشهير رئيس العلوم اللسانية بالأندلس قاضي الجماعة أبو القاسم محمد بن أحمد بن محمد الحسني السبتي رحمه الله تعالى كان هذا الشريف آية الله الباهرة في العربية والبيان والأدب ويكفيه فضلا أنه شرح الخزرجية وافترع هضاب مشكلاتها بفهمه من غير أن يسبقه أحد إلى استخراج كنوزها وإيضاح رموزها وشرح مقصورة أديب المغرب الإمام أبي الحسن حازم بن محمد القرطاجني الأندلسي التي مدح بها أمير المؤمنين المستنصر بالله أبا عبد الله محمدا الحفصي وسمى هذا الشرح برفع الحجب المستورة عن محاسن المقصورة وهذا

الشرح في مجلدين كبيرين وفيه من الفوائد ما لا مزيد عليه رأيته بالمغرب واستفدت منه كثيرا
ومن فوائد الشريف المذكور أنه قال فيما جاء من الحديث في صفة وضوء رسول الله فأقبل بهما وأدبر إن أحسن الوجوه في تأوليه أن يكون قدم الإقبال تفاؤلا ثم فسر بعد ذلك على معنى أدبر وأقبل قال والعرب تقدم في كلامها ألفاظا على ألفاظ أخرى وتلتزمه في بعض المواضع كقولهم قام وقعد ولا تقول قعد وقام وكذلك أكل وشرب ودخل وخرج وعلى هذا النمط كلام العرب فتكون هذه المسألة من هذا قال ويؤيد ما قلناه وهو موضع النكتة تفسيره لأقبل وأدبر في باقي الحديث على معنى أدبر ثم أقبل ولو كان اللفظ على ظاهره لم يحتج إلى تفسير انتهى
وحدث رحمه الله تعالى عن جده لأمه قال كنت بالمشرق فدخلت على بعض القرائين فألفيت الطلبة يعربون عليه قول امرئ القيس
( كأن أبانا في أفانين ودقه ... كبير أناس في بجاد مزمل )
فأنشد ولا أدري هل هي له أو لغيره
( إذا ما الليالي جاورتك بساقط ... وقدرك مرفوع فعنه ترحل )
( ألم تر ما لاقاه في جنب جاره ... كبير أناس في بجاد مزمل )
وكان بعض الناس ينشد في هذا المقصد قول الآخر
( عليك بأرباب الصدور فمن غدا ... مضافا لأرباب الصدور تصدرا )

( وإياك أن ترضى بصحبة ساقط ... فتنحط قدرا من علاك وتحقرا )
( فرفع أبو من ثم خفض مزمل ... يبين قولي مغريا ومحذرا )
وهذا معنى قول الشاعر
( إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم ... ولا تصحب الأردى فتردى مع الردى )
وما أحسن قول أبي بحر صفوان بن إدريس المرسي رحمه الله تعالى
( إنا إلى الله من أناس ... قد خلعوا لبسة الوقار )
( جاورتهم فانخفضت هونا ... يا رب خفض على الجوار )
ومن نظم الشريف رحمه الله تعالى
( وأحور زان خديه عذار ... سبى الألباب منظره العجاب )
( أقول لهم وقد عابوا غرامي ... به إذ لاح للدمع انسكاب )
( أبعد كتاب عارضه يرجى ... خلاص لي وقد سبق الكتاب )
ومن الغريب في توارد الخواطر ما وجد بخط الأديب البارع المحدث الكاتب أبي عبد الله محمد ابن الشيخ الكبير أبي القاسم ابن جزي الكلبي رحمهما الله تعالى وسيأتيان ما معناه قلت هذه القطعة
( ومعسول اللمى عادت عذابا ... على قلبي ثناياه العذاب )
( وقد كتب العذار بوجنتيه ... كتابا حظ قارئه اكتئاب )
( وقالوا لو سلوت فقلت خيرا ... وأنى لي وقد سبق الكتاب )
ثم عرضتها على شيخنا القاضي أبي القاسم الشريف بعد نظمها بمدة يسيرة فقال لي قد نظمت هذا المعنى بالعروض والقافية في هذه الأيام اليسيرة وأنشدني
( وأحور زان خديه عذار ... ) الأبيات السابقة

وهذا يقع كثيرا ومنه ما وقع لابن الرقام حيث قال من شعر عمي قوله
( جل في البلاد تنل عزا وتكرمة ... في أي أرض فكن تبلغ مناك بها )
( جل الفوائد بالأسفار مكتسب ... والله قد قال ( فامشوا في مناكبها ) )
فقال له الفقيه ابن حذلم مثل هذا وقع لأبي حيان إذ قال
( يا نفس ما لك تهوين الإقامة في ... أرض تعذر كل من مناك بها )
( أما تلوت وعجز المرء منقصة ... في محكم الوحي ( فامشوا في مناكبها ) )
فحصل العجب من هذا الاتفاق الغريب
ونقلت ممن نقل من خط الفقيه محمد بن علي بن الصباغ العقيلي ما صورته كان الشريف الغرناطي رحمه الله تعالى آية زمانه وأزمة البيان طوع بنانه له شرح المقصود القرطاجنية أغرب ما تتحلى به الآذان وأبدع ما ينشرح له الجنان إلى العقل الذي لا يدرك والفضل الذي حمد منه المسلك حدثني بنادرة جرت بينه وبين مولاي الوالد من أثق به من طلبة الأندلس وأعلامها قال دخل والدك يوما لأداء الشهادة عنده فوجد بين يديه جماعة من الغزاة يؤدون شهادة فسمع القاضي منهم وقال لهم هل ثم من يعرفكم فقالوا نعم يعرفنا علي الصباغ فقال القاضي أتعرفهم يا أبا الحسن فقال له نعم يا سيدي معرفة محمد بن يزيد فما أنكر عليه شيئا بل قال لهم عرف الفقيه أبو الحسن ما عنده فانظروا من يعرف معه رسم حالكم فانصرفوا راضين ولم يرتهن والدي في شيء من حالهم ولا كشف القاضي لهم ستر القضية
قال محمد بن علي بن الصباغ أما قول والدي معرفة محمد بن يزيد فإشارة إلى قول الشاعر

( أسائل عن ثمالة كل حي ... فكلهم يقول وما ثماله )
( فقلت محمد بن يزيد منهم ... فقالوا الآن زدت بهم جهالة )
فتفطن القاضي رحمه الله تعالى لجودة ذكائه إلىأنه لم يرتهن في شيء من معرفتهم ممتنعا من إظهار ذلك بلفظه الصريح فكنى واكتفى بذكاء القاضي الصحيح رحمهما الله تعالى انتهى
ومن فوائد الشريف ما حكاه عنه تلميذه الإمام النظار أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله تعالى ونصه قال لي الشيخ القاضي الكبير الشهير أبو القاسم الحسني يوما وقد جرى ذكر حتى التي للابتداء وأن معناها التي يقع بعدها الكلام سواء كان ذلك متعلقا بما قبلها لم يتم دونه أو لا بل لا يكون الأمر إلا كذلك قال وقد حدثني بعض الأصحاب أنه سمع رجلا يصلي أشفاع رمضان فقرأ من سورة الكهف إلى قوله تعالى ( ثم أتبع سببا ) الكهف 89 فوقف هنالك وركع وسجد قال فظننت أنه نسي ما بعد ثم ركع وسجد حتى يتذكر بعد ذلك ويعيد أول الكلام فلما قام من السجود ابتدأ القراءة بقوله ( حتى إذا بلغ ) الكهف 90 فلما أتم الصلاة قلت له في ذلك فقال أليست حتى الإبتدائية قال القاضي الشريف المذكور فيجب أن يفهم أن الاصطلاح في حتى وفي غيرها من حروف الابتداء ما ذكر انتهى
وقال الشاطبي أنشدني أبو محمد ابن حذلم لنفسه
( شأن المحبين في أشجانهم عجب ... وحالتي بينهم في الحب أعجبها )
( قد كنت أبعث من ريح الصبا رسلا ... تأتي فتطفىء أشواقي فتذهبها )
( والآن أرسل دمعي إثرها ديما ... فتلتظى نار وجدي حين أسكبها )
( فاعجب لنار اشتياق في الحشا وقفت ... ألريح تذهبها والماء يلهبها )

ثم قال الشاطبي ما نصه أخذ هذا المعنى فتممه من قطعة أنشدناها شيخنا القاضي أبو القاسم الشريف رحمة الله تعالى عليه أذكر الآن آخر بيت منها وهو
( يا من رأى النار إن تطفأ مخالفة ... فبالرياح وإن توقد فبالماء )
وأخذ عن الشريف المذكور رحمه الله تعالى جماعة غير لسان الدين من أشهرهم العلامة النظار أبو إسحاق الشاطبي والوزير الكاتب أبو عبد الله ابن زمرك
قال حفيد السلطان الغني بالله بن الأحمر رحمه الله تعالى في حق ابن زمرك إنه كان يتردد في الأعوام العديدة إلى قاضي الجماعة أبي القاسم الشريف فأحسن الإصغاء وبذ الأئمة البلغاء بما أوجب أن رثاه عند الوقوف على قبره بالقصيدة الفريدة التي أولها
( أغرى سراة الحي بالإطراق ... )
وقال في موضع آخر ومما بذ به يعني ابن زمرك سبقا وتبريزا وعرضه على نقدة البيان فرأت منه كل مذهبة خلصت إبريزا مرثيته للقاضي المعظم الشريف أبي القاسم الحسني من شيوخه وهي
( أغرى سراة الحي بالإطراق ... نبأ أصم مسامع الآفاق )
( أمسى به ليل الحوادث داجيا ... والصبح أصبح كاسف الإشراق )
( فجمع الجميع بواحد جمعت له ... شتى العلا ومكارم الأخلاق )
( هبوا لحكمكم الرصين فإنه ... صرف القضاء فما له من واق )
( نقش الزمان بصرفه في صفحة ... كل اجتماع مؤذن بفراق )
( ماذا ترجى من زمانك بعدما ... علق الفناء بأنفس الأعلاق )

( من تحسد السبع الطباق علاءه ... عالوا عليه من الثرى بطباق )
( إن المنايا للبرايا غاية ... سبق الكرام لخصلها بسباق )
( لما حسبنا أن تحول أبؤسا ... كشفت عوان حروبها عن ساق )
( ما كان إلا البدر طال سراره ... حتى رمته يد الردى بمحاق )
( أنف المقام مع الفناء نزاهة ... فنوى الرحيل إلى مقام باق )
( عدم الموافق في مرافقة الدنا ... فنضى الركاب إلى الرفيق الباقي )
( أسفا على ذاك الجلال تقلصت ... أفياؤه وعهدن خير رواق )
( يا آمري بالصبر عيل تصبري ... دعني عدتك لواعج الأشواق )
( وذر اليراع تشي بدمع مدادها ... وشي القريض يروق في الأوراق )
( واحسرتا للعلم أقفر ربعه ... والعدل جرد أجمل الأطواق )
( ركدت رياح المعلوات لفقدها ... كسدت به الآداب بعد نفاق )
( كم من غوامض قد صدعت بفهمها ... خفيت مداركها على الحذاق )
( كم قاعد في البيد بعد قعوده ... قعدت به الآمال دون لحاق )
( لمن الركائب بعد بعدك تنتضي ... ما بين شام ترتمي وعراق )
( تفلى الفلا بمناسم مفلولة ... تسم الحصى بنجيعها الرقراق )
( كانت إذا اشتكت الوجى وتوقفت ... يهفو نسيم ثنائك الخفاق )
( فإذا تنسمت الثناء أمامها ... مدت لها الأعناق في الإعناق )
( يا مزجي البدن القلاص خوافقا ... رفقا بها فالسعي في إخفاق )
( مات الذي ورث العلا عن معشر ... ورثوا تراث المجد باستحقاق )
( رفعت لهم رايات كل جلالة ... فتميزوا في حلبة السباق )

( علم الهداة وقطب أعلام النهى ... حرم العفاة المجتنى الأرزاق )
( رقت سجاياه وراقت مجتلى ... كالشمس في بعد وفي إشراق )
( كالزهر في لألائه والبدر في ... عليائه والزهر في الإبراق )
( مهما مدحت سواه قيد وصفه ... وصفاته حمد على الإطلاق )
( يا وارثا نسب النبوة جامعا ... في العلم والأخلاق والأعراق )
( يا ابن الرسول وإنها لوسيلة ... يرقى بها أوج المصاعد راقي )
( ورد الكتاب بفضلكم وكمالكم ... فكفى ثناء الواحد الخلاق )
( مولاي إني في علاك مقصر ... قد ضاق عن حصر النجوم نطاقي )
( ومن الذي يحصي مناقب مجدكم ... عد الحصى والرمل غير مطاق )
( يهني قبورا زرتها فلقد ثوت ... منا مصون جوانح وحداق )
( خط الردى منها سطورا نصها ... لا بد أنك للفناء ملاق )
( ولحقت ترجمة الكتاب وصدره ... وفوائد المكتوب في الإلحاق )
( كم من سراة في القبور كأنهم ... في بطنها در ثوى بحقاق )
( قل للسحاب اسحب ذيولك نحوه ... والعب بصارم برقك الخفاق )
( أودى الذي غيث العباد بكفه ... يزري بواكف غيثك الغيداق )
( إن كان صوبك بالمياه فدرها ... در يروض ماحل الإملاق )
( بشر كثير قد نعوا لما نعى ... قاضي القضاة وغاب في الأطباق )
( ألبستهم ثوب الكرامة ضافيا ... وأرحت من كد ومن إرهاق )
( يتفيأون ظلال جاهك كلما ... لفحت سموم الخطب بالإحراق )
( عدموا المرافق في فراقك وانطوى ... عنهم بساط الرفق والإرفاق )
( رفعوا سريرك خافضين رؤوسهم ... مامنهم إلا حليف سياق )

( لكن مصيرك للنعيم مخلدا ... كان الذي أبقى على الأرماق )
( ومن العجائب أن يرى بحر الندى ... طود الهدى يسري في الأعناق )
( إن يحملوك على الكواهل طالما ... قد كنت محمولا على الأحداق )
( أو يرفعوك على العواتق طالما ... رفعت ظهر منابر وعتاق )
( ولئن رحلت إلى الجنان فإننا ... نصلى بنار الوجد والأشواق )
( لو كنت تشهد حزن من خلفته ... لثنى عنانك كثرة الإشفاق )
( إن جن ليل جن من فرط الأسى ... وسوى كلامك ما له من راق )
( فابعث خيالك في الكرى يبعث به ... ميت السرور لثاكل مشتاق )
( أغليت يا رزء التصبر مثلما ... أرخصت در الدمع في الآماق )
( إن يخلف الأرض الغمام فإنني ... أسقي الضريح بدمعي المهراق )
وكانت وفاة الشريف المذكور سنة إحدى وستين وسبعمائة
قال ابن الخطيب القسمطيني في وفياته وفي هذه السنة يعني سنة 761 توفي شيخنا قاضي الجماعة بغرناطة حرسها الله تعالى أبو القاسم محمد بن أحمد الشريف الحسني وكتب لي بالإجازة العامة بعد التمتع بمجلسه وله شعر مدون سماه جهد المقل وله الشرح على الخزرجية في العروض وأقدم عليها بعد أن عجز الناس عن فكها وكان إماما في الحديث والفقه والنحو وهو على

الجملة ممن يحصل الفخر بلقائه ولم يكن أحد بعده مثله بالندلس انتهى
وقال في الإحاطة إن مولد الشريف كان سنة سبع وتسعين وستمائة وإن وفاته سنة ستين وسبعمائة وفي وفاته مخالفة لما تقدم والله أعلم
وما أحسن قول الشريف أبي القاسم المترجم به
( حدائق أنبتت فيها الغوادي ... ضروب النور رائقة البهاء )
( فما يبدو بها النعمان إلا ... نسبناه إلى ماء السماء )
ابنا الشريف
وكان للشريف أبي القاسم المذكور ابنان نجيبان أحدهما قاضي الجماعة أبو المعالي والآخر أبو العباس أحمد قال الراعي في كتابه الفتح المنير في بعض ما يحتاج إليه الفقير ما نصه حكاية تتعلق بالانقطاع نسأل الله تعالىالعافية وقع للسيد الشريف قاضي الجماعة بغرناطة أبي المعالي ابن السيد الشريف أبي القاسم الحسني شارح الخزرجية ومقصورة حازم نفع الله تعالى بسلفهم الكريم وكانت أم السيد أبي المعالي حسينية فكان شريفا من الجهتين أنه كان قد ترك كبار الوظائف والرياسات وتجرد للعبادة ولبس المرقعة وسلك طريق القوم وكان من الدين والعلم والتعظيم في قلوب أهل الدنيا وأهل الآخرة على جانب عظيم يشار إليه بالأصابع وكان أخوه شيخي وأستاذي أبو العباس أحمد قاضيا بشرقي الأندلس فكان أخوه أبو المعالي المذكور لا يأكل في بيت شقيقه شيئا لأجل

ذلك ولعيشه من خدم السلطان وكان إذا احتاج إلى الطعام وهو في بيت أخيه أعطاني درهما من عنده أشتري له به ما يأكل وأقام على هذا الحالة الحسنة سنين كثيرة ثم إنه دخل يوما على الفقراء بزاوية المحروق من ظاهر غرناطة وكان شيخ الفقراء بها في ذلك الوقت الشيخ أبا جعفر أحمد المحدود فقال لهم يا سادتي إنه كان معي قنديل أستضيء به فقدته في هذه الأيام وما بقيت أبصر شيئا فقال لهم شيخهم المذكور يا شريف أول رجل يدخل علينا في هذا المجلس يجيبك عن مسألتك فدخل عليهم رجل من خيارهم من أهل البادية فسلم وجلس فقال له الشيخ إن الشريف سأل الجماعة فقلت له أول رجل يدخل علينا يجيبك فوفقت أنت فأجبه عن مسألته فقال له ما سؤالك يا شريف فقال إنه كان لي قنديل أستضيء به ففقدته وما بقيت أبصر شيئا فقال له الفقير هذا لا يصدر إلا عن سوء أدب أخبرنا بما وقع منك فقال له الشريف ما أعلم أنه وقع مني شيء غير أن المباشر فلانا طلبه السلطان للمصادرة فاستخفى منه فمررت ببابه يوما فناداني من شقة الباب يا سيدي اجعل خاطرك معي لله تعالى فقلت له اذكر الذكر الفلاني قلت وأنا أظن أنه أمره بذكر اسمه تعالى اللطيف فإنه سريع الإجابة في تفريج الشدائد والكرب نص عليه البوني في منتخبه وهو مجرب في ذلك وقد رواه لي عن بعض مشايخه السيد الشريف أحمد أخوه فقال له الفقير هل كان أذن لك في تلقينه قال لا قال له الفقير لا يعود إليك نورك أبدا لأنك قد أسأت الأدب فكان كما قال فانقطع وولي بعده قضاء الجماعة وعزل عن سخط وخدم الملوك وأكل طعامهم وحالته أولا وآخرا بغرناطة نسأل الله تعالى أن لا يجعلنا من المطرودين عن باب رحمته وكرمه انتهى كلام الراعي رحمه الله تعالى
رجع إلى مشايخ لسان الدين رحمه الله تعالى ورضي عنه وسامحه فنقول

2 - ومن مشايخ لسان الدين الإمام الرحال شمس الدين أبو عبد الله محمد ابن جابر الوادي آشي ولد بتونس وهو محمد ابن الإمام المحدث معين الدين جابر بن محمد بن قاسم بن أحمد القيسي شيخ ممتع نبيل رحال متقن
قال الخطيب ابن مرزوق وعاشرته كثيرا سفرا وحضرا وسمعت بقراءته وسمع بقراءتي وقرأت عليه الكثير وقيدت من فوائده وأنشدني الكثير فأول ما قرأت عليه بالقاهرة بمسجد ( . . . ) وقرأت عليه بمدينة فاس وبظاهر قسنطينة وبمدينة بجاية وبظاهر المهدية وبمنزلي من تلمسان وقرأت عليه أحاديث عوالي من تخريج الدمياطي وفيها الحديث المسلسل بالأولية وسلسلته عنه من غير رواية الدمياطي بشرطه ثم قرأت عليه أكثر كتاب الموطإ رواية يحيى وأعجله السفر فأتممته عليه في غير القاهرة وحدثني به عن جماعة ومعوله على الشيخين قاضي القضاة أبي العباس ابن الغماز الخزرجي وهو أحمد بن محمد بن حسن والشيخ أبي محمد ابن هارون وهو عبد الله بن محمد القرطبي الطائي الكاتب المعمر الأديب بحق سماعه لأكثره على الأول وقراءته بأجمعه على الثاني قال الأول أخبرنا أبو الربيع ابن سالم بجميع طرقه فيه منها عن ابن مرزوق وأبي عبد الله ابن أبي عبد الله الخولاني عن أبي عمرو عثمان بن أحمد المعافري عن أبي عيسى بسنده وقال الثاني أخبرنا أبو القاسم ابن بقي بقرطبة أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الحق عن محمد بن فرج مولى الطلاع عن يونس بتمام سنده
قال شيخنا وفي هذا السند غريبتان إحداهما أنه ليس فيه إجازة والثانية أن شيوخه كلهم قرطبيون
قال ابن مرزوق قلت ولا غرابة في اتصال سماع الموطإ وقراءته فقد

وقع لي على قلة التحصيل متصلا من طرق ولله الحمد وقد رويته عن قرطبي وهو أبو العباس ابن العشا ثم قرأت عليه كتاب الشفاء لعياض وحدثني به عن أبي القاسم عن أبي عبد الله ابن أبي القاسم الأنصاري المالقي نزيل سبتة ويعرف بها بابن حكم وبابن أخت أبي صالح عن أبي زيد عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن الخزرجي عن أبي جعفر أحمد بن حكم عن المؤلف وحدثني به أيضا عن قاضي الجماعة ابن أبي الربيع ابن سالم عن أبي جعفر ابن حكم
ثم قال ابن مرزوق بعد كلام ما صورته رويت عنه وأنشدني لأبي محمد ابن هارون
( لا تطمعن في نفع آلك إنه ... ضرر وقل النفع عند الآل )
( أقصر رويدك إن ما أعلقته ... بالآل من اهل كمثل الآل )
ولابن هارون المذكور
( أقل زيارة الأحباب ... تزدد عندهم قربا )
( فإن المصطفى قد قال ... زر غبا تزد حبا )
ولابن هارون أيضا
( رماني بالنوى زمني ... فشمل الأنس مفترق )
( وليلي كله فكر ... فقلبي منه محترق )
( وللآداب أبناء ... ببحر الفقر قد غرقوا )
( وكل منهم وجل ... بما يلقاه أو فرق )

( يغص بريقه منه ... كما في النطق أو شرق )
( وقد صفرت أكفهم ... فلا ورق ولا ورق )
( ولطف الله مرتقب ... به العادات تنخرق )
قال ابن مرزوق وشعره الفائق لا يحصر وهو عندي في مجلد كبير وولد ابن جابر سنة 67 وسمع بمصر على جماعة وكتب بخطه كثيرا وله معرفة بالحديث والنحو واللغة والشعر وله نظم حسن وتوفي بتونس سنة 779 وأخذ القراءات عن ابن الزيات وغيره وترجمة الحافظ ابن جابر رحمه الله تعالى واسعة مشهورة وقد ذكرناه في غير هذا الكتاب بما جمعناه
أشعار لبعض شيوخ لسان الدين
ومما أنشده لسان الدين رحمه الله تعالى لبعض المتصوفة من شيوخه ولم يسمه قوله
( هل تعلمون مصارع العشاق ... عند الوداع بلوعة الأشواق )
( والبين يكتب من نجيع دمائهم ... إن الشهيد بكم توى بفراق )
( لو كنت شاهد حالهم يوم النوى ... لرأيت ما يلقون غير مطاق )
( منهم كثيب لا يمل بكاءه ... قد أحرقته مدامع الآماق )
( ومحرق الأحشاء أشعل نارها ... طول الوجيب بقلبه الخفاق )
( وموله لا يستطيع كلامه ... مما يقاسي في الهوى ويلاقي )
( خرس اللسان فما يطيق عبارة ... ألم ألم وما له من راق )
( ما للمحب من المنون وقاية ... إن لم يجد محبوبه بتلاق )
( مولاي عبدك ذاهب بغرامه ... أدرك بفضلك من ذماه الباقي )
( إني إليك بذلتي متوسل ... فاعطف بلطف منك أو إشفاق )

وهذه الأبيات أوردها رحمه الله تعالى في الروضة في العشق بعد أن حده وتكلم عليه ثم أورد عدة مقطوعات ثم ذكر منها هذه الأبيات كما ذكر
وأنشد لسان الدين رحمه الله تعالى لبعض أشياخه وسماه وأنسيته أنا الآن
( بما بيننا من خلوة معنوية ... أرق من النجوى وأحلى من السلوى )
( قفي ساعة في ساحة الدار وانظري ... إلى عاشق لا يستفيق من البلوى )
( وكم قد سألت الريح شوقا إليكم ... فما حن مسراها علي ولا ألوى )
وقوله أيضا
( أنست بوحدتي حتى لو أني ... أتاني الأنس لاستوحشت منه )
( ولم تدع التجارب لي صديقا ... أميل إليه إلا ملت عنه )
وقوله رحمه الله تعالى
( عليك بالعزلة إن الفتى ... من طاب بالقلة في العزلة )
( لا يرتجي عزلة وال ولا ... يخشى من الذلة في العزلة )
3 - ومن أكابر شيوخ ابن الخطيب رحمه الله تعالى جدي الإمام العلامة قاضي القضاة بحضرة الخلافة فاس المحروسة أبو عبد الله
قال في الإحاطة محمد بن محمد بن أحمد بن أبي بكر بن يحيى بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن علي القرشي المقري يكنى أبا عبد الله قاضي الجماعة بفاس تلمساني
أوليته نقلت من خطه قال وكان الذي اتخذها من سلفنا قرارا بعد أن كانت لمن قبله مزارا عبد الرحمن بن أبي بكر بن علي المقري صاحب الشيخ

أبي مدين الذي دعا له ولذريته بما ظهر فيهم قبوله وتبين وهو أبي الخامس فأنا محمد بن محمد بن أحمد بن أبي بكر بن يحيى بن عبد الرحمن وكان هذا الشيخ عروي الصلاة حتى إنه ربما امتحن بغير شيء فلم يؤنس منه التفات ولا استشعر منه شعور ويقال إن هذا الحضور مما أدركه من مقامات شيخه أبي مدين
هل المقري الجد قرشي
وكتب بعض المغاربة على هامش هذا المحل من الإحاطة ما صورته القرشي وهم انتهى فكتب تحته الشيخ الإمام أبو الفضل ابن الإمام التلمساني رحمه الله تعالى ما نصه بل صحيح نطقت به الألسن والمكاتبات والإجازات وأعربت عنه الخلال الكريمة إلا أن البلدية يا سيدي أبا عبد الله والمنافسة تجعل القرشية في إمام المغرب أبي عبد الله المقري وهما والحمد لله انتهى
قلت وممن صرح بالقرشية في حق الجد المذكور ابن خلدون في تاريخه وابن الأحمر في نثير الجمان وفي شرح البردة عند قوله
( لعل رحمة ربي حين ينشرها ... )
والشيخ ابن غازي والولي الصالح سيدي أحمد رزوق والشيخ العلامة علامة زمانه سيدي أحمد الونشريسي وغير واحد وكفى بلسان الدين شاهدا مزكى
وقد ألف عالم الدنيا ابن مرزوق تأليفا استوفى فيه التعريف بمولاي الجد سماه النور البدري في التعريف بالفقيه المقري وهذا بناء منه على مذهبه أنه

بفتح الميم وسكون القاف كما صرح بذلك في شرح الألفية عند قوله
( ووضعوا لبعض الأجناس علم ... )
وضبطه غيرهم وهم الأكثرون بفتح الميم وتشديد القاف وعلى ذلك عول أكثر المتأخرين وهما لغتان في البلدة التي نسب إليها وهي مقرة من قرى زاب إفريقية وانتقل منها جده إلى تلمسان صحبة شيخه ولي الله سيدي أبي مدين رضي الله عنه
رجع إلى تكملة كلام مولاي الجد في حق أوليته
قال رحمه الله تعالى بعد الكلام السابق في حق جده عبد الرحمن ما صورته ثم اشتهرت ذريته على ما ذكر من طبقاتهم بالتجارة فمهدوا طريق الصحراء بحفر الآبار وتأمين التجار واتخذوا طبلا للرحيل وراية تقدم عند المسير وكان ولد يحيى الذين أحدهم أبو بكر خمسة رجال فعقدوا الشركة بينهم في جميع ما ملكوه أو يملكونه على السواء بينهم والاعتدال فكان أبو بكر ومحمد وهما أرومتا نسبي من جميع جهات أمي وأبي بتلمسان وعبد الرحمن وهو شقيقهما الأكبر بسجلماسة وعبد الواحد وعلي وهما شقيقاهم الصغيران بإيوالاتن فاتخذوا بهذه الأقطار الحوائط والديار وتزوجوا النساء واستولدوا الإماء وكان التلمساني يبعث إلى الصحراوي بما يرسم له من السلع ويبعث إليه الصحراوي بالجلد والعاج والجوز والتبر والسجلماسي كلسان الميزان يعرفهما بقدر الخسران والرجحان ويكاتبهما باحوال التجار وأخبار البلدان حتى اتسعت أموالهم وارتفعت في الضخامة أحوالهم ولما فتح التكرور كورة إيوالاتن وأعمالها أصيبت أموالهم فيما أصيب من أموالها بعد أن جمع من كان بها منهم إلى نفسه الرجال ونصب دونها ودون مالهم القتال ثم اتصل بملكهم فأكرم مثواه

ومكنه من التجارة بجميع بلاده وخاطبه بالصديق الأحب والخلاصة الأقرب ثم صار يكاتب من بتلمسان يستقضي منهم مآربه فيخاطبه بمثل تلك المخاطبة وعندي من كتبه وكتب ملوك المغرب ما ينبئ عن ذلك فلما استوثقوا من الملوك تذللت لهم الأرض للسلوك فخرجت أموالهم عن الحد وكادت تفوت الحصر والعد لأن بلاد الصحراء قبل أن يدخلها أهل مصر كان يجلب إليها من المغرب ما لا بال له من السلع فتعاوض عنه بما له بال من الثمن أي مدبر دنيا ضم جنبا أبي حمو وشمل ثوباه كان يقول لولا الشناعة لم أزل في بلادي تاجرا من غير تجار الصحراء الذين يذهبون بخبيث السلع ويأتون بالتبر الذي كل أمر الدنيا له تبع ومن سواهم يحمل منها الذهب ويأتي إليها بما يضمحل عن قريب ويذهب ومنه ما يغير من العوائد ويجر السفهاء إلى المفاسد ولما درج هؤلاء الأشياخ جعل أبناؤهم ينفقون مما تركوا لهم ولم يقوموا بأمر التثمير قيامهم وصادفوا توالي الفتن ولم يسلموا من جور السلاطين فلم يزل حالهم في نقصان إلى هذا الزمن فها أنا ذا لم أدرك من ذلك إلا أثر نعمة اتخذنا فضوله عيشا وأصوله حرمة ومن جملة ذلك خزانة كبيرة من الكتب وأسباب كثيرة تعين على الطلب فتفرغت بحول الله عز و جل للقراءة فاستوعبت أهل البلد لقاء وأخذت عن بعضهم عرضا وإلقاء سواء المقيم القاطن والوارد والظاعن انتهى كلامه في أوليته وقد نقله لسان الدين في الإحاطة
وقال مولاي الجد رحمه الله تعالى كان مولدي بتلمسان أيام أبي حمو موسى عثمان بن يغمراسن بن زيان وقد وقفت على تاريخ ذلك ولكني

رأيت الصفح عنه لأن أبا الحسن ابن مؤمن سأل أبا طاهر السلفي عن سنه فقال أقبل على شانك فإني سألت أبا الفتح ابن زيان عن سنه فقال أقبل على شانك فإني سألت علي بن محمد اللبان عن سنه فقال أقبل على شانك فإني سألت أبا القاسم حمزة بن يوسف السهمي عن سنه فقال أقبل على شانك فإني سألت أبا بكر محمد بن عدي المنقري عن سنه فقال أقبل على شانك فإني سألت أبا إسماعيل الترمذي عن سنه فقال أقبل على شانك فإني سألت بعض أصحاب الشافعي عن سنه فقال أقبل على شانك فإني سألت الشافعي عن سنه فقال أقبل على شانك سألت مالك بن أنس عن سنه فقال أقبل على شانك من المروءة للرجل أن يخبر بسنه انتهى
قلت ولما تذاكرت مع مولاي العم الإمام صب الله تعالى على مضجعه من الرحمة الغمام هذا المعنى الذي ساقه مولاي الجد رحمه الله تعالى أنشدني لبعضهم
( احفظ لسانك لا تبح بثلاثة ... سن ومال ما استطعت ومذهب )
( فعلى الثلاثة تبتلى بثلاثة ... بمكفر وبحاسد ومكذب )
قال الونشريسي في حق الجد ما نصه القاضي الشهير الإمام العالم أبو عبد الله محمد بن محمد المقري التلمساني المولد والمنشأ الفاسي المسكن كان رحمه الله تعالى عالما عاملا ظريفا نبيها ذكيا نبيلا فهما متيقظا جزلا محصلا انتهى
وقد وقفت له بالمغرب على مؤلف عرف فيه بمولاي الجد وذكر جملة من أحواله وذلك أنه طلبه بعض أهل عصره في تأليف أخبار الجد فألف فيه ما ذكر

وقال في الإحاطة في ترجمة مولاي الجد بعد ذكره أوليته ما صورته حاله هذا الرجل مشار إليه بالعدوة الغربية اجتهادا ودؤوبا وحفظا وعناية واطلاعا ونقلا ونزاهة سليم الصدر قريب الغور صادق القول مسلوب التصنع كثير الهشة مفرط الخفة ظاهر السذاجة ذاهب أقصى مذاهب التخلق محافظ على العمل مثابر على الإنقطاع حريص على العبادة مضايق في العقد والتوجه يكابد من تحصيل النية بالوجه واليدين مشقة ثم يغافص الوقت فيها ويوقعها دفعة متبعا إياها زعقة التكبير برجفة ينبو عنها سمع من لم تؤنسه بها العادة بما هو دليل على حسن المعاملة وإرسال السجية قديم النعمة متصل الخيرية مكب على النظر والدرس والقراءة معلوم الصيانة والعدالة منصف في المذاكرة حاسر للذراع عند المباحثة راحب عن الصدر في وطيس المناقشة غير مختار للقرن ولا ضان بالفائدة كثير الالتفات متقلب الحدقة جهير بالحجة بعيد عن المراء والمباهتة قائل بفضل أولي الفضل من الطلبة يقول أتم القيام على العربية والفقه والتفسير ويحفظ الحديث ويتهجر بحفظ التاريخ والأخبار والآداب ويشارك مشاركة فاضلة في الأصلين والجدل والمنطق ويكتب ويشعر مصيبا غرض الإجادة ويتكلم في طريقة الصوفية كلام أرباب المقال ويعتني بالتدوين فيها شرق وحج ولقي جلة واضطبن رحلة مفيدة ثم عاد إلى بلده فأقرأ به وانقطع إلى خدمة العلم فلما ولي ملك المغرب السلطان محالف الصنع ونشيدة الملك وأثير الله من بين القرابة والأخوة أمير المؤمنين أبو عنان اجتذبه وخلطه بنفسه واشتمل عليه وولاه قضاء الجماعة بمدينة فاس فاستقل بذلك أعظم الاستقلال وأنفذ الحق وألان الكلمة وآثر التسديد وحمل الكل وخفض الجناح

فحسنت عنه القالة وأحبته الخاصة والعامة حضرت بعض مجالسه للحكم فرأيت من صبره على اللدد وتأنيه للحجج ورفقه بالخصوم ما قضيت منه العجب
دخوله غرناطة ثم لما أخر عن القضاء استعمل بعد لأي في الرسالة فوصل الأندلس أوائل جمادى الثانية من عام سبعة وخمسين وسبعمائة فلما قضى غرض رسالته وأبرم عقد وجهته واحتل مالقة في منصرفه بدا له في نبذ الكلفة واطراح وظيفة الخدمة وحل التقيد إلى ملازمة الإمرة فتقاعد وشهر غرضه وبت في الانتقال طمع من كان صحبته وأقبل على شأنه فخلي بينه وبين همه وترك وما انتحله من الانقطاع إلى ربه وطار الخبر إلى مرسله فأنف من تخصيص إيالته بالهجرة والعدول عنها بقصد التخلي والعبادة وأنكر ما حقه الإنكار من إبطال عمل الرسالة والانقباض قبل الخروج عن العهدة فوغر صدره على صاحب الأمر ولم يبعد حمله على الظنة والمواطأة على النفرة وتجهزت جملة من الخدام المجلين في مأزق الشبهة المضطلعين بإقامة الحجة مولين خطة الملام مخيرين بين سحائب عاد من إسلامه مظنة إعلاق النقمة وإيقاع العقوبة أو الإشادة بسبب إجارته بالقطيعة والمنابذة وقد كان المترجم به لحق بغرناطة فتذمم بمسجدها وجأر بالانقطاع إلى الله وتوعد من يجبره بنكير من يجير ولا يجار عليه سبحانه فأهم أمره وشغلت القلوب آبدته وأمسك الرسل بخلال ما صدرت شفاعة اقتضى له فيها رفع التبعة وتركه إلى تلك الوجهة ولما تحصل ما تيسر من ذلك انصرف محفوفا بعالمي القطر قاضي الجماعة أبي القاسم الحسني المذكور قبله والشيخ الخطيب أبي البركات ابن الحاج مسلمين لوروده

مشافهين بالشفاعة في غرضه فانقشعت الغمة وتنفست الكربة واستصحبا من المخاطبة السلطانية في أمره من إملائي ما يذكر حسبما ثبت في الكتاب المسمى بكناسة الدكان بعد انتقال السكان المجموع بسلا ما صورته
المقام الذي يحب الشفاعة ويرعى الوسيلة وينجز العدة ويتمم الفضيلة ويضفي مجده المنن الجزيلة ويعيي حمده الممادح العريضة الطويلة مقام محل والدنا الذي كرم مجده ووضع سعده وصح في الله تعالى عقده وخلص في الأعمال الصالحة قصده وأعجز الألسنة حمده السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ابن السلطان الكذا أبقاه الله سبحانه لوسيلة يرعاها وشفاعة يكرم مسعاها وأخلاق جميلة تجيب دعوة الطبع الكريم إذا دعاها معظم سلطانه الكبير وممجد مقامه الشهير المتشيع لأبوته الرفيعة قولا باللسان واعتقادا بالضمير المعتمد منه بعد الله على الملجإ الأحمى والولي النصير فلان سلام كريم طيب بر عميم يخص مقامكم الأعلى وأبوتكم الفضلى ورحمة الله وبركاته
أما بعد حمد الله الذي جعل الخلق الحميد دليلا على عنايته بمن حلاه حلاها وميز بها النفوس النفيسة التي اختصها بكرامته وتولاها حمدا يكون كفؤا للنعم التي أولاها وأعادها ووالاها والصلاة على سيدنا ومولانا محمد عبده ورسوله المترقي من درجات الاختصاص أرفعها وأعلاها الممتاز من أنوار الهداية بأوضحها واجلاها مطلع آيات السعادة يروق مجتلاها والرضى عن آله وصحبه الذين خبر صدق ضمائرهم لما ابتلاها وعسل ذكرهم في الأفواه فما أعذب أوصافهم على الألسن وأحلاها والدعاء لمقام أبوتكم حرس الله تعالى علاها بالسعادة التي يقول الفتح أنا طلاع الثنايا وابن جلاها والصنائع

التي تخترق المفاوز بركائبها المبشرات فتفلي فلاها فإنا كتبنا إليكم كتب الله تعالى لكم عزة مشيدة البناء وحشد على أعلام صنائعكم الكرام جيوش الثناء وقلدكم من قلائد مكارم الأخلاق ما يشهد لذاتكم منه بسابقة الاعتناء من حمراء غرناطة حرسها الله والود باهر السنا ظاهر السناء مجدد على الآناء والتشيع رحب الدسيعة والفناء
وإلى هذا وصل الله تعالى سعدكم وحرس مجدكم فإننا خاطبنا مقامكم الكريم في شأن الشيخ الفقيه الحافظ الصالح أبي عبد الله المقري خار الله تعالى لنا وله وبلغ الجميع من فضله العميم أمله جوابا عما صدر عن مثابتكم فيه من الإشارة الممتثلة والمآرب المعملة والقضايا غير المهملة نصادركم بالشفاعة التي مثلها بأبوابكم لا يرد وظمآها عن منهل قبولكم لا تحلأ ولا تصد حسبما سنه الأب الكريم والجد والقبيل الذي وضح منه في المكارم الرسم والحد ولم نصدر الخطاب حتى ظهر لنا من أحواله صدق المخيلة وتبلج صبح الزهادة والفضيلة وجود النفس الشحيحة بالعرض الأدنى البخيلة وظهر تخليه عن هذه الدار واختلاطه باللفيف والغمار وإقباله على ما يعني مثله من صلة الأوراد ومداومة الاستغفار وكنا لما تعرفنا إقامته بمالقة لهذا الغرض الذي شهره والفضل الذي أبرزه للعيان وأظهره أمرنا أن يعتني بأحواله ويعان على فراغ باله ويجري عليه سيب من ديوان الأعشار الشرعية وصريح ماله وقلنا ما أتاك من غير مسألة مستند صحيح لاستدلاله ففر من مالقة على ما تعرفنا لهذا السبب وقعد بحضرتنا مستور المنتمى والمنتسب وسكن بالمدرسة بعض الأماكن المعدة لسكنى المتسمين بالخير والمحترفين ببضاعة الطلب بحيث لم يتعرف وروده ووصوله إلى ممن لا يؤبه بتعريفه ولم تتحقق زوائده وأصوله لقلة تصريفه
ثم تلاحق إرسالكم الجلة فوجبت حينئذ الشفاعة وعرضت على سوق الحلم والفضل من الاستلطاف والاستعطاف البضاعة وقررنا ما تحققناه من أمره ==

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مجلد11.و12. من كتاب بغية الطلب في تاريخ حلب المؤلف : ابن العديم

  11. مجلد11. من كتاب بغية الطلب في تاريخ حلب المؤلف : ابن العديم ابن عبد العزى بن رباح بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب القرشي العدوي،...